أقلام ثقافية

من أجمل أساطير الإغريق.. أسطورة القوس

منى زيتونكان كايرون Chiron ˈkīrən ذا طبيعة خاصة، فلم تكن طبيعته بشرية، بل كان قُنطورًا Centaur؛ والقنطور هو كائن خرافي عند الإغريق نصفه العلوي رأس وجذع إنسان، ونصفه السفلي جسم حصان.

عُرف عن القناطير في الميثولوجيا الإغريقية انغماسها في الشهوات، ومعاقرتها الخمور، وعدم عنايتها بتلقي العلم والمعرفة، وأن نشأتها كانت من اتحاد إيكسيون Ixion ونيفيلي Nephele.

لكن كايرون لم يكن كباقي القناطير؛ جسميًا كان يمتاز عنهم بوجود أيدي بشرية تخرج من الجذع. وصفاته الخُلقية كانت مختلفة أيضًا، فقد كان متحضرًا، وديعًا، كريمًا، ومتعلمًا، بل كان أكثر أهل زمانه علمًا، كما أنه نصف إله؛ فقد كان كايرون ابن الإله كرونوس Cronus والحورية فيليرا Philyra.

ووالده كرونوس هو أحد آلهة التيتان الذين -وفقًا لأساطير الإغريق- قد حكموا الأرض قبل آلهة الأولمب الاثنى عشر. وكرونوس لم يكن والد كايرون وحده، بل كان أيضًا والد زيوس Zeus كبير آلهة الأولمب.

عاش كايرون على جبل بيليون Pelion مع زوجته الحورية تشاريكلو  Chariclo، وكان لديه ثلاث بنات وابن واحد.

ولأنه كان أعلم أهل زمانه كان معلمهم، وجميع آلهة وأبطال الأساطير الإغريقية كانوا تلاميذ كايرون، مثل أخيلس Achilles بطل طروادة، الذي مات بالسهم المسموم في وتر قدمه الذي كان نقطة الضعف الوحيدة في جسمه، وكذلك هرقل Heracles ابن كبير الآلهة زيوس كان تلميذه. وعلى يدي هرقل حدثت مآساة كايرون!

بدأت المآساة عندما كان هرقل في زيارة فولس Pholus في كهفه لإتمام بعض أعماله، وعندما كان فولس يفتح زجاجة من الخمر ترحيبًا بهرقل، جذبت الرائحة مجموعة من القناطير الظلامية، التي هاجمتهما في محاولة لانتزاع الخمر. استخدم هرقل سهامًا مسمومة وسددها نحوهم، وقتل العديد منهم، لكن أحد تلك السهام المسمومة أصابت أستاذه كايرون عن طريق الخطأ.

وفقًا للأسطورة؛ ولأن كايرون نصف إله فهو خالد، وليس من المفترض أن يموت، لكن من الممكن أن يتألم، ولأن الألم لم يكن محتملًا، فقد قرر كايرون أن يتنازل عن الخلود في مقابل الحرية، ولكنها ليست حريته هو بل حرية بروميثيوس Prometheus. وأيضًا منح خلوده إلى بروميثيوس.

وقرر كبير آلهة الإغريق زيوس تعويض كايرون، فقام بتحويله إلى مجموعة من النجوم التي تشكل صورته، وتكون ما يُعرف ببرج أو كوكبة (القوس) أو (الرامي) أو (المحارب).

انتقى زيوس لكايرون المجموعة النجمية التي على صورته لتكون التاسعة في دائرة البروج؛ لأن الإنسان يُولد بعد تسعة أشهر، فذلك رمز لتكامل القوة الجسمية مع القوة العقلية والروحية التي يمثلها كايرون؛ جسم الفرس مع نصف الإنسان العلوي برأسه ويديه، فكأن إنسانًا كان سيخرج من جسم الفرس لكنه لم ينفصل عنه، وهو تعبير عن التحام الطبيعتين المادية والعقلية الروحية أقوى مما لو كان على صورة فارس يركب على فرس. وتُمسك يد الإنسان بالنصف العلوي من القنطور قوسًا مُصوَّبًا يحمل سهمًا.

