أقلام ثقافية

الروح في الجسد والذكريات

إن أهمية اللغة تكمن في قدرتها على جمع شظايا المعاني الرمزية التي تتفجَّر في الحروف والكلمات. وهذه القدرة اللغوية الذاتية لها دلالات فكرية وأشكال اجتماعية. وكُلما اقتربَ الفكرُ الذهني من بُنية المجتمع الواقعية، اقتربت الرموز اللغوية من العلاقات الاجتماعية المُعاشة. أي إن الرموز تأخذ أشكالًا اجتماعية واقعية، وتُصبح على تماس مباشر بحياة الإنسان القائمة على التفاصيل والمشاعر والأحداث اليومية .

وكُل إنسان يعيش حياتَيْن معًا:حياة في جِسمه (الحياة الداخلية)، وحياة في مجتمعه (الحياة الخارجية) . وعليه أن يجد القواسم المشتركة بين هاتَيْن الحياتَيْن، كي يُحافظ على التوازن بين الأشياء، ويحميَ نَفْسَه من فقدان المشاعر والأحاسيس . وهاتان الحياتان تسيران جنبًا إلى جنب، وتتوازيان حِينًا، وتتقاطعان حِينًا آخر . ولا يُمكن السيطرة عليهما إلا بإيجاد فلسفة (التزامن / التعاقب)، وتحديد مدى تغلغلها في النسق الحياتي والفكر الذهني .

والتزامنُ هو حُدوث العلاقات الاجتماعية في نفْس اللحظة، أمَّا التعاقب فهو حدوث العلاقات الاجتماعية علاقةً بعد أُخرى . وهذه المنظومة الفلسفية (التزامن/ التعاقب) في غاية الأهمية، لأنها تكشف طبيعة العلاقات الاجتماعية، وتُميِّز الوجوهَ مِن الأقنعة، وتُفرِّق بين المشاعر الحقيقة والمشاعر المصلحية . والإنسانُ كائن مُحايد، ووجوده سابقٌ على جَوهره. وما يُحدِّد جوهرَ الإنسان هو علاقاته بنفْسه والناس والبيئة والطبيعة. ووَفْق هذه العلاقات، تتحدَّد شخصية الإنسانية، وتتشكَّل منظومته القِيَمِيَّة، وتتكرَّس صفاته وأخلاقه وفلسفته في الحياة، ويتَّضح مساره ومصيره، لأن المسار يَكشف طبيعة المصير، وكُل جوهر له مَظهر . ولا يُمكن فصل المُرتكزات الإنسانية عن سياقها التاريخي، وطبيعتها الاجتماعية، ونظامها اللغوي، وإطارها المشاعري .

وكُلما سيطرَ الإنسانُ على نفْسه بكل تناقضاتها وتشابكاتها، سيطرَ على العناصر المحيطة به، والمنتشرة حَوْله، لأن الذات الإنسانية هي الأساس في عملية ولادة العلاقات الاجتماعية، وتشكُّلِ الوعي الذهني، الذي ينعكس على المنظومة الإنسانية بكل تفاصيلها .

وإذا اعتنى الإنسانُ بنفْسه سيظهر في المِرآة جميلًا، ولكنه إذا اعتنى بالمِرآة ونَسِيَ نَفْسَه، فلن يتغيَّر شيء، لأن الأصل - وليس الصورة - هو أساس القيم المعرفية، والعلاقاتُ الاجتماعية صورة مُنعكسة عن الأصل . ومهما كانت الصورة في المِرآة جميلةً وبرَّاقة، ستظل صورةً، والإنسانُ الواقف أمام المِرآة هو الأصل، والتَّعويل عليه، وهو المصدر (المنبع) . ومنبعُ النهر هو الذي يُحدِّد اتجاه روافده وطبيعتها. ومهما كان البرواز أنيقًا وغاليًا، سيظل إطارًا خشبيًّا أو بلاستيكيًّا بلا رُوح، لأن الروح في الجسد (الأصل) والذكرياتِ  (المصدر) .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

في المثقف اليوم