أقلام ثقافية

سناء أبو شرار: بشرٌ من غزة...

لا أريد السفر

لا أريد أن أرى بلاداً أخرى

أعيش وأموت هنا

هناك نوع من البشر يرتبطون في الأماكن لدرجة أن أرواحهم تصبح جزء من الحجارة والأشجار والتراب؛ هناك نوع من البشر لا يهتمون بالعواصم العالمية ولا السياحة الجذابة، بشر عاشوا في مكانٍ واحد بيتٍ واحد وتحول إلى عاصمة ودولة وكوكب صغير يمتلك أرواحهم وتسكنه أجسادهم؛ هناك بشر تجاوزوا كل الشهوات والمتع الجسدية وسخروا حياتهم للآخرين، ماذا يحبون وماذا يريدون، وقبعوا في ذلك البيت الصغير أو الكبير يرون العالم من خلاله دون تلهف ولا رغبة، وينظر إليهم العالم باستغراب لأنهم ليس لديهم أدنى فضول ليكونوا في مكانٍ آخر غير هذا المكان.

هذا النوع أصبح حجر في البيت وشجرة في الحديقة ونافذة في الجدار، لم يعيش سوى في ذلك البيت يزرع أشجاره ويرمم أي حجر به ويربي حيواناته التي يحبها وتحبه.

يكفي أن يجلس على شرفة منزله في الصباح يشرب الشاي ويفطر مع أولاده تحت أشعة الشمس الدافئة كي يتحول الكون إلى جنة على الأرض، يكفي أن يناديه جاره ليساعده في أي أمر من الأمور ليذهب راكضاً إليه لأنه جاره وأخيه منذ عشرات السنوات بل منذ الأزل وإلى الأبد، يكفي أن يذهب على شاطئ غزة يجلس على إحدى صخور الميناء المهترئ يراقب بحر غزة شديد الزرقة وأمواجه التي لا تتوقف عن ضرب أحجاره لسنوات وسنوات دون أن تتمكن من إغراقها وسحبها لأعماقه، تأبى أحجاره الميناء المهترئة أن تغرق كي لا يحزن أهل غزة لأنه الميناء الوحيد لمدينتهم، ميناء وحيد ومهجور ولكنه يجعل أهل غزة يشعرون أنه توجد لديهم صلةٍ ما مع العالم الخارجي، يحلمون بأنه ربما تأتي سفنٍ ما يوماً ما تحمل أقاربهم وأهلهم في الشتات، أن تأتي البضائع والتجار، أن تأتي الحياة مع تلك السفن الآتية من خلف الأفق، ولكن لا أحد يأتي ويبقى الميناء المهجور في الانتظار وفي مقاومة الأمواج.

يكفي أن يمشي في شوارع غزة يشتري سندويشات الفلافل مع أولاده ويأكلون البوظة في محل كاظم، ثم يشترون الأشياء الجميلة في شارع عمر المختار؛ يكفي أن يزور جدته وأقاربه ويجلسون تحت شجرة التين الكبيرة، يضحكون ويأكلون وينسون ولو لبعض الوقت من استشهد ومن تم إبعاده ومن رحل ولم يعد ومن مات قهراً ومن مات حزناً؛ يجلسون معاً كي ينسوا تلك البنادق المصوبة عليهم عند نقطة "إيرز"، كي ينسوا أنهم حين يسافرون يكون سفرهم قطعة من الجحيم.

يكفي أن يشعر بذلك الدفء والكرم والمحبة في قلوب من حوله، لم يكن يريد حباً آخر، ولا بلداً أخرى، ولا وجوهاً أخرى؛ اكتفى بغزة بحزنها وجمالها ووحدتها وعزلتها وصمودها، اكتفى بها قطعة في القلب ونور في الروح، حتى أنه حين يسافر لأي بلدٍ أخرى يشعر بالاختناق ويريد أن يعود مسرعاً إلى بيته وأهله وغزته.

أجل، هناك بشر يرضون بالقليل ويجدون أن هذا القليل كثير ولا يريدون غيره، ولكن حتى هذا القليل أصبح كثيراً بالنسبة للصهاينة ولابد من انتزاعه وتدميره.

تأتي رسالة تهديد صهيونية: غادر بيتك خلال ربع ساعة قبل أن يُهدم.

نظر حوله ماذا سوف يأخذ وكيف سيخرج مع أسرته وهل يمتلك الوقت الكافي كي يهرب معهم إلى أين، أين الأوراق الرسمية، أين ذهب زوجته، أين الأولاد، أين...أين...

وقف وسط بيته ينظر إلى كوكبه الصغير الذي لم يكن يريد من هذه الحياة سوى أن يكون به، أن يموت ويعيش به، وتخيل للحظات أنه يخرج مع أولاده وزوجته، يركضون في شوارع غزة يهربون إلى اللامكان، أو ربما يتم ترحيلهم إلى مدنٍ أخرى ودولٍ أخرى، والذل يحلق فوق رؤوسهم، والبؤس يسكن قلوبهم والقهر يكسر أرواحهم؛ وفجأة قرر وقال لأولاده وزوجته:

_ إذا رغبتم بالرحيل غادروا، ولكن أنا باقٍ هنا، عشت هنا وأموت هنا، الصهاينة كسروا الكثير في حياتنا ولكن لن يكسروا أرواحنا؛ نحن بشر ولم يعاملونا كبشر، لكن الموت فقط يُثبت لهم أننا بشر، وأن الروح لا تموت ولا تُقتل ولا تُحرق بقنابل الفسفور، روحي وأرواح الشهداء ستكون لعنتهم الأبدية. أريد الشهادة لأشعر أنني عشت ومت بشراً بعزتي وكرامتي. مقابل الذل أرحب بالموت؛ ومقابل التهجير أرحب بالشهادة.

***

سناء أبو شرار

في المثقف اليوم