أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

في الثّالث والعشرين من نيسان، يضيء العالم شمعاته احتفالا بيوم الكتاب، ذلك الرّمز الحضاريّ العريق الذي يمثّل نافذة على المعرفة والإبداع.

لكنّ حكاية الكتاب في عالمنا العربيّ حكاية مظلمة، تُغلّفها سحب الإهمال وعزوف النّاس عن القراءة! فبينما تُزهر المكتبات في الغرب، وتزخر بعشّاق الكتب، تغلق أبواب مكتباتنا، ويُقابَلُ حبّ القراءة بنظرات الاستغراب واللامبالاة!

أين ذهبت ثقافتنا العريقة؟ أين ذهبت حكايات أجدادنا وأشعار شعرائنا حين تغنّوا بالكتاب؟

لقد غدونا أسرى لشاشات الهواتف وألعاب الفيديو والمسلسلات التلفزيونيّة السّخيفة، نضيّع أوقاتنا في متابعة التّفاهات، وننسى لذة الغوص في بحر المعرفة والكلمات، نهرب من الواقع بدلا من مواجهته، ونبحث عن التّسلية الفارغة بدلا من المعرفة الهادفة.

أين نحن من قول الجاحظ: "الكتابُ جليسٌ لا يُملّ، وصديقٌ لا يَغدرُ، ومُعلّمٌ لا يُخطئُ"؟

لماذا لا نوقظ أنفسنا من هذا السبات العميق؟ لماذا لا ننفض غبار الإهمال عن كتبنا، ونشجع على القراءة ونُحبّبها إلى أطفالنا؟ ولماذا لا نجعل من الكتاب رفيق دروبنا وهادينا في طريق الحياة؟

القراءة هي مفتاح المعرفة والتقدّم، والكتاب هو خير صديق للإنسان، لكن، لا يكفي أن نردّد هذه الكلمات كمواعظ تلقى على الصمّ بالبلادة، بل يجب أن نحوّلها إلى أفعال ملموسة على أرض الواقع. فما هي أسباب هذا التقصير الفادح؟

هل هو غياب ثقافة القراءة المُجتمعية؟ فإن لم تصبح القراءة عادة راسخة في بيوتنا، ولم تشجّع الأسر أطفالها على حبّ الكتب وقضاء أوقاتهم معها فماذا ننتظر!  وفي الحقيقة، تفتقرُ العديد من مدننا وبلداتنا العربيّة إلى مكتبات عامّة، ذات إمكانيات جيّدة، وهذا ما يعيق وصول الكتاب إلى القارئ بسهولة.

كما أنّ ارتفاع أسعار الكتب يثقل كاهل القارئ، ويعيق رغبته في الشّراء. ولا ننسى انتشار وسائل التّرفيه الإلكترونيّ- ولست ضدّ المفيد منها- لكنّها سيطرت على أوقات النّاس، خاصّة الشّباب، ممّا أضعف رغبتهم في القراءة وأبعدهم عنها.

كذلك ضعف المناهج الدراسيّة المتقاعسة عن تعزيز حبّ القراءة، فهي لا توليّ اهتماما كافيا بتعزيز القراءة وأهميّة الكتاب لدى الطلّاب، ممّا يؤثّر سلبا على سلوكهم في المستقبل.

كيف إذن، نواجه هذا التحدّي؟

إنّ إنقاذ ثقافتنا العربيّة يبدأ من إنقاذ الكتاب، فمن خلال القراءة نستطيع أن ننير عقولنا، ونثري أفكارنا ونصبح مجتمعا مثقّفا.

 لنعيد للكتاب بريقه وسحره ومكانته، ونصبح أمّة تقرأ وتفكّر وتبدع وتنتج، تشعل جذوة حبّ القراءة في قلوب أجيالها، وتلهم العالم بإبداعها.

***

صباح بشير

 

كان غراهام غرين كاتبا بريطانيا غزير الإنتاج ومؤثرا، معروف برواياته التي غالبا ما تستكشف موضوعات الأخلاق والسياسة والدين. ولد في الثاني من تشرين أول عام ١٩٠٤ في بيرخامستيد، هيرتفوردشاير، إنجلترا. ينحدر غرين من عائلة لها جذور في عالم النشر، وتلقى تعليمه في مدارس مرموقة، بما في ذلك كلية باليول في أكسفورد. بعد الجامعة، عمل جرين كصحفي، وسافر كثيرا وكتب في العديد من الصحف.

نشر غرين روايته الأولى "الرجل في الداخل" عام 1929، وأعقبتها سلسلة من الأعمال الناجحة التي عززت سمعته كمؤلف موهوب. ومن أشهر رواياته "برايتون روك"، و"القوة والمجد"، و"الأميركي الهادئ". تتميز كتابات غرين بشخصياتها الاستبطانية والمعقدة أخلاقيا، فضلا عن استكشافها للقضايا السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت.

طوال حياته المهنية، تلقى غرين إشادة من النقاد لعمله، وفاز بالعديد من الجوائز المرموقة، بما في ذلك جائزة جيمس تيت بلاك التذكارية وجائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع. بالإضافة إلى رواياته، كتب غرين أيضا العديد من القصص القصيرة والمسرحيات والسيناريوهات. تم تحويل أعماله إلى العديد من الأفلام الناجحة، بما في ذلك "الرجل الثالث" و"نهاية القضية".

على الرغم من نجاحه ككاتب، إلا أن غرين عاش أيضا حياة شخصية مضطربة. كان يعاني من الاكتئاب وإدمان الكحول، وكانت علاقاته في كثير من الأحيان محفوفة بالصعوبات. غالبا ما وجدت تجارب غرين الخاصة مع المرض العقلي والإدمان طريقها إلى كتاباته، مما أضاف عمقًا وأصالة إلى شخصياته وقصصه.

بالإضافة إلى إنجازاته الأدبية، كان غرين معروفا أيضًا بنشاطه السياسي. لقد كان من أشد المنتقدين للإمبريالية والاستعمار، وبعض رواياته، مثل "الأميركي الهادئ"، تشكل اتهامات لاذعة للتدخل الغربي في البلدان النامية. كانت معتقدات غرين السياسية مثيرة للجدل في كثير من الأحيان، لكنه ظل ثابتا في التزامه بالعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

لا يزال عمل غرين يحظى بالدراسة والإعجاب من قبل القراء والعلماء على حد سواء. تعتبر رواياته من كلاسيكيات أدب القرن العشرين، وقد ألهم مزيجه الفريد من التشويق والبصيرة النفسية والتعليقات الاجتماعية أجيالا من الكتاب. يمكن رؤية تأثير غرين في أعمال مؤلفين مثل جون لو كاريه وإيان ماك إيوان، الذين استشهدوا به باعتباره تأثيرا كبيرا على كتاباتهم.

في سنواته الأخيرة، قسم غرين وقته بين الكتابة والسفر، وقضى معظم وقته في جنوب فرنسا وسويسرا. استمر في إنتاج أعمال جديدة حتى وفاته في الثالث من نيسان عام ١٩٩١، عن عمر يناهز ست وثمانين عاما. ويعيش إرث غرين من خلال رواياته، التي لا تزال تأسر القراء بموضوعاتها المثيرة للتفكير وتوصيفاتها الغنية.

وفي الختام، كان غراهام غرين كاتبا موهوبا ومؤثرا، ولا تزال أعماله تلقى صدى لدى القراء حول العالم. تستكشف رواياته معضلات أخلاقية معقدة، ومؤامرات سياسية، وصراعات شخصية، وقد أكسبته رؤيته الثاقبة للحالة الإنسانية مكانا بين عظماء الأدب في القرن العشرين. إن إرث غرين ككاتب وناشط مستمر، ويلهم الأجيال الجديدة للتفاعل مع عمله والقضايا المهمة التي تناولها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ليس بغريب على مهني متخصص، وأكاديمي متمكن، مثل الأستاذ المساعد، دكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، وهو من أعلام الأدب والثقافة، وقامة من قامات التنوير والتأثير، في الساحة الأدبية والثقافية، والأكاديمية والمعرفية، اضافة الى عمله مدرسا لمادة اللغةالعربية في (معهد الرواد في مدينة الموصل)، ان يفاجئنا باصداره (ملزمة قواعد اللغة العربية) لمرحلة الدراسة المتوسطة، لترى النور، بعد جهد مكثف، ومثابرة جادة، لكي تأتي على نحو متكامل، وسهل التناول، لمنفعة إلمام الطالب، بقواعد اللغة العربية، في مرحلة الدراسة المتوسطة .

ولعل اطروحته للدكتوراه، التي كانت في مجال الآداب والعلوم الإنسانية (لغويات)، وفي تخصص (الدراسة الدلالية في السياق القرآني)، والتي تلاها كتابه ( الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني) الذي تم طبعه ونشره بواسطة (دار الخليج) للطبع والنشر) في عمان، يعدان رؤية جديدة، ونسق معرفي متميز، في مجال الدراسات القرآنية المعاصرة، ناهيك عن نتاجاته، ومقالاته، في مختلف المجالات الثقافية والعلمية واللغوية والاجتماعية، التي تحتل مكانتها المتميزة في أشهر المواقع على الإنترنت.

وتجدر الإشارة إلى ان (اتحاد مكتبات الجامعات المصرية) قد ضم كتابه (الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني)، إلى قائمة مجموعة مقتنياته من الكتب الرصينة، والمصادر الموثقة، المحفوظة في خزانته. ليكون مرجعا للقراء والباحثين والمهتمين بالدراسات اللغوية والدلالية مستقبلا .

ولعل كون الدكتور عبدالعزيز عيادة الوكاع، حافظا للقرآن الكريم، وواعظا دينيا، ومدرسا لمادة اللغة العربية، في نفس الوقت، كانت كلها عوامل مؤازرة، منحته خبرة زاخرة بالعطاء، اضافة إلى موهبته الشهصية، مما جعله طاقة إبداعية متوقدة، وكفاءة عالية، تضاف إلى كفاءات الساحة الأدبية والثقافية، ليكون بهذه المعيارية العلمية، والمهنية الرفيعة، مشروع توهج علمي واعد، لخدمة لغة الضاد، لغة القرآن الكريم، والحفاظ عليها، من المسخ والتشويه، بما بات يعرف اليوم (بالعربيزية) الطارئة، التي افرزتها تداعيات العصرنة الصاخبة. بجوانبها السلبية، المعروفة للجميع .

وهكذا يظل الكاتب الموهوب الدكتور عبدالعزيز عيادة الوكاع، نموذجاً متميزا، للتحدي والتطلع، وعنوانا للإبداع، ورمزا للإعتزاز، في خدمة اللغة العربية، وعلومها النبيلة .

***

نايف عبوش

وأنا أقرأ خبر رحيل صلاح السعدني تذكرت المرة الأولى التي شاهدته فيها شاب نحيف يمثل بالإشارة من دون صوت وسط كبار نجوم التمثيل حمدي غيث، عبد الغني قمر، شفيق نور الدين، سميحة أيوب ليؤدي دور أبو المكارم في أجزاء من خماسية الساقية التي كتبها عبد المنعم الصاوي وأخرجها نور الدمرداش، بعدها سيظهر لنا صلاح السعدني بثوب جديد في مسلسل "لا تطفئ الشمس" المأخوذ من رواية إحسان عبد القدوس ، يؤدي شخصية ممدوح الشاب المنطلق الذي يمثل جيل الستينيات  بشخصيته وأفكاره الخاصة، مشاريعه التي لا تنتهي وأحلامه التي تنطفئ فجأة، تتوالى الأدوار في الأرض مع يوسف شاهين، وخان الخليلي رائعة  نجيب محفوظ، وفجأة يختفي صلاح السعدني بسبب مشاغبات شقيقه الصحفي الشهير محمود السعدني والذي سيكتب في كتابه " المضحكون":  لقد ورث صلاح السعدني عداء كل السينمائيين بسببي، وأسدلوا عليه ستاراً من الإهمال والنسيان انتقاماً مني، ثم حالة الصياعة والضياعة التي يعيش فيها باختياره"  حالة الضياعة دفعت صلاح السعدني لأن يتجه إلى المسرح ليمثل في رائعة نعمان عاشور " الجيل الطالع"، ويؤدي البطولة في مسرحية ميخائيل رومان " الدخان " التي أثارت ضجيجاً بين نقاد المسرح في السبعينيات، ويتألق مع سعد الله ونوس في الملك هو الملك. 

لم يكن صلاح السعدني يحلم في أن يصبح النجم الأول، فقد كانت النجومية تعني وسامة مفرطة، لكن صاحبنا الذي جاء إلى التمثيل من كلية  الزراعة ، حلم ذات يوم أن يصبح مثل محمود المليجي، ممثل الأدوار الصعبة ، كانت ملامحه  أقرب إلى وجوه الناس البسطاء، لكنه استطاع أن يذهل المشاهد بتلقائيته التي كانت تُخفي وراءها طاقة تمثيلية هائلة، فقد قرر أن ينسينا نحن المتفرجين أننا نجلس أمام التلفزيون، نتابع تقلبات العمدة سليمان غانم في ليالي الحلمية  وصراعه الذي لا ينتهي مع سليم البدري، لياخذنا الى عالمه ، يتحدث فننصت إليه، يُحرك يده فتذهب الأنظار باتجاهه، يضحك فتنطلق الضحكات  مجلجلة . وكان كلما حاول ابطال المسلسل  منافسته، ازداد تفرداً وتألقاً.

يعترف أن الكتب والسياسة كانت بوابته إلى الفن: " السياسة الآن دخلت في كل شيء، زمان كانت تمارس داخل القصور فقط، الآن الزمن اختلف والسياسة أصبحت في رغيف العيش وعلى المقهى وفى مباراة كرة القدم، والفن ما هو إلا انعكاس للواقع ".

يغيب صلاح السعدني  وتطوى معه صفحة من زمن جميل مضى، كان قد حذرنا من تسربه  بغفلة منا: "

وينفِلِت من بين إيدينا الزمان  

 كأنه سَحبة قوس في أوتار كمان 

 وتنفرط الأيام عقود كهرمان 

يتفرفط النور والحنان والأمان.

***

علي حسين

 

جلسنا تحت شجر الجميز وشجر الكافور علي ضفاف شاطىء ترعه الجبادة امام قريتنا، في ليلة صيف قمرية نفكر في في أسفل المنحدر وعلى أطراف قريتنا الجميلة، كان هناك بيت قديم جدًا أشبه بالخربة، سقفه من الطين المختلط بالقش وجدرانه مختلطة من الطوب الاحمر والطين، لا اعلم وقتها كيف اقيمت، ويحيط به سياج من أشجار الكافور والخروع، كنت أنا وكلّ أطفال القرية ننسج قصصاً مرعبة مخيفة عن العجوزة التي تسكن البيت القديم، نتخيلها مرة ساحرة شريرة، وأحيانًا نتخيلها ستنا الغولة التي تأكل الأطفال، ومرة مجنونة لمسها الجن،  سمعتهم يقولون إنّ في حقلها خلف سياج الأشجار يوجد عش لليمام يعشش فوق شجرة الجميز الكبيرة، تلك اليمام والحمام والعصافير التي يتحدثون عنها كثيرًا، أثارت رغبتي الطفولية في الحصول على بيضها، كنت في تلك المرحلة من عمري احب المجازفة، فأقنعت ثلة من أصدقائي في التوجه نحو بيت العجوزة الشريرة، متسللين على أطراف أقدامنا خلسة إلى حقلها مثل اللصوص، كان أحد أصدقائي اصغر مني مترددًا في قراره، لكنّني كعادتي اقنعته واخبرته أننا نضع في  جيوبنا الصغيرة بالحجارة ونحمل العصا الخشبية كحماية لنا.. اقتربنا من البيت المهجور بالقرب من الحقل وكان المكان يبدو مهجورًا لا يقطنه أحد، تسللنا بمنتهى الخفة إلى الداخل مقتربين من شجرة الجميز الكبيرة بحثًا عن اليمام والحمام، وفجأة سمعنا حركة بخطوات غير اعتيادية؛ ما جعلنا نركض باطراف انامل اقدامنا لنتوارى خلف كومة من الزبالة والسبخ حاولنا قدر المستطاع التستر ببعض من الكرتون على رؤوسنا كانت لحظات حاسمة جداً ومرعبة احتبسنا فيها الآنفاس، وانا اشير لهم بالثبات وعدم ابداء أي تحركات، ورغم شدة الإرتجاف التي أصابتنا، إلا أنّ صديقي الخواف كعادته بدأ يتنهد بالبكاء شيئاً فشيئًا مع اقتراب خطوات تلك العجوز الشريرة، فهو نفسه الذي بكى عندما اخبرتهم أن الأرانب في هذا البيت المهجور تبيض وعلينا البحث عن بيضها...بدأ يشتدّ ارتعابه ويبكي وأنا أحاول اسكاته واقناعه ان بيض الارانب غالي الثمن، وفي محاولة طلبت منه أن لا يخاف ولا يجزع، فحتى أن امسكتنا العجوز الشريرة وحاولت طبخنا في القدر الكبير، فسنضربها جميعاً ونعتلي البساط الطائر لنحلق بعيداً، وسأجعله يقود ذلك البساط، لكن يبدو أن محاولة اقناعي له بعدم الخوف كانت فاشله، حيث تعالى صوت بكاءه عندما سمع أنَّ العجوزة ستطبخنا في قدر كبير.. حاولت طمأنته للمرة الثانية فأخبرته أن العجوزة لا تمتلك أسنانًا بل تمتلك ناباً واحداً، تمتص فقط دمنا اللذيذ، فتعالى صوت صراخه ورجفته اكثر، وما كدت افزع  من نوبات صراخه حتى يزداد ببكاءه، فهددته أن المكان مسكون من الجن والعفاريت وهي تحضر في الليل مع صرخات البكاء  بعد أن نخرج من هنا استمر ببكاءه ولكن دون جدوى، وفجأة. سمعنا صرخاتها امسك حرامي.

واسرعنا بالجري حتي وقعنا في خرارة مجاري وانتهي حلمنا وحكايتنا في مستنقع من المجاري .انها حكايات من طفولتنا البريئه .!!

***

يوميات مثقف في الريف

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

"الدكتاتور" هي مسرحية كتبها الكاتب المسرحي والشاعر الفرنسي جول رومان. تم نشرها لأول مرة في عام ١٩٢٨  وهي بمثابة تعليق على الصعود إلى السلطة وعهد الديكتاتوريين.

 يستكشف رومان في المسرحية العديد من الموضوعات الرئيسية التي تعتبر أساسية في السرد والشخصيات. بعض المواضيع الرئيسية في "الديكتاتور" تشمل السلطة والفساد والتلاعب والهوية والعزلة والولاء والمقاومة والأخلاق والحرية والتجربة الإنسانية.

قد تكون أولى المواضيع المركزية في "الديكتاتور" هو السلطة. تصور المسرحية مدى سهولة إفساد السلطة للأفراد ودفعهم إلى إساءة استخدام سلطتهم لتحقيق مكاسب شخصية. الشخصية الرئيسية، الجنرال فيليكس باريو، يستولي على السلطة ويصبح دكتاتورا، مما يسبب الفوضى والدمار في سعيه للهيمنة. وتظهر المسرحية مخاطر السلطة غير المقيدة وأهمية محاسبة من هم في السلطة على أفعالهم في ضوء الأحداث التي تجري في المسرحية.

الفساد هو موضوع بارز آخر في "الدكتاتور". ومع ازدياد استبداد حكم باريو، أصبحت حكومته فاسدة على نحو متزايد، حيث يستغل المسؤولون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية. وتذهب المسرحية في تسليط الضوء على تأثير الفساد على المجتمع والانحلال الأخلاقي الذي يمكن أن ينجم عن السلوك غير الأخلاقي.

يعد التلاعب أيضا موضوعا رئيسيا في المسرحية. يستخدم باريو التلاعب والخداع للحفاظ على سيطرته على رعاياه وخداعهم لتصديق دعايته. ويفند الطرق التي يمكن من خلالها للأفراد الموجودين في السلطة التلاعب بالآخرين لتحقيق أهدافهم الخاصة، وغالبا ما يكون ذلك على حساب الحقيقة ورفاهية المجتمع.

الهوية هاجس أساسي في شخصية باريو في "الديكتاتور". عندما يصبح مستغرقا في دوره كديكتاتور، يفقد باريو الاتصال بشخصيته الحقيقية و يضحي بقيمه الشخصية باسم السلطة. ويلقي الضوء على الطبيعة المدمرة للاستبداد على إحساس الفرد بذاته وأهمية البقاء صادقا مع معتقداته ومبادئه.

العزلة  موضوع رئيسي آخر في المسرحية. عندما يصبح حكم باريو أكثر قمعا، يصبح معزولا بشكل متزايد عن من حوله، بما في ذلك أقرب حلفائه ومؤيديه. ثم يشرح  الشعور بالوحدة والعزلة التي غالبا ما تصاحب الحكم الاستبدادي والأثر الذي يلحقه بالصحة العقلية والعاطفية لمن هم في السلطة.

الولاء موضوع تم استكشافه في جميع أنحاء "الدكتاتور". يطالب باريو بالولاء الثابت من أتباعه، مستخدما الخوف والترهيب للحفاظ على ولائهم. كما يسلط  الضوء على الديناميكيات المعقدة للولاء في مواجهة الاستبداد والتضحيات التي قد يقدمها الأفراد من أجل البقاء في ظل الحكم الاستبدادي.

المقاومة هي موضوع بارز آخر في المسرحية. عندما يصبح حكم باريو أكثر قمعا، تتشكل حركة مقاومة لتحدي سلطته والنضال من أجل الحرية والعدالة. ويؤكد هذا الموضوع على قوة العمل الجماعي في مواجهة الاستبداد وأهمية الوقوف في وجه الظلم، حتى في أحلك الظروف.

الأخلاق  موضوع أساسي لشخصيات "الديكتاتور". عندما يصبح حكم باريو أكثر استبدادا، يضطر رعاياه إلى مواجهة خيارات أخلاقية صعبة والتعامل مع قيمهم الأخلاقية. تستكشف المسرحية التعقيدات الأخلاقية للعيش في ظل الديكتاتورية والطرق التي قد يتنازل بها الأفراد عن مبادئهم من أجل البقاء.

الحرية هي الموضوع الذي يكمن وراء مسرحية "الدكتاتور" بأكملها. وبينما يشدد باريو قبضته على السلطة، فإنه يقيد حرية رعاياه ويؤدي إلى تآكل حقوقهم وحرياتهم الأساسية. ويؤكد هذا الجانب أهمية الحرية في المجتمع العادل والمدى الذي سيبذله الأفراد من أجل تأمين حريتهم من الاضطهاد.

التجربة الإنسانية هي الموضوع الذي يتخلل "الديكتاتور". ومن خلال الشخصيات وصراعاتهم، تستكشف المسرحية أعماق النفس البشرية وتعقيدات الطبيعة البشرية في مواجهة السلطة والفساد. يسلط هذا الموضوع الضوء على المرونة والشجاعة والقدرة على الخير والشر الموجودة داخل كل فرد، ويقدم تعليقا قويا على الحالة الإنسانية.

وفي الختام، إن مسرحية "الدكتاتور" لجول رومان  دراما مثيرة للفكر تتعمق في تعقيدات السلطة والفساد والتلاعب والهوية والعزلة والولاء والمقاومة والأخلاق والحرية والتجربة الإنسانية. ومن خلال استكشافها لهذه المواضيع، تقدم المسرحية نقدا مقنعا للسلطوية وتأثيرها المدمر على الأفراد والمجتمع ككل. إن رواية رومان البارعة للقصص وتطوير الشخصية الغنية تجعل هذه المواضيع تنبض بالحياة، مما يتحدى الجماهير للتفكير في الأمور الأخلاقية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

........................

المرجع

مسرحية الدكتاتور، جول رومان، سلسلة المسرح العالمي، الكويت

الله قريب منك فلتعانق روحك روحه

رسالة إلى الله...، كانت عنوان فيلم "إيراني" مدبلج إلى اللغة العربية يعالج قضايا اجتماعية، القصة تدور حول عائلة فقيرة جدا، يكاد رب الأسرة أن يضمن قوت يوم زوجته وولديه (بنت وشقيقها)، وفجأة تسقط الأم أسيرة المرض ويقول الطبيب انه لابد من إخضاعها لعملية جراحية في اسرع وقت، وهي مكلفة جدا، و لا تجرى سوى عند الخواص لتوفر العتاد الطبي اللازم، لم يجد الأب من وسيلة لتوفير تكلفة العملية الجراحية فيضطر الى مغادرة البيت والبحث عن وسيلة يجمع بها ثمن العملية من عند الأقارب والأصدقاء، يترك الأب البيت ويوصي ابنه وابنته برعاية أمهما في غيابه ويحصلا على الحليب والخبز من عند البقال المقابل لهما إلى حين عودته إلى المنزل وأثناء غيابه تحدث للأم المريضة مضاعفات، فيتم نقلها من جديد إلى المستشفى

لابد من إجراء العملية، ما الحل؟

لم يجد الولد من وسيلة، ومن فرط إيمانه بالله، أخبر الولد شقيقته: بأنه سنكتب رسالة، سالته أخته لمن نكتبها؟، قال الإبن بعفوية الطفل البريئ: ساكتبها إلى الله ربّ العباد، أخرج الولد ورقة وقلم وقام بكتابة رسالة إلى الله يستنجد به فيها بعبارة تحرك المشاعر والوجدان والضمير، ووضع الرسالة في غلاف وملأه بزهور تعبر عن ريح الحسن والحسين ابنا سيدنا علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما، واصفا في الرسالة وضع الأسرة البائس، وأن الله يرعى الفقراء والمساكين وكتب اسمه واسم شقيقته والقرية التي يقيمان فيها دون تحديد العنوان ورقم الباب.

يا للبراءة في كل تجلياتها

وضع الطفل وشقيقته الرسالة في صندوق البريد، وعادا مسرعين الى البيت، ولما جاء أعوان البريد لفرز الرسائل سقطت تلك الزهور وأطلقت رائحة طيبة عمّت مكتب البريد، فإذا بالرسالة تقع في يد سيدة ملتزمة، ولما كانت الرسالة بلا عنوان وكان غلاف الرسالة مفتوحا أخرجت تلك السيدة الرسالة وقرأتها، فإذا دموعها تنهمر، وصارت تبكي بصوت عالٍ جدا: يا للقلوب القاسية يا للقلوب المتحجرة.

التف حولها زملاؤها وسلمتهم الرسالة ليقراوها، أخذوا الرسالة الى رئيس مكتب البريد ولما قرأها ذرفت عيناه، والتف إلى الموظفين ليتفق معهم على مساعدة هذه الأسرة، على أن يجمعوا ثمن العملية ويقتطع كل واحد من راتبه الشهري مبلغا معينا، وراحوا يبحثوا عن مكان إقامة الطفل وشقيقته وانتقلوا إلى عين المكان بسيارة إسعاف ونقلوا الأم الى المستشفى وأجريت عليها العملية، كان فضل الله أن امتثلت تلك الأم إلى الشفاء قبل عودة الزوج إلى البيت، في اليوم الذي عادت فيه الأم من المستشفى إلى بيتها عاد الزوج فإذا بسكان القرية يجتمعون حول بيته يهنئون الأم على نجاح العملية وخروجها من المستشفى بسلام.

الفيلم طبعا يبين أن الله قريب منّا، يكفي أن نثق به ونعتصم بحبله وأن نوجه إليه دعواتنا بأن يفرج عنا همومنا ويحل مشاكلنا وحتى في حالة مرضنا وضعفنا (وإن سألك عبادي فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني)، هي براءة طفلين استنجدا بالله تعالى فاستجاب لدعائهما والحمد لله على كل شيئ .

الخلاصة/ بعيدا عن المسائل الفقهية والمذهبية، السينما الإيرانية استطاعت أن تحتل مكانة في الفن السابع من خلال معالجة القضايا الإجتماعية وباحترافية تجعلك تتفاعل وتتجاوب مع أحداث القصة وكأنك عشتها في حياتك ولو أنها من الواقع.

***

علجية عيش

 

تستكشف مسرحية "قلب شجاع"، التي كتبها أوستروفيسكي، مجموعة متنوعة من المواضيع التي تعتبر أساسية للتجربة الإنسانية. أحد الموضوعات الرئيسية في المسرحية هو الصراع بين الواجب والرغبة.  ونجد بطلة الرواية، آنا، ممزقة بين التزامها بالزواج من خاطب ثري اختاره والدها ورغبتها في أن تكون مع الرجل الذي تحبه حقا. يقود هذا الصراع الداخلي السرد ويجبر آنا على اتخاذ قرارات صعبة ستحدد مصيرها في النهاية.

هناك موضوع بارز آخر في كتاب القلب المتحمس هو دور المجتمع في تشكيل الخيارات والأفعال الفردية. طوال المسرحية، تتنقل الشخصيات باستمرار بين توقعات ومعايير بيئتهم الاجتماعية، والتي تملي عليهم كيف يجب أن يتصرفوا ومن يجب أن يتزوجوا. يسلط هذا الموضوع الضوء على الطرق التي يمكن أن يحد بها الضغط المجتمعي من الحرية الشخصية والاستقلالية.

بالإضافة إلى ذلك، يستكشف أوستروفيسكي موضوع الحب وقدرته على تجاوز الحواجز الاجتماعية. على الرغم من العقبات التي تقف في طريقهم، إلا أن آنا وحبها الحقيقي، إيفان، يظلان ثابتين في عاطفتهما تجاه بعضهما البعض. إن حبهما بمثابة منارة للأمل في عالم غالبا ما يكون قاسيا ولا يرحم، مما يدل على قوة الحب التحويلية في مواجهة الشدائد.

يعد موضوع الهوية أيضا محوريا في مسرحية قلب شجاع بينما تكافح آنا للتوفيق بين التزاماتها تجاه عائلتها ورغباتها وتطلعاتها الخاصة، فإنها تتصارع مع أسئلة حول من هي حقا وماذا تريد من الحياة. يسلط هذا الموضوع الضوء على مدى تعقيد الهوية الفردية والطرق التي يمكن من خلالها للضغوط الخارجية أن تشكل إحساسنا بالذات.

الموضوع الرئيسي الآخر في المسرحية هو طبيعة القوة والسيطرة. طوال القصة، تتنافس الشخصيات على السلطة والنفوذ، باستخدام التلاعب والخداع لتحقيق أهدافهم. يسلط هذا الموضوع الضوء على الطرق التي يمكن بها لديناميكيات السلطة أن تفسد الأفراد وتدفعهم إلى التصرف بطرق مشكوك فيها من الناحية الأخلاقية.

يستكشف أوستروفسكي أيضا موضوع القدر والمصير في قلب شجاع. بينما تتنقل الشخصيات في تقلبات حياتهم، يضطرون إلى مواجهة فكرة أن مصائرهم قد تكون محددة مسبقا، بغض النظر عن اختياراتهم أو أفعالهم. يثير هذا الموضوع تساؤلات حول الإرادة الحرة والقوة، ومدى قدرة الأفراد على تشكيل مصائرهم.

موضوع التضحية سائد أيضا في المسرحية. يجب على آنا تقديم التضحيات من أجل تأمين سعادتها الخاصة، والتخلي عن ثروتها ومكانتها الاجتماعية لتكون مع الرجل الذي تحبه. يسلط هذا الموضوع الضوء على الطرق التي يمكن أن تؤدي بها التضحية الشخصية إلى النمو الشخصي وتحقيق الذات، حتى في مواجهة الشدائد.

 هناك موضوع آخر مهم في قلب شجاع هو فكرة الفداء والغفران. طوال المسرحية، يجب على الشخصيات مواجهة أخطائهم الماضية والسعي لإصلاح الضرر الذي سببوه. يؤكد هذا الموضوع على أهمية التسامح والفرص الثانية في مواجهة الصراع الشخصي والمجتمعي.

في نهاية المطاف، مسرحية قلب شجاع  عمل معقد وفلسفي عميق يتعمق في تعقيدات العلاقات الإنسانية والمعضلات الأخلاقية التي نواجهها جميعا. من خلال استكشافها لموضوعات مثل الحب والهوية والقوة والتضحية والقدر والفداء، تقدم مسرحية أوستروفيسكي تأملا مقنعا ومثيرًا للتفكير حول التجربة الإنسانية والخيارات التي نتخذها والتي تشكل حياتنا في مختلف أبعادها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يوم المغيب العراقي تسمية، تحمل معان عميقة في وجدان الفكر الانساني، حددها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في الخامس عشر من نيسان من كل عام، لاستذكارا لتغييب الكاتب والمفكر العراقي عزيز السيد جاسم.

ومن جديد تطل علينا اليوم، ذكرى التغييب، مثل غيمة سوداء، فانا شخصيا، لم اشعر يوماً ان عزيزا، غائب، فهو يسكن الوجدان الوطني والشعبي، فهل سمعتم يوما ان مفكرا كبيرا، غاب فيما كتبه وافكاره، مثل ضوع الزهور تملأ الضمائر النقية في كل مكان وزمان..

انطلقت مسيرة ” ابو خولة ” النضالية منذ يفاعته.. ناضل في سبيل كرامة الإنسان وحرية الوطن وتقدمه، ولقي بسبب ذلك صعوبات جمة. عرفته السجون، وذاق مرارة التشرد والملاحقات…لذلك، اجد صعوبة في الكتابة عنه ضمن هذه المساحة من الجريدة، فهو، مثقف وكاتب موسوعي، وانسان كبير، وشخصية تركت بصماتها على مساحة الوطن، واسمه بات رمزا في الضمائر، لاسيما عند من عرفوه، وعايشوه.. مع قناعتي بأنه لا يمكن اعطاء صورة شاملة عن هذا الرمز، لكن في الإطار الشمولي والرؤية العميقة يمكنني تحديد انطباع عام عنه، لقربي منه لسنوات طويلة، وهي بالمحصلة النهائية تبقى انطباعات يحملها عقلي الباطن في سجله السري … الخاص!

عرفتُ الأستاذ عزيز، كاتباً لامعاً، سهل الكلمة، عميق التحليل، له طريقة خاصة في تناول الأحداث، عُرف بها وحاول كثيرون الكتابة على طريقته فلم يفلحوا، فالمشترك الجمالي والموضوعي في كتاباته هو انها كتابات استثنائية مختلفة عن سواها بعزائمها الصلدة، وعطائها الوطني، ودورها التاريخي وملامحها الإبداعية، وهو لم يكن كاتباً ومثقفاً و صحفياً ومفكرا متميزا، إنما هو وجه من وجوه اسطورة الرجولة العراقية، وشريكاً في صنعها، كونه يمتلك حساً يقظاً لا يرضى بهوان، ولم يقبل بظلم يقع عليه او على غيره، وبذلك اكد ” ابو خولة ” ان الشجاعة هي مظهر من مظاهر الثقة بالنفس.. وبالشجاعة يمكن تقليص مساحة الشر، ووعي الانسان هو شرارة الخير.. ورغم أن ظاهرة النسيان عند مسؤولي (بلادنا) بقيت قوة غير منظورة، مع الاسف الشديد، حيث مسحت هذه الظاهرة الكثير من اسماء المبدعين، وجعلتهم دخانا مبثوثاً في فضاء النسيان إلا ما ندر، ومن هذه الندرة، كان اسم الكبير عزيز السيد جاسم، ساطعا في سماء العطاء الفكري، والفضل هنا، لجذور العطاء الفكري له، ولإصرار عائلته على احياء ذكرى تغييبه في كل سنة، بعيدا عن الدولة التي لم تنتبه الى مبدعيها.

في كل عطاءات عزيز السيد جاسم، سعى ان تكون الثقافة الانسانية، مستوعبة للكيان البشري بكل تفرعاته، في ماضيه وحاضره، وتعبيرا عن مدلولات المستقبل، على مستوى حي لا يتجرد ولا ينعزل، انما بمشاركة حقيقية في غمار الحياة في شتى ارهاصاتها.. وتسهم في تدوين التاريخ دون ان تطوف في فضاء المخيلة، وهي خيال بملمس حرير يقتفي أثر الحقيقة ويلتصق بها.. ورغم الألم الذي تشيء فيه روحية مقالاته، وجدت الأمل يملأ قلب كاتبها، وهو أمل بمثابة نور أقوى من كل الجراح والمصاعب وضربات الزمن، وهذا ما يؤكد، ان السطور التي يكتبها ابو خولة، تمر بميلاد صعب دائم، لا يصيبها العجز ولا تهزمها الأيام والسنين، لان الابداع هوما يهدف اليه ويبتغيه، وهي أفق حياته التي غُيبت!

لروحك السكينة الغالي ابدا عزيز السيد جاسم..استاذا ورمزا.

***

زيد الحلي – كاتب وصحفي عراقي

صديقتنا سبيستون، كبر أصدقاؤك ولم نعد صغارا كما كنا في الماضي تحتضنينا بين برامجك، تسقينا من افكارك، تلملمين طفولتنا وترسمين احلامنا التي كنا نتجول بها بين عوالمك ومجراتك في اقاصي الفضاء، نحمل روح القناص المثابر وشجاعة فرقة العدالة وحماسة حسان الفتى الساذج بقلبه الطيب، نعيش براءة حب انجلينا وروميو، فروح مثابرة وتعاون عدنان مع عبسي نرتديهما مثل معطف في شتاء قارس

عشنا تلك الايام بكل قوانا وغرقنا في بحار السعادة متشبثين باحلامها الوردية، تنقلنا مع سندباد وعلي بابا والفريدو وروميو والجاسوسات وماوكلي وتسلقنا الاشجار مع طرزان، كم فرحنا عندما قتل طرزان سابور النمر الشرير وتخلصت من شره حيوانات الغابة، عشنا كل لحظات عدنان ولينا في البحر والبر ومشاكساته مع جنود القلعة في كل مرة، ساعدنا روميو والفريدو في تنظيف مداخن المنازل وارتدينا براءة عهد الأصدقاء ليلا ونهارا، تكاتفنا معهم في الصعوبات والرزايا، ساعدنا سندريلا في اعمال البيت والتنظيف وحزنا وبكينا لما كانت تلاقي من ظلم واجحاف من زوجة ابيها والفتاتين، فكم فرحنا عندما تزوجها الامير بمساعدة صديقتها الساحرة، كم من المرات غلبنا النعاس ومشاعرنا تبكي، تمزقها قسوة الآنسة منشن لسالي الثرية وهي تعاني وتبكي كل يوم على فقدان والدها، نُمسي ونُصبِح نردد اغنية القناص ونقول بشغف مقدمتها الراسخة في افئدتنا قبل السنتنا ..

قد لمعت عيناه .. بالعزم انتفضت يمناه .. في هدوء الليل وبتلهف نشاهد كونان كيف يحل الغاز الجرائم ويحطم شيفراتها بذكائه وكم تمنينا ان نأخذ جرعة المحقق الصغير لنعيش لحظاته وتكبر احجامنا لنزداد فطنة ودهاء، نسدد الكرة كما كان يفعل كابتن ماجد محاولين ان نحلق معها في الهواء يتملكانا الحماس والإثارة يربوان في داخلنا يوما بعد يوم .. آه أيام مهما بكينا لن تعود !!

نعم كبرنا لكن لا زالت دواخلنا تعيش في ذلك الزمن رغم قسوة الحياة وعثراتها.

فجأة أستيقضنا في أحد الأيام نرتدي زياً لا يناسبنا في واقع رمادي قاسي يطوقنا من كل صوب لم نر الأمل في آخر النفق كما كانت توعدنا سبيستون، فالحياة انهارت علينا بكل قسوتها، خنقت طفولتنا مزقت احلامنا، آمالنا تكسرت على طول الطريق، بينما الفريدو وروميو ضاعا في دهاليز الأيام بعد أن ماتت انجلينا التي احبها روميو ببراءة، وكذلك ران واعجابها بكونان الكبير طُويَّ حبهما في دفاتر النسيان، كم كنا سذج حينما علمنا أن عهد الأصدقاء محصوراً خلف شاشات التلفاز وأن أرض الوطن مكان حقير إذا ما حكمه طغاة ولصوص يرتدون بذلات فخمة وحمايات وقصور ورايات تسد أفق الشمس إذا ما طلعت ..

نعم كبرنا لكن ما زال داخلنا طفوليا رغم مرارة الحياة وخيبات الأيام، كبرنا وكبرت شاشات التلفزة لتواكب عصر التكنولوجيا الحديثة لكنها تحطمت وتعطرت برائحة البارود وصيحات البسطاء وامتلأت باعداد المفقودين والضحايا الابرياء

نعم، تنتهي الطفولة عندما تتوقف الأشياء عن ادهاشنا وتضيع ذكريات صبانا مثل مركب يتيه في عرض البحر ويبقى السؤال الذي يثقب قلوبنا كل مرة.

أين السلام والمستقبل اللذينِ وعدتنا بهما سبيستون؟!

***

حسين علي/ العراق

أم هل يمكن للكتب أن تنقذنا مما تفعله التكنولوجيا الرقمية بأدمغتنا؟

بقلم: هيو ماكجواير

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في العام الماضي قرأت أربعة كتب. أعتقد أن أسباب هذا العدد المنخفض هي نفس الأسباب التي جعلتك تقرأ عددًا أقل من الكتب مما تعتقد أنه كان يجب عليك قراءته في العام الماضي: أجد صعوبة أكبر في التركيز على الكلمات والجمل والفقرات. ناهيك عن الفصول. تحتوي الفصول عادة على صفحة بعد صفحة من الفقرات. يبدو أن هناك قدرًا هائلاً من الكلمات التي يجب التركيز عليها بمفردها، دون حدوث أي شيء آخر. وبمجرد الانتهاء من فصل واحد، سيكون عليك إنهاء فصل آخر. وعادةً ما تكون هناك مجموعة كاملة أكثر، قبل أن تتمكن من قول "انتهى"، والانتقال إلى التالي. الكتاب القادم. الشيئ القادم. الاحتمال التالي. التالي التالي التالي.

أنا متفائل

ومع ذلك فأنا متفائل. في العام الماضي، كنت أذهب إلى السرير ومعي كتاب  (ورقي أو كتاب إلكتروني) وأبدأ. قراءة. يقرأ. عمل. كلمة تلو الأخرى. جملة. جملتين.

ربما ثلاثة.

وبعد ذلك... كنت بحاجة إلى شيء آخر. شيء لمساعدتي. شيء يخفف من تلك الحكة الصغيرة في الجزء الخلفي من ذهني: مجرد نظرة سريعة على البريد الإلكتروني الموجود على جهاز iPhone الخاص بي؛ كتابة وحذف الرد على تغريدة مضحكة من ويليام جيبسون؛ للعثور على رابط لمقالة جيدة جدًا ومتابعتها في مجلة New Yorker، أو، بشكل أفضل، New York Review of Books (والتي قد تقرأ معظمها، إذا كانت جيدة). أرسل بريدًا إلكترونيًا مرة أخرى، فقط للتأكد.

قرأت جملة أخرى. تلك أربع جمل.

المدخنون الأكثر تفاؤلاً بشأن قدرتهم على مقاومة الإغراء هم الأكثر عرضة للانتكاس بعد أربعة أشهر، وأولئك الذين يتبعون نظامًا غذائيًا مفرطين في التفاؤل هم الأقل احتمالًا لفقدان الوزن. (كيلي ماكجونيجال: غريزة قوة الإرادة)

يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لقراءة كتاب بمعدل أربع جمل يوميًا.

وهذا مرهق. كنت عادةً  ما أكون نائماً في منتصف الجملة رقم خمسة.

لقد لاحظت هذا النمط من السلوك منذ فترة، لكنني أعتقد أن إجمالي الكتب المكتملة في العام الماضي كان منخفضًا كما كان في أي وقت مضى. كان الأمر محبطًا، خاصة وأن حياتي المهنية كانت تدور حول الكتب: لقد أنشأت LibriVox (كتب صوتية مجانية متاحة للعامة)، وPressbooks (منصة على الإنترنت لطباعة الكتب المطبوعة والإلكترونية)، وشاركت في تحرير كتاب عن مستقبل الكتب.

لقد كرست حياتي بطريقة أو بأخرى للكتب، وأنا أؤمن بها، ومع ذلك، لم أتمكن من قراءتها.

لست الوحيد فى هذا الأمر .

عندما لا يستطيع الناس في نيويوركر التركيز لفترة كافية للاستماع إلى أغنية من البداية إلى النهاية، فكيف يمكن أن يصمدوا مع الكتب؟

لقد سمعت مؤخرًا مقابلة في برنامج New Yorker podcast، حيث كان المضيف يجري مقابلة مع الكاتب والمصور تيجو كول.

المضيف: أحد التحديات في ثقافة اليوم هو، دعنا نقول، الاستماع إلى أغنية من البداية إلى النهاية، نحن جميعًا مشتتون جدًا، هل لا يزال بإمكانك الاهتمام العميق بالأشياء، هل أنت قادر على المشاركة؟ في الثقافة بهذه الطريقة؟

تيجو كول: "نعم كثيرًا."

عندما سمعت هذا، شعرت برغبة في احتضان المضيف. لم يتمكن حتى من الاستماع إلى أغنية طوال الطريق، قبل أن يتشتت انتباهه. تخيل ما تفعله كومة الكتب بجانب سريره.

شعرت أيضًا برغبة في معانقة تيجو كول. إن الأشخاص مثل السيد كول هم الذين يمنحوننا الأمل في أن يُترك شخص ما لتعليم أطفالنا كيفية قراءة الكتب.

الرقص على الإلهاء

ما كان صحيحًا بالنسبة لمشاكلي في قراءة الكتب (الأغنية الحتمية للتأثير الرقمي للمعلومات الجديدة) كان صحيحًا أيضًا لبقية حياتي.

ابنتي البالغة من العمر عامين، حفلة رقص. توتو وردي. آذان القط على رأسها. جنبا إلى جنب مع خمسة أطفال آخرين يبلغون من العمر عامين، وأمام حشد من 75 من الآباء والأجداد، قدم هؤلاء الأطفال الصغار عرضًا. ولكم أن تتخيلوا الباقي. لقد شاهدت مقاطع الفيديو هذه على YouTube، ربما عرضت عليك مقاطع الفيديو الخاصة بي. كان مستوى الجاذبية شديدًا، وهي لحظة تحدد نوعًا معينًا من الفخر الأبوي. لم ترقص ابنتي حتى، بل كانت تتجول على المسرح، وتنظر إلى الجمهور بعيون واسعة مثل عيون طفل يبلغ من العمر عامين، وتبدأ في النظر إلى مجموعة من الغرباء. لم يكن مهماً أنها لم ترقص، لقد كنت فخوراً جداً. لقد التقطت الصور ومقاطع الفيديو بهاتفي.

وفقط في حالة التحقق من بريدي الإلكتروني. تويتر. أنت لا تعرف أبدا.

أجد نفسي في كثير من الأحيان في مثل هذه المواقف، أتفقد البريد الإلكتروني أو تويتر أو فيسبوك، دون أن أكسب أي شيء سوى الضغط الناتج عن رسالة متعلقة بالعمل لا أستطيع الرد عليها الآن بأي حال من الأحوال.

يجعلني أشعر بالقذارة بشكل غامض عندما أقرأ هاتفي بينما تفعل ابنتي شيئًا رائعًا بجانبي، وكأنني أسرق سيجارة.أو أنبوب الدخان .

ذات مرة كنت أقرأ على هاتفي بينما كانت ابنتي الكبرى، البالغة من العمر أربع سنوات، تحاول التحدث معي. لم أسمع تمامًا ما قالته، وعلى أية حال، كنت أقرأ مقالًا عن كوريا الشمالية. أمسكت وجهي بين يديها، وسحبتني نحوها. قالت: "انظر إليّ عندما أتحدث إليك".

عليّ أن أعترف: إنها على حق.

عندما أقضي الوقت مع الأصدقاء أو العائلة، غالبًا ما أشعر بنبض عميق يأتي من تلك الرقاقة المصممة بشكل مثالي من الفولاذ المقاوم للصدأ والزجاج والمعادن الأرضية النادرة الموجودة في جيبي. المسني. انظر إليَّ. قد تجد شيئا رائعا.

لا يقتصر هذا المرض على الوقت الذي أحاول فيه القراءة، أو الأحداث التي تحدث مرة واحدة في العمر مع ابنتي.

في العمل، كان تركيزي منقطعًا باستمرار: الانتهاء من كتابة مقال (هذا المقال في الواقع)، والإجابة على طلب ذلك العميل ومراجعة التصميمات الجديدة والتعليق عليها، وتنظيف النسخة في صفحة "حول". الاتصال فلان وفلان. الضرائب.

كل هذه المهام الحاسمة لكسب عيشي، أتعرض للصدمات في كثير من الأحيان أكثر مما ينبغي أن أعترف به من خلال نظرة سريعة على تويتر (للعمل)، أو فيسبوك (للعمل أيضًا)، أو مقال حول مجموعات ماندلبروت (التي قرأتها في هذه اللحظة فقط).

البريد الإلكتروني، بالطبع، هو الأسوأ، لأن البريد الإلكتروني هو مكان العمل، وحتى لو لم يكن هذا هو العمل الذي يجب أن تقوم به الآن، فقد يكون العمل أسهل في القيام به مما تفعله الآن،وهذا يعني بطريقة ما أن ينتهي بك الأمر إلى القيام بهذا العمل بدلاً من العمل الذي من المفترض أن تعمل عليه الآن.وعندها فقط ستعود إلى ما كان ينبغي عليك التركيز عليه طوال الوقت.

الدوبامين والرقمية

لقد اتضح أن الأجهزة والبرامج الرقمية تم ضبطها بدقة لتدريبنا على الاهتمام بها، بغض النظر عما يجب علينا فعله. الآلية، التي أثبتتها دراسات علم الأعصاب الحديثة، هي شيء من هذا القبيل:

* تؤدي المعلومات الجديدة إلى اندفاع الدوبامين إلى الدماغ، وهو ناقل عصبي يجعلك تشعر بالسعادة.

*الوعد بمعلومات جديدة يجبر عقلك على البحث عن اندفاع الدوبامين.

باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، يمكنك رؤية مراكز المتعة في الدماغ تضيء بالنشاط عند وصول رسائل البريد الإلكتروني الجديدة.

لذلك، كل بريد إلكتروني جديد تتلقاه يمنحك فيضًا صغيرًا من الدوبامين. كل طوفان صغير من الدوبامين يعزز ذاكرة دماغك، حيث أن فحص البريد الإلكتروني يعطي طوفانًا من الدوبامين. وأدمغتنا مبرمجة للبحث عن الأشياء التي من شأنها أن تعطينا فيضانات قليلة من الدوبامين. علاوة على ذلك، تبدأ أنماط السلوك هذه في إنشاء مسارات عصبية، بحيث تصبح عادات غير واعية: العمل على شيء مهم، حكة الدماغ، التحقق من البريد الإلكتروني، الدوبامين، التحديث، الدوبامين، التحقق من تويتر، الدوبامين، العودة إلى العمل. مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة تصبح هذه العادة متأصلة أكثر في الهياكل الفعلية لأدمغتنا.

كيف يمكن للكتب أن تنافس؟

إسعاد أنفسنا حتى الموت

هناك دراسة مشهورة أجريت على الفئران التي تم وضع أقطاب كهربائية في أدمغتها. عندما تضغط الفئران على رافعة، يتم إطلاق شحنة صغيرة في جزء من دماغها مما يحفز إطلاق الدوبامين. رافعة المتعة.

إذا تم الاختيار بين الطعام والدوبامين، فسوف يتناولون الدوبامين، وغالبًا ما يصل ذلك إلى حد الإرهاق والجوع. سوف يأخذون الدوبامين أثناء ممارسة الجنس. ترى بعض الدراسات أن الفئران تضغط على رافعة الدوبامين 700 مرة في الساعة.

نحن نفعل نفس الأشياء مع البريد الإلكتروني لدينا.  ننتعش. وننتعش.

لا يوجد عالم جميل على الجانب الآخر من زر تحديث البريد الإلكتروني، ومع ذلك فإن نداء ذلك الزر هو الذي يستمر في إخراجي من العمل الذي أقوم به، ومن قراءة الكتب التي أرغب في قراءتها.

لماذا الكتب مهمة؟

عندما أفكر في حياتي، أستطيع تحديد مجموعة من الكتب التي شكلتني فكريًا وعاطفيًا وروحيًا. لقد كانت الكتب دائمًا ملاذًا، وتجربة تعليمية، ومنقذًا، ولكن أبعد من ذلك، وأعظم من ذلك، أصبحت بعض الكتب، بمرور الوقت، نوعًا من الغراء الذي يجمع فهمي للعالم. أفكر فيها كعقد للمعرفة والعاطفة، العقد التي تربط نسيج ذاتي معًا. الكتب، بالنسبة لي على أية حال، هي التي تشكلني بما أنا عليه.

الكتب، بطرق مختلفة عن الفنون البصرية، والموسيقى، والراديو، وحتى الحب، تجبرنا على السير عبر أفكار الآخرين، كلمة واحدة في كل مرة، على مدى ساعات وأيام. نحن نشارك أفكارنا في ذلك الوقت مع أفكار الكاتب.هناك بطء، وانعكاس قسري يتطلبه الوسط الفريد. تعيد الكتب خلق أفكار شخص آخر داخل عقولنا، وربما يكون هذا التخطيط الفردي لكلمات شخص آخر، بمفرده، دون محفزات خارجية، هو الذي يمنح الكتب قوتها.تجبرنا الكتب على السماح لأفكار شخص آخر بالسيطرة على عقولنا بالكامل.

ليست الكتب مجرد ناقلات للمعرفة والعواطف، بل هي نوع خاص من الأدوات التي تحول الذات إلى ذات أخرى، والتي تمكننا من تجربة الأفكار والعواطف الأجنبية.

هذا القمع للذات هو أيضًا نوع من التأمل - وبينما كانت الكتب دائمًا مهمة بالنسبة لي بسبب مزاياها الخاصة (ما قبل الرقمية)، فقد بدأ يخطر لي أن "تعلم كيفية قراءة الكتب مرة أخرى" قد يكون أيضًا أمرًا مهمًا. طريقة لبدء فطام ذهني بعيدًا عن هذه المخلفات الرقمية المشبعة بالدوبامين،وهذا الغسيل الذي لا معنى له للمعلومات الرقمية، والذي سيكون له فائدة مزدوجة: سأقرأ الكتب مرة أخرى، وسأستعيد عقلي.

وفي كثير من الأحيان، توجد أكوان جميلة على الجانب الآخر من غلاف الكتاب.

المشاكل مع الرقمنة

يؤكد علم الأعصاب الحديث العديد من الأشياء التي نعرفها نحن الذين نعاني من الحمل الرقمي الزائد بالفطرة. إن تعدد المهام الناجح هو أسطورة. تعدد المهام يجعلنا أغبى وفقًا لعالم النفس جلين ويلسون، فإن الخسائر المعرفية الناجمة عن تعدد المهام تعادل تدخين الحشيش. (تحديث: شكرًا لليزا دالي على الإشارة إلى أن جلين ويلسون صرح علنًا أن هذه الدراسة كانت جزءًا من حفلة علاقات عامة مدفوعة الأجر، وتم تحريفها في وسائل الإعلام. انظر:

http://www.drglennwilson.com/Infomania_experiment_for_HP.doc)

وهذا أمر سيئ لعدة أسباب: فهو يجعلنا أقل فعالية في العمل، مما يعني إما أننا نقوم بإنجاز أقل، أو أن لدينا وقت أقل لقضائه في القيام بأشياء أخرى، أو كليهما.

إن كونك في موقف تحاول فيه التركيز على مهمة ما، ووجود بريد إلكتروني غير مقروء في صندوق الوارد الخاص بك، يمكن أن يقلل من معدل الذكاء الفعال الخاص بك بمقدار 10 نقاط. (العقل المنظم، بقلم دانييل جي ليفيتين)

لكن الأمر أسوأ من ذلك، لأن هذا التنقل المستمر من شيء إلى آخر مرهق أيضًا.

