أقلام ثقافية

عبد العزيز قريش: رسالة من الماء إلى الماء بدون سيول ولا عتاب

عبد العزيز قريشطلعت في سمائي ذات ليلة من ليالي عرائس الكون نجمة، أضاءت للحظة فضاء الوجود ثم اختفت ثانية بعدما بقيت اسما من أسماء مفكرتي، التي تركتها تحت غبار مكتبي لسنوات طوال، ونسيت كل حروفها لكي لا يحزنني فراق ألوان فساتينها للوحاتي الوردية، التي رسمتها أكثر من مرة بريشة خيالي، حين تحجج قدرها بخطبة ألقاها الخطيب خطوطا سوداء على سطور الوثيقة السرمدية، التي أباحت الهجر والفراق والاجتماع والالتئام، وحشدت الجموع لحضور حفل بزوغ رائحة الدم المسكوب على عتبات الاعتقاد المملوء بكل الطقوس والتعاويذ والبخور لحرز محبرة وقلم ومداد. قيل هي الشرف الشريف في كون العاشقين، الممدوح بقصائد التائبين، والعائدين من عالم الغيب المحفوف بألف سؤال: أين كان سديم النجمة المختفية؟ أفي القطب الشمالي أم الجنوبي؟ وما الاتجاهات التي سكنتها تلك النجمة؟ حيث رصدها فنجان العرافة هناء يرتوي من ندى الخطيب في ليل قمرية باردة، ورآها كهنة المعبد عطرا يمسح خمائل شعرها الأشقر المسجى على لباليت أصباغها، وألفها العشاق عيونا تمسح ملابس جسدها.. هي نجمة تمتلك حروفا لا يفك لغز معانيها إلا من دثرته بسر دلالها ودلالاتها، ومرح نورها، ودعابات أطرافها، وإشارات عيونها، وزفرات صوتها، ومعين قطرات زهور بساتينها. هي الوحيدة التي أشعلت قنديل السماء بضياء اختفائها، حتى ترهق سديمها بدوران الأسئلة حول معصميها، ويجيب لكن دون أن يجيب؛ ويبقى اللغز مدفونا بين معطيات الاختفاء الديبلوماسي بكلمات رقيقة رقة مشاعر القمر المهجور ما بين أيام البيض، يسكنه الحزن، وتقهره الوحدة حين يمشي وحيدا إلى نهاية المشوار، فيعود كالعرجون القديم ذبلا، تتساقط أوراقه على طرقات الانتظار، وما الانتظار سوى سنوات طوال؛ يئس من عدوتها إلى السديم المحترق بنيازك الفراق والوجود معا. وما عاد يتذكر من السديم خلا صدى مبحوح الصوت، مشتت الأمواج والذبذبات، لا يستجمع أطرافه ليتبين من أين ينبعث؟ ولا صدى من؟ كل ذلك تلاشى من ذاكرته؛ فقط هي الصدمة التي يمكنها استرجاع حكاية النجمة المختفية بين غيوم الأحداث الأرضية، التي ما بقيت كما كانت، ولا احتفظت بمضامينها ومواضيعها كما عهدتها قارئة الفنجان أو العراف أو الكاهن في معابدهم المهجورة..

هذه النجمة التي أشرقت الليلة في سمائي وأنا غارق في القراءة والكتابة والتفكير، لم تمنحني وقتا لأتمعن ضياءها، وأستجمع أطياف حروفها من مذكرتي، وأمسح عنها غبار النسيان حتى أحدد سديمها وموقعه بالمسطرة والبيكار والمعادلات والحسابات. كانت على عجلة من أمرها، متسرعة سرعة نجوميتها. ربما كانت خائفة من أن تغادر سديمها أو يتركها ويمشي وشقيقاتها النجوم إلى القمر، ليضيء ما حولها دونها أو لأنفة ركبتها وهي تعلم أن النجوم والكواكب والقمر لا تلوم عشاقها أو تهجر محبيها أو تأنف من ولع سامريها؛ فهي كالورود يرشف من رحيقها النحل والفراش والطيور، وعشاق العطر والليل، فهيهات أن تكبر هذه النجمة الصغيرة حتى تدري موقعها من بين شقيقتها، فهي الصغرى التي تعودت على الدلال والتغنج من أول نظرة، فإن لم تسمع من عشاقها الليليين غزلا تزعل، وإن لم تر العيون إليها شاخصة ترحل، وتترك الغبش فيها ومن حولها. كل المحبين يخرجون فجرا لعلهم يروها في فستانها العرائسي تزف للكون لعل تكوينه يكتمل بها إلا أنا الذي لم أعد أتذكر منها سوى طيفا ودعني ذات ليلة، وأحرق الصور والذكريات، وأهرق المداد وكسر الأقلام والأحلام، ورحل؟! فكيف لمن أحرق في اتون الوجد أن يتذكر وبسرعة الطيف أن النجوم تغار من بعضها البعض، وتهجر بعضها البعض؛ ليعود القمر شاحبا شجي الصوت، حزين الأيام، مكتئب الملامح، مهزوما في معركة العشق، لا نجمة تضيء سماءه الملفوفة بالسواد..

