أقلام ثقافية

طابوهات مزمنة

ahmad alshekhawiلأنها أكثر غواية، نسلك دروبها دونما اكتراث، موغلين قدر الإمكان في صميم ما ينفي عنا تهمة السطحية والمناوشات الخجولة لحدود الممكن. هي الثقافة كفضاء شمولي ملامسة نكهة براءته لا تتم بغير التعاطي على نحو من المصداقية مع الأحداث الجارية بحكم أن المرء ابن جيله وإن كان هذا لا يعني تخليه عما يؤهله لبناء شخصيته المستقلة تفاديا لأي من ألوان الإنصهار في خصوصيات مجايليه والإنغماس في مستنقعات التقليد. إن ما يعاب على المرء عقوق راهنه وذلك بأن يعيش أسير عقلية ماضوية ضد مواكبة سير عملية تراتبية النواميس وتعاقبها، بينما قد ينزع نحو استشراف الغيب والتكهن بملامحه..

بيد أن السؤال الجوهري حول الثقافة ككل مركب، في شقّها الشعبي عبر أصوات هامشية مزدحمة ومتراكمة في حيز من الهموم كنوع من الممارسات النضالية في مراعاتها تطلعات وطموحات الأغلبيات الساحقة، وأيضا الشق ّالرسمي منها والمتماهي مع أهداف ومآرب مسطّرة بالإعتماد على توجهات وخلفيات سلطوية والتي ضمانا لمصالحها النخبوية الضيقة تلغي البعد الإنساني ويهيمن على أولوياتها تلميع صورة الدولة وإبرازها في حلة شمعية ناصعة وهذه لعبة حقيرة تنم عن إستراتيجية مفخخة بالطابوهات المزمنة والإغراقات في التعتيم على كل ما من شأنه صب النار في زيت فتيل صيرورة التطورات والتغيرات لفضح المستور واقتحام كواليس المسكوت عنه .. السؤال الجوهري والوجودي كذلك كونه متمخضا عن حمولات فلسفية قادرة على استنطاق موضوعات من قبيل الهوية والمقدس والمغذية لمنظومة القناعات المتجاوزة ،نعوتها هي بالملفات المحرجة المطوقة بكثير من التحفظات التي تخلو من الخضوع لمعايير المنطق..

إلى أي مدى يستطيع الثقافي تخليق السياسي؟ إذ الملاحظ أن كثيرين يتوهمون أنهم بمنأى عن الفعل السياسي حتى في أدق تفاصيل الأمور الحياتية،هذا هو الإعتقاد السائد،لكن الحقيقة عكسه تماما فلا خيط أبدا يفصل بين الحياة والسياسة باعتبارهما وجهان لعملة واحدة، وإغفال هذه المسلمة البديهية أو اختلاف مستويات تحسسها هو من تبعات التفاوت في منسوب الوعي بالتحولات عربيا ودوليا وفق دوال إثنية التأثير والتأثر،و تماشيا مع الحاصل وتفهّما للتعاليم الذاتية والعناصر الفطرية المحرضة على الميل إلى خوض التجربة حسب إملاءات المغامرة و بغضّ النظر عن العواقب المترتبة على ذلك، وكذلك إعفاء الذهن من أنماط القراءات الإستباقية المذيلة بمفهومي التقوقع و الإنفتاح الأعمى في إحالتهما المباشرة على السلبية ..

لقد قسم المهتمون الحقول السياسية إلى أنواع كثيرة بين خاصة وأخرى عامة والذي يستأثر باهتمامنا هنا بطبيعة الحال هو التأكيد على عجز الفعل الثقافي وقصوره عن تأدية وظيفته المتبلورة في إفرازات تغذي الحاجيات اللازمة لتحقيق النضج المنشود ومن ثم ترجمته إلى مكتسبات سياسة، إذا ما استثنينا الجوانب المتعلقة بأدب وفن الملاحم،كون السلط التنفيذية ترفع أيادي التحكم في الطابوهات كمظلة سانحة بتمرير رسائل التخدير، وكأن هذه الحالة الإستثنائية تمثل النقطة الوحيدة المتمحورة حولها مصالح الساسة سدنة القرار والمواطن البسيط العادي ومن سواه من الفاعلين في باقي المجالات المتعددة..

وكخلاصة أقول: ما كانت الثورات العربية لتفشل في اقتناص أهدافها من قبيل الأحلام المشروعة كإنشاد الحرية والعيش الكريم والعدالة الإجتماعية إلخ ... وفوق هذا النضال العملي من أجل أوطان مزدهرة الكلمة فيها لصوت المؤسسات العادلة وفرص اتخاذ القرارات المصيرية للمواطن المؤطر بالوعي التام بخطورة المسؤولية بين الحق والواجب .. قلت ما كانت ( لولا التواطؤ القميء ولو عن غير قصد مع التيارات المروجة لاستفحال الطابو العربي المعطل لأدوار الكائن البشري، و قصدية تلغيم رحاب الدنو منه من خلال إضفاء شرعية القداسة عليه، سعيا إلى إجهاض العمليات الثقافية الممهدة لأي تناغم سوسيو ثقافي وفق ما يهب السياسة مراتب السمو ويحيد بها عن النظرة الدونية الوقف على الهرطقة ومعسول الشعارات) أكرر، ما كانت هذه الثورات لتخطئ أهدافها بعد حمامات الدماء وانقلاب النيات الخبيثة المبيتة إلى تشدق علني ـــ دون خجل أو مراقبة ضميرــــ وتباهي بنشوة اعتلاء مكاسب رفيعة المستوى على أكتاف قوافل الشهداء، وهذا على سبيل المثال لا الحصر..

 

أحمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم