نصوص أدبية

نصوص أدبية

كــيفَ  الأَمــاجِدُ أصــبحوا أنــعاما

وإلــى الأعــادي أصــبحوا خُــدَّاما

*

إن الــكُماةَ عــلى الــثّغورِ رباطُهمْ

لا  يــمــسحونَ الــخُفَّ و الأقــداما

*

وإذا الــجــيوشُ تــحوَّلتْ لــعصابةٍ

ضــمَّتْ لــصوصاً ســذَّجاً ولــئاما

*

كــلُّ الــجحاجحِ غُــيِّبوا واسْتُبْعِدوا

والــتــافهونَ تــصــدَّروا الإعــلاما

*

والــلصُّ أصــبحَ فــي البلادِ مقدَّراً

والــنّــذلُ  أصــبحَ فــارساً مــقداما

*

وعــلى ابــن جــلدتِهمْ تفجَّرَ حقدُهمْ

صَــبّوا  مــن الــحقدِ الكريهِ الجاما

*

ونَــسَــوا لــتــاريخٍ عــظــيمٍ تــالــدٍ

فــجرُ  الــحضارةِ مــن هنا قد قاما

*

جعلوا الحدائقَ كالكواكبِ في السّما

قــد نــافسوا مَــنْ شــيَّدوا الأهراما

*

والأبــجــديّةُ أوجــدوهــا لــلــورى

والــنــاسُ  تــأخذُ مــنهمُ الأحــكاما

*

عــادوا  لــعصرِ الــتّيهِ بــعدَ هدايةٍ

فــنسوا الإلــهَ وقــدَّسوا الأصــناما

*

تــبــاً  لــقــومٍ هــجَّــروا أعــلامَهمْ

كــي يــرفعوا الــجُهَّال والأقــزاما

*

فــانعِ الــرجالَ إذا خَــلَوا من عزّةٍ

يــالــيتهمْ  لـــو يــصبحونَ عــقاما

*

وانـــعِ  الــنساءَ ولاتــكنْ مُــتَعَطِّفاً

مــا لــم يــلدْنَ مُــحَجَّلاً ضِــرغاما

*

كــنتمْ  أمــاجدَ مــن ســلالةِ مــاجدٍ

فــعــلامَ تــرجــونَ الــزَّنِيمَ عــلاما

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

جاءت ذات يومٍ

من غير موعد

ولا استئذان

حضرت مثل غيمةٍ

تحملُ حملاً كاذباً

بالمطر

مثل سنبلةٍ خاويةٍ

تتعالى بكُلِّ صَلفٍ

في فضاءاتِ المدى

مثل ورودٍ بلاستيكيةٍ

في أصيصٍ

في فندقٍ فارهٍ

مضت كما جاءت

لا ماءَ منه يُرتَوى

ولا زرعٌ في الحقلِ

يُحصدُ

غادرت كما أتت

فلا وهجُها دفأني

ولا نسائمُها أنعشت

وحيداً أجترُ حكايا جَدتي

وأعيد رسوم كل الأحداث

في مسلسل أحلامي

ثم أعتنقُ الصمتَ

في انتظار قدوم

شهرزاد

***

جورج مسعود عازار ستوكهولم السويد

 

يأتي الصباحُ الباكرُ مُحمّلا بأشياء كثيرة؛ فإلى جانب روائحه العطرة ونسيمه البارد الرقيق، توجد المفاجأةُ والدهشةُ. يرن الهاتف صاخبا، وأنا غارقٌ في نومي الطويل؛ أسعى إلى نفض التعب الذي تكدس فوق جسدي أياما طويلة، وأروم حملَ الثقلِ الذي يجثم على روحي الخفيفة، ومع رنينه تنبلج المخاوف والوساوس في خلدي، وتذهب بي الظنونُ أشواطا بعيدةً في عالم الحلم والخيال، عالم المشاعر المقدسة التي تؤثث روحي، وتزرع الرهبةَ في قلبي الفسيح. تتساءل عيناي الجاحظتان عن السر الخفي وراء هذا الاتصال، فأحمل هاتفي بيديّ المرتعشتين كأنهما اقترفتا جرما كبيرا، فأضغط على الزر بخفة، لأسمع صوتا مضطربا مسرعا:

- ولدي! الدائم الله تعالى.

تنقطع الكلمات، ولا تصلني إلا أصواتٌ مشوشةٌ، فأبادرُ بالسؤال، وفي القلب لوعةٌ تتقد، وفي العين دمعةٌ ساخنةٌ متلألئةٌ تنزلق من بين الجفنين:

- لم أسمع جيدا، من المتوفى؟

- خويا، عمك أحمد توفي هذا الصباح.

انقبضت نفسي واسودت الرؤية في عيني الدامعتين، حاولت أن أداري حزني الذي ملأ نفسي حزنا وألما، فقلت كلماتٍ تعودناها في مثل هذه المناسبات:

- إنا لله وإنا إليه راجعون، الدوام لله، والرحمة والمغفرة للعم.

انقطع خط الاتصال بعدما ترددت كلمة "آمين.. آمين" مرات متتالية، فأخذت نفسي تسرح في الطريق البعيد، وروحي تحلق على بساط الريح نحو المجهول، إلى حيث حلقت روح عمي، إلى الذكريات البعيدة التي ظلت محفورة في الوجدان، ووشما على الذاكرة المثقوبة. تذكرت أيام كنت صغيرا، تذكرت القرية والحقول الخضراء، والخضر والنخيل والأشجار التي زرعتها يدا عمي، وسقتها روحه حبا وشغفا.. أيقنت أني فقدت عزيزا يحب الأرض كثيرا، ويعشق رائحة التراب الندي، ويؤثر قضاء أغلب يومه متنقلا بين الحقول والمروج المقمحة المخضرة؛ يزرع الأرض، ويزيل الأعشاب الضارة في الصباح الباكر، وما إن تحل الساعة العاشرة صباحا حتى تكون خضر وجبة الغداء موجودة في الدار، يحضرها عمي الذي زرعها وسقاها.

مرت كل هذه الذكريات مسرعة مشوهة على ذاكرتي، وحاولت القبض على نتف متفرقة منها، بيد أن محاولاتي كلها باءت بالفشل. لكن في القلب حدثا أغر لم ولن ينسى أو يمحى من الذاكرة؛ إنه حدث اختيار اسمي.

أخبرني الأهل بعدما تجاوز سني العاشرة أن عمي هو من اقترح أن يطلقوا علي اسم "محمد". قالوا إن هذا الاسم مصدره حلم راود العم في ظهيرة يوم حار، كان نائما تحت نخلة وارفة، فحلم أن العائلة سترزق بمولود اسمه محمد، وسيكون خلفا لجده الذي توفي منذ ثلاثة أيام.

سمعت هذه القصة مرات كثيرة، فازداد حبي لعمي، وأيقنت أن اسمي سيظل ذكرى وآية على هذا الحب الصغير في قلبي، والذي أخذ ينمو يوما بعد يوم. ذهب من سماني محمدا، وذهب معه حب الأرض وثراها، والخضرة والبهجة التي كانت تملأ الحقول والمروج في أيامه المشهودة.

سيظل مكانك، أيها الرجل الشامخ، جرحا غائرا في قلبي، ولا أظن أن الأيام الآتية قادرة على تضيده، وعلى ملء فراغك بغيرك من الأناسي. كنت كبير العائلة بعد موت الجد والجدة، والوشيجة القوية التي تشد أواصرها، والمنبع الذي يسدي النصيحة، ويروي بطيبة قلبه قلوبنا العطشى حبا وتلاحما، والطود الذي يشد العائلة لئلا تميد، ويحضن نفوسنا كي لا تمور وتضطرب، ويطفئ نار الصراع التي تشب بيننا.. إنك السند المتين الذي نتكئ عليه، ونضع عليه رؤوسنا كلما أثقلها التفكير والحيرة.

إلى روحك الطاهرة الزكية الرحمة والمغفرة عمي الحبيب، وإلى قلوبنا المكلومة الصبر والسلوان، وإنا على الدرب لسائرون.

***

محمد الودراشي

 

وقائع حياته،عمله، مكاسبه، عائلته، الناس المحيطون به، سهراته، أفراحه وأتراحه، كلها ارتبطت بوثاق قوي مكين. شبكة من خيوط محكمة الحبك، لم يشأ أن يدعها تضمحل أو تتمزق وتذهب هباءً. لقد عززها برباط متين حاكه مع الآخرين بعناية ودقـّة ، رجال السلطة والحزب، نساء ورجال هامشيّين وذوي دالـّة من أهل المدينة. كان يعرف جيداً التنوع الغريب لعلاقاته تلك، ولكن روابطه مع رجال السلطة والحزب كان لها طابعٌ خاصٌ. وكان يدرك أيضاً أن تلك العلاقة، رغم ما انطوت عليه من مصالح مشتركة وتوسعت لتكون علاقات اجتماعية وصداقات، وصل بعضها حد التشابك في الخصوصيات. بالرغم من كل ذلك فقد كان يشعر بأنها بعيدة كل البعد عن هواه ورغباته الروحية والمعرفية، فهو يمقت مقتاً لا حدود له تلك الأفكار والنقاشات السياسية الحزبية، وما كان ليتخلى عن اعتقاده، بأن الرجل العملي هو آخر من يمارس العمل السياسي، أو حتى  الشروع في حديث حول مشاكل ومسائل حزبية، والركض وراء مناصب حزبية لا قيمة عملية لها، وعَد هذا الحال مضيعة للوقت أو لهواً  فارغاً، فالعمل الحزبي  يجعل المرء يلج مسالك هو في غنى عن السير فيها، ويبدو معها المرء غير واضحٍ في سلوكه وخطواته، ومتعصباً لمواقفه ومراوغاً  ومهاتراً حتى في البسيط منها. وفي الغالب لن يكون قادراً الإفصاح عن ذاته.

 كل ذلك كان حقيقة ماثلة أمامه. ولكن المصيبة كانت تتسرب من تحت قدميه، ويشعر بها مثل حية رقطاء تلتف صاعدة لتحيط جسده بالكامل. شباك تحاك بنشاط  وغرابة فتلتف خيوطها لتربط حياة  البشر دون أن تسألهم عن خياراتهم  بمعنى من المعاني. ورغم أن الفعل يظل غامضاً، ولكنه في النهاية يتجلى بوضوح في جميع زوايا ومقتربات الحياة وعلى مدار الساعة. تلك الأيام بمرارتها ولؤمها، ما زالت لحد الساعة ماثلة في ذهنه، حاضرة حيّة متيقظة وفاقعة.

يتذكر اليوم تلك الوقائع بحيثياتها وتشوهاتها. عند الباب الأمامي لمبنى البلدية، بادره أبو مصعب المسؤول الحزبي لمنطقة حيّ البكر، السلام والتحية. للمرة الأولى يتحدث معه، رغم أنهما سبق والتقيا في مرات متباعدة  لقاءات عابراة، دون حديث أو حتى سلام. أمسك بكفـّه وهزّ يده بحرارة وبوجه رضي وابتسامة مشرقة، سأله إن كان يوافق على دعوة خاصة في بيته. يتذكر جيداً تلك الساعة حين جاء لمبنى البلدية وسط المدينة ليقدم عرضه الخاص لمقاولة تشييد بناية الجيش الشعبي في حي البكر. كان يستحيل عليه رفض الدعوة، وقرّر دون تردد تلبيتها. كانت تلك الجلسة بداية البدايات، لا بل كانت مفتاحاً لأحداث جسام تلتها.

منذ البداية أسترسل أبو مصعب بكلام مبهم، بعدها راح بمبالغة فجة توصيف شخصيته وقدراته، ثم ولج حديثاً جديداً عن السلوك والأخلاق ومصالح الناس وحاجات الحزب وبرامجه المستقبلية، ومن ثم، وبكلام واضح وصريح، طرح ما أراد الوصول إليه، فكانت المساومة وكانت هناك حجج ونيات، كان عليه أن يكون دقيقاً وحذراً في توصيفها وفهمها، ومع كل ذلك الحذر والتطيّر، سمح لنفسه  في النهاية أن يوافق أبو مصعب رغباته، مع الحذر وتفادى الزلل. وجد نفسه يذعن شيئاً فشيئاً لتلك المساومات التي كانت صفقات في الحصول على المقاولات مقابل رشىً. وكان الاضطراب والاشمئزاز مع تقدم الصفقات قد اختفيا كلياً من روحه. صحيح أن البداية كانت صغيرة بمكاسبها، ولكنها فتحت له الأبواب ومهّدت له مسالك، ما كان بمقدوره الولوج وسطها. وصارت بناية المحافظة والكثير من موظـفيها، وكذلك أعضاء مهمّون في الحزب، مجرد معابر مهيأة ووافرة بالطمأنينة. لم تكن الحياة خالية من كلمتي  " فيد وأستفيد " ولكن هذا المعنى اختلف بالنوع والحجم، وبدت الأمور تأخذ منحىً آخر، فكان يفرحه معها أن تتاح له فرصة اكتشاف العالم الخاص بهؤلاء الرجال. وبالرغم من التظاهر عن عمد بعدم الاهتمام أو ملاحظة ما يدور في حياتهم الحزبية والمهنية، فقد كان يحتفظ في ذهنه بجميع المشاهد الخاصة بحياتهم، رغباتهم وأهوائهم والكثير من أسرارهم، حتى العائلية منها، وهو يدرك أيضاً  أنهم يعرفون مثل هذا الأمر بشكل أو آخر، ولكن هذا لم يكن ليمنعهم في أن يودعوه أسرارهم وأسرار غيرهم دون تحفظ.

هل كان عليه أن يميز بين سلطة الشيطان وسلطة الرحمن، في ذلك الوقت وتلك الحومة التي زلـت إليها قدماه دون رغبة التوقـّف أو الحذر. ولِمَ الحذر والخوف ؟ هل كان عليه أن يصبح شخصاً آخر لينأى بنفسه بعيداً عن تلك الأجواء؟ ولو خُيّر في ذلك، فهل يمتلك القدرة على دفع الخوف جانباً ورفض ما يعرض عليه؟ ما كان سيصبح عليه الحال؟ هل كان من الممكن للأمور أن تسير بشكلها الطبيعي؟ أم أن كل شيء سيتعرض للانهيار؟ بين هذين الأمرين، لا يمكن أن يرجح غير خيار واحد. الحيرة والتردد لا يمكن للمواعظ والنصائح أن تفك عقدتهما، بل ترتسم هناك صورة واضحة لرغبات مكبوتة كانت ترزح بعيداً في روح البشر، هي كومة من عقد ووجدانات وأمانٍ دون تسميات واضحة، ترتسم عند لحظة الخيار بين حالين، بين مشهدين، بين حياتين، لا بل هما، وفي ذلك المنعطف، خيار بين الموت والحياة، فأين من كل ذلك نصائح الروح والوجدان. قباحة  وحماقة كانت، وظلت كذلك وسوف تبقى. ولكن الخوف لم يكن في ذلك الاختبار شذوذاً، نتفاً من شظايا لخيار آخر. كل تلك الصفقات والمساومات ما كان القلب ليبتذل بها، ويلغي معها كلياً ما يمليه الضمير والروح الشغوفان بحب الناس من أهل مدينته والعطف عليهم. هؤلاء القوم الذين قادتهم الأقدار نحو مرارات لا حدود لها. هؤلاء المعذبون الواقفون يتفرجون على ما يحدث، ولا يملكون من قرارهم شيئاً، والخوف يلفهم بقسوته ويسلـط عليهم وحشته، هؤلاء البشر ما كانوا غير عيون تتلصّص فتراها مسّهدة معذبة مع كثرة ما تلتقطه وتخزنه من صور الخسارات والنكبات.

أحَبَ في تلك العيون استكانتها وقدرتها على كتم الألم، وبدوره، ما كان ليوّجه لأحد من أهل مدينته كلمة قاسية أو يواجههم بصدود. صحيح أنه يفعل هذا وفي كثير من الأحيان إشفاقاً وتأسياً. ولكن دخيلته حَوت شغفاً وحباً كبيرين لهم لا يمكن المساومة عليهما

هذه اللحظات الحارقة أيقظت في روحه عواطف محبة ومودة غريبة وطافحة،لأهل مدينته. شقياً كان ساعتها وهو يدرك المجهول الذي لا يفقه كنهه والذي راح يلف المدينة ويثقب سماءها بدويّ الرصاص ولعلعته.

كانت نفسه المكروبة قد جادت اليوم بألمها وهي تلملم ذكرى الماضي القريب. ذاك الأمس المرمي ثقيلاً راكداً في الذاكرة. أيام موحشات صعاب، أيام انتفضت فيها تلك الأرواح المعذبة الكظومة لتفصح بقوة عن خزين عذابها ووجعها. تلك انتفاضة الناس الذين أُطلقوا من قمقمهم الدهري يبحثون عن زمن ينصفهم، ويستعرضون في وجه جلاديهم بأس شجاعتهم وتحدّيهم. يتذكر الآن أيام انتفاضة مدينته، وكيف حُشر وسط مجموعة من الرجال في غرفة ضيقة من بناية البلدية. دُفع بخشونة وسط الحشد تصاحبه شتائم لم يعهد أن وجهت له مثلها من أبناء بلدته. لم يكن ليتعرف في بادئ الأمر على تلك الوجوه التي سحبته من أمام باب مكتبه ودفعت به نحو جوف السيارة، ولكن راوده اعتقاد بوجود بعض ممن كان قد شاهدهم سابقاً من بين تلك الوجوه المنقّبة. كانت هتافات التكبير تتردد في أنحاء المدينة وصوت الرصاص يلعلع وصفيره يخترق الرأس بحدّة، دون أن يعطى المرء فسحة من تفكير. امتد أمر الحجز حتى المساء حين بدأت حركة فوضى تعمّ المكان، وكان هناك صراخ وعويل وثمة أشخاص يدخلون ليسحبوا أحداً من الغرفة، ثم بعد دقائق يأخذون شخصاً آخر، ولم يرجع أحد من هؤلاء المسحوبين إلى الغرفة بعد ذلك. كان ينتظر أن يحلّ دوره حين دخل أبو ساطع حاملاً سلاحه وطالع الوجوه ثم صرخ

ـ أبو قصي ...شتسوي هنا..منو جابك.. يمعودين شني... شصار بيكم...شتسوون ..جا هذا ما تعرفونه ؟

ثم سحب رجب من يده، وكانت وجوه عديدة تطالع الأمر بوجوم واستغراب. تقدم به نحو غرفة مجاورة حيث يجلس وسطها رجل معمّم يقف قبالته ثلاثة رجال بثياب رثة يتأبطون أسلحتهم. دون تردد وبلغة فيها الكثير من الحزم، طلب أبو ساطع إطلاق سراح رجب مع ضمانة من قبله، وتم الأمر بعد حديث طويل مرتبك وكلمات فيها نوع من الجفوة والمماطلة.

كان أبو ساطع صاحب سيارة  قلاب، عمل طويلاً مع رجب في مواقع عمل كثيرة ويشعر بقيمة الروابط التي جعلته يحتفظ بمكانة خاصة لتلك العلاقة ولشخص رجب بالذات. فرجب هو من ساعده على امتلاك تلك السيارة القلاب، وقدم له العون المالي، وكفله في أمر شرائها. وقد عمل في أكثر المقاولات التي كان رجب يقوم بتنفيذها. وبالرغم من أنه كان مهذاراً متطيراً وسكيراً في الغالب، لكنه كان يحمل قلباً طيباً وروحًا تفيض محبة، وفوق هذا فهو يعمل بإخلاص منقطع النظير وينجز عمله بتفان وإتقان شديدين.

بعد أن أعاده أبو ساطع إلى بيته وتحاشياً من تكرار اعتقاله، فقد صحب رجب عائلته تاركاً وراءه بيته ومكتبه ومدينته التي سقطت بيد المنتفضين. اجتاز بسيارته طريقاً صحراوياً وصل في نهايته وسط مدينة النجف، فوجد أن الأمور ليست مثلما توقعها، وكان حال المدينة مثلما مدينته، فهي ملتهبة وتمور بالثورة، والغضب أخذ مأخذه من أهاليها. وبالرغم من انتصاف الليل، فقد قرر عدم البقاء ومتابعة طريقه نحو بغداد وبدأت الشكوك تساوره، فربما الانتفاضة قد تجاوزت الحدود ليجد بعدها بغداد كباقي المدن والقصبات التي مر بها.

***

فرات المحسن

 

للضجيج شهوة الغابة.. لا يميز بين الرعية والفريسة

بين التراتيل والزار.. كلما ارتفع انخفضت النوايا

ومهما حاولنا الصلاة.. لا تخرج من الأفواه سوى البذاءة

وعواء يطفيء الأنوار.. ليغتصب الغد = دون شهود =

لا وقت للريح كي تمسح الآثار المبتردة

هي على عجلة من أمرها..

فاستروا سوءاتكم قبل انبلاج البياض

كل القرائن تثبت تورط الذئب في أكل يوسف

هكذا قال القاضي.. بصمات الصمت تكشف الحقيقة

ولو بعد جنازة وشهيد.. فاعتصموا بالهروب.. قد صدق الوعد.. وصار للزوج زوج.. للأنثى .. حظ الذكرين..

ومواكب لشوارب تحتها يتراقص الأحمر منتشيا .. على ظهر قذيفة.. طلع للكرة أثداء.. لرضاعة الكبير.. وركلة للوليد.. كي يشتد عوده ويقوى على تسلق الغاب..

لا خوف على النهر الجاري.. ضفافه صالحة للقضم

مهما عتقتها المجاري.. ومهما ألقوا فيه من لقطاء

سيحملهم السيل إلى دير يتهافت فيه الوقت..

تتباغض النوايا بعيدا عن مهازل الماضي..

*

على قبر القتيل.. تقرأ آيات الغضب

وتراتيل قيامة ستكشف وجه الرب

في ساحة الموازين حيث الانهيارات

تمتص كرامات القهر

تؤرجح الحرقة

قبل حلول الموت الوديع !

*

أبشر أيها القتيل .. قد صبوا العري على رأسك

كسروا السيف كي تنام.. باعوا الرصاص

واشتروا لك دمى تختصر المسافات بين الغباء والذكاء

و الغضب على مقربة يجتاز حدود النار والتتويج

وانت يا وطني.. تتربع عند احجارك الميتات

ترتق الغمام لتستر سوأة راقصات مقدسات

يجدن استدراج الثيران المنحورة

ريها خرابا ولجا .. صعيدا جرزا

*

لمن تركت النار مواقدها؟

كيف انبجس الرجس من حجر الصبر؟

من امتص من الازهار رحيق العناد؟

وكيف نسج القهر من جراحه قلعة الوفاء؟

لتنيخ الاحلام ركائبها

يغول النزيف في حمى الايام؟

السماء في حداد مشرع.. والكمائن تتناسل في المدى

عشيرتي فقدت بكارة غضبها

فمن أين تنبثق قيامة اثخمت الشعر

والذئاب تؤذن فينا =

حان زمن التيه

انفتح الطريق الى الهاوية

خيركم في الصفوف الاولى

محفوف بالكرامات.. وحفنات من الهزائم والخور

قدموا اشلاءكم المسكونة بالرعدة..

ارواحكم الحائرة بين المروق والخضوع

كي ينبجس الذل على الافق

وتنفذوا بين هوة واخرى

بعيدا عن اي صراط مستقيم

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

المرأة التي كذبت علي طويلا.

التي إمتلأ نهداها بنبيذ الذؤبان.

برائحة البحارة والمفترسين

بالوحل والرماد والضغينة.

المرأة التي سرق الغراب بكارتها..

المرأة التي وضعت أعصابي

في قفص من اليورانيوم.

ثم فتحت النار على قطرس الوعي.

ظلت مثل خبير في التشريح

تقلب جثتي ذات اليمين وذات اليسار.

معلنة فوزها الساحق على مخلوق

نذر شبابه الأرعن لطرد زيزان العزلة من غرفته العدمية.

*

 لم أك أعي جيدا

تلك السنوات العجاف

السنوات المقرفة والحارقة

مثل مثانة التنين.

آه أمي كذبت علي طويلا

وعدتني بالبقاء في مملكتي الصغيرة

تشعل مصابيح الفرح اليومي.

تدلق محبتها على سجاد البيت.

لكن بغتة فرت سريعا إلى المقبرة

مخلفة إخوتي في غابة ملآى بالذئاب واللصوص.

مخلفة شقوقا عميقة في بحة المزهرية.

طيورا نافقة في حنجرتي.

أمي التي أخفتني طويلا عن الغوريلا المتخفي تحت الكنبة

طوال أيام الشتاء.

أمي التي تحملنا على مركب صلواتها إلى جزيرة الله النائية.

لكن لم كذبت علي في العاشر من أيلول .

حين لفت حبلا برقبتها الهزيلة

وطارت إلى المجهول.

*

 العالم يكذب كثيرا.

الليل والنهار كذلك.

يلعبان الغميضة في السقيفة

بينما أكتفي برصد حركات النجوم.

الطفولة التي أسمعتني فاصلا موسيقيا من الفردوس.

ثم إختفت في دهاليز الماضي.

الشباب الذي سقط من قاطرة الصيرورة .

لم أدر أين أخفى مفاتيحه الذهبية.

أصدقائي الذين قطعوا خشب تابوتي للتدفئة أيام الصقيع .

*

 الحياة تكذب كثيرا.

صديقي الذي يرتاد الحانة.

مثل حكيم من القرون الوسطى.

يهشم قلق السكارى بضحكة حادة للغاية.

يقول: الحياة كذبة كبرى

نؤولها بالخمر والشتيمة.

السماء تكذب كذلك

لم أر شيئا صعد إلى حضرتها

لم أر روحا تتبختر في مشيتها

حاملة سلة من الغفران أو الفواكه.

الحياة مومس مقرفة.

يتداول عليها ناس قذرون.

كذبت علي طويلا في دار الأوبرا.

لما سحبتني إلى شقتها الفاخرة.

ثم انهالت على مؤخرتي بالكرباج.

***

  فتحي مهذب - تونس

 

لُطْفاً.. إلى (الغَيْداءِ) طِرْ بي يابُـرَاقي

طَرْفَاً..بأجنحةِ الهـوى حتى أُلاقي:

*

قَوْمي وخِيرة أهـــلها وبريقِها

وعليلها وشـــواطِئ الأحـــداقِ

*

وهَجْسِهَا الإنسان موفور الندى

بِقَشِيبِهِ...ونوابِــــــــغ الإشراقِ

*

صِلْني بِعَيْنيها ليبــــــحِرَ زورقي

وتضِيئُ في جَنَبَاتِهِا أشــــــواقي

*

إنَّ المُدَامَةَ مِنْ عَــــــذارى بَنَانِهَا

يَشْرَبْنِي كأسُها في صريحِ رواقِ!

*

إنْ كان ذَنْبٌ وَصْلها فلتشهــدوا

أَنِّي على ذَنْبِ الأصــالةِ بــــاقي!

*

لاتَغْفِروا ذَنْبي فإنَّهُ طــــــــاهِرٌ

وهو الطهورُ لغيرهِ بِوِفــــــــاقِ

*

وهو البريءُ من الخُنوعِ لِواهِمٍ

مُدَجَّجٍ بِبَــــوارِجِ الإخِـــــفاقِ!

*

وأنا الجريءُ لاسِـــــوايَ ومُذْنِبٌ

وأُقِرُّ: (أنَّهُ مِنْ صـــدى أعماقِي)!

*

دَوَّنْتُهُ  الإيــمانَ في موسوعتي

فلتقرؤوا شَغَفي عــلى الأوراقِ

مِنْ كان وُجْهَتهُ (السلامَ) وأهْلها

أنْعِمْ بِهِا مِنْ وُجْهَةٍ وعِنَــــــاقِ!

*

فأنا المُتَيَّمُ بافْتِتَان ٍ فـــــــاضِحٍ

مَنْ ذَا يَلُومُ مُتيماً بِــ(عِـرَاقِ)!؟

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

فبراير ٢٠٢٤م

 

السّماءُ على غيْرِ حالهَا

منْذُ الفَقْدِ..

كَالِحَةً

لا يمرُّ سِرْبٌ الَّا ويسْقطُ نِصْفهُ مَنْسِيّاً..

لا يَتَحَرَّكُ رِيحٌ

إلاَّ وَيَأخذُ مِنَّا زَهْرَة

لا غَيْمة توَجَّعتْ مدْرارَة للعطْشَى..

ولا قشْعةً أنارتْ مسْلكاً لِعمْشَاء..

هُناكَ بَعيداً عنْ عَيْنِ الزرقَاءِ

فَقطْ

سَرابٌ يلعقُ ماءَ النَّهرِ

ربَّما ضوء أعادتهُ الفيزياء لخَطْفةِ الرُوحِ.. انهيارٌ لنجمة تَحكَّكتْ بسيَّاجِ الأنبياءِ..!

أمَّا مَا أراهُ ،

ولستُ عرَّافاً للغُيُوبِ

ولا دجّالاً يشْمَتُ في طُقُوسِ الألُوهِيَّةِ..

أنَّ النَّارَ تُعَانِقُ الماءَ في خُلْوةِ الوَدَاعِ..

أنَّ الماءَ مُجرَّدَ خُدْعَةٍ في جَوفِ الحّجَرِ..

وبهذا ستَتلَحَّفُنَا النّكبَاتُ بِفَيْضٍ آخر من شذَراتِ المَسْخِ..

لستُ ملكاً مُشِعّاً في السّماءِ

لكنِّي

أحْمِلُ رائِحةَ الهٍ يعرِفُنِي

جِئْتُ أبْعَدَ حظٍ مِنَ الأرضِ

جِئْتُ أبْعَدَ عُمْقٍ منَ البحْرِ

أبعدَ عُلْوٍ منَ السَّماءِ.

. Je suis venu de plus loin que la terre De plus loin que la mer

De plus haut que le ciel

الذينَ يعرُفونَ فرْحتِي وآهاتِي

لمَّا وجَدُونِي أبْكِي فِي حُقُولِ الخُزّامَى

أُلقِي سوَادَ كَلماتِي فِي القَبْوِ المُقدَّسِ

قالوا:

أنِّي عَثرْتُ على لَوْحَةِ مِيلادِ العشْقِ

بينَ العُطُورِ الزرْقَاء في دُولِ النَّخِيلِ..

بَيْنَ بحورِ الخليلِ

بين جداول الكَرْمِ النَّقِيلِ

فخبَّأتها لِتتوسَّطَ لِي يَوْمَ خَتْمتِي بِمَلكِ الموتِ.. ومَا أنَا إلاَّ تَائِهٌ فِي عُنْفُوَانِ الجَبَلِ.

قالوا:

أنِّي أجرِي عَارِياً تَحْتَ النُّجُومِ َ

فاسْتوقفَنِي قُطَّاعُ الطُّرُقِ بِلَا أمْتِعَةٍ

وزَجُّوا بِي فِي زِنْزَانةٍ مُتْرعة عَلَى الصحْراءِ يحْكُمهَا كَاهنٌ يَحْتَرقُ ألفَ عامٍ

مخَافةَ أنْ يدَارِي غضَبَ امرأةٍ ..

وَمَا كُنتُ فيهِ كَافياً لأدُّقَ آخِرَ مِسْمَارٍ فِي نَعْشِي.

قالوا:

إنَّهُ يطعِمُ الخرافَة ويهدي الِميتَّةَ قرْباناً للوادِي ولهُ منَ الجنِّ قرينٌ يوَسوِسُ لهُ بالآتي ..

يَبِيعُ صُكُوكَ التَّوْبةِ مُقَابِلَ ثمْرَةٍ..

يَسْتَمِيلُ في مُجْرَيَاتِ الحَكْيِّ لقَوامِيسِ اللُّغاتِ المَلْغُومَةِ فيُقْصِي منْها الفَصِيحَ..

ويعرْبدُ حتَّى البَوح بمكنُونِ النَّفْسِ الأمَّارَةِ بالسُوءِ والعِصْيَانِ..

فإمَّا يرْمِيهَا بالبَاطِلِ والنُكْرَانِ

وإمَّا يُعَظِّمُها بِالسَّهْوِ والهذَيَانِ..

والصَّحُ أنِّي إبْنًا عَاقاً لِلُّغَةِ..

وَتُلْزِمُنِي حِصَصٌ لِلتَّشْهِيرِ َقبْلَ مَوْتِي مَطْعُوناً بِحُرُوفِهَا

قالوا:

إنَّهُ قصَبَة تَجَلَّفَتْ فِي عِزِّ رَبِيعِهَا

ثُمَّ تاهَتْ مَعَ العُمْيَانِ في ثَوْرَةٍ لِتَفْقَأَ عَيْنِ القَمَرِ..

ولمَّا غَرَّتْ بِهَا الأيادِي اليَابِسَةِ خَرَّتْ مُنْكَسِرَةً.. انتَهَى الحُلْمُ بِلاَ دُمُوعٍ..

وانْتَهى مِشْوَارُ القَضِيَّةِ تَحِتَ الأقْدَامِ..

حَالُ سَمَائِنَا يُغْنِي دَائِماً عنِ الإشَادَةِ بالغِنَاءِ.. قالوا:

فِي َموْسِمِ الجَرادِ

يَتَوَالدُ المخْبِرُونَ منْ يَأتِيكَ حَاِفياً..

منْ يَسْتَدْرِجُكَ بِعَرَاه لماخُورِ الاسْتِنْطاقِ..

لَكنْ مَا عَلَى ظَهْرِي الانَ سِوَى خِيشَة منَ الأحْلاَمِ المُنْتهِيَّةِ أبَداً..

أأجُرُّهَا لِمَقْبَرَةِ النِّسْيَانِ

كَمَا فَعَلَ الفَقِيدُ أبِي..

أأنهَشُهَا بأظَافِرِي لأبْكِي ويَّاهَا قضَاءَ وَفَنَاءَ العُمْرِ

كمَا الفَقِيدُ أخِي قدْ فَعَلَ..؟

..أأدُوسُها بقَدَمِي العَرْجَاءَ حتَّى تَصيِيرَ خَلاً وَأرُشُّ بِهَا موْطِنَ ضُعْفِي..؟

***

عبد اللطيف رعري

مونتبوليي حزينة لحزني

05/02/2024

غاب عني صاحبي فاستوحشت، وعاد فسألته.

وانتظرت الإجابة لكنها تأخرت كثيرا ولم تكن هذه الحالة من عاداته، ولم أدركها في صفاته، ولعله أخفاها عني عمدا لغاية في نفس يعقوب، فمتحت من الصبر غرفة ونظرت في وجهه نظرة أدرك معناها وغايتها ومبتغاها، وأردفتها حسرة، فَعَلتْ محياه الابتسامة، فظننت أنه قارب الندامة وأراد أن يكفّر عن احجامه، ثم قال: أنا يا صاحبي اقتني نظارتين، واحدة استعملها في البيت وهي أقل كلفه لا تتحمل ضغط أو رفسة والأخرى خارجه، فلم تثيرني كلماته ولا استعذبت حركاته، فكأنني أبادله بالمثل، هذا ما ظننته، واستمر غير عابه بعدم اكتراثي قائلا: الثانية أجمل وأخف وأكثر كفاءة، ثم أردف أتدري لماذا، قلت: من أين أتتني الدراية وأنت تخفي عني هذه الهواية، وأخاف أن هذه المقولة طلسما أو غواية.

فابتسم حتى بانت أسنانه، واعتدل فأصلح هندامه، فحدستُ أن الذي خلفه مخالف للذي أمامه،

فعلل فعلته وأوضح خطته وانشرحت سريرته، فقال:

يا صاحبي لا بد من نظارة مختاره

تكبر الأشياء من دونما استشاره

أحملها في جيبي فهي لي الوزاره

أضعتها في درسي فضاعت الشطاره

فان قبلت عذري كانت لك الصداره!!

فأثر قوله في مسمعي حتى كدت أن لا أتمالك أدمعي

فسرنا سوية الى السوق نبحث عن نظارة جديدة كعاشق ومعشوق، ننظر في صنع الخالق ونشتري مما صنع المخلوق !

***

مقامة: الدكتور عبد الهادى الشاوي

في غَمْرَةِ اللّيلِ الطّويلْ

كانتْ تُسائلُ نَفْسَها

هَلْ يَسْتَحِيلُ المُسْتَحيلْ

حُلْماُ جَمِيلْ؟

هَلْ تَسْتَحِيلُ الأمنياتْ

عطراً تفوحُ بهِ الحياةْ

ظلّتْ تُسائلُ وَحْدَها

مِنْ دونِ أجوبةٍ

تُطَمْئِنُ نَفْسَها

*

المُسْتَحِيلاتُ، التي كنّا نقولُ بأنّها

قَدْ تنتهي الأعمارُ  يوماً دونَها

ظلّتْ تسدّ البابَ في وجهِ الأملْ

فَمَنْ الذي

سُيُعِيدُ فتحَ البابِ.. مَنْ؟

ومَنْ الذي

سيضيءُ بالفَرَحِ الزّمَنْ

مَنْ يا سرابَ العُمْرِ .. مَنْ؟

*

لا مُسْتحيلْ

صِرنا نردّدُ كلّنا

في غَمْرَةِ اللّيلِ الطويلْ

الدّربُ أخضرَ  ما يَزالْ

ويظلّ أخضرَ

كُلَّما اِزْدِدْنا مسيراً،

كُلَّما اِزْدادَ اِخْضِرارْ

وتماوجتْ في جانبيهِ

رؤى الجَمالْ

وضاءةَ الآمالِ، مُلْهَمَةَ الخيال

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

الأرض شاخت ونحتاج التي بدلا

لم تحوِ من كان مقتولاً ومن قَتَلا

*

نحتاج أرضاً بها الإنسان من عَلَقٍ

أنقى من الودق في صحوٍ إذا هطلا

*

نحتاج إيمانَ عذراءٍ بداخلها

عيسى المسيحُ كما قد شاءه انجعلا

*

نحتاج ربّاً إلهيّاً نقدِّسُهُ

لا ربَّ (عِزّا) ومن قد جاعه أكلا

*

نحتاج قرآنَ أهلَ الكهف في جبلٍ

هيهاتَ يسقط مهما زلزلوا الجبلا

*

نحتاج تاريخ من صاغوا حضارتهم

من أحرف النور لا بالطِّين فانخذلا

*

نحتاج دنيا بها ربّان ما اتفقا

إلّا على الحقِّ فوق الأرض قد نزلا

*

ربُّ الضَّمير وربُّ الكونِ بعضهما

للبعض خيرٌ .. هما بالخير قد جُبِلا

*

كيما نعيش على أرضٍ مباركةٍ

من شاء يأتي معي يأتي لننتقلا !

***

رعد الدخيلي

 

ذلك اليوم يخلد في الذاكرة حيث كان من أكثر أيام مدينة الناصرية تهيباً وخوفاً وإيلاماً، فمع شروق الشمس وزخّات المطر المتقطعة، بدأت أوسع حملة لجمع الرجال في أضخم قاطع من قواطع الجيش الشعبي، وجنـّد للمهمّة أغلب، لا بل جميع، الرفاق من منتسبي الحزب. لقد وعد مسؤول المدينة الحزبي قيادة الحزب بذلك. فقد جاء في برقيته الموجهة إلى القيادة في بغداد، والتي أعاد مذيع التلفزيون قراءتها في جميع نشرات الأخبار وليومين متتاليين، أن تكون قواطع مدينة الناصرية للجيش الشعبي التي سوف تتصدى لغزو الأعداء إن حدث، أكبر من كافة قواطع باقي محافظات العراق.

عاشت المدينة منذ الصباح الباكر ساعات الترقب والحذر، وخيّم على أجوائها خوف ظاهر، ومع أصوات الضربات الساقطة بشدة فوق الأبواب في أغلب أزقة المدينة وظهور رجال الجيش الشعبي عند مفترقات الشوارع، أعلنت مساجد وحسينيات المدينة وفاة الحاج محيسن أبو رجب. احتشد بعض رجال عند باب الدار وكان عويل النساء يسمع من الداخل. وقف رجب وولداه يشرفون على التحضيرات والتهيئة لرفع الجنازة ووضعها فوق السيارة المركونة جوار السياج الخارجي. لم يشارك في التشييع سوى أنفار قليلة من المقربين، اغلبهم من الشيوخ أصحاب محيسن  أبو رجب. فلم يتسنّ لرجال الحزب حضور الجنازة، وهذا لوحده كان كافياً لجعل رجب في أشد حالات الإحباط والضيق.

 انطلقت أربع سيارات لا غير، تخترق شوارع المدينة التي بدت شبه خالية من الحركة. ولكن الأكف كانت ترتفع برتابة تحيي موكب جنازة أبو رجب. وتخطـت السيارات مخرج المدينة تاركة وراءها مدينة تعيش القلق والخوف، وتنتشر بين طرقاتها مجاميع رجال، متوعدة الناس بأقسى العقوبات إن لم يستجيبوا لنداء الحزب.

قدمت لرجب اعتذارات حارة وحميمة أثناء مراسم الفاتحة التي أقيمت في بهو البلدية الكبير. وقد تقبل رجب تلك الاعتذارات بروح راضية واعتذار متبادل؛ فهو وكما سمعه بعضهم " يقدر الظروف ويدركها جيدا، ويعرف أن مهام الحزب والوطن يجب أن تأتي دائما في المقدمة. ومثلما يقول المثل، فالحي أبقى وأوجب من الميت، وصاحب الإرادة والعزم، يجب أن يكون مثلي ويقرّ بأهمية وصواب القرارات التي تتخذها سلطة الحزب والثورة لمصلحة هذا الشعب العظيم "

***

كانت المدينة، حالها حال المدن الأخرى، تترقب بخوف وتوجس ما يطرأ من أحداث، وما يتوارد من أخبار مفزعة عن معارك شرسة وقتلى بالعشرات. كان قصي الابن الأكبر للحاج رجب يلتقط الأخبار من محطات التلفزيون وينقلها لأبيه، مثلما الإشاعات التي تتداولها الألسن في المدينة. جميع الأخبار تؤكد بأن الهجوم بدأ من الجنوب، فالقوات البريطانية تحاصر الفاو، والقوات الأمريكية تتقدم من غرب النهر باتجاه مدينة الناصرية، وشوهدت طلائعها تقترب من منطقة تل اللحم، والبعض تحدث عن إنزال وأرتال  كثيفة من الجيوش شوهدت قرب جسر الهولندي.

كان رجب قد استقر على أمر وهيأ نفسه لجميع الاحتمالات، ولكنه لم يكن يعي ما هو قادم مع هجوم القوات الأمريكية. فالواقعة ليست مثل سابقتها عام ما بعد هزيمة الهروب من الكويت. كل الوقائع تشير لحدث جديد مختلف. ببطء شديد حرّك رجب ذراعيه وهزّهما هزاً خفيفاً كأنما راودته فكرة محبطة يريد السيطرة عليها والتحقق منها. ما كان له أن يترك مكتبه دون إحكام أقفاله. ربما تطول أيام المعركة ويجوع الناس ويخرج اللصوص من مخابئهم مثل الجرذان يقضمون كل شيء. كل شيء جائز. كيف فاته مثل هذا الأمر. حتى أوراق المقاولات وغيرها تركها في المكتب. يا للخيبة، جميع استعداداته سوف تذهب أدراج الرياح ويخسر الكثير. الشيء ذاته تعرض له في أحداث الانتفاضة عام واحد وتسعين.

 سرح بفكره عند تلك الأيام الصعبة المفزعة،التي عاشها وعاشتها مدينة الناصرية، فشعر بغصة تملأ صدره. فإن كان في دخيلة نفسه يحتقر كل تلك الوقائع والعلاقات والخوف الذي أجبره ليكون الأقرب لرجالات الحزب والسلطة، فإنه اليوم بات يتوجّس من تكرار تلك الأحداث القاسية التي مرّت عليه وعصفت بمدينته أيام انتفاضة ربيع عام 1991. فهو لا يعلم إن كان بقي لديه من القدرة ما يمكنه احتمال إهانات جديدة، مثلما تلقاها حينذاك من بعض الغرباء الذين سيطروا على المدينة بعد هزيمة الجيش إثر نهاية غزو الكويت.

 شعر بحزن عميق يخيم على روحه، فلزم فراشه حتى ساعات المساء. كان تفكيره مشوشاً مثل روحه التي بدأ الفزع والجزع يسيطران عليها. هل لهذه الأمور أن تنتهي ذات يوم. هكذا  فكر وهو يمدّ جسده الناحل فوق السرير ويطالع المساء الهابط بغبرته المكفهرة خارج النافذة. وراحت تتناهى لمسامعه  رشقات الرصاص تأتي أصواتها من بعيد تصاحبها بين الحين والآخر أصوات مدافع تهدر معلنة اقترابها من المدينة.

لم يكن يحسب حسابات خاصة يتوقف بها ملياً عند الخيبات والآلام التي مرت عليه، بل كان يجعل كفـّتها تهوي دائماً حين يقارنها بوفرة ما اكتسبه من نجاحات على مستوى حياته العملية والعائلية، وما ذاقه من أفراح ومسرّات وانتصارات، ولكنه الآن يشعر بأن شيئاً جديداً يطرأ على حياته وحياة مدينته التي أحبها بكل جوارحه وقناعاته. شيء آخر يدفع الماضي إلى الخلف،يسحبه نحو الانهيار. ما الخلاصة التي سوف تستقر عليها الأشياء، ما لون الحياة القادمة وما كنهها؟ لم يكن صراع الخير مع الشر ليستكين أبداً في هذه المدينة البائسة، وروحه أيضاً ما كانت تدرك جيداً أن هذا الصراع  لن يهدأ يوماً ما، هذا ما كان يعذبه ويقلقه ككابوس يقضّ المضاجع. هؤلاء الناس البسطاء التعساء الشقاة عانوا كثيراً وغطسوا حد الأكتاف في الفقر والخيبات، وابتلعهم الخوف في جوفه مثل سعلاة لاهية عابثة تتلذذ بسماع صراخ وعويل ضحاياها. ولكن، ويا للعجب، فإن تلك القلوب لم تتخلّ يوماً عن فطرتها الطيبة البريئة المفعمة بالحياة. لقد محضوه بلا شروط محبّة دون ثمن، وقابلهم هو بحبّ مماثل، بالرغم من كون ذلك الحب، وفي بعض الأحيان، لم يكن ليخلو من حسابات الربح والخسارة. اليوم يشعر وبإلحاح مفرط أن حساباته تلك كان لها الكثير من القيمة. وهو يعرف حق المعرفة أن حظوته عند أهل مدينته كانت قد حصدت الكثير من النجاحات، وهذا ما أدركه أيام انتفاضة عام واحد وتسعين. فمساعداته وإحسانه ما كانت تبحث عن غير رضا وطيبة الناس وقناعتهم بانتمائه لهم، ولم يجعل من موضوعة حساباته في كسب محبّة الناس أثم يلوث حياته.

اليوم، وفي قرار روحه، يشعر بوجود مهاوٍ دون ملامح واضحة، ولكنها من الجائز أن تسبب له ولعائلته الكثير من الخسائر والعذاب. حياته بكل تفاصيلها ووقائعها تحتكم اليوم عند حدود تلك الأصوات الثقيلة المدوّية للقنابل المتساقطة، وأزيز الرصاص الذي تثقب حدّته سماء المدينة دون رحمة. لو أن أحداً سأله اليوم عما أدركه في هذه الحياة لأحس بمرارة في الحلق وشحّ كلمات، وحار بعجزه عن الإجابة. مع المجهول القادم..ربما هو اللاشيء أو كل شيء. هذا ما تفتق عنه كامل ذهنه عند تلك اللحظة الرجراجة التي تعدم فيها القدرة على التوقـّع واكتشاف ما يخبؤه المستقبل. فهو لا يملك الإدراك والتقدير للواقعة، فكيف تراه يخمّن أو يتعرف على ما تفصح عنه نهاية تلك المعارك.

***

فرات المحسن

 

اسْـتـنهِضْ الحرفَ ، فالمظلومُ ينتظرُ

والخبـزُ مُـرٌ ، وعزْفُ الناي يحتضرُ

*

واستنطقْ الجُرحَ، واكتبْ ما يفوه به

فالجرحُ يـبقى وميضا ليس يــسـتـتـرُ

*

واضرمْ مــِدادَكَ كي تعـلو بصــوْلـته

سُـمْرُ القنا ، وســيوف ُ الغدر تندحـرُ

*

واطـفئ بـداجـيـةٍ آهـــاتِ مُـوجَـــعَـةٍ

فالصوتُ في الحق يُسْتسقى به المَطَرُ

*

روّضْ يراعَكَ واجعلْ منه سَـهْمَ لظىً

فـي رَوْعِ مُغْـتـصِبٍ ، بالجُـرْم يفـتخرُ

*

مـع الرصاص قوافي الشعـر غاضـبة

عــند الـنـزال ، وفـي احـداقِها الشَّـررُ

*

تــرنـيـمةُ النـصرِ للأشــبال تَـدعَـمُـها

كَـــفُّ الحِـجارةِ ، لا ســـيفٌ ولا وَتَـرُ

*

إن الأصــالــة لا تــرضـى مُـسـاوَمـةً

ولا الكــرامـة ، أنْ يــنـتـابـَهــا الكَــدَرُ

*

مــاخـانَ حُــرٌّ ، فـطُهْـرُ الأصلِ يمنعه

قــد جــسّـدتْ ذلك الأشــعـارُ والســورُ

*

اســتـيقـظي يا قـوافي ، واسْـكبي دِيـَماً

فــتُــربـةُ الـمَجْــدِ ، للأمـْـجـاد تـنـتـظـرُ

*

اسـتـنـهـضْ الحرفَ وانْسجْ منه قـافيـةً

عَــرّي بها مَـنْ بِـقَعـْـر الفسق مُـنْغَـمِـرُ

*

ما رفـعةُ الـشأنِ ، فــي ثــوْبٍ وقـبعــةٍ

الــشأنُ فــي جَـوْهـر الأفــعال يــُعـتَــبَرُ

*

اقْــلِـقْ بـِـمـَضْجَـعِ مـَـنْ انـسـاه ُباطِـلـُـه

اوجـاعَ غــزّة  ، والثكلى بـهـا غَـدَروا

*

إنْ أبـْطَاتْ هِــمَّـةٌ ، فاشْحَـذ لهـا قَـبَسـاً

مِن قُـبـّة القـدسِ ، يُسْـتَـنْـزَل به الظّـفَـرُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

كيف تُدمع على رؤوسِنا

سحابةْ...

أقارع ثياباً ممزّقةً

سقفاً يتنازلُ عن سمائه الأولى

ينزلُ متطابقاً تماماً

يفتحُ موسمَه الموسيقي

عازفاً على حطام ربابةْ...

هذه الرصاصةُ أخطأتني

لكنّها تجمّعت بجسدٍ ناحلٍ

هذا برميلُ النفطِ

أرسَلوه إلى حطام الأولاد

هذا البحرُ الأحمر

يجنّده المحروسون من بقايا الموت

هذا سريرُ الأعمى

أرسَلوه إلى مشفى محطّم الأوصال

هذه القلادةُ ضيعتَها رصاصةٌ

*

غزة يا طفلة

يا نهراً تروين به صدور الناس

يا غزة يا سنبلة...

يا سفينة مثقلة بالأمواج

يتغزّل العالم كله بك

ويرويكِ القتلة...

ياغزة البوصلة...

غزة خارج القلقْ..

تعوم مهلهلة

وعلى كتفها رشاشاً

غزة تتستّر

في بوّابة النفقْ..

*

يا أرضَ الجليل

***

علاء حمد - العراق

 

الــحالُ مُــزْرٍ و الــجريمةُ مُنكرَةْ

يــا  أمــةً لــلجهلِ أمستْ مَسْطَرَةْ

*

نــفــيُ الــحقيقةِ لا يــعالجُ أزمــةً

أســبــابُــها  بــعــقولِنا مُــتَــجَذِّرَةْ

*

فَــرْضٌ  عــلينا أنْ نُــداوِيَ عِــلَّةً

بــاتتْ إذا سَــكَتَ الــجميعُ مُدَمِّرَةْ

*

ونــفَضِّلُ الــتّصفيقَ رغمَ جِرَاحِنا

دومـــاً هــزيمَتُنَا تــكونُ مُــبَرَّرَةْ

*

فــوسائلُ الإعــلامِ أضــحتْ نُكْتَةً

أخــبارُها عــكسُ الــحقيقةِ مُدبِرَةْ

*

أبــطالُها الــشجعانُ فرسانُ الهوا

خُــطُــوَاتُهمْ بــذيــولِهمْ مُــتَــعَثِّرَةْ

*

ســبقتْ بــلادَ الــواقَ واقٍ مَركزاً

فــي  الــذّيلِ دوماً تَقتدي بمُؤخِّرةْ

*

فــاستبشرتْ  خيراً وزادَ حماسُهَا

كــي تــستَمِرَ إلــى النهايةِ مُبْحِرَةْ

*

رَفَــعَــتْ لــكلِّ نــطيحةٍ مَــوقوذةٍ

لــتصير فــي الإقدامِ تسبقُ عنترةْ

*

ومُــبَــرْمَــجٍ  كــالــببغاءِ مُـــرَدِّداً

لــعــبارةٍ مــمــجوجةٍ و مــكرَّرَةْ

*

ومُــخَرِّفٍ فــي العقلِ باتَ مُفكراً

لَــمْ يُــسْمِع الــجمهورَ إلاّ الثَرْثرةْ

*

ومُــشَــعْوذٍ  يــتــسابقونَ لــجــلبهِ

مُــتَــطِيِّراً و الــهَرْطَقَاتُ مــقرَّرَةْ

*

ومُــهَلْوسٍ ثَــكِلَتْهُ أمُّــهُ قــد أتــى

بــقصيدةٍ  لــعكاظَ تَــقْطَعُ تَــذْكِرةْ

*

ألــفاظُها مَــمْغُوصَةٌ فــي بــطنِها

عــبثيةٌ فــيها الــحروفُ مــبعثرةْ

*

فــذوو الــجهالةِ أصــبحوا قُدُوَاتِنا

و  وجــوهُمْ مثلَ الكواكبِ مسفرةْ

*

وذوو الــعقولِ تــقطّعتْ أســبابُهمْ

بــاتوا  طــيوراً في الفلاةِ مهجَّرَةْ

*

فــغدتْ بلادُ العربِ قاعاً صفصفاً

صــحراءُ مــن أهلِ التَفَكُّرِ مُقفرَةْ

*

كــلُّ الشعوبِ الى الأمامِ مسيرُها

والعُرْبُ من دون الورى متقهقرةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

سار خلف والده شاقا طريقه بخطوات حذرة، متطلعا بوجه بليد و نظرة بانورامية، موزعا ابتسامته بالمجان على كل من كان في الباص عكس والده الذي كان يسير بخطىٍ واثقة وصدر مرتفع كشاب في العشرين من عمره.

