أقلام ثقافية

كاميليا الورداني: رقمنة السياحة الثقافية بوصفها وليدة أزمة "كورونا

التراث الثقافي خاضعا للحجر الصحي

إلى جانب كل ما يرتبط بها من رهانات تنموية شاملة، فإن السياحة الثقافية تعد ركيزة أساسية محققة لقيمة حوار الثقافات بين الشعوب؛ الشيء الذي يجعل هذا المجال في بحث مستمر عن إيجاد أنجع السبل للتسويق السياحي الثقافي، كخطوة موازية للسعي نحو جعل الثقافة مدار الأمر في الاهتمام العالمي، بمكونيها المادي واللامادي. واعتبارا لسياق الطفرة التقنية والثورة الرقمية التي طالت كل مجالات الأنشطة البشرية، فإن قطاع السياحة الثقافية وجد غايته المثلى بولوجه أحدث الإمكانيات التي توفرها التقنية الرقمية.

غير أن علاقة السياحة الثقافية بالعالم الرقمي تجاوزت بساطة التوظيف التسويقي، لتكون من بين المواضيع المستجدة التي كانت قد تصدرت النقاش خلال أزمة "كوفيدـ19"، كونها أزمة وجهت ضربة قاضية مباشرة لقطاع السياحة، الذي طالما شكل دعامة أساسية في تنمية الاقتصاد العالمي؛ وذلك نظرا للانهيار الشامل الذي كان قد أصاب حركة السياح في العالم بأسره. ففي إعلان مشترك بين "منظمة السياحة العالمية" (UNWTO) و"منظمة التجارة والتنمية" (UNCTAD) التابعتين للأمم المتحدة، جاء أن جائحة "كورونا" تمكنت من إحداث خسارة فادحة في السياحة العالمية سيكون من الصعب جبرها وتداركها، وهي الخسارة التي قدرت بأزيد من أربعة تريليونات دولار  فقدها الاقتصاد العالمي جراء أزمة الوباء.

أمام هذا الشلل السياحي العالمي المفروض إذن، والحاجة الفطرية إلى التنقل والاستكشاف لدى الإنسان ـ المخلوق الثقافي بطبعه ـ فقد كان لعلاقة السياحة الثقافية بالعالم الرقمي أن تكتب لها قصة أخرى تكون تَرِكةً لوباء "كورونا".

ـ منصات سياحية افتراضية في الحجر الصحي:

تزامنا مع ما كان قد عرفه العالم في مطلع عام 2020 من فترة طوارئ صحية مشددة، فمن المؤكد أنه لا يخفى ما أدته التكنولوجيا الرقمية من خدمات وأدوار حاسمة في مختلف المجالات، إذ إن جوانبها الايجابية بدت جلية واضحة في عمومها ولا تنكر، بما في ذلك الجانب السياحي الذي يهمنا منه هنا شقه الثقافي.

فمن إيجابيات التكنولوجيا الرقمية إبان الظرفية الاستثنائية التي عرفها العالم، أنها أتاحت بدائل ذكية للسياحة، تمثلت في ظهور العديد من المنصات الرقمية التي وفرت جولات سياحية افتراضية، شملت مختلف المعارض الفنية والمتاحف والمواقع الأثرية عبر العالم، بعرضها للمستخدمين ـ أو بالأحرى للسياح الافتراضيين ـ بجودة تصوير ثلاثية الأبعاد متناهية الدقة. ومثالا على ذلك أن رقمنة موقع «وَلِيلِي» الأثري، كانت أولى المبادرات في هذا المسعى على الصعيد المحلي بالمغرب، بوصفه أحد المواقع المسجلة ضمن قائمة التراث العالمي لدى منظمة "اليونسكو"، والذي طالما كان بؤرة جاذبة للسياح من مختلف أنحاء العالم. وبهذه الصيغة إذن وفرت الجولات الافتراضية في الحجر الصحي متنفسا وفرصة في متناول الجميع للوصول إلى المواد الثقافية المرقمنة بكل سهولة ويسر؛ الشيء الذي مثل بديلا فريدا أمام تعذر إمكانية السياحة بمعناها المحسوس.3889 رقمنة السياحة

(صورة لمتحف «أنثروبولوجيا» الوطني بميكسيكو، مثال للمتاحف التي تمت رقمنة أروقتها وموادها الثقافية بالتقنية ثلاثية الأبعاد، أثناء أزمة "كورونا").

ورغم أن رقمنة المواقع الأثرية ومعروضات المتاحف خصوصا، كانت في الأصل استجابة لحدث عالمي طارئ، فإن أبعادها امتدت أبعد من مجرد الترويح عن النفس في مثل ظروف الحجر الصحي العصيبة؛ إذ تمثل الدور المستدام لرقمنة التراث الثقافي في دور الأرشفة تحديدا؛ فأرشفة المتاحف والمواقع التراثية، إنما تعني حفظ صورتها المادية الأصلية، التي من شأنها أن تمثل لاحقا بوصلة دقيقة لعمليات الترميم وإعادة هندستها إذا ما تعرضت لحالات التلف لسبب من الأسباب، أو لعوامل أخرى كالكوارث الطبيعية مثلا؛ خصوصا وأن تقنية التصوير الثلاثية الأبعاد ذات الجودة العالية الدقة، تتيح حتما أرشفة في أحدث ما يمكن اليومَ أن تمد به الرقميات ميدان الثقافة؛ هذا بالإضافة إلى تحقيق أكبر نسبة من الاطلاع المعرفي العابر للحدود، خاصة لدى فئة الطلاب المتخصصين الباحثين عن وثائق رقمية من التراث الثقافي، والتي من شأنها أن تختصر عليهم مشاق وتكاليف السفر لأغراض علمية.

ـ «اليونسكو»: التراث الثقافي في مواجهةٍ نوعية للوباء

في تقرير صادر عن منظمة «اليونسكو» جاء التعبير على أن ما تعرض له العالم من إغلاق شامل زاد من تأزيم الأوضاع النفسية لسكان العالم أجمع بسبب تقييد الحركة، واصفة أن السياحة والسفر والتنقل هي حقوق طبيعية كانت مصدر أمن نفسي، وحاجة وجودية لا تختلف عن بقية الحاجات البيولوجية في الانسان.

كما وصفت الجهةُ ذاتُها أن رقمنةَ التراث الثقافي العالمي، تزامُنا مع أوضاع الحجر الصحي، كانت استجابة طبيعية تدل عن مدى الحاجة الوجودية لدى الانسان إلى تراثه الثقافي، مؤكدة أن هذه المواد الرقمية ستساهم ولو بنسبة ما فيما أسمته بـ«التشافي العالمي».

مع الاشارة إلى أنه منذ بداية انتشار وباء "كورونا"، واكبت منظمة «اليونسكو»    الحدث العالمي بإصدار مجلة أسبوعية بعنوان «الثقافة وكوفيد 19» (CULTURE & COVID-19)، التي رصدت فيها تأثير الإغلاق على مختلف القطاعات الثقافية، بما في ذلك التراث الثقافي الذي أولت له أعداد المجلة أهمية خاصة.

ـ السياحة الافتراضية واستشراف نحو عالم «الميتافيرس»

من المؤكد أن السياحة الافتراضية حل بديل أملته أزمة الوباء العالمي، غير أن الإمكانيات الرهيبة التي أثبتتها الرقمنة منذ انتشار الوباء نبه إلى التفكير بعمق في مستقبل الإمكانيات التي توفرها التقنيات الرقمية الحديثة.

على سبيل المثال، ليس من الغريب أن تغير شركة «فيسبوك» اسمها إلى «ميتا»؛ كونه اسما يحيل إلى مصطلح تكنولوجي رقمي جديد هو «الميتافيرس»؛ على أن «عالم الميتافيرس» هذا، حسب ما يتوقع خبراء التكنلوجيا الرقمية، سائر في طريق قلب الواقع التكنلوجي الرقمي رأسا على عقب.

وعليه، فإن التقنية الرقمية الثلاثية الأبعاد العالية الجودة، التي تمت بها رقمنة المواقع الأثرية والمتاحف والمعارض الفنية، وإتاحتها على المنصات الرقمية للمستخدمين، تزامنا مع فترة الطوارئ الصحية التي استحال فيها التنقل والسفر، أثبتت عن جدارة أن العالم يسير حقا نحو توجه رقمي فائق سيغير حياة البشر كل التغيير. نظرا لكون هذه الجولات السياحية الافتراضية قد أتاحت للسياح الافتراضيين فرصة معاينة المواد الثقافية المرقمنة عن قرب، وتفحصها إلى الدرجة التي يتماهى فيها الزائر في تفاعله مع ما يشاهده تفاعلا شبيها بالتموقع الفيزيائي في عين المكان.

بالتالي، فإذا كانت هذه الجولات مجرد تجربة آنية أملتها صدفة أزمة كورونا، فإنها تساهم قصدا في التوجه نحو صياغة واقع سياحي تفاعلي جديد ينشق من رحاب عالم «الميتافيرس».

***

كاميليا الورداني

في المثقف اليوم