أقلام ثقافية

في مفهوم النضال

ابو الخير الناصريمن الكلمات التي انحرف بها المنحرفون عن حقيقة معناها في لغتنا الجميلة كلمة "النضال" التي لم تعد عظيمة القدْر رفيعة الشأن كما كانت في أزمنة مضت، وصار مَنْ شاء يُطلقها على مَنْ شاء دونما تدقيق أو تحقيق، حتى لقد صار بعضُ الناس لا يستحيون أن يَصفوا أنفسَهم بالمناضلين وقد عهدنا المناضلين حقا يشتغلون بالعمل وبذل الجهد، لا بالصفة التي تشتهي أنفسهم أن يُحَلَّوْا بها.

لذلك رأيت أن أكتب هذه الكلمات في بيان معنى هذا اللفظ، لعل قارئا كريما يستفيد من هذا البيان فيَدعو لي بِظَهْر الغَيْبِ دُعاءً أنتفع به إن شاء الله عز وجل.

وردَ "النضال" في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بثلاثة معان:

- النِّضالُ: المسابقةُ في الرَّمْي.

- النضالُ: المباراةُ في الشِّعْر ونَحْوِه.

- النضالُ عنِ الشيء: الدفاعُ عنه.

وإلى هذا المعنى الثالث أشار صاحب "لسان العَرَب" في قوله: "ناضلت عنه نضالا: دافعت"، وهو معنى مستنبَط – وَفْقاً لمعجم الدوحة التاريخي – من قول كثيّر عزة مادحا عبدَ الملك بنَ مروان:

فلِلَّه عَيْنا مَنْ رأى مِنْ عِصابَةٍ    تُناضلُ عن أحْساب قَوْمٍ نِضالَها

انطلاقاً من هذا يمكن القول إن النضال هو الدفاعُ عن شيء أو أمر. إنه نوعٌ من النُّصْرة وبذل الجهد لتحقيق مقصد من المقاصد الشريفة، وفي بيت كثيّر إشارةٌ إلى ذلك؛ لأنه تحدث عن جماعة تُناضلُ عن الحَسَب، وهو من مناقب الإنسان ومفاخره.

وقد كانت العرب قديما تُناضل عن أعراضها شِعْرا، وكانت القبيلة تفرح بنبوغ شاعر من أبنائها «لأنه حمايةٌ لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحْسابهم، وتخليدٌ لمآثرهم، وإشادةٌ بذِكْرهم» كما قال ابن رشيق في كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده".

كان الشاعر الجاهلي مناضلا لأنه يدافع بأشعاره عن قبيلته، فيَحْمي عِرْضها، ويُشيد بذكرها في مواجهة غيرها من القبائل، وهو معنى جميل وجليل في السياق التاريخي الذي كانت القبيلة العربية فيه محتاجة إلى مَنْ يَدْفَعُ عنها العار بالشعر كحاجتها إلى من يدفعه عنها بالسيف. ولم يكن الشاعرُ يَسْأل حينئذ أسكان قبيلته على حق أم على باطل، فقد كان من حِكَم الجاهلية أن تنصر أخاك ظالما ومظلوما.

غير أن الأمر لم يستمر بهذا الإطلاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصا بعدما قدم خاتم النبيئين معنى جديداً للنُّصْرة والدفاع عن الإخوان، فدعا إلى الدفاع عن الأخ إنْ كان مظلوما، وإلى زجره ومَنْعه من الظلم إن كان ظالما.

هكذا صار المراد بالنضال الدفاعَ عن المظلوم الذي حُرمَ حقا من حقوقه، كما صار من النضال أيضا بذل الجهد لزجر الظالم ومنعه من التمادي في الظلم، وهذا معنى ثانٍ للنضال لا ينتبه إليه الكثيرون.

والحق أن هذا المعنى المستفادَ من البيان النبوي لمفهوم نُصرة الإخوان هو المعنى الصحيح الذي استقر في أفهام الناس قرونا عديدة، لذلك عَدُّوا مناضلا مَنْ يدافع عن المظلوم المُعْتَدى عليه؛ فالمناضل مَنْ دافع عمّن سُرق مالُه، ومن سُلبَ حريتَه، ومن اعتُديَ على شرفه، أو اغتُصبتْ أرضُه...وليس مناضلا مَنْ دافع عن السارق، ومن استعبد غيره، واعتدى واغتصب...فالقضية التي يتجرد الشخصُ للدفاع عنها هي ما يحدد كَوْنَه مناضلا أم لا، فإن دافع عن الحق فقد ناضلَ، وإلا فلا.

هذا، ولا بد أن يصاحبَ الدفاعَ عن الحق تجردٌ له وتنزُّه عن تسخير هذا الدفاع سبيلا لتحقيق مصلحة شخصية، وإلا كان هذا المدافِع انتهازيا واستغلاليا؛ وذلك لأنه لم يقصد النضالَ، وإنما قصد ما وراءه من مصلحة خاصة.

ومن المؤسف حقا أن كثيراً من الناس في زماننا يرددون "النضال" و"المناضل" في غير المعنى الجليل الذي تقدم بيانُه، فصرتَ ترى كلَّ مَنْ خرج إلى الشارع حاملا لافتة وطالباً شيئا يَصِفُ نفسَه ويصفه أنصارُه بالمناضل، وكلّ من نظم مسيرة ورفع الصوت بالشعارات يوصف بالمناضل، مع أنه قد لا يكون له من النضال سوى الادعاء وانتحال الصفة.

وكم من مسيرةٍ نُظمتْ لم يكن القصد من ورائها الدفاع عن الحق وذويه، وكم من أصواتٍ رُفعتْ كان الداعي لرفعها قلة الحياء التي تمنح صاحبها جرأة على المطالبة بما يعلم يقيناً أنه ليس من حقوقه المشروعة.

 ولستُ أعجب لشيء كما أعجب للذين يُصفقون لهذه الأصوات وتلك المسيرات وهم يَعْلمونَ عِلْمَ اليقين أنها ليست من النضال في شيء.

ألا فلتعلموا أنكم بهذا الصنيع لا تُحرفون كلمة "النضال" عن موضعها ومعناها فحسب، ولكنكم تسهمون في إتلاف ما بقيَ في حياتنا من مَعانٍ جليلة، وشَرُّ العيش أن يعيشَ الإنسان بلا معنى !

 

أبو الخير الناصري

 

في المثقف اليوم