أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

الآن دقت ساعة الصفر طبول ندرة المياه تضرب في كل مكان، منابع عيون الماء تجف شهرا بعد شهر وأسبوعا بعد آخر، النهر الكبير كاد يتوقف عن الجريان، الأسماك فيه محاصرة بين بركة وأخرى، وقد حرمت من السفر عبره نزولا وصعودا، صخور النهر سارت مكشوفة، عارية، ليس هناك ما يحجبها من أعشاب وطحالب الماء. الذين لجأوا لتعويض النقص بحفر الآبار كثرت شكواهم نتيجة نقص حاد في الفرشة المائية، فكلما تسرب الماء إلى الأسفل، إلا وبادروا بزيادة عمق آبارهم، البعض منهم استنفذ جهده وتوقف عن الحفر. حفاري الآبار قلت حيلتهم، فقعر البئر الواحد اشدت ظلمته كثيرا، وقلّ بداخله الهواء، والدليل على ذلك أن شعلة الشمعة في قعر البئر لا تصمد طويلا وتنطفئ، وذلك دليل وحجة قاطعة بأن الهواء في قعر البئر غير كافي، ومن هذا الذي يختار أن يكون قعر البئر قبره.

الكلأ في براري الصحراء التي تلف الواحة من كل جانب، شحيح وقليل في هذا الموسم ، شجرة الطلح التي تخضر أورقها وتتفرع أشواكها لم تعد كما كانت، وقد اقتاتت الجمال على ما اخضر من أوراقها بما فيها الأشواك...الجمال تأكل كل أصناف الأشواك في الصحراء بدءا من أشواك الطلح وأشواك السدر وشوك السعدان وهو شوك يمتد على سطح الأرض، ويحول مساحة منها الى دوائر مغلقة، يعلق بداخلها من نزع حذاءه، فعندما يمشي المرء حافياً على الرمال التي تنمو فيها نباتات السّعدان المثمر تنغرس الأشواك في قدمه وتبقى ثابتة، ويحتاج نزعها لجهد ومشقة، القليل من الناس من يسقط في هذا الفخ في جانب من جنبات الصحراء، فأشوك السعدان تكون هي وأوراقها لينة في فصل الشتاء ولكن بعد فصل الربيع، تتحول إلى إبر ومسامير.

 ثمرة السعدان على شكل كويرة صغيرة الحجم تحيط بها رؤوس أشواك كثيرة، وقد ورد في الحديث " وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان"   مسكين نبات السعدان هذا وقد ضرب به المثل من أجل التشبيه وتقريب الصورة، والمفارقة أن اسمه قريب من السعد والسعادة، كامن من الأولى أن يكون اسمه شوك التعسان، ولكن رغم كل هذا فنبات السعدان مهم ومفيد في غذاء المواشي في فصل الشتاء والربيع، وهو نبات معروف في الطب التقليدي.

الجمال لا تنهزم أمام مختلف أشواك الصحراء، وهي تلتهمها بشكل سهل وبسيط، ولكن فصل الربيع هذه السنة لم يترك وراءه إلا القليل من أشواك مختلف النباتات، بعد أن تساقطت كل أزهارها، نتيجة قلة وندرة قطرات المطر، قطعان الجمال التي لا تكلف أصحابها شيئا، إلا أنهم يتبعوا حركتها وهي تجوب مختلف مراعي الأشواك، سار وضعها هذه الأيام متأزم، الجمال تجوب الشعاب ذهابا وإيابا وأعناقها على الأرض حينا وإلى السماء حينا آخر، دون فائدة، الكثير منها سار نحيف الجسم والبنية، وفصل الربيع هو فرصتها، الفرصة الوحيدة في السنة للكلأ الوفير... يا الله كل البوادر تنبئ بما لا يحمد عقباه.

إذا كان وضع فصل الربيع على هذه الحالة، فهو ينذر بفصل صيف شديد الحرارة، وبشدتها أكثر، تزداد برك الماء في النهر ضيقا وانكماشا على نفسها، الحيتان بداخلها تتجمع في دوائر متقاربة، مما يجعل صغارها فريسة سهلة أمام كبارها، الضفادع لها فرصة حياة أخرى في اليابسة، ستنغمس في كثبان الرمال جانب الوادي، وهي تبذل جهدا جهيدا لتتقمص حياة السحلية (أبو بريص) إنها مغامرة صعبة، أن تنتقل من قعر بركة ماء تسمح داخلها كما تريد، وتقفز بين نقطة وأخرى... وإذا بها داخل جوف كومة عالية من الرمال...إنها مغامرة من أجل البقاء.

جريد النخل يفقد لونه الأخضر ويميل الى اللون البني، لا أثر لجداول الماء التي تخترق الواحة طولا وعرضا، الطيور التي اعتادت على أن تبلل ريشها لتقي نفسها شدة الحر، بالكاد تجد الماء الذي تشربه. جوف الواحة وسط النهار بعد الظهيرة يخلو من المارة، إلا للضرورة، الكل يبحث عن مكان يقيه شدة الحر. حرارة الصيف تنبئ مرة أخرى بخريف جاف، تمسك فيه السماء قطرات مائها، وتزداد حاجة الأرض والنبات إلى الغيت أكثر من السابق.

قبل الصيف تم حصاد القليل من سنابل الزرع والقمح، التي لم يثمر إلا القليل منها، وكل أمل أهل الواحة في الموسم القادم من الحصاد، وقد أخذ الشك البعض منهم، إلى درجة التنبؤ بأن هذا هو آخر موسم حصاد مثمر، فالقادم سيكون أسوأ، ومنهم من يمتلكه أمل كبير، بأن القادم سيكون أفضل، والكثير منهم، يقضي يومه ولا يفكر في غده كيف سيكون. 

موسم الحصاد له طقوس وعادات وتقاليد، فقبله بأشهر يعد أهل الواحة شباكهم، وهي من صناعة محلية، إذ تفتل من سعف النخيل، المختار من أنواع خاصة من جريدة النخيل، أو من سعف جذع النخيل، ذو اللون البني، ويسمى بـ(لفدام) وهو عبارة عن صفائح خشنة تلف جذع النخلة، والكثير من أنواع النخيل يستغني عنها، كلما ازداد طولا.

الشباك أنواع، منها الكبيرة الحجم للبغال والصغيرة والمتوسطة الحجم للحمير، تلقى بداخلها كمية كبيرة من سنابل القمح أو الزرع... وتحزم، ويرفعها أربعة أو ستة رجال شداد على ظهر الدابة، ويتركوا واحدا منهم لمواجهة مصيره طول الطريق الضيقة والوعرة، وهو يخطوا خطواته بحذر وهو إلى الوراء من جهة الجانب الأيسر للدابة، ماسك بالشباك على ظهرها، ومتحكما في طبيعة تأرجح الشباك يمينا ويسارا، في كامل الاحتياط بألا يميل ميلة واحدة إلى اليسار أو إلى اليمين، وإن حدث ذلك، فسيسقط الشباك على الأرض. وربما أن الدابة ستهرب ظنا منها أنها تخلصت من عبئ ثقل كبير. فأول ما ينبغي أن تحتاط منه، عندما تخسر الرهان، ويميل الشباك ميلة واحدة يمينا أو يسارا، ويأتي على الأرض، أن تمسك بالحبل جيدا حتى لا تهرب الدابة وتتخلى عنك، وتتركك وحيدا في منتصف الطريق، تحدق في الشباك وكومة سنابل الزرع بداخلة وهي محكومة بالحبال من كل جانب.

 كيف ستكون حالتك وأنت على هذه الحال؟ إنه إحساس بالخيبة، تضرب كفا بكف، تمسح قطرات عرق جبينك، تبسق على الأرض، تلعن الزمن، تحضرك لحظات ومواقف من خيبة الأمل التي عشتها مثل هذه، كان كل أملك أن تبرهن للأسرة ولأقرانك ولكل أهل الواحة، بأنه يعول عليك، وبأنك قادر على أن تصل إلى الهدف، والهدف في هذه الحالة يبدأ من الحقل والشباك قد رفع على ظهر الدابة، وينتهي بالبيدر الذي لازال بعيدا. ما هذا الحظ التعيس، قد يقولون عنك بأنه ليس من ورائك فائدة، أنت لست مثل أقرانك الأفذاذ من أهل الواحة... كثيرة هي الإيحاءات التي تسيطر عليك وأنت على هذه الحال... لكن عندما تخطو بعض الخطوات في جنبات المكان، وإذا بك تسمع صدى صوت بعض الحيوانات نهيق حمار، خوار بقرة... وبعدها يعم صمت رهيب تكسره زقزقة العصافير... تلتفت يمينا ويسارا حيث لا يذهب بصرك بعيدا وأنت في غابة من النخيل، تنسى مشكلتك التي أنت فيها، ولا يهمك كيف سيكون الحل...فالذي أنت متأكد منه أنها مشكلة بسيطة حلت بيومك، أضفها إلى التي سبقت، هكذا هي الحياة.

كان عليك أن تحكم الحبل وتمنع  الدابة من الهرب، فأنت الآن بين خيارين، كلاهما سيجلب لك سخرية أهل الواحدة، إن تبعت الدابة تجري من ورائها سيسخرون منك كثيرا... ويتهامسون فيما بينهم، هذا شاب لا خبرة لديه، دابته تجري وهو يجري من ورائها، رجل فارق عقله واستحوذت عليه دابته، أنظروا إنها تفعل به ما تريد، لا خبرة لديه في ترويض الدواب، ذوي الخبرة والترويض الصحيح، لا تواجههم هذه المواقف... قد تجد من يعترض دابتك ويساعدك على الإمساك بها، ولكن كن على أتم الاستعداد لأنه سيسخر منك قليلا أو كثيرا، هناك الكثير ممن يساعدك ويقف معك بجد، دون سخرية، إلا أنه يحتفظ بسخريته لمكان آخر، وإلى لقاء آخر، قد يأتي وقد لا يأتي.

أما إن استسلمت وجلست إلى جانب شباك الزرع، وتركت الدابة هاربة لوحدها، فتلك هي السخرية بعينها. فالمارة في الطريق، تلك هي فرصتهم للتصريح بموقف مساعدتهم لك مع وقف التنقيد، يا الله بإمكاننا مساعدتك، ولكن مع الأسف دابتك هربت...وماذا عساك تفعل الآن... حدثنا كيف حدث لك هذا؟  ما كان على الشباب أن يقع على الأرض بهذه الطريقة! هل أخذتك غفوة نوم؟ أين كان عقلك؟ هل هي حالة سهو؟ ومن هذه التي أخذت عقلك؟ وهل ستبقى تنتظر دابتك لتعود إليك من تلقاء نفسها؟ أترك الشباك وأتبعها...كان الله في عونك...

أمام كثرة الأسئلة تجد نفسك عاجز عن الجواب، أي جواب أختار، هل ألقي باللوم على نفسي؟ أم ألقيه اللوم على الدابة بكونها تعثرت وسقطت ووقع ما وقع؟ بالإمكان أن ألفق لها التهمة، الكل يفعل هذا، فالجميع عند عجزهم يلقون باللوم على الآخرين، الكل يبعد المسؤولية عن نفسه في كل ما هو غير مرغوب فيه، وفي الوقت ذاته يدعي لنفسه كل ما يعلي من شأنها. أليس الناس على هذه الحال إلا النادر منهم؟

أهل الواحة يحبون السخرية كثيرا، فالسخرية لديهم جزء من حياتهم اليومية، فالكبار يسخرون من الصغار في حضرتهم، والصغار يسخرون من الكبار في غيابهم، وكل ذلك بهدف الفسحة والمرح، السخرية خطاب يجلب معه مختلف الألقاب والأمثلة، ومختلف أنواع الكناية والمجاز والتشبيه، السخرية عند أهل الواحة ليست بهدف الحط من قيمة الأفراد واحتقارهم، إنها جزء من اللغة والخطاب والتواصل بين الناس.

 والغريب أن الحياة بدورها اعتادت أن تسخر من أهل الواحة، فما تمنحهم إياه هذا الموسم، تأخذه منهم بالكامل في الموسم الآخر، والحقيقة أن الحياة لا تسخر من أهل الواحة من زاوية أنها تحتقرهم، أو أنها ترى غيرهم أفضل منهم، ولكن ذلك من باب أن أهل الواحة يشملهم قانون الصحراء، فالماء في الصحراء موضوع للسخرية.

فعندما تكون عند الظهيرة وسط النهار المشمس، في طريقك بين الشعاب وكتبان الرمال، يظهر لك في الأفق القريب متسع من الزرقة، وتقول في نفسك إنها بحيرة ماء، وتقصدها فرحا، وكلما أسرعت في الطريق إلا وابتعدت عليك تلك الزرقة، كلما اقتربت وإلا ابتعدت عنك، هذا هو السراب، إنها سخرية الصحراء التي حولت موضوع الحاجة إلى الماء إلى موضوع سخرية نتيجة فقدانه واشتياقها إليه. أما الضباب في الصحراء فهو في سخرية دائمة وهو يطوف أعلى السماء من مكان إلى آخر، وناذرا ما يتحول إلى مطر، أهل الواحة تعودوا على سخرية الضباب وهم يرونه بين الحين والآخر، ويدخلون في جدل عقيم فيما بينهم، إنها ستمطر، إنها عابرة فهي تسخر منكم كعادتها، وقد يحجب الضباب أشعة الشمس لوقت طويل، وبدل سقوط قطرات المطر، تحل محلها هبوب الرياح حاملة معها غبار الواحة ورمال الصحراء.

... يتبع....

***

بقلم/ د. صابر مولاي أحمد

كان دائم التحليق لا يتوقف في اجوائه الراقصة الا ليستأنف تحليقاته اللافتة، وكان ينتقل من زمان إلى مكان وكأنما هو يُشهد احدهما على وجود الآخر، وذلك في رحلة شك قصدت اليقين منذ خطواتها المبكرة الاولى في سديم غير مرئي وعالم اوضح ما يكون فيه مضببٌ خفيّ. بقي يتابع هوايته هذه في تحليقه الزمانيّ.. المكانيّ حتى اللحظات الاخيرة عندما شعر بوخز في وجوده.. في البداية لم يعر وخزه هذا اهتمامًا يذكر.. وبقي محافظا على عدم اكتراثه ذاك حتى لاحظ ما هو فيه احد مرافقيه في رحلته التحليقية اليومية، فهمس في اذنه طالبًا منه ان يتوجه إلى طبيبه.. فالأمر على ما يبدو ليس عاديًا كما خيل إليه.. عندها غامت الدنيا في عينيه وتفاقم وخزه.. ولم يكن امامه سوى ان يتوجه إلى طبيبه لتبدأ رحلته نحو النهاية. اربعة اشهر من المعاناة اليومية، اختتمها بالكتابة عبر الفيسبوك إلى احد اصدقائه الشعراء قائلًا: انني اعاني كل لحظة. اطلب من الله ان يضع حدًا لآلامي هذه.. لارتاح قليلًا.. لا اعرف ما اذا كان صديقه قد استجاب له وطلب له ما اراده.. غير ان ما حدث هو ان قلبه الخفاق توقف عن نبضه الدافئ.. وجاءت إليه النهاية ذات لحظة مؤلمة واضعةً حدًا لما عاناه من مواجع.

تعرد علاقتي بالفنان زياد ابو السعود الظاهر (1946- السبت 16/ 7/ 2021)، إلى سنوات بعيدة موغلة في البعد، الامر الذي يُصعّب عليّ تذكر بداياتها الاولى.. منذ كان شارع شهاب الدين في بلدتنا الحبيبة المشتركة، كانت هذه العلاقة. لا اعلم ربما ابتدأت بهزة راس من احدنا هو المهندس الفنان، عاشق التاريخ والوارث الامين لأجداده.. الشيخ ظاهر العمر واحفاده، ومستحضرًا اياه من اعماق التخييل والواقع، ليرسمه كما استمع من الآباء والاجداد وكما قرأ عنه في هذا الكتاب ذي الاوراق الصفراء المهترئة او ذاك، لقد لحقت فتنة الماضي وروعة الارث به فراح يضع الرسمة تلو الاخرى لجده العظيم وباعث الروح القومية ابان الاستعمار التركي لبلادنا، الشيخ ظاهر العمر، وزعيم عائلته، فسعى طوال ايام حياته المديدة نوعا ما ( عاش زياد 75 عاما)، لتثبيت الذاكرة عبر ادوات الرسم من قماش " كنفس".. ريش والوان، وقد لفت صنيعُه هذا انظار كل من همه الامر.. ابتداء من الكاتب ابراهيم نصرالله صاحب "قناديل ملك الجليل"، انتهاء بالعديد من الباحثين والدارسين المعنيين، مرورًا بأهال من بلدته والبلاد عامة، فسرت في شوارع الحاضر همسة تنبئ الجميع بما سعى اليه وقام به، الامر الذي ملاه بالنشوة ودفعه للمواصلة حد الزهو.. فهل هناك في العالم اروع من ان ترى رد فعل ما قُمتَ وتقوم به اولًا بأول؟

رسوماته هذه شجّعته على المضي في طريق البحث والاكتشاف وحضّته على التعمق في تاريخ اهالي بلدته مَنْ هُم من اين جاؤوا وما هي اسرارهم وانتماءاتهم، وما إلى هذه من اسئلة، ابتدأ بوضعها طيب الذكر القس اسعد منصور في كتابه المرجع الشهير عن الناصرة وعائلاتها، ولم يتوقف هنا وعند هذا وانما تجاوزه مستثمرًا مسطرته الهندسية وريشته الفنية، ليقوم بفعلٍ لافتٍ هو رسم شجرة العائلة لهذه العائلة او تلك، وهكذا انفتح باب آخر من ابواب الوجود واسراره في مغائر بلدته المقدسة ودهاليزها المغلقة.. فبعد ان فتح باب التركة الرائعة للظاهر عمر، ها هو يفتح باب الانساب العائلية في البلدة المقدّسة، وها هو يجمع المجد من اطرافه كما رأى مهيار الديلمي في قصيدته الخالدة، فيؤصل لوجوده وينتقل بعد ذلك ليؤصل لوجود ابناء بلدته مصرًا على عمق الوجود واصالة المحتد. وكنتَ انت صديقه الكاتب ترقبه اولًا من بعيد وبعد ذلك من قريب، متنقلًا من معرض فني إلى آخر ومن محاضرة عن العائلات واصولها، اشجارًا وفروعًا، يتنقل تنقل طائر محكي من بلدة إلى أخرى ومن قاعة إلى سواها، عارضًا وراويًا وكلُّ دينه وديدنه ان يقدّم شيئًا للرواية العربية الفلسطينية المهددة بالغياب والاندثار ما لم يكن هناك حول اسوارها خفر وحراس.

انك ترقبه في هذا كله تتابعه بصمت المحب وامل العاشق، فتسعى وراءه " ع الدعسة"، تشاهد ما يعرضه من صور لجدّه الاول الشيخ ظاهر العمر الزيداني، ولكل الاماكن التي ابتناها في طول البلاد وعرضها، مثل الناصرة شفاعمرو وعرابة البطوف.. ها انت تكتشف انك صرت شاهدًا على ولادة تاريخ وتراث من نوعين اخرين، فتسعى إليه لتكتب عنه ماجدًا وسليلًا لتاريخ تليد. كتابتك هذه عنه تثلج صدره ويرى فيها تتمةً لما ابتغاه من ردة فعل على ما قام به عطاء ثرٍّ غني.. وتندمج تلك الكتابةُ بغيرها من الكتابات المماثلة عنه وعن رحلته مع التاريخ تركةً وعائلةً، وتتوطد العلاقة بينك وبينه لتشمل العديد من النقرات على بابه المغلق دائمًا وابدًا، ولينفتح ذلك الباب لتستأنفا معًا رحلة ابتدأت ولم تنتهِ..

الآن وقد انطوت هذه الصفحة المعبّرة والمؤثرة في حياتك الخاصة وحياة بلدتك العامة، بإمكانك ان تقول ذهب زياد.. مضى في طريقه الابدي وانك لن تلتقي به بعد.. لا في شارع شهاب الدين ولا في غيره من شوارع بلدتك الدافئة.. لا في هذا المعرض ولا في تلك المحاضرة وانك حتى لو دققت على بابه المغلق الفَ دقةٍ ودقة فإنه لن يفتح لاستقبالك الرائع الماتع.. وسوف يبقى صامتًا.. اصمَ واخرسَ.. عندها ستتوجّه إلى ما خلّفه صديقك الراحل زياد ابو السعود الظاهر.. من اثر توزّع على اللوحة والكلمة.. لتتأكد من ان مَن ترك وراءه اثرًا.. كما ترك هو.. لا يموت..

***

كتب: ناجي ظاهر

 

المدينة تطورُ الإنسان، اللغة، لا للأحكام النمطية!

المدينة تُطوّرُ الإنسان: هنا يجب أن يُلقى اللوم بالذات على المجتمع نفسه في عدم تطور أفراده بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والإثنية، مثل اللاجئين الجدد، فمقولة "المدينة تطورُ الإنسان" يجب أن تعطي ثمارها ونتائجها الإيجابية وإلا فالخلل ليس بالغرباء فحسب إن لم "يندمجوا" أو يتكيّفوا للبلدان الجديدة التي انتقلوا إليها لاجئين هاربين من "أوطانهم" أو مغتربين بتأشيرات رسمية لغرض العمل.

هنا تتحمل مؤسسات المجتمع مسؤوليتها تجاه مواطنيها "الجُدد" كما تسمّيهم في القواميس والقوانين، ورعاية أبنائهم  من الصغر وتأمين تربيتهم وتعليمهم، ولا يجدي التشهير بهم في الإعلام بحجة "ثقافتهم الأخرى". صحيح هناك قلّة صغيرة من اللاجئين القادمين من الأرياف ممّن كانوا يقولون في بداية قدومهم إلى بلدان اللجوء قبل أكثر من ثلاثة عقود: "كيف نربي أطفالنا بدون الضرب؟"، لكن الحال تغير نحو الأفضل بالتدريج بازدياد الوعي، لا سيما أنهم صاروا يعرفون أن الضرب ممنوع قانونياً، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة. 

وصارت وسائل الاتصال الجماهيري والاجتماعي والإنترنيت ذات حدّين، المفروض أن تلعب دوراً كبيراً للغاية في نشر الثقافات والاطلاع  على الآخر وبالتالي تقارب الشعوب، لكنها مع الأسف عملت عكس ذلك في عدة حالات.

هنا شَعرَ العربُ والمسلمون أنهم مستهدفون من قبل وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي منذ سقوط الشيوعية حتى اليوم، وانتشرت القاعدة والمنظمات المسلحة الإسلامية الأصولية والمتشددة والمتطرفة كردِّ فعل على الشعور بالظلم، وطبعاً ظهرت الإسلامفوبيا كنتيجة لتسميم الأجواء.

إن هذه الظروف غير المستقرة المتميزة بالانقلابات العسكرية والحروب الخارجية والعنف وفتاوى الجهاد في أفغانستان ومن ثم في العراق بعد احتلاله من قبل الأميركان، ثم ظهور الدولة الإسلامية أدت بالتأكيد إلى انخراط أعداد كبيرة من الشباب في الإسلام السياسي.

وصُوّرتْ الثقافة العربية على أنها سلبية إرهابية أو عدوانية و"عنفية" بسبب سلوك بعض اللاجئين العرب هنا وهناك، وطرق حل الخلافات العائلية، وتعدد الزوجات وامتهان المرأة، وختان الإناث وضرب الأطفال، في حين أن العرب يقولون عن تربية الأطفال: "لاعبهم سبعاً، علمهم سبعاً، وصاحبهم سبعاً". بغض النظر عمّن هو قائل هذا الكلام الحكيم، مع ذلك أنه جزء من ثقافة العرب والمسلمين منذ قرون، ورغم أن اولياء الأمور يحبّون اطفالهم بالفطرة، لكن ليس بالضرورة أنهم جميعاً يأخذون به، إذ إنَّ هذا السلوك يعتمد على ظروف الإنسان، بالذات اللاجىء أو المغترب ومستواه الثقافي وفئته الاجتماعية التي ينحدر منها.

وهناك تعميمات "غربية" عن الثقافة العربية، مثل: التزمّت الديني والمحرمات و"رقابة المجتمع على الفرد" سوشيال كونترول، حيث تتناقص حريته في المجتمع كلما كبر في السن. وإن الثقافة العربية لا تهتم بالتواصل البصري مع الرُضّع ولا تشجع الأطفال على "التواصل  بالعين"، والعرب يمشون مطأطئين رؤوسهم يغضون نظرهم عن الناس بسبب تربيتهم  الاجتماعية والدينية (حسب فهمهم) كما ورد في القرآن: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ. النور: الآية 30 - 31. 

هذه أمور نسبية ولا تخلو من المبالغات، فمن الصعب تصنيف البشر بهذه الطريقة، إضافة إلى أنها تفسّر بطريقة إيجابية عند العرب والشرقيين عموماً، فلكل مجموعة إثنية ثقافتها الخاصة بها.

وإن العرب والمسلمين يقتلون المثليين، ويمارسون "غسل العار" هنا وهناك أحياناً، قد يكون هذا صحيحاً مع الأسف الشديد، لكن مع ذلك ليس دائماً، والمثليون موجودون منذ القدم في المجتمعات العربية وثقافتهم، ولا يمكن إنكار ظاهرتهم، وهناك شِعر "الغزل بالغلمان"، لكن ثقافة العرب لا تتقبّل فكرة الاعتراف بهم قانونياً وإعطائهم حقوقهم كما حدثَ في الغرب، لكن بعد فترة طويلة من القهر والقتل، ولا يشجعونهم على تغيير جنسهم.

الشيء نفسه يقال عن الحديث عن الأمور الجنسية مع الأطفال مثلاً، ولا اعتقد كل هذه القضايا التربوية تطورت في الثقافة العربية الآن، بل تحتاج إلى  تغييرات مجتمعية.

أنا شخصياً التقيتُ بآباء غربيين لا يستطيعون الحديث مع أبنائهم عن الجنس، ولا أريد هنا ان أبدو كأني مدافع عن الثقافة العربية بأي ثمن، أو أرسم صورةً ورديةً عنها، لكن يجب أن لا نأخذ هذه الأمور بشكل حرفي وبمعزل عن البيئة الاجتماعية فالريف يختلف عن المدينة ومستوى تعليم الأفراد يحدّد أحياناً تنوع ثقافاتهم ومستوياتهم ويميّزهم عن الآخرين.

أغلب ما ذكرته أعلاه ليس مقتصراً على الثقافة العربية فحسب، بل يشمل ايضاً بعض الثقافات الأخرى ففي النيبال مثلاً هناك تعدد الأزواج الأشقاء لزوجة واحدة، تتزوج المرأة شقيقين لحفظ الميراث، أو لجميع أشقّاء الزوج الأول كما معمول به في بعض القرى الهندوسية، وهو ما يرفضه اليهود والنصارى والمسلمون. وفي أعرق الديمقراطيات الغربية يُمارَس العنف والاستغلال الجنسي ضد النساء والأطفال حتى في بعض مراكز المطلّقات المغلقة رغم الحداثة والعولمة والقوانين المدنية.

وقد اشارت الكاتبة والروائية الفرنسية الهندية كينيزي مراد Kenizé Mourad إلى التصوير النمطي بالأسود والأبيض من قبل الإعلام الغربي للمجتمعات الشرقية والمسلمة، والتركيز على مظاهر العنف في ثقافتها أكثر من الإيجابية.

ولا بد من القول إن الثقافة العربية مثلاً مليئة بأغاني الحب والغرام وقصص شهرزاد لشهريار في ألف ليلة وليلة وأقوال المحبة ومفردات العفو والتسامح والصدق، ومع ذلك هناك أخيار وأشرار وعنف وقسوة كما هو الحال في الثقافات الأخرى.

ويكفي هنا أن أذكّر بشاعر الحكمة قبل الإسلام زهير بن أبي سلمى الذي نبذ الحرب:

وما الحرب إلا ما علمتم وذُقتمُ  

 وماهو عنها بالحديث المرجّمِ

*

متى تبعوثها تبعثوها ذميمةً 

      وتضرَ إذا ضرّيتموها فتُضرمِ

إن طريقة ضرب الأطفال أستُخدِمتْ سابقاً في مختلف الثقافات بما فيها الدنمركية، ويكفينا أن نشاهد الأفلام الدنمركية القديمة لنجد أوجه شبه مشتركة مع بعض الأفلام العربية والثقافة العربية. نفس الأمر يُقال عن تعامل مختلف الثقافات مع المرأة، ومع ذلك فإن الثقافة العربية تتميز باقوال تراثية إيجابية ورائعة عن المرأة، "الجنة تحت أقدام الأمهات، و"أمهات الكتب"، وكتابات التنويري المسلم الشيخ رفاعه الطهطاوي، وكتاب "تحرير المرأة" للكاتب العلماني المشهور قاسم أمين، وقول شاعر النيل العربي الحديث حافظ إبراهيم:

الأم مدرسة إن أعددتها   

  أعددت شعباً طيب الأعراق

وقد يكون من المفيد هنا الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى مجلة "المعلم الجديد" العراقية كانت منذ الستينات والسبعينات تدعو إلى نبذ العنف وضرب التلاميذ والثقافة القديمة، لكن عدم الاستقرار السياسي في البلد أعاق ويعيق التطور الثقافي.

المشكلة أن التنويرية العربية (اليقظة) كانت "عرجاء" كونها لم تكن نتيجة التطور الاقتصادي ولم تشمل المجتمع كله، بل اقتصرت على المتعلمين والمتنورين، ولا تُطبق في دولها  العربية القوانين المدنية بسبب المحسوبية والمنسوبية وهشاشة المؤسسات القضائية بالذات في الريف، وانعدام منظمات المجتمع المدني والصحافة الحرة ودَمَقرَطَةِ المجتمع. هذه هي عملياً الفوارق الجوهرية بين الثقافة العربية والغربية.

بعد الاحتلال الأميركي للعراق أصبح الحكم بيد الأحزاب الدينية والطائفية منها بالذات، أو بالأحرى المتاجِرة بالدين، وتأسست جمعيات كثيرة باسم  المجتمع المدني، لكن أغلبها وهمية أو مستَغَلَّة من قبل أحزاب السلطات، وشاعت ثقافة الفساد، وهو ما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشمولية مثل ألبانيا وبولونيا وحتى تركيا كما ترى الباحثة جيني وايت.

White. Jenny B. Civil Culture and Islam. London 1996

هذا ما توصلتُ له في بحثي المكرس ل "منطمات المجتمع المدني في العراق بعد الاحتلال الأميركي"، ضمن مادة "فهم المجتمع ثقافياً"، في جامعة كوبنهاجن. السبب في هذا الخلل يكمن طبعاً في أن التطورلم يحصل بشكل طبيعي وبدون تدخل خارجي أو احتلال.

وإن العرب والمسلمين يقيمون في بقعة جغرافية مليئة بالصراعات والحروب، ولهذا لم يحصل فيها أي استقرار من شأنه أن يؤدي إلى تطور اقتصادي وبناء مؤسسات دولة مستقرة دائمة التطور كما هو الحال في اوروبا.

 وهنا قد يظهر تساؤل: لماذا إذن هذه الحروب المتعددة بين بعض البلدان والشعوب بحيث تظهر كأنها تجسد سمفونية العداوات والاحقاد بين قوميات واديان وطوائف وثقافات مختلفة كثرت منذ سقوط الاتحاد السوفييتي حتى يومنا الحاضر، والإجابة على ذلك طبعاً هو أنها لم تكن لتحدث لولا المصالح الاقتصادية وصراع الدول القوية وتدخلها في شؤون الآخرين حسب أطماعها.

فمن المؤسف أن موطن العرب الجغرافي يقع ضمن مناطق مهمة فخضعوا لسيطرة إمبراطوريات الفرس والروم، ولم يكن ظهور الإسلام بدون خلافات وحروب بين العرب أنفسهم، ثم مع الأديان والدول الأخرى، بمن فيها الأوربية فحدثت الحروب الصليبية،  والشرق الأوسط  اليوم بؤرة خلافات وصراعات عالمية بسبب موقعه وثرواته النفطية.

من الضروري أن نذكر هنا الباحث الاجتماعي الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز المعروف بكتبه "تأويل الثقافات" و"الإسلام ملاحَظاً" قدم تحليلاً دقيقاً لدور الإسلام في ثقافة دول مثل اندينوسيا وجاوه والمغرب، واختلافه في هذه البلدان عن غيرها تبعاً لثقافاتها القديمة قبل الإسلام.

Islam Observed. Clifford Geertz

كانت هناك حالة عداء تاريخي بين المسلمين والأوروبيين تُوجتْ بالحروب الصليبية، وتكونت في الغرب أحكام نمطية سلبية عن ثقافة العرب والمسلمين، ومع ذلك سنحت لي الفرصة لألتقي بالعديد من الدنمركيين المتعلمين ممن لهم نظرة إيجابية عنها، أتذكر على سبيل المثال لا الحصر عازف الجاز الدنمركي جون تشيكاي، فاجئني بإعجابه الشديد بالغناء الشرقي وبالذات بسيدة الشرق أم كلثوم، وعندما أبديت "استغرابي" مستفزّاً له، وأنه قد يجاملني؟ أكد لي صدق أحاسيسه وتذوق غنائها، وأنه مستعد لسماعها لفترة طويلة رغم أنه لا يفهم العربية.

اللغة:

اللغة مظهر مهم من مظاهر الثقافة، فالكويتيون، مثلاً، يتكلمون نفس اللغة مع العراقيين وبلهجة قريبة ولهم نفس طريقة السخرية والمزاح وكانت شاعرتهم المشهورة الأميرة سعاد الصباح تكرس قصائدها الغزلية "لبطلها" صدام حسين أثناء حكمه وحرب السنوات الثماني العجاف، بينما كان العراقيون يموتون في هذه المحرقة، لكنه احتلَّ بلادَها وأحدث شرخاً كبيراً بين الشعبين بقيت آثاره حتى وقتنا الحاضر، ولولا ثقافتهما المشتركة رغم الفوارق لكان من الصعب جداً، بل المستحيل رأب الصدع تماماً بينهما.

لكن ما تبقى من "الاحترام" المتبادل بين الشعبين الكويتي والعراقي من خلال الفهم الثقافي للمجتمعين والابتعاد عن العنجهية  واحتقار الآخر، يمكن أن يعوض الخسارة الكبيرة وإزالة سوء الفهم بينهما بسبب الاحتلال. وتلعب هنا اللهجة المشتركة بين الشعبين وطرق السخرية والفعاليات الثقافية والنتاجات الأدبية والمسرحية وبالذات الكوميدية والفنية المشتركة دوراً كبيراً في إبراز التقارب الثقافي ولمنع تكرار الحرب.

أكتب هذه السطور وافكر الآن بالحرب القائمة هذه الأيام بين الشعبين الأوكراني والروسي اللذين يتكلمان بلغتين سلافيتين متشابهتين جداً باستثناء غرب اوكرانيا، وبالذات مدينة "الفوف"، التي يلفظها الأوكرانيون بفخر "الفيف"!

اللغة تقرب الشعوب وتوسع معارف الإنسان ومداركه وتجعله أكثر انفتاحاً على ثقافات الشعوب، "الكلمة الطيبة صدقة" كما يقول الرسول محمد والعرب عامّةً، فهي جزء من ثقافة المجاملات والمعاملات التجارية أيضاً عند كل الشعوب، وأسلوب التخاطب مع الآخرين باحترام.

وكذلك يقول الشاعر الدنمركي أووفه هاردرUffe Harder :  في قصيدته "استرجعوا الكلمة، استرجعوا اللغةَ":

باللغة يستطيع المرء أن يرسلَ إشارات إلى مسافات بعيدة،

اللغةُ هي ايضاً الطريقة التي يفكر المرء بها.

عندما تنكمش اللغة ينكمش الواقع.

وعندما "ينكمش الواقع" بالنسبة للعنصريين، أو لضيّقي الأفق من الطرفين، وعابسي الوجوه، يحصل خلل في فهم الآخر وينتهي أو يتوقف الحوار، ويؤثّر سلباً على المهمشين حتى من أهل البلد الأصليين، وطبعاً بالذات من اللاجئين والمغتربين في المجتمع لأنهم الفئة الأضعف في بداية إقامتهم في بلد اللجوء الجديد، فإن لغتهم يقل استخدامها وتضيق فرصهم فيه. فتعلّمُ لغاتِ الآخرين تقرب البشر بعضهم بعضا (من المواطنين الأصليين واللاجئين) وتسهل اندماجهم معاً وتزيد التعرف على ثقافاتهم المتنوعة والاطلاع عليها عن قرب والتخلّي عن النظرة الفوقية، وبالتالي يتحقق التفاهم بين الناس من مختلف الثقافات.

وقد قالت العرب "من تعلّمَ لغة قوم أمِنَ مكرَهم!".

ويقول الشاعر العربي صفي الدين الحلي:

تهافت على حفظ اللغات مجاهداً       

  فكل لسان في الحقيقة إنسانُ

الغرباء لا يُقبلون على تعلم لغة الموطن الجديد بدون حوافز مادية ومعنوية وشعورهم بالمقبولية والترحيب في المجتمع الجديد وسوق العمل. هذا من شأنه ان يقلص الفجوة بين مواطني البلد الواحد، "الأكثرية" تتخلّى عن أحكامها المسبقة النمطية كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، وتنفتح على "ثقافة الأقلية" ولا تخاف منها، وبهذا يتم التخلص من ظاهرة "نحنُ" و "هُمْ" من خلال الاندماج بثقافة مجتمع ديمقراطي يحترم الجميع. وهنا يجب التركيز على الاندماج وليس التماهي أو الذوبان والانحلال! فالاختلاف في الرأي ثروة وغنى للمجتمع وليس خلافاً!

السفر يلعب دورا كبيراً في التعرف على الشعوب، تحضرني هنا قصة طريفه ذكرها لي أحد المغتربين، حدثت معه في ايام شبابه، كما يقول، في محطة قطارات صوفيا عاصمة بلغاريا، حيث كان يسأل الناس فيما إذا كان  القطار الواقف سيتجه إلى روما التي رغب السفر إليها، فكان جوابهم محيراً له، يهزون رؤوسهم يميناً ويساراً كأنهم يعنون "لا"!

في النهاية أنقذته لغته الروسية التي يفهونها، وقالوا له: نعم!

ففهمَ فيما بعد أنهم بالعكس يقصدون بهذه الحركة "نعم"، بينما طأطأة الرأس تعني "لا"!  هذه الإيماءة والإشارة بتحريك الرأس بهذا الشكل جزءٌ من الثقافة البلغارية.

حتى حركاتِ الناس والإيماءات والنبرات أثناء الحديث جزءٌ من ثقافة الشعوب! 

وقد تُسبّبُ سوء الفهم، ونفس الشيء يقال عن بعض المفردات ضمن نفس اللغة أو عدة لغات، فقد تكون عادية عند بعضهم لكنها قد تُستعمل كشتيمة في لغة أخرى!

والعياذ بالله من الشتائم وسوء الفهم والتفاهم!

***

د. زهير ياسين شليبه

القسم الأول: الطعام والثقافات، شيء عن مصطلح الثقافة

الطعام والثقافات: الثقافة هي السلوك والعادات والطقوس وطريقة التعامل مع الآخرين، وطبعاً الطعام، العراقيون مشهورون بقطع السمكة من ظهرها وشواء السمك المسقوف، ويعرّضون باطنها إلى النار حتى تستوي وتكون لذيذة، وفخورون طبعاً بها، منهم من يعتبرها مستمدة من حضاراتهم القديمة.

كانت بغداد مشهورةً منذ السبعينات بمطاعم متخصصة بشواء السمك الطازج "المسقوف"، وباراتها وحاناتها ومقاهيها على شارع أبي نواس الكائن على شاطئ دجله. هذه المشهد كان جزءاً من ثقاقة بعض البغداديين وسكان المدن الكبيرة بالذات.

لكن الصورة تغيرت بسبب الحروب والحصار الذي تعرض له العراق لأكثر من عقد من السنوات، وأخيرا الاحتلال الأميركي عام  2003 وسيطرة قوى سياسية دينية، والحرب الأهلية والإرهاب، وعادت تقريباً في الآونة الأخيرة بسبب تحسن الأوضاع الأمنية.

العراقيون يتغنون بأسماك الأنهار، في حين أنها مبذولة ورخيصة لا قيمة لها في بلدان أخرى مثل المغرب لأن الناس هناك لا يستطعمونها، يسمونها "سمك الواد"، يعني النهري ويفضلون البحري عليها. ثقافة اكلات السمك مختلفة عند الشعبين المغربي والعراقي، الأول بحري والثاني نهري رغم انتمائهما إلى ثقافة عامة: عرب وبربر مسلمين.

قال لي أحد العراقيين المغتربين المخضرمين:

أنا حالياً أفضل السلمون على الأسماك النهرية العراقية، التي تذكرني بطفولتي وثقافتي، لكن الآن تغيّرت الأذواق ولم أعد أميل لها بعد سنين طويلة من الغربة، يجب أن أكون جائعاً جداً حتى أستذوقها.

قلت ذلك لأحد العراقيين الجدد من الذين كنت أترجم له، فاجأني، قال مازحاً "أنت مو عراقي، انت خائن!"، لكنه أُصيب هو ايضا بنفس "الداء" بعد عقد من السنين قضاها في بلده الجديد الدنمرك، وصار "يموت" على السلمون! يبدو أن السلمون دخل في ثقافته واندمجَ في المجتمع الدنمركي!

لكنه "برّرَ" هذا الأمر قائلاً : "إن السمك النهري العراقي مثل "البُنّي"، ليس بالضبط نفس "الكارب" الذي نحصل عليه هنا في الدنمرك، وأن أغلبه سمك أحواض! في الحقيقة حتى في العراق تغير طعمه، ساءت جودته مقارنةً بأيام زمان، يقولون لأن نهر دجلة امتلأ بجثث القتلى في الحرب الأهلية! كل شيء صار خراباً عندنا!".

لكني أقول، (والكلام لحد الآن للمغترب المخضرم): إنه التنوع والتغير والتطور الثقافي الذي طرأ على هذا اللاجئ العراقي، فتأقلم مع ثقافة بلده الجديد، الدنمرك. العراقيون يتناولون طعاماً تقليديا منتشراً إلى حد ما في مناطق جغرافية بعيدة عنه تصل حتى القوقاز مثلاً: الرز يومياً وينوّعون المرق: الباميا أو الفاصوليا والخ، إضافة إلى الأسماك والدجاج، قد تكون مرة أو مرتين اسبوعياً، ولا أتذكر أن والدتي كانت تطبخ لعائلتنا الكبيرة أكلات "شبابية" مثل اللازانية، أو أنواع السلاطات الجديدة، فهذا النوع من الطعام الجديد قد تعدّه الفتيات الشابات بعد الاطلاع عليها بفضل مجلات مصرية أو لبنانية مثل "حواء" وغيرها التي كانت تصدر في الستينات والسبعينات. هذه هي ثقافة العراقيين، لا يحبون تغيير وجباتهم بسهولة!

حتى الأكلات الشعبية المعروفة عالمياً الآن مثل "حمص بطحينه" أو "الفلافل" لم تكن منتشرة في المطابخ العراقية المنزلية في الخمسينات، فقد بدأت تنتشر في المطاعم أولا ثم أخذت الأمهات الشابات "المثقفات" التعرف عليها وإعدادها في المنازل.

الآن تنوعت الأكلات في العراق يوميا وليس في الأعياد وشهر رمضان والحفلات فحسب، وتغيرت ثقافة الطعام.

هذا هو دور الاطلاع لتذوق والتعلم والمعرفة، الذي يؤدي إلى الاندماج مع ثقافة الآخر، لكن برغبة وليس تحت الضغط أو التهديد والوعيد!

الأكل العراقي كان تقليديا يعتمد على الرز والمرق، يعكس ثقافة متأثرة بالوضع الاقتصادي والمحيط الجغرافي. لكن دائماً هناك استثناءات واختلافات، فأكلة الدولمة المشهورة يتم إعدادها بمختلف الطرق والإضافات من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى اخرى، بل من بيت إلى آخر، كانت تقتصر على اللهانة والسلق، اصبحت فيما بعد تشمل أوراق العنب.

والشيء نفسه يقال بالنسبة لأكلة "الكبة"، هناك كبة الموصل، وكبة حلب، وكبة البرغل، أنواع الأكلات العراقية تعكس ايضاً تنوع عدة ثقافات وتواصلها مع الآخر.

اللاجؤون والمغتربون العراقيون أينما كانوا متعلقون بأكلاتهم وتراثهم ولهجاتهم وطرق كلامهم القديمة "الجاركون، والسلانك"، الأمر نفسه يقال عن المغتربين الدنمركيين في أحيائهم المغلقة ومستعمراتهم: نيكوشيا تانديل أرّويس Nicochea-Tandil arroys في الأرجنتين، وفي سولفانح في كاليفورنيا.

فالعراق خليط من إثنيات مختلفة ومُحاط بسوريا والسعودية والأردن والترك والفرس وفيه حضارات وأديان قديمة مثل السومرية والأكدية والآشورية وعاش فيه اليهود والنصارى والمسلمون جنباً إلى جنب "بسلام" لقرون حتى تأسيس إسرائيل وبدأ الصراع في الشرق الأوسط مع الأسف.

هؤلاء ثقافتهم العامة عراقية: اللغة، اللهجة، الملبس، المأكل، الغناء، الموسيقى، الرقص، المقاهي والخ

لهذا لا يزال الإسرائيليون العراقيون، بالذات من الجيل الأول يحتفظون بجزء كبير من بعض عراقيتهم مثل الطبخ، ويؤدون أشهر الأغاني العراقية القديمة في حفلاتهم الخاصة والعامة. ومن المفترض أن يكون هذا مصدر قوة لهم من حيث المساهمة بتكوين ثقافة مجتمعية ديمقراطية.

لكن العنف صار سيد الموقف بعد "تحرير" الأميركيين للعراق لعدة سنين، ورغم ذلك يتعايش فيه الآن المسلمون وماتبقى من النصارى والمندائيين الصابئة وطوائف مختلفة بسلام حذر.

في فترة الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 سكن في العراق العديد من المصريين المشهورين بأكلتهم المفضلة "الملوخية"، والمفروض ان تنتشر في العراق، لكن مع ذلك لم يتعود العراقيون عليها. وهي موضوعة تستحق الدراسة والبحث الإنثوربولوجي الثقافي. أنا عراقي وأحب هذه الطبخة لم استسغها في البداية، لكني بالتأكيد اضطررت لتناولها بسبب "الجوع" اثناء الدراسة خارج العراق بعيداً عن والدتي، قبل أن أتعود عليها، والآن أعتبرها من اطيب الأكلات، وأصبحت جزءاً من ثقافتي التي تعني طريقة الحياة بالنسبة لي.

شيء عن مصطلح الثقافة:

الاختلاط  بالآخرين يلعب دوراً كبيراً في التعلم والتثقف واكتساب العادات الجديدة، هذا ما حصل في عصر الأنوار فاصبح للثقافة معنى في أوروبا أوسع بكثير مما كانت تعنيه كلمة "كولتورا" اللاتينية الأصل، فصارت مفهوماً واسعاً يشمل كل ماله علاقة بالسلوك والعناية بتطوير الذات الأنا والآخر والبيئة والمأكل والملبس والمشرب، أو "الإتيكيت"، فظهرت مصطلحات عديدة مثل "الثقافة الفرنسية" ومن ثم "الألمانية" و"الثقافة الشعبية" والخ.

يمكن أن نورد هنا تعريفات مختلفة للثقافة، لكني أريد أن اقتصر بالذات على سرد انطباعاتي الشخصية لهذا الأمر وأهميته في الاختلاط والاندماج مع الشعوب الأخرى.

في اللغة العربية لم يكن لكلمة "ثقافة" بالضبط نفس معنى "كولتورا Cultura"، التي تعني في الأصل "حالة" الاهتمام بالزراعة والحقول والرعي، وصارت تعني التهذيب. عندنا أن تقول عن شخص "مثقف" يعني بالدرجة الأولى أنه مطلع على معلومات ومعارف مختلفة، وليس لها علاقة مباشرة بسلوكه اليومي وطريقة حياته، أو بالتهذيب مثلاً، لكن أصلَ معناها القديم يعني أيضاً "الصقل والاحتراف"، ويقال عنها في المعاجم: ثقف الرمح إذا قوّمه وسوّاه، ويقال "ثقف الولد، إذا صار حاذقا"… وثقف الكلام: حذقه وفهمه بسرعة". ووردت في سورة الأنفال، الآية رقم 57 في القرآن بمعنى الظفر بالشيء وتقويم الرماح والخ.

أعتقد أن كلا المصطلحين يعبر عن حالة، فعل يؤدي إلى تغييرات وتِقانات ومهارات وبالتالي سلوك وعادات وتقاليد أخرى، فمثلاً ظهرت ثقافة غناء الرعاة والصيادين والريف والمزارعين وظهر منذ غابر الأزمان الشعر الرعوي، مثل كتاب "بوكوليكا" لمؤلف الإنياذه فرجيل (يوليوس فيرجيليوس ماريو، ولد عام 70 قبل الميلاد).

Publius Vergilius Maro

وتَطوّر الرقص في أوروبا بفضل الحريات حتى وصل إلى رقصات القصور"البال" التي صورتها الروايات الكلاسيكية، وفيما بعد الباليه والخ، بينما لا يزال الرقص الشرقي شائعاً في الثقافة العربية رغم التشدد الديني، وظهرت "ثقافة الفنون" التي عكست إبداعات فئات معينة من المجتمعات.

في عصر الأنوار اهتمت طبقة النبلاء وحاشيات الملوك بتقليد الثقافات الجديدة، بالذات الفرنسية وكانوا يدربون الخدم والحاشية والمنظفين والطباخين على سلوكيات معينة مثل اللياقة والأناقة واللباقة، أُصطُلحَ عليها ب "إتيكيت"، من الألف إلى الياء: كيفية الطبخ والملابس والرقص وتناول الطعام. ظهر فيما بعد دَور الثقافة الألمانية وبدأت تنافس الفرنسية، وظهرت تعريفات كثيرة للثقافة، أقربها إليً: ماقاله عنها المسيو هيريوت  Edouard Herriot "الثقافة هي ما يتبقى لدينا بعد أن ننسى كل شيء".

Culture is what remains after we have forgotten everything else” /

واستخدم ألبرت اينشتاين Albert Einstein هذا التعريف، ويقال إنه إستعاظ بكلمة التعليم بدلاً من كولتورا في مناسبة معينة:

Education is that which remains, if one has forgotten everything he learned in school.

فالثقافة في المفاهيم المعاصرة ايضاً لها علاقة بتعلّم المرء، ولهذا يبدو الإنسان المثقف الحقيقي أحياناً كمتعلم، ومتمرس ومتحضر ومتمدن، وإذا كان على حظ من الموهبة فقد يصقلها، أو لديه شبكة علاقات عامة واسعة أو "واسطة" قد يصبح فناناً وصحفياً لامعاً إذا عرف كيف يجامل أصحاب القرار، قد يرفضها بعضهم ويعدّوها "مسح كتافات"، ويسمّوها  ثقافة التملق.

أجل، هذه سلوكيات بحد ذاتها تعكس ثقافة منتشرة في أوساط مهن معينة مثل الصحافة ووسائل الإعلام والفنون وفي دوائر الدول والوزارات، عادة ما تكون لها مسميات. بل اصبحنا نسمع كثيراً بتعدد الثقافات حتى ضمن المؤسسات، قد يحددها مدراؤها ومالكوها، ولكل بيت ثقافته. واليوم كلما تعمقنا بدراسة مفاهيم الثقافة وجدنا صعوبة الإحاطة بها كونها مفهوماً واسعاً مرناً.

صحيح أن كل مجتمع يتميز بثقافته الخاصة به، لكنها اصبحت متقاربة نسبياً، بالذات في المدن الكبيرة وفي أوساط المثقفين والمتعلمين أينما وجدوا بفعل تاثير العولمة.

هذا ما أشار إليه عالم الاجتماع البريطاني أنثوني جيدينس في كتابه "لطريق الثالث" الذي أكد على تأثير التحديث والعولمة على الحياة الاجتماعية والخاصة. فصارت اليوم الكتب الجديدة وكراسات المعلومات عن ثقافات العالم في متناول اليد بمختلف اللغات بفعل انظمة الترجمة السريعة المنتشرة.

The Third Way  . Anthony Giddens

***

د. زهير ياسين شليبه

 

وأنت قاعد على طاولتك المفضلة في المقهى تستمتع بشرب ملكة السواد. وإذا بالرشفة الأولى منها تلقي بك في أحداث ووقائع الماضي الذي ولى وانتهى. تلقي بك وأنت بين جداول الواحة تمشي بين زحام صفوف النخيل، و-أعراشه- تطل عليك من الأعلى وهي تناديك وتجذبك إليها بلونها الأحمر والاصفر والبني... موسم جني التمور في واحة درعة يبدأ مع مطلع شهر شتنبر الشهر التاسع من كل سنة، ويمتد حتى آخر أيام شهر نونبر الشهر الحادي عشر من كل سنة.

تدبير جني التمور يحتاج إلى جهد وتنظيم وتقديم وتأخير بين أنواع النمور المعلقة على أعناق أشجار النخيل. فالأولوية تكون لنوعية التمور التي توجه إلى الأسواق الأسبوعية... بعض التمور يفضل جنيها في الصباح الباكر، لأنها من النوع اللين واللزج، والبعض الآخر بالإمكان جنيه في أي وقت لكونه من النوع المتماسك، فحرارة الشمس لا تأثر في طبيعة تماسكه.

السوق حينها تحكمه عادات ولغة تواصلية بين البائع والمشتري... يعرض المنتوج معبأ في صناديق خشبية. في ساحة ما يسمى برحبة التمر، بدءا من طلوع الفجر إلى المنتصف الأول من النهار. طيلة هذا الوقت المزايدة والمناقصة بين التجار سارية المفعول هناك من التجار من يكون سخيا في الرفع من قيمة الثمن ومنهم من يتصف بالبخل ويعرض أثمان بخسة ويبادر للحط من قيمة المنتوج ويصفه بأوصاف عديدة... والغريب أن البائع يستمع له ويعرض عنه بقوله (هذا ما أعطاه الله) وتكون هذه الكلمة خاتمة الكلام.

وقد تتعالى الأصوات عندما يقبل على البائع مشتر يلح كثيرا على شراء ما يرغب فيه ولكن البائع لا يرضى بالسعر المقدم له، حينها يتدخل رجال آخرون من جهة البائع أو من جهة المشتري من أجل خلق فرصة التراضي بين الطرفين، وهي عملية اقناع للطرفين بثمن معقول حتى لا تضيع فرصة البيع أو الشراء. وعند التراضي يتصافح الطرفين بشكل علني وتستبدل حبات التمر بالأوراق النقدية مصحوبة بعبارة، (الله يربحك) عند الواحدة زوالا يكون مجمل الفلاحة بائعي التمور قد استبدلوا صناديقهم بأوراق نقدية، حينها تجدهم في ازدحام داخل جنبات مجزرة السوق لشراء لحم الخروف أو الماعز أو البقر، الكل يرغب في استبدال أوراقه النقدية بكتل من اللحم، وقد يتجه آخرون لشراء انواع من الشاي والسكر والزيت والفواكه والخضروات ويتجه البعض الآخر عند بائعي قطع الثوب...

داخل السوق يجلس البائعين جلسة القرفصاء أو واقفين، أما المشتري فهو يسير ذهابا وإيابا يترصد المدخل الرئيسي الذي يأخذ بائعي التمور إلى وسط مكان البيع لعله يجد فرصة ثمينة...  الجالسين القرفصاء وصناديق تمورهم تنظر إليهم ولعلها تعاتبهم أو تبتسم إليهم. تقرأ في وجوهم ولحاهم الكثة وعمائمهم تعلوا رؤوسهم وجلاليبهم... محن الزمن وصعابه واحتياجاته...الشباب منهم هجروا الجلباب والعمامة إلى جاكيت وسروال دجينز.

بعد الزوال تجد بائعي التمور خاصة من كان مستعجل في قضاء كل متطلباته من السوق الاسبوعي. متجهين نحو فندق الدواب الذي يتمركز حوله أصحاب حدادة الصفائح الحديدية التي يتم تركيبها على حوافر الحمير والبغال بواسطة مسامير خاصة لتجعل حوافرهم أكثر قوة على المشي والجري... فالمختص في تركيب الصفائح الحديدية على حوافر الدواب في مقام بيطري يفهم جيدا في أمراض الحمير والبغال فمنها ما يداويه بالكي والنار ومنها ما يداويه بوصفات أعشاب خاصة.

وأنت في عين المكان يبدوا لك أنه يعج بالحركة وبائعي التمور يساعد بعضهم البعض الآخر في رفع حمولاتهم على ظهور البغال والحمير وينطلقون جماعات جماعات في العودة إلى قراهم، وعلى طول الطريق يتبادلون الاخبار فيما بينهم ويتمنون غدا أفضل وقد تطول الرحلة إلى ساعتين وأكثر، وهو وقت كافي لمن يجيد متعة الكلام ونقل مختلف الأخبار، التي يتعلق الكثير منها بوقائع وأحداث أهل القرية بين، من أقبل على الزواج وبين من طلق زوجته، وبين من دخل في خصام مع أهله، وبين من خسرت تجارته... ومتعة في الوقت ذاته لمن يجيدون الاستماع، ويلقون بين الحين والآخر بكلمة أو بضعة كلمات، بهدف إثراء الحديث و اتساع مساحو الكلام. وفي طريقهم لا يغفلون وتبادل مختلف الأخبار التي سمعوا بها عبر الإذاعة، حول ما وقع عبر العالم.

وقد تستغرق الرحلة ربع أو نصف ساعة إن كانت على سيارة الأجرة التي يتكدس بداخلها جمع كبير بين الناس بين الجالس والواقف والمنحني، أما سطح السيارة فعليه بضاعة كثيرة من مختلف حاجيات وأغراض المتسوقين، ويركب إلى جانبها من ليس من حظه ان يجد مكانا له داخل السيارة... أهل الواحة من بائعي التمور لا يعرفون الادخار، إلا فيما هو نادر، ففي الأعم أن ما يجلبونه من بيع التمور، لا يغطي مختلف حاجياتهم اليومية، ولهذا فالتقشف عندهم ليس عيبا من عيوب الحياة.

ما يخشاه رجال الواحة على طول حياتهم، وقد يعدون العدة من أجله، لأن الزمن علمهم بأنه سيحل بينهم دون إذن منهم وهم في غفلة من أمرهم، إنه قدر الزيارة المحتومة والتي لا مهرب منها، فالزيارة لزائر غير مرغوب فيه وغير مرحب به إنه الجفاف. فأهل الواحة استيقنوا بأن الجفاف قد يحل لسبعة أعوام ويرحل، أليست هذه تأويلية يوسف لما رآه الملك1.  إنه القدر المحتوم، أنه قانون يعم كل فيافي الصحراء، ولهذا من الطبيعي أن يفكر رجل الصحراء في الواحة وخارجها في الماء قبل التفكير في الطعام.

الآن وأنت في رشفتك الثانية من فنجان قهوتك السوداء، وقد عدت إلى مكانك تحدق بعينيك إلى سطح الطاولة التي أمامك، تمتد يدك إلى مكعبات السكر الأبيض، تتركها جانبا، ترفع برأسك وإذا بصور متتابعة على التلفاز...يمر النادل بالقرب منك ويبتسم في وجهك تبادله نفس الابتسامة، أحدهم بالقرب منك اشتعل سيجارته... كراسي المقهى جلها فارغ... وأنت في رشفتك الأخيرة لا شيء يجذبك ويشجعك على البقاء هنا ما بين جدران هذا المقهى.

***

بقلم/ د. صابر مولاي أحمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

........................

١- قال تعالى: " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)"(يوسف)

قال تعالى: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)"(يوسف)

فقدت الحركة الادبية المحلية في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، احد اعمدتها البارزين، وودعته في اليوم التالي، الى مرقده الاخير بأكاليل الورد والرياحين التي طالما احبها وتغنى بها فيما تركه من ارث ادبي قصصيّ لامس العديد منه حفاف الخلود وكرّسه منذ سنوات بعيدة موغلة في البعد، واحدًا من رواد القصة القصيرة الفلسطينية بعد قيام اسرائيل، وقد حظي الكاتب محمد نفاع (14 ايار من عام 1939- 15 تموز 2021) باهتمام واسع محليًا وعربيًا وحتى عالميًا، فاقبل القراء على مطالعة ما خلّفه من ارث قصصي غني، اقبال المدرك المحب لأهميته الادبية الثقافية، كما حظي باهتمام عربي واجنبي، تمثل في اعادة نشر قصصه وترجمتها إلى العديد من اللغات الحية، كما تمثل في الدراسات اللافتة التي كتبها عنه دارسون ذوو اهمية ومجلّون في مجال الدراسة الادبية السردية خاصة.

محمد نفاع من مواليد قرية بيت جن الواقعة في منطقة الجليل الاعلى، وقد عُرفت قريته هذه بطبيعتها ذات المناظر الفتانة الخلّابة. تلقى تعلمه الاول في مدارس قريته بعدها تلقى تعلمه الثانوي في قرية الرامة. درس الادبين العربي والعبري في جامعة القدس العبرية. تنقل بين اعمال متنوعة ومتعددة مما اكسبه تجربة وخبرة حياتية واسعة، وجعله بالتالي ذا معرفة متعمقة في مواقع قريته وتضاريسها، وقد اغتنت قصصه بأدق التفاصيل المتعلقة بقريته، مما جعله كاتبًا مكانيًا، لا سيما في قصصه الاولى والمتوسطة، حتى انطبق عليه ما قيل عن الكثيرين من الكتاب في العالم، مثل العربي المصري نجيب محفوظ الذي لم يخرج من مدينته القاهرة الا ليعود اليها. مكانية نفاع هذه منحته عمقًا موغلًا في ارض قريته وما احتوته من نبات وامكنة تحمل الاسماء الفارقة، وما عاش فيها ودب على ارضها من كائنات مختلفة. زاد في هذا العمق اطلاع واسع على العديد من النماذج الادبية العالمية لا سيما الروسية. شغل نفاع خلال حياته المديدة العديد من المواقع السياسية والثقافية، وقف في مقدمتها منصبه عضو كنيست في البرلمان الاسرائيلي خلفًا للشاعر الراحل توفيق زياد، ورئاسته لتحرير صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية العريقة، الا انني لن اتحدث عن هذا الجانب من حياته وآرائه السياسية وافضل ان اتحدث عن الجانب الادبي في حياته، هذا الجانب الباقي منه كما ارى.

الارض حبيبته

ابتدأ محمد نفاع الكتابة عام 1964، وكانت بدايته هذه مع الشعر إلا انه ما لبث ان انصرف عنه لفشله في كتابته كما صرح في احد الحوارات معه. انصرف عن الشعر ليتخصص في كتابة القصص القصيرة، وقد ترك في مجال السرد القصصي والروائي عددا من الاعمال الادبية منها:

1. العودة إلى الأرض (قصص)، 1964.

2. الأصيلة (قصص)، دار عربسك، 1975.

3. ودية (قصص)، الأسوار، عكا، 1976.

4. ريح الشمال (قصص)، الأسوار، 1878.

5. كوشان (قصص)، عكا، 1980، القاهرة، 1980.

6. الذئاب (قصص)، مرج الغزلان (رواية)، عكا، 1982.

7. وادي اليمام (قصص).

8. خفاش على اللون الأبيض.

9. أنفاس الجليل (قصص)، 1988.

10. فاطمة (رواية)، منشورات راية. حيفا،2015.

بذور قصصه

البدايات القصصية الاولى لكاتبنا الراحل، تمت كما سبق في اواسط الستينيات، وقد تزامنت مع طلائع هامة في كتابة القصة القصيرة المحلية، في مقدمتها الكاتبان محمد علي طه وزكي درويش، وقد لفت نفاع النظر منذ البداية مع ان لكل من هؤلاء الكتاب الثلاثة طعمه، رائحته ولونه، وكانت الميزة التي ستتجلى فيما تركه محمد نفاع من انتاج قصصي، هو ذلك التعلق بالأرض والالتصاق بها عُمق التماهي معها، والفريد ان كاتبنا عاش قريته المعروفية بكل عمق وصدق منطلقًا من روح شعبية وتراث اسطوري خصب، وهو ما انتشر في قصصه حد المبالغة احيانًا، وقد دفعت خصوبة فقيدنا هذه الشاعر الصديق الراحل ايضًا سميح القاسم إلى أن يمتدحه وهو يستقبل عام 1968 احدى قصصه ابان عمله محررًا لمجلة "الجديد" الحيفاوية، بقوله لكاتب هذه السطور: هذا كاتب هام جدًا. انظر إليه كيف يصف عزف الراعي الفلسطيني على شبابته بانه راح ينجر عليها. هذه المواصفات التي ميّزت كاتبنا دفعت الشاعر القاسم لان يطبع ضمن منشورات "عربسك" الخاصة به، المجموعة القصصية الهامة لكاتبنا الرحل وهي "الاصيلة" . ولم يكن القاسم هو المفتون الاول بقصص فقيدنا وانما امتدت هذه الفتنة لتشمل قطاعات شعبية واكاديمية واسعة النطاق كما سلفت الاشارة.

اليوم وانا اعود بالذاكرة إلى النتاج الادبي القصصي لفقيدنا اتذكر قصصه: خفق السنديان، الاصيلة، ودية والداغ علاماتٍ فارقةً في قصتنا العربية المحلية، وارى فيها روحًا ادبية شعبية تستمد نسغ حياتها وكينونتها من اعماق بلادنا وانسانها المتطلع الى الحرية والمحبة، روحًا وصلت إلى آماد بعيدة الغور وذات اعماق سحيقة في اليومي والاسطوري ايضًا، وهو الامر الذي جعلني اعيد نشرها في اكثر من كتاب ومجلة ادبية على اعتبار انها من روائع قصصنا المحلية.

محمد نفاع.. باق في الوجدان والذاكرة..

***

ناجي ظاهر

المتفق عليه أن الفنون الجميلة هي منار العقل ومصباح النفس والباعثة على الاطمئنان إلى الصفاء الروحي، وهي الصحيفة النقية الصافية في حياة الإنسان المتطلع إلى المثل العليا .

يخطئ من ينبري عند البحث والدراسة عن بدايات تأسيس الحركة التشكيلية أن يجرؤ على استبعاد جيل الروّاد الأوائل صنّاع الفن الحديث الذين فتحوا المجال أمام اسهامات مؤسسات رسمية ونقاد لمواكبة إبداعاتهم الفنية ونشرها ، إن تعظيم جيل الروّاد هو اعتراف بجميل جهودهم وتقدير عميق لفضل تحملهم عناء المبادرة ، إنه تعظيم تفرضه مبررات واقعية تسعى كل الدول من أجل ترسيخ تقاليده والاحتفاء به لبعث مشاعر الاعتزاز ، ولضمان تنميته ووجوده في إطار الوعي به، وإثراء الحركة الفنية بالقراءات والتحاليل لتأريخ الفن التشكيلي في مختلف الدول فتتوارثه الأجيال، لقد كانت جهودهم محطة مفصلية لنقل الشعوب إلى زمن جديد من رقة الاحساس ورقي التفكير وارتقاء الإبداع، من خلال البراعة في رسم لوحات خالدة ، ناطقة عن سحر البيئة ومدى أصالتها وثرائها البيئي المميز، هي رسومات للحب وللوطن وللمرأة تتحدث فيها الرموز لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان فيترجمها كل ناظر إليهاعلى طريقته إذ هناك من يستعمل الألوان لتفريغ الهم الاجتماعي.

لقد كان الفضل السبق التاريخي في هذا المجال أثره في تنمية الحس الجمالي ونشره للارتقاء بالذوق الفني ، إنه فضل يضع كل من ينكره في إطار التطاول القميء والنكران القبيح لرموز أسست  بعرقها ودمها وروحها الحركة التشكيلية الرائدة ونشرت الثقافة الفنية وساهمت في إنشاء أقسام الفنون الجميلة في المعاهد والجامعات وأثرت المكتبات بالكتب المتخصصة واستقبلت كثير ممن هم اليوم يجحدون!!

قيمة الفنون الجميلة تنبع من ذاتها،إنها البحث عن الطريق الجمالي لإيصال المعلومة للمجتمع ،لذلك فهي تنشأ بطابع محلي عفوي ، صافي، معبرة بصدق عن واقع حي وعيش قائم وحياة تدب في الأرجاء. وروح الفنان الموهوب يعكسهاحجم الإبداع المستغرق في عمله الفني  صدقا ووحيا وإلهاما، وقد نعجب للشخصية القوية المؤثرة للفنان ذو المزاج الأكثر حساسية ، المتمتع بدراسة أكاديمية جادة للطبيعة تخلق لديه ذلك الميل الفطري للبحث عن صيغة جديدة لموروثاته الفكرية وكلما كان الفنان منفتحا على حقول معرفية أخرى اتسع أفق تجربته الفنية  لذلك فهو يأبى الجمود في رؤيته لأنه يجعله لا يأبه بتغير الواقع من حوله، ولكن هذا الجمود في حد ذاته قد يعكس أيضا رغبة أكيدة وتصميم الواثق على الاستمرار في تكرار ظاهر العالم القديم في نوع من الحنين الدائم إلى زمن ما . والعمل الفني الصحيح لابد أن يكون له جانب تاريخي واجتماعي وإنساني، والأمم المصابة بقصور في حركتها التشكيلية تعاني من الأنيميا الفنية ومع ذلك فعندما تريد الخوض في مجال لا تعرفه بل وتهدف إلى تشتيته وتغييره فإنها تعرض نفسها للانتحار الفني لأنها تريد القفز نحو المجهول حيث لا يوجد امتداد لها فيه.

إن من ينبري لتسويف ماضي الروّاد يريد أن يبادر بالمقاومة الفكرية لظاهرة التعمق في الحركة الإبداعية التي فاته أن يرافقها فعمد إلى أن يقوم بتقليص أدوار صناع الفن الحديث ومساحات حركاتهم ومجال تأثير إبداعاتهم ، أنها محاولة بعيدة كل البعد عن إي ادعاء بتفحص شتى التعبيرات الفنية التي يعبر بها الوعي عن نفسه ويشتق منها السلوك ، بل تخفي سوء نية وقصور تفكير وعقدة نقص بعيدة عن الغرض الحضاري التفاعلي لحسن تصور المعاني ولاستخراج أجمل ما في الأعمال الفنية من مشاعر وتلمس أنبل ما تتضمنه من مواقف.

الفنون الجميلة أرقى ينابيع النهر الإبداعي، إنها فضاء راقي متعدد الألوان بين حالات الفرح والحزن، إنها ترسم صورة المشاعر وتلونها. والتاريخ يشكل مادة هامة بالنسبة لأي فنان ولكل مبدع ، والفن يغرف موضوعاته من ينبوع التاريخ ويرتوي من الواقع المعاش، والفنان ليس مؤرخا مكلفا بتوثيق الحقيقة ولكنه يستعمل الحقيقة التاريخية كوسيلة للتعبير عن أفكاره وآرائه وتصوراته، والفنان حر في نظرته للتاريخ ومن حقه أن يفسر الحوادث كما يشاء بما يخدم رؤيته وغايته الإبداعية، على أن الإيمان بحرية المبدع لا تعفيه من تحمل المسؤولية تجاه فنه لأنها تعني الالتزام بقيم الحق والخير والجمال، وهذه هي القيمة الحقيقة للفنون الجميلة.

***

صبحة بغورة

تظل العتابة من أروع ألوان الأدب الشعبي، واوسعها انتشارا، وتداولا بين الأجيال في ريف الديرة، ليس فقط باعتبارها جزءاً من هويّة الموروث الشعبي وحسب؛ بل لأنها تعبير شاعري مرهف، عن وجدانيات مجتمع متوهج العاطفة، بكل تفاعلاتها الإنسانية، والزمانية، والمكانية، الشجية منها، والسارة.

ولذلك لا زال الوجدان الشعبي الريفي لمجتمع الديرة، يحفل بثراء زاخر في موروثه منها، نظما واداء على الربابة .. بسبب عراقتها الضاربة في وجدانه، واستجابتها الجامحة للتعبير عن أوجاع هذا الوجدان المرهف، كلما سعرها في أعماقه لهيب عاديات الزمن.

واليوم، كعادته، اتحفنا أديب عتابة الوجع، بيج الماجد، بعتابة إبداعية في غاية الروعة والجمال، نظما وتوظيفا للمفردة الشعبية (ولف) بمختلف دلالاتها الشعبية،تعبيرا عن وجعه وحزنه الغائر في أعماق وجدانه.. الذي استعصى على النسيان بمرور الزمان، ولم يعد، بعد من فقدهم.. قابلا للمواساة .. حيث يقول فيها:

 آني وساري العبدالله ولف هم..

حزن وفراگ والضاعوا ولفهم..

تعالوا يهل المروّه والفهام..

عگبهم لا يواسينا حدى..

واذا ما تم غض النظر عن عطائه في ابداعه المتواصل في نظم العتابة،حيث يفاجئ قراءه كل يوم بجديد ..فإن إبداعه في انتقاء المفردة الأكثر دلالة في التعبير عن مراده منها لأوجاعه .. وقدرته على توظيفها ببلاغة مدهشة في عتابته، تجعل منه اديبا متميزا .. وناظما بليغا، يتجاوز بموهبته وبلاغته كل الألقاب المتداولة.. التي قد تخطر على البال، لتعطيه حقه في الوصف، الذي يعبر عن مكانته الحقيقية.. ولعل أقرب لقب يمكن إطلاقه عليه بما يقترب من وصفه حاله،معاناة وإبداعا واشجانا..هو (أديب عتابة الوجع) .. ليكون بهكذا وصف.. سليلا طبيعيا،وبكل جدارة،لأسطورة العتابة فطيم البشر ..

***

نايف عبوش

لمناسبة ذكرى استشهاد أبي الفضل العباس الأخ المناصر للإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أقدم هذا النص!

يا أيها الليل المشع بلغة الصبر وآلام الثكالى.

أيها الجانب المشرق من العالم،

أيها الفارس الذي امتطى جراح الموت ليحمل عنوان الشهادة

يا شهامة إليها ننصت،  ندعو لعيون الصبح نردد الكلمات

أيها العطش الذي امتد ليحمل سيف الفرات

أيها الدرب الذي يمنح الصبر أوسمة الحياة

أيها النهج الذي يحمل أشرعة الألم، يتحدى خطوات الليل، يواجه طريق الحرب، ينزف بالجرح، أوسمة الكرامة!

***

عقيل عبود - سان دييغو

13/07/2024

...................

Champion of Dignity!

Akeel Abboud

On the occasion of the martyrdom anniversary of Abu al-Fadl al-Abbas, the supported brother of Imam Hussein bin Ali bin Abi Talib, peace be upon him, I present this text!

Oh radiant night with the language of the patience and pains of the bereaved.

O bright side of the world,

O knight, who rides the wounds of death to carry the meaning of martyrdom

O chivalry, we listen to it, we pray for the eyes of the morning, we chant the words

O thirst that extended to carry the sword of the Euphrates

O path that gives patience the medals of life

O approach that carries the sails of pain,

Challenges the steps of the night, faces the path of war, bleeds with wounds, the medals of dignity!

***

Akeel Abboud

San Diego,

7/13/2024

 

إيهٍ صَاحُ...

إنِّي رأيتُ الوَجدَ قد حَبِّذَ واستَطعِمَ ما في الزُّبرِ من بيانٍ بتَمام، حينَ نَبَذَ التَّهتُرَ وانفَصَمَ مِن اللغوِ ومن طَيْشَ الكَلام. وإنَّما ضبطُ ما يَلفِظُ اللسانُ يا صاحُ وما يَحتَنكُهُ من دِقَّةٍ في الكلامِ بانتِظام، لهوَ السَّبيلُ الحميدُ الوحيدُ لفَهمِي لمعانيَ الكلامِ، ولجَنيَ ثَمَراتِ الضَّادِ في الأكمام، وَلَئِنْ فَعَلَها الوَجدُ لَيَكُونَنَّ إذاً وافِرَ اللِّبِّ نافِرَ الجُّبِّ هُمَام.

وإذ لَمحتُ في وسائلِ التَّواصلِ تساؤلاً لطيفاً باهتِمام، وإذ كانَ موجَّهاً لضَليعٍ في الضَّادِ ورُبَما في سوحِهِ عَلًّام، إذ سألهُ سَائلٌ باستِعلامٍ واستِفهام؛ "لمَ قالَ النَّبيُّ القَسيمُ الوَسيمُ ﷺ؛ "بَاعَ مِن أخِيهِ بَيعًا" بإكرَام، ولمْ يقلْ ﷺ "باع لأخيهِ بيعاً"، رُغمَ أنَّهُ ﷺ الفَصيحُ المليحُ، وهوَ خيرُ الأنام. فأجابَ الضَّليعُ السَّائلَ بما قد سَطَّرتهُ في المَعاجمِ الأقلامُ، بيدَ انِّي لم أستلذّ الإجابةَ باستِجمام، وشَعرتُ كأنَّها إجابةُ تلميذٍ حفظَ ما في المنهَاج من أقسام، حفظاً غيرَ ذي فَهمٍ باستِلهامٍ وإحكام، فكتبتُ ردِّي مِن فوري للمتسائِل باحْتِدَام، ثم رحْتُ مِن بَعدُ أبحَثُ عن شَرحٍ شَافٍ للحَديثِ الشَّريفِ باستِهمَام، مُتَصَفّحاً ما في سِجلاتِ آبائيَ الأولينَ باستِلهام، فما وجدتُ ما يشفي الغَليلَ مِن أحكام، رُبَما لأنَّ فهمَ ذا التَّعبيرِ هوَ لدَى الآباءِ بَدِيهةٌ بالهام. وَلَمَّا ٱسۡتَیۡـَٔسْتُ مِنَ البحثِ سَمَحتُ لخَافِقي أن يقعدَ بينَ القَاعدينَ بانضِمام، لحظةَ نُطقِ النَّبيِّ ﷺ بكلمتِهِ الشَّريفةٍ بانسِجام، كي يَعيشَ النَّبضُ في جَوِّ البَيان حينئذٍ باستِسلام، وأحسبُ أنِّي قد فَهِمتُ الحديثَ فهماً لَطيفاً بلا جهالةٍ وبلا أوهام، وهاكَ ما استَلهمتُهُ وفَهِمتُهُ بلا ابهام؛

"إنَّ ثَمَّةَ عروةٌ وثقى تَأْصِرُ المُسلمَ على المُسلمِ هي الإسلام، قد جَعَلَتْ منَ المُحال أن يتسلَّلَ الغِشُّ لسُوقِهم في خضمِّ البيعِ وسطَ الزَّحام، أو أن يتَخَلَّلَ تجارَتَهُمُ مراءٌ وحلفٌ باختصام. وعلى البَائعِ أن يُعطيَ أخَاهُ مِمَّا لدَيهِ مِن بضاعةٍ طلبَها بوِئام، (يُعطيهُ) إيَّاهَا باسترحامٍ وليس (يبيعُهُ) إيَّاها بتفذلكٍ والتِحام، فآصرةُ العُروةِ الوُثقى تأبى وقدِ ارتقَت بهما حتى جَعلت لسانَيهما يَستَحيانِ لفظَتي "البَيعِ والشِّراءِ" بإلجام، فأبدَلَتهُما بالعَطاءِ تزكيةً للذَّاتِ وتودُّداً فيما فيهِ يَتَداولانِ بانتظام، رَغمَ أنَّ لفظَتَي "البَيعِ والشِّراءِ" لا رَيبَ فيهما ولا زَللَ، ولا فيهما عَيبٌ ولا خَللٌ ولا استِعجام، لكنِ الأمرُ ههُنا لمَّا كانَ رَهيناً بتَجَنبِ الغِشِّ في التِّجارةِ بإلزامٍ وإلجام، فقد أتَى الفَصيحُ المَليحُ ﷺ بحَرفِ الجَرِّ "مِن" لِتَضمينِ الفعلِ "باعَ" مَعنَيي "الأخذ والعَطاء" في البيعِ والشِّراءِ مَعاً بالتقاءٍ، وسَويةً باستواءِ واتِّسام، وكأنِّي بالحَديثِ يشبهُ مَعنى الآيةِ المُباركةِ "وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا" وليس "على القَومِ" أي: أنجيناهُ مِنَ الْقَوْمِ وَنَصَرْنَاهُ عليهم "نجاةً ونصراً" بإكرام، وذلكَ ليُعَلِّمَ النبيُّ ﷺ البائِعَ المُسلمَ ويُشعرُهُ أنَّهُ لا يَبيعُ لأخيهِ بل يُعطيه بابتِسام، وأنَّ أخاهُ المُسلمَ لا يشتَري منهُ بل يأخذُ باحترام، ثُمَّ يُناوِلُهُ ثَمناً مُقدَّراً كي يتمكنَ البائعُ من مُواصلةِ مِهنتهِ في السُّوقِ على الدَّوام، فلا يُفلسُ فيقعدُ على رصيفِ فَقرٍ مٌنقَعِرٍ، ولنَصيفِ درهمٍ مُفتقِرٍ بإيلام.

وها قدِ انتهى رَدِّي على ذاكَ السائِلِ باستِعلام. رُبَما كانَ صواباً، رَبَّما كانَ الرَّدُ حُطاماً من حطام؟ غيرَ أنَّهُ لأمرٌ لطيفٌ أن يُعيدَ أُسْتَاذُ اللغةِ نَشرَ رَدِّي على صفحَتِهِ الشَّخصيةِ باحترام، وبلا اعتراضٍ منهُ ولا إحجامٍ بلِ باهتِمام، وذلك هو شأنُ أهلِ العِلمِ الحَقِّ وليسَ العِلمُ الزَّقُّ بانصِرَام، فاطْمَأَنَّ قلبي لمَا أجبتُ وكتَبتُ ردَّاً بانسجام، وما زَادَني نَشْرُ إجابَتي مِعشارَ فَخْرٍ لأنِّي عليمٌ بجهالَتي في علومِ الضَّادِ بإضرَام. جَهالةٍ لمْ تزلْ قائِمةً ولن تزولَ بانفصامٍ ولا انهزام، وإنَّما النَّشرُ قد زادَني يقيناً أنَّ ضبطَ ما يَلفِظُ لساني وما يَحتَنكُهُ من دِقَّةٍ في الكلامِ بانتِظام، وأنَّ سَمعَ ما تَنفضُ بهِ ألسنةُ الأنامِ وما تَشتَبِكُ بهِ برِقَّةٍ واهتِمام، لهوَ السَّبيلُ الوحيدُ والحميدُ لفَهمِي لمعانيَ الكلامِ، ولجَنيَ ثَمَراتِ الضَّادِ في الأكمام.

فحَذارِ حَذارِ ياصاحُ مِن الهَذَرِ المَذَرِ، وحَذارِ من طَيشِ الكَلام، وخُذْ آيةَ "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" بقوةٍ واهتمام وهيام، واربطِ التَّصريحَ في لسَانِكَ، واضبطِ التَّلميحَ في وجدَانِكَ بينَ الأنَام، وتَذَكَّرْ أنَّ التَذَوَّقَ لثَمَراتِ رَحْو المَعانيَ في الكلامِ لا يَسْتَلْزِمُ التَّفوّقَ في غَمَراتِ نَحْوِ المَباني أحكامِ بتَمام.

دَعْكَ يا ذا عزٍّ مِن طَيْشِ الكَلام ..

دَعكَ منه!

***

علي الجنابي

قبل البرتغاليين ب 2000 عام، أبحر الفينيقيون وطافوا حول أفريقيا مجتازين مضيق ال مليكارت (وهو إسم وضعوه هم بانفسهم)، وقد أسماه الاغريقيون لاحقا بمضيق هرقل، وأسماه العرب جبل طارق، ومنه تابعوا دورانهم حول رأس الرجاء الصالح، حتى بلغوا البحر الاحمر، وداروا كذلك حول مايسمى ب (الخليج الفارسي) وأسسوا مدنا تحمل الاسماء ذاتها ك اوتاد وتيرو (صور أو ثور) وسيدون (صيدا)، مما يؤكد ان الفينيقيين لم يكونوا الامة البحرية الاولى في التاريخ فحسب، بل أنهم أول امة هاجرت في البر وفي البحر.

سفنهم المكونة من طبقتين: الطبقة العليا منها مخصصة للركاب والسفلى للمجذفين، كانت تتميز بسعة أقبيتها وبمؤخرتها التي تشبه هيأة هلال، وبمقدمة فوهة خرطوم، وكانوا يعتمدون على شراع واحد يبسطونه عندما ترسو السفينة في الاجواء السيئة ويفترض على حسب صور الأواني المقارنة، أن الاغريقيين نسخوا هذا النوع من السفن وعلى الاسلوب نفسه، كان أسطول سفن الملك سليمان التي شيدها أولئك البحارة العارفون بالبحر، في إشارة للفينيقيين إذ بعث ملكهم حيران ملك صور الى سليمان بجزء من أسطول سفنهم.

ومن غير طموح سياسي كبير، بنى الفينقيون وأسسوا مستوطناتهم التي وصلوا اليها بصمت ومن غير إثارة لأية شكوك، كانوا يتكيفون مع أي مناخ جديد، وهم إذ يدخلون أبجديتهم وبضاعتهم وعوامل حضارتهم في العديد من الافاق التي كانوا يكشفونها فإنهم يربطون من خلال جذورهم البحرية، المستوطنات الجديدة بالمدن الأم المنتشرة على السواحل الشرقية للبحر المتوسط.

وبهذا وبعد إقامة ومدن في دلتا مصر وسواحل سيليسيا واليونان وقبرص وصقلية وسردينيا إضافة الى شمال افريقيا وأسبانيا فأنهم يشكلون من هذا البحر بحرا حقيقيا هو (البحر المتوسط).

وثمة دلائل مدونة في الكتاب المقدس (التوراة) تؤكد أن الفينيقيون يستوردون فضلا عن الذهب والرصاص، القصديرعن طريق المقايضة بالفخار والملح والبخور والقماش والفاكهة والزجاج وأواني البرونز وصولا إلى المكان الوحيد لوجود القصدير: جزر سيلي الواقعة في المحيط الهادي على بعد 40 كيلومترا من أنجلترا وشبه جزيرة كورونوول الواقعة أقصى الجنوب الغربي من هذا البلد بين قناة بريستول وبحر المانش ، وصولا الى سواحل غروند لانديا التي تعد نهاية العالم كما يراه القدماء ، مما يؤكد الدخول العميق للفينيقيين – كما لم يحدث لأي من شعوب العصور القديمة – في المحيط الذي أسماه العرب لاحقا (بحر الظلمات).

***

رنا فخري جاسم

 

"الأرض الخراب" للشاعر ت. س. إليوت عمل رائد في الشعر الحديث يعكس التفتت وخيبة الأمل واليأس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. القصيدة عبارة عن نسيج معقد من الأصوات والصور والإشارات التي ترسم صورة قاتمة لعالم في حالة انحدار. وفي حين يُنظر إلى القصيدة غالبا على أنها نقد للحاضر، إلا أنها تحتوي أيضا على عناصر تشير إلى رؤية للمستقبل.

أحد الموضوعات الرئيسية في الأرض الخراب هو فقدان التقاليد وتفتت الثقافة. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الأعمال الكلاسيكية والأدبية، والتي غالبا ما يتم وضعها جنبا إلى جنب مع صور الاضمحلال والدمار. يشير هذا التجاور إلى مستقبل تم فيه نسيان الماضي أو التخلي عنه، ولم يتبق سوى حاضر مجزأ وفارغ. يمكن اعتبار السطر الافتتاحي الشهير للقصيدة، "نيسان هو الشهر الأكثر قسوة"، تعليقا على فقدان التقاليد وتآكل القيم التي كانت تربط المجتمع معا ذات يوم.

من الموضوعات المهمة الأخرى في قصيدة الأرض الخراب البحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الغرض. القصيدة مليئة بمجموعة من الشخصيات الضائعة والمربكة والخاوية روحيا. ينعكس البحث عن المعنى في الأصوات المتعددة التي تتحدث طوال القصيدة، كل منها يبحث عن نوع من الاتصال أو الفداء. يشير هذا الشعور بالفراغ الروحي إلى مستقبل حيث تنجرف البشرية، دون بوصلة أخلاقية إرشادية.

تحتوي الأرض الخراب أيضا على عناصر من النبوءة والصور الكارثية. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الدمار والموت والبعث، مما يشير إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. يحتوي القسم الأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد"، على سلسلة من النبوءات الغامضة والغامضة التي تلمح إلى مستقبل حيث يكون الفداء ممكنا، ولكن فقط من خلال عملية التدمير والتجديد.

من نواح كثيرة، يمكن النظر إلى قصيدة "الأرض الخراب" باعتبارها حكاية تحذيرية حول عواقب إهمال الماضي والفشل في إيجاد المعنى في الحاضر. تعكس البنية المجزأة للقصيدة الحالة المجزأة للمجتمع، حيث يكون الأفراد معزولين ومنفصلين عن بعضهم البعض. المستقبل الذي يتصوره إليوت هو المستقبل الذي فقدت فيه البشرية طريقها، ويجب أن تخضع لعملية تجديد روحي من أجل العثور على الخلاص.

على الرغم من نبرتها القاتمة واليائسة، تقدم قصيدة "الأرض الخراب" أيضا بصيصا من الأمل للمستقبل. تنتهي القصيدة بصورة الملك الصياد، وهي شخصية من أسطورة الملك آرثر جريح ولكنه ليس ميتا. تشير هذه الصورة إلى أن الخلاص لا يزال ممكنا، حتى في عالم يبدو خاليا من المعنى. يمكن النظر إلى السطور الأخيرة من القصيدة، "شانتيه شانتيه شانتيه"، كصلاة من أجل السلام والمصالحة، ودعوة لمستقبل يمكن للبشرية أن تجد فيه الوحدة والانسجام.

تقدم قصيدة "الأرض الخراب" رؤية معقدة ومتعددة الطبقات للمستقبل قاتمة ومفعمة بالأمل. تعكس القصيدة تفكك المجتمع والبحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الهدف. وعلى الرغم من تصويرها القاتم لعالم في حالة انحدار، فإن قصيدة الأرض الخراب تشير أيضا إلى أن الخلاص ممكن، إذا كانت البشرية على استعداد للخضوع لعملية التجديد الروحي. تشير صور القصيدة للدمار والبعث إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. في النهاية، تعد قصيدة الأرض الخراب تأملا قويا في تحديات وإمكانيات العالم الحديث، وتذكيرا بأنه حتى في أحلك الأوقات، هناك دائما أمل في مستقبل أكثر إشراقا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

صادف أن نزلتُ في مناسبة من المناسبات بفندق صنف أربع نجوم وعندما دلفت إلى صالة المطعم الفسيحة لتناول فطور الصباح قابلتني الأطباق على يميني وشمالي من كل لون وصنف ومَذاق ولست أدري كيف وقعت عيناي على إحدى الزّوايا فإذا بي أرى صانع فطائر يُديرها بإتقان ثم يلقيها واحدة تلو واحدة في الطاجن ويتعهّدها بعد ذلك بالسّفود فتقدّمت إليه وبعد التحية والملاطفة سألته هل هو من بلد غمراسن المعروف بصناعة الفطائر والزّلابية والمخارق فقال إنّه حذق أمرها لدى أحد صنائعي غمراسن ثم سألني هل أنا من أهاليها فقلت نعم فزاد في الحديث معي وسألني كالمختبر قائلا لابدّ أنك تعرف قَلي الفطائر فأجبته باِعتزاز نعم فتعجّب من أمري وأراد أن يمتحنني فقال إذن خُذ هذه العجينة من يدي وأدِرْ فطيرتك بنفسك إن كنت من غمراسن حقا !

ووجدت نفسي أمام اِمتحان عظيم لم أتهيّأ له طيلة حياتي ويجب أن أنجح وأفوز بالتحدّي وفي تلك اللحظة تذكرت صباي عندما كنت أذهب صباح كل يوم أحد إلى والدي فكنت أراقب تفاصيل حركاته وهو يقلي الفطائر في دكان جدي بشارع الحرية في العاصمة تونس .

قبل أن أهُمّ بتناول العجينة من صاحبي غمستُ أصابعي في طسْت الماء بجانبه كي لا تلتصق العجينة بأناملي فاِبتهج صاحبي وقال يبدو حقّا أنّك عارف بهذه الحرفة وهو لا يدري أن هذه أوّل مرة ألمس فيها عجينةَ فطيرةٍ فأخذتها منه بأنامل يدي اليمنى وسُرعان ما ملّستها بضربة لطيفة على كفّي اليسرى ثم أدرتها بعناية حتى اِستدارت واِستوت  حينذاك ألقيتها بحركة دائرية وسط زيت الطاجن فاِستقرت في وسطه فطيرة كأشهى ما تكون !

حينذاك لاح سرور صاحبي وقال الآن أشهد أنك من غمراسن فقلت هات السّفود إذن لأقلِب فطيرتي على وجهها الآخر ثم لأرفعها تستقطر من الزيت بجانب  الطاجن !

كانت ألذّ فطيرة في حياتي

وكان أصعبَ اِمتحان

رحم الله والدي !

ــــــــ الفطيرة ـــــــــ

تحيّة إلى الكرام من ـ غمراسن ـ بالجنوب التونسي الذين عُرفوا منذ القديم بصناعة الفطائر والمخارق والزلابية ونشروها في جميع أرجاء تونس وفي سائر بلدان العالم وقد كانوا رمز الصّدق والشّهامة والوفاء والتّضحية وبكسبهم الشّريف تمكّن أبناؤهم وبناتهم من التقدّم في سُبل العلم والمعرفة وفي مختلف الوظائف والمهن والأعمال.

فالأمل أن لا ينسى الجيل القديم وأن يحافظ الجيل الجديد على القبم ـ الغمراسنية ـ الأصيلة بما فيها من عرّة وإباء وصبر وحبّ للخير لجميع النّاس.

تَوَكَّلْ عَلَى اللّه خُذْ بِالـلُّجَـيْـنِ

أَدِرْهُ بِلَمْسٍ يَصـيرُ فَـطِيـرَهْ

*

أَنَامِلُكَ السِّـحْـرُ مِنْهَا اَلْحَـــلَالُ

بِـفَـنٍّ تَـلُوحُ كَتَـاجِ الأمِـيـرَهْ

*

بِزيْتٍ وَقَمْحٍ وَعَزْمٍ عَـجَــنْــتَ

جِـبَالا وَجُبْــتَ بِلَادًا كَـــثِيـرَهْ

*

إِلَى الرِّزْقِ تَسْعَى بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ

 تَطُوفُ بِهَا وَنِعْمَ اَلسَّفِيرَهْ

*

لَكَمْ جَاءَكَ اَلْجَائِعُ وَاِشْـتَـهَـاهَا

هَنيئًا مَريئًا ـ مَلَاوِي ـ كَبِيــرَهْ

*

وَشَــهْـدُ اَلْمَخَارقِ مِثلُ الـزَّلَابِي

كَلَمْعِ الكَواكبِ تَبْدُو مُنِيرَهْ

*

تَرَى اَلنّاسَ فِي كُلّ شَكْلٍ وَلَوْنٍ

وَوَاحِدٌ أَنْـتَ فِي كُلّ سِيـرَهْ

*

لَـئِنْ طَوَّحَتْـنَا اَلـدُّرُوبُ فَنَحْـنُ

نَحِنُّ جَمِيعًا لِتِلْكَ اَلْـعَشِـيـرَهْ

***

سوف عبيد - تونس

 

في رواية "سيدة التوابل" للكاتبة شيترا بانيرجي ديفاكاروني، تجسد شخصية تيلو، وهي امرأة شابة تدربت على فنون التوابل الصوفية، مفهوم الحكمة بعدة طرق. تعمل تيلو كشخصية حكيمة وعطوفة لأولئك الذين يطلبون مساعدتها في متجرها للتوابل في أوكلاند، كاليفورنيا. من خلال تفاعلاتها مع شخصيات مختلفة وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسا قيمة حول الحب والتضحية وعواقب التدخل في القدر.

أحد الموضوعات الرئيسية في الرواية هو فكرة الإيثار والتضحية. يجب على تيلو، بصفتها سيدة التوابل، أن تتخلى عن رغباتها وعواطفها من أجل خدمة عملائها والوفاء بواجبها تجاه التوابل. يوضح هذا العمل من التضحية حكمة وضع احتياجات الآخرين قبل احتياجات المرء وأهمية خدمة غرض أكبر.

تنقل تيلو أيضا الحكمة حول طبيعة الحب والعلاقات. من خلال ملاحظاتها على علاقات عملائها وشوقها للحب، تعلمت تيلو أن الحب لا يمكن فرضه أو التلاعب به. تدرك أن الحب الحقيقي يأتي من اتصال حقيقي واحترام متبادل بين الأفراد، وليس من استخدام السحر أو الخداع.

علاوة على ذلك، تعلمت تيلو من تجاربها مع التوابل أهمية احترام النظام الطبيعي للأشياء وعدم التدخل في القدر. التوابل لها قواعدها وحدودها الخاصة، ويجب على تيلو الالتزام بها من أجل الحفاظ على قوتها وتوازنها. هذا الدرس في التواضع وقبول النظام الطبيعي للكون هو جانب أساسي من حكمة تيلو.

إن تفاعلات تيلو مع الشخصيات المختلفة التي تزور متجر التوابل الخاص بها تعمل أيضًا كفرص لها لنقل الحكمة والتوجيه. من خلال محادثاتها مع هؤلاء الأفراد، تعلمهم تيلو دروسًا قيمة حول القبول والتسامح وقوة الشفاء. تساعدهم على اكتشاف الحقائق المخفية عن أنفسهم وعلاقاتهم، مما يقودهم إلى إجراء تغييرات إيجابية في حياتهم.

جانب آخر من حكمة تيلو هو فهمها لقوة الكلمات ورواية القصص. بصفتها سيدة توابل، تستخدم تيلو لغة التوابل للتواصل مع عملائها والتأثير على عواطفهم وأفعالهم. إن هذه القدرة على سرد القصص ونقل الرسائل من خلال لغة التوابل توضح فهم تيلو العميق لقوة السرد وأهمية سرد القصص في تشكيل التجربة الإنسانية.

إن حكمة تيلو واضحة أيضا في قدرتها على رؤية ما وراء السطح وفهم الدوافع والعواطف العميقة لمن حولها. لديها حدس حاد وتعاطف يسمح لها بالتواصل مع الآخرين على مستوى عميق وتقديم التوجيه والدعم لهم. إن نظرة تيلو الثاقبة للطبيعة البشرية وقدرتها على رؤية الخير في الناس حتى في أحلك لحظاتهم تظهر حكمتها وتعاطفها.

وفي الختام، تجسد تيلو، سيدة التوابل، الحكمة في رواية "سيدة التوابل" من خلال إيثارها وتضحيتها وفهمها للحب والعلاقات وقبول القدر والتوجيه للآخرين وقوة سرد القصص والحدس والتعاطف. ومن خلال تفاعلاتها مع الشخصيات في الرواية وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسًا قيمة حول التجربة الإنسانية وأهمية عيش حياة ذات معنى ومرضية. تشكل حكمة تيلو نورا هاديا لأولئك الذين يطلبون مساعدتها ومصدر إلهام للقراء للتفكير في حياتهم وخياراتهم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

وأنت تكتب قصة او رواية او مقالا يصادف أن تهرب بك الذاكرة فتخونك وتورّطك في نقل جملة أو طرادة أو فكرة وتوهمك بأنك قائلها. تقنعك بأنّ الحافر قد وقع على الحافر وبأنّك بريء من كل سرقة لا موصوفة ولا مصادفة. وقد ينزاح بك القلم أو يزل ّفتصطدم بمثل شعبي أو مقولة فلسفية شاردة لم يذكرها كثيرون لكنّها ترسّخت في ذهنك حتى خلت أنها من بنات افكارك.

لا أحد من الكتّاب يضمن لنفسه البراءة من التناص إذا   لم يسجّل أفكاره في دفاتر محرّكات البحث التي أخذت دور الملكية العقارية ففاقتها في الخدمة والأمانة والصراحة.

وفي اعتقادي أن محركات البحث (وأشهرها الغوغل) صارت شاهدة علينا، نحن الكتاب، إذ بإمكانها تكذيبنا وفضحنا إن نحن ادعينا الاتيان بما لم يستطع أحد الاتيان به بل وهي قادرة على أن تفصل بين الأنا المتواضع الذي يكتب كلاما وينشره بين النّاس وبين الأنا النرجسي الذي يتشبث بحقّه في التّفاخر والتّنكّر لما قال سابقا. وبما أنني، مثلكم، أزداد حكمة وتعقّلا مع تقدّمي في العمر فقد أقدمت على اجراء مناظرة بين الأناءين من خلال ما كتبت في روايتين تفصل بين نشرهما سنوات. هي مناظرة افتراضية كتلك التي تنظم بين المتنافسين على مركز القرار. كان الأنا النرجسي هو المبادر بإبداء الرّأي قال: 

 النرجسي: أنا الحلم أعرف متى أهبط على الانسان. أنزل أحيانا كابوسا على الرؤِوس. أنا أجزاء متناثرة في الكل، أستولي عليه ولا أتركه الا بعد أن اترك فيه أوجاعا.

 المتواضع: أما أنا فكل لا يتجزّأ لأنني الأمل الذي يقود الحياة. أنبت في الأنفس التي ترعاني فأداويها من الأوجاع التي يسببها الحلم.

 النرجسي: أنا الحلم، أخطر على الشعوب من حمل السّلاح، أولد في الظّلام وأكبر في السّرّية، لذلك يعتبر بعض الحكّام أن إشاعة فكرة الحلم جريمة ترتقي الى مرتبة الخيانة العظمى.

المتواضع: أنا الأمل الذي يقود الشعوب الى الإطاحة بمن يمنعهم من تحقيق أحلامهم بحياة أفضل.

النرجسي: سأظل أرتفع عن العامّة التي تصرّ على القناعة والصبر ولعب دور الضّحية وأضطّر الى منعك ومنعها من الفوضى حتى لا تصنع منك بطلا.

المتواضع: تنتصر الضحية على الظالم بالصّبر فالصبر عند المظلوم كزيت الفتيل ينتصر دائما على الظلام. والفوضى تصنع من الجبناء أناسا شجعانا.

النرجسي: أنا لا أنافق بل أقول صراحة إننا نطمح الى العلوّ والسّمو فلماذا نخون أنفسنا وأوطاننا التي تسكننا؟ نحن نتوق الى العلياء بالفطرة والغاية تبرّر الوسيلة.

المتواضع: أمّا أنا فأوفي للوطن الذي يحملني ولا أخونه فخائن الوطن كمجنون يلهو بمقْود السيارة. لقد رضعت منه حليب الوفاء.

النّرجسي: لا حاجة لي بثدي لا يعلمني العناد والشجاعة.

المتواضع: لا تنس أن القهر يفعل ما لا تفعله الشجاعة.

النرجسي: نحن في الوطن نفسه وحكوماته المتعاقبة تأكل من نفسها وترتشي من أعوانها كالنار التي تدور على احطابها.

المتواضع: من واجبنا ألا نترك الحكومة توقظ الطوفان ثم تطلب منه ألا يجرفها.

النرجسي: أتريدني أن أحمل النّار دون أن أحترق أو أن اوقدها من رمادها بعد أن تخبو، هذه الحكومات التي تتباهى بالحفاظ على الانسان انما تأكل من لحمنا كلما جاعت وتشرب من دمنا اذا عطشت

المتواضع: الوطن وردة والوطنية عطرها والنضال من اجله شوك هذه المبادئ التي عليك ان تعرفها.

النرجسي: الوطن قوانين لا غير ونحن كالأطفال نظل نطيع القوانين و لا نثور عليها الا اذا احسسنا بظلمها الكبير.

المتواضع: البسطاء الحفاة الذين يرفعون الحاكم على اعناقهم هم قادرون على رفع اقدامهم الحافية لتدوس اعناقه إذا ما تمادى في ظلمهم

النرجسي: ثلاثة أدوار لا يمكنني لعبها: دور المجنون الذي يلهو بمقود السيارة ودور الطفل الذي يلعب بالسلاح ودور البحار الذي يرى ثقبا في السفينة ويسكت.

المتواضع: القانون الذي لا يحظى بموافقة كل الناس لا يسمى قانونا بل حكما ينفذه القوي على الضعيف.

النرجسي: ستعيش كالأحمق مطيعا مهادنا لذيذا كالحلم لا يمكن ان نحدّد له متعة ان كانت قبل النّوم أو بعده أو أثناءه وذلك سرّه الغامض.

المتواضع: بل سأظل الأمل الذي يترجم الحلم في داخل الأنا الى واقع أعيشه وأحياه.

وظل الأنا النرجسي متشبّثا بتعاليه وظل المتواضع يشقى بعقله. لذلك سأظل أحمل المتناقضين لألعب دور الحكم بينهما.

***

المولدي فرّوج / تونس

غيّب الموت فجر يوم امس الاثنين، الأول من تموز الجاري 2024، الكاتب الالباني البارز، الشاعر، المسرحي، الروائي إسماعيل كاداريه، وذلك عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، امضى جله في الكتابة وفي المواجهات الجريئة حينا والحيية أحيانا، علما ان كاداريه عاش فترة ابداعاته الأولى وما تلاها حتى اعوام التسعينيات، تحت حكم أنور خوجة المتسم بصفة متطرفة من الشيوعية الستالينية ذات القبضة الحديدية واكاد أقول النارية خاصة فيما يتعلق بالأدب وأهله.

الكاتب الراحل من مواليد عام 1936، ولد لعائلة البانية مُسلمة مثقفة، جذبه عالم الكتابة والابداع بعد قراءته مسرحية "ماكبث" للكاتب الإنجليزي البارز وليام شكسبير، وهو لما يزل في الثانية او الثالثة عشرة من عمره، وبعد انجذابه هذا قرر ولوج عالم الكتابة والابداع الادبي، وقد درس الادب بين عامي 59 و60 في معهد غوركي الموسكوفي. ابتدأ الكتابة في أواسط الخمسينيات واوائل الستينيات، وقد أنتج في هذه الفترة العديد من الاعمال الشعرية والقصصية، وصدرت روايته الهامة " "جنرال البحر الميت" عام 1963، لتلفت اليه الأنظار بشدة ولتكرّسه كاتبا من ابرز كتاب أبناء جيله، ولتطبق بالتالي شهرته الافاق، وقد نشرت هذه الرواية في القاهرة مترجمة عن الألبانية عام 83، كما نشرت مترجمة عن الإنجليزية عام 2001. وتحكي هذه الرواية قصة جنرال إيطالي يزور ساحة القتال برفقة رجل دين للبحث عن جنود جيشه الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية.

مما يذكر فيما يتعلّق بالقارئ العربي، حول الكاتب الراحل، هذا القارئ تعرف عليه عبر تقديم دار الآداب اللبنانية اعماله الروائية مترجمة الى العربية، وقد يسّرت هذه الترجمات لكاتب هذه السطور قراءة ابرز اعمال كاداريه الروائية مثل: مدينة الحجر، طبول المطر، الوحش، ومن أعاد دورانتين، قصر الاحلام، الجسر غيرها من الروايات التي صدرت عن دور نشر عربية أخرى مثل رواية الحصن التي صدرت ضمن سلسلة روايات الهلال العربية المصرية العريقة.

بعد معايشة تواصلت عبر العشرات من السنوات، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية على النتاجات الروائية والشعرية عامة لهذا الكاتب المهم.

* كما سلف عاش كاداريه ضمن ظروف سياسية غير مريحة في ظل حكم أنور خوجة الديكتاتوري المعروف بقسوته وقبضته الستالينية المتشددة، وكان من الطبيعي ان يتأثر بهذه الأوضاع وان تترك اثارها على ما انتجه من اعمال روائية، مسرحية وشعرية أيضا، غير أن تأثره هذا لم يوقعه في بوتقة المباشرة والتقريرية الممجوجة في الادب والفن، وعلى العكس فان من يقرأ اعماله او بعضا منها، يدهش لما اتصفت به من قدرات وطاقات أدبية إبداعية، لا تتنازل عمّا يفترض ان يحافظ عليه أي ابداع ادبي يريد ان يُقرأ وأن يعيش طويلًا لا سيما فيما يتعلّق بما اتفق على توفره في الاعمال الأدبية من وجدانيات، أفكار،  خيال وأسلوب.

* من هذا المنطلق يمكن للقارئ ملاحظة ان كاداريه تغلغل في تاريخ بلاده، خاصة خلال وقوعها ماضيًا تحت نير الاحتلال العثماني، وقام بأكثر من استعادة لهذا التاريخ ضمن محاولة لإسقاط ما حدث فيه على الواقع اليومي المعيش للبلاد، وذلك بهدف تعلُّم الدروس والعبر من الماضي، والاتعاظ به، ضمن تأكيد قوي على ما تضمنه ذلك التاريخ من اشراقات وطاقات تعزّز الانتماء وتؤصل الوجود، ولعلّ رواية "الحصن"، المذكورة انفا، تقدم مثالا ناصعا لما نذهب اليه.

* الى هذا يتعمّق كاداريه في العديد من نتاجاته الأدبية الروائية تحديدا، في الاساطير الشعبية، ضمن محاولة تتقاطع مع تغلغله في تاريخ بلاده، حدّ التوازي، ولعل روايته القصيرة "مَن أعاد دورنتين"، تقدّم مثالًا ساطعًا على هذا التغلغل في الأسطورة الشعبية الألبانية، وذلك عبر الموازاة بين اسطورة انبعاث الأخ للوفاء بعهده لأخته، وبين الاطار التاريخي – القروسطي- المتخيّل الحافل بالدسائس والمؤامرات، وكل  هذا يفتح افق الرواية على العديد من التأويلات التي تتطلبها الاعمال الأدبية العظيمة في العادة، كونها ترفض القراءة أحادية البُعد، وتحثّ على القراءات المتعددة عبر الوفير من التأويلات كما سلف.

تنطوي برحيل كاداريه صفحة ناصعة البياض في الادب الروائي العالمي، صفحة منحت صاحبها أملًا وجعلت لحياته معنى، كما صّرح في اخريات أيامه، ومما يذكر عنه بعد رحيله امران احدهما يتعلّق بترجمة اعماله الى العشرات من اللغات، منها العربية بالطبع، والآخر ما حظي به من اهتمام واسع النطاق وفي اكثر من لغة، بالنسبة للأمر الأول، اعتقد ان قطاعات وفيرة من القراء في بقاع واسعة من عالمنا قرات اعماله الروائية المذكور وغير المذكورة كما قرات اشعاره خاصة حصان طروادة، وعرفته كاتبا مثريًا مثقفا ومؤثرا، اما بالنسبة للأمر الاخر فمن المعروف ان كاداريه رُشح اكثر من مرة للحصول على جائزة نوبل الأدبية غير انه لم يحظ بها لأسباب يمكن لكل مجتهد التكهن بها، لكنه لم يحصل عليها، واعتقد انه اكتفى وتعزّى باهتمام القراء بما انتجه من اعمال أدبية خلال عمره المديد.

***

ناجي ظاهر

ما خطته أقلام لغة الضاد الجميلة من أيقونات إبداعية أدبية عبر العصور فيها من الجمال الأخاذ، ما لا يُضاهى بلاغيا وروعة  في التعبير والتصوير والإختصار.

تحف فنية خالدة مرسومة بحروف اللغة العربية!!

ومهما حاول المنقطعون عن جوهر الأمة وأنوارها الإبداعية الأصيلة الخالدة، فأنهم لن يصلوا إلى مقامات ما سطرته من جزيل الخرائد الفنية النثرية السامية البهاء.

فأقلام العرب سطرت ما يعجز عن قوله الشعر، وتفوقت بآياتها الجمالية على أقوى القصائد، وحتى فاقت المعلقات بإطلاقها لمكنونات الجمال الإنساني الخارق.

فلماذا يتحدثون عن النثر الشعري، ويدّعون ما يدّعون؟

قطعة نثرية عربية مكتوبة بمداد الإلهام الإبداعي، والتوافق المعرفي مع فضاءات علوية نقية، لا يمكن مقارنتها باي (قصيدة نثر)، مهما أراد أصحابها تبرير وتمرير ما يكتبونه على أنه شعر معاصر، فالمعاصرة لا تسحق جوهر الكينونة الإبداعية الوارفة العطاء والرقاء.

فهل من أصالة إبداع؟!!

***

د. صادق السامرائي

26\6\2024

بصمتٍ مُرعب مفزع، صمت رهيب يشبه شجرة تنتصب في عتمة ليلٍ داجٍ، رحل عن عالمنا الصديق، سوري المولد، فلسطيني الهوى، الكاتب السارد المبدع خالد صالح علي، رحل قبل أيام (يوم الاحد 23/6/2024)، تاركًا اسمًا طيبا وتراثا يستحق البقاء، ويدخل بعض منه الى ديوان النثر الفلسطيني متخذا له صفحة خاصة به، رحل كاتبنا العزيز الغالي بالضبط مثلما رحل قبله الكاتب الصديق حسين فاعور الساعدي ابن قرية الحسينية قبل ثلاثة أعوام ومثلما رحل الصديق الناقد الاديب نور عامر ابن قرية حرفيش في الجليل الأعلى في العام الماضي، لقد مضى صالح خالد علي عن عمر لم يزد عن الثمانين الا بسنة واحدة.

من سوريا الى فلسطين

خالد علي وهذا هو الاسم الذي وقّع به كل كتاباته وانتاجاته الأدبية، من مواليد القطر العربي السوري عام 1943، قذفت به الاحداث السياسية والاجتماعية القاسية الى بلادنا فأقام مع أبناء اسرته بداية في بلدتي الحبيبة الناصرة مدة ثلاثة أعوام، بعدها انتقل للإقامة في منشية عكا. في عام النكبة انتقل مع أبناء اسرته للإقامة في بلدة كفر ياسيف، في هذه البلدة تلقى تعلمه حتى الثانوي، اما دراسته العليا فقد تمت في مدينة بيت المقدس، وقد اهّلته للعمل في مجال التربية الاجتماعية، فالتحق بمعهد الجليل في عكا وفيه تسنّم وظيفة مرشد اجتماعي وقد عمل في هذه الوظيفة مدة نافت على الثلاثة عقود ونصف العقد من الزمن. قبل نحو العقد ونصف العقد حلّت به واخترقت صحته جلطة دماغية حدّت من حركته، لكنها لم تحدد من نشاطاته ومشاركاته الأدبية، وقد التقى به كاتب هذه السطور في العديد من المناسبات الأدبية الثقافية وأعرب له عن الكثير من الاعتزاز والتقدير لإرادته القوية التي تحدت المرض وتحلّت بالصوت الهامس القوى رغم المرض وآثاره.

تعود علاقتي بالكاتب الراحل، الى نحو ربع القرن، وكان لقائي الأول به عبر صفحات مجلة كانت تصدر ابان الثمانينات، أتذكر انها مجلة الشرق المحتجبة حاليا، وقد تكرر هذا اللقاء في مجموعته القصصية الأولى" ذات الانفاس"، الصادرة عام 1996، اما اللقاء الشخصي الأول لي به فقد تمّ خلال زيارة شخصية له الى مكاتب صحيفة" الصنارة" النصراوية، واذكر انه دخل غرفتي في الصحيفة، غرفة المحرر الادبي، وقدّم لي روايته " مذكرات الأمير"، الصادرة عام 2001، وهو يسرد لي قصة تلك الرواية، ويقول انه كتبها تحدّيا لكاتب مثقف مصري كاد يعايره بان الفلسطينيين لم ينتجوا ما يُذكر في موضوع الرواية التاريخية. وقد اعجبتني ثقة زائري ذاك بنفسه، لتبدأ علاقة ودّية حتى يومه الأخير، وما زلت اذكر بكثير من الدفء والمحبة، انني كتبت عن روايته تلك بعضًا من الكلم الادبي، ما أثلج صدره وما عزّز بالتالي علاقة المودة والتفاهم المضمر فيما بيننا.

ملامح وسمات أدبية

واضح مما تقدم ان راحلنا الكريم، كان مثقفا عصاميا، آثر الطحين على الجعجعة، وعمل في الظل حالمًا بان تكون اعماله الأدبية، على قلتها، كما سيرى الأخ القارئ، هي سقيره الى قارئه المتوقع المتخفّي، ورافضًا ان يكون هو ذاته سفيرَ اعماله كما يحصل في فترتنا المرتبكة الجارية.

صدر له خلال حياته الأدبية الحافلة بالهدوء وشبه الصامتة عدد قليل من المؤلفات، نشير فيما يلي، إضافة الى ما ذكرناه منها، الى أهمها وهو: *سبيل الطاسات (مقالات) سنة   1996*مدينة الرواية (قصص قصيرة) سنة 2009*دائرة وثلاث سيقان (رواية) سنة 2019.

اتصفت كتابات كاتبنا الراحل بالعديد من الصفات التي نفتقدها ونتوق اليها في الفترة الجارية فترة وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي التحول في الكثير من المسلمات والمفاهيم السابقة، خاصة فيما يتعلّق بالنشر، الامر الذي خلط الحابل بالنابل، ودفع بالكثيرين من المبدعين المجوّدين الى ايثار الصمت، وفي الوقت ذاته دفع في المقابل الكثيرين.. الكثيرين.. الى رفع العقيرة عاليا.. عاليا.. دون أي رصيد ثقافي ومعرفي طالما طالبت به ونشدته الفترة السابقة. هذا لا يعني أنني متشائم من الفترة الراهنة، بالعكس من هذا.. ها نحن نعبّر عن تفاؤلنا الذي طالما عبّرنا عنه وعن مثله في هذا المنبر او تلك الأمسية، وهو اننا انما نمرّ في الفترة الجارية في مرحلة من التطور الكمّي ونقترب من عالم الحرية في كل مناحي الحياة واولها الأدبية، بالضبط كما نقترب من فترة التطور الكمي.

مجمل القول ان كاتبنا الراحل، كان مقلًّا في انتاجه الادبي السردي، اذ ان عدد مؤلفاته لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة الا بالقليل، واعتقد ان السبب في هذا يعود الى امرين أحدهما الانهماك في الحياة اليومية وهمومها الضاغطة علينا جميعا، والآخر هو انه اخذ موضوع الابداع الادبي بكلّ جدية فلم يكتب الا ما داعب خياله وظنه، ووجّهه الى محبته الغامرة لكلّ ما هو جميل انساني واصيل في الحياة. وهذا كله ما اهله للحصول على جائزة الابداع الادبي الوزارية عام 2009.

***

ناجي ظاهر

في قصيدة "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" للشاعر ت. إس. إليوت، يلعب موضوع الطموح دورا مهما في تشكيل شخصية البطل. الطموح هو القوة الدافعة وراء أفعال وأفكار بروفروك طوال القصيدة. بينما يتصارع مع مشاعر عدم الكفاءة والخوف من الفشل، يدفعه طموح بروفروك إلى البحث عن المصادقة والقبول من الآخرين. ومع ذلك، فإن صراعاته الداخلية تعيقه في النهاية عن تحقيق طموحاته، مما يجعله يشعر بأنه محاصر في حالة من الشلل.

منذ بداية القصيدة، يظهر طموح بروفروك بوضوح وهو يفكر في الدخول الكبير في حفلة. إنه يرغب في ترك انطباع دائم على من حوله ويسعى إلى تأكيد وجوده في المجال الاجتماعي. ومع ذلك، سرعان ما طغى الشك الذاتي وانعدام الأمان على طموحه، مما جعله يشكك في قيمته وقدراته.

إن طموح بروفروك واضح أيضا في مساعيه الرومانسية، حيث يتوق إلى ارتباط عميق بشخصية تحبه. إنه مستهلك بأفكار حول كيفية إثارة إعجابها وكسب عواطفها، ومع ذلك فإن خوفه من الرفض والفشل يمنعه من التعبير عن مشاعره الحقيقية. إن طموح بروفروك في العثور على الحب والرفقة يفشل في النهاية بسبب حواجزه الداخلية، مما يجعله يشعر بالعزلة والانفصال عن من حوله.

بينما يتنقل بروفروك عبر المشهد الاجتماعي لمجتمع أوائل القرن العشرين، فإن طموحه يتحدى باستمرار مشاعر عدم الكفاءة والاغتراب. إنه يدرك تماما أوجه القصور والضعف لديه، والتي تعمل كحواجز أمام تحقيق أهدافه وتطلعاته. تعكس الاضطرابات الداخلية لبروفروك الأزمة الوجودية الأكبر في الحداثة، حيث يكافح الأفراد لإيجاد المعنى والغرض في عالم سريع التغير.

وعلى الرغم من طموحاته، فإن بروفروك غير قادر على التحرر من قيود عقله وتوقعات المجتمع. يطارده الخوف من الفشل والرفض، مما يمنعه من المخاطرة وملاحقة أحلامه. في النهاية، تقوضت طموحات بروفروك بسبب انعدام الأمان والقلق، مما جعله يشعر بخيبة الأمل والإحباط.

في المقاطع الأخيرة من القصيدة، يتأمل بروفروك في موته وعبثية طموحاته. يواجه الواقع القاسي لقيوده الخاصة وطبيعة الحياة العابرة، مما دفعه إلى التشكيك في صحة رغباته وتطلعاته. يتضاءل طموح بروفروك في النهاية بسبب إدراكه أن جهوده قد تذهب سدى، مما دفعه إلى مواجهة فراغ وجوده.

يستكشف تي إس إليوت "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" موضوع الطموح من خلال شخصية البطل. إن سعي بروفروك الدؤوب إلى التحقق والقبول هو ما يحرك أفعاله وأفكاره طوال القصيدة، إلا أن صراعاته الداخلية تمنعه في النهاية من تحقيق أهدافه. ومن خلال تجارب بروفروك، يسلط إليوت الضوء على تعقيدات الطموح والتحديات المتأصلة في الإبحار عبر عالم مليء بعدم اليقين والغموض. وفي النهاية، يعمل طموح بروفروك كانعكاس للأزمة الوجودية الأكبر في الحداثة، حيث يتصارع الأفراد مع مشاعر الاغتراب وخيبة الأمل في سعيهم وراء المعنى والغرض.

***

محمد عبد الكريم يوسف

اعلن صباح اليوم الاثنين عن رحيل  الروائي الألباني الكبير إسماعيل كاداريه في أحد مستشفيات العاصمة تيرانا، إثر نوبة قلبية، عن 88 عاماً. كاداريه يعد من كبار الروائيين في ألبانيا وأوروبا، أعاد في رواياته كتابة التاريخ الألباني القديم والحديث، وترجمت العديد من أعماله إلى العربية.

كان كاداريه على قوائم جائزة نوبل ، وكان يتوقع ان يحصل عليها بعد ان  فاز بجوائز  بريطانية وفرنسية ، لكنها خاصمته كما خاصمت الكثير من الكتاب الكبار .  كاداريه يعد  واحد من أبرز الروائيين الألبان والأوروبيين، وقد ترجمت أعماله إلى لغات عدة ولقيت رواجاً، كونها  رواياته  تتميز بطابع كلاسيكي ونفس سردي تاريخي وملحمي. فهو عمد طوال مسيرته الأدبية، إلى تفكيك تاريخ بلاده، دامجاً بين الأساطير والقضايا السياسية والتجارب الإنسانية.

ولد كاداريه في مدينة جيروكاسترا في جنوب ألبانيا عام 1936، وهي مدينة الرئيس الألباني أنور خوجا الذي كان يوصف بالديكتاتور. درس في جامعة تيرانا، ثم سافر إلى موسكو ليدرس في معهد غوركي للأدب العالمي. وعندما عاد إلى بلده عام 1960 وجد أن خوجا قطع علاقاته مع موسكو وأقام حلفاً مع الصين البلد الشيوعي المناوئ عقائدياً للاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

استهل كاداريه مساره في الصحافة، ونشر بعضاً من أشعاره. ولكن ما كرسه كاتباً وأطلق اسمه في الأدب الألباني كان عمله الروائي الشهير "جنرال الجيش الميت" وقد صدر عام 1963. ثم ما لبث أن تفرغ للكتابة فتتابعت أعماله وأصدر روايات مهمة لقيت صدى لدى القراء والنقاد.

بدأ الكتابة في منتصف الخمسينيات ونشر بعض القصص القصيرة في الستينيات حتى نشر أولى رواياته بعنوان " جنرال الجيش الميت"  عام 1963. وتعد أشهر رواياته التي منحته شهرة دولية خارج ألبانيا. وتحكي قصة جنرال إيطالي في مهمة قاسية يحاول خلالها العثور على رفات جنود بلاده الذين لقوا حتفهم في ألبانيا خلال الحرب العالمية الثانية وإعادتهم إلى إيطاليا.

من بين روايات كاداريه الأخرى التي تتناول التاريخ الألباني؛ رواية " القلعة"  أو " الحصار" ، الصادرة عام 1970، وتروي قصة المقاومة المسلحة للشعب الألباني ضد الأتراك العثمانيين في القرن الـ15. وكذلك رواية " الشتاء العظيم " ، الصادرة عام 1977 وتصور الأحداث التي أدت إلى الانفصال بين ألبانيا والاتحاد السوفياتي عام 1961.

في عام 1996 مُنح كاداريه عضوية أكاديمية العلوم السياسية والأخلاقية الفرنسية، ثم أصبح لاحقاً ضابطاً في جوقة الشرف الفرنسية. وفاز بجائزة بوكر الأدبية عام 2005، وجائزة أمير أستورياس عام 2009، وجائزة  نويستات  الأدبية الأميركية عام 2020. وحصل أيضاً على جائزة «مونديال تشينو ديل دوكا» عام 1992، وجائزة  هيردر  عام 1998. ورُشِح أكثر من مرة لجائزة نوبل في الآداب. كما تُرجِمت أعماله إلى أكثر من 30 لغة، فيما تجاوزت أعماله 100 عمل تنوعت ما بين روايات ودواوين شعرية ونصوص مسرحية وسيناريوهات.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

تكادُ تكونُ الطَّائرةُ وحَسْب هي الموضِعُ الذي يَهربُ بي، صوبَ خَلَجَاتٍ مُخجلةٍ في الفكرِ أراها جليَّاً تَشهبُ بي. فما إن أقعدُ ببَطنِها مُنبَهراً، وبلعابٍ سيّالٍ لتقنيةٍ فيها تَحلِبُ بي، حتى أرى تيكَ الخَلَجاتِ تنهمرُ مُجَلجِلةً وتندبُ بي. ثُمَّ ما إن تَقلعُ من مَدرجِها حتى تَختمرُ رُغمَ أنفي تُصَرِّحُ بأنِّي مِن أمَّةٍ عالةٌ على أممٍ، وذيكَ خَلجَةٌ ما فتأت تثلبُ بي. وثَمَّ كلمَّا تصَّاعدتِ الطَّائرةُ في جوِّ السماء تَصَّاعدَت تيكَ الخلجاتُ وتصَاعدَ عويلُها يهتفُ بي، بأنَّه ليسَ لي يدٌ في صنعِ سلكٍ أو جُزءٍ من ذي طائرةٍ وذاكَ عويلٌ بمَعَرَّةٍ تضربُ بي. ثُمَّ تأتيَ خَلجةٌ أمرُّ وأدهى بأنَّ كلَّ أجزائِها صُنِعَت بأيادٍ هي بربِّ السَّماءِ كافرةٌ، وهذا عارٌ يَذهبُ بي، الى خَلجةٍ أخرى هي أعتى وأخزَى بأنَّهُ حتى جهاز ملاحةٍ جَويةٍ في برجِ المَطار قد خَلقَتهُ أيدٍ هيَ كذلكَ مِن ربِّ السَّماءِ نافرة، وذاكَ شَنارٌ يلهبُ بي.

ثُمَّ أرانيَ أتأمَّلُ وُجوهَ بني قومي من مسافرينَ على مَتنِها وذلكَ فضولٌ صبيانيٌّ مَعيبٌ ما فتِأ يلعبُ بي، فأرَى بعضَها وجوهاً تحتَ شَلالِ شَخيرِها غَافيةً، وتيارُ نَومِها يكادُ يَسحبُ بي، وبعضَها وجوهاً جافيةً ورسوماتِ انتفَاخِها بتَنَطُّعٍ وخُيلاءَ يَقطبُ بي، وكأنَّ أحدَهُم هوَ الصَّانعُ لمنظومةِ (هَيدروليك) الطَّائرة وتلكَ خَيلاءُ جوفاءُ الى السَّأمِ تغرُبُ بي، بينَما هوَ في حقيقِ الأمرِ لا يَعلمُ مِن ذي دُنيا دائِرةٍ، سوى الثّريدَ وهزَّ العُرجونِ بعُودٍ من جريد لينالَ تُمَيراتٍ بائِرة، وذاكَ خطبٌ سقيمٌ يَخطبُ بي.

ثمَّ أرانيَ أنظرُ من نافذةِ الطَّائرة بهوسٍ غريبٍ يرغَبُ بي، فأرى مَيادينَ أمتي خربةً وخرابُها بوَجعٍ شديدٍ يقلِبُ بي، وأرَى فَدَادِينَها ثَاويةً وتَثُجُّ بالتَّلافحِ بين مِللِ دينٍ خاطئةٍ ومذاهبَ دَجَلٍ واطِئَةٍ، وجائرةٍ كاذِبةٍ كُلِّها وتحزبُ بي، ماخلا ملَّةَ أبينا إبراهيمَ وتلكَ مِلَّةٌ بمحجَّةٍ بيضاءَ زكيَّةٌ غالبةٌ تَشهبُ بي. وأرى بَساتِينَها خاويةً وتَعُجُّ بالتَّناطحِ بين ثيرانٍ قَبَليةٍ وعُجولٍ عَشائرية ترَاها لأهلِ السَّذاجةِ نَادبَة. ذاكَ تناطِحٌ مجٌّ يصخبُ بي. ثمَّ أرى سَلَاطِينَها عَاويَةً وتأجُّ بالتَّباطحِ بين أحزابِ صَعلكةٍ سِياسيَّةٍ مِن سبلِ الأصالةِ هَارِبَة، ولأهلِ السَّفاهَةِ جَاذِبة، وذاكَ تصعلكٌ يَعصِبُ بي. ثمَّ جَفَلتُ فُجأةً من جليسٍ هولنديٍّ بالجَنبِ في ذيكَ الطَّائرةِ السَّاربةِ، يقولُ وهوَ يَجذبُ بي:

"أظنُّكَ لن تَرى في فَدَادِينَ أمَّتِكَ طَوَاحِينَ، أبداً ولا مَوَازِينَ تَزنُ رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ بمَهابَةٍ". قولُ هذا الهولنديِّ ما إنفكَّ يعشُبُ بي. لكنِ الحقُّ معَه رُغمَ أنَّ قيلَهُ ثقيلٌ ويَقشِبُ بي، لأنِّيَ أبداً لن أجدَ في دروبنا رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ أفخرُ بهِ ويشهبُ بي، فأذنابُ السَّلاطينَ: إمَّا صَلبوهُ في سَاعةٍ غَاربةٍ، إمَّا حَبسُوهُ في خَرابةٍ غَاضِبةٍ، وإمَّا صَيَّرُوهُ خَبَلاً طَوَّافًاً في الدُّروبِ كمثلِ كَلبةٍ من سَكارى الحَيِّ في لَيلٍ شتويٍّ مَذعورةٍ هَاربَة، فويلٌ لي في أمَّةٍ عالِمُها خَبَلٌ يَحُكُّ استَهُ في الدُّروبِ، ويلٌ لم يزلْ يُكَبْكِبُ بي. فهلّا بحَثْنا معاً بعُيونٍ هيَ للدَّمعِ ساكبةٍ، عنِ كلِّ كَلْبَةٍ عَلّامةٍ لكنَّها مذعورةٌ وهَاربة، فلا نَجاةَ لنا من كُلْبَةِ الدَّهرِ ولا قيمةَ لنا فيهِ إلّا في احترامِ وتقديرِ الكَلبةِ الهَاربةِ.

(ومعنى الكَلْبَةِ؛ الشّدَّةُ مِن كلِّ شيءٍ)، وكانتِ الكُلْبَاتُ في دروبِ أمتي مِن كلِّ حَدبٍ تضربُ بي.

عَوْ ! عَوُوُو!

***

علي الجنابي

 

علوية صبح كاتبة ومسرحية لبنانية شهيرة قدمت مساهمات كبيرة لعالم الأدب بقصصها الآسرة. ولدت علوية في لبنان، وغالبا ما تدور أعمالها حول تعقيدات المشاعر الإنسانية والعلاقات والأعراف المجتمعية في الثقافة اللبنانية. من خلال أسلوبها الفريد في سرد القصص، تمكنت علوية من جذب قلوب القراء في جميع أنحاء العالم.

واحدة من أبرز قصص علوية صبح هي "خشب الصندل". تستكشف هذه القصة موضوع الخسارة والحزن حيث تتبع رحلة امرأة حزينة على وفاة زوجها. تصور علوية بشكل جميل الاضطراب العاطفي الذي تمر به بطلة الرواية وتسلط الضوء على الطرق التي تتعامل بها مع حزنها. من خلال الصور الحية واللغة المؤثرة، تنقل علوية بفعالية شدة مشاعر بطلة الرواية، مما يجعل "خشب الصندل" قصة قوية ومؤثرة.

في "الأرجوحة"، تتعمق علوية في تعقيدات العلاقات بين الأم وابنتها. تدور أحداث القصة حول أم تكافح للتواصل مع ابنتها المتمردة، مما يؤدي إلى توتر العلاقة بينهما. تستكشف صبح ببراعة الانقسام بين الأجيال وتحديات التواصل داخل الأسرة، مما يخلق سردًا مثيرًا للتفكير يتردد صداه لدى القراء من جميع الخلفيات.

تدور أحداث قصة "أشجار البرتقال في بيروت" لصبح حول مفهوم الذاكرة والحنين. تدور أحداث القصة على خلفية بيروت التي مزقتها الحرب، وتتتبع مجموعة من الأصدقاء الذين يجدون العزاء في أشجار البرتقال التي كانت تزين ملعب طفولتهم. من خلال عدسة ذكريات هذه الشخصيات، ترسم صبح صورة حية لعصر مضى وتلتقط المشاعر المريرة المرتبطة بتذكر الماضي.

قصة أخرى آسرة لصبح هي "طعم الملح". تتبع هذه القصة امرأة شابة تكافح من أجل التحرر من قيود نشأتها المحافظة وملاحقة أحلامها في أن تصبح طاهية. تنسج صبح بشكل معقد موضوعات التقاليد والتمرد واكتشاف الذات، مما يخلق سردا مقنعا يتحدى المعايير والتوقعات المجتمعية.

في "صانعة العطور"، تستكشف صبح فن صناعة العطور وارتباطه بالذاكرة والهوية. تتبع القصة صانعة العطور التي تشرع في رحلة لخلق رائحة مميزة تجسد جوهر تجارب حياتها الخاصة. من خلال العملية الإبداعية للبطلة، تصنع صبح بمهارة قصة تحتفي بقوة الرائحة في استحضار الذكريات والعواطف.

"البيت في شارع مونو" هي قصة جميلة ومؤثرة من تأليف صبح تستكشف موضوع النزوح والشوق. تدور أحداث القصة في بيروت التي مزقتها الحرب، وتتبع مجموعة من الأفراد الذين يجدون أنفسهم يعيشون في منزل مهجور في شارع مونو، كل منهم يتصارع مع شعوره الخاص بالخسارة وعدم اليقين. من خلال نثرها المثير، تلتقط صبح يأس وشوق شخصياتها وهم يتنقلون بين عدم اليقين الناجم عن الحرب والنزوح.

في "بيت الطيور"، تحكي صبح قصة فتاة صغيرة تجد العزاء في رعاية الطيور المصابة في قفص مؤقت في حديقتها الخلفية. وبينما ترعى الفتاة الطيور حتى تستعيد عافيتها، تبدأ أيضا في التعافي من الألم والصدمة التي تحملتها في ماضيها. إن تصوير صبح المؤثر للصمود والشفاء يجعل "بيت الطيور" قصة مؤثرة ومبهجة تتردد صداها لدى القراء من جميع الأعمار.

"صباحات في بيروت" هي قصة غنائية جميلة من تأليف صبح تجسد جوهر المشهد النابض بالحياة والصاخب في بيروت. من خلال عيون فتاة صغيرة تستكشف شوارع المدينة عند الفجر، ترسم صبح صورة حية لماضي بيروت وحاضرها ومستقبلها، وتنسج معًا موضوعات الأمل والصمود والروح الدائمة لسكانها.

في "زهرة الياسمين"، تستكشف صبح موضوع الحب المحرم والتوقعات المجتمعية. وتدور أحداث القصة حول زوجين شابين يجب عليهما التغلب على تحديات رفض أسرتيهما وإيجاد طريقة للبقاء معا على الرغم من العقبات التي تعترض طريقهما. إن تصوير صبح الحساس للحب والتضحية في "زهرة الياسمين" يجعلها قصة مؤثرة ومؤثرة تظل في قلوب القراء لفترة طويلة بعد الصفحة الأخيرة.

لم تتخل الكاتبة في روايتها الثالثة "اسمه الغرام" ، عن مجهرها في رؤية الواقع، لتبرز تفاصيل الموضوع الذي تتناوله، والتي تشكّل أهمية قصوى على درب معرفة الحقائق، وتعرية النفوس من ما يعتمل فيها، وكشف المستور الذي يبرع الآخرون في إخفائه، وحتى التشدق بعكسه. لم تتخل أيضا عن دفاعاتها المسبقة، فلم تنس الإعلان أن “الكتابة دايما ناقصة”، وأنها لا تتعدى على مسيرة حياة أبطالها ولا تتحكم بهم، ولا تفرض رؤيتها عليهم، فتعلن أن “نهلا تلكزني كي أكتب حكايتها”، “المليئة بالحب والحياة..”، فالبطلة نهلا اختفت وقد تكون ضحية من ضحايا حرب تموز على لبنان عام 2006، وهي الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، فأنا ـ”إن لم أكتب حياتها، ألن أجعلها تتحول إلى مجرد اسم مكتوب على كيس نايلون مثل مصير وحيوات أولئك الأطفال والضحايا الأبرياء”. لكنها تعود للشك في مصداقية الكتابة نفسها: ” لم أعد أدرك إن كنت أعرف امرأة اسمها “نهلا” حَكت لي حكايتها لأكتبها، أم أني أتخيّل حياة امرأة من بين الذين رأيتهم ينتشلونهم من تحت أنقاض منازلهم”. كما أنها لا تنفي وجود المبرر الذاتي والهدف الشخصي: “لم يكن أمامي سوى أن أطاوع نهلا لأقاوم موتي بالكتابة”.

"اسمه الغرام" رواية غنية بالقصص المتعددة والمصائر المتنوعة، وبشخصيات نسائية مركبّة بين الواقع وبين خيال التركيب الروائي. نهلا وسعاد وعزيزة ومنى ونادين وميرنا، كلهن سيعبّرن وسيكنّ إطارا للحديث عن الأهم وهو الموضوع. ألا تنتهي حياة الشخصيات والأفراد والأسماء وتبقى المواضيع…وهذه المرة كان “الغرام” هو الموضوع الأهم الذي اختارته الكاتبة. “ما اسم هذا الغرام الذي يفتك بي ويحييني في آن”؟! تقول البطلة التي تعود إلى غرامها الأول هاني، بعد أن انفصلا وبنى كل منهما حياته بعيداً عن الآخر، فتزوج وانجب. فحبهما “جمر بقي متوقدا”، وبحسب تعبيرها: “كنت مختبئة فيه، وهو يختبئ فيّ طوال الوقت الذي لم نر فيه واحدنا الآخر. ومن أجل ذلك، لم أنسه، لأن الأشياء التي نختبئ فيها لا تُنسى أبداً”.

يفيض الكلام بمشاعر الحب ويختلف باختلاف حدّتها. فالحب أنواع :”الحب هو اللي ما فيكي تقمعيه وتحديه متل النهر”، وحب الودّ والمحبة، و”الحب اللي فيه ولع وتيه ومفردات كثيرة”.

في جولتها وبحثها عن كشف حقيقة ما “اسمه الغرام”، لن تبخل الكاتبة في عرض محتوياته على أرض الميدان، ومصطلحاته المستعملة، ومفاهيمه المطبّقة، وكل ما يدور حوله: الزواج والتقاليد، والحب والعلاقة المختلفة التي تربط بين قطبيه، والرغبة الجنسية واكتشاف الجسد، وعدم الاكتفاء والحرمان، والتعويض عن هذا الحرمان..

تتخذ الكاتبة موقعا واقعيا كاشفا في طريقة تناولها لهذا الموضوع المتشعب والشديد الخصوصية. لكنها حتى في تدّخلها الذاتي ورؤيتها الخاصة، لا تدين ولا تحلل ولا تطرح حلولا، بل هي تقدم تفاصيل واقع تزج نفسها به، لتخرج بحصيلة رؤى ومشاهد، تسجل أحداثها وظواهرها وتدون تعابيرها، وتدع للقارئ المهام الأخرى من الاستنتاج والتحليل.

من جانب  آخر تتعمق الرواية في تعقيدات الحب والعلاقات، وتستكشف مواضيع الرغبة والشوق والخيانة. تدور أحداث القصة في بيروت، وتتتبع حياة العديد من الشخصيات المتشابكة وهم يبحرون في مياه الحب والانكسار.

تبدأ الرواية بتعريف نهلا، وهي شابة تكافح لإيجاد معنى لحياتها بعد سلسلة من العلاقات الفاشلة. تنجذب إلى الشاب الغامض، الفنان الكئيب الذي يبدو أنه يقدم لها الحب والاستقرار الذي تتوق إليه. ومع تعمق علاقتهما، تبدأ نهلا في التشكيك في نوايا علي الحقيقية وتتساءل عما إذا كان حبهما مبنيا على أساس من الأكاذيب.

مع تطور القصة، يتم تعريف القارئ بمجموعة ملونة من الشخصيات التي يجلب كل منها وجهات نظره الفريدة حول الحب والعلاقات. من الفنان العاطفي إلى سيدة الأعمال البراجماتية، تقدم كل شخصية عدسة مختلفة يمكن من خلالها رؤية تعقيدات المشاعر والرغبات البشرية.

في جميع أنحاء الرواية، تنسج صبح نسيجا غنيا من المشاعر، وتستكشف صعود وهبوط الحب في جميع أشكاله. من الاندفاع المسكر للحب الجديد إلى الألم المدمر لكسر القلب، تختبر الشخصيات في "اسمه الغرام" مجموعة واسعة من المشاعر التي ستتردد صداها مع القراء من جميع الخلفيات.

تتمثل إحدى نقاط قوة كتابات صبح في قدرتها على التقاط الفروق الدقيقة للعلاقات الإنسانية بصدق وحساسية. إنها لا تخجل من الجوانب الفوضوية والمؤلمة غالبا للحب، بل تختار بدلاً من ذلك مواجهتها بشكل مباشر بطريقة صريحة وحازمة.

بينما تتصارع الشخصيات في الرواية مع شياطينهم ورغباتهم، يضطر القارئ إلى التفكير في تجاربهم الخاصة مع الحب والعلاقات. كتابات صبح هي استبطانية ومثيرة للتفكير، وتتحدى القراء للنظر في تعقيدات الحب في حياتهم الخاصة.

في جوهرها، "اسمه الغرام" هي رواية عن البحث عن الاتصال والتفاهم في عالم يمكن أن يشعر غالبا بالبرودة واللامبالاة. من خلال رحلة نور والشخصيات الأخرى، يستكشف صبح الطرق التي يمكن للحب من خلالها أن يرفع ويدمر في الوقت نفسه، فيجلب الفرح والألم على حد سواء.

في النهاية، "اسمه الغرام" هي تأمل قوي ومؤثر في طبيعة الحب والعلاقات. كتابات صبح غنائية ومؤثرة، تجذب القارئ إلى عالم حيث يسود العاطفة والرغبة، وحيث لا ينتهي البحث عن الحب.

تشكل رواية علوية صبح "اسمه الغرام" استكشاف مكتوب بشكل جميل ومؤثر للغاية لتعقيدات العلاقات الإنسانية. من خلال شخصياتها الحية ونثرها المثير، تقدم الرواية تأملا قويا في طبيعة الحب وتأثيره على حياتنا. إنها قراءة لا بد منها لأي شخص تعامل مع أفراح وآلام الحب، ويسعى إلى فهم أعمق للقلب البشري.

تقدم قصص علوية صبح نسيجا غنيا من المشاعر والموضوعات والشخصيات التي تسلط الضوء على تعقيدات التجربة الإنسانية في المجتمع اللبناني. ومن خلال نثرها المثير ورواياتها المقنعة، تدعو صبح القراء لاستكشاف أعماق الحزن والشوق والحب والمرونة بطريقة تتردد صداها على مستوى عالمي.

***

محمد عبد الكريم يوسف

بقلم: أليس ماكديرموت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

مثلما قال إيمرسون ل ويتمان: "أحييكم في بداية مسيرة مهنية عظيمة، والتي لا بد أنها كانت لها خلفية طويلة في مكان ما، لمثل هذه البداية". نفس الكلمات التي قالها لي محرري عندما نشرت روايتي الأولى عام 1982 – يا إلهي! على الرغم من أنني يجب أن أعترف - بقطع النظر عن إيمرسون وويتمان - فقد صدمني هذا الشعور حتى في ذلك الوقت باعتباره مبالغًا فيه إلى حد ما.

يبدو لي الآن أنه جاء في توقيت سيء. وبعد مرور أربعين عامًا، أنا متأكدة تمامًا من أنني ما زلت في بداية هذه المهنة، وما إذا كانت مهنة رائعة أم لا لم يتحدد بعد.

هذا لأنه، كما اكتشفت بالفعل بلا شك، فإن مهنتنا، وحياة الكاتب، تسمح لنا بالاعتقاد بأننا دائمًا في بداية الأشياء، لأن كل قصة جديدة نكتبها، وكل رواية جديدة، وكل جملة جديدة، هذا الأمر المهم، يحولنا مرة أخرى إلى مبتدئين، وطلاب جدد، ومسافرين وحيدين في أراضي مجهولة، ومبتدئين - جدد إلى الأبد في هذا، يحاولون دائمًا سرد قصة لم تُسرد من قبل.

ليس هذا بالأمر السيء، حقًا.

*

ومع ذلك، فإن هذه المناسبة، وهذا الاحتفال بظهورك الأول، يتطلب كلمات حكيمة ومشورة حكيمة من أحد شيوخ القبيلة، أو على الأقل من شخص ليس جديدا في هذه الوظيفة .

ولذا كنت أحاول أن أتذكر النصيحة التي ربما تلقيتها في وقت مبكر، النصيحة التي ربما ساعدتني خلال هذه السنوات من البدء.

ولقد تذكرت هذا: حفل عشاء جوائز الكتاب الوطني في فندق بيير عام 1987. وكانت روايتي الثانية واحدة من بين خمس روايات وصلت إلى التصفيات النهائية في ذلك العام (كان هذا قبل وقت طويل من ذلك الشيء الخبيث الذي يسمى القائمة الطويلة)، ولكن كذلك كانت رواية توني موريسون الرائعة. الحبيب. الأمر الذي خفف الضغط عنا نحن البشر الأقل شأنًا - كان الجميع يعلم أن الحبيب سيفوز.

(على الرغم من أننا، بالطبع، لنواجه الأمر، لم نكن لنكون كتابًا إذا لم نكن أيضًا حالمين ورومانسيين... لذا أعترف أنني تخيلت لفترة وجيزة لحظة سندريلا عندما ظهرت روايتي الثانية الصغيرة، على نحو مفاجئ، باعتبارها رواية فائزة ، خيال الحصان الأسود الذي استغرق روايتين أخريين وعقدًا آخر ليؤتي ثماره فيما يسمى أحيانًا "الحياة الحقيقية")

على أية حال: في فندق بيير، كنت أنا وزوجي على طاولة الناشر مع متأهل آخر للتصفيات النهائية - لاري هاينمان، الذي كتب رواية مدمرة عن فيتنام، "قصة باكو - وزوجة لاري". كان هناك أيضًا محرري ووكيلي ورئيس قسم الدعاية، لكنني كنت جالسة بجوار روجر شتراوس نفسه، أحد مؤسسي فارار وستراوس وجيرو، وهو شخصية أدبية كبيرة: أرستقراطية النشر، أرستقراطية مانهاتن؛ - أسطورة كبيرة، وسيم، ذات شعر فضي، اشتهر بارتداء الأسكوت، وملء محادثته المضحكة بألفاظ نابية مذهلة..

تأتي جائزة القص دائمًا في المرتبة الأخيرة في حفل توزيع جوائز الكتاب الوطني - وهي أفضل لحظة مصورة - وعندما تم الإعلان عن ذلك، فازت قصة باكو بالجائزة. حدثت ثلاثة أشياء في وقت واحد: شهق الجمهور، وانفجرت زوجة لاري هاينمان في البكاء، وربت روجر شتراوس على ركبتي مثل عم متعاطف. بينما كان لاري يشق طريقه إلى المنصة، انحنى روجر ليهمس في أذني... قال: "آه، عليهم اللعنة ".

وبعد عشرين دقيقة، بينما كنا نرتدي معاطفنا، أمسكت توني موريسون بيدي وقالت لي نفس الشيء بكل سرور.

إنها نصيحة حكيمة، وشعار كاتب، استفدت منها جيدًا على مر السنين، وها أنا الآن أنقلها إليك: آه، عليهم اللعنة.

استخدمه عندما يقترح شخص ما أن كتابة القصص ليست وظيفة حقيقية.

أو عندما تسمع أن الطباعة قد ماتت. والكتب عفا عليها الزمن. وسوف يحل الذكاء الاصطناعي محلنا جميعًا.

آه، عليهم اللعنة!

أهمس بها كلما قيل لك: لا يمكنك قول ذلك. لا يمكنك كتابة ذلك. لا يمكنك بيع ذلك.

قل ذلك عندما يحاول شخص ما أن يقترح أن هناك محظورات لفننا: أنه لا يُسمح لك بتخيل نفسك في عوالم معينة، أو شخصيات معينة، أو ثقافات معينة. أنك ممنوع من خلق مواقف لم تعيشها بالفعل. أنك ممنوع من اقتراض الكثير مما يسمى "الحياة الحقيقية".

قلها عندما يُقال لك إنك تأخرت كثيرًا في فكرتك الخيالية، فقد تم إنجازها من قبل. أو مبكرًا جدًا – لم يتم القيام بذلك من قبل.

"آه، عليهم اللعنة."

قلها بضحكة. أو بهزة كتف .

قل ذلك بلطف، بنفس الطريقة التي قد تتمتم بها، "أيها الأحمق المسكين"، أو "أوه، حسنًا"، أو مثل سيدة جنوبية مستهترة، "لماذا، ليبارك قلبك". أو قلها بصبر وأسى كما قد يقول الأيرلنديون: "فليساعدنا الله".

القراء، وقراء الروايات على وجه الخصوص، هم أشخاص رائعون، وكرماء، وضروريون، وأفضل الناس، حقًا، ولكنهم يمكن أن يكونوا أيضًا، حسنًا، مزعجين.

لذلك قل ذلك بلطف عندما يسألك عزيزي القارئ: "لماذا قصتك حزينة جدًا؟ " أو "هل كان من المفترض أن تكون قصتك مضحكة؟" أو "هل كنت تنوي وضع تلك التفاصيل المحورية الذكية هناك أم أن ذلك حدث للتو؟" قل ذلك بأقل قدر من السخط عندما يقترح قارئ متحمس أن عملك سيجد جمهورًا أوسع إذا كانت قصصك أقل تعقيدًا.

آه، عليهم اللعنة.

سألني كاتب من أكثر الكتب مبيعًا بشكل يبعث على السخرية ذات مرة. قال:

- هل تحبين الكليشيهات؟  أنا أحبها .

يعرف الناس بالضبط ما تعنيه عندما تستخدم عبارة مبتذلة. عبارات مبتذلة. شخصيات مبتذلة. ليس عليهم أن يفكروا في الأمر.  أكد لي:

- يجب عليك استخدام المزيد من الكليشيهات. القراء يقدرون ذلك.

فكرت: آه، عليهم اللعنة.

*

في إحدى جلسات الأسئلة والإجابة السريعة التي أجريت مؤخرًا، تم سؤالي عن شعوري تجاه المراجعات عبر الإنترنت. أعترف أنني كنت متعبًا بعض الشيء، لقد كان يومًا طويلًا، وربما كنت غريب الأطوار إلى حد ما. أخبرت السائل أنني لم أقرأ مثل هذه المراجعات - لعملي أو لأعمال الآخرين - لأن الكثير منها يعادل سؤال شخص ما "لماذا لست أطول؟"

*

يقول لك القارئ العابس: "لم تكن قصتك تدور حول ما اعتقدت أنها ستكون حوله". يقترح عليك أحد القراء المفيدين أن تقوم بمراجعة رواية تشبه روايتك - في الحقيقة لن تكون مثل روايتك - لأنها أنتجت سلسلة شعبية. يقول أحد القراء القلقين: "لقد استمعت إلى كتابك بينما كنت أقوم بإعداد عشاء من ثمانية أطباق لعشرين شخصًا في مطبخ مزدحم ولم أفهم النهاية تمامًا. ربما تركت شيئًا ما." يقول القارئ قليل الكلام: "لقد قرأت قصتك"، ثم لا شيء آخر.

يجب أن تبتسم. يجب أن نكون دائما لطفاء مع القراء.

ولكن يجب أن تفكر، مع ذلك، آه، عليهم اللعنة.

*

كاتب عظيم، لم يعد معنا، كان في منزله الريفي، يكافح من أجل تأليف روايته الألف، عندما توقفت سيارة ليموزين طويلة في ممر منزله وخرجت منه وأسقطت كاتبًا أصغر سنًا كان قد دافع عنه قبل عقد من الزمن، أعقبها ضباب من دخان الحشيش. ومن ثم النجم السينمائي الشهير جدًا الذي كان على وشك الظهور في النسخة السينمائية من الكتاب الكبير الحالي للكاتب الأصغر سنًا. قالا إنهما جاءا لتكريم هذا الكاتب العظيم، كاتب كانا يعشقانه، كاتب رثياه أثناء تناول المشروبات، والذي كانت رواياته، للأسف، غير قابلة للتصوير السينمائي.

عندما انطلق الاثنان بسيارتهما الليموزين، اتصل الكاتب العظيم بوكيله - الذي روى لي القصة - ليأسف لعدم عرض أي من كتبه الحائزة على العديد من الجوائز على الشاشة. ماذا كان يفعل خطأ؟ هل كان منفصلا عن الواقع؟ هل كان عمله يشيخ بشكل سيء؟

فقالت وكيله: بالله عليك اذهب واكتب.

ما كانت تقصده، بالطبع، هو: آه، عليهم اللعنة.

قلها عندما تبدأ يومك في الكتابة، بينما تدير ظهرك لكل الأشخاص والأصوات التي لا تنتمي إلى غرفة الكتابة الخاصة بك: الآباء، والأشقاء، والأزواج، والنقاد - عبر الإنترنت أو غيرهم - والأصدقاء والجيران ذوي الرأي، أحدث كتاب كبير، والمؤلف الجديد الأكثر إثارة، وبعض الأشياء التي على  تيك توك، وزميل الدراسة الذي حصل للتو على صفقة بقيمة مليار دولار مع Netflix.

آه، عليهم اللعنة.

و كما قال فوكنر، لا تترك مكانًا في ورشتك لأي شيء آخر غير أحكام وحقائق القلب البشري.

وبعد أن أمضيت لحظة "ليلة الموتى الأحياء"، أغلق الباب على الأيدي المتلمسة والوجوه الكئيبة لكل ما يمنعنا من مواجهة تلك السلطات والحقائق بلا قيود- وبدونها، كما قال فولكنر، تصبح أي قصة سريعة الزوال ومحكوم عليها بالفشل - انظر إلى المرآة المجازية وقلها لنفسك.

قل ذلك لشكوكك، وترددك، ومخاوفك بشأن الحصول على وظيفة حقيقية.

آه، عليهم اللعنة.

قل ذلك لمخاوفك بشأن كتابة الشيء الخطأ: العبارة الخاطئة، أو الشخصية الخاطئة، أو النوع الخطأ، أو الموضوع أو المشاعر الخاطئة. القصة التي تموت على الكرمة.

أعني، اللعنة على تلك المخاوف.

قلها لكل فكرة معقولة، محبطة، وجبانة تزور عقلك المضطرب، لكل الأشياء التي تشل حريتك في الكتابة.

آه، عليهم اللعنة

وينطبق الشيء نفسه على خيالات سندريلا الخاصة بك بالفوز بجائزة أدبية كبيرة، بالإضافة إلى يقينك على غرار إيور بأن عملك لن يرى النور أبدًا.

اللعنة على كليهما.

سوف تفشل، بالطبع سوف تفشل. سوف ترتكب أخطاء. ستكتب جملًا فظيعة، ومشاهد غير ضرورية، وقصصًا تفقد قوتها، وروايات ربما لا تكون أفضل أعمالك.

أصدقائي، إن المخاطر المهنية الكامنة في اختيار مهنة - مهنة سرد القصص - هي التي تبقيك، بغض النظر عن عدد السنوات التي عملت فيها، إلى الأبد مبتدئًا، ، ومستكشفًا وحيدًا ينطلق لبناء عالم جديد.

مهنة تبقيك في البداية، مجرد بداية مسيرتك المهنية العظيمة، لأن هناك دائمًا قصة جديدة لتكتبها، وجملة جديدة لتؤلفها، وصوت مصنوع من الكلمات وحدها، لم يُسمع بعد، والذي فقط يمكنك اكتشافه.

قمت بإعادة قراءة إيريس مردوخ في الآونة الأخيرة، لأنني لا أزال أكتشف كيفية القيام بذلك، والكتاب الجيدون هم، في النهاية، أفضل المرشدين. (على الرغم من أن المحررين العظماء مثل باتريك وهانا وماريبيث وويل سيساعدون أيضًا بالطبع).

تستخدم مردوخ مصطلحًا أصبحت مولعة به كثيرًا: "نكران الذات".

كلمة جميلة لمقاومة ثقافة "الأنانية" لدينا. طريقة رائعة لتحديد ما نفعله عندما نواجه مخاوفنا الكتابية ونقول: آه. . . جيد أنك علمت . . .

نكران الذات. في عالم مردوخ، يعد هذا مفهومًا معقدًا -أفضل المفاهيم كذلك- لأن مردوخ كانت فيلسوفة وروائية، كما أعتقد، مثل أفضل الكتاب.

وتؤكد أن نكران الذات هو الهدية العظيمة لكل من الفن والطبيعة. إنها القدرة على التخلص، ولو للحظات فقط، مما تصفه بـ "الأنا السمينة التي لا هوادة فيها". إنها القدرة على ترك الذات، ولو للحظات، من أجل الرؤية بوضوح.

وتقول إن الفن العظيم يمنحنا متعة خالصة في الوجود المستقل لما هو ممتاز. سواء في نشأتها (التي ستكون وظيفة الكاتب) أو استمتاعها (وظيفة القارئ) فهي شيء يتعارض تمامًا مع الهوس الأناني. إنه ينشط أفضل قدراتنا، وباستخدام اللغة الأفلاطونية، يلهم الحب في أعلى جزء من الروح.

وتقول إن (الفن العظيم) قادر على القيام بذلك تقريبا بفضل شيء يشترك فيه مع الطبيعة: كمال الشكل الذي يدعو إلى التأمل الحر ويقاوم الانغماس في حياة الحلم الأنانية للوعي.

*

من قبيل الصدفة، أم لا، هناك صدى لإيمرسون في هذا:

إن الشاعر الذي يستخدم الطبيعة كخط هيروغليفي يجب أن يكون لديه رسالة كافية لينقلها.

صدى لويتمان أيضا: الذي قد تبدو "أغنيته لنفسي" متناقضة تماما مع نكران الذات، إلا عندما تفكر: لأن كل ذرة تنتمي لي هي ملك لك.

لذا، هذا هو الشيء الذي يجب أن نتذكره: نحن الذين نعمل في الفنون الأدبية نسعى لنحصل، لبعضنا البعض، ولنا جميعًا، على متعة خالصة - فرحة بالوجود المستقل لما هو ممتاز، فرحة بكمال الشكل. لقد خرجنا لنلتقط، من خلال قصصنا، التأمل المجرد الذي يحررنا جميعًا من غرورنا الذي لا هوادة فيه، ويحررنا من الهواجس الأنانية التي تحد من حياتنا، والتي تجعلنا تافهين ومشتتين ووحيدين.

نكتب لنتخلص من كل التشوهات الذاتية للتعصب والأحادية والاستياء والرأي، حتى نتمكن من التعرف وتحديد وتوضيح سلطات وحقائق القلب البشري التي توحدنا، السلطات والحقائق التي يجب على كل راوي أن يسعى إليها.

أعرف أعرف. هذا كله مبالغ فيه جدًا. ساذج جدًا أيضًا. ألا نريد جميعًا بيع بعض الكتب وكسب عيش كريم؟ ربما توقع هذه الصفقة مع Netflix؟

أنا أعلم، أسمع ذلك.

على الرغم من أنني كنت روائية لأكثر من أربعة عقود، فقد أمضيت أيضًا بعض الوقت في العالم الحقيقي، وبالطبع سمعت كل شيء:

كل تلك الأصوات الذكية المدمرة التي تقول إن ثقافتنا قد تجاوزت منذ فترة طويلة أي تملق طموح للرجال البيض الموتى مثل إيمرسون وويتمان وفولكنر.

الجوقة الهادئة والثاقبة التي تنص بقوة على أن فترات انتباهنا المختصرة جعلت الانطباع شبه ميت. لقد أصبحت المفاهيم المعقدة التي طرحها الروائيون الفلسفيون قديمة تمامًا.

أعرف ضجيج الحشود الصاخبة التي تتنبأ بأن الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى إفلاسنا جميعًا. ويُبْعد رواة القصص الأصلاء والمبتكرون عن الإنتاج.

لقد سمعت كل الاعتراضات الواضحة على مفاهيم تخصصي في اللغة الإنجليزية حول أهمية الأدب للروح.

لقد سمعت هذه الحجة، وقلبتها في ذهني. احتضان كل واحد منهم. لقد شعرت في أوقات مختلفة بالرعب والرعب والاكتئاب والراحة بسبب المعرفة الجيدة التي لديهم.

وفي هذه المناسبة الرائعة في بداية مسيرتكم المهنية العظيمة، أنصحكم أن تفعلوا الشيء نفسه: استمعوا بعناية لجميع التحذيرات المعقولة حول سعينا العقيم والمضلل الذي عفا عليه الزمن. تعجب بمنطق العالم الحقيقي لكل تنبؤ رهيب بأن الفنون الأدبية قد ماتت. قلّب هذه الأصوات الذكية في قلبك وعقلك.

وبعد ذلك، لأن هناك دائمًا قصة جديدة لنرويها، قل: آه، عليهم اللعنة.

وابدأ من جديد.

***

...........................

الكاتبة: أليس ماكديرموت: Alice McDermott  مؤلفة تسع روايات، نشرتها جميعها FSG، بما في ذلك تشارمينغ بيلي، الحائزة على جائزة الكتاب الوطني، وتلك الليلة، وفي حفلات الزفاف والاستيقاظ، وبعد هذا، والتي وصلت إلى التصفيات النهائية لجائزة بوليتزر. وهي أيضًا مؤلفة مجموعة المقالات ماذا عن الطفل؟: بعض الأفكار حول فن الخيال. ظهرت قصصها ومقالاتها في نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ونيويوركر، ومجلة هاربر، ومنشورات أخرى. تعيش خارج واشنطن العاصمة.

 

الثقافة التراثية الشعبية ثقافة نقلية.. ينقلها العوارف والرواة من السلف إلى الخلف في حديث المجالس.. وهي شانها شأن الثقافة العربية طللية.. بما تتميز به من انجذاب عاطفي نحو الماضي، بكل ما يحمله ذلك الماضي من أصالة القيم والتقاليد والشعر والادب والفروسية ومكارم الأخلاق..

 وقد تميز بين القوم.. عدد من الرواة.. قيض لنا ان نعاصر البعض منهم.. ونستمع إلى مروياتهم في التراث.. ففي خمسينات القرن الماضي.. فقد كان الراوية النابغة كندير يرتاد مضايف الديرة.. حتى اواخر ستينيات القرن الماضي، ويقضي ليلته ضيفاً فيها.. حيث كان يسترسل بالسرد في مجالسها، إلى وقت متأخر من الليل.. وبطريقة جذابة لا يمل منها الحضور، بل ويلحون عليه في كثير من الأحيان، طالبين منه سرد المزيد من حكايات التراث عليهم...

وتجدر الإشارة إلى أن الملا ضيف الأحميد المصطفى.. كان ايضا من فحول الرواة ومن اعلام النسابة... حيث كان يسرد مروياته بطريقة سلسة، وبأسلوب قص سردي بليغ، يأسر المتلقين.. فكان مصدراً لكثير من الباحثين في الأنساب والتراث.. كما ان الأديب إشعموط كان هو الاخر، راوية متمكنا يجمع بين الفكاهة، وحكايات التراث بشكل محبب... بحيث لا يمل السامع حديثه..في حين كان الأديب محمد العبيد الضاحي، نسابة تراثيات متميزا، في سرديادته، التي تجذب المتلقي اليه برغبة جامحة،كي لا يفوته من حديثه شيء منها..

 لقد كان لأولئك الرواة الأفذاذ، وغيرهم.. فضل ولمسة واضحة، في تكوين الثقافة التراثية الجمعية لجمهور ريف الديرة.. ولأن وسائل التوثيق لم تكن متاحة يوم ذاك.. بالشكل الذي هي عليه اليوم لتدوين مروياتهم.. فقد فات الكثير مما رووه وجادت به قريحتهم.. وبذلك فقد ترك رحيلهم فراغا واضحاً في الساحة التراثية.. بما تميزوا به من مواهب فطرية إبداعية، استظهارا، وسردا نقليا.. مما بات يتطلب من الكتاب والأدباء المهتمين بالتراث،المبادرة على عجل، لتدوين ما تركوه من مرويات،في التراث والموروث الشعبي في كافة مجالاته وتوثيقها، وجمعها في كتاب.. للحفاظ عليها من الضياع بمرور الوقت.. لتكون وسيلة لاطلاع الأجيال القادمة، ومرجعا متاحا للباحثين، والمهتمين بالتراث مستقبلا..

ولعل التوكيد على موضوعة الموروث الريفي الشعبي التقليدي، والنهوض بثقافة توثيقه، يظل هاجسا مشروعا، وأمرا مطلوبا باعتبار الموروث الشعبي، نتاج هوية أصالة، وينبغي الحفاظ عليه من المسخ والتشويه،بتداعيات العصرنة الصاخبة بجوانبها السلبية..الأمر الذي يؤرق المهتمين بالتراث خاصة، ويجعله موضع قلقهم، لاسيما وأن تداعيات العولمة جارفة، وفي طريقها لكنسه، لتتركنا مستلبين بلا ملامح..

***

نايف عبوش

أنتِ كنار الغضّا

وهذا الحب يحتطب

أغصاني  برفق

ليقدمها بسخاء لنار موقدك.  

ليفوح شذاه.

*** 

كامل فرحان

قراءة الومضة:

صاحب هذه الكلمات شاعر من طراز فريد، الإلهام الشعري يأتي له بغته ويختفي تماما كمن يضع مصبحا ليضئ طريقاً للعابرين وهذا يتناسب مع الومضة الشعرية كصورة واحدة مركبة ليزداد عنصر التكثيف مع خرق اللغة.

قال نيتشة: إن مرماي أن أكتب في عشر جمل ما يكتبه غيري في كتاب.وهذا ما حققه الشاعر كامل فرحان، حيث استخدم الإيجاز والتكثيف  والبناء الدرامي الدائري حيث انتهى من حيث أبتدأ/ نار الغضا /  ثم انتهى بنار الموقد. والموقد  أيضا غضا لتكتمل الدائرة: نار - حطب  - حب - موقد نار:

أنتِ كنار الغضّا

وهذا الحب يحتطب

أغصاني  برفق

ليقدمها بسخاء لنار موقدك.  

ليفوح شذاه.

وما أدراك وحركة الجفون بسهد الأحبة.. شعور لا يمكن تمثيله بكلمات.

وانظر الى أركان صورة فرحان وتشكيلها وحتى بروازها المفتوح الذي يعيدنا تارة إلى الصوفية والمفردات التي كان يذكرها عمر ابن الفارض في أشعاره بكثرة حيث تدل على الفناء في المحبوب وتدل على مداعبة الروحانيات

وكذلك الحلاج...

الاركان أو العناصر الثابتة على الورق المتحركة في المُخيلة والمشاعر

نار الغضا / (حركة تقترب فيها الجفون ككناية عن السهد) 

الحب وحطبه / وانسنته

الموقد/ وهو ماعون النار التي تلهب قلب المحب بسبب غضاضة الجفون.

هذالحب يحتطب اغضاني

فالاغصان هي اجمل شئ واهم شئ في الشجرة لينزاح الشاعر إلى أن الحب يأخذ اجمل ما فيه برفق ثم يهديها لجفونه (بسخاء) حين يغلقها فتشب نيران الحب وتخرج دخان بشذى عطر تلك الأغصان وهي مشاعر المحب.

***

زين المعبدي

 

بسمة الخطيب هي كاتبة لبنانية غزيرة الإنتاج، وقد أسرت قصصها القراء في جميع أنحاء العالم. ولدت الخطيب ونشأت في لبنان، وتستمد الإلهام من التقاليد الثقافية الغنية لوطنها، وتنسج قصصا خالدة ومعاصرة. غالبا ما تستكشف كتاباتها موضوعات الحب والخسارة وتعقيدات العلاقات الإنسانية، وتقدم للقراء لمحة عن تعقيدات الحياة في الشرق الأوسط.

إحدى أشهر قصص الخطيب هي "طريق الحرير"، التي تحكي قصة امرأة شابة تشرع في رحلة للعثور على ذاتها الحقيقية. تدور أحداث القصة على خلفية طريق الحرير التجاري القديم، وهي تأمل في قوة اكتشاف الذات وأهمية اتباع المرء لمساره الخاص في الحياة. من خلال نضالات البطل وانتصاراته، تستكشف الخطيب موضوعات الهوية والتمكين، وتتحدى القراء للتفكير في رحلاتهم الخاصة في اكتشاف الذات.

ومن بين قصص الخطيب الشهيرة الأخرى "شجرة الأرز"، وهي حكاية مؤثرة عن الحب والخسارة في ظل غابات الأرز المهيبة في لبنان. وتحكي القصة قصة زوجين شابين وهما يواجهان تحديات علاقتهما، ويتعمقان في تعقيدات عواطفهما ورغباتهما. ومن خلال النثر الغنائي والصور الحية، يلتقط الخطيب جمال الحب ومأساته، ويدعو القراء إلى التأمل في الطبيعة العابرة للعلاقات الإنسانية.

في "بستان الزيتون"، يستكشف الخطيب تأثير الحرب والصراع على الناس العاديين، ويروي قصة عائلة مزقتها العنف والمأساة. تدور أحداث القصة في قرية صغيرة في جنوب لبنان، وتقدم لمحة عن الحقائق القاسية للحياة في منطقة مزقتها الحرب، حيث يتم اختبار روابط الأسرة والمجتمع إلى أقصى حدودها. ومن خلال عدسة نضالات البطل، يلقي الخطيب الضوء على مرونة وشجاعة الروح البشرية، ويذكر القراء بقوة الحب والأمل في مواجهة الشدائد.

وتستمد قصص الخطيب جذورها العميقة من تقاليد وفولكلور لبنان، وتستمد من تاريخ البلاد الغني وتراثها الثقافي لخلق سرديات غامرة ومثيرة. على سبيل المثال، تحكي الخطيب في "زهر اللوز" قصة امرأة شابة تكتشف سرا عائليا مفقودا منذ فترة طويلة مخفيًا بين أغصان شجرة لوز قديمة. ومن خلال رحلة البطلة في اكتشاف الذات، تستكشف الخطيب موضوعات الأسرة والتراث والقوة الدائمة لسرد القصص، وتنسج نسيجا من التاريخ والأساطير يتردد صداه لدى القراء من جميع الأعمار.

ومن أكثر قصص الخطيب المؤثرة "زهرة الياسمين"، وهي قصة مؤثرة عن الحب والخيانة تدور أحداثها في شوارع بيروت المترامية الأطراف. تتبع القصة امرأة شابة وهي تتنقل بين تعقيدات علاقتها برجل كاريزمي ولكنه معيب، وتتعمق في تعقيدات الرغبة والشوق والخيانة. من خلال النثر الغنائي والصور الحية التي تستخدمها الخطيب، ينتقل القراء إلى عالم بيروت النابض بالحياة والصاخب، حيث يتعايش الشغف وألم القلب في توازن دقيق.

في "شجرة الرمان"، تروي الخطيب قصة فتاة صغيرة تشرع في رحلة اكتشاف الذات بعد تدمير بستان عائلتها بسبب الحرب. ومن خلال نضالات البطلة وانتصاراتها، تستكشف الخطيب موضوعات الخسارة والمرونة والقوة الدائمة للطبيعة للشفاء والتجديد. وعلى خلفية المناظر الطبيعية الخصبة والتقاليد القديمة في لبنان، تشكل القصة تحية مؤثرة لمرونة الروح البشرية في مواجهة الشدائد.

لقد اكتسبت قصص الخطيب قراء مخلصين في جميع أنحاء العالم، حيث تُرجمت أعمالها إلى لغات متعددة ونُشرت في مجلات أدبية مرموقة ومختارات. وقد نالت نثرها المثير وروايتها الحية استحسان النقاد والعديد من الجوائز، مما عزز سمعتها كواحدة من أكثر المؤلفين موهبة وإقناعًا في لبنان. من خلال قصصها، تدعو الخطيب القراء لاستكشاف تعقيدات التجربة الإنسانية، وتقدم نافذة على النسيج الغني للثقافة والمجتمع اللبناني.

تعد الكاتبة بسمة الخطيب راوية موهوبة، وقد أسرت حكايات الحب والخسارة والتجربة الإنسانية القراء في جميع أنحاء العالم. وبالاستفادة من التقاليد والفولكلور الغني في لبنان، تنسج الخطيب سرديات عالمية ومتجذرة بعمق في التراث الثقافي لوطنها. ومن خلال نثرها المثير وصورها الحية، تروي بسمة الخطيب قصصا عن الحب والخسارة والتجربة الإنسانية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

عندما ماتت "أمي" لم أبكي، كان الحزن أكبر من تصريفه عبر الدموع، فثمة أحزان لا تبكي حتى وإن بكيناها لا نبكيها كما تستحق. ثمة خسارات ونكبات في حياتنا لو أردنا أن نبكيها كما يليق بها لبكيناها دَمًا لَا دُموعًا. ثمة خيبات لا شيئ قادر على أعادة الثقة الينا بعدها. ثمة إنكسارات تعجز الدنيا كلها عن ترميمها،، في لحظة صفاء مع النفس والتأمل وذاكرة قطعت المسافات بسرعة البرق ونحن اطفال وبين الحقول، والغربة،والقراءة والأدب والفلسفة والجغرافيا والتاريخ ودولة ما بعد حرب اكتوبر والحداثة، والعولمة وعري الشوارع والليبرالية المتطرفة في الحقوق الفردية والرواية الجديدة وجسور الآنهار في اوروبا، وقطارات وصالات وأندية أوروبا، لتعود في النهاية الى زمن (الطفولة) في قريتنا، اكتشفت وانا أقرأ للكاتب والفيلسوف { ميلان كونديرا} وهو يتحدث عن الموت بلا شهود ولا استعراض هو موت ورقي مارسه (الشيخ محمد) من قريتنا وهو لا يقرأ ولا يكتب..؟ عندما شعر بدنو الأجل ذهب الى الحقل كي يموت في عزلة، عاش سنوات وسط الحقول في إنتظار موت لا يأتي. لم يكن يخاف من الموت بل من الضعف. كان يخجل ان يراه احد مُنهكًا أمام الموت. الحياء من قدر كوني كبير. الحياء من أن يُرى.مكشُوفًا لذلك ذهب الى الموت كما لو كان علي موعد مع الموت بلا شهود ولا استعراض.، كيف انتهيت بعد طواف ورحلة في دول الى" صومعة الشيخ محمد" وكوخه في (الجرن) وفي الحقل وليالي الضباع والصلاة النقية في الحقل عند الدخول والخروج منها؟

عندما تهاوى كثيرون أمام إغواء الغرب، عدت أنت للجذور ليس بدافع الحنين وحده، بل بدافع الاكتشاف وغواية النقاء البري..؟

لم يكن "الشيخ محمد " شخصاً فحسب، كان زمناً ومجتمعاً ومبادئ حياة، حيث الطبيعة هي الأصل والثقافة ثانوية، كان الضمير هو القانون. يكفي ان تترك أبواب المنزل بدون اقفال وتسافر. حتى لصوص ذلك الزمان كانت لهم مبادئ وقواعد شرف: لا تسرق مال يتيم او أرملة أو غريب . ليس من الرجولة، ولا يُختزل به الشيخ محمد بل هو كل الزمن المنقرض خارج نجاسات العهر السياسي والاجتماعي وعصر الوحوش من رأس المال،

يوم كان الحلف (بالماء والملح وربعت الشيخ صيام) هو القانون،يوم كانت المصافحة وعد ووفاء والضحكة قسماً.

ورغيف الخبز المتبادل عهد شرف والكلمة وثيقة شرف. يوم كانت صحون الطعام تدور في المساء للمحتاجين تحت جنح الظلام للعفة، يوم كان المناخل والغرابيل على الحائط هو صمام أمان ودستوراً، يوم كان اللص يبكي من السرقة ولعنة العوز.

كان زمن "الشيخ محمد" خارج كل نظم الحكم، زمن مرجعية تتداخل فيها الطبيعة مع العرف تداخل سبيكة الذهب، لم يكن سلطة ولا يفرق بين ملك ورئيس، لا بين جمهورية ولا ملكية، لكنه يعرف موسم الأمطار وزهور الربيع، والغيوم البيض علامة الخريف:

ظلال شهر اكتوبر علامة نهاية الصيف، وسخونة تراب شهر مايو وبزوغ نجمة الفجر،لماذا أتذكر [الشيخ محمد] في زمن الموت العاري، وخيبة البشر بنظام العالم، زمن صارت فيه الشطارة ثقافة والحيلة ذكاءً، والخيانة وجهة نظر..؟ آنا من عشاق فن المطربة (فيروز) احتفظت علي صفحتها بهذا التعليق علقت قارئة بذكاء على أغنية لفيروز، قائلة إن فيروز ليست مغنية فحسب بل هي مؤرخ لزمن الحارة وشادي والثلج ومواسم العنب والعصافير وفوانيس الشوارع، وشايف البحر شو كبير وقهوة الصباح وطير الوروار، وجايبلي سلام من عصفور ينفض جناحه عند شباك الدار، وأين ذهب شادي الذي كان يأتي من الأحراش ونلعب أنا وياه..؟ احتفظت في مذكراتي عن تعليق يحكي حقبة تاريخية، ابحث مع فيروز عن شخصية شادي هذا العصر اين ذهب ..؟

لا أحد يعرف أين راح، في جبهة ممزقة من ميلشيات أم في قوارب الموت في البحر، أم صار زعيماً في حزب او عصابة؟من يوم مات الشيخ محمد وإختفى شادي، اختفى الجانب النظيف وانطفأت فوانيس القرية والكفر والعزبة والنجع والضيعة، ونحن ننطر عالطريق، ماذا ننطر..؟

لا أحد يخرج من هذه الصحراء الميتة، صحراء الداخل والخارج، ولا خيار لنا أمام جنون العالم غير الجلوس "وانتظار أحد ما يأتي من مكان" أغنية ميج جيفر: الأ غنية الأخيرة التي سمعها الفيلسوف والآديب { صموئيل بيكيت } في انتظار جودو وحامل جائزة نوبل في دار المسنين في سريره الأخير وطلب من الفريق الطبي مغادرة الغرفة وعندما عادوا وجدوا كل شيء انتهى.

لم يشارك في جنازته سوى الفريق الطبي ونزلاء دار المسنين. لم يَأْتِ أَحَد. لم يذهب أحد. هذا فظيع كما قال يوماً.

عندما شعر الشيخ محمد راعي الأغنام بقرب الأجل قال لزوجته:

" أنا ذاهب للحقل لكي أموت إياك أن تخبري أحداً".

إرتدى أفضل ملابسة واخذ حمام دش في حمام المسجد، وقال لها:

"هذا الخاتم لك".

كل ما يملك وغادر المنزل بعصاه التي ما فارقته يوماً. ذاهب للموت كما لو الى حفل وعلى موعد، تابعته زوجته في الشارع في المساء حتى إختفي.عندما أقارن بين شخصية هاري في رواية "ثلوج كليمنجارو" للروائي (همنجواي) الذي يصاب برحلة بغرغرينا فوق الجبل الأفريقي ويهذي عن ماضيه ويشرب بإفراط، أجد أن "الشيخ محمد" أعظم من :

هاري يستسلم هو الآخر للموت حتى لا ينتظر طائرة الإنقاذ لكنه يحكي بصدق وفي واحدة من هذياناته يقول لزوجته: أنا لا أحبك، وتصاب بالذعر.

لكن الشيخ قال لها:

" كسرت ظهري. ستبقين وحيدة".

كان هاري المستلقي تحت شجرة ميموزا فوق سرير من الحبال فوق قمة جبل كليمنجارو الأفريقي يرنو الى السهل في الأسفل: السهل ضاج بالحياة ومتوهج. طيور كاسرة. ظلال متحركة. عشب حي. كل ما يتنافر مع رجل يموت. هاري يتكلم مع زوجته.

سلطة اللغة في مواجهة سلطة الموت. هو الآخر يعرف كل شيء إنتهى ولا ينتظر أحداً.الشيخ محمد أعزل ووحيد في عتمة الحقول لا يتكلم مع أحد، هو من قبل لا يتكلم مع أحد إلا في حالات نادرة، سيد الحقل والبراري، مروره في المكان يعطره من الدنس لكن فاطمة قالت لي بعد سنوات:

" مرة واحدة سمعته في الفجر يتكلم، وإختبأت في الجرن، وكان يردد مع نفسه:

" كلمات لم اسمعها من قبل وهو رافع وجهه الي السماء . في العتمة الفجرية هو في انتظار موت لا يأتي. في عزلة باردة وموت متردد، كان يتفسخ حياً في المرة الأخيرة التي زارته فيها فاطمة، لم يأت الموت وعندما يأتي سيرى عينيه في عتمة الحقل.لكنها لم تتحمل في ظهيرة ربيعية دافئة ومشرقة، فجاءت هلعة للحقل لتقول الحقيقة للرجال:

" تعالوا، الشيخ محمد يتعفن".هرع الجميع نحو تلك البقعة المنزوية في الحقل. نظرة عتاب محرقة نحو زوجته، كانت كافية لجعلها تتداعى.

المرة الأخيرة التي زرتها فيها بعد غياب فترة في الغربة " وقد هرمت وتعيش وحيدة قالت لي:

" لم أخنه يوماً إلا تلك المرة يوم فضحت سره، ونظرة عتابه القاسية لم تغب أبداً".مرة واحدة فقط، فاطمة، خنته بكشف سر موته..؟ من حسن حظ فاطمة انها ماتت قبل قدوم زمن مختلف. وداعًا

زمن سنقول عنه يوماً:

نحن سعداء لأننا عشنا في زمن يسمى زمن الشيخ محمد وفاطمة.

***

التوقيع الأخير لزمن نظيف من يوميات كاتب في الأرياف ..!!

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

بقلم: جوليا فيليبس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لافتة تحذر الناس من الدببة في ويسلر، كندا. انتشر مقطع فيديو على الإنترنت يسأل النساء عما إذا كن يفضلن مواجهة رجل أو دب أثناء وجودهن بمفردهن في الغابة، حيث اختارت النساء الدب بأغلبية ساحقة.

إذا كنت وحية في الغابة، فمن الذي تفضلين أن تقابليه: رجل لا تعرفيه أم دب؟ هذا السؤال، الذي طُرح على العديد من النساء في مقطع فيديو على تطبيق TikTok الشهر الماضي، أدى إلى انتشار مسألة الرجل والدب. و تكاد تجمع النساء على الإنترنت على تفضيل النموذج السمين المشعر الذي ينام خلال فصل الشتاء.

اسمحوا لي أن أوضح إذا كنت تعرف أشخاصًا ينطبق عليهم هذا الوصف: الدب. الجميع يختار الدب.

السؤال هو فرصة للنساء لمقارنة المخاوف، لمعرفة الخطر الأكبر الذي يلوح في الأفق. في مقطع الفيديو الذي أطلق هذا الاتجاه، طرحت سبع من النساء الثماني اللاتي أجابن بكلمة "دب" نفس المنطق: فالدب جذاب، كما يقلن، على وجه التحديد لأنه ليس رجلاً. تقول إحداهن: "الرجال مخيفون".

وبالنظر إلى البيانات، فإن هذه الإجابات معقولة. تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يقرب من ثلث النساء في جميع أنحاء العالم تعرضن للعنف الجسدي و/أو الجنسي، "ومعظمه على يد الرجال".(تخبرنا الإحصائيات أيضًا أن الرجل الذي لا تعرفه لا يمثل في الواقع أكبر تهديد قد تصادفه في الغابة. بل إن الرجل الذي تعرفه - شريكك الحميم، في معظم الحالات - هو الذي يشكل الخطر الأكبر). وفي الوقت نفسه، لا يتعرض سوى عدد قليل من الأشخاص على مستوى العالم للأذى من الدببة في عام معين.

ومع ذلك، فإن تقييم المخاطر ليس هو الطريقة الوحيدة للإجابة على هذا السؤال. من الواضح ما هو المخلوق الذي تخاف منه النساء أكثر. ولكن ماذا عن أي مخلوق نحبه أكثر؟ هل هناك من هي مهووسة بالحصول على الدب؟4160 الدب

هذه الفكرة ليست جديدة، فقد اختار الناس صحبة الحيوانات المفترسة من قبل. منذ أكثر من 30 ألف عام، بدأ الصيادون وجامعو الثمار في تدجين الذئاب.  لقد اختاروا حيوانًا آكلًا للحم كبيرًا ليكون شريكًا لهم في الصيد وحارسًا في المنزل ورفيقًا مخلصًا بشكل عام. وفي آلاف السنين منذ ذلك الحين، ذهبنا إلى أبعد من ذلك حيث  يسبح الناس مع أسماك القرش، ويحتفظون بأفعى البواء في خزانات في غرف معيشتهم وينشرون صورًا شخصية ملتقطة مع النمور في ملفاتهم الشخصية على Tinder.

لقد لاحقت النساء الحيوانات الخطرة لنفس الأسباب التي دفعتهن إلى إقامة علاقات مع الرجال. للترفيه والصداقة والدعم. من أجل الحب. من أجل .... المزيد ؟ إن فكرة دخول امرأة في علاقة غرامية مع دب هي فكرة جامحة، لكنها مدعومة بقصص عن العلاقات بين الإنسان والحيوان التي تم سردها عبر التاريخ.

من المحتمل أنك كبرت وأنت تسمع قصصًا قبل النوم عن نساء متورطات عاطفيًا مع مخلوقات. الأساطير اليونانية مثل ليدا والبجعة ويوروبا والثور؛ القصص الخيالية مثل "الجميلة والوحش" و"الأمير الضفدع". في الواقع، هناك العديد من الحكايات التي تناسب الوصف الرومانسي للمرأة والحيوان، لدرجة أن علماء الفولكلور يصنفونها في فئة "الحيوان كعريس". في الآونة الأخيرة، ربما تكون قد شاهدت الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار "The Shape of Water"، والذي تدور أحداثه حول امرأة تقع في حب حيوان برمائي، أو قرأت رواية راشيل إنجالز القصيرة "Mrs. Caliban، وهو نفس الشيء تقريبًا، لكنه نُشر قبل 35 عامًا من ظهور الفيلم.

تختار النساء في هذه القصص حيواناتهن بسعادة، وعن طيب خاطر، لأن اختيار الحيوانات يعني ترك المجتمع وراءهن. في مثل هذه القصص، غالبًا ما تقع النساء في فخ الأعمال المنزلية. إذا كنا شركاء، فهن ربات بيوت وأمهات في المنزل، مكلفات بأعمال منزلية لا نهاية لها؛ إذا كن عازبات، فهن أمناء مكتبات وحيدات أو طالبات دراسات عليا مثقلات بالديون عالقات في مكاتبهن عالمهن من صنع الإنسان، ويتضمن مزيج الكعك والعمل العاطفي. إنهن لا يخافن من الرجال، لقد سئمن من العيش في ظل النظام الأبوي.

لذلك قررن الابتعاد عن عالم الرجال تمامًا. يذهبن للدب. ولعل المثال الأفضل والأكثر إثارة للصدمة في فئة الحيوان كعريس هو رواية "الدب" التي صدرت عام 1976 للكاتبة الكندية ماريان إنجل. في نهاية علاقة شخصيتها الرئيسية الساخنة مع هذا الحيوان، كتبت إنجل: "  أو للحظة حادة وغريبة يمكن أن تشعر بها في مسامها وطعم فمها الذي عرفت من أجله العالم. لم تشعر أنها أصبحت إنسانًا في النهاية، لكنها أصبحت نظيفة في النهاية. نظيفة وبسيطة وفخورة."

بالتأكيد لا ينبغي عليك السير على خطى هؤلاء النساء الخياليات، ولكن عليك أن تأخذ وجهة نظرهن بعين الاعتبار. هناك عالم، ولو في الخيال فقط، حيث وجدت النساء وجودًا أكثر نظافة وبساطة وأكثر حرية. من الغريب أنه يأتي مع محبي الحيوانات، لكن ماذا يمكنني أن أقول؟ الخرافات والحكايات الخرافية غريبة.

إن القصص التي نرويها لبعضنا البعض عن الجمال والوحوش تعيد تعريف مسألة الرجل مقابل الدب. وبدلاً من مقارنة خوف بآخر، فإننا نزن رغباتنا. هل تختار أقل شرا أو المزيد من المغامرة في حياتك؟ فكر في سؤال TikTok بهذه الطريقة: إذا كنت وحدك في الغابة، فهل ستركز على الخروج، أم تريد أن ترى ما هو ممكن عندما تتعمق أكثر؟

***

....................

* جوليا فيليبس /  Julia Phillips زميلة جوجنهايم ومؤلفة الكتب الأكثر مبيعًا. ومن المقرر أن يصدر كتابها القادم "Bear" في 25 يونيو.

https://www.latimes.com/opinion/story/2024-05-08/man-versus-bear-tiktok-meme

نحنُ أبناءُ الغُيُومِ الذِينَ وُلِدنَا فِي يَومٍ مَجهُولٍ وسنوَاتٍ مَجهُولَةٍ كَأَزهَارِ البَريةِ، مِن أُمهَاتٍ بِلَا تَارِيخٍ مِيلَادٍ ومِن آبَاءٍ هَبَطُوا مِن الغُيُومِ، وماتُوا دُونَ أَنْ يَعرِفُوا متَى عَاشُوا، انطفَأُوا كَنيازِكَ فِي الظلَامِ، كَمَا سنَنطفِي يَومًا .سكَنا فِي وطنٍ لَا نعرِفُ لِمَن، وحَاربنَا دُونَ أَنْ نَعرِف لِماذَا، وقَتلنَا دُونَ انْ نَعرِفُ السببَ وأحببنَا بِبرَاءَةٍ بِلَا أَهدَافٍ، ومَشينَا فِي شوَارِعِنَا الضيقةِ المُلتوِيةِ كَمَا يَمشِي الغُربَاء، وجلَدنَا لِأَننَا حاوَلنَا أَنْ نَكُونَ كَمَا نُرِيدُ لَا كَمَا يُرَادُ، وسكنَا فِي غُرفٍ بِجِوَارِ حظائِرِ الموَاشِي وَالطيُورِ ومعَ العصَافِيرِ علَي شبَابِيكُ غُرَفَ النوْمِ ، وخرجنَا منْ المدَارسِ نَهتِفُ يَوْمَ رَحِيلِ الرئِيسِ أي رئيس، وهتفنَا مثلَ العصَافِيرِ  لِلْمَطَرِ:

" يَا مَطَرُ رَخِي رَخِي عَلَي ارْعَتْ إِبْنَ أُخْتِي" نَحْنُ الّذِينَ نُبَاعُ فِي الِانتِخَابَاتِ ونُبَاعُ مِنْ نِظَامٍ الَى آخَرَ كمَا تُبَاعُ الْقَطِيعُ مِنْ الأغنَامِ، أَبْنَاءُ العتمَةِ والغِيَابِ والصمتِ والغُرُوبِ ، كُنا نُمَزقُ صُور الزُّعماءِ بَعد رَحِيلهمْ أَيْ كَانَ الرحيلُ..؟ فِي الصباحِ نَعْرِفُ انْ انقِلَابًا حَدَثَ وقتْلَ رَئِيسٍ وَجَاءَ آخَرُ ومَناهِجُ جَدِيدَةٌ ونَشِيدٌ وطنِيٌّ جدِيدٌ وصُوَرُ وقوانِينَ جَدِيدةٍ ،،كَيْفَ يَتَوَازَنُ الطفْلُ علَى قِيَمٍ ومبَادِئ وتقالِيدَ ومنَاهِج مُتَغيرةٍ كُلَّ مرَّةٍ..؟

فِي المَسَاءِ، قَبْلَ العِشَاءِ ، علِمنَا مِنْ نَشرةِ الأخبَار أَن جيشَنَا دَخَلَ فِي حَرْبٍ وَصَارَ فِي أَرْضٍ أُخْرَى، ونَحنُ اصبحنَا جُنُوداً ونَحنُ اطفَالٌ بِدَعوَةِ الإِحتِيَاطِ قَبْلَ نَزْعِ سَرَاوِيلِ النومِ، لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ لِمَاذَا ثُمَّ عَلِمْنَا انْ جَيْشَنَا سُحِقَ فِي الْحَرْبِ وَنِصْفِ جُنُودِنَا لَمْ يَعُودُوا وَلَمْ نَعْرِفْ لِمَاذَا انْتَصَرْنَا وَلِمَاذَا هَزَمنَا وَحَوْصِرَا رُبْعَ جَيْشِنَا فِي سَيْنَاء وَلَا لِمَاذَا لَمْ يَعُدْ جُنُودُنَا وَلَا أَيْنَ ذَهَبُوا، وَطَلَبُوا مِنَّا الذَّهَابَ لِلْإِحْتِفَالِ بِالْهَزِيمَةِ بِثِيَابِ النَّصْرِ،لَمْ نَعْرِفْ لِمَاذَا حَوْصِرْنَا فِي الدِّفَرْسُوَارِ وَلِمَاذَا نَتَسَاقَطُ فِي الشَّوَارِعِ مِنْ الْامْرَاضِ فِي الْقَتْلِ الْأَبْيَضِ بِلَا دَمٍ؟

حَرِمْنَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَمِنَ الْآجُوبَةِ وَمِنَ الصَّمْتِ وَمِنَ الْكَلَامِ وَمِنَ الْحُلْمِ، وَمِنْ النَّوَايَا" السَّيِّئَةِ" وَحَتَّى مِنْ الْأَحْلَامِ الْمُعَادِيَةُ". وَتَحَوَّلَتْ أَجْسَادُنَا الَى حَاوِيَةِ نُفَايَاتٍ مِنْ الِاحْلَامِ الْمُجْتَرَّةِ وَالْمُسْتَهْلَكَةِ وَنَتَجَوَّلُ فِي شَوَارِعِ كَهَايْكِلْ صَامِتَةً رَغْمَ ضَجِيجٍ وَفَوْضِيٍّ عَارِمَةٍ فِي شَوَارِعَ مُبَاحٍ فِيهِ كُلُّ أَنْوَاعِ الْفَوْضِيِّ، ثُمَّ قَالُوا لَنَا فِي التِّلْفَازِ إِنَّ "التَّتَارَ الْجُدُدَ" قَادِمُونَ مِنْ خَلْفِ الْحُدُودِ وَعَلَيْنَا الْإِسْتِعْدَادُ لِحَرْبٍ لَا نَعْرِفُ عَنْهَا شَيْئًاً، وَأَهْدَافٌ لَا نَفْهَمُهَا وَأَنْ نُدَافِعَ عَنْ وَطَنٍ كُنَّا حَشَرَاتٍ فِيهِ تَزْحِفُ، بِلَا كَرَامَةِ الْحَشَرَاتِ وَلَا هَيْبَةِ الْجُدْرَانِ الْعَالِيَةِ وَلَا لِمَعَانِ السَّكَاكِينِ.

نَحْنُ جَمِيعًاً مَشْرُوعُ قَتْلَى أَوْ مَوْتًى يَوْمًا بِالتَّقْسِيطِ كَخَرَّافٍ تَرْعَى مُطْمَئِنَّةً فِي حَقْلٍ لِلْمَسْلَخِ، بِالرَّصَاصِ اوْ الْأَمْرَاضِ اوْ التَّلَوُّثِ أَوْ الْإِنْهِيَارَاتِ النَّفْسِيَّةِ.نَحْنُ يَتَامَى التَّارِيخَ وَالْآوِطَانَ وَالسِّيَاسَةَ وَالْأَرْضَ وَالثَّرْوَةَ وَالْمُسْتَقْبَلَ، رُكَّابٌ قِطَارٌ مَاتَ سَائِقُهُ وَلَا نَنْتَظِرُ سِوَى الْإِرْتِطَامِ الْأَخِيرِ، مَتَى يَأْتِيَ الْإِرْتِطَامُ الْأَخِيرُ كَيْ تَنْتَهِيَ هَذِهِ الْحِكَايَةُ الْمُمِلَّةُ..؟

كُنَّا مَحْرُومِينَ مِنْ السُّؤَالِ وَمَحْرُومِينَ مِنْ الْجَوَابِ، لِأَنَّنَا قَبْلَ زَمَنِ الْآلَاتِ الْحَدِيثَةِ ، بُرْمَجِنَا عَلَى الصَّمْتِ وَعَلَى النِّسْيَانِ، نِسْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مَنْ نَكُونَ وَلِمَاذَا نَكُونُ لِأَنَّنَا أَشْيَاءُ، لِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُفَكِّرُ وَيُخَطِّطُ وَيَحْلُمُ وَيُتَوَهَّمُ بِالْإِنَابَةِ عَنَّا.نَحْنُ الْهَامِشُ الْفَائِضُ عَنْ الْحَاجَةِ وَالرَّقْمِ فِي بَلَاغَاتِ الْقَتْلَى،الْمَدَنِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ وَفِي خِطَابَاتِ الْآحْزَابِ الْوَهْمِيَّةِ وَفِي احْتِفَالَاتِ الْقَادَةِ:

" نَحْنُ حِزْبُ الضَّحَايَا "، لَمْ نَسْقُطْ فِي مَعْرَكَةٍ حُرِّيَّةٍ وَلَمْ نُقْتَلْ وَنَحْنُ فِي الطَّرِيقِ الَى تَارِيخٍ مُخْتَلِفٍ، وَلَا وِلَادَةَ حِكَايَةِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ تَبْزُغُ غَدًا، بَلْ قُتِلْنَا تَحْتَ الْأَحْذِيَةِ فِي السَّرَادِيبِ وَالْأَقْبِيَةِ دُونَ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدُنَا سِرَّ ثَوْرَةٍ .

نَحْنُ أَبْنَاءُ الْغُيُومِ نَجْلِدُ كُلَّ يَوْمٍ تَحْتَ عِصِيِّ التَّارِيخِ وَالْخُطَبَاءِ وَالْقَادَةِ وَالدُّوَلِ الشَّقِيقَةِ وَالصَّدِيقَةِ، وَالْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ وَالْغَنِيَّةِ وَالْفَقِيرَةِ، وَالْأَحْلَامِ الْمُتَفَسِّخَةِ، وَالشَّرِكَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْوَهْمِيَّةُ وَالْبَرَامِجِ وَالْآوْهَامِ وَالْعِصَابَاتِ وَالْمَرَضِ ، وَتَمُصُّ شَرَايِينَا بِكَامِلِ الصَّحْوِ وَالْعَلَنِيَّةِ وَأَطْفَالُنَا يَبْحَثُونَ فِي الْمَزَابِلِ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ لَنْ نُشَارِكَ فِي صُنْعِهِ وَحَيَاةٍ لَا عَلَاقَةَ لَنَا بِهَا، وَأَرْضٌ لَمْ يَعُدْ يَرْبِطُنَا بِهَا سِوَى الْحِذَاءِ.

نَحْنُ الْأَمْطَارُ الْحَجَرِيَّةُ وَالْعَوَاصِفُ الْحَمْرَاءُ الْمُغَبَّرَةُ، نَحْنُ الشَّوْقُ الرَّاعِشُ لِلْحَنِينِ وَالْمَسَرَّةِ وَالرَّغِيفُ الْحَارُّ مِنْ الْآفْرَانِ الْبَلَدِيِّ وَالْآمَالِ الْخَائِفَةِ وَنَوْمِ الْعَافِيَةِ.

كُنَّا نَذْهَبُ الَى حَفْلُ الْعُرْسِ بِكُلِّ صَفَاءٍ وَنَذْهَبُ فِي مَوْكِبِ الْجِنَازَاتِ بِكُلِّ صِدْقٍ، نَتَأَلَّمُ مَعَ كُلِّ حَالَةٍ وَلِآدَةٍ مُتَعَثِّرَةٍ وَنُطْلِقُ الْآهَااَاتِ مَعَ الطَّلْقِ، وَنَمْشِي فِي جِنَازَاتِ الْغُرَبَاءِ بَاكِينَ.حُزْنُ الْغُرَبَاءِ. نَحْنُ الْوَجَعُ الْمَخْفِيُّ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالدُّمُوعِ الْحَبِيسَةِ وَالْخَوْفِ الْمُزْمِنِ. نَحْنُ الْأَلْقُ الْمُضِيءُ فِي الظَّلَامِ الْمُهْمَلِ وَالْآشِيَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي الطُّرُقَاتِ، نَحْنُ أَبْنَاءُ الرِّيحِ وَالْعَوَاصِفِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالْغُرُوبِ.فِي لَيْلَةِ ظَلَامٍ دَامِسٍ ،،بِلَا كَهْرَبَاءِ ،مِصْرَ الْجَمِيلَةِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانِ وَالْعَبْقَرِيَّةِ الْمُضِيئَةِ، الْغَنِيَّةِ الثَّرِيَّةِ، السَّخِيَّةِ، الْبَهِيَّةِ، الشَّقِيَّةِ، النِّيلِيَّةِ وَالْمَنَارَةِ لِطُرُقِ الْعَتَمَةِ عَبْرَ التَّارِيخِ.حَرَامٌ وَأَلْفٌ حَرَامٌ أَنْ نَعِيشَ بِدُونِ أَنوارٍ.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

الطموح هو موضوع متكرر في العديد من مسرحيات شكسبير، حيث يستكشف عواقب الطموح غير المقيد على الشخصيات والمجتمعات. في جميع أعماله، يتعمق شكسبير في تعقيدات الطموح، سواء كان مثيرا للإعجاب أو خطيرًا، وتأثيره على الأفراد وعلاقاتهم مع الآخرين. في هذا المقال، سوف ندرس كيف يتم تصوير الطموح في مسرحيات مختلفة لشكسبير والنتائج المختلفة التي يؤدي إليها لشخصياته.

أحد أشهر تصويرات شكسبير للطموح هو في مسرحيته ماكبث. يقود البطل، ماكبث، طموحه ليصبح ملكا وهو على استعداد لارتكاب جريمة قتل لتحقيق أهدافه. يقوده طموحه إلى طريق مظلم ودموي، مما يؤدي في النهاية إلى سقوطه وموته. يستخدم شكسبير طموح ماكبث لاستكشاف موضوعات القوة والشعور بالذنب والمصير، مسلطا الضوء على الطبيعة المدمرة للطموح غير المقيد.

في مسرحية أخرى، يوليوس قيصر، يفحص شكسبير طموح الشخصية الرئيسية وعواقبه على نفسه وعلى من حوله. يؤدي طموح قيصر إلى السلطة في النهاية إلى اغتياله على يد صديقه الموثوق به، بروتوس. يصور شكسبير طموح قيصر على أنه مثير للإعجاب وخطير، ويسلط الضوء على الخط الرفيع بين الطموح والطغيان. تعمل المسرحية كقصة تحذيرية حول مخاطر الطموح والحاجة إلى التوازن في السعي وراء السلطة.

يستكشف شكسبير أيضا موضوع الطموح في مسرحيته عطيل، مع التركيز على شخصية ياجو. طموح أياجو لتدمير عطيل والتلاعب بمن حوله هو المحرك للأحداث المأساوية في المسرحية. يؤدي طموحه غير المقيد إلى الخداع والخيانة وفي النهاية الموت. من خلال أياجو، يكشف شكسبير عن الجانب المظلم للطموح وقدرته على إفساد الأفراد وتدمير العلاقات.

في مسرحية أخرى، ريتشارد الثالث، يصور شكسبير طموح الشخصية الرئيسية القاسي ليصبح ملكا بأي ثمن. إن طموح ريتشارد يدفعه إلى ارتكاب أفعال شنيعة، بما في ذلك القتل والخداع. يستخدم شكسبير ريتشارد الثالث لاستكشاف عواقب الطموح الجامح والمدى الذي سيذهب إليه الأفراد لتحقيق أهدافهم. يعمل سقوط ريتشارد كتحذير من مخاطر الطموح بدون أخلاق أو ضمير.

يفحص شكسبير أيضا موضوع الطموح في كوميديته الليلة الثانية عشرة، من خلال شخصية مالفوليو. يؤدي طموح مالفوليو للثروة والمكانة إلى إذلاله وسقوطه. يستخدم شكسبير مالفوليو لتسليط الضوء على عواقب الطموح الأعمى وأهمية التواضع والوعي الذاتي. تعمل المسرحية كتذكير بأن الطموح يجب أن يكون معتدلاً بالحكمة والأخلاق لتجنب النتائج السلبية.

في هاملت، يستكشف شكسبير موضوع الطموح من خلال شخصية كلوديوس. يقود طموح كلوديوس إلى السلطة إلى قتل شقيقه الملك هاملت والزواج من أرملته جيرترود. يصور شكسبير كلوديوس كشخصية متلاعبة ومخادعة يؤدي طموحها غير المقيد في النهاية إلى سقوطه. من خلال كلوديوس، يفحص شكسبير عواقب الطموح والطبيعة المدمرة للجشع والسلطة.

في هنري الرابع، الجزء الأول، يستكشف شكسبير موضوع الطموح من خلال شخصية الأمير هال. يدفع طموح هال ليصبح ملكا إلى التمرد ضد والده الملك هنري الرابع، وإثبات نفسه كخليفة جدير. يصور شكسبير هال كشخصية معقدة طموحها مثير للإعجاب وأنانية. تعمل المسرحية كقصة بلوغ سن الرشد حول تحديات الطموح والحاجة إلى النضج والمسؤولية في السعي وراء السلطة.

يعد الطموح موضوعا متكررا في مسرحيات شكسبير، حيث يفحص تعقيدات وعواقب الطموح غير المقيد على الشخصيات والمجتمعات. من خلال شخصيات مثل ماكبث، ويوليوس قيصر، وأياغو، وريتشارد الثالث، ومالفوليو، وكلاوديوس، والأمير هال، يتعمق شكسبير في الطبيعة المظلمة والمدمرة للطموح وتأثيره على الأفراد وعلاقاتهم مع الآخرين. إن استكشاف شكسبير للطموح يعمل كقصة تحذيرية حول مخاطر السلطة والجشع، ويذكر الجماهير بأهمية التواضع والأخلاق والوعي الذاتي في السعي وراء الطموح.

***

محمد عبد الكريم

 

إلى روح خالي الغالي "غسان محمد المجذوب"

الموت.. تلك الرسالة المجهولة التي لا يأتيك بها ساعي بريد، ولا وسيلة أطرف حداثة، تحس به حولك، ومع ذلك تنسحب باطمئنان إلى مساعيك اليومية، تدعه، وأنت تراه قد جثم فوق عزيز لك، ولست تملك نحوه سوى النظر، والتمتمة بالدعاء، وطلب التخفيف عن المصاب به.

أهو داء تبتلى به، أم أنه الذي تعجزك أشرس الأسلحة عن مقاومته، أم هو شيء لذيذ يتجوّل كالخدر، وهو يكشف أمامك ما سرد لك في الكتب دينية، وغير دينية، متخيلة، أو مستنسخة من وادي عبقر.

لم يكن من إشارة اليوم لطفل يبتسم مداعبا، أو لحمامة حول الشباك ترفع رأسها تبشر بالسلام كما نُسب إلى.. أو أخبر بعض من عادوا بعد أن انصبّوا عبر النفق الطويل يتلمسون ضوءا شاحبا ينوء في نهايته فتيل شاحب.. ليس من شيء سوى المصاب به، هادئ هو، متلاشي الحضور إلا من أنفاس تلهث في صدره المنخور عجزا، ونحولا.. حوله من يبكي، ومن يتلو، من يدعو، ومن يفكر متى ستنقضي الساعة، ومن يفكر بأشياء أخرى لا يخاصرها عالم اللحظة الشائك..4145 امان السيد

ولعلي أنا الذي بصمت كان يتابع، وبالتمنيات الطيبة يتمتم أن يعبر بسلام، وقد استذكر أصناف الموت كلها التي تلقفها، وأسرَتْ فيه هدوءا لا مثيل له إزاء هذا المشهد الجليل، لينتشل نفسه بلأيٍ، ويفلتها لفضائه..

هناك حيث لا كلمات، ولا تلفاز، لا شيء سوى أفكاري أنضددها، وأنا أرتب ما تسوقته من متاع الغرور.

الموت رديف الصمت المحرض على الصمت، تسكت الأجراس المعتادة في رأسي الذي لا يملّ من الطنين، لأتقبل خبر الوفاة بتريث الحكيم، الذي تلبّسه العقل مبكرا جدا.

أرنو من وراء ستارة خلبية، وقد سحبه إليه بجناحين تطويان حكاية وطؤها ثقيل، لكن عينيه الزرقاوين لم تلبثا أن أومضتا لي غزيرتين.. باقتان من نجوم وديعة..

" يباشر.. الموت"

*

و.. أتراك تعلم أن الموت لا ينتهي سريعا، إذ ليس روحا تغادر، ولا جسدا ينطفئ، ولا عيونا تنسدل على الكتمان.. إنه سلسلة تسلم قيادها لعاقل، يتمرّس به التدبر، والتقليب.. وتختلف الطرق، فما بين أن تنهال الجرّافات هنا بالتراب على جسد استغنى عنك، وما بين فؤوس هناك في وطنك الأم يفتقد الدفن شفافيته، ويتشظى به حنينه.

هنا حيث تصلي النساء مع الرجال، وراءهم، على بعد خطوات، بحماية جدار، في مبنى منفصل.. ليس مهما، المهم أنهن يحصلن على حق لهثن حوله مذ خلقن، يصلين على الفقيد، ويتجمعن في بيت من بيوت الله لتطييب الخاطر، أما المغسل، فلقد فررت منه، دون أن أعلم بوقته، فررت، وحتى لو علمته، فإني سأفرّ منه، ومن الطقوس الشبيهة كلها سأفرّ..

هنا في المقبرة التي تحمل مسمى أجنبيا، غريبا عنك، تختلف عنه مقبرة "المَغربي" التي تقابل بيتك في الوطن شلفَ حجر، أو كيلومترا، ولكنك لا بد أن توقّع بامتنان وتقدير لروعة التنظيم، والاحتفاء البشري، ولسكائب حقول الزهور الثرية الألوان والفوح التي شتلت فوق القبور، ولمشاعر أخرى تنبثق فيك معها..

قد تشتهي فنجان قهوة، وأنت تجالس في تداعياتك مقعدا من مقاعد حديقة " البَطرني" ومثيلاتها من الحدائق العامة التي تجولت فيها هناك أيضا، وأنت تراقب من بينك وبينهم خطوات، وتبتسم وأنت تتساءل: أهم الأموات، أم أنت أيها الغريب الذي دعوت يوما على نفسك أن تموت ملفوظا، وهل سيستجيب الله لك دعاءا مريرا رجوته تحت ضغطة قيد، وفتكة معصم؟!

أهم الأحياء، أم أنت الذي عندما تشتهي فنجان قهوة، سترتشفه على الفور.. وهل هم نسوا رائحة قهوة الصباحات، أم مجّوها، لأن هناك طيورا ألزمت بها أعناقهم قد حان الوقت لهبوطها، ولفتح الدفاتر، ولتجريدها من اللحم حتى العظم، ثم في كفتين وزنها...

أيها المسكين، وماذا لو مالت إحدى الدفتين قيد شعرة؟!..

هل في تلك اللحظات سيقدّر للميت أن يستقوي بحكاية المجرم المذنب الذي اجتمعت ملائكة الموت لتحصد أعماله، وعندما اختلفت قيست خطواته إلى أي اتجاه كانت الأقرب، إلى رقعة الشر، أم إلى رقعة الخير، ليفوز حصانه بقصب السبق؟!

" يوم يلي الموت"

*

ها هم يتنادون فرادى، وجماعات في ذلك المنأى الذي لن يصل إليه أحدهم راغبا لو أراد الاكتشاف، أو شاعرا لو أنه أراد قصيدة، نفرت منه حيث الشمس والقمر يتشقلبان بمحبة وتساق، وبتناغم لا يرتقي إليه الغائبون، مكرها سيستقبله، مصرُورا كسجادة فارسية، شامية، يتساوى انتماؤها، نفضت عنها زخارفها، فالتزمت الصمت تجاه اشتهاء الدنيا، وغرائزها العصية على الشجب، أو على الإخراس..

من الذي أخبرهم بالمستجدّ، أمن جواب غير أن البصر اليوم حديد، وأن التحية سُنّة، والواجب أن يُحيّا الوافد بأفضلها، هم الذين لطالما تنازعوا فحرثوا الأرض أنانية، وكرها  ينفضون غبار الكدر، ويتشافون بمعين الصفاء والسلام في العالم الجواني، لبّ الجواني، أعماقه، دخائله العصية على الإدراك، والرضية قبولا، بل استسلاما..

في العالم الأثيري ستطفو الأرواح عزيزة رغم ما سبق منها، أوليست من نفخ روح الله تسلسلا، وهناك ستنطلق النفس بحرية بعيدا عن ملاكها الحافظ، إذ آن أوان الانفلات من كل قيد دنيوي، وسيُستعذب تطواف، وسيتعثر آخر..

أيها الوافد ستلتحق بالركب حثيثا، وسيعمر بك المقام، ولكن ماذا بشأنك، أنت الذي تذوقت لذة الاعتزال، وانتأيت بك حين استمطار الأرواح أصابك بالعناء...

رغم استثناءاتك كلها، لا مفر، ففي التراب استُودعت عجنا طريا لن يلبث أن يعتدّ به اليباس لخلود حقيقي، وحاذر التمرد، فالوجوه التي تُعرّى لا تستر أبدا...

".. وبعده.. الفراغ"

***

أمان السيد - كاتبة سورية / أستراليا

 

تُبنى العلاقات على الثقة والتواصل والتفاهم. عندما يبدأ أحد الشريكين في تجنب الآخر، فقد يكون ذلك علامة على وجود مشكلات أساسية تحتاج إلى معالجة. إليك مؤشرات تدل على أن شريكك يتجنبك منها:

1. يختلق الأعذار باستمرار لعدم قضاء الوقت معك. إذا كان شريكك دائما يقدم أسبابا لعدم تمكنه من الخروج معك، فقد تكون هذه علامة على أنه يتجنبك.

2. يكون دائما مشغولا أو منشغلا عندما تحاول التحدث معه. إذا كان شريكك مشتتا باستمرار عندما تحاول إجراء محادثة، فقد تكون هذه علامة على أنه يتجنب إجراء مناقشة جادة معك.

3. يبدو غير مهتم بحياتك أو بما يحدث معك. إذا لم يبدو أن شريكك يهتم باهتماماتك أو بما يحدث معك، فقد تكون هذه علامة على أنه يتجنب التواصل معك على مستوى أعمق.

4. لا يستجيب لمكالماتك أو رسائلك في الوقت المناسب. إذا كان شريكك يتجاهل محاولاتك للتواصل معه باستمرار، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب التواصل معك.

5. سريع في تجاهل مخاوفك أو مشاعرك. إذا تجاهل شريكك مشاعرك أو مخاوفك دون إعطائها الاهتمام المناسب، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب التعامل مع أي مشاكل في العلاقة.

6. يتجنب المودة الجسدية أو الحميمية معك. الحميمية الجسدية هي جانب مهم من العلاقة، لذلك إذا كان شريكك يتجنب التقرب منك، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب الحميمية العاطفية أيضا.

7. غالبا ما يكون دفاعيًا أو جدليًا عندما تحاول التحدث معه حول علاقتك. إذا أصبح شريكك دفاعيا أو بدأ الجدال عندما تحاول معالجة أي مشاكل في علاقتك، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب مواجهة أي مشاكل.

8. يقضي المزيد من الوقت مع أصدقائه أو يمارس أنشطة بدونك. إذا كان شريكك يضع الخطط باستمرار دون إشراكك أو يعطي الأولوية لأصدقائه على قضاء الوقت معك، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب البقاء بمفرده معك.

9. يتجنب وضع الخطط أو الالتزامات المستقبلية معك. إذا كان شريكك مترددا في وضع الخطط للمستقبل أو يتجنب التحدث عن الأهداف طويلة المدى معا، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب الالتزام بمستقبل معك.

10. يتجنب مناقشة الموضوعات أو القرارات المهمة معك. إذا كان شريكك يتجنب إجراء مناقشات مهمة حول أشياء مثل الشؤون المالية أو ترتيبات المعيشة أو الأمور العائلية، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب مواجهة أي صراعات أو خلافات محتملة.

إذا لاحظت أيا من هذه العلامات في علاقتك، فمن المهم معالجتها مع شريكك بطريقة هادئة ومنفتحة. التواصل هو المفتاح في أي علاقة، ومعالجة المشكلات في وقت مبكر يمكن أن تساعد في منع المزيد من التجنب وتعزيز علاقتك بشريكك.

***

محمد عبد الكريم يوسف

غالبا ما يُنسب إلى رينيه ديكارت، الفيلسوف والرياضي الفرنسي الشهير في القرن السابع عشر، وضع الأساس للفلسفة الحديثة. ومن أكثر جوانب حياته إثارة للاهتمام علاقته بالملكة كريستينا ملكة السويد، والتي غالبًا ما يشار إليها باسم "ملكة هولندا". كان لهذه العلاقة تأثير كبير على عمل ديكارت وإرثه.

التقى ديكارت بالملكة كريستينا لأول مرة في عام 1649 عندما دعته إلى السويد ليكون مدرسا شخصيا لها في الفلسفة. في ذلك الوقت، كان ديكارت شخصية معروفة بالفعل في أوروبا، وكانت فرصة العمل مع الملكة تُعتبر شرفا عظيما. ومع ذلك، تردد ديكارت في قبول العرض، لأنه فضل العمل في عزلة وكان حذرا من متطلبات حياة البلاط الملكي.

على الرغم من تحفظاته، قبل ديكارت في النهاية دعوة الملكة وسافر إلى السويد لبدء عمله معها. كانت الملكة معروفة بفضولها الفكري وكانت حريصة على التعلم من ديكارت. كانت علاقتهما معقدة، حيث كانت الملكة معروفة بسلوكها غير المتوقع ومزاجياتها المتقلبة. وجد ديكارت نفسه في موقف صعب، محاولاً التنقل بين تعقيدات الحياة في البلاط بينما كان يركز أيضا على عمله الفكري.

خلال فترة وجوده في السويد، انخرط ديكارت والملكة في مناقشات ومناظرات فلسفية. كانت الملكة مفكرة حادة الذكاء وتحدت ديكارت في العديد من أفكاره. دفعت محادثاتهما ديكارت إلى صقل وتوضيح معتقداته الفلسفية، مما أدى إلى فهم أعمق لعمله.

كانت إحدى أشهر الحلقات في فترة ديكارت مع الملكة مناقشة ساخنة حول طبيعة الجسد والروح البشرية. شككت الملكة في وجهات نظر ديكارت الثنائية، بحجة أن الجسد والروح مترابطان بطرق لم يفكر فيها ديكارت. ألهم هذا النقاش ديكارت لتطوير أفكاره بشكل أكبر حول العلاقة بين العقل والجسد، مما أدى إلى عمله الشهير "تأملات في الفلسفة الأولى".

وعلى الرغم من خلافاتهما الفكرية، نشأت بين ديكارت والملكة علاقة وثيقة. فقد أعجبت الملكة بذكاء ديكارت وذكائه، بينما احترم ديكارت ذكاء الملكة وشخصيتها القوية. وكثيرا ما يُنظَر إلى تفاعلاتهما باعتبارها لقاء بين عقلين قويين، يؤثر كل منهما على الآخر بطرق عميقة.

ومن المؤسف أن وقت ديكارت مع الملكة لم يدم طويلاً عندما مرض وتوفي في عام 1650. ولا تزال الظروف الدقيقة لوفاته لغزاً، حيث يتكهن البعض بأنه قد تسمم على يد أعداء الملكة. وبغض النظر عن السبب، فإن وفاة ديكارت كانت بمثابة نهاية فصل رائع في تاريخ الفلسفة.

وفي السنوات التي أعقبت وفاة ديكارت، استمر عمله في التأثير على الفلاسفة وعلماء الرياضيات في جميع أنحاء العالم. وكان لأفكاره حول الشكوكية والعقلانية وطبيعة الواقع تأثير دائم على تطور الفلسفة الحديثة. وكثيراً ما يُنظَر إلى العلاقة بين ديكارت وملكة هولندا باعتبارها رمزا لقوة الفضول الفكري والسعي وراء المعرفة.

كانت العلاقة بين ديكارت وملكة هولندا لحظة محورية في تاريخ الفلسفة. فقد كانت تفاعلاتهما مصدر إلهام وتحدي لبعضهما البعض، مما أدى إلى رؤى وتطورات جديدة في عمل ديكارت. وعلى الرغم من تحديات الحياة في البلاط وسلوك الملكة غير المتوقع، فإن وقت ديكارت في السويد كان تجربة تكوينية شكلت إرثه الفلسفي. إن إرث ديكارت وملكة هولندا بمثابة تذكير بقوة التبادل الفكري والسعي وراء المعرفة. ويقال أن هذه العلاقة كانت السبب في مرض ديكارت  ووفاته المبكرة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تستكشف مسرحية شكسبير "كما تشاء"  الطبيعة المعقدة والمتعددة الأوجه للحب، وتقدم أشكالا مختلفة من الحب التي تدفع الشخصيات طوال المسرحية. يركز العمل بشكل أساسي على الحب الرومانسي، حيث تعمل العلاقة المركزية بين روزاليند وأورلاندو كقوة دافعة للحبكة. ومع ذلك، يتعمق شكسبير أيضا في أنواع أخرى من الحب، بما في ذلك الحب العائلي والصداقة وحب الذات، ويرسم صورة غنية ودقيقة للطرق المختلفة التي يمكن أن يتجلى بها الحب ويؤثر على الأفراد.

أحد أبرز الموضوعات في "كما تشاء"  هو القوة التحويلية للحب. يدفع حب روزاليند وأورلاندو لبعضهما البعض إلى التغلب على العقبات والنمو كأفراد. يتجاوز حبهما الحواجز الاجتماعية والأعراف، مما يلهمهما لتحدي الوضع الراهن والسعي إلى سعادتهما. من خلال علاقتهما، يوضح شكسبير كيف أن الحب لديه القدرة على تغيير الناس للأفضل، مما يقودهم إلى اكتشاف الذات والنمو الشخصي.

بالإضافة إلى الحب الرومانسي، يستكشف شكسبير أيضًا موضوع الحب العائلي في "كما تشاء"  . العلاقة بين روزاليند ووالدها، دوق الأب، هي علاقة عاطفة عميقة وولاء. على الرغم من الانفصال لسنوات عديدة، إلا أن رابطتهما تظل قوية، مما يدل على الطبيعة الدائمة للروابط العائلية. وبالمثل، يسلط لم شمل أورلاندو وشقيقه أوليفر الضوء على أهمية التسامح والمصالحة داخل العائلات، مما يدل على أن الحب يمكن أن يداوي الجروح الماضية ويصلح العلاقات المكسورة.

الصداقة هي جانب مهم آخر من الحب في "كما تشاء" . تشكل الشخصيات في المسرحية روابط وثيقة مع بعضها البعض، وتدعم وتعتني ببعضها البعض طوال رحلاتهم في غابة أردن. تُظهر صداقة روزاليند مع سيليا وصداقة أورلاندو مع خادمه المخلص آدم قوة الرفقة والثقة المتبادلة في التغلب على الشدائد. ينقل شكسبير فكرة أن الصداقة هي شكل من أشكال الحب الذي يمكن أن يكون عميقا وذا مغزى مثل الحب الرومانسي، حيث يوفر الرفقة والعزاء في أوقات الحاجة.

كما يتم استكشاف حب الذات في مسرحية "كما تحبها"، حيث يشرع العديد من الشخصيات في رحلات اكتشاف الذات وقبول الذات. يسمح قرار روزاليند بارتداء زي رجل، جانيميد، لها باستكشاف وفهم رغباتها وعواطفها بشكل أكثر اكتمالا. من خلال تبني هذا التنكر، تتمكن من مواجهة انعدام الأمان والمخاوف الخاصة بها، مما يؤدي في النهاية إلى فهم أعمق لنفسها وقدرتها على الحب. يؤكد شكسبير على أهمية حب الذات كأساس لجميع أشكال الحب الأخرى، مما يشير إلى أنه فقط من خلال قبول الذات واحتضانها يمكن للمرء أن يحب الآخرين حقا.

تستكشف المسرحية أيضا موضوع الحب بلا مقابل، كما نرى في شخصيتي سيلفيوس وفيبي. يسلط تفاني سيلفيوس الأبدي لفيبي، على الرغم من رفضها له، الضوء على الألم والشوق الذي يمكن أن يصاحب الحب بلا مقابل. يصور شكسبير تعقيدات المودة غير المتبادلة، موضحًا كيف يمكن أن تؤدي إلى حزن وخيبة أمل، ولكنها تعمل أيضا كمحفز للنمو الشخصي واكتشاف الذات. من خلال هذه الشخصيات، يفحص شكسبير الطرق التي يمكن أن يكون بها الحب مصدرا للفرح والحزن، مسلطا الضوء على الطبيعة غير المتوقعة والمضطربة غالبا للعلاقات الرومانسية.

مع تطور المسرحية، يقدم شكسبير الحب كقوة تتجاوز المعايير والتوقعات المجتمعية، مما يسمح للأفراد بالاتصال على مستوى أعمق وإيجاد الوفاء بطرق غير متوقعة. تُظهر المظاهر المتنوعة للحب في "كما تشاء"  ثراء وتعقيد المشاعر الإنسانية، وتكشف عن القوة التحويلية للحب لإلهام الأفراد وشفائهم وتوحيدهم بطرق عميقة. من خلال عدسة العلاقات والتفاعلات المختلفة، يدعو شكسبير الجماهير إلى التفكير في طبيعة الحب وتأثيره الدائم على التجربة الإنسانية. في نهاية المطاف، تعتبر أغنية "كما تشاء"  بمثابة شهادة على القوة الدائمة للحب بكل أشكاله، وتحتفل بقدرته على جلب الفرح والوفاء والمعنى لحياتنا.

*** 

محمد عبد الكريم يوسف

قرب تمثال سعد زغلول الذي يتوسط ميدان الرمل في الاسكندرية يقع مقهى او كافيه تريانون، ما ان تدخله حتى تجد صوره معلقة على جدار تجمع بين يوسف وهبي وعماد حمدي، الصورة مشهد من فيلم ميرامار المعد عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة، انظر إلى الصورة واتذكر يوسف وهبي يقول لعماد حمدي:

عارف مين السبب في كل المصايب اللي احنه فيها دلوقتي

وعندما يسأله عماد حمدي: مين.

يشير يوسف وهبي عبر زجاج المقهى إلى تمثال سعد زغلول: سعد باشا ظل يسب في الملك ويشتم الإنكليز ويقول ثورة وديمقراطية. والناس تصفق، من ساعتها والناس تصفق على اي حاجة.4117 مقهى تريانون

المقهى يقع على ناصية الشارع ويتميز، بمظلاته البيضاء التي كتب عليها باللون الأحمر اسم المقهىً الذي أصبح علامة مميزة في قلب الاسكندرية حيث يعود تاريخ افتتاحه إلى اكثر من " 120" عاما، ونقرأ في سجلاته ان مؤسسه رجل يوناني اسمه.يورغوس بيرليس افتتح في البداية محل حلواني (بيتيت تريانون)، وقد تحولت ملكية المقهى عام 1970 إلى عائلة الحضري المصرية. لعل شهرة تريانون جاءت من اتخاذ نجيب محفوظ لزاوية فيه حيث كان يجلس ف مع توفيق الحكيم الذي ذكر المقهى في سيرته الذاتية " سجن العمر"، وكان من رواد المقهى ايضا عمر الشريف ومحمود مرسي وعبد الرحمن الأبنودي، كما مر عليه الكثير من المشاهير حيث تحتفظ جدرانه صورهم وتواقيعهم.تظهر الاسكندرية في ثلاثة من روايات نجيب محفوظ هي " ميرامار " و" السمان والخريف " و" الطريق.

أسير في شوارع الاسكندرية صديق إلى مقهى صغيرة دارت فيها احداث " السمان والخريف " هناك كان يجلس عيسى الدباغ، يفكر بمستقبله وأزمته حيث يعيش دوامة البحث عن طريق الخلاص..مثله مثل بطل رواية الطريق " صابر "، ومثل أبطال ميرامار الذين يعانون من أزمات وجودية، لكنهم جميعا يعشقون الاسكندرية، فها هو عامر وجدي احد أبطال رواية ميرمار يفتتح الصفحة الاولى من الرواية بالقول "، أخيرا الإسكندرية، قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبلَّلة بالشهد والدموع."4116 مقهى تريانون

 اجلس في تريانون واتذكر مقاهي بغداد التي كانت تزخر بذكريات أدباء وفناني العراق، من السويس كافيه، حيث يجلس جبرا إبراهيم جبرا وجواد سليم، مرورا بالبرازيلية وابطال غائب طعمة فرمان يتوسطهم حسين مردان، وحسن عجمي يذكرنا بإطلالة فؤاد التكرلي  والبرلمان ومقهى المعارف وليس انتهاء بمقهى المعقدين وحوارات جيل الستينيات الصاخبة ومقهى الراق واق الذي شهد اجتماعات نزار سليم وبلند الحيدري ونجيب المانع ونهاد التكرلي لتأسيس مجموعة الوقت الضائع التي كان ملهما مارسيل بروست وجان بول سارتر.

في حوارته مع رجاء النقاش التي سجلها في كتاب " صفحات من مذكرات نجيب محفوظ " يتحدث محفوظ عن مقاهي الإسكندرية قائلا:"القهاوي بالنسبة لي في الإسكندرية كانت قهاوي تصييف فكنت ارتادها لمقابلة الأصدقاء. ولقد جلست كثيرا مع مجموعة توفيق الحكيم بمقهى تريانون، قهاوي تمتد بطول الكورنيش وكانت مباشرة على البحر "

يرى غاستون باشلار في كتابه " جماليات المكان " الذي ترجمه إلى العربية غالب هلسا اشهر عشاق مقاهي بغداد، ان الأمكنة نستمد جماليتها من الألفة، ويبدو ان الألفة ضاعت بيننا وبين مقاهي بغداد الثقافية فاندثرت.

في تريانون سخر نجيب محفوظ من الناس التي تصفق. وفي بلاد الرافدين يصر البعض ان يصفق لكل أفاق ودجال وانتهازي.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في سوناتات شكسبير، غالبا ما يتخذ تصوير المرأة طبيعة معقدة ومتعددة الأوجه. في جميع أعماله، يتم تصوير النساء كأشياء للرغبة، ومصادر للإلهام، وشخصيات الفضيلة أو الخيانة. في حين تحتفل بعض السوناتات بجمال وفضائل النساء، تستكشف السوناتات الأخرى موضوعات الحب، والخيانة، والطبيعة العابرة للعلاقات. تعكس معالجة شكسبير للنساء في السوناتات المعايير الاجتماعية وتوقعات عصره، فضلاً عن تجاربه الشخصية ووجهات نظره.

واحدة من أشهر السوناتات التي تصور المرأة كشيء للرغبة هي السوناتة 18، والتي يشار إليها غالبًا باسم "هل أقارنك بيوم صيفي؟" في هذه السوناتة، يقارن المتحدث حبيبته بيوم صيفي، ويشيد بجمالها وصفاتها الأبدية. يتم تجسيد المرأة في هذه السوناتة وتخليدها من خلال كلمات الشاعر، وتعمل كرمز خالد للحب والجمال.

ومع ذلك، لا تصور كل سوناتات شكسبير النساء في منظور إيجابي. في السوناتة 130، يسخر المتحدث من الأعراف التقليدية للجمال ويصف عشيقته بطريقة أقل إطراء. يعترف بعيوبها ونقائصها، مسلطًا الضوء على تصوير أكثر واقعية وإنسانية للمرأة. تتحدى هذه السوناتة التوقعات المجتمعية للمظهر الجسدي للمرأة وتؤكد على الجوانب الأعمق والأكثر مغزى للحب والعلاقات.

يستكشف شكسبير أيضا موضوعات الحب والخيانة في سوناتاته، وخاصة في العلاقة بين المتحدث وعشيقته. في السوناتة 147، يصف المتحدث مشاعره المتضاربة تجاه عشيقته، معترفًا بسلوكها المخادع والمتلاعب. يتم تصوير المرأة في هذه السوناتة على أنها مغرية تضل المتحدث، مما يسبب له الألم والعذاب. يعكس هذا التصوير الجوانب الأكثر قتامة وتعقيدا للحب والعلاقات، مما يسلط الضوء على التوتر بين الرغبة والخيانة.

على النقيض من العشيقة في السوناتة 147، يقدم شكسبير النساء أيضا كشخصيات للفضيلة والنعمة في السوناتات الخاصة به. في السوناتة 116، يصف المتحدث الحب بأنه قوة أبدية لا تتغير تتجاوز الزمن والظروف. يتم تصوير المرأة في هذه السوناتة على أنها رفيقة ثابتة ومخلصة، تجسد فضائل الثبات والإخلاص. يقدم شكسبير وجهة نظر أكثر مثالية للنساء في هذه السوناتة، مؤكدا على قدرتهن على الحب والإخلاص.

ثمة جانب رئيسي آخر من تصوير شكسبير للنساء في السوناتات الخاصة به هو دورهن كمصدر للإلهام والإبداع. في السوناتة 21، يقارن المتحدث حبيبته بالشمس، ويصفها بأنها حضور مشع ومضيء في حياته. تعمل المرأة في هذه السوناتة كملهمة وملهمة، تلهم الشاعر لخلق الجمال والفن من خلال كلماته. يصور شكسبير النساء كمحفزات للإبداع والعاطفة في السوناتات الخاصة به، مسلطا الضوء على قوتهن التحويلية والغامضة.

بشكل عام، تقدم السوناتات الخاصة بشكسبير صورة غنية ومتنوعة للنساء، تتراوح من رموز مثالية للجمال والفضيلة إلى تمثيلات أكثر تعقيدًا ودقة للحب والخيانة. النساء في السوناتات الخاصة به هن في نفس الوقت موضوعات للرغبة ومصدر للإلهام، مما يعكس ازدواجية وتعقيد العلاقات الإنسانية. من خلال لغته الغنائية والمثيرة، يتعمق شكسبير في أعماق الحب والعاطفة، مستكشفا الموضوعات الخالدة للرغبة والإخلاص والقوة الدائمة للنساء في السوناتات الخاصة به.

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

حنان الشيخ كاتبة لبنانية بارزة معروفة بقصصها القوية واستكشافها لمواضيع معقدة مثل الحب والأنوثة والتوقعات المجتمعية في العالم العربي. وبمزيج فريد من الحداثة والتقاليد، تخلق حنان الشيخ سرديات آسرة تلقى صدى لدى القراء عبر الثقافات. في هذا المقال، سأناقش بعض الأمثلة على قصص حنان الشيخ التي تبرز موهبتها وعمق كتابتها.

ومن أشهر أعمال حنان الشيخ رواية "قصة زهرة"، وهي رواية تتبع حياة امرأة لبنانية شابة تدعى زهرة تكافح من أجل العثور على هويتها وسط خلفية الحرب الأهلية في بيروت. ومن خلال رحلة زهرة، تستكشف الشيخ موضوعات الصدمة والخسارة وتأثير الحرب على العلاقات الشخصية. والرواية هي تصوير مؤثر للتكلفة البشرية للصراع ومرونة الروح البشرية.

ومن الأمثلة الأخرى على براعة الشيخ في سرد القصص مجموعة قصصها القصيرة "أكنس الشمس عن أسطح المنازل". في هذه المجموعة، تتعمق الشيخ في حياة النساء اللواتي يعشن في العالم العربي والصراعات التي يواجهنها في مجتمع يهيمن عليه الذكور. القصص عبارة عن مزيج من الفكاهة والمأساة، تسلط الضوء على تعقيدات الوجود الأنثوي في الشرق الأوسط. من خلال شخصياتها، تتحدى الشيخ الصور النمطية وتقدم تصويرا دقيقا لتجارب النساء العربيات.

في "نساء من الرمل والمر"، تستكشف الشيخ حياة أربع نساء من خلفيات مختلفة يجتمعن معا في دولة في الشرق الأوسط لمواجهة رغباتهن ومواجهاتهن مع التوقعات المجتمعية. تتعمق الرواية في موضوعات الصداقة الأنثوية والجنس والسعي لتحقيق الذات في مجتمع محافظ. نثر الشيخ الحيوي وشخصياتها العميقة تجعل الرواية قراءة مقنعة تكشف عن تعقيدات ديناميكيات النوع الاجتماعي في العالم العربي.

لكن أكثر قصص الشيخ إيلاما هي "فقط في لندن"، وهي قصة حب ونزوح تدور أحداثها في مدينة لندن. وتدور أحداث الرواية حول ليلى، وهي شابة لبنانية تنتقل إلى لندن للهروب من قيود نشأتها التقليدية. ومن خلال تجارب ليلى، تستكشف الشيخ موضوعات الهوية الثقافية والهجرة والشوق إلى التواصل في أرض أجنبية. وتلتقط القصة التحديات والانتصارات التي تصاحب التنقل بين عوالم مختلفة والبحث عن الانتماء.

في رواية "بيروت بلوز"، تأخذ الشيخ القراء في رحلة عبر مدينة بيروت، وتستكشف شوارعها النابضة بالحياة وندوب الحرب التي تظل باقية تحت السطح. وتتتبع الرواية حياة شخصيات مختلفة وهم يتنقلون بين تعقيدات الحياة في لبنان ما بعد الحرب. ومن خلال قصصهم، ترسم الشيخ صورة حية لمدينة في حالة تغير مستمر، تتصارع مع ماضيها ومستقبلها غير المؤكد. والرواية شهادة على قدرة الشيخ على التقاط جوهر المكان وشعبه بحساسية وبصيرة.

في رواية "ست ماري روز"، تحكي الشيخ قصة امرأة مسيحية لبنانية تصبح شهيدة خلال الحرب الأهلية اللبنانية. تتناول الرواية موضوعات النشاط السياسي والمقاومة والتضحيات التي يبذلها المرء من أجل معتقداته. ومن خلال قصة ماري روز، تسلط الشيخ الضوء على تعقيدات الهوية والدين والقومية في سياق الصراع. والرواية عبارة عن تأمل قوي في تكلفة النضال من أجل العدالة في مجتمع منقسم.

ومن الأمثلة الأخرى على براعة الشيخ في سرد القصص روايتها "الجرادة والطائر"، وهي مذكرات عن حياة والدتها في لبنان. ومن خلال تجارب والدتها، تتأمل الشيخ المشهد المتغير لبيروت وتأثير الحرب على العلاقات الشخصية. والمذكرات هي تكريم مؤثر لقدرة والدتها على الصمود واستكشاف مؤثر للعائلة والذاكرة ومرور الوقت. إن نثر الشيخ الغنائي وتصويرها الحميمي لحياة والدتها يجعلان من المذكرات قراءة مؤثرة لا تُنسى.

في "ألف ليلة وليلة"، تعيد الشيخ تصور الحكايات العربية الكلاسيكية من خلال عدسة نسوية، وتمنح صوتا للنساء اللواتي غالبًا ما تم تهميشهن في القصص الأصلية. ومن خلال إعادة سردها، تزعزع الشيخ الأدوار الجنسانية التقليدية وتتحدى المعايير الأبوية التي شكلت السرد لقرون. وتحتفل القصص بتمكين المرأة وقدرتها على الصمود، وتقدم منظورا جديدا للحكايات الخالدة التي لا تزال تأسر القراء في جميع أنحاء العالم.

في "حارسة العذارى" تجد قصة قصيرة آسرة كتبتها الكاتبة اللبنانية الشهيرة حنان الشيخ. تدور القصة حول حياة فتاة شابة تدعى زينب، اختيرت لتكون حارسة العذارى في قريتها. تأتي هذه المسؤولية مصحوبة بضغوط وتوقعات هائلة، حيث تتولى زينب مهمة ضمان نقاء وعفة الفتيات الصغيرات في القرية. طوال القصة، تستكشف الشيخ ببراعة موضوعات التقاليد وأدوار الجنسين وتأثير التوقعات المجتمعية على الحرية الفردية.

تبدأ القصة باختيار زينب كحارسة للعذارى، وهو المنصب الذي تم تناقله عبر الأجيال في عائلتها. منذ سن مبكرة، يتم إعداد زينب وتعليمها حول أهمية دورها في الحفاظ على شرف وسمعة القرية. وعلى الرغم من شعورها بالإرهاق بسبب ثقل هذه المسؤولية، تقبل زينب بشجاعة مصيرها وتكرس نفسها لواجباتها.

وباعتبارها حارسة العذارى، يتعين على زينب مراقبة سلوكيات الفتيات الصغيرات وتفاعلاتهن في القرية عن كثب. وتصبح ركيزة للسلطة والأخلاق، وتضمن التزام الفتيات بالمعايير الصارمة للحياء واللياقة التي وضعها مجتمعهن. ويخيم حضور زينب على القرية، ويثير الخوف والاحترام في قلوب القرويين.

ولكن مع تعمق زينب في دورها كحارسة للعذارى، تبدأ في التشكيك في صحة وهدف واجباتها. فهي تتصارع مع المشاعر المتضاربة بين الواجب والرغبة، حيث تتوق إلى حياة من الحرية والاستقلال خارج دورها الموصوف في المجتمع. يصور الشيخ بمهارة الصراع الداخلي لزينب، مسلطا الضوء على القيود والحدود المفروضة على النساء في المجتمعات التقليدية.

من خلال تفاعلات زينب مع الفتيات الصغيرات في القرية، يكشف الشيخ عن الآثار المدمرة للمعايير والتوقعات الأبوية على حياة النساء. تخضع الفتيات للمراقبة والتدقيق المستمرين، حيث يتم فحص كل حركة منهن والحكم عليها من قبل حارس العذارى. تعمل بيئة الخوف والسيطرة هذه على قمع فرديتهن واستقلاليتهن، مما يؤدي إلى إدامة دورة من القمع والخضوع.

على الرغم من تحفظاتها بشأن دورها كحارسة للعذارى، تجد زينب العزاء والغرض في واجبها لحماية الفتيات الصغيرات من الأذى والاستغلال. تصبح مصدرًا للتوجيه والدعم للفتيات، وتقدم لهن مساحة آمنة للتعبير عن أنفسهن والبحث عن ملجأ من القيود التي يفرضها المجتمع. تتألق شفقة زينب وتعاطفها في تفاعلاتها مع الفتيات، مما يدل على قدرتها على الحب والتفاهم.

مع تطور القصة، يزداد عزم زينب على تحدي الوضع الراهن، مدفوعا بعطشها للحرية والعدالة. تبدأ في التشكيك في التقاليد والعادات التي طالما أملت حياة النساء في القرية، وتقاوم القيود التي يفرضها دورها كحارسة للعذارى. تتنقل الشيخ بمهارة عبر تعقيدات شخصية زينب، وتصورها كامرأة شجاعة وصريحة تتحدى المعايير المجتمعية لمتابعة طريقها الخاص.

من خلال رحلة زينب نحو اكتشاف الذات وتمكينها، تسلط الشيخ الضوء على مرونة وقوة النساء في مواجهة الشدائد. إن تحدي زينب للتوقعات المجتمعية والتزامها الثابت بمعتقداتها بمثابة تذكير قوي بالإمكانات التحويلية للوكالة الفردية والمقاومة. تعمل القصة كتعليق مؤثر على القوة الدائمة للمرأة لتحدي وتفكيك الأنظمة والهياكل القمعية.

"حارسة العذارى" هي قصة مثيرة للتفكير ومؤثرة تتعمق في تعقيدات التقاليد وأدوار الجنسين والدور الفردي. من خلال شخصية زينب، تستكشف حنان الشيخ تأثير التوقعات المجتمعية على حياة النساء والنضال الدائم من أجل الاستقلال والحرية. وتعمل القصة كتذكير قوي بضرورة تحدي المعايير الأبوية الراسخة وتمكين المرأة من متابعة مساراتها ومصائرها. إن أسلوب الشيخ المثير للعواطف وتصويره الدقيق للشخصيات يجعل من "حارسة العذارى" عملا مقنعا ومؤثرا لا يزال يتردد صداه بين القراء في جميع أنحاء العالم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يا وابور قولي.. الى أين يمضي قطار الليالي.

في طريقي من مدينة "ميلانو الإيطالية" الي هامبورج في شمال المانيا، لم أعرف ان القطار غادر الأراضي الإيطالية، ودخل الي الأراضي السويسرية وجبالها الوعرة من سلاسل جبال الآلب الشاهقة، في صيف مثير ونادر كحفل متنقل، ودخل السهول المفتوحة مع شروق الشمس علي بحيرة مجاورة لشريط سكة القطار، الا عندما وقفت أمامي بائعة القهوة في القطار لتقول لي بلهجة إيطالية غريبة عن اهل "ميلانو"

"كيف تريد القهوة...؟

قلت مندهشاً من اللهجة لإنني لم اشعر بدخول القطار الي الأراضي السويسرية، وبلا تفتيش ولا حواجز كالسفر داخل بلدة واحدة في هذه الدول:

" أين نحن الآن من هذا العالم ...؟ أين نحن من الشعارات التي تعلمنها {أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة}

بالتهذيب السويسري الراقي المعروف قالت باسمة:

" نحن دخلنا سويسرا وعلي مشارف محطة مدينة "زيوريخ "قلت مع نفسي:

نحن اذا سافرنا من قريتنا الى المدينة، ومن الطابق الاول الى الثاني، ومن بلدة الى أخرى، بل من شارع الى شارع، فعلينا أن نحمل كل الوثائق لنواجه مختلف أنواع الأسئلة من الشرطة، ونفكر بكل أنواع الذنوب الحقيقية والمتخيلة، حتى نصل المكان الأخير، وقد تقلصنا من الخوف الى أصغر حجم.،، سويسرا يوجد بها ثلاث لغات الإيطالية والفرنسية والالمانية، وهي لغات مختلفة عن بعضها،ورغم ذلك الاختلاف يمكن التفاهم.

عدت وجلست في مقعدي وفتحت، التابلت، لحمل الملفات وقراءتها على شكل كتاب وفي الوقت نفسه الأرشيف الخاص لكل ما كتبت وكل الرسائل والصور ومكتبة كبيرة وكل عبارة أو كلمة أو قصاصة ورق أو تذكرة سفر أو فندق وهو مصدر وذاكرة احتياطية للكتابة الموثقه لآي كاتب أو روائي، لكني عثرت في ثنايا الملفات على أغنية "محمد عبد الوهاب": يا وابور قولي رايح على فين"

"كما لو ان القطارات القديمة من قطار الشرق الفرنساوي في قريتنا تطاردنا في هذه السهول السويسرية المشعة، ومع انسياب الأغنية شعرت ان هذه الرحلة نحو أمكنة أخرى، وقطارات أخرى وحقول وقناطر وسهول أخرى.

يا وابور قولي رايح على فين

يا وابور قولي وسافرت منين

يا وابور قولي

عمال تجري قبلي وبحري تنزل وادي تطلع كوبري

حود مره وبعدين دوغري

م تقول يا وابور رايح على فين

صوتك يدوي وانت بتهوي

والبعد اليم ناره تكوي

والأرض بساط وانت بتطوي

م تقول يا وابور رايح على فين"وعندما وصلت الأغنية الى مقطع:وسافرت منين

يا وابور قولي يا وابور قولي

قربت قريب وبعدت غريب وجمعت حبييب على شمل حبيب

والقرب نصيب والبعد نصيب

م تقول يا وابور رايح على فين

أن طال الوقت على الركاب يجري كلامهم في سؤال وجواب

بعد شويه يبقوا احباب وده يعرف ده رايح على فين على فين

انا رحت معاك ورجعت معاك

وانا ايه كان مقسوم لي وياك" سمعت خلفي صوتاً مباغتاً كمطر صيفي في يوم مشرق، لكن أصابعاً وضعت على كتفي من الخلف،شعرت برعشة من الخوف،وكأن ذاكرة قديمة من بلاد الخوف خلفي ،

والتفت.كانت امراة عربية تبكى بصوت عالٍ. في المقعد الخلفي. قالت:بلهجتها

" خوية مصري، أرجوك، أوقف الأغنية".عندها خيل إلي اننا في القطار المصري، ليل وكشاف الكمسري،ومشروب،عرق سوس،استمرت الأغنية،

عادت لتقول أمام ذهولي وهي تقف خلفي:

" انت سمعتني، أوقف الأغنية".

قلت في نفسي،،يمكن إيقاف المغني، لكن كيف نوقف الأغنية؟

يمكن ايقاف الجهاز، لكن كيف يمكن ايقاف الذاكرة..؟

يمكن ايقاف القطار لكننا لا نستطيع ايقاف رحلة القلب.وقفت امامها فتاة سويسرية من المسافرين، عادة الغرب اذا شعر بتوجع الآخر، وقالت:

" انت بخير سيدتي..؟"

لم تجب لكني قلت:

" هي بخير لكنها الأغنية"

" آه.... فهمت".

الرهافة والحساسية أهم ميزات هذه الشعوب .

اوقفت الأغنية لكني عندما نظرت الى السهول الألمانية المشرقة،

وطواحين الهواء، والأبقار في المراعي،

رآيت، في وضح النهار الصريح، الأبيض، الهادئ، قطاراً قديماً يعبر سهولاً آخرى،

قناطر وأكواخ وسمعت دق قهوة وضرب الفناجين،ورجلاً يخرج من باب المضيف،

يحمل فانوساً، ولم تتوقف الأغنية في رأسي بل صارت ترن بقوة:أن طال الوقت على الركاب يجري كلامهم في سؤال وجواب

بعد شويه يبقوا احباب وده يعرف ده رايح على فين على فين

انا رحت معاك ورجعت معاك

وانا ايه كان مقسوم لي وياك

دي كانت نظره من هنا لهناك العين عرفت رايحين ع فين

على فين يااااوابور

"سمعتها تواصل الآهات والنشيج: انه العشق العربي النقي الآصيل،. الحزن الذي يجعل صاحبه لا يأكل ولا يشرب،

ويمسح وجهه بالتراب.كانت تكلم نفسها:

" لو أدري لماذا الدموع..؟، هل حان الوقت أفتح معها حوار

هذه المرة،، تبادلنا

أطراف الحديث ثم اقتربنا وفتحت الذاكرة "ليلة سقوط بغداد "ليرتفع مرة أخري النشيج المر. فقدت معظم اسرتها وخطيبها، وانها تعيش في" السويد" وكل عام تزور ماتبقي من اهلها في البلدان الأوروبية، توقف بنا القطار في محطة (برلين) سوف تأخذ حافلة الي مدينة" هانوفر الالمانية لزيارة عمتها،وانا كذلك بالحافلة الي هامبورج"،

هذا ليس قطار فيلم /قطار الشرق السريع ولا قطار الشرق الفرنساوي في مدينتنا المنصورة لكنه قطار المنفي الاختياري

" قطار الحمولة والذكريات،

قطار الليالي،

قطار السنين الخوالي،

إلى أين تمضي بركابك الميتين..؟".يا وابور قولي رايح على فين وسافرت منين،،!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

تعريف الغَزَل كما ورد في القواميس اللغوية هو فنّ من فنون الشِّعر، يتغنَّى فيه الشَّاعر باِمرأة ويُحمِّله مشاعره. وهو الشِّعْرُ الَّذِي يُقَالُ فِي النِّسَاءِ وَوَصْفِهِنَّ وَالتَّشَبُّبِ بِهِنَّ.

يُقال للظّبي غزال وللظبية غزالة والغزالة في اللغة أيضا هي الشّمس عند الضّحى لا غير وقد شبّه الشعراء القدامى حبيباتهم بالشّمس تعبيرًا عن وضاءتها وحسنها مثل عنترة في قوله:

أَشارَت إِلَيها الشَّمسُ عِندَ غُروبِها

تَقولُ إِذا اسوَدّ الدُّجَى فَاطلِعِي بَعدي

والغزَل في اللغة أيضا هو فتل الصّوف خيوطا وقد ورد في القرآن قوله في سورة النحل: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها.

وقد جمع المعرّي بين الغزْل والغزَل في أحد أبياته قائلا:

سُقيا لِشَوْهاءَ ما هَمّتْ بفاحشَةٍ

غدتْ على الغزلِ، ليستْ تعرِفُ الغزَلا

هذه مناسبة إذن للوقوف على العلاقة بين الغزَل والغزْل والغزالة فيبدو لي إذن أن غزل الصوف حول المغزل هو مثل غزل الكلام حول المرأة التي تشبه الغزالة في حسنها وفي كثير من طباعها فغزْل الصوف يتطلب اللطف والحذق والمداومة حول المغزل وشعر الغزل يتطلب كذلك المهارة اللغوية ولطف المقاربة كما قيل في قواميس اللغة هو محادثة النساء بِلُطْفٍ وَرِقَّةٍ وَكَلاَمٍ عَذْبٍ وَتَوَدَّدَ إِلَيْهِنَّ وأما التشبيه بين الحبيبة والغزالة فأمر شائع في مدوّنات الغزل كقول قيس بن الملوّج مخاطبا ظبية:

أَيا شِبهَ لَيلى لا تُراعي فَإِنَّني

لَكِ اليَومَ مِن بَينِ الوُحوشِ صَديقُ

*

فَعَيناكِ عَيناها وَجيدُكِ جيدُها

سِوى أَنَّ عَظمَ السّاقِ مِنكِ دَقيقُ

وهذا الشاعر المنخّل اليشكري هو أيضا يجد شبها وتوافقا آخر ولكنه مع البعير والناقة ليعبّر عن تمام الانسجام وكماله بينه وبين حبيبته حيق قال:

وأحبُّها وتحبّني

ويُحبّ ناقتها بعيري

قيس بن الملوّح  يستحضر هو أيضا زمن طفولته مع حبيبته ليلى وهما يرعيان صغار الغنم فيقول:

تعلّقتُ ليلى وهي غرّ صغيرة

ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ

*

صغيرين نرعى البُهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البَهمُ

تمثّل الطفولة الصّفاء والنّقاوة والبياض الذي لم تَشُبه شائبة والعاطفة فيه صادقة تنأى عن هواجس الغرائز وحسابات المصالح وقد صوّر الشابي الطفولة فاِعتبرها حلما لذيذا مرفرفا وذلك في أسلوب صيغة التعجّب الذي يرشح بمعاني المحبّة والاِشتياق  المَشُوبة بشيء من الحسرة على اِنقضاء عهدها حيث يقول:

للّه ما أحلى الطفولة

إنّها حلم الحياة

*

عـهد كمعسول الرّؤى

ما بين أجنحة السُّبات

وعذوبة الطفولة لدى الشّابي جعلته يفتتح بها ـ معلّقته ـ صلوات في هيكل الحب ـ إذ يستهلّها قائلا:

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام

كاللّحن كالصّباح الجديد

أمّا الشّاعر التونسي ـ حاتم حمّادي ـ وهو من آخر حبّات العنقود في مدوّنة الشعر التونسي فقد نشر أخيرا قصيدا جديدا عاد فيه هو أيضا إلى ألعاب الطفولة خاصّة منها لعبة الغمّيضة لينال قبلة من حبيبته جائزة له بعد عناء البحث والفوز بالرّهان فهذه اللعبة البريئة والمسليّة تُعتبر أكثر صدقا وأبلغ حميميّة من طقوس الحبّ الرّسمية الخاضعة للبروتكولات

قصيدة  ـ الغُمَّيْضَةُ ـ للشاعر ـ حاتم حمّادي ـ تونس

إنْ أَقْرُبْكِ

أَغْمِضِي عَيْنَيَّ بِمنديلٍ صغيرٍ

أو وِشَاحٍ

ثُمَّ

تَوَارَيْ قَلِيلاً...قَلِيلاً

وتَسَلَّلِي

ثم تَخَفَّيْ بِتُؤَدَةٍ

وراءَ جدارٍ

أو

وراء ستارٍ

كطفلةٍ تَتَسَلَّى بِي

تحت...

جُنْحِ الظَّلاَمِ

وَإِذَا...

بعْد جَمِيلِ تَعَثُّرٍ

وبعدَ بحثٍ حليمٍ

وَكَدٍّ خفيفٍ ومُزَاحٍ

وَجَدْتُكِ دون عناءٍ

لِيَكُنْ حَظِّي مِنَ الرِّهَانِ

قُبلة برقيّة خاطفة

بِالكَادِ تمسح مسحا خفيفا

على الخدَّيْنِ

مثلما

يفعل جميع الأطفالِ،

سأراها مخاطرة

ومجازفة كبرى

وجزاء

وسترينها مُخَالَفَة

وأحلى عقاب

صَرَاحَةً...صراحةً

أريدُ أن ألْعبَ معكِ

مثلَما يلعب جميع الصِّغارِ

إنّي...

مَلَلْتُ الحُبَّ الرّسْمِيَّ

والقُبُلاَتِ مِنْ نَارٍ !

قصيدة الغمّيضة للشاعر حاتم حمّادي عودة إلى ينابيع الشّعر العُذري واِستلهام لرموز الرّومنطقية وهي من ناحية أخرى مواصلة في تفاصيلها وصورها وأبعادها لمسيرة الشّعر الجديد بتونس .

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

لن ندخل في نقاش لماذا. لأن الكل مجمعون على عقم وصعوبة وعسر اللغة العربية وأساليب تدريسها وقواعدها.. والنتائج واضحة. أجيال وأجيال من الناطقين بالعربية وممن درسوها وتخرجوا من الجامعات وهم لا يعرفون قواعدها ولا كيفية الاستفادة من هذه القواعد أو كيفية التحدث بها.

التغيير واجب لكن بأي اتجاه؟

يجري تقسيم تدريس قواعد اللغة العربية لثلاث مراحل :

-الابتدائية والمتوسطة

-الاعدادية بجزئين الأدبي والعلمي

- الجامعية للدراسات الإنسانية فقط

وذلك لتسهيل تلقي الطالب المعلومات وترسيخها.

المرحلة الابتدائية والمتوسطة:

1. إنهاء فوضى الجملة العربية باختيار الجملة الفعلية لأغراض التدريس (في المرحلة الابتدائية فقط) وترك باقي الجمل الإسمية والمبتدئة بحرف وغير ذلك لمراحل الدراسة اللاحقة كتنويع ممكن على الأساس وهو الجملة الفعلية.

إن هذا المبدأ سيسهل كثيرا على الطالب المبتدئ تركيب الجمل واستقرارها

راح الولد الى المدرسة

أكلتُ الطعامَ

2. التخلي التام عن المرفوعات والمنصوبات والمجرورات من الأسماء في جميع المراحل الدراسيّة الابتدائية والمتوسطة واستبدالها بـ:

-  الاسم المتحكم بالجملة وتكون علامته الضمّة وهي أقوى الحركات ويجب أن يتبع الفعل مباشرة ولهذا لا يصح (لأغراض تعليم الطلاب فقط) أن نقول

راح الى المدرسة الولدُ أو كتب الرسالةَ صديقي بل ندرّس وجوباً أن يكون الاسم المتحكم (أو الضمير) يلي الفعل مباشرة كما الأمثلة التالية:

كتب صديقي الرسالة

لعبنا الكرة

-  الاسم المحايد لجميع المنصوبات (ونلغي تدريس أو تسمية خبر كان-اسم ان- المفعول به- المفعول المطلق-التمييز-المفعول معه-الحال-المفعول لأجله) وتوحيد التسمية وشرح أنه محايد لأنه لا يتعامل مع الفعل بالجملة وانما يقع عليه فعل الاسم المتحكم بالجملة.

-  أمثلة لكل نوع من الأسماء المحايدة (تحته خط):

كان النهر فائضاً (فائضاً اسم محايد) (اعرابه سابقا خبر كان)

ان الجوَّ صحوٌ (الجوَّ اسم محايد) (اعرابه سابقا اسم ان)

كتب الطالبُ الجملة (الجملة اسم محايد) (اعرابه سابقا مفعول به)

جاوب المدرس جواباً مقنعاً (جواباً اسم محايد) (اعرابه سابقا مفعول مطلق)

-  الاسم الضعيف المكسور بحرف الجر أو بالتبعية أي الإضافة.

3. تدرّس الضمائر أينما وقعت كبديل عن الأسماء.

4. تدرّس الصفات كتوابع للأسماء

5. إختيار جميع النماذج التدريسية من المشترك مع اللغة المحكية لذلك البلد وهذا سيكون ذا نفع كبير لتدرج الطالب من لغته الأم البيتية المحكيّة الى اللغة العربية الفصحى بحيث لا تشكل قفزة لا يمكن عبورها. وكمثال الأفعال المشتركة (أكل-شرب-سمع-نزل-نام-سأل-كتب)

6. اختيار جميع النماذج القرآنية جملاً فعلية في هذه المرحلة.

إن خريجي الابتدائية والمتوسطة بهذا النظام اللغوي الجديد قادرون وبسهولة على استيعاب الجملة العربية وتكوينها وكتابتها بالشكل الصحيح وسيعرفون دائما أن ما سيلي الفعل هو اسم مرفوع لأنه يتحكم بالفعل مباشرة وكل ما سيليه من أسماء أما محايد أو ضعيف.

يتبع

***

فهيم عيسى السليم

 

في المثقف اليوم