فالقوس هو أحد الأبراج الأربعة المزدوجة mutable، وهي الأبراج التي يقع كل واحد منها آخر كل فصل من فصول السنة الأربعة، وهي الجوزاء والعذراء والقوس والحوت؛ فكل منها عبارة عن شيئين؛ فالجوزاء شخصان يقفان متقابلان في السماء، والحوت سمكتان، والعذراء فتاة تحمل سنبلة، والقوس هو الفارس الفرس!

وقرر زيوس أن يكون مسئولًا بنفسه عن تلك المجموعة النجمية. وزيوس Zeus عند الإغريق هو جوبيتر Jupiter عند الرومان، وهو مردوك عند أهل بابل، وهو ذاته المشتري عند العرب؛ فهو كبير الآلهة الذي يقابله أكبر كواكب السماء وأجملها. أسماه العرب (التبر) أي الذهب السائل لشدة لمعانه، كما أسموه (المشتري) لأنهم قالوا: كأنه اشترى الحُسن لنفسه!

صفات مواليد الكوكبة وعلاقتها بالأسطورة

بناءً على تفاصيل الأسطورة فمن يولد في تلك الفترة الزمنية التي تقابل البرج التاسع في دائرة البروج، وتمتد في الفترة من 22 نوفمبر وحتى 21 ديسمبر له جسم متناسق قوي عضلي البنية، وعقل واعٍ حكيم Sage، لديه مزيج فريد –وربما عجيب- من حب الحياة والانطلاق والسفر، وحب العلم والتثقف؛ ولنقل أنه أكثر الحكماء تهورًا. هو مزيج من الحرية والمحافظة، بقدر تلقائيته لا ينفك عن التفكير! مزيج من الذكاء وبراءة الأطفال الساذجة؛ فذكاؤه لا علاقة له بالخبث، وهو مثل السهم ينطلق في خط مستقيم لا يعرف اللف والدوران، وغالبًا صراحته جارحة. بقدر عفويته وصدقه هو غامض لا يفهمه إلا قلة، وبقدر خجله هو شجاع وجريء فيما يستلزم الشجاعة، وبقدر طيبته يكون متمردًا وعنيدًا، وبقدر هدوئه يغضب كالسهم المنطلق. ويرجع هذا لطبيعته المزدوجة المركبة.

والأبراج المزدوجة –الجوزاء والعذراء والقوس والحوت- على تنوع طباعها الأربعة، تُعرف جميعها بالأبراج المتقلبة، فهي أقدر الأبراج على تقبل التغيرات والتكيف معها، وهي الأقدر على صنع التغير ونقله للآخرين، ولأنه البرج المتقلب الناري –والنار أقوى الطباع الأربعة- فالقوس هو الأكثر تكيفًا، والأقدر على صنع تغييرات إيجابية حوله من بين جميع أبراج دائرة البروج.

والطباع الأربعة التي تعارف عليها القدماء هي: النار والتراب والهواء والماء؛ فالنار هي رمز الشغف والقوة، والتراب هو رمز الثبات والاستقرار، والهواء هو رمز الفكر والتأمل، والماء هو رمز العواطف والأحاسيس. ولأن الإنسان مزيج من روح وعقل وقلب وجسم، فالروح عندهم هي النار، والعقل هو الهواء، والقلب هو الماء، والجسم هو التراب المادي. ولأن هذا البرج ناري الطبع، ويقع في فصل الخريف، والخريف فصل الهواء، فهو مزيج من طبعين، طبع رئيسي وهو النار التي ترمز للروح، وطبع ثانوي وهو الهواء، وهو رمز العقل، وهذا يجعله أعلى الأبراج حدسًا، والفراسة من الفرس!

ويحمل هذا المولود صفات الخيل، والخيل هي خلاصة كل جميل في الخُلق؛ فالخيل معقود بنواصيها الخير، والفرس هو الحصان (الحصن الذي تلوذ به)، وهو الجواد (من الجود والكرم). تقول العرب عندما يشعر أن صاحبه بحاجة إليه أن يسرع به سيبذل أقصى قوته في الإسراع بالجري دون وخز جانبه. مولود القوس لا يتخلى أبدًا عمن يكون بحاجة إليه.

والخيل هي أحنّ المخلوقات؛ في حديث الرحمة في صحيح البخاري خُصّت الفرس بالذكر حين ترفع حافرها عن ولدها. والخيل هي رمز الشجاعة، وهي أيضًا رمز الكرامة وعزة النفس والإباء. وأرقى الحزن هو حزن الخيل؛ تنزوي ولا يصدر عنها صوت.

كما أن (فرس) إذا قُلبت حروفها صارت (سفر)، ولا ننسَ أن كايرون تنازل عن الخلود في مقابل الحرية؛ فالحرية عند هؤلاء المواليد أغلى من الحياة.

ويمكن أن تُقلب (فرس) أيضًا لتكون (رفس). لكن الخيل تبتعد عمن يحاول أن يؤذيها في البداية، ولا تؤذيه إلا إذا لاحقها. وهذا ما يفعله مولود القوس. لا يسعى في إيذاء أحد، لكنه يعرف كيف ينتصر وينتقم ممن أذاه.

بالنسبة لرمزية القوس التي يحملها كايرون في يده، وتشكل جزءًا من كوكبته النجمية، فهو يرمز لأمور عديدة؛ فالقوس هو قوس كيوبيد إله الحب، وبالرغم من أنه مما اشتُهر به زيوس (المشتري) الذي يُصاحبهم حبه للنساء –وهو ما يُعرف عن رجال هذا البرج-، فإن السهام تنطلق منهم لا إليهم، يخافون الحب وليس من السهل أن يصيب سهم قلوبهم؛ وغالبًا يتأخرون في الزواج، والقوس أيضًا هو قيثارة الغناء، كما أن الحصان يطرب للموسيقى، فتجد هؤلاء المواليد يعشقون الموسيقى، والقوس هو قوس الفارس المحارب، ولطالما اقترنت الفروسية بالرماية خاصة عند العرب، والقوس هو قوس الصبر أيضًا؛ فالسهم لا ينطلق إلا بعد أن يُشد القوس إلى آخر مداه، وعندها لا يمكن إيقافه؛ لذا تقول العرب: لم يعد في قوس الصبر منزع. والرمي بالقوس في العربية كناية عن إنفاذ الكتب والرسائل، ومن ثم فهم غالبًا معلمون أو قادة في أعمالهم مثلما كان كايرون؛ فالقوس هو البرج التاسع، برج التعليم.

الرمي بالقوس عمومًا هو تعبير عن إصابة الهدف أيًا كان، فهؤلاء المواليد يعرفون طريقهم صوب النجاح. ولأن هذا المولود يركز على إصابة أهدافه في الحياة فهو يتطلع دومًا إلى الأمام ناظرًا نحو المستقبل، ولا ينظر نحو الخلف ليغرق في أحزان الماضي، فهو أكثر المواليد تفاؤلًا. وهو أيضًا لشدة تركيزه في التصويب على الهدف أمامه لا يكاد ينتبه إلى ما يدور حوله من أشياء غير متعلقة بالهدف؛ ولأجل ذلك فمولود القوس أكثر مولود لا يسلم من ألسنة الناس، خاصة وأن البرج الذي يقابله ويعاكسه في السماء هو البرج الثالث؛ برج التواصل؛ الجوزاء، ويرمز لشخصين متواجهين في السماء، وقديمًا كان العرب يقولون إذا دخل القمر الجوزاء كثر الكلام وكثرت الشائعات!

هذا المولود على كثرة ما أُعطي من مزايا يعاني في حياته كثيرًا؛ فدائمًا ما تصيبه سهام مسمومة من الجانبين–مثلما حدث لكايرون في الأسطورة-، لكنه أقوى من أن تؤثر فيه؛ فهي لا تقتله، لكنه يبقى يتألم. وإن كانت مشاكله تُحل دائمًا بعد عناء؛ لأنه وفقًا للأسطورة أيضًا فإن زيوس (المشتري) يصاحبه بنفسه. ومعروف أن المشتري -لأنه أكبر الكواكب كتلة وأعلاها جاذبية- يتعرض لقذف كوني متواصل من الأجسام السماوية الصغيرة، لكنها لا تؤثر فيه!

رمزية الخلود في الأسطورة تنعكس في أن هؤلاء المواليد ينساهم الزمن بالتعبير العامي؛ فهم دائمًا يبدون أصغر من أعمارهم الحقيقية.

ولأن هذه الكوكبة لا تضم نجومًا كثيرة؛ فمواليدها قليلون للغاية، وهم الأندر إحصائيًا بين كل الأبراج، وذلك على مستوى العالم.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم