أقلام ثقافية

عمار عبد الكريم: رسالة الحياة الخالدة

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: ألا ترى أن بعض الأباء والأمهات لا يحملون الصفات العظيمة التي تحدثتَ عنها في المرة السابقة ؟، وأنهم لا يفكرون إلا بنجاحهم هم حتى يقال إنهم أحسنوا في تربية أولادهم، ولو كان ذلك على حساب أبنائهم ؟ .

- لكل قاعدة شواذ كما يُقال، ولا يختلف اثنان على أن الأصل في الوالدين خيمة حانية وعطاء دائم، إنها وديعة أودعها الله في قلبيهما، فهما بدون تفكير مسبق يتكاتفان لتكوين الأسرة، إنهما لا يحتاجان ابتداءً الى خطة خمسينية أو ستينية لبناء صرح قد يمتد لقرون عبر أجيال متلاحقة، لكنهما بطبيعة الحال يبدآن بالتخطيط مع بشارة المولود الأول، في تلك اللحظات يتدفق إساس المسؤولية الربانية كشبكة عنكبوتية تحفز كل المشاعر والأفكار عبر كلمة واحدة: ستكون أبا عمّا قريب .. ستكونين أُمّا خلال تسعة أشهر .

وقد يبدو الأمر غرائزيا كما يقول فرويد، لكنه عند البشر أعمق من ذلك بكثير، فالحيوانات لا تمتلك القدرة على التخيل والإبداع والتخطيط لذلك تقودها غريزتها لحماية أطفالها، وأفضل ما يقدمه الحيوان لأبنائه أن يعلمهم كيف يحمون أنفسهم من أخطار الغابة والصحراء،أو الاصطياد،أو اقتناء مغارة يختبئون فيها، أو غصن شجرة يعيشون عليه، وأجد الغريزة عند بني البشر حافزا مبدئيا للأبوة والأمومة، نحن بحاجة الى ذلك الحافز لتستمر الحياة ، لكننا لا نكتفي بالمسكن والملبس والمأكل، ويكفي عقل الأنسان شرفا أنه يستنهض محبة الله وعباده في قلوب الأجيال المتلاحقة، وأن يعلمهم القيم العليا والخلق القويم .

وعلى هذا الأساس قد تتفقين معي ياشهرزاد على أن القاعدة هي (الوالد ..الخيمة الحانية، والأم ..العطاء الدائم)، وأن الحروب والمصائب التي تحل بالمجتمعات الفقيرة، أو النامية، أو حتى التي توصف بالمتطورة حينما تقع تحت طائلة المخدرات،والأمراض الفتاكة،والكوارث الطبيعة من أعظم الأسباب التي تؤدي الى ضياع هذه المعاني السامية ، وتُخلِفُ أجيالا متهالكة تشكو ظلم الوالدين قبل قساوة المجتمع والظروف ، ولا أريد هنا أن ألتمس العذر للمتنصلين عن الأمانة الربانية،وأداء رسالة الحياة، لكنني أدرك تماما أن الشر الذي يعم في مجتمع ما يُهلك المبادئ قبل أن يهلك الأجساد،ويزهق الأرواح .

شهرزاد: لنفرض أننا نعيش في مجتمع متماسك آمن، هل ترى جميع الآباء والأمهات يحملون الرسالة،ويؤدون الأمانة ؟.

شهريار: العلّة ليست في تحمل المسؤولية قدر تعلقها بفهم رسالة الحياة، فكلما اتسع الأدراك اتسع فضاء الخيمة الحانية، وزاد العطاء سخاءً، وهنيئا لمن حظي بأبوين متعلمين مدركين لمعاني الأسرة، إنهما يعلمان علم اليقين أن الدعم والعطاء لايتوقف عند توفير ضروريات الحياة، بل إنه يجعل من تلك الضروريات مجرد طاقة وحماية للأبدان، إنهما يحرصان على طاقات أخرى أكثر أهمية من الطعام والمسكن، تلك الطاقات الروحية التي تغذي الذوات بالخير وتسقي القلوب أرادة وثقة، ولا يُتَخَيَل الإنسانُ السوي من غير تلك الطاقات، حينها نقترب من الصفات الحيوانية بجدارة،ونمحق العقل البشري .

شهرزاد: حتى هذه المواصفات قد تجتمع بالوالدين من غير أن يكون هدفهما أداء رسالة صادقة، كأنهما يبحثان عن إنتصارات شخصية، لا تنسى ما تكرره دائما نقلا عن وليم جيمس: (إن أعمق مبدأ في الطبيعة البشرية هو التماس الثناء)!.

- كأنك تميلين الى القول الدارج بأن التماس الثناء هو السر وراء التضحيات الجسام للآباء والأمهات والمعلمين النجباء، والمهندسين المبدعين والعباقرة من المفكرين والمكتشفين؟.

وحتى لا نُتهم بإزدواجية الطرح دعينا نسترجع ماذكرناه سابقا حين قلنا: "إن الثناء هو غاية الإحساس بالأهمية، وإنه لمدعاة للفخر بما ينجزه الإنسان من أعمال صغيرة كانت أو كبيرة، وإن أحدنا ليلتمس الثناء التماسا بعبارات رقيقة أو شديدة تُذكر من حوله بنجاحاته التي لم يُكافأ عليها، ذلك الثناء الذي يدفع المعلمين المخلصين الى تخريج أجيال وأجيال على مدى عقود طوال، لينالوا البركات والتهاني ببلوغ طلابهم أعلى الدرجات، وإنهم ليتفاخرون بطبيب تخرج من صفوفهم قبل 20 عاما أو مهندس بارع تعلم على أيديهم في أيام شبابهم، وهو الذي ألهم الشعراء والفلاسفة والمفكرين والمبدعين ليسطروا أعظم العلوم الإنسانية ويحققوا ذواتهم، ويثبتوا أهميتهم، وينالوا أعلى مقامات الثناء" .

تأملي ياشهرزاد تلك الكلمات برقة ستجدين التماس الثناء والإهتمام حافزا لهؤلاء المبدعين في شتى الميادين، لكنه ليس أصل الحكاية، إنه كماء بارد يروي قلوبا أتعبتها مسيرة طويلة في صحراء قاحلة قبل أن تبلغ مقاصدهم، وأجد التجرد من قصد الإبداع والعطاء لتحقيق الذات ابتداءً بنية التماس الثناء، والشعور بالأهمية مدعاة للفشل في أداء رسالة الحياة، ليس عند الوالدين وحسب بل عند كل من سعى لشهرة زائفة، وثناء مصطنع لن تسطره كتب التاريخ في سجلات المبدعين .

ودعينا نتحدث عن الوالدين حصرا على قاعدة (خيمة حانية وعطاء دائم)، وعلّنا نستنهض في قلوب مصطنعي النجاح محبة أداء الأمانة ليأتيهم الثناء على طبق من ذهب .

إنهما مزارعان تكاتفا وتعاهدا على حرث وزراعة أرضٍ لم تعرف النبت من قبل، قضيا تسعة أشهر يترقبان البذرة وهي تشق الأرض لترتشف الهواء النقي وتلامس أشعة الشمس للمرة الاولى، ثم مرت عليهما سنوات وهما يسقيان الزرع الأخضر طيبا وحنانا، وسهرا الليالي الطوال،والسنين الثقال، وهما يقومان ما اعوج من سيقان الشجيرات، وسنوات أخرى وهما يحرسان الأشجار اليانعة، حتى تكحلت عيناهما بأثمارها الطيبة التي لم يذوقا مثلها من قبل، هل ترين ياشهرزاد إنهما بذلا كل هذا الجهد من أجل ان يسمعا كلمات مديح، او عبارات ثناء ؟!.

هي الرسالة الأسرية والأمانة الربانية يؤديها كل أبوين حانين،إنها الحياة بلا رتوش، تحقيق الذات وضمان البقاء بأبهى صوره الإنسانية بعيدا عن الخيلاء وأنتظار المقابل، إنها الخيمة الحانية والعطاء الدائم، انهما الوالدان بكل بساطة .

 

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

....................................

من وحي شهريار وشهرزاد (38)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

 

في المثقف اليوم