لا للغياب، ولا للحضور الغياب، ولا للتسرع حتى يبزغ الفجر من ثنايا الوجود، وتضيء الشمس باسطة أشعتها على خدود الأجسام المحفورة بإزميل الهجران، المنادية بالغفران والهناء من نجمة السماء، ومعين الماء، وأرجوحة الحياة.. فما كان كان، وما سيكون تصنع الأحداث بهدوء وثبات؛ فالسماء سديم ومجرات ونجوم وشموس وأقمار وكواكب أخرى، تطلب الوصال ممن تأنى ثم قرأ ووعي وارتقى، فالثريا لا كالثرى، وما وجدت النجمة من النجوم في سيديمها إلا ثريا تتدلى بخمائل الرضا.. فكيف تكونين أيتها النجمة إن اختفيت ثريا؟

وأنا أفكر فيما يقع بين الثريا والثرى من حديث الوجود الواهب للأمل في الثريا، وحديث الفناء القادم من تحت الثرى، استيقظت على وخز عصا شيخي لجسمي المنهوك بتعب سنوات الهجر والفقدان والتيه والمحو والنسيان، قائلا: (لقد أباحت نجمتك بسرها لي؛ فلا تغادر عيناك سماءك حتى تراها ثانية ثم ابتسم، فالقدر لا يعرف سوى الابتسامة). قلت: وإن لم أراها؛ قال: (اتركها وشأن سمائها وسديمها، فمن النجوم من تظهر مرة لآلاف السنين أو ملايينها، ومنها من لا تظهر إلا بالمناظر العملاقة.. فالحياة نجمة ونجوم؛ هي تختار السير والمسار، وما عشاقها سوى سمار ليل، ومغتربي حب..).

وعلق في ذهني كلام شيخي الذي يعلمني كيف المسير إلى طريق النجوم، وكيف الاهتداء في رمال الصحاري وزوابع الانتظار، ويدربني على مسالك الارتقاء في طلب المحبوب واختراق الغيوم والحجب، وهتك المستور، والأنس بالمطلوب. شيخ سبحته مطلب كل مريد تائه في بحر الهناء، والقرب، والكلام المعسول.. شيخ ألفته كيف يراود النفوس حتى تعشق المعشوق، وتسبح في أحلام الوجود، وترجع الغائب إلى حضن الحنان والطيب والريحان.. كلام حكمة لا أجده سوى وأنا جالس بين يدي شيخي الصوفي الطرقي، الذي ما بصمت على كلامه بالخمسة يوما ما إلا اليوم، فأنا منازعه في النوازل والزوابع بأطراف الحديث.. فما قولك أيتها النجمة المختفية فيما رواه لي شيخي من قصته لا قصتي، فأنا مستيقظ أسمع حكيه، وما حكيه خلا ذكرى من ذكرياته ومضت بها شاشته المضيئة رغم أن له رأيا فقهيا فيها، حرام وحلال هي في نفس الوقت حسب ما يشاء، ومعطيات ما يشاء. فقه حداثي لا أجد مثله إلا مع شيخي الضالع في السرديات كما وجدت فيك الظهور والاختفاء حسب الظروف والشروط، وصفاء السماء و ضباب الفضاء، ولون السحب وصعق السماء. فلا تبخلي على شيخي بالقول حتى لا يحرق القوارب، ويغرق الخشب بالدموع والماء، فأنت هناء، والهناء لا يغادر الأماكن حتى يسكنها، وينام الصغار والكبار على أكتافها في هناء، يا ليتني كنت كالهناء حتى لا أظل حلما في السماء أو على سطح الماء؛ هكذا قال شيخي في الهناء وهو يهلل، وفي الهجر يندد بالهواجس والوساوس، ويرجو من نجوم السديم الاختفاء حتى تطل عليه نجمة السماء تحت السبحة والغناء... يا له من حضور بين يدي الشيخ، يمسح الأيام والسنون، والزمن والمكان حتى ينزع منك القلب ويهديه للعشق والحب، فلا تجد نفسك وروحك إلا وأنت سابح في بحر لا ماء فيها، ولا سماء تظله، ولا قوارب تجوبه، ولا حيتان تسبح فيه، ولا صدى فيه إلا صدى صوت العشق والحب، فتذوب فيه حتى التماهي، وتنسى عالم المخلوقات السفلية التي توقظ زوابع الزعل في الأرواح البريئة..

عالم شيخي لا كالعوالم الأخرى، ينادي نجمته المختفية من بين نجوم سديمها السائر إلى القمر، لعلها تظهر مرة أخرى كما عهدها في أول ظهورها صوتا ثم صورة.. والباقي لم يبح لي به شيخي لأنه سر من أسرار الطريق لا يعرفه إلا العشق والحب.. فالنجوم لا تعرف إلا بفرادتها؛ هكذا قال لي شيخي، لها أسرارها كما لها عشاقها، وللعشاق فيما يعشقون مذاهب كما قيل في أدب الصوفية والطرق والمذاهب، وأدب..

هذا ما حكاه شيخي على لساني، وما حكيته من ذاتي، وإنما هو حكي حتى تحكي.. فماذا بقي من الحكي بلسانك.. احك.

 

عبد العزيز قريش

 

 

في المثقف اليوم