أقلام ثقافية

حسين صقور: مرثية أميرة الشمس ومضة ذاكرة وذكريات

إلى روح أختي الطاهرة أميرة الشمس عفاف صقور تخط دموعي بعضاً من ذكريات. بعد صراع مع المرض امتد لأعوام مديدة كان يتآكل فيه الجسد مابين مد وجذر إلى أن استسلم وسلم لتتحرر تلك الروح الطاهرة من رحلة المعاناة و الحلم الذي عاشته وعايشته في ثنايا قفص كان ينبض من خلالها ليحملها رسائله ولتكون الشاهدة أمام باريها على كم العفة والعفاف على كم الطهارة والطيبة والنقاء في ذات وجسد وروح جبلت على الخير وعلى المحبة والعطاء

رحلت أميرة الشمس لتتوهج في مكان آخر وفي زمان آخر رحلت ممتطية صهوة المجهول وفوق صهوة المجهول يتسارع الزمن لتستعيد الروح ذكريات رحلتها مع الجسد بكامل تفاصيلها في بعض دقائق وبضع ثوان ثم يسقط الإحساس بكذبة الوقت

أدرت وجهي نحو النافذة ومسحت دمعة كانت قد فرت حين قبلت رأسك وأنت تحتضرين كنت أود أن أفجر حرقتي وأبكي أملا بأن توقظك دموعي فتمدي يديك وتمسحين فوق رأسي سامحيني يا أميرة الشمس فأنا لا أحسن البكاء بين الجموع لا أحسن التعبير وتفجير حرقتي وفيض المحبة المخنوقة في قفص الضلوع

رحلت أميرة الشمس تاركة في أعماقي حرقة غصة وعلى أطراف مقلتيّ دمعة حبيسة خبأتها وأدرت وجهي عنك عن جسدك الهامد للتو عن عويل تعالى للمتحلقين حول أنفاسك الأخيرة..

..اليوم وفي خلوتي أطلق العنان لدمعتي لتنهمر شلالا مع صور الذكريات التي تمر في خاطري سريعا كمن فارقته روحه فمات إحساسه بكل ما حوله من كائنات وغاب في شريط الذكريات ..3397 لبنى بوقلة

من أعمال الفنانة لبنى بوقلة

أتساءل أيمكن لأحباري وثمان وعشرين حرفا أن تلخص زبد أحاسيسي ومشاعري وأفكاري آاااااااااااه يا أختي قلبي يحترق فأنا لم أعتد البوح سوى فوق صفحات غربتي فوقها فقط أستطيع أن أذرف فوقها فقط تضيء صور الذكريات أعيشها حقيقة أعود طفلاُ وتعودين أماً تكبرني ببضع سنوات أتراك اليوم تستعيدين معي تلك اللحظات حين كان بهو الدار ملعبنا ومسرحنا ومسبحنا كنت أختاً تشاركنا الملعب

ثم تصيرين أماً بعد انقضاء النهار و بعد أن نتلطخ بالأوساخ ونتعب تفركين بالليف الخشن الأوساخ العالقة فوق غطاء الجسد وتحت أسفل الأقدام وتسكبين الماء البارد لننتعش قبل أنا ننام.. كان الليف الخشن يصير ناعما فوق جلدتنا وبين يديك وكان حنانك ينسكب مع الماء البارد ليصير دافئا من تحت راحتيك كنت أماً وأختاً

تقطعين رغيف الخبز وفق حاجتنا وتوزعيه بيننا حول طبق الطعام حرصا كي لا يبيت فتات من نعم الله وكي لا تبقى منه فضلات فلنعمة الرغيف قدسيتها إيماناً وحرصاً وليس بخلا هذا ما تعلمناه منك أنت بالذات

أتذكرين يا أختي.. وقد بحت بذاك السر مراراً لزوجتي.. أتذكرين عروسة الخبز المدهونة باللبن مع قرن الفليفلة والماء حين لففتي وقطفتي وعبرتي وملأت لأجلي (إلى الآن أتشوق لأستعيد تلك الأيام و تلك الزوادة التي لم أتذوق بطيب طعمها في حياتي).. أنا المنتظر فوق خيمة جدي المنصوبة بين أغصان شجرتين في كفرية ضمن الوادي (الفوقاني) الذي كنا نقطع لنصل إليه عبارة طويلة ومظلمة لانسمع عبرها سوى وقع أقدامنا فوق الماء الجاري وصدى تنهيداتنا نمشي ونمشي يسوقنا الحدس إلى أن نبصر بقعة نور عند الطرف الآخر من العبارة نسارع نحوها يستقبلنا ماء رقراق وينهض في الجانب الآخر بستان جدي والتفاح

آااااه يا حبيبة الروح قلبي وقلوب كل من عرفوك يا أميرة الشمس اليوم مكسور ومجروح

كنت تسرحين لي شعري تارة لليمين تارة لليسار تارة فرق نصفي وأنت تغنين لي معززة ثقتي بذاتي وكأني أجمل طفل في العالم وحين كبرت وتعرفت لنفسي من خلال المرآة اكتشفت أني بعكس أخوتي ورثت جسدا هزيلا ضعيفاً.. لا كما كنت أتصوره وتصوريه لي.. ولكني عقدت العزم على إرث آخر نما عبر محبتك وطيبتك وعطاءك المستمر

علمتينا كيف نوفر للمناسبات العظيمة وكان عيد الأم مناسبة مقدسة لم تفوتيها يوما وحتى آخر يوم في حياتك..

أتذكرين يوم طلبتي مني أن أخط رسالة لمناسبة عيد الأم وأقدمها أمام الضيوف مع الخاتم الذي وفرنا ثمنه من مصروفنا.. كان هذا فقط لتفخري بي أمام الضيوف.. كنت هكذا دوما وثيقة الارتباط بالعائلة

ويوم زفافك كان شرطك أن تبقي قريبة منا ومن عشرة عشرين عام سكنت خلالهما وبعدهما قلوب أخوتك وأحبتك كما كانوا يسكنون مهجتك دائما وابدا

كنت أما لنا قبل أن تكوني أما لأولادك وصرت أما محبة لأولادنا أيضا

كيف لنا أن ننسى أفضالك وأنت السباقة على الدوام تدقين أبواب الصباح لتعطري بأنفاسك بيوت الأحبة كنت مع الغائب قبل الحاضر تسعين دوما لحل خلافاتنا وتبسيط مشاكلنا وإشكالاتنا تسعين دوما لألفة القلوب والوفاق

اليوم افتقدت أمّنا رفيقة دربها الوحيدة فحقّ لها حرقة البكاء وحقّ لها أن تزغرد أيضا كما تزغرد اليوم لك جنان الخلد والسماء فأنت كنت السباقة دوما لتقديم العون والمساعدة للجميع وحقًّ الطيبن في السماء لن يضيع

اليوم حقّ البكاء..ابكي حبيبتك يا أرض وزغردي فرحا بنور العفاف القادم إليك ياسماء

اليوم تحتض الأرض بقايا ذكرى جسد تبكية وتسقيه بدموعها ودموع محبيه لينمو ويكبر فوقها رياحين محبة تمتد على طول الأرض وعرضها وتمتطي الروح صهوة المجهول ناشرة عبق عطرها في الأثير ثم تفتح جنان الخلد أبوابها وعلى جانبيها تنحني ملائكة الجنة وترفرف طيورها فرحا بأميرة الشمس أم العصافير والطيور عفاف صقور.

***

الفينيق حسين صقور

في المثقف اليوم