قضايا

إميلى سيلوف: كان التطفل أمرًا جديًا في الحكايات العربية في العصور الوسطى

تأليف: إميلى سيلوف

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان الطفيلى في العصور الوسطى أكثر من مجرد شخصية مرحة وخفيفة الظل؛ فقد لعب دورًا معقدًا في حكايات الأخلاق العربية.

كان الجهضمي، أحد علماء العراق في القرن التاسع، يُدعى دائمًا إلى أفضل الولائم. كان جاره يعرف ذلك، وكان يرتدي أفضل ثيابه ويتبعه على مسافة قريبة بما يكفي بحيث يظن المضيف أنهما كانا معًا، فيسمح لهما البواب بالدخول. وهكذا يقتحم جار الجهضمي أفخم   تجمعات الإمبراطورية العباسية الجبارة، والتي، بالنظر إلى الثروة الثقافية والمادية للمنطقة، ربما كانت من أرقى الولائم على وجه الأرض.

في أحد الأيام، عندما دُعي الجهضمي إلى وليمة أمير البصرة، قرر أن يضع حدًا لانتهازية  جاره، وفي منتصف الوليمة، أمام جميع الضيوف الآخرين، أشار ضمنيًا إلى أن النبي محمد نهى عن التطفل والمطفلين (نظر بارتياب إلى المتطفل) . رد جاره على الفور بقول آخر عن النبي - وهو اقتباس ذو مصدر أكثر موثوقية من الذي ذكره الجهضمي: "طَعامُ الواحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وطَعامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأرْبَعَةَ، طَعامُ الرَّجُلِ يَكْفِي رَجُلَيْنِ، وطَعامُ رَجُلَيْنِ يَكْفِي أرْبَعَةً، وطَعامُ أرْبَعَةٍ يَكْفِي ثَمانِيَةً. " هذا التذكير بأهمية الضيافة أصاب الجهضمي بالخجل؛ وهكذا انتصر المتطفل .

كانت قصص اقتحام الولائم (التطفيل) موضوعًا شائعًا في الأدب العربي في العصور الوسطى، وقد ألهمت هذه القصة بالذات الخطيب البغدادي-  وهو مؤرخ في بغداد في القرن الحادي عشر - لتجميع مجموعة من هذه الحكايات. كانت هذه القصص أكثر من مجرد أشكال ترفيهية خفيفة. كما هو واضح من الحكاية أعلاه، مع الإشارة إلى النبي وقيمة الضيافة، فإن المتطفلين العرب في العصور الوسطى كان يمكن تصنيفهم طبقات؛ سأكشف لك هذه الطبقات هنا، واحدة تلو الأخرى.

الطبقة الأولى هي التى يمثلها  الشخص الذي تعرفه بالفعل: كما هو الحال في موائد حفلات الزواج، يذهب هذا الشخص إلى الحفلة دون دعوة، وعادةً ما يبحث عن الحب أو الطعام، ويترتب على ذلك مفاجآت. لديه حيل في جعبته: يمكنه التظاهر بأنه متعهد تقديم الطعام أو الاندماج مع مجموعة من الضيوف. حدث هذا بشكل رئيسي في بغداد في العصور الوسطى، وتم تقديم القصص المشار إليها بعناية عن تصرفاته الغريبة على أنها حقيقية. ربما نتعلم شيئًا من هذه القصص، على سبيل المثال، حول كيفية التصرف في إحدى الحفلات، لكننا، قبل كل شيء، مستمتعون. هذه هي الطبقة التي جذبتني لأول مرة. كنت طالبًة أبحث عن الضحك، ولم يخيّب كتاب "التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم " للخطيب البغدادي ظني. تظهر النكات والقصائد الذكية جنبًا إلى جنب مع النصائح حول كيفية تحقيق أقصى استفادة من الحفلة الجيدة. (إليك نصيحة هامة: "إذا كان مكانك على الطاولة صغيرًا جدًا، فقل لمن يجلس بجانبك: "معذرة، ربما أزاحمك قليلاً؟" وسيتراجع قليلاً ويقول: "" لا، الحمد لله، لدي مساحة كبيرة، مما يوفر لك مساحة أكبر!')

النبي محمد نفسه سمح للضيوف الجائعين غير المدعوين في مشاركة الوليمة. لذا فإن الحتمية الأخلاقية واضحة.

الطبقة الثانية من المتطفلين هي التعليق على قيمة الضيافة. لن يتصرف المضيف الجيد أبدًا على أنه بخيل ويطرد متطفلًا جائعًا، سواء كان الضيف غير المتوقع معروفًا له أم لا. صحيح أن قيمة الضيافة هذه تتناسب بسهولة أكبر مع "الأيام الخوالي"، عندما كانت الحياة القاسية والبسيطة في الصحراء تتطلب من العرب مساعدة وإطعام بعضهم البعض من أجل البقاء. لقد كان الأمر أقل راحة في مدينة بغداد المتعددة الأديان والأعراق والحافلة بالمحتالين واللصوص. لكن النبي محمد نفسه ساعد الضيوف الجائعين غير المدعوين على الدخول إلى وليمة. لذا فإن الواجب الأخلاقي واضح: فلابد أن يكون المضيف كريماً ومنفتح اليد.

وفي الواقع، فإن الخطيب البغدادي (الذي يعني اسمه 'الواعظ البغدادي') مشهور ليس بجهوده في جمع الحكايات المخالفة للتطفل، بل كعالم في رواية الحديث (أفعال وأقوال النبي محمد). قبل أن يدخل في الأمور السخيفة حقًا في كتابه الخاص بالتطفيل والطفيليين، فإنه يورد روايات من الحديث النبوى يثبت فيها أن النبي نفسه كان صديقًا للضيف غير المدعو. علاوة على ذلك، قبل وصول الإسلام بفترة طويلة، كانت الثقافات في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط تقدر قيمة الضيافة بشكل كبير. يستغل المتطفل المكانة المميزة للضيف في الأدب اليوناني أيضًا؛ فندوة أفلاطون يتم سردها جزئيًا من قبل أحد المتطفلين. تتطور الولائم الأدبية العربية في العصور الوسطى وتتلاعب بالعديد من الموضوعات العزيزة على أسلافها القدماء - وهي غارقة في النبيذ تمامًا مثل الندوة اليونانية.

الطبقة الثالثة تجعل من المتطفلين بمثابة استعارة لمجموعة متنوعة من الأغراض. على سبيل المثال، قد يمثل "المال الجديد": شخص يستخدم بلاغته لينهض من الحضيض ويتحدث عن طريقه إلى أفخم الولائم. أو قد يمثل المتطفل شخصًا تعتبر معتقداته خارجة عن المألوف، وبالتالي قد تستبعدها من تعريفك للعقيدة التقليدية.ولكن، هذا يعني ضمنيًا، من أنت حقًا لتحكم؟ اكتشفت هذه الطبقة مع إدراكي أن إحدى الحكايات في كتاب التطفيل للخطيب البغدادي، والتي تم تقديمها هناك بشكل غير قابل للتصديق كقصة حقيقية، تظهر مرة أخرى كخيال خالص في مجموعة ألف ليلة وليلة.

تحكي الحكايتان عن أحد المتطفلين الذى ظن أن قارب السجن رحلة بحرية ممتعة، فتسلل على متنه بحثًا عن قضاء وقت ممتع، ليجد نفسه مهددًا بالإعدام إلى جانب المجرمين الذين انضم إليهم بحماقة. وفي نسخة الخطيب البغدادي، فإن هؤلاء “المجرمين” هم زنادقة، لكن وجود متطفل بينهم يعني الإشارة إلى أن استبعاد الناس من “الوليمة” هو عمل من أعمال البخل غير المقبول دينيا. في ألف ليلة وليلة، يقوم حلاق فضولي كثير الكلام بدور المتطفل على قارب، فيجد نفسه مقيدًا بمجموعة من قطاع الطرق المدانين. لكنه تمكن من الإفلات من العقاب ووصل أخيرًا إلى بلاط الخليفة. يوضح هذا موضوع "المال الجديد"، حيث أن الحلاق مهنة متواضعة، ولكن مع ادعاءات بالمكانة الرفيعة للطبيب المؤهل. ولذلك فإن الحلاق البليغ يكون في وضع جيد يسمح له أن يشق طريقه إلى المجتمع الراقي، على الأقل وفقًا لمنطق الأدب العربي في العصور الوسطى.

هل تستحق حقًا أن تكون في الجنة، أم أن الله هو أكرم الأكرمين؟

الطبقة الرابعة صوفية: المتطفل صوفي . في القصص، يُنسب للصوفيين ( ربما على سبيل السخرية) معرفة الغيب:

لو طُبخت قدرٌ بمطمورةٍ

أو فى ذرى قصرٍ بأقصى الثغور

*

وكنتَ بالصينِ لوافيتها

يا عالمَ الغيبِ بما فى القدور

وقد سخر منهم بعض منتقدي الصوفيين ووصفوهم بالمستغلين والمحتالين: أي ذلك النوع من الأشخاص الذين قد يقتحمون إحدى الموائد للحصول على وجبة مجانية. ومن ناحية أخرى، يمكن للرجل المقدس أن يتبنى مثل هذا المظهر عن طيب خاطر لأغراضه الصوفية الخاصة. هل الخلط بين الصوفي والمتطفل هو نتيجة عدم أمانة "الصوفي" عندما يتظاهر بأنه على طريق مقدس بحيث تميل أكثر إلى إطعامه الطعام؟ أم أن مذهب المتعة الواضح لديه يخفي روحانية أعمق، ومعرفة بالمجهول، مما يسمح له بعبور الحدود والجدران، والتنبؤ، بشكل مستحيل، بما حلمت به الليلة الماضية لتناول وجبة الإفطار اليوم؟ هذا النوع من المتطفلين  لديه هالة المهرج الطقسي.

لقد أصبحت هذه الطبقة واضحة بالنسبة لي عندما تعمقت في عمل عربي آخر من القرن الحادي عشر، وهو "حكاية أبي القاسم". يروى هذا العمل قصة المتطفل البغدادي المسمى أبو القاسم، الذي يصل دون دعوة إلى وليمة في أصفهان وهو يرتدي ملابسه ويتصرف كرجل دين، لكنه يستمر في شرب الخمر بشكل مفرط، ويرقص، ويذم، ويغازل الذكور والإناث والخدم على حد سواء، قبل أن يستأنف سلوكه التقي ويرتدى ملابس رجل الدين في استراحة اليوم التالي. إن القراءة السطحية لهذه الشخصية من شأنها أن ترسمه على أنه منافق أو محتال بسيط، ومظهره المقدس ليس سوى تمويه مكشوف. إلا أن القراءة الأعمق قد تعترف به كرجل مقدس وخاطئ في ذات الوقت، لأن المقصود من الحكاية هو إظهار أن الإنسان كعالم مصغر يحتوي على العديد من التناقضات.

وأخيرًا، الجنة نفسها تشبه الوليمة: وأنت – ربما – تكون المتطفل المقتحم، إن تجاوزاتنا الخاطئة على الأرض هي انعكاس لها. ويقال إن الخليفة عمر بن الخطاب، والد زوج النبي، قال إن ولائم الزفاف فيها "رشة من طعام الجنة". في الجنة، تشرب وتأكل، وتتسكع في صحبة جميلة في الحدائق الوارفة.ولكن هل تستحق حقًا أن تكون هناك، أم أن الله هو حقًا أكرم المضيفين؟ لذا فإن الطبقة الخامسة هي مادة الآلهة. هل يمكن أن يكون هذا المتجول الرث الذي يطرق بابك هو الله نفسه الذي يدعوك تحت ستار متسول؟ ومن ثم يجب أن تسمح له بالدخول، إذا كنت ترغب في أن يرد لك الجميل يومًا ما.وهكذا، كما هو الحال مع فليمون وباوسيس - الأسلاف الوثنيين للمضيف المسلم الكريم - فقد يتحول منزلك إلى معبد، فقط إذا فتحت قلبك المسكين لهذين المتشردين، زيوس وهيرميس، الألوهية مقنعة.

***

..............................

المؤلفة: إميلي سيلوف / Emily Selove (دكتوراه 2012، جامعة كاليفورنيا) محاضرة أولى في اللغة العربية وآدابها في العصور الوسطى في جامعة إكستر في المملكة المتحدة. تشمل كتبها مختارات من فن التطفيل في عراق العصور الوسطى (2019)، وبوباي وكيرلي: 120 يومًا في بغداد في العصور الوسطى (2021)، وصورة أبى القاسم البغدادي التميمي (2021).

https://psyche.co/ideas/party-crashing-was-a-serious-business-in-medieval-arabic-tales

الهوامش:

1- التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم ـ تأليف أبى بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادى (392ـ 463هـ / 1002 ـ 1071م )

في المثقف اليوم