أقلام ثقافية

مينا راضي: التَجَدُّد اليَومي

منذُ أسبوعينِ تَقريبًا وقَعَ بينَ يَديَّ مَقطَعُ فيديو لصانِعةِ المُحتَوى السُعوديةِ حَنان الشهري. كانَ عُنوانُ الفيديو "ارتَبِط بذاتكَ قبلَ الارتِباطِ بالعالَمِ الخارِجي" وعندما شاهَدتُ الفيديو بأكمَلِهِ توَصَّلتُ إلى قَناعةٍ بصِحّةِ هذهِ المَقولةِ ومَدى عُمقِها. إن الغالِبيةَ العُظمى منَ البشَرِ في هذا الزَمانِ يتَناوَلونَ هواتِفَهُم فورَ استيقاظِهِم من النوم، يُمَرِّغونَ عُقولَهُم بأنباءِ العالَمِ وأحداثِ حياةِ الآخَرينَ قبلَ غَسلِ وُجوههم! نحنُ نَخضَعُ لاستِعمارِ الاستِهلاكيّة من خِلالِ انسياقِنا اللاواعي وراءَ المَنشوراتِ المُتَتابِعةِ، حوَّلنا عُقولَنا إلى كُتَلٍ إسفَنجيّةٍ لامتِصاصِ أصنافِ المُحتَوى التي تُدِرُّها علينا شاشاتُ الهَواتِف. نحنُ نَبرَعُ في استِخدامِ تلك الشِباكِ التكنولوجيّةِ التي تَربِطُنا بالعالَمِ الافتِراضي الخارِجي، بل إنَّنا نَدُسُّ عُيونَنا في تلكَ المَساحةِ المُستَطيلةِ لتَصَيُّدِ الجَديدِ فورَ استيقاظِنا، نُشاهِدُ صورَ أصدِقائِنا في مُناسباتِهِم السَعيدةَ ونَجاحاتِهِم الباهِرة، نَقرأُ آخِرَ أنباءِ المَشاهيرِ، فنَفتَحُ بذلكَ مَجالًا للمُقارَناتِ بالتَسَلُّلِ إلى عُقولِنا وتَعكيرِ مزاجِنا، ونُهدِرُ صَباحَنا بالتَساؤل: "تُرى لماذا لَسنا مثلَهُم؟ لماذا لا يُحالِفُنا الحَظُّ كما حالَفَهُم؟" ونُدخِلُ أنفُسَنا في مَتاهاتٍ منَ الأسئِلةِ العَقيمةِ التي لا تُفضي بنا إلا إلى وَهدةِ الأفكارِ السامّة. عندَما قرأتُ سيَرَ بعضِ الناجِحينَ من فِئةِ الشَباب توَصَّلتُ إلى تلك الصِفةِ المُشتَرَكةِ بينَهُم، جَميعُهُم يتَحاشَونَ النَظَرَ إلى هَواتِفِهم المَحمولةِ عندَ استيقاظِهِم في الصَباح، بل إنَّهُم يبدأونَ يومَهُم بعاداتٍ تَغرِسُ في أذهانِهِم قَناعاتٍ إيجابية مثلَ الصَلاةِ والتأمُّلِ وتَمارينِ التَنَفُّسِ البَطيء. وفي ذلك حِكمةٌ بَلغيةٌ فَحواها أنَّ المَرءَ يَجِبُ أن يَتَّصِلَ برَبِّهِ ثمَّ بروحهِ ونَفسهِ قبلَ فَتحِ خُطوطِ الاتِّصالِ مع العالَم.

عَزيزي القارِئ، لا تقَع ضَحيّةً لغِوايةِ هاتِفِك، كما قالَ المُتَحَدِّث التَحفيزي والكاتِب البريطاني جاي شيتي، عندَ استيقاظِك، خُذ بعضَ الدَقائِقِ لتَستوعِبَ حَقيقةَ وُجودِكَ في هذهِ الحَياة، تَقَبَّل تلك الأربع وعشرينَ ساعةً التي وهبَكَ اللهُ إيّاها. إيّاكَ والانجِرافُ وَراءَ أخبارِ العالَم، بل ابدأ يومَكَ بثَلاثةِ أنفاسٍ عَميقةٍ مُرفَقةٍ بالامتِنان، فالامتِنانُ هوَ العَقليّةُ التي تَجعَلُنا سُعَداءَ طيلةَ اليوم، هو المَناعةُ ضِدَّ المُقارَناتِ والتَفكيرِ السَلبي

والآن بعد قِرائَتِكَ لهذا المَقال، هل ستُجَرِّبُ الاستِمتاعَ بصَباحٍ حَقيقيٍّ والتَخَلّي عن عالَمِكَ الافتِراضي؟

 

مينا راضي

 

في المثقف اليوم