الأيام الأقل إنتاجية بالنسبة لي، هى تلك الأيام التي قضيت فيها معظم الوقت في التنقل بين المشاريع ورسائل البريد الإلكتروني وتويتر وأي شيء آخر، هي أيضًا الأيام الأكثر إرهاقًا. كنت أظن أن الإرهاق هو السبب في قلة التركيز، لكن تبين أن العكس قد يكون هو الصحيح.

يتطلب الأمر المزيد من الطاقة لتحويل انتباهك من مهمة إلى أخرى. يستغرق طاقة أقل للتركيز. وهذا يعني أن الأشخاص الذين ينظمون وقتهم بطريقة تسمح لهم بالتركيز لن يقوموا بإنجاز المزيد من المهام فحسب، بل سيكونون أقل تعبًا وأقل استنزافًا للكيمياء العصبية بعد القيام بذلك. (العقل المنظم، بقلم دانييل جي ليفيتين)

المشكلة بالتحديد

وهكذا، تم تحديد المشكلة، بشكل أو بآخر:

1- لا أستطيع قراءة الكتب لأن عقلي قد تم تدريبه على الرغبة في الحصول على جرعة مستمرة من الدوبامين، الذي سيوفره الانقطاع الرقمي.

2- إدمان الدوبامين الرقمي يعني أنني أعاني من صعوبة في التركيز: على الكتب والعمل والأسرة والأصدقاء.

تم تحديد المشكلة، أو معظمها. وهناك ما هو أكثر.

أوه، ولا ننسى التلفزيون

نحن نعيش في العصر الذهبي للتلفزيون، ليس هناك شك. الأشياء التي يتم إنتاجها هذه الأيام جيدة جدًا. وهناك الكثير منها.

على مدى العامين الماضيين، كان روتيني المسائي عبارة عن تنويع على: العودة إلى المنزل من العمل مرهقا. التأكد من أن الفتيات قد أكلن. التأكد من أنني آكل. وضع الفتيات في السرير. شعور بالارهاق. القيام بتشغيل الكمبيوتر لمشاهدة التلفزيون (العصر الذهبي الجديد). أعبث برسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالعمل، والعبث عمومًا بينما يستهلك تلفزيون العصر الذهبي هذا 57% من انتباهي. كن سيئًا في مشاهدة التلفاز وسيئًا في إنجاز رسائل البريد الإلكتروني. اذهب إلى الفراش. حاول ان تقرأ. تفقد البريد الإلكتروني. حاول أن تقرأ مرة أخرى. أغفو.

أولئك الذين يقرؤون يمتلكون العالم، وأولئك الذين يشاهدون التلفاز يخسرونه. (فيرنر هرتزوج)

لا أعلم إذا كان فيرنر هرتزوج على حق، لكنني أعلم أنني لن أقول أبدًا عن التلفاز (ولا حتى الأشياء العظيمة، التي يوجد منها الكثير) ما أقوله عن الكتب. لا توجد برامج تلفزيونية موجودة كعقد تربط فهمي للعالم معًا. علاقتي بالتليفزيون ببساطة ليست مثل علاقتي بالكتب.

وهكذا التغيير

وهكذا، بدءًا من شهر يناير، بدأت بإجراء بعض التغييرات. أهمها هي:

1- لا مزيد من قراءة تويتر أو فيسبوك أو المقالات خلال يوم العمل (صعب)

2- عدم قراءة المقالات الإخبارية العشوائية (صعب)

3- لا توجد هواتف ذكية أو أجهزة كمبيوتر في غرفة النوم (سهل)

4- لا يوجد تلفزيون بعد العشاء (اتضح أن الأمر سهل)

5- بدلًا من ذلك، اذهب مباشرة إلى السرير وابدأ في قراءة كتاب — عادة على قار إلكتروني (اتضح أن الأمر سهل)

كان الشيء الصادم هو مدى سرعة تكيف عقلي مع قراءة الكتب مرة أخرى. كنت أتوقع أن أقاتل من أجل هذا التركيز، لكن لم يكن علي القتال. مع مدخلات رقمية أقل (خصوصًا عدم وجود تلفزيون قبل النوم)، ومزيد من الوقت (مرة أخرى، لا يوجد تلفزيون)، وبدون جهاز رقمي مغري في متناول اليد... كان لدي الوقت والمساحة لعقلي للتركيز على كتاب.

كم كان شعوراً رائعاً

أنا أقرأ الكتب الآن أكثر مما قرأته منذ سنوات. لدي المزيد من الطاقة والتركيز أكثر مما كنت أمتلكه على مر العصور. ومع ذلك، لم أتغلب تمامًا على إدماني للدوبامين الرقمي، لكنه وصل إلى هناك. أعتقد أن قراءة الكتب تساعدني في إعادة تدريب ذهني على التركيز.

واتضح أن الكتب لا تزال هي نفس الأشياء الرائعة التي كانت عليها من قبل. يمكنني قراءتها مرة أخرى.

ومع ذلك، لا يزال البريد الإلكتروني في يوم العمل يمثل مشكلة. إذا كان لديك اقتراحات لذلك، من فضلكم اسمحوا لي أن أعرف.

رابط المقال:

https://hughmcguire.medium.com/why-can-t-we-read-anymore-503c38c131fe

العيد ميقات من مواقيت السعادة. وهي سعادة عامة تغشي الجميع مهما كانت الظروف. فرحة العيد كأنها طيف يطير مع الأثير عقب فجر آخر يوم من رمضان. فرحة تنتظر من يلمسها ليصاب بعدوى السعادة فينطلق كالأطفال أو معهم، يلتمس السعادة من ابتساماتهم التي تملأ الأجواء ببهجة لا تجدها في أي يوم آخر من أيام العام!

الأفراح للجميع

حتى هؤلاء الذين يقضون عيد الفطر نياماً كسالي سوف تمسهم العصا السحرية للسعادة. أنا واحد من هؤلاء الذين يحبون الهدوء ويفرون من زحام المتنزهات والنوادي والميادين. لكنني أجد السعادة في المكالمات ورسائل التهنئة القادمة من كل أحبائي، وأجد الابتسامة تعلو وجهي وتتسع شيئاً فشيئاً كلما تفقدت تلك الرسائل ووجدت عقلي يجري بشريط ذكريات ممتع حول كل صديق وقريب وعزيز يبادرني بالتهاني..

يكفيني السير في الشوارع قبل وبعد صلاة العيد لأشعر بمتعة ما بعدها متعة؛ وأنا أتابع حولي حركة نشيطة تدعو للتفاؤل؛ عائلات وأسر تتحرك في جماعات في اتجاه الساحات والمساجد وكلما اقتربت من المسجد تزداد الحركة وتتكاثف الحشود. ولهذا يفضل البعض صلاة الميادين والساحات لما بها من أنس بكثرة القاصدين..

تقترب من المسجد وتكبيرات العيد تعلو وتزداد وضوحاً، تجلس وتشارك المكبرين تكبيرهم والمهللين تهليلهم، وتشعر أنك جزء من هذه الحالة العامة من سعادة المجموع. إنها عدوى السعادة التي لا يفلت منها إلا محروم!

تنتهي صلاة العيد، وتسير في الشوارع ويصادفك في كل خطوة شخص تعرفه أو لا تعرفه، تحبه أو تبغضه، لا يهم؛ لأنك تسلم على الجميع وتبادلهم التهاني متناسياً كل الضغائن والأغراض كأن هناك سر خفي في الهواء يلف الجميع بشعور مشترك من النشوة والاستبشار!

لا تسل إلى أين المسير

فقط غادر بيتك وتحرك إلى مكان ما، وسوف تجد السعادة هناك.. كن كالأطفال في انطلاقهم واندفاعهم صباح يوم عيد الفطر. الفرحة منثورة منتشرة عبر الهواء والأثير. لن تحتاج إلا أن تسير في الشوارع لا أكثر. ربما تأخذك قدماك إلى أحد أقاربك ممن لم تزرهم منذ زمن طويل. أو قد تتعب قليلاً فتجلس على أقرب مقهى لتصادف هناك شخصاً تعرفه ويدور بينكما حديث ممتع. أو حتى تجلس وحيداً لتراقب ابتسامات الناس من حولك ومشاعر البهجة الإيجابية التي تملأ الأجواء فتسعد لمجرد مشاهدة الوجوه وقد علتها الابتسامة.

وإن كنت رب أسرة فلا تكسل ولا تتهرب من أولادك. ثق أن في مرافقتهم للنوادي والمتنزهات فرصة لا تعوض لك أنت لا لهم. فرصة للنشاط والحركة والمشي قليلاً بدلاً من جلسة السيارة وجلسة المقهى والجلسة الأبدية الصنمية أمام شاشة التلفاز. فرصة لكي تستنشق نسائم الصباح الباكر وحولك الخضرة والماء والوجه الحسن. فرصة لتتحدث مع بعض أبنائك لتكتشف أن آخر مرة تحدثت حديثاً ودياً طويلاً مع أحدهم مرت عليها أيام وأسابيع وربما شهور. فرصة حتى للتصابي واللعب قليلاً مع أبنائك بنفس طريقتهم العفوية التلقائية، وحينها سوف تكتشف أن اللعب له فوائد تفوق فوائد بعض أدوية القلب والدم!

سعادة تتحدي الأحزان

والسعادة شعور نسبي. والمحروم منها قد تسعده أقل الأشياء وأبسطها. لهذا جاء الأمر الرباني بوجوب زكاة الفطر قبل حلول العيد. وقد تكتشف أن الشخص الأناني القتور البخيل هو شخص واجم متجهم لا يستطيع الضحك أو الابتسام، وأن الفقير سعيد باسم الوجه رغم فقره. إذ أن العطاء في ذاته شكل من أشكال السعادة وأسبابها. والفقر مع الرضا والقناعة راحة وطمأنينة قد يفتقر إليها الطماعون.

العيد يأتي وفى يده مفتاح من مفاتيح الفرح والبهجة. والباب ينفتح على مصراعيه لكل وافد مقبل راغب في الفوز بقليل من هذه الفرحة. حتى العصاة المثقلين بالذنوب أو قساة القلوب ينالون شيئا من فرحة العيد وإن لم يطلبوها أو يتعرضوا لها، وفرحتهم أن شعورهم بالتقصير الذي رافقهم طوال شهر رمضان ذهب واختفي مع حلول العيد.

هكذا هو العيد. الجميع فيه فائزون وسعداء بسبب أو بلا سبب..

حتى أهل غزة على ما هم فيه من محنة قادرون على تحدي ظروفهم والاحتفال بالعيد. مهما استشهد منهم آلاف النساء والأطفال والشباب، فإنما ارتقوا من دارٍ أدني إلى دار أعلى وأفضل.

وحتى هؤلاء الذين عانوا ويلات حرب غزة على مدي ستة أشهر آخرها شهر الصيام وصبروا، فإن مجرد كسرة خبز أو قطعة تمْر باتت سبباً من أسباب السعادة والسرور. وسرورهم الأعظم هو انتصارهم على عدوهم الغاشم، ووجوم المهزوم الذي بات علامة واضحة على وجه كل صهيوني.

بداية ونهاية عيد الفطر نقطة فارقة

أحدث الأبحاث أكدت أن العادة عند البشر لا يمكن اكتسابها إلا إذا استمر أداءها لمدة لا تقل عن شهر. معني هذا أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون لشهر رمضان مغزى أكبر من ثوابه..

مدمنو السجائر يكتشفون أنهم قادرين على ترك التدخين في رمضان. لكن العيد يصبح بالنسبة لهم فرصة لا للاستمرار في العادة التي اكتسبوها أثناء الشهر الفضيل بالصيام عن التدخين، وإنما لكسر هذه العادة والعودة للشراهة في شرب السجائر. وهكذا كل الذين اكتسبوا عادة أثناء شهر الصيام. عادات الأكل والسهر والنوم والصلاة والذكر، كل العادات الجيدة تختفي وتعود ريما لعادتها السيئة القديمة كأن شهراً فضيلاً لم يكن!

عيد الفطر فرصة لقرار مؤجل، أن بإمكانك الاستمرار على ما اعتدت عليه خلال شهر رمضان. وأن الإرادة لا تنقصك لتصوم عن كل عادة ضارة في حياتك. وإن كان عيد الفطر يؤذن بنهاية أيام الصيام، فهو بداية لقرار مصيري يمكنك اتخاذه لإحداث تغيير جذري بطريقتك في الحياة.

عالمية عيد الفطر

لعل من أجمل ما في عيدَي الفطر والأضحى أنهما من الأعياد العالمية. كصورة مجسمة للتوحد والمشاركة العابرة للحدود. الطقوس والشعائر واحدة، والمشاهد تتكرر من بلد إلى بلد.

والعيد في الحالتين يبدأ من المساجد والساحات والميادين بالصلاة وتكبيرات العيد. وما إن تنتهي الصلاة حتى تبدأ الاحتفالات بدءاً من المساجد ذاتها. وفي بعض المساجد الكبرى تحدث استعدادات كبيرة للحظات ما بعد صلاة العيد: هدايا وحلوي يتم توزيعها على الأطفال، وبالونات في شكل حزم ومظلات وعناقيد ينفرط عقدها لتتطاير فوق الرؤوس الشاخصة بأبصارها تتابع مظاهر الاحتفال. وفى البيوت احتفالات موازية: أولها بالزينة والأغاني، وليس آخرها تقديم البسكويت والكعك والحلوى بأنواعها، وأجمل ما فيها الاجتماعات والزيارات والتهاني تنهال على الألسنة والابتسامات تسبقها.

عيد الفطر يأتي كتتمة وخاتمة لشهر الصيام. وعيد الأضحى كاحتفالية خاصة بأيام الحج. فكأن العيدين يحتفيان ويحتفلان باثنين من أهم فرائض الإسلام: الحج والصيام.

نعم إننا نتشاطر ونتقاسم شعائرنا كمسلمين لا في محيطنا الضيق في الشارع أو القرية أو الحارة أو المدينة، بل في كل الدنيا. ثمة روابط متينة تبدأ في التمدد مع كل شعيرة أو فريضة نتشاطرها كمسلمين حول العالم عندما نجتمع للحج أو الصيام أو الاحتفال بأعيادنا، ومع تعمق الروابط وتأصلها وتجذرها في القلوب نتحول إلى ما يشبه الجهاز العصبي الواحد المتصل بعضه ببعض مهما تباعدت بين أجزائه المسافات أو أصابت بعض خلاياه العلل والخطوب.

ليس العيد مجرد يوم عادي من أيام العام، بل هو مفتاح للسعادة وفرصة للتغيير وطريقة للتواصل الشعوري مع أشقائنا في كل أرجاء العالم.

***

د. عبد  السلام فاروق

حلحلتني شهادة الأكوان، بزخرفة أخبار العيان، فزعزعني الله بها تشويقًا، ثم ميّزني بها توفيقًا، ثم لم ألبث إلّا هُنيّةَ حتى أدمجني فيها، وأدرجني معها. فلمّا تشبّثتُ، رأيتُ خلقًا يعشقُ خلقًا، وخلقًا يقتضي خلقًا. ورأيت أنواره عليهم ساطعة، وأخبار الناس عن ذِكرهم قاطعة. وأخبارهم يا قارئي مبهمةٌ مهما جاهدتُ في إيضاحها، ذلك أنّها تُضحي مصدوقةً بلسان التزويق، وتمسي مكذوبةً بلغات التحقيق. تمرّ في التهم كالرّيح، وتقف حرونًا في مساكن التطويح، متوقّعة لعلامات التصريح أو أمارات التلويح. وما زلت رغم بصيرتي ألاحق الظلال، وأشعل نارًا في قلبي، وأخلق طوائفًا ترقص حولها. فما زال أمين يخرج مختلسًا وحافيًا وما من وجهة يمشي إليها. سيعود متعبًا وقد مشى طويلًا ملاحقًا شمسًا تغيب كلّما وصل إليها. قال من يعرفه أنّ الحياة ابتلعته. بحثوا عنه بين طيّات الكتب، وعلى مواقع التواصل وفي المستشفيات، وبحثوا عنه في شباك الماء وفي القوارب التي تتأرجح على الزرقة وحين خضّبوا دموعهم بالدم، وحدّقوا ببعضهم طويلًا، قالوا:لربّما ندم وعاد. وربما فرّ كعادته خجلًا. ربّما أحسّ أنّ العالم لم يعد له. وربّما خاف كعادته من الضياع. وتأمّلوا في ما حدث وقالوا إنّه كعادته يحب الفرار بعيدًا عن المنازل المتصدّعة، والعاشقات المتردّدات، والأصدقاء المتشاغلين، والأمّهات الحزينات اللواتي لا يؤوين أحدًا. والخوف الذي يكرمش الأيّام ويحطب جذع الطمأنينة في القلوب. فرّ أمين بعيدًا عنه وقالوا، لن يصل.

شعّ وجهه في الظلام. أي والله شعّ في الظلام بعد أن كان جزءًا منه وطرحته أطيافه. أراه هنا أو هناك. عينه الزائغة، وجهه الذابل الذي تغطّيه ابتسامته الزائفة، أرى صورته التي فقدت إطارها في انفجارات بغداد الكثيرة. صورته التي تستعيد ملامحها مرآةً تدهشنا كلّ مرّة بقدرتها على إظهاره بشكل مختلف. سمعته يتألّم. أو هكذا تخيّلت. كانت بغداد نائمة وغارقة بنفاياتها، مهدّمة وموشّحةً بأدخنة الحروب والقنابل الدخانية. رأيته يمشي وليس في الشارع إلّا خطاه. تابعته وهو يتمايل بساقين مشدودتين باتجاهي، ينتزع قدميه من الأشلاء والجثث، ويعيد غرسهما فيها، تلتمع قطرات العرق على وجهه وتتساقط على الاسفلت. كنت أقف أمامه في الشارع، لكنّني حين أستعيد المشهد أرى نفسي أتلصّص عليه من بعيد وهو غافل عنّي. عندما اقتربت منه لأعرف ما جرى له، صاح هاتفٌ وقال لي :كن مطمئنًا.

أمين الذي وضع قلبه في إغدارسيل* وظهر إلى العالم بآخر متحجّر، كان يعبر بحرًا ويعد أيّامه ويدعو الله أن يباركها. ينظر إلى البعيد فيرى حياةً شاسعة وقلبه المغروس في شجرة العالم تعشعش فيه الطيور يقول له ترنّم.. ونَم.

كن مطمئنًا أيها القارئ فالطفل الذي ضاع في الزحام وقلت أنّ زمنًا طويلًا مرّ على غيابه قد كبر كثيرًا واهترأت أقدامه، حكى عن ليل يبحث عنه، يكون أقلّ حدّة على همومه وأكثر رأفة على قلبه وأشار إلى الشجر وعرفنا مع هذا بأنّه لن يصل.

وتبعته في كبره، وعرