أقلام ثقافية

عيون ميدوزا وخلوة نوارة الرفاعية

محسن الاكرمينالمشهد الأول: حضن ثدي الألم: تعيش نوارة خلوتها الرفاعية حيث دخلت مرحلة البحث الحثيث عن بوابات تلبية حاجياتها النفسية بفيض نيل السعادة والكمال. ذلك النزوع جعلها تفرض على ذاتها قوسين لتحرير نفس الذات من أسر حضن ثدي الألم المستديم. تحرير ممكن أن يلقي بها بتمام التكامل في قبلات فرحة الحياة وسعد المكان، ممكن أن يطوح بها أرضا عبر رعشة كاملة حتى وإن جهلت نهاياتها الختامية. هي تلك الإشارات السميكة التي عمدت نوارة على رسم مساحاتها بالتضاد لتقليص الحضور وتأثيث جوهر لغة الابتعاد.

فيما أسيف فقد تخبلت كبة وجوده بين متناقضات أشعة عيون الحب والكف عن الكلام المباح. تفكير أسيف ينهل من قاموس وثاق الوفاء للعهد الصلب بينه وبين نوارة. لكن روح أسيف الداخلية تعيش فيضا من وحي غيب التخمينات السالبة لروح الحب والوفاء لمعشوقة الحياة. نعم يقول أسيف " من لم يقف على إشارات نوارة الظاهرة، من لم ترشده عباراتها المشكلة بطرز الكلام، فلن يقف على حقيقة ارتقاء أطوار العلاقة بالبناء أو الهدم".

 أشكلت إشارات نوارة المتعددة على الإدراك والاستيعاب لها بالوضوح التام. ضياع مسارات طريق علم الظاهر والصريح أطبق ظل شبحه خنقا على روح أسيف. فيما أعمال باطن قلب نوارة بحقيقة الحب لم ينكشف للعموم، ولا للذات ذات النسوك التصوفي، وحتى أن أسيف أصبح مرسم حبه لا روح له، ولا حياة متقدة بالتجديد.

سفر قلب أسيف في مطالبة المحبوبة بلقاء ود أصابه فصام التسويف على الدوام. وبين صفحات كتب أحاط نفسه بتل منها، وقف عند متم التفكير في نسخة ثقافته الباقية، حيث تأكد أن حب نوارة يتشكل من الهوى النقي المشبع بالعشق، وبين هالة روح نوارة لأنها أهل لذلك الحب الصادق.

توقف التفكير عند أسيف اليوم في كل المآلات الممكنة، في كل أحداث سراب التاريخ الافتراضي القادم. فكان لا بد من أن ينتقل أسيف إلى مستوى اعتناق الأمل والزهد عن الكلام. انتقل إلى الكشف عن كل البوابات التي توصل إلى يقين حياة الحب، ومبايعته بقبلة تطبع حرارة على الشفاه الوحيدة. حينها تذكر تاريخ الفاتنة "ميدوزا " وخطيئة ممارسة الحب المباح وسط بيت العبادة ولعنة الالهة وتحجر الحب في مدينة الأسطورة أثينا، تذكر بداية علاقته بنوارة وطفرة وصال التوحد الذاتي والروحي والمعرفي.

بالباب يد تلتحف خاتما أصبح يسمع عليه بالدق. سماع طرق موسيقي خفيف يكرر إشعار الحضور على لوح الباب الموصدة. تفكير أسيف تحرك بالتخمين عن ضيف السعد القادم إلى بيته. قبل التململ من كرسيه المنخفض أرضا، عمل على إطفاء صفاية سيجارته التي لازالت النار مشتعلة بحواشيها ، عمل بعد قيامه على فتح النوافذ للتهوية من ثاني أكسيد الكاربون، عمل على إطفاء الأنوار الكهربائية وترك نور الإله يلج إلى غرف بيته بالمجان ويحتلها بالحماية.

بدأ دقات الباب تتباعد وتقل امتدادا ، حينها أسرع أسيف إلى الباب وناوله بالفتح على مصراعيه بالتمام، كان آخر دخان السيجارة في صدره قد أحدث له سعالا خفيفا. لكن حين رفع من امتداد رؤية عينه اليمنى المائلة بحكم تموضع رأسه، استفاق من حكم سلطة عيون ميدوزا الحجرية إلى بسمة حبيبة القلب. إنها نوارة ، وبمتم قبلة شوق واحترام على الجبين وقف أسيف صامتا في حرم الجمال . كل ايات الترحاب نالته نورانية نوارة وهي لا ترد على أسيف إلا بصمت ابتسامة رسمت قوس قزح قرمزي بالمنزل. حينها ترى سعد الفرح الكامل مثل حضور قصيدة حب وذكرى ذكريات بعيدة...

المشهد الثاني: صمت الملوك

تحرك أسيف يمنة ويسرة وهو يخلي طريق نوارة من كل ما بعثر بأرض الغرفة، كان أمله في أول خطوة يمنى لنوارة ببيته أن يمد السجاد الأحمر أرضا بتميز الأنوار المشعة. توقف مليا حين تناول قراءة عنوان كتاب نزع منه الغلاف بالمناولة المتكررة " الحياة ومعنى سؤال الوجود ". توقفت نوارة عن السير قدما واقتنصت برؤية خاطفة وبقوة دلالة عنوان الكتاب بحد مشكلة كينونة الوجود ومعنى الحياة بين الذات والآخر. لحد الساعة كانت عيونها تحوم بالطيران مسحا لكل أرجاء البيت.

 حين توقفت وصولا بمرسم أسيف، استأذنته بأن أوحت إليه بكشف الحجاب عن الصورة المغطاة بمنديل أبيض يحمل كل شخبطة متنوعة من ألوان الطيف. كانت إشارات أسيف برفع الرأس وإسداله عموديا تدل على الإيجاب. وبطريقة تحمل صيغة الأبعاد اللاشعورية نزعت نوارة الغطاء بمهل عن اللوحة. حينها وعند الرؤية الكاملة جثت على ركبتيها بمقابلة اللوحة. إنها هي، والله هي ، نوارة التي تعيش ببيت أسيف أسيرة لوحة صماء بلا حركة ولا دوشة حياة. جميلة هي نوارة بدمعة عين وحيدة وابتسامة منكسرة مائلة الى يسرة الصورة. لم يستطع أسيف تفسير الجمع بين الدمعة والابتسامة. لكن إعجاب نوارة بتوأمها الورقي أناط عنه كل تبرير بالتلعثم المتباعد.

بين عالم نوارة المنظم بالتسلسل العقلاني والشد على رهافة الوجدان بالحساسية المفرطة. يعيش بالمقابل في الضفة الموالية أسيف في عالم العبث غير الخاضع لرقابة العقلانية واللاعقل، يعيش في نعش الفراغ الموحل في القدم.

 استطاع أسيف أن يسرق لحظة حب في ظل زمن المادة الذي يحتل أمة نساء حواء على السواء. استطاع برؤية نوارة أن يكبل الذات العبثية بين يديها ويفك عن الحب رماد التقادم . استطاع أن يغير وجه الحضارة في إحاسه الوجودي حين صارت نوارة كدوار شمس مزهرة، وعندها أعلن ثورة التغيير على رواسب الحضارة المنسية من سجل تاريخ حياته المنسي. استطاع قتل الأحزان وممارسة الحب عند طلوع فجر نور كل إصباح.

أضحت حياة أسيف مرتهنة بين الدعوة إلى نسق الترتيب التفكيري والنفور من طوق عبث لخبطة الحياة المميتة. حتى أنه غير ما مرة يسقط في خانة التفكير الطوباوي القادم من العصور الوسطى. حين أحس بقوسي معكوفتين من أيام الابتعاد والتراجع بالجفاء عند نوارة، سقط أسيف في مناولة قراءة أزلية "سيزيف"، حين عشق نوارة اتية من قمة الجبل ونوارة السفح. حينها تاه صعودا إلى الجبل ثم العود نزولا. شقاوة المعاودة ألف فيها أسيف حياة رواية ألف ليلة وليلة بدوامة لا تنتهي . أية عبثية كهذه يا أسيف في حياة برودة الحب؟، أي حب هذا في ظل عذاب الذات وجفاء الآخر؟، أين هي إنسانية الحب الوجودية بنهاية أسطورية "سيزيف"؟.

هي ذي فسحة المناجاة الروحانية بلغة الحوار الكتومة. لكن نوارة اليوم قررت الجلوس على سرير نوم أسيف لأول مرة. فبعد أن اعتدلت جلوسا متوسطة جانب السرير الأيمن من جهة زاويته الكاملة ، ضمت أسيف إلى صدرها وعيونها تمطر دمعا في ظل زمن جفاف السماء. حل البكاء بلسما حينما أصبح الكلام مؤامرة بين الإثنين يسقطهما كرها في خانة التورط في السجال البئيس. لم تكن جلسة أسيف مستوية لكنه آثر أن يمد يده فوق ركبتي نوارة وهو بجلسة قرفصاء منتصفة. عينه تتابع كل دمعة منها ولو همت بالسقوط. بين الدعوة إلى لمً دمعات العين ومداواة القلب الجريح بسعد الحب الممكن، سقط رأس أسيف بين ركبتي نوارة ولم يبرح مكانه ولو بكلمة واحدة غير ترديد لازمة قارة في الذاكرة السفلية " ... لا أناقش حبك ، فهو يقرر في أي يوم يأتي ...وفي أي يوم سيذهب...وهو يحدد وقت الحوار ...وشكل الحوار...".

(يتبع)

 

ذ/ محسن الأكرمين

 

في المثقف اليوم