أقلام ثقافية

مدينتي.. والذاكرة الحية

شاكر الساعديكنّت أجدُ في مدينتي / ميسان / الستينيات والسبعينات كلَّ شيء: المقاهي والكُتُب والملابس والأصدقاء الأوفياء، وأغاني الحب لكوكب الشرق أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ... وكلّ ما له علاقة بالتمدّن والتعايش، حيث شارع دجلة وكازينوهاته التي تعج بالمثقفين، ونادي المعلمين (قصر فتنه) الذي لا يدخله إلا المعلمون أو من يتوسط لك بالدخول عند الاستعلامات من المعلمين الأصدقاء الذين يصطحبوك معهم.

لم يكن الركود والخمول والخنوع من صفاتها التي نعرفها والتي ما إن تكبو حتى تنهض تحت الرماد مثل الطائر الفينيقي لتحيل الحزن إلى فرح والكدر إلى بهجة والكآبة إلى أمل والظلمة إلى نور، فهي أم الأنهار والخضرة و الاهوار السومرية الضاربة في عمق التاريخ العراقي الأصيل، حيث الشرائع التي علّمت البشرية صناعة النار والفخار وصناعة القوارب وأبجديات الحرف، فيها روح التاريخ وحدائق اللغة وعنفوان التمرد، وهي جزء من ذاكرة جيل الستينات لمدينة الدلال والغنج والسمك والطيور المهاجرة والاهوار والياسمين والنور.

إذا كان لكل امرأة رائحتها ولكل بحر لونه ولكل قصيدة نكهتها ولكل مدينة عطرها فميسان اختلطت فيها الرائحة واللون والنكهة والعطر في جسدي وروحي، وكم راودتني عن نفسي لأفضي بسرّها وسحرها، وأنا أسمع صوت المطرب الشعبي - عبادي العماري - وهو يتعاطف مع المرأة الميسانية التي كبلتها العادات والتقاليد العشائرية المقيتة في أغنيته التراثية (الفصلية) وهو يغني (جابوها دفع للدار.. لا ديريم ولا حنة ولا صفكَة) وأنا أقف لأشم رائحة نهريها الخالدين المشرح والكحلاء، الذي اغتسلت بمائه حوريات المدينة .

لا أستطيعُ استعادةَ ذاكرة الطفولة المكتظّة بصور مختلفةٍ ومتنوّعةٍ دون أن تشعَّ في إحدى زوايا ميسان بكل رمزيّتها وصباها، تلك التي شكّلت بين تقاسيمِها أغاريدَ شرودي الملّونة وروح تمرّدي الأول، خصوصاً وأنّني ترعرعت في بيئة معاندةٍ كانت جاهزةً ومتفاعلةً ومنفعلة باستشراف الجديد واستقبالِ الحداثةِ والتّطلّعِ للتغيير.

كنتُ أبحثُ في المدينةِ عن المختلفِ واللاّ مألوفِ من الكتب و الصحفِ إلى المغايرِ و اللّا تقليدي من الأفلام، فأجدُ متعتي في هذا التنوّعِ المتجانسِ والاتّساقِ المتمايز، وفي التعدّدِ والوحدةِ وفي طريقة الحياة الميسانية، وكان شغفي الصّيفي في ستينات القرن الماضي وأنا أزورُ سينماتها الصيفية والشتوية (النصر والخيام والثورة وبابل) ومشاهدة أفلام (هرقل وماجستي وطرزان) حيث حروب طروادة واحتراق روما، وأفلام الرعب والكاوبوي والأفلام البوليسية (الطيور، المصارعون السبع، قلعة ذهب توما، جانكو، القطار، العربة الأخيرة، العراب، القرصان الأحمر، الفرار، السهم) ممثليها (ستيف ريفز، مارك فورست، جوردون سكوت، فرانكو نيرو، ألن د يلون، جيمس دين، جونسن ميلر) والأفلام العربية (في بيتنا رجل، غزل بنات، رصيف نمرة خمسة، معبودة الجماهير، عنترة وعبلة، المومياء، باب الحديد، حكاية حب) أبطالها (عمر الشريف، فاتن حمامة، عبد الله غيث، فريد شوقي، توفيق الدقن، رشدي أباضه، محمود المليجي، أمينة رزق، تحية كاريوكا، مريم فخر الدين، سميرة أحمد، مديحه يسري) والأفلام الهندية (سنكام، دو بدن، أم الهند) أبطالها (شامي كابور، راج كابور، أشا باريخ، راجندر كومار، فاجنتي مالا) والأفلام العراقية (أبن الشرق، القاهرة - بغداد، عليا وعصام، فتنه وحسن، ليلى في العراق، سعيد أفندي، تسواهن، أنعيمة، بصرة ساعة 11، قطار الساعة 7، القرار الاخير، مشروع زواج) ممثليها (سلمان الجوهر، فخري الزبيدي، خولة عبد الرحمن، مديحة رشدي، حقي الشبلي، أبراهيم جلال، عفيفة أسكندر، غازي التكريتي، سلمى عبد الاحد، يوسف العاني، جعفر السعدي، سامي عبد الحميد، بدري حسون فريد، سليم البصري) .. وغيرهم .

وعلى مدى العقدين الماضيين، أقنعت هوليوود نفسها أن مفتاح النجاح يكمن في إخراج أفلام الأبطال الخارقين واحدًا تلو الآخر، بدلاً عن الأفلام الكلاسيكية، حينما شاهدت فيلم - الرجل الحديدي- لأول مرة، فوجئت بصدق وبمدى روعته، باعتباري من أشد المعجبين بأفلام الأكشن / الأبطال الخارقين، أحببت التمثيل والحبكة والشخصيات، لهذا السبب، كانت لدي آمال كبيرة في الحياة .

تعودت الجلوس في مقهى "النجماوي" الواقع على كورنيش دجلة لأبدأ قراءة الصحفِ الرائدة مثل (طريق الشعب، الفكر الجديد) وغيرها، إضافةً إلى عددٍ من المجلاتِ ومن بينها تلك المثيرة للجدل والاستفهام في حينها مثل مجلة (الثقافة الجديدة) ومجلة "المجلة" الألمانية، وكتيب الموسوعة الصغيرة وغيرها، حينها كنت أستعيدُ أجواءَ النقاش والسجال والحوار بخصوص النوافذ الثقافية والأدبية والفكرية والتوجهاتِ اليمينية واليسارية، والماركسية والناصرية، والإسلامية، والغربية والشرقية مع الأصدقاء، التي حاول صدام حسين المجيد (1937- 2006) إلغائها بحزبه العربي الاشتراكي وفكره القومي - التعسفي، الذي رفع شعار (من ليس معنا فهو ضدنا)، فكنا جميعاً ضده في القلب ومعه في اللسان من أجل لقمة العيش.

 

شاكر عبد موسى/ كاتب وأعلامي

 

 

في المثقف اليوم