أقلام ثقافية

عَنْهَا.. حِيْنَ يَصِيْرُ العِشْقُ رِيْتا وبُنْدقِيَّةً

بليغ حمدي اسماعيلفي ظل الأحداث السياسية التي يشهدها حصرياً الوطن العربي لاسيما إحداثيات لبنان المعقدة، مرورا بالتوتر اليمني العجيب، وصولا إلى المشهدين العراقي والسوري الذي بات التكهن بالنهاية أمرا يعد ضربا من المستحيلات، وما تتضمنها هذه الأحداث من لغط سياسي وجدل وصخب مجتمعي عربي حول شواهد ومشاهد الانتحار والإلحاد والشذوذ أيضاً، وجدت حالتين من فتى وفتاة ربما يظلان بمنأى عن فتنة الحراك السياسي العربي الدائر منذ شهور منصرمة، ولكن حالتهما تتعلق بمقام العشق، وأنا أنتهز فرصة تائهة تجعلني أهرب بعيداً عن رصد الحالة السياسية والمشهد الرئاسي الذي أصاب العقل حيرة ودهشة .

وربما وجدت في عرض سياق حالتهما نوعاً من الهروب المؤقت لمناقشة بعض الملفات الشائكة التي تجتاح وتستبيح جسد المجتمع العربي طولاً وعرضاً .

المهم حينما حاولت رصد حالة هذا الرجل وهذه المرأة عن قرب وجدتهما يتنفسان عشقاً وشوقاً، وربما وجدتها فرصة لا للتطفل عليهما إنما حاولت الهروب المتعمد من وجع السياسة والسياسيين وأهلهما . وبلغة أشبه بالقصة التي لا أجيد كتابتها وسردها سأقص الحالة باختزال شديد .

قال لها : إني أحبك، هكذا نطق محاولاً أن تستجيب تلك الفتاة لاستغاثة قلبه المضطرم، حقاً لقد غيرت حياته، وطالما يفتش هذا الرجل عن امرأة بحجم الكون لتحتويه، وهو يعلم أنه حينما يبوح لها بسره أنها قد لا تبادله هذا الشوق، ربما رآها مرة واحدة فقط، وأحياناً لم ينظر إلى وجهها عن قصد وتعمد . لكنها كيمياء القلوب، أو كما قال عن ذلك أدونيس كيمياء السعادة التي تختبئ فيها مشاعر الشقاء والتحسر والألم .

 (بين ريتا وعيوني بندقية / والذي بيعرف ريتا، ينحني ويصلي، لإله في العيون العسلية / وأنا قبلت ريتا، عندما كانت صغيرة / وأنا أذكر كيف التصقت بي / وغطت ساعدي أحلى ضفيرة / وأنا أذكر ريتا مثلما يذكر عصفور غديره/ آه ريتا بيننا مليون عصفور وصوره/ ومواعيد كثيره / أطلقت نارا عليها . . بندقيه ..) ..

ومنذ أن قال لها : أحبك، وهو لا ينتظر إجابة شافية منها، ولعله تحدث معها عبر الهاتف أكثر مما استمع إليها، وكأنه ينقل تفاصيله المختبئة إليها دونما نظر وبغير استعلاء . هكذا كان حاله ؛ يفتش عن كل أغنية تحمل وجهها، يقتنص الشعر الهائج كي يعبر عن حالته المستعصية، نعم وسط كل ظروف العرب الراهنة التي توجعنا ليل نهار، يبدو أن هذه الفتاة التي لم يرها سوى مرة واحدة، أو بالأحرى مرتين وسط موج من البشر المحشور بينهما بغير استئذان، لكنها وقع ..

(إسم ريتا كان عيدا في فمي /جسم ريتا كان عرسا في دمي /وأنا ضعت بريتا .. سنتين/وهي نامت فوق زندي سنتين / وتعاهدنا على أجمل كأس/ واحترقنا في نبيذ الشفتين /وولدنا مرتين ..)

ولطالما ادعى هذا الرجل أنه خبير بفنون الهوى، ولطالما أيقن أيضاً أنه رجل عابر للقلوب، لكنه لم يظن لحظة أنه سيقف الوقت به، ويصير تمثالاً جامداً لا يتحرك إلا لها، ويستحيل فراشة متعددة الألوان كقلبه يحط على أزهارها فقط..

لقد ذكرني بالقصيدة القائلة : كلما رأيت امرأة حلوة قلت لها يا ليلى، فكل امرأة كما حكى لي يظن أنها فتاته الصغيرة، وهو لا يزال يراها صغيرة، وهي بالفعل لم تبلغ الثلاثين بعد، وربما أيضا بلغتها، لكنه يظل يرسم سمتها كطفلة صغيرة تلهو وتمرح بين الشجر ..

وطيلة ما كان يحاصرها بشوقه إليها وبعشقه بها، أخذ يتقمص البيت الشعر للشاعر الفلسطيني الماتع والرائع محمود درويش حينما قال: ليت الفتى حجر، لكنه لم يعي بيت درويش، فحجر درويش الشعر كان موجهاً لصدر الكيان الصهيوني، أما هو بحجرة بقعة ضوء موجهة لعينيها ..

هكذا أحب الفتى،ولم ينتظر كلمة واحدة تهمس من بين شفتيها، وهو يقسم أنه لا يحفظ تقاسيم وجهها، وكل ما يفطنه عن ذلك الوجه الليلكي هو بوح قلبه عنها فقط ..

أما هي، فهي تحتاج وقتاً للسرد، وجدير أن يستقرئ الفتى قلب امرأة لا تجيد الهوى إنما تصنعه، وهي مثل الماء حقاً حينما يتسلل من بين الأصابع خلسة وعلانية بغير ميعاد .. وبعد شهور طويلة من الحكي والسرد بينهما، قالت إليه في ليلة محمومة بالنجوم وبصوت الرصاص الذي ينبعث بصورة عشوائية غير معلومة المصدر والصادر : أحبك أيضاً ..

لكن حبه لها صار لعنة عليها، فهي لم تعد تفكر في شئ إلا فيه، لقد غير حياتها، هكذا قالت، وربما تأخرت في حكيها عن قلبها الذي يشبه الوردة حينما تستحي .. قالتها بصوت وئيد منخفض، لدرجة أن الفتى أخذ ينظر إلى هاتفه ليتأكد من أنه يحادث فتاته التي قهرته بالعشق يوماً وساعتين .. قالت له مراراً أنت كاذب، ومخادع، وطيب، وتحتاج لإعادة ترتيب، وأنت وأنت وأنت، هكذا كانت تشكل قلبه بيديها وهما معاً لا يعلمان ...

سكت، لم يجيبها، لم يصدق ما سمعه، هكذا كان حاله هذا الرجل الذي ادعى ولا يزال أنه خبير بصنوف النساء، وهذا وجدته فتاته دائماً ؛ منتظراً لها، تواقاً ... انتهت المسافة ... وأنا حينما التقت المساحات الواسعة بين قلبيهما، وجدتني مضطراً لمشاركتهما في كيمياء العشق هذه التي أصبحت كالماء، يأبى الارتواء ..

فإليه أُلَوِّح بأن قلبها لا يزال بكراً فهو عاشقها لا مفر، وهو واحدها لا مفر، وهو وحيدها لا مفر، وهو معذبها لا مفر، وهي إن تلقيه في اليم مرات ومرات فلا يجد ماءً ولا سمكاً ولا فلكا يستصرخه فينجو من الغرق، فهي بالقطع قاتلته ...

وإليها أخط سطوراً كالسحاب علني أستظل من رمضائها ولهيبها وحرارة قلبها التي لا تنطفئ أبدا، ألا لهذا القلب أن يستريح بعد .. فهو كما حدثني عنك قال إنك قلب نظيف بجسد يلمع كالعينين .. فلا تخفي وجهك بأردية تخفي ابتسامتك وأنت تركضين وأنت تلعبين، وتمرحين وتبوحين بالعشق .. وبينما يناديك هو : أناديك يا ملكي وحبيبي، تنادينه أنت : مَعَكَ أكون، وبينكما أراسلكما بالشعر وحده، وأناديك ريتا :

(أه .. ريتا /أي شيء رد عن عينيك عيني /سوى إغفاءتين /وغيوم عسلية /قبل هذي البندقية / كان يا ما كان يا صمت العشيه / قمري هاجر في الصبح بعيدا في العيون العسليه/

والمدينة كنست كل المغنين وريتا / بين ريتا وعيوني . . بندقيه ..) . شكرا محمود درويش.

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م )

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا

 

في المثقف اليوم