لفت نظر بعض من الركابِ، في حين كان البعض الاخر منشغلا بالنظرِ من النافذة باتجاه الشارع. وصوت المذياع، يبث اغاني فيروز الصباحية وسط سكون واِنصات البعض منهم، وكأنهم في دارٍ للأوبرا.لم يتوقف عن الالتفات نحوهم وهو يدقق النظر اليهم حتى بعد أن جلسَ. لفت نظرهم وكأنهم في انتظار شيء ما سيحصل، وكأن نبوءتهم قد تحققت حين ارتفع صوته فجأة مشيرا بيده نحو شجرة كبيرة تطُل برأسها من حديقة احدى البنايات متسائلاً ما أسُمها ؟ أجابه والده انها شجرة وتلك المتدلية منها تسمى اغصان. ثم قال وهو يشير بيده ما أسم ذلك الصغير الذي يحط ويرتفع فوقها ؟ أجاب :انه العصفور، وذلك الاكبر حجما منه يسمى الحمام. ثم انجرف بانفعالهِ وهو يزيد من الاسئلة التي حولت الركاب من جمهورٍ مستمع الى جمهورٍ متفرج، وسط ذهول واستغراب الجميع من حديثهما ! اخذ يحٌرك رأسه يمينا وشِمالا، و ينظر بذهول الى المركبات التي تسير في الشارع حتى مر الباص من أمام بناية عالية مكونة من عدهِ طوابق، أشار اليها قائلا اليس هذا هو ما يسمى بالجبل، فجأة علت ضحكات لشابيّن مراهقين كانا جالسين خلفهما ينصتا لحِديثهما، سرعان ما توقفا عن الضحك حين التفت والده وهو ينظر إليهما بغضب.كانت هناك فتاة تراقب بطرف عينها ما يحدث، ضمت كتبها نحو صدرها و غادرت مكانها متسلله بهدوء لتجلس في الصف الاخير من الباص، نظرات الجميع لم تكف، بل تخللتها تنهدات وحسرات لم يستطع البعضٌ كتمانها، وتحديدا العجائز منهم، كانت هناك سيدة عجوز تَرقب ما يحدث رفعت يدها نحو السماء داعية للشاب ( اللهم شافيه وعافيه ) ثم مسحت وجهها بكفها قائلة اللهم امين، تأثرت سيدة اخرى بكلامها مرددة هي ايضا (اللهم امين)، ثم مررت له قطعة شكولاتة بأيدي أحد الركاب الجالسين بالقرب منه ، كان والده على وشك أن يقطع طريقة مترجلا من الباص، لكنه لم يفعل ذلك وظل جالسا عاجزا عن الكلام وسط نظرات البعض بين متعاطف ومستغرب وكأن حاله هياج اصابت الجميع، وهم ينظرون نحو والده بعيون متسائلة لن يعرف لها اجابه !.فجأة اقترب منه رجل كان يجلس بجوارهم، يقارب عمره الستين عاما يعَتمر قبعة بنية ممسكا بعكاز براس كروي انيق، على ما يبدو قد صنع من خشب الزان معتدا بنفسه وكأنه يحمل صولجانا. واضحا من هيئته انه رجل مثقف، اقترب من والدة هامسا، لديك أبن وسيم لم لا تأخذه الى أحد الاطباء قد يكتب الله له الشفاء. عليك يا أخي ان تتقي الله فيه !! التفت الاب ناظرا اليه وهو يشفق على رأيه أو تظنه مريضا ! ما يسكن عقله أكبر مما ينطقه لسانه، لو اقتربت منه ستجده يتفجر ذكاء.هي مرحلة خوف من حرب باغتته ولفته برعب وقد رأى خوفي عليه ذلك هو نوره الازلي وفرحه نفسه المتوجسة بعد أن أبصر النور.

***

نضال البدري – قاصة عراقية

 

العاصفة

أنا الحطَّابُ

الذّي حملَ الغابة

في كفٍ

وحملَ ظلَّها في كفٍ آخر..

زوابع من النَّملِ تتبعُني بالحجارة..

وطأتي في غبرة التَّلِ رمتْ القرية بنعاسٍ مديدٍ..

أزحفُ بخطوٍ شَرِس لما النَّهر يبْتعدُ

صدري ينتفخُ كالبُوراقِ ليهدَّ شوارعَ النَّكْبةِ بعيداً عنْ قلعَةِ البياضِ

وجُثت الموتى مجرَّد أدراجٍ كُنتُ أصلُ بها لحدِّ الشوفِ..

قدْ يظنُّنِي البعضُ طائِر خرافيّ يجوبُ سماءَ الله، وأُمْطِرُ أقْراصَ الخُصوبةِ في أرضهِ، وما أنا في الحقيقةِ الاَّ طيف هلاميٌّ يتَخَوَّى بينَ أصابيع عروسَة أنهكها التَّسْبِيح

ومنْ يثق في بيرمانيتي يظنُّنِي ُدخانٌ يسخرُ مِنْ َشتاتِ الليلِ

عَرَّابي كانَ بُركاناً فكيفَ لا أصيرُ جمراً..

لهيباً..

رماداً..

لستُ بحاجة لأجنحة لأطير نحو تلقائية الفرحِ..

بالرغم من انزعاج العصافير حولي وبرغم الساقية الجارية

من تحتي

وبرغم قعدتي ليل نهار

أسكبُ خمرة العار..

تحت هذا الجرف وذاك القبو على شكل مزار..

لا حاجة لي بخاتم سليمان لتكتمل زينتي

ولا عصا موسى لأكَلِّمَ

ربِّي

ولا أزنُ مثقال ذرةٍ لتحرمني منْ مكان القدسيات..

لديَّ عِصْمة الأطفالِ

خبئتها منذُ ميلادِ أولِ كائنٍ هووِيّ لدَيَّ لهَّاية أجرُّ بها المَلَلَ للغرقِ في سلّةِ الضّياعِ..

لي وشْمةٌ بيْنَ أضلُعِي تنذرُ ببقَائِي واقفاً حتَّى بعدَ الموتِ أبدَ الدَّهرِ..

لديَّ هوسٌ أنِّي لا أقهَرَ ولو اجتَمَعَ الجِنُّ والأنسُ يحفرونَ بؤبؤ العينِ بمخالبَ الوهمِ..

لديَّ يقيني أنِّي ابنٌ لنبيٍّ ماتَ بحجَّةِ وبرهانٍ..

رسالتهُ أنْ يسلُكَ هُدَى صمْتِهِ فقط..أنْ يبتَسِمَ للعُجُبِ بصوابٍ

لنشرِ قيَّمِ التَّآلُف بينَ الخيرِ والشَّرِ..مبشرٌ بحرقِ الوجُوهِ المدقُوقةِ في جدَارِ  الذِّكرياتِ..

لديَّ عربة مجرُورَة بخَيطٍ من حَريرٍ

أقلُ فيها زلاَّت الطفُولةِ وما بَعدَها.. أقلُ تَفَاهَة الأغْنِيَّاتِ وسَوَادِ الأمنِيَّاتِ وعلى متْنِهَا أحتفِظُ ببنْدُقيتِي

طِيلةَ عبورِ الوادِي نجَوْنَا منْ عاصِفَة الصَّمتِ القاتلِ..

الأحْجارُ رعبٌ بيننا..

تتناطَحُ..

تغلقُ

الأثقابَ

العصافيرُ تتناسلُ في خفاءٍ..

لتلدَ إخوةً لدُمى النَّهار..

الجبلُ مِنْ هُنا

والجَبلُ مِنْ هناكَ..

يَعْجِنانِ فرقَعاتٍ من وَحلٍ أحمر

مُتورِّطانِ في شقلبةٍ مُفاجِئة..

لميلاد الدَّمارِ..

وحدي أعِي مصيرَ الغابةِ

أعِي نهايةَ ظلِّها..

رَمادٌ في مدفأة

وَضَوءٌ باهتٌ في لمحةِ البصرِ..

أنا الحَطَّابُ

وهَذَا معوَلِي ِفي عُنُقِ العاصِفَةِ

لنْ أنفخَ في نارِ الغابةِ

لكنْ سأبني برَمَادِها قبْراً لجَسدِي

***

عبد اللطيف رعري

مونتبولي/فرنسا

ما الذي حدث لنا.. لك ولي.. لماذا ابتعدت كلّ هذا الابتعاد؟.. تعتقدين أنني مجنون وأن البُعد عنّي غنيمة.. ألا يمكن أن تكوني أنت المجنونة.. بدليل أنك تنازلت عنّي بكلّ تلك البساطة؟.. أعرف أنك تبتعدين لتقتربي، أعرف هذا جيدًا. هذا ليس الابتعاد الاول. بإمكاني أن أذكّرك بأكثر من ابتعاد. أول ابتعاد لك، إذا لم تخنى ذاكرتي المُخلصة الوفية، كانت يوم تمرّدت علي وقلت لي: إذا أردت أن تتحداني ستكون أنت الخاسر ولست أنا بأية حال.. يومها لم أعرف بماذا أجيبك.. كنت أدرك تمام الادراك.. أن مناورتك هذه قد تقضي على علاقتنا ولو مؤقتًا.. وما كان بإمكاني أن أستغني عنك وعن كلماتك الشاعرية الجريئة تطير عبر المسافات طاوية المسافات الواسعة الشاسعة بجبالها.. سهولها ووديانها.. لتستقرَّ هنا في أذني.. قلبي وروحي. يومها ارتبكت.. حققت لك ما أردت.. صمت.. وطال صمتي.. فما كان منك إلا أن أخذت صمتي ذاك ذريعة لأن تقولي إنك قرّرت ألا تتصلي خلال شهر.. وحدّدت اتصالك المُظفّر ذاك باليوم الساعة بل الدقيقة والثانية.. في فترة انقطاعك تلك كنتُ كلّما رنّ تلفوني أهرع إليه معتقدًا أنك أنت المتصلة الكريمة.. إلا أن اعتقادي هذا كان يخيب ليكون المتصل أحد الثقلاء.. أعترف أنك صدقت يومها.. ففي الساعة .. الدقيقة والثانية المحدّدة.. رنّ تلفوني لتكوني أنت المتصلة المنتظرة. ولأنعم بسماع صوتك المخملي الرنان:

-ها أنذي عدت إليك.. إياك وإغضابي. قلت.. بعدها عبثًا حاولت إقناعك بأنني لم أغضبك.. بل إنني بالغت بوعودي السخيّة لك.. فتبرعت بألا أغضبك مهما كلفني الامر. في الابتعاد الثاني، وأنا لا أنسى تلك الابتعادات، فقد خبرت سياطها على جلدي العاشق الطري.. حدث أمر آخر لم يكن في حسابي ولم أكن أتوقعه. فقد تناقشنا في أمور شتى كالعادة، فما كان منك إلا أن تطلبي مني أن أعيد ما قلته لك. وهو اننا يفترض أن نلتقي أن نتقارب أكثر. فسألتني بأية صفة.. تطلب هذا الطلب؟ قلت لك بصفة مّن انتظر المطر يهمي ليسقي ربوعه و.. وُروده العطشى. قلتِ أفصح.. فأفصحت وليتني ما فعلت.. قلت بصفتي سكنك وبصفتك سكني.. نهاري وليلي.. يومها قلت إنك لن تلتقي بي إلا بصفة مُحدّدة.. ولما كنت أفتقر لمثل هذه الصفة، صمتُ وطال صمتي، فما كان منك إلا أن أجريت لي محكمة ميدانية وقرّرت الابتعاد مدة نصف شهر. مُكررةً تفاصيل تلك القطيعة.. أمامك نصف شهر ابتداءً من اليوم بإمكانك أن تسرح به وتمرح.. أطلقت عقال هذه الكلمات.. بعدها حددت موعد الاتصال.. حينها انتهت المكالمة بيننا وأنا أندب حظي.. وأصبّر نفسي على بُعدك الغليظ. في الموعد المحدّد رنّ تلفوني وبالفعل جاءني صوتك ليصل فيما بيننا ما انقطع مِن حُلم بهيّ استرخى في ديارنا. 

فعلتِ هذا كله وأنا لا أتخذ ضدك أي إجراء فقد غلبني حبّي لك وغلّبني..

لقد بقيت على هذا الوضع من الشدّ إذا شددت أرخيت وإذا ارخيت شددت (قاتل الله معاوية ابن ابي سفيان فقد علّم الناس كيف يتصرفون في لحظات التواصل الجدية)، بقيت كذلك الى أن أيقظتني كلماتك الاخيرة تلك.. وابتدأت أستوعب أن الوقت حان لأن أرد عليك وأن آخذ زمام المبادرة، فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدا)، لا تصدّقي كلامي هذا، أنت تعلمين أنني لا أستغني عنك.. حتى كانت حياتي الثمن.. أعرف أن هذا ليس مهمًا حاليًا.. المهم أنني قررت أن أدخل اللعب، لعبة المحبة، بأسلوبي الادبي الخاص. قلت لك في إحدى مكالماتنا، إنني لا أستطيع أن أبقى هكذا بعيدًا عنك وإن بُعدك عني يكاد يقضي على روحي. يومها قلت لي بالحرف الواحد الواضح، والحل؟.. قلت لك الحل هو ألا تبتعدي وأن تقتربي أكثر، فانأ إنسان وبحاجة إلى مَن تأخذ بيدي فتشنف اذني بأبهى الكلمات وأرق الروايات. يومها شعرت أنك اقتنعت بما قلته، وهو ما أفصحت عنه في فترة تالية حين قلت لي إن كلماتي كانت أشبه ما تكون بعصافير بلادنا ذات الارياش الملونة. بعد اقتناعك ذاك انفتح الباب السري في علاقتنا أنت وأنا، وابتدأتُ انعم بسماع صوتك بصورة يومية تقريبًا. كانت تلك فترة ذهبية في علاقتنا المشتركة، فما كنت أطلب منك أي طلب مهما كلّف.. وأيًا كان.. حتى كنت تستجيبين لي زاحفة وماشية وراكضة.. كانت أسلاك التلفون حينها تجمعنا. تلك كانت الفترة الذهبية في علاقتنا التاريخية. وكان كلّ منا يعيش كلّ لحظة وكلّ دقيقة وثانية كأنما هو ينتزعها مِن قلب الخلود وصميمه الدافئ. ما أروع تلك اللحظات.. ما زالت حلاوتها تبعث الحياة في لسياني وأكاد أقول في وجودي. لكن مثلما يحدث وآه مما يحدث هذا، لم يدم نعيمُنا، وعدت بقسوة رأسك المعروفة المعهود إلى شخصيتك القديمة، شخصية معلّلتي بالوصل، وفاجأتني بما لم أحسب له حسابًا. قلت لي الآن انتهى، افعل ما يحلو لك. لن أنساق وراء كلماتك الدافئة بعد اليوم. 

قلت لك يومها:

- والحلّ؟

- الحل عندك. أجبت.

ما إن سمعت كلماتك هذه.. حتى شعرت بنفسي تهتز وبوجود يرتعش، وتابعت قسوة رأسك قلت بصريح العبارة: أريد أن أتحدث إليك بصفة محدّدة. قلت لك أنت كلّ الصفات. إلا أنك رفضت الاستماع إلى حُجتي هذه. وأصررت على موقفك. قلت إن ذاك هو قرارك الاخير. وأكدت أنك ستبتعدين مدة ثلاثة أيام، بعدها ستعودين لتصغي إلى قراري الاخير. إما أن تكون لك صفة وإما لا تكونين.

بعدها أغلقت هاتفك.. وتركتني لأحلامي أكاد أقول لأوهامي.. ليمرَّ اليوم الاول والثاني.. في موعدك المحدد رنّ تلفوني... رن.. رن.. رن.. كنت أعرف أنك أنت المتصلة.. إلا أنني لم أرد، وبقيت مصرًا على عدم الرد، إلى أن صمت تلفوني ودخل في حالة موت سريري.. لم يكن لديّ ما أقوله لك.. كلّ ما كان بإمكاني أن أفعله هو أنك تريدين مني شيئًا واحدًا هو الصفة.. أما أنا فقد كنت أريد أن أمنحك كلّ الصفات.. يا نجمة الفجر الاولى.

***

قصة: ناجي ظاهر

هو ذا لم يبتعد

هو يستوطن حبَّات الضِّياء

ويغنِّي بابا حيَّاك

هو ذا يلهو مع النَّحل ويصطاد الرَّحيق

وينام بين أهذاب الصَّبايا العاشقات

ينسج معهنَّ أحلام الأماني

يمسح أحزان الثكالى والرُّعاة

ويغنِّي بابا حياك

يعبُر وجهه الباسم أنهار المراثي الحالكه

يجلِب ريشات الفينيق بخورا

للأحبة والوطن

هوذا يهتف بِاسم الأرض

ينجلي ماؤها عرسا بديع

بِاسم الزَّرع تحت التُّرب

يزهر في السَّهل الوسيع

بِاسم  كرَّاس ولوحة ذاك الطِّفل

يقطع الواديَ فجْرا

ومساهْ

باسْم أوَّل بسمة يرسمها ثغر الرَّضيع

فينساب الرَّبيع

ويغنِّي للنَّخيل الباسقات

حَّياك بابا حياَّك

هوذا شكري الآن.. هنا.. وهناك

ويبقى

ها تزغْرد هاماتُ الشُّموخ

للقاهْ

لا سوى عِميِ البصائر لا تراهْ

لا سوى سود السَّرائر

والْبُوم وأرهاطِ الْمَواتْ

تُنكر نورَ هداهْ

هوذا الآن ويبقى

ليدَوِّيّ صوته

حيَّاك بابا حيَّاك

فيَختبلُون

من رجعِ صداهْ !

***

الشاعرة زهرة الحوّاشي

من مجموعة وميض الماء.

04 فيفري 2022 .

 

عِطْري ٱلشَّرْقِيُّ، هل راقَ لَكْ؟

حبيبي،

فَإِنّي تَعَطَّرْتُ لَكْ ..

كُلُّ قَطْرَةٍ مِنْ طيبي

تَتَهافَتُ..

لِتَسْتَقْبِلَكْ..

ولم العجَبُ ؟؟

فَقَدْ أَسَرْتَ ٱلْفُؤادَ صَبابَةً

وَأَوْقَعَتهُ في ٱلشَّرَكْ

لاتقل كفاك تَكَلُّفاً

فا سْتِضافَتُكَ

أَضْحَتْ، كَبَعْضِ ٱلنُّسُكْ

لماذا التَّنَهُّدُ؟

أَأَحْرَجَ كلامي تُرى مَسْمَعَكْ؟

أَجِبْني،تَكَلَّمْ

بَلْ لاتَقُلْ وَتَمَهَّلْ

وَدَعْني اللَّيْلَةَ أَحْتَفِلْ

فَأَنا كَمَنْ فازَ في الْمُعْتَرَكْ

وَحَلّقْ بِعِطْري نَحْوَ الْفضا

وَٱنْشُرْ إِحْساسَنا في الْفَلَكْ

وَحَيْثُما تلاشى الرَّذاذُ

فعُدْ هُنا

كَيْ أَسْتَقْبِلَكَ وأُعَطِّركْ ..

***

إلهام العويفي

 

أتعبتني هذا الطريق الموحش، والصخب الذي يخترق أذنيّ المترقبتين، ويحملني على استحضار حياتي من تجاويف الذاكرة المثقوبة، وأبسطها أمامي عارية، فأخذت تتناثر مع حبات الحصى المضطربة، وتتحرك مع الرياح القوية، وتضطرب كلما صادفت حفرة في الطريق. وحيدا أعبر هذه المسافة المتخمة بالصمت القاتل، وأتجول بعيني الغبرتين على جنبات الطريق؛ أنظر إلى صورتي في الحيوانات الشريدة، فتسرح بي الذاكرة بعيدا، وتحضرني ذكرى ظلت نقشا في الوجدان، وتلح علي بين الفينة والأخرى، بيد أنها سرعان ما تصطدم بلحظات سهو طويلة، تعتريني كلما وجدتني وحيدا في هذا الطريق، وتأخذني إلى حيث تعيش أمي، فأحسني طفلا صغيرا يحبو، ويبحث عن يدين حانيتين رطبتين، تسرحان شعيرات رأسه المتناثرة، وتنتشلانها من الأرض بحنو وحدب كبيرين، فيغمرني دفء أمي، ويأخذ جسدي النحيل في الارتجاف، في الحركة العمياء، في الهدوء، في الارتخاء.. ثم النوم الطويل.

طاب لي المقام في مملكة الحلم فأقمت، لكنني سرعان ما أفقت، وغادرت هذه المملكة التي لم يطل تربعي على عرشها إلا لحظات قليلة، لأجدني منصهرا وسط الناس، أبتسم لهم كلما ابتسموا لي، وأرى شفاههم تتحرك وتتموج، بيد أني لا أسمع كلماتهم، لا تصلني أصواتها بقدر ما تأخذني حركات أجسادهم المضطربة. تمتلئ نفسي ضجرا ومللا، فأفر من هذا العالم خائفا، وأرتمي في مملكة الحلم مجددا، هناك تنتظرني أمي، وتترقب عودتي شوقا للأمان والدفء.

أرتمي في أحضانها صارخا:

- تعبت يا أمي، بل أتعبني الورى وأدمعوا عيني..

تحضنني بقوة، فأحس بالارتخاء، وبدمعاتها الساخنة تسقط على خدي، فتهمس في أذني متسائلة:

- ماذا فعلوا لك؟

أرد والكلمات في حلقي أشواكا:

- سرقوا مني كل شيء، حتى الحلم الذي أفر إليه أخذوه مني، فلم أعد أدري إلى أين يا أمي.

تتساقط دموعها على جرحي المندمل فتضمده، ثم تنطق والحرارة تغزو جسدها:

- ابق قويا صامدا، وإياك أن تستسلم لهم؛ إنهم بشر أنانيون يا ولدي، ولا يطمئن لهم بال حتى يروا دموع الآخرين منغمرة، وعلامات الحزن تملأ وجوههم.

كفكفت دمعها بسرعة، وتنسمت الهواء وعيناها مطبقتان، ثم أردفت:

- كن رجلا راسخا كالجبال، ولا تلن أو تضعف أمام هذه العواصف العابرة، وسأظل دائما في انتظارك؛ لأن هذه المملكة لن يدخلها غيرك.

- ما أجمل الحلم يا أمي! وما أجمل أن ألقاك فيه امرأة قوية لا تهب كلمات البشر القاسية!

ابتسمتْ، قبلت جبيني، ثم قالت بعدما سرحت ببصرها في أفق بعيد:

- آن لك أن تعود إلى عالمهم، وتظهر لهم أنك أقوى من كلماتهم، وأكثر قدرة على الانحناء لعواصفهم.. ابق رجلا.

طأطأت رأسي علامة الموافقة، ومسحت دموعي بيدي المرتعشتين، وبقيت شاخصا في عيني أمي، وفجأة سمعتُ أصواتا صاخبة، وبدا لي المصلون يغادرون المسجد وهم مختبئون في جلاليبهم الصوفية.

لم تنقطع صلتي بمملكة الحلم يوما؛ إذ ما إن تختنق نفسي بكلمات الورى، وتمتلئ ضجرا ومللا بأحاديثهم الفارغة حتى أجدني محمولا على أجنحة الحلم، وطفلا صغيرا نائما في أحضان أمه، يتوسد جسدها الحنون، ويتنصت على نبضات قلبها التي تتصاعد كلما احتضنته.

أتذكر كلمات شعراء وروائيين حول أمهاتهم، وبحثهم الدائم عنهن في عالم الحلم؛ إذ كلما أتخنهم الناس جراحا، وملأوا قلوبهم وجعا وألما، فروا إلى هذه المملكة الهادئة، والتمسوا الدفء والأمان في أناسها المختلفين عمن عهدوهم في حياتهم الواقعية.. فما أجمل الحلم إذا رأيت فيه وجه أمي مضاء متوهجا!.

***

محمد الورداشي

 

أَرَق

الفجرُ ليس بدايةً أُخرى

فإنّي لم أَنَمْ

مازلتُ في الامسِ العصيّ على النهايةْ

والنجومُ….

تكاسلت حدّ اشتهاء الانطفاء

فقط…لتبتكر البدايةْ

البداية؟؟

لمنْ  وكيفَ  وأينَ  تنبجسُ البدايةْ

خيوط افكاري بيوتٌ

لملايين ِ العناكبِ

تنسجُ الصَّمتَ حكايةْ

راعَها  خفقُ جَناحِ  الضوءِ

فارتعَشَتْ شِباكُ الصيدِ

كي تغتالَ  يعسوبَ  المنامْ

عَجَبي …………………!!!

كيفَ  يصطادونَ  إغفاءاتِهِم

كُلُّ الأنامْ

**

هرْطَقة

قال لي ماردٌ

اخطأ في عنوانِ سيِّدِهِ  الذي أطلقهْ

"تمنى ….

فإني لي الطاعةُ المطلقهْ"

أعادَ

تمنى ….

فما كان مني ….

سوى الشَّفَةِ المغلَقهْ

قال "حسبُكَ

تزدحمُ في فمِكَ الأمنياتُ  ؟

فلتُرخِها واحدةً إثرَ أخرى

ستحدثُ تترى "

قلتُ …أمنيتي..

أن ادخِّنَ ماشئتُ دون اذى

دون داءْ

قال..لو شئتَ ان تتمنى….

ان يجافيكَ هذا الوباءْ

قلتُ فماذا - بعد هذا الوباءِ -

على المُسَهَّدِ  ان يفعَلَه

قالَ  …فعلاً

تلكَ هي المشكلهْ !!

**

فكرة

ايُّ  كذبةٍ قالها المُسْعِفُ؟!

"سينجو …..

فلم تتغلغلِ الفكرةُ في رأسهِ

ولمْ ينزِفْ كثيراً من الامنيات "

لكنَّهُ بعد حرفينِ

قد حُشِرا في ممرّ الحياة

كان قد فارق النومَ ……

….

….

ومات .

***

احمد فاضل فرهود

 

أضفني إلى قائمة المعجبين

ولا تترك على الرف

بقايا قلم

وإياك أن يشغلكَ العابرون

قليلٌ وعاة، كثيرٌ رمم

وبعضٌ تراه كبيرَ الدثار

مهيبا مريبا خصيبا

صنم

أضفني إلى قائمةِ المعجبين

فما زلتُ أخشى البقاءَ مع الآخرين

يؤرق فيَّ فتاتَ الندم

أضفني فتلكَ السنون العجاف

تواخت عليَّ

ولم تشكو من عثرةٍ أو ندم

فهل كنتُ في كلِها حالَما

أداري وأصمت وأغضي

كأن الذي عشته َ

ما كان يوَما ألَم

جمعتُ القصاصات من مكتبي

وحدثتُها بعد ضمٍ وشم

فلم أجد غير" لا" تضج

وقليلا وجدتُ ال" نعم"

فقلتُ لها بصوت جليّ

ألا فاسمعي فإن الزمانَ الذي ترتجيه

تراخت به ال"لا"

تراخت

تراخت

فصارت نعم

أضفني إلى جوقة المعجبين!!!!!

***

د. عبد الهادي الشاوي

تَنَائِينَا..

يُحطِّمُ عُشَّنا المعهود

بالريحان ِ

والألحان ِ

والإيمان ِ ...

فيما كان يُسلينا !

*

وما اخْتصَّت ْ

بهِ أيامنا الخضراء

مِن شغف ٍ

يُرفرف بالهوى الجوال

في أسمى ليالينا !

*

وما جادتْ

بهِ من عَذْب ِ ريْقَتِها

لتروينا

رحيقاً سائغاً

مختوم بالنجوى

وممهوراً

بتوقيع ٍ ثنائي الفم

والأحضان تدفينا !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

يخيل لي أنني رسم بلا رتوش

ولست ادري اواهم أنا

أم محاصر في عنق زجاجة

لقد اديت واجبي بتفاني

كما تؤدي الشمعة الذائبة

دورها في عتمة الدهاليز المهجورة

*

وانتم ايها الشعراء  الغاوون

حتى انا عندي حلم

وتعلمون جيدا

انني لا اريد منكم اشياء تالفة

ولا مراثي عن دموع التماسيح

انا الذي خضت حروبا وحدي

بمقدوري ان اكتب قصائد تافهة

لن يقرأها احد

وانني من فرط الاعجاب بكم

اريد ان تحدثوني عن قصائدكم المحنطة

*

كم اتمنى لوانني

كنت ذلك الشاعر

الذي لا يعرف الكتابة

ولا يجيد القراءة

ولا فن الالقاء

ولا التوقيع على دوايننه

في الامسيات الماجنة

*

آن لي ان انزوي في صومعة

لأقرأ ما تيسر لي من قصة:

"الاسد الجائع مع الثيران الثلاثة"

وأرى بوضوح انني ذلك الشاعر

الذي فصلوا رأسه عن جسده

على قنوات "السوشيو ميديا"

كانت وما تزال هذه لعبة اولاد حارتي

ما ان ينتهوا من قراءة خربشاتي

حتى يرمون بها في سلة القمامة

واتنهد الصعداء وقلبي مفعم بالسعادة

واتساءل هل حقا قدمت شيئا مجهودا

تبتسم من انجازه التماسيح المسوسة الاسنان

***

بن يونس ماجن

تُهرولُ السّنونُ مسرعةً

خلف حدودِ الوطنِ

ترسمُ الآهَ

بكلّ أشكالِ الألمِ

وتتمحورُ في أعماقي

إشارة استفهامٍ

إلى متى ؟؟ ؟ نقايضُ الهمّ بالهمِّ

ونبايعُ السّعادةَ

بأبخسِ الأثمانِ

إلى متى ؟؟؟

نحشو الوسائدَ بالدّمعِ

ونزيّنُ الصّباحَ

بابتساماتٍ مزيّفةٍ

إلى متى ؟؟؟

نركضُ خلفَ السّرابِ

وننثرُ الشّوقَ

على أرصفةِ الغربةِ

لتقتاتَ بهِ

الطّيورُ المهاجرةُ

كمسكّناتٍ للغربةِ

إلى متى ؟؟؟

نرسمُ ملامحَ الوطنِ

على بعدِ شوقٍ

نسيرُ ونسيرُ ..!

ولا نصلُ ...

***

سلام البهية السماوي

 

-الى حسين علي يونس -

إِستيقظَ الشاعرُ

فوجَدَ نفسَهُ

طائرَ فينيقٍ

دائماً ينهضُ

ببسالةٍ وعنادْ

من رمادِ الحروبِ

وحرائقِ البلادْ

*

هكذا هوَ أَنتَ

ياصعلوكَ الشعرِ

وسادنَ الكتبِ

وعطرَ المصادرِ

وحبرَ المخطوطاتْ

*

يااااااااااه …

كمْ تنمَّرَ عليكَ

الشعراءُ المدّاحونْ

كُتّابُ التقاريرِ القاتلة ْ

وساردو حكاياتِ الرئيسِ الموهوم

وملاحمَ بطولاتهِ الكاذبةْ؟

*

صديقي الصعلوكَ الكادحْ

والبائعَ الورقيَّ الزاهدْ

كمْ تكالب َعليكَ

أَجلافُ ورعيانُ

وكلابُ السلطةِ

ولكنّكَ أَيُّها الذكيُّ

والقارىءُ اللمّاحُ

كنتَ تعرفُ كيف تفلتُ

من فخاخِهم الصدئةْ

وعيونِهم الشريرةِ

التي كانتْ تقدحُ شَرّاً

وشرراً عليكَ

من أَجلِ إِصطيادِكَ

وتغييبِكَ (خلف السدَّةِ)*

أَو في سجنِ (ابو غريب)**

وربَّما في مستوطنةِ (الرضوانية)***

لكنَّكَ …

ولأَنَّكَ …

ولدٌ سبعٌ

وصعلوكٌ حُرُّ

نجوتَ بإعجوبةٍ

من كلِّ أُولئكَ الأَوغادْ

ومن الحروب والمعتقلاتْ

والكواتمِ والبنادقِ الحمقاءْ

ومن الموتِ الأحمرْ

***

سعد جاسم

2023 - 12 -15

......................

*** أمكنة ومعتقلات عراقية .

 

كان بإمكانك أن تقطع الطريق

على الوحوش والغربان المرابضة حول نبضي

أو ترمم الشِق الغائر في جدار الثقة المنهار

قرب أكوام الخطوات النافقة

وأن تعيد ترتيب قطع الطريق المتناثرة

وتعدل من وقفة أشجاره التي أمالتها رياح الانتظار الفارغ

كان بإمكانك أن تعبد مفازات المسافات

التي تناسلت منذ آخر لقاء حجري

أو تكسر الجدار الزجاجي الشاهق ارتفاعاً

الفاصل بين ضفتينا

وتدفن أكوام الورد المتعانقة خلفه

كان بإمكانك أن تفتح فم الصمت تشد منه أحبال الكلام

وتعيد ترتيب الحروف فوق الشفاه

أن ترفع سقف ظلم استطال واستدار مع قضبانه

وتهيأ ليحجب ورائه أنفاس الروح المهترئة

أن ترمم ثقوب قلب استنزفته رصاصات الخذلان الطائشة

كان بإمكانك أن تكون الذئب في الحكاية ...

ولا تعد على مسامع بئر الوقت المعطلة سيرة الأخوة الأشقياء

أن تعتذر عن اقتراف دمي

وتعيد لي وجهي الذي مزقته أنياب الوحوش في مملكتك

لكنك آثرت إلا أن تكتم أنفاسك اللاهثة

من الركض بامتداد الفراغ إلى العدم

وفضلت أن تجلس في مقاعد المتفرجين

على أحدث عروض ال Dark deep web ترتدي نظارة 3D

وتتناول البوشار هدية الليالي القاتمة

وأَبيت أن تعيد لغاباتي كرامة اللون واعتزاز نخيلهما بالمطر الوردي

استرحت أكثر لفكرة صمتي

ورقصت على أشلاء نبضي الممزق

في ساحة الظروف والمصالح والمهم والأهم

بانتشاء ... سابقتَ ظلكَ في البحث بين زهور الحديقة

عمن تزين بها قميص يومك

بينما كان نشيج اللحن في صوتي يتعالى انكساراً

يذبح أوتار حنجرتي من الذهول …

و يصرخ ..من أنت؟

***

د.عايده بدر

٢ يوليو ٢٠٢٣

للصوت صدى

هل للمسافة صدى؟

أيها البعيد القابع في قلبي

اتراني احبك بقدر الفراغ

الذي يَفصلني عن ملامحكِ

ام بقدر النقاء الذي مابرح َ

يراودنِي ..

أتراك هذا الحيّز  المحسوس

الذي ملآ روحي شغفاً وحباً

أم انت الخيال  الذي ملأ عقلِي

ضجيجاً جميلا حد الإدمان !

هل لك أن ترتدي قلبي

دفئاً

وسكينة

وأرتوي من عينيكِ نقاء ومحبة.

هل لك أن تَنثري  َرذاذ عطرك

صباحاتٍ لأيامي

وتَرانِيم مسَرة في خوابِي أحزاني

فلا أنعتاق لحزني بلا همسك الدافىء.

***

كامل فرحان - العراق

 

(مهداة لمن أحب سراب حبيبة، يحبها الجميع، وتنأى بحبها عن الكثير، ليطبع معها الوجود)

***

حبيبتي ليست مثل حبي، طيف يناديني، وسراب في دربي،

تعشق كل المحبين، وتمسح عن عينيها دموع العاكفين،

ترمي رذاذ عطرها من فوق قلوب التائهين،

هي واحة المخمورين في صحاري العاشقين، ومعبد المنبوذين،

من كتبوا الأساطير على مفاتن جسدها وجدانيات الأمل المفقود،

بين التواجد، والوجد، والوجود، لهيب القلق الموعود،

بأن الحب يأتي مرة في العمر، ثم ينزع للفناء في المحبوب،

جسد طري مطرز بالأخدود، وبقايا وجود، على أطراف الروح،

تحذر كل عابر للحدود من مصير مجهول،

على أعتاب الحروف والندوب، ومعالم الصمود،

هنا حبيبتي مجرد قوس قزح شاحب في شتاء بارد، ما عاد كالشتاء!

قابع في أدراج الغيوم والسحاب والمطر المسجون بين الشمال والجنوب،

ينتظر الرياح نسغا في عروق الأوراق،

وماء في اللحاء والجذور،

وحياة لمن مات غرقا في هواها، ثم رجع يبحث عن شظايا الكلمات،

في مذكرة هجرها الورق والقلم والكلم؛ وحشرجت روحها عند الغروب،

حبيبتي أنت فاتنتي، قاتلتي، أنا أعدو وراء ظلك، فوق خطواتك،

يسابقني الأمل، يخبو حين يلوح خيالك خلف أحلامي،

فلماذا حبيبتي تجافيني، تهجريني، تعاتبيني؟

ما عدت أغويك، حبيبتي! لأني هائم في هواك،

فأنت ورقة من شجرة أيامي، سقطت من حياتي،

فأنت حبيبتي؛ الدنيا التي تسعني ولا تسعني وتنسفني،

لك كل الألحان والأنغام والأوتار،

فارحلي عني إلى مدافن الشجون ...

حبيبتي أنا خلفك أتلو كل التراتيل،

وأحمل كل المآذن والأجراس،

وأودع السراب والتراب في مساحيق الوجه وأحمر الشفاه ...

وباكورة أزهاري في بساتين بلادي،

فأنت وهم من أوهامي ...

فلا تبحث عني، فأنا صرت تحت الرمال والأنقاض ...

أحن إليك بعد الفناء ...

***

عبد العزيز قريش

فاس في:02/02/2024

 

حسب رواية أمّ قصيّ، زوجة الحاج رجب، فإن الحاج ولد في منطقة السيف من مدينة الناصرية، وأكمل دراسته المتوسطة فيها، وإن أصل عائلته من مدينة سوق الشيوخ القريبة. وقد انتقل رّب الأسرة منها إثر تكرار فيضان النهر لثلاثة مواسم وتلف المزارع، فاضطر السيد محيسن وهو والد الحاج رجب للهجرة والعمل مساعد قهوجي في مقهى خلف بناية المتصرفية وسط المدينة.تلك المقدمة كانت السيدة زوجة الحاج رجب ترويها حين يطلب منها الحديث عن أصل عائلة زوجها. عند هذا النص تتوقف وتنهي روايتها.

 كان محيسن نموذجاً للعامل الدؤوب المثابر صاحب القفشات واللسان الذرب العذب الكلام، لذا أستطاع كسب ودّ جميع روّاد المقهى. ولأمانته وإخلاصه  فقد منحه صاحب المقهى كامل الصلاحيات للتصرف بإدارتها، وزاد على ذلك، حين اختار له زوجة من أقاربه. لم تمض سوى خمسة أعوام على عمله في المقهى حين جاءت المصيبة، وبدأت تلاحقه لعنة قدمت إليه من مدينته التي عافها وراءه. فقد حضر أحد شيوخ عشيرة بني حِسنْ ليجلس في المقهى ذاته. حاول محيسن التهرب من تقديم الشاي للشيخ، ولكنه لم يستطع الإفلات من نظرات الشيخ التي كانت تلاحقه بشكل ملحاح. وأخيراً فشل محيسن في جميع محاولاته فقدم الشاي للشيخ ، و سبقه بابتسامة متهافتة وترحاب حارّ متملق. رد عليه الشيخ بعيون جاحظة وفم ممطوط.

ـ هله ...هله. ها محيسن أبو التتن. شني بويه تشتغل هنا؟

ـ أي ولله عمّي جا شيسوي بنادم ...أهله ما يردوه يكَوم يدور على شغل بغير ديره.

ـ خوش ...أهله ما يردوه لو البكَتهن ما سدّن العيشة.

ـ ما أدري شكَلك يالمحفوظ ..

ـ لازم محد هنا يعرف عن التتنات وغيرهن.

تلعثم محيسن وطأطأ رأسه، ثم نظر إلى صاحب المقهى وبعض الرواد الذين بدو وكأنهم ينصتون للحديث بفضول واستغراب شديدين.

عاف شيخ العشيرة قدح الشاي ورفع جسده الثقيل عن الكرسي، وأشار لمرافقيه بالمغادرة وهو ينظر نحو محيسن هازاً رأسه بعلامة عدم الرضا، أو ما يشبه التأسف المخلوط بالغضب.

لم يتمالك محيسن نفسه فأجهش بالبكاء وهو يعترف لصاحب المقهى بما وقع سابقاً في سوق الشيوخ حيث سرق محيسن محلاً لبيع التبغ والسجائر وغيره، عندما نشبت انتفاضة آل ريسان ضد الإنكليز عام 1935. وقد استغل محيسن الفوضى التي عمّت المدينة لينهب كذلك بعض محلات السوق الكبير. وقد اشتكاه أصحابها إلى الشيخ ريسان آل قاصد فأمر بجلبه لمعاقبته، ولكنه أستطاع الإفلات والوصول إلى الناصرية.

لم يبق على ولادة طفله الثالث غير شهر ونصف حين وجد محيسن نفسه عاطلاً عن العمل يتسكع بين الأزقّة. بضعة دراهم أدخرها لمثل هذا الوقت العسير نفدت سريعاً. مع تلك الحال كان يتحاشى الوصول لوسط المدينة وفضّل الجلوس في المقهى الواقع عند طرفها الجنوبي.

ربما هي الصدفة، ولكن محيسن كان مؤمناً إيماناً قاطعاً بأن الحظ وافاه مع الصرخة الأولى لطفله القادم الذي سماه رجب تيمنا بالشهر الذي ولد فيه. فقد حصل على العمل في محلّ لبيع الخشب والأدوات الزراعية الواقع وسط السوق، وكانت مثابرته وقوته الجسدية وسلاسة تعامله مع الزبائن، مبعث إعجاب وسرور صاحب المخزن. وبمرور الوقت كانت الدنيا تفتح أبوابها بوجهه، فبدأت صلاته تتوطـد مع أصحاب المحال والأعمال في السوق، وتوسعت لتصل إلى علاقات اجتماعية عائلية. لم يترك أبو رجب تلك العلاقات لتمرّ دون أن يستغلها لصالحه، فبدأ شراكته مع مقاول بناء دور سكنية، وكان نجاح الشراكة سبباً رئيسياً لتخلي أبو رجب عن عمله في مخزن الأدوات الزراعية، رغم علاقته الجيدة مع صاحب العمل. اتجه كلياً نحو المقاولات حيث أصبح أحد أهم مقاولي البناء في مدينة الناصرية، وخلال تلك الفترة، فواقعة سوق الشيوخ والمعلومة الطارئة التي قدمها عنه أحد الشيوخ ذاك اليوم، ما عادت تجد من يروّج لها أو يعتدّ بحقيقتها، واختفت كلياً مع صعود نجم أبو رجب، واحتسابه أحد الوجوه الاجتماعية ذات السمعة الطيبة في المدينة.

***

استغرقت تلك الفترة وقتاً ليس بالقصير، كان خلالها رجب الذي جاء إلى الدنيا في وقت العسر لأبيه، ينمو سريعاً، واجتاز في دراسته مستواها الابتدائي بتفوق ظاهر، وبدأت ملامح الذكاء والفطنة تظهر عليه، ويؤكدها رفاقه ومعلـّموه، ويفخر بها والداه، لذا زجه أبوه في خضم العمل، مسنداً إليه مهمة مراقبة ومتابعة المشتريات وأجور العمال. بدا رجب وكأنه خُلق لتلك المهمة وذلك العمل، ومع مضي الوقت، كان يقدم لوالده المشورة في بعض أبواب الصرف، وينبّهه حول الفروقات بين أسعار موادّ العمل وكلفها وكيفية توظيفها أو استغلالها واختصارها.

في سن السادسة والأربعين كان رجب يمتلك مكتباً فارهاً عند طرف الزقاق المطل على شارع الحبوبي، والنازل نحو سوق الأقمشة. كان مكتبه عصراً يعدّ أحد أهم ملتقيات الشخصيات الاجتماعية والسياسية لمدينة الناصرية.

كان والده محيسن يجلس صامتاً  كفيف العين ثقيل السمع، عند الطرف الأيمن من المنضدة الكبيرة التي يجلس خلفها رجب مزهواً ببذلة أنيقة ووجه بشوش وابتسامة لا تفارق محياه. كان المكتب يضج دائماً بالحركة، فقد تشعبت أعمال رجب ولم تعد مقتصرة على مقاولات بناء المنازل، فقد امتلك أكثر من خمس سيارات حمل قلاب لنقل الحصى والرمل والطابوق، وكذلك امتلك سيارة حوضية لنقل الأسمنت، وبات أحد أكبر المنفذين المهمين لعقود البناء والنقل للمؤسسات الحكومية، ليس فقط في مدينة الناصرية وإنما أمتد عمله ليشمل أيضاً أقضيتها، وكذلك بعض أعمال المقاولات في مدينة السماوة المجاورة. وأصبح رجب واحداً من شخصيات المدينة المهمة والمؤثرة، وكانت حظوته عند رجال السلطة تبدو ذات أثر فعّال، وباتت كلمته وحضوره  يُحسب لهما ألف حساب. وكان حضور وجهاء المجتمع ومسؤولي السلطة والحزب في ضيافته أثناء الحفلات التي يقيمها،حديث الناس. وفي الكثير من الأوقات أثيرت الشكوك والتقولات حول ما يدور داخل تلك الولائم المتكررة، ولذا فقد ظهرت تقولات عن مصادر أمواله، تتهمه بالكثير من التهم. وبدورهم كان ضيوفه يعتقدون أن تلبية دعوات السيّد رجب والجلوس في ضيافته تعدّ فرصة مناسبة لمقابلة بعض ممّن يترقبون الفرصة للقائهم أو عقد صفقة من نوع ما، أو حتى تسوية بعض الخلافات وتصريف بعض الشؤون.

***

فرات المحسن – قاص عراقي

 

فــي بَــسْمَةٍ حَيرَى مع الوَمَأِ

جَــادَتْ بِــهَا حَــسْنَاءُ كالرَّشَأِ

*

عــينانِ  كــالشَّطّينِ تَــغمِزُنِي

حــيثُ  اِلــتقتْ عينايَ بالخطأِ

*

قــدْ فــجَّرَتْ في الصدرِ قُنْبُلَـةً

كــالكَمْءِ فــجَّ الأرضَ بــالْـكَلَأِ

*

عَــينٌ لــجرحِ القلبِ قد نَكَأَتْ

والــجرحُ مُــعتادٌ عــلى النَكَـأِ

*

أصبحتُ كالعصفور في مطـر

يَـــرْنُــو لــعــينيها كــمُــلْتَجَأِ

*

كَــرِيشَةٍ فــي قَــلْبِ عَــاصِفَةٍ

مــاعُـدْتُ ألْــقَى دَرْبَ مُبْتَدَئي

*

هَــيّا  اسْكُني في كُنْهِ أَورِدَتِي

فَــالقَلْبُ قــد عَانَى مِنَ الصّدَأِ

*

عِــندِي  مِــنَ الأَحزَانِ مَمْلَكَةٌ

هيّا ادخلـي في أَرضِهَا وَطِئِي

*

فَــرَشْــتُ أهــدابــي لــغَالِيَتِي

نَــامِي عــلى الأَجفَانِ واتَّكِئِي

*

يـــا  شــعلة لــلنار يــا قــبسا

ذوبـي  بــماء العين وانْطَفِئِي

*

إنْ  كــنتِ تَرتَابِينَ مِن عَسَسٍ

هــيّا ادْخُــلِي لـلقلبِ واختَبِئِي

*

يــافــتنةٌ لــلقلبِ قــد حَــكَمَتْ

بَـاتَتْ كــما بَــلْقِيسُ فــي سبأِ

*

يــالِــيـتَهَا ألـــقــتْ تَــحِــيَّتَها

فــي نَــظرةٍ عَجْلى على المَلَأِ

*

لــعــلَّهَا تُــحْيِي بِــها حَــرَضًا

كـالماءِ إنْ جَاءتْ على الظَّمأِ

*

أدْرَكْـتُ أنِّي صِـرتُ مُحتَضَراً

تُــتْــلَى عــلـيَّ سُــورَةُ الــنبأِ

*

هــلْ  نَــظرةٌ مــرّتْ مُصَادَفـةً

تُــرْدِي  بــبَئْرِ الــحبِ لــلحمأِ

***

عبدالناصر عليوي العبيدي

ازدادت ضحى بعد ولادة عسيرة في ليلة ماطرة غاب فيها الأب كحارس ليلي ولم يحضر مع الام التي خانها حظ رؤية مولودتها غير ليليا بنتها البكر التي لا يتجاوز عمرها السنتين..

تزوج الأب بعد شهر واحد من ترمله وقد تلقفته إحدى نساء الحي من كانت عينها عليه قبل زواجه بالمرحومة..

ازدادت ضحى بلون قمحي فاتن، ومن أول يوم أطلقت صيحة وجودها هللت النساء وكبرن لحظة رؤية الصغيرة ساعة حضور جنازة أمها، وجه دائري بغمازة على الخد،شعر أسود غزير يغطي الأذنين وعيون واسعة بأهداب وطفاء كحيلة..

كل من كان يراها يكبر للشبه القوي بينها وبين أمها وهي من كان نساء الحي يلقبنها ب "فتنة الحي "وهو ما اثار غيرة زوجة الأب الذي تعلق بالصغيرة تعلقه بأمها الى درجة الوله، حريصا على تربية ابنته تقديرا وحبا لامها التي لم تمت الا من ضربة حسد..

زكام مفاجئ يصيب الصغيرة حين بلغت الخامسة من عمرها  فيُفقدها البصر، كانت زوجة الأب هي السبب، قطرت قطرات من القرنفل في أنف ضحى وادعت ان تحركات الصبية جعلت القطرات تسيح الى عيونها فبدأت تفقد البصر شيئا فشيئا ورغم محاولات الاب مع أطباء العيون فالبنت قد افل من حياتها نهار..هكذا حكم عليها الأطباء بالعمى الأبدي، تغادر ضحى الروض لاتفارق سريرها الا بمساعدة أختها..

تنمو ضحى فلا تزداد الا جمالا لكن بنفسية منهارة واضطراب حاد لما تحسه من عجز عن الحركة وعن قدرة السيطرة على بيئتها، تتهرب من كل الناس بتوجس وعدم ثقة شعورا بعجز يكبل حركتها ويولد صراعات كثيرا ما كانت أختها ليليا ضحيتها..فالنزاع بين الاختين كان يشتد كلما نمت البنتان..

كانت عبارة تنخر في صدرها يرددها كل من يراها،فتنهار ولا تجد غير دموعها تغسل بها عيونا غاب عنها النور " فاتنة !! لكن خسارة.".

تتزوج ليليا بعد أن اشتغلت في احدى المدارس الخاصة،فصارت ضحى تبتعد عنها لما يتلاعب في اعماقها من أحساس بعدم التقبل، وكراهية تجاهد النفس على إخفائها ولا أحد يدري لها سببا،ورغم اللطف والحنان اللذين كان يبديهما زوج اختها نحوها الا ان ضحى كانت تعامله بحذر قبل أن تعي حبه لها وعطفه عليها...

لا يغيب عن ضحى ما صارت تتمتع به ليليا أختها من مباهج اثر زواجها بابراهيم خاصة و أن الرجل موسر غني،أنيق بذوق ولطف.. كانت ضحكاتهما تخترق اسماع ضحى فتنسحب متوهمة أنهما يمارسان ما لا تستطيع تصوره او رؤيته، اوربما يستغلان عماها لممارسة مالا يجب أن يكون امامها، ورغم ذلك كان يغزوها نوع من انفراج الضيق الذي كانت تحسه قبل زواج لينيا، فقد تغير علاقة الزواج من سلوكاتها السيئة مما تعلمته لينيا من زوجة أبيها..

كان إبراهيم زوج الأخت رحيما بضحى يعاملها رغم حذرها منه كأخت صغيرة له لا يمكن أن تتفوه بطلب الا بادر بتلبيته، سيان بعلم أختها أو خفية عنها،فقدانها لبصرها كان الما ينقر صدره، فهو يحس معاناتها ويسأل الله فرجا لهمها وثقل ما تحمله بعلاج يعيد البصر لضحى فحرام أن يذوي هذا الجمال بين عتمات الظلام وكوابيس سوء الظن بالناس وعدم الثقة بهم..وهو ما تترجمه ضحى عند احاديثها..

شك قاتل كان يتلاعب بعقل ليليا:

ـ لماذا ينجذب لها زوجي الى هذا الحد ؟

ماذا يثيره فيها غير لونها القمحي ووجه أفقده العمى رواءه ؟

لماذا صارت ضحى ترتاح له و اليه تنحاز كلما عاد من متجره ؟

ماذا تحكي له وعنه يتكتم ؟

قرأ إبراهيم في احدى اليوميات ان طبيبا اسبانيا استطاع عن طريق تقنية جديدة باللايزر انقاد أكثر من اعمى ولو كان من أمد بعيد وان كل العمليات التي أجراها قد كللت بالنجاح..

عرض الفكرة على زوجته فعارضت ان يدخل في مغامرة قد لا تاتي بنتائج

لكن الحقيقة انها أحست بنوع من الغيرة حين اخبرها إبراهيم أنه هو من سيؤدي جميع مصاريف علاج ضحى ويصاحبها في رحلتها..

ـ كيف؟ تسافر معها..!!ومن يساعدها اذا ارادت الدخول الى الحمام أو ارادت تغيير ملابسها ؟ لا اظنها ترضى بهذا او توافق عليه، انت تعرف عقدها المتحكمة فيها..

استغل الزوج غياب زوجته في عملها وجلس الى ضحى وأمامها فجر البشرى،

بسرعة ترتمي عليه، تعانقه:

ـ كيف لا أوافق وانت تريد اضاءة عالمي المظلم ؟.. يبدو ان ليليا هي التي لم توافق..

وضع يديه على خديها وقال:

لا، ليليا لم تمانع بالعكس هي تخشى ان يأتي الرفض منك خاصة وانها لا تستطيع التغيب عن عملها لترافقك، وأنت لا بد لك من مرافق..

كان النقاش حادا بين الأختين فبقدر رغبة ضحى عارضت ليليا ان يكون زوجها هو من يصاحب أختها واقترحت عليه خالها فهو بلاعمل أو خالتها رغم كبرسنها

كان إصرار إبراهيم قاطعا فهو ادرى بالمنطقة الاسبانية ويتقن الحديث بلغة البلد لانه ازداد هناك وعاش مع ابيه بعد موت أمه الاسبانية سنوات، قبل أن يفكر في الدخول الى المغرب حتى يستثمر في وطنه بل وله متعاملون تجار يستطيعون مساعدته..

ترحل ضحى وكلها أمل أنها ستعود والعالم مرآة مضيئة مبهرة أمامها، كانت تتمسك بذراع إبراهيم لا تفارقه دون ان يغيب عنها تلونات اختها، غيرتها، وغضبها الظاهرمن شراسة كانت تقرأها ضحى من احاديث ليليا والتي ختمتها خلف ضحى وهي تقصد سلم الطائرة:

ـ احذري ان تكثري من الطلبات فلولاموافقتي ومال زوجي ما ضربك الحظ برداء، لي اليقين أن الامر لا يتعدى دعاية كما هي دعايات الأدوية التي تباع على النت، احترسي جيدا وانت تغيرين ملابسك، تحققي من خروجه من غرفة الفندق قبل أن تتعرين..

كانت ضحى لا تريد ان تفسد رحلتها أو يعكر مزاجها ما تبدى من أختها،

ما ان استقرت في مكانها وأحست بالطائرة تعلو،و تغادر المطار حتى مدت يدها الى إبراهيم، بسرعة أحست بحنانه تترجمه شفاهه تهتز على باطن يدها..

ـ إبراهيم انا من يلزمني ان اقبل يديك فانا لك مدينة بنور بصري بل بما تبقى من عمري وراحتي النفسية التي اترقبها ويقيني بالله كبير أني سأحققها على يدك..

تميل على كتفه، تشابك يدها بيده ثم تطبع لثمات عليها، ترفع رأسها وتطبع قبلة حارة على خده..

كان يدرك هواجسها، فرحتها،وما يمتزج من مشاعر شتى تتلاعب في اعماقها، كان يجاهد على ان يحسسها بالأمان والثقة التي تفتقدها..يدرك بوعي سعادتها برحلتها لكنها كسعادة طير يرقص من ألم وهو يترقب فرج النجاة..

حين نزلا في المطار الاسباني كان إبراهيم يصف لضحى كل مرئياته بدقة متناهية، كانت تسير الى جانبة ملتصقة به تصر على تكون معه جذلى يغمرها السنا والحبور..

كان إبراهيم قد حجز غرفة بسريرين وأول ما دخلا اليها كلم زوجته ناقلا اليها عبر هاتفه كل الأركان والزوايا، كان يدرك نفس ليليا التي تغلي كمرجل والتي صارت تتحدث كفقيهة في الحلال والحرام وتوصي بالحرص والانتباه..

كان إبراهيم يضع سماعتين في اذنيه حتى يجنب ضحى شكوك اختها والتي لا تتحرج في التصريح بها جارحة بلا اعتبار لنفس تنتظر مجهولا بلهفة وتذبذب لا تبديه بين الشك واليقين..

كانت ضحى تدرك كل حركات إبراهيم، تعرف لماذا يحجب عنها صوت أختها

بسماعات، ولماذا يجنب الهاتف مكان وجودها بحركة تحسها وهو يغيرمكانه حتى لا تراها ليليا عبر شاشة الهاتف وقد تعرت من ثيابها الا من ملابس داخلية شفافة فالقيظ كان يلف الغرفة بحرارة مرتفعة..

بعد سهرة طال ليلها اغتبطت فيها ضحى بعشاء لم تتذوق مثله من قبل وسعدت بما لم تسمعه في حياتها من موسيقى غربية راقصها إبراهيم ببراعة وتوأدة..لا يتوانى في وصف كل ماتراه عينه فتتمثله ضحى وكأنه رؤية عين..

كانت تلتصق به كأنه حبيب به هائمة متيمة، وكان لا يتوانى في شدها اليه حتى انها كانت تحس دبيبا يسري بين نهديها..

لم يعودا الا عند الفجر، ارتمى على سريره وهي تهم بالدخول الى الحمام ثم يتابعها بنظر عند الخروج وهي تتحسس الطريق الى سريرها و قد ظل يتابعها باهتمام خوفا من ان تتعثر او تسقط فيبادر اليها..يلف ذراعيه حول كتفيها الى ان تمدد ت على سريرها..

كانت شبه عارية كانها صنم للفتنة،نافرة النهدين، مفتولة الذراعين والساقين، كان مبهورا بما وهبها الخالق من قد مياس وجمال فاق الحد..

ـ إبراهيم هل نمت ؟

يرد عليها بكلمات شبه مهموسة فقد غاب له عقل في جمال جسدها

شتان بينها وبين أختها:

ـ لا لم انم، هل تريدين شيئا

بجرأة كبيرة تقول:

ـ أريدك جنبي اتحسس ذاتك إذا ما قُدر لي أن افتح عيوني تعرفت عليك بنظرة قبل أن ألمسك..

كان عاريا تماما، الا من تبان قصير، ارتدى سروال منامته واندس الى جانبها

لا احد منهما قد اصطبر / معا غلا فيهما دم الرغبة فتعانقا ثم صار كل منهما يلعق جسد الآخر..

يصحوان على رنين الهاتف، الساعة السابعة صباحا..

بسرعة يقفز من السرير ويتوجه نحو سريره فقد ادرك صاحبة الرنين

تبتسم ضحى وتقول بصوت ساخر تغلب عليه رغبة النوم:

ـ بادرها، لاريب انها على نار..

يرد إبراهيم ويحرك هاتفه في كل اتجاه ملتقطا مشهدا بانوراميا للغرفة فتتأكد ليليا ان أختها تنام في سرير وحدها..

كان إبراهيم لا يرد الا بنعم، حاضر، كل وصاياك تم تنفيذها حرفيا..

ثم يقطع المكالمة ويعود الى نومه قرب ضحى..

كانت الساعة الخامسة مساء حين نزل ابراهم وضحى الى مطعم الفندق يطلبان غذاء..

كان يتلبس إبراهيم نوع من الوجوم اثار ضحى باحساس من صمته :

ما بك حبيبي ؟ افتقد إحساس بسماتك التي تعودتها منك وانت تتكلم ؟

يتنهد ويرد:

ـ ما حدث بيننا، بصراحة نسينا نفسينا وبالغنا الى أبعد الحدود !!..

تتنهد وعليه ترد:

ومن بعد هل انت نادم أم خائف ؟

ـ أبدا،لا اندم عن عشق تملكني وأعيش ناره أما الخوف فأخشى حملك..

تبتسم، تشده من ذراعه وتضع رأسها على كتفه:

لا عليك، انت بعيد عن الشبهات وأتحمل مسؤولية ما قد يقع

انا وهبتك نفسي عن رضا وطواعية وانت اسعدت ليلتي بما ارقني من زمان..

يقبل يدها:

ـ أحقا كنت تتمنينني ؟

ـ أكثر مما تتصور.. كانت ليليا تتعمد ان تحرك دواخلي، تقصد اثارتك حتى تبادلها عواطفها في حضوري، لماذا؟ لا ادري.. كنت اسمع صيحاتها من غرفة نومي وكانها تتقصد المبالغة في رغباتها..

يتنهد وهو يدرك نفس ما ادركته ضحى، كانت ليليا توظف صوتها لغاية لم تكن تغيب عنه، فيتوهمه  غرور بنات أو حظوة تباهي بها أختها..

دخلت ضحى المستشفى حيث ظلت يومين قبل العملية وثلاثة أيام بعدها، احس إبراهيم بافتقادها، عصره غيابها، ايقن أنه يحبها وانه مهما كانت النتائج فلن يستطيع أن يتخلى عنها..

خلال خمسة أيام كانت ليليا تكلمه أكثر من ثلاث مرات في اليوم،تكيل له الاتهامات وترميه بشكوكها:

ـ أنا لا انام، كان يلزم ان يصاحبها غيرك، هل تريد الصراحة أتمنى ان يتضاعف عماها، أن احرقها بنار فيتشوه وجهها أكثر !!..

كان إبراهيم يقطع عنهاالهاتف فتعيد النداء وهي تصيح بهستيرية تتفوه بكلمات نابية ماسمعها منها ابدا ولا عرف اين كانت تختزن كل ذلك الكره وفاحش الكلام..

لم يخبرها بيوم خروج ضحى بالضبط حتى لا تفرض عليه العودة في نفس اليوم

ارتفعت حرارة المقال فانتقلت من لعن اختها الى تطاول على لعن زوجها بعبارات نابية، وكان جنونا قد أصابها..

ـ عشنا وشفيان العميان يسترجعون البصر بعد عشيرن عاما من العمى

لا اصدق هذا.".للا مليحة وزادتها الترويحة "

 وفي لحظة فقد فيها إبراهيم قدرته على السيطرة لما يسمع قال لها:

ـ ليليا !!.. أنت طالق !!..

انخرست بعد صيحة ظنها قد أخرجت معها روحها ثم كلم شريكه واخبره انه سيرسل اليه توكيلا لاتمام إجراءات الطلاق..

طلب إبراهيم من الطبيب ان يفاجئ ضحى دون اخبارها بقدومه

أول ما وقف على عتبة باب غرفتها في المستشفى نطت من مكانها وارتمت بين ذراعيه وكأنها كانت تراه من قبل..

في عناق حار بكت كأنها لم تبك من قبل والطبيب يصيح بها لتخفف من انفعالاتها، شرعت تقبل إبراهيم وما لبثت ان سجدت تحت قدميه فاعترض سلوكها،انبها على فعلها وانه لم يفعل أكثر مما كان واجبا وهو قادر عليه..

وهما يتناولان العشاء في احد المطاعم قال لها:

ضحى لو طلبت منك عدم الرجوع الى الوطن والسكن هنا هل توافقين؟

تطلعت اليه بنظرة متفحصة واندهاش:

لماذا ؟ ومع من؟

ـ معي نتزوج ونعيش هنا

تتنهد بعمق وكأنها لا تصدق ما تسمع:

ـ اخبريني أولا هل توافقين ؟

ـ حبيبي أنا طوع يديك فبعد أن رأيت الدنيا استطيع ان اسقط في جهنم بعيون متفتحة من أجلك، كل ما تقرره أنفذه بعيون مفتوحة ونفس راضية..

حين اخبرها بطلاق اختها بكت:

ـ ستلعنني مابقي فيها رمق من حياة، الآن أخبرك بما لم يكن بعلم أحد:

طيلة فترة المراهقة وهي تستغل عماي،تمارس علي شذوذا وتهددني بالموت ان نبست بكلمة، كانت زوجة ابي تشاركها شذوذها بل هي من علمتها ورغَّبتها في ذلك، كانتا تمارسان بصوت مفضوح في حضوري، وبمجرد ما كنت تخرج الى متجرك تأتي اليها زوجة ابي ويشرعان في ممارسة شذوذهما ويعبثان بي معا.. ليليا كانت تريد مالك لاتريدك انت، تقودها زوجة ابي وعليك تمثل العاشقة المتيمة..

بسمة استهزاء تتربع على وجهه:

تناقضات كثيرة كنت أحسها والاحظ بعضها خصوصا حين كانت زوجة ابيك تكون في ضيافتنا، لكن ان يصل الامر الى سحاق فهذا مالم أكن اتوقعه..

لم تستطع ضحى أن تحقق لابراهيم ماعجزت عنه اختها، هي نفسها لم تكن غير ارض عقيم ورغم ذلك لم يتغير إبراهيم أو يفتر له حب في نفسه لضحى يتقد.. ظل يوهمها أن العقم منه آت..

تنهض ضحى ذات صباح لتفاجأ بموت حبيب روحها بسكتة قلبية أبعدته عنها بعد ست سنوات من زواج عاشت فيها أميرة في وطن غير وطنها وقد استطاعت ان تتكيف مع أوضاع البلد الجديد وفيه تتابع تجارة إبراهيم.وعلى ذكراه تعيش.

كم من يد امتدت لها برغبة لكنها كانت ترفض وتمتنع عن أي حديث يحاول رجل ان يشاركها حياتها او تقتسم معه حياته الى أن استطاع أن يقنعها مخرج سينيمائي

بتشخيص قصتها في شريط مطول اقترح عليها عوانه:

"عاد النور ومني ضاع نور"

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

وَقَفَتْ تُحَدِّقُ ذاتَ أمْسيَةٍ

لها عَبَقُ الخريفْ

*

تَتَصفّحُ السَنَواتِ هارِبةً

في قلبِ مِرآةٍ لِذاكرةٍ بَعيدهْ

*

وَكَلونِ أوراقِ الخريفِ

تَلوَّنَ القِدّاحُ بالحُزْنِ الشَفيفْ

*

وَفُؤادُها المكلومُ غَنّى

للبراعمِ بعدما شاختْ نَشيدَهْ

*

مَسَحَتْ عَنِ المِرآةِ آثاراً

لِأقدامِ السنينْ

*

وَكَأنّها تمحو ضباباً عن جبينِ اللوحةِ الأولى

كما يَجْلو ضياءُ الدهْشةِ الكُبرى

رَذاذَ الشَكِّ عن وَجْهِ اليَقينْ

*

وَ عَلى سَنامِ الريحِ هوْدَجُها

تَخَضّبَ باللظى شوقاً وَحِنّاءِ الحَنينْ

*

وَمَضى بها يَعْدو الى أبْهى بَواكيرِ الصِبا

وَصدى القُدامى الطيّبينْ

*

تَسْترْجِعُ الأسْماءَ جاهِدَةً فَيوقِفُها

قِطارُ العُمْرِ في أولى مَحَطّاتِ السَفَرْ

*

وَتَخافُ من غَبَشِ المَرايا

إذُ يُكدِّرِ بُرْهَةً صَفْوَ البَصيرةِ والبَصَرْ

حَيْرى تُفتّشُ عن رُسومِ العابرينْ

بأوائلِ المشوارِ صمْتاً في سَرابِ الذاكِرهْ

*

قَسَماتُهُمْ خَجْلى كَنَبْضِ قلوبِهمْ

أمّا الخُطى فَخَجولةٌ كَطِباعِهمْ أو عاثِرَهْ

*

وَلَهم عُيوبٌ أو خَطايا رُبَّما

غَطّتْ على ما في النَوايا والسَليقَةِ من دُرَرْ

*

فَلْتَصْقُلي المرآة ثانيةً فقد

يُجْدي التأنّي في التبصُّرِ والحَذرْ

*

وَتَكادُ تسألُ عن مَزايا السائرينَ

على يَسارِ المُنْحَنى دونَ بَريقْ

*

مُتَفَيّئينَ ظِلالَ سِدْرَتِها العتيقةِ

قُرْبَ ناديها العَريقْ

*

مُتَأمّلينَ بَهاءَ طَلَّتَها بِكامِلِ سُنْدُسِها

كَفراشَةٍ تهوى الرَحيقْ

*

هي لا تَعي شَغَفِ البداياتِ البريئةِ

للهَوامِشِ عندَ مُنْعَطَفِ الطَريقْ

*

فَرَصيدُهمْ زَوّادَةٌ مَلْأى بِحِسٍّ مُرْهَفٍ

وَهَوىً بِدائِيٍّ صَموتْ

*

لو أعْلنوهُ للندى حتى تَفَشّى سِرّهُ

من قلبِ حامِلِهِ يَموتْ

*

طَبْعُ الهوى الريفيِّ ياريحانتي شَرِسٌ

إذا مَسَّ البواطِنَ والشِغافْ

*

تَتَصدّعُ الأعماقُ بلّوراً

وتشتعلُ الجوانحُ والضِفافْ

*

بِنَبيذِ موسيقى الجوى

وَغرامِ أنغامِ القوافي والأغاني والجمالْ

*

فَهُناكَ تَمْتَلأ الخوابي والدِنانْ

بِسُلافَةِ العُشّاقِ صافيَةً

وتمتلأ السِلالْ

*

بالمَنِّ والسلْوى رُؤىً

وَثِمارِ أنهارِ الحقيقةِ والخَيالْ

*

هِيَ لم تَجدْ في لُجّةِ المِرْآةِ إلا

صورةً لِملامحِ الوَلَدِ الخَجولْ

*

وَبِلهْفَةِ العرّافَةِ السَكرى بِصَهباءِ الفُضولْ

قَرأتْ على جُلّاسِها

فِنْجانَه المقلوبَ رائِيَةً بِهِ

قَلَمَ المراثي خلفَ قافلةِ الفُلولْ

*

وَتَظلُّ تنبِشُ في رُؤى فنجانِه حَدّ الذهولْ

*

عن سِرِّ ألحانِ المُغنّي جامحاً

بِخيالِهِ المسكونِ بالفوضى وآلاف الخيولْ

*

عَبَثاً تُطيلينَ الوقوفَ أميرتي

مابينَ أطلالِ المُهاجِرِ والطُلولْ

*

قدْ قيلَ لي هَرِمتْ غصونُ السِدْرَةِ الأولى

وأدرَكَها الذُبولْ

*

فشرعْتُ أسقيها بدمعِ قصائدي

فَلَرُبّما أحمي خريفَ العُمرِ

من شَبَحِ الأفولْ

***

د. مصطفى علي

1- ها أنذا..

سنةٌ قبل الميلادِ

مجزّأٌ في جسدينِ مُتْعبينِ

سنةٌ..

قبلَ تفتّح اللغة في دمي

وانبعاث الكلامِ

ها أنذا/ قبل الصراخِ

مجرّدُ احتمالٍ...أو هوامٍ.

*

2- ها أنذا..

في التاسعهْ

ورقةٌ رابحهْ

في يد المدرّس والعائلهْ

وبائع البالوناتِ

وصاحب الحمارِ

لكنّني كثير الأسئلهْ.

*

3- ها أنذا..

في عاميَ العشرينِ

في ذراعي شجرٌ

وفي عروقي شجرٌ

ودموعي شجرٌ

يُنبتُ الحزنَ

ويُعطي لبنًا مرّاً

كأحزان اليتامى

وكموت الفقراء

..ها أنذا

عين واسعةٌ

تَرى ما لا يُرى.

*

4-ها أنذا..

غريبٌ في جسدي

أهزّ يدي

فتهرب منها الأشياءُ

والحلمُ بعيد... أبعدُ ممّا ضننتُ

أو لعلّني

في غفلة منّي

ربطني ضلّي إلى سنديانة هرمةٍ.

..نثرتُ قصائدي ودلفتُ إلى سريري.

حين أطفأت عاميَ الثلاثين

كانت تحتجزني رغبةٌ في البكاءِ.

*

5- ها أنذا...

سنابكُ عامي الأربعين مهترئة

أنظر إلى الأمام

في مرآة معلّقة في الجدار الخلفي

أقطع نصف المسافة بين الحلم والواقع

وأقفُ

تأقلمتُ مع السنديانة

ولم تكن وهما

أُحضرُ كلّ صباح قهوتين

واحدة لها وواحدة لي

وفي المساء. ..نلعب الشطرنج لتهزمني

صرت أكثر حيادا

وأكثر حكمة من ألوان السماء.

*

6- هاأنذا...

جاوزتُ عمر الأنبياءِ

مِلْتُ قليلا

لكنّ عمر الكلاب ...

صرتُ لا أهزّ يدي

ولا أقيس المسافة بيني وبيني

ولا حتّى بيني وبين السنديانة

التي صارت تحنو عليّ

تُطعمني من ثمارها:

حجارةَ غرانيتٍ

ملوّنةً

ومكعّباتِ بلاستيكٍ

وقطعَ بلّور حادّةٍ

ومساميرَ صدئة

وخوازيقَ لها رائحة الكبريتِ.

...

هدوءًا...حتى لا يُنكأ صمتي

...وداعاً أيتها الومضة الأولى.

*

7- ها أنذا...

أُعدّ لنهاية هادئة مع "صديقتي" السنديانة

على عتبة الاندثار

أهتمّ بمعدّل الأعمار

وأعراض الشيخوخة

شجرةٌ تتيبّسُ

وتحاول تقليد ثمار السنديانة الهرمة ..

حجارةُ غرانيت

ومكعبّاتٌ

ومساميرٌ

وخوازيقٌ.. نتئةٌ

ها أنذا / الأزهار مشغولة بتويجاتها

والطيور بفضاءاتها

والمسالك بعابريها

وأنا - تقريبا - خارج أبعاد المكان

أكاد أفرغ من زمني

جفّ النهرُ /

ولم تبق سوى الحجارة.

لي الآن متّسعٌ من الوقتِ للنسيانِ…

*

8- ها أنذا

اكتملتِ الدّورةُ

لكنّ المعرفة تظل دائما منقوصةً

هاهي اللغة تخرج منّي فارغةً.. مهزومةً

والحركة

تسعل مسلولةً

وتُكَنْكِنُ.

هاهي الأسئلة الكبرى

- لا أدري متى غادرتني -

تُطلّ من ثقب في الذاكرة

منفوشةَ الشعر

مثقوبةَ الشفاهِ

عاريةَ العانةِ

لكنها تضحك .. دمًا.

السنديانة الهرمة هي السنديانة

تلعب الشطرنج لتهزمني

وأحيانا تطعمني حجارةً.

أحاول أن أدفع عني طفلَ الذاكرة

أجعله ينتبه إلى ظلّه مني

- لن يلدغ الطفل من حزن مرّتين -

لكنّني

أتيبّس

أَ..تَ.. يَ.. بَّ.. سُ.

*

9- أغمضتِ السنديانةُ عينيّ

وألبستني لحاءها

لقد صرنا ندّين

في غابة مكرّرة.

*

10- أعتذرُ لصبايَ

***

محمد نجيب بوجناح - تونس

 

لرحيلك أخي أقفُ باكياً

مرثية لعلها تجبرُ الخاطر..

الفقيد محمد رعري.ز الموت شلال لا يهدأ

***

باردٌ كنُدْفَةِ ثَلْجٍ

خَلُصَ الحوارُ، وانْتَهتِ الحَرَكةُ…

ما عادتكَ ملقىً على ظهرِ النهايَةِ

ما عادتكَ الامتثالَ لصخبِ الفاجعَةِ

تعدُّ من حملوكَ لمنصَّةِ الوداعِ

تعدُّ نُجيماتٍ هلَّت عليكَ منَ السَّماء

لمْ نكنْ كثرٌ …

أنا منْ حَمَلكَ لِعَيْنِ تعشَقُكَ

*

شَلاَّلَ دمْعٍ …

أنا منْ حملكَ لقلبٍ ينبضُ لأجلكَ

ضَيَّاءَ شَمْعٍ…

وحدي أبتسمُ لإبتسامتكَ

وَحْدِي حِينَ قبَّلتُ جَبِينِكَ أهْدَيْتنِي

بسخاءٍ كتابَ حياتكَ…

كِتَابَ دمُوعكَ..

كتابَ أصل الكونِ…

وَحْدِي حِينَ تقَرْفَصتُ

سمعتكَ تُنادِينِي بكلِّ الأسماءِ..

كنتَ تلعنُ الصَّمتَ في صمتهِ

بينما أبي يبحثُ في صندوقٍ

عن آخرِ الرسالةِ

كانتْ يداكَ ممدُودَة لطُيورِ الجنَّة

كنتَ تَعُدُّ قطَرَاتَ المَطَرِ

وهْجُكَ قنْدِيلاً لعَتْمَةِ الطّريقِ

تمشي منتشياً كطفلٍ يحملُ لأمِّهِ خبرَ سعيداً… رغمَ خجلكَ رأيتك َترقصُ

وتدندنُ أخرَ أغنياتكَ…

. الكأسُ في يديكَ عسلٌ…

وعيناك تسأل عنْ فَقْدٍ ثمينٍ

مزهو بالبياضِ لمَّا وتاكَ …

الارضُ لك ….

السّماء لك…

قل لي: منْ علَّمكَ الخطْوَ وسطَ العذارى ؟

منْ أطلعكَ على طقوسِ الأرواحِ النَّبِيِّةِ ؟

منْ وشَّحَ صدْرَكَ بالرَّيحَانِ

ومدَّكَ عِصْمَةَ المَيَالِ…

عند رأسك أتلو عشق الوطن

وآلافُ الملائكة كورالات لدهشةِ الموتِ

جنَّة..

جنَّة..

أرشُّ جَنباتكَ بنبيذِ الشَّهواتِ ….

كُنتُ والأذْكَار…

كُنتُ أقلبُ دِيوانَ الأسْفارِ…

أنْهشُ الترابَ والأحْجارَ…

مُلقىً على ظهرِ النهايةِ

لا تُجادلْ …

كنتَ تُسافرْ …

كنتَ مُغادرْ…

لن تعودَ لكِنَّنا قادمُون….

***

عبد اللطيف رعري

 

في قلبي

ثلاثة اغصان

غصن للريح

وغصن لنضارة

الكرستال

وغصن للحزن

وفي يدي اليسرى

ثلاث يمامات

يمامة للحب

ويمامة للوجد

ويمامة للعذاب

وفي يدي اليمنى

ثلاثة عنادل

عندليب للفرح

وعندليب للبهاء

واخر للاستقامة

فذات فجر

هطل المطر

على قلبي

فانبت بنفسجا

عقيقيا ونرجسا

كرستاليا واقحوانا

لازورديا  وشجرا

وعند الصباح

هطل على يدي

اليمنى  فانبتت

شجاعة و صبرا

كرستاليا ناضجا

وعند المساء

هطل على

يدي اليسرى

فانبتت  يقينا ثابتا

حكمة شهلاء

نخيلا  واشجار تين

وزيتون وبرتقال .

***

سالم الياس مدالو

 

اعتادت

أن تتوارى

كلما أدركت ثمّة أمر مريب

ولأن فضاء أنفاسها

صار مريبا

اتخذت

التواري منفى لها

*

أحببتهم

حتى نسيتني

أبويّ وإخوتي

هذا ما تنهدت به

فتاة

مسقط رأسها

حرب مستعرة

*

إياك

وجار السوء

وإياك

وصديق السوء

ثم إياك

وجليس السوء

حتى أثقلت أنفاسها

وصار البحث

عن فضاء

يتسع لشهقاتها

هوية الأحوال المنفية

***

ابتسام زكي

 

جلست ياسمين صامتة لا تنبس ببنت شفة، وقد تحلق حولها ثلة من الشباب المشرئب لرىّ نزواته من غدير جمالها وأنوثتها الدافق، يمطرونها بالنظر الشهوان، ويغثونها بفُحش اللسان، وبذاءُ المنطق، تلك الجموع التي تترى إليها كل صباح، ممنية نفسها بأن يحالفها التوفيق لنيل بغيتها التي سعت من أجل تحقيقها شهوراً خلت، فتقر العيون، وتهدأ الجوانح، ترى متى تدرِك هذه الحسناء التي استحوذت على الألباب، وملكت القلوب، شفقة فترتفع حجب أسماعها، وينكشف غطاء قلبها، فتُنفِح جُلاسها بوجهها المتهلل، وتُكرم عوادها بجزيل الصلات، التي يصغر بجانبها صادق الحمد، وعاطر الثناء، متى يفتر البشر على الشفاه، وتجرى التهانئ على الألسنة، لهتك عزة قعساء، أوصدت الأبواب أمام نواطير الشباب، ولم ترحم حمم شهوته التي تلهب جسده المسعور، تلك الحمم التي لا تسمعها آذان، أو ترصدها أجهزة، حتى متى تسدل هذه المهفهفة الدعجاء الستور في وجوه الراغبين؟ حتى متى تبقى صامدة أمام عرك الشدائد، وبريق المال؟ لقد ألفت ياسمين بائعة الشاي البارعة الشكل، اللطيفة التكوين، المطالب الفجة، والأصوات الناشزة، التي تبتغي أمراً كؤود المطلب، وعر المرتقى، لأنها من قبيلة النساء اللائي لا يدركنه عار، أوتلحقهن خزاية.

كانت ياسمين أنموذجاً في الصون والعفاف، وعلى النقيض من بعض رصيفاتها من بائعات الشاي، لقد احترفت تلك المهنة، التي تعد في الغالب غطاء في "أرض النيلين" لأقدم حرفة عرفها التاريخ، حرفة البغاء بعد أن ضاقت بها السبل، وانتهت الآمال، بموت والدها الماركسي القديم، والدها القسيم الوسيم، الذي لم يترك لها حرضاً ولا برضا، هي وإخوتها الصغار سوى وضاءة الحسن، وجمال المُحيا، لقد كان والدها الذى ينحدر من عائلة سنية الحسب، عريضة الجاه، قبل أن تصيبها شآبيب من الدواهي المواحق، يعمل فى الهيئة العامة للبريد والبرق، وتدرج في السلك الوظيفي، حتى اعتلى سقف الوظائف في تلك المؤسسة العريقة، التي أذلتها الطائفية، وامتهنت كرامتها الإنقاذ، التي جادت عليه بإحالته للصالح العام، فتلقى والدها الأمر بأريحية، وسلّم عُهدتهُ في وداعة، وأقبل على الحُميّا يهش لكأسها، ويرتضع أفاويقه، وقد استكان للعبرة، وأخلد للشجون، حتى أمسى مُتخلّعاً في الشراب، يقضى جُلّ وقته مُناغياً للكؤوس، مُفاغماً للأكواب، صار الزين جذوة الفكر المضطرم، قيثارة المرح، و إله الدعابة، في الزمن الجميل شاحب الوجه، كئيب المحيا، فقد فدحته صروف الدهر، التي تذهب من كل شيء بشاشته، وجردته من وظيفته التي يقتات منها هو وعائلته، التي تهالكت على جمع شتاتها فيما بعد ابنته ياسمين، دون أدنى مسوغ لذلك سوى أنه كان في شرخ شبابه، ومعية نشاطه، يشايع أهل اليسار، عبّاد اللذة، ورواد المنكر، وخصوم الإسلاميين الألداء.

ظلّ الزين صريعاً للكأس، وذهب به الشراب كل مذهب، وبدّد الملاليم التي يتقاضها من معاشه في تحصيلها، كان لا يأبه للوضع المزري الذي انتاب أسرته، بعد أن سامته الإنقاذ بخسف، بل مناط آماله، وغاية أمانيه العجاف، ألا ينفصم حبل الود بينه وبين معبودته المُدام، الصهباء التي لا يضاهيها أحد عنده في شرف الجوهر، وحسن الرونق، وشدة الطلاوة، وبعد أن تنقضى ملاليمه في وصال عشيقته، التي خلبت لُبّه، وسلبت فؤاده، يتهيأ للضرب، ويتحفز للعراك، ضد زوجته الحسناء أسمهان،  التي كانت توبخه على كل خطأ، وتحاسبه على كل جريرة، زوجته التي تركها للعمل الدائب، والعناء المرهق، زوجته التي لا تهدأ حركتها، ولا تجف دمعتها، ولا تسكن عبرتها، زوجته التي عاشت معه مدة تربو على عقدين من الزمان، لم توغر فيها صدره، أو تفشي سره، أوتذيع غفلاته، ها هو الآن يجازيها عن دماثة خُلقها، وطيب عُشرتها، بالضرب والتنكيل، لأنها تمنعه من بيع ما تبقى من أثاث البيت، وبعد أن يظفر بما يرومه، يحث الخطى إلى محبوبته السُّلاف، تاركاً خلفه زوجته المكلومة، محطمة العظم، مهشمة الخاطر، يهرع إلى ابنة الْحانِ والكرم، التي ظميء إلى لقائها، تاركاً بيته يمور بالجوى، ويستعر بالعذاب، ويظل لائذاً ببيوت الراح، عائذاً بحصنها، الذي نصب فيه الشيطان رايته، من العودة إلى معقل الذل، وموطن الهوان، ففي تلك المواخير، لا يعكر أحد صفوه، أويوخزه بسنا الوعظ، وإثل الإرشاد، هنا خمر لا تخلق ديباجتها، أو يخبو بريقها، مكث الزين في مواخير الفساد، يضاجع رذائل البغاء، وربات الخمر، نظير أن يبقى بين الكؤوس والأقداح، حتى زوت نُضرته، ودقّ عظمه، وانهار جُرف جماله، وبات جيفة مسجية على قارعة الطريق، تنتظر أن تعتلقها أوهاق المنيَّة، ويحلّ بها أصدق المواعيد، ظلّت ياسمين ووالدتها يعودان الزين في أحد المستشفيات المتهالكة،   حتى فاضت روحه، وطوته الغبراء، بكته والدة ياسمين بكاءً مُراً، يمزق نياط القلوب، ويذيب شغاف الأفئدة، وبدا على مُحيا ياسمين الآسر، آثار الأسى، ولوعة الحرمان، لقد قرعهم الدهر بنوائبه، ووطأهم بأظلافه، وأطفأ المصباح الذي كانوا يرتجون أن يعود إلى سابق عهده، يدفع عنهم بيد، ويناضل عنهم بسهم، ولكنه مضى وتركهم في صحراء لا تطمئن فيها نفس، ولا تقر بها قدم، وقوافل الطامعين من حولهم لا تحصيها عين، ولا يحصرها بنان، كانت ياسمين ووالدتها كثيراً ما باتتا على الطوى، حتى يجد إخوتها الصغار ما يكفيهم من طعام، حتى احترفت ياسمين تلك الحرفة، التي قادتها في نهاية المطاف بعد صراع طويل مع سباع المدن، وضواري الأنظمة، إلى شقة فاخرة في أحد الأماكن الراقية، في عاصمتنا الدميمة، بعد أن خلع عليها زوجها المتصابي شعار يمجه بني علمان في شمال الوادي، كان ترتيبها الرابع، ولكنها كانت الأولى في الحسن والجمال الساحر عنده.

***

د. الطيب النقر

 

لم تكد تجلس

حتى غادرتني الكلمات

كالعصافير الى حيث ارتباكي

وزها همس الهواء

وتهجد

وتندى ضوء عينيّ

تخطاني اندهاشي

فأصيب الأفق بالرعشة

وامتد الفضاء

حقل ورد ونميمة

فاشتعلت

كالكمنجات بموسيقى جديدة

بين قلبٍ

شفتاه الفجر

والنبض المندى بلهاث الزعفران

وحكايا

فاض طرف المشتهى بين يديها

بلَّ صمتًا

غبطة الروح ونجوى القبل

وحروف النص في هذي القصيدة

***

طارق الحلفي

 

في نصوص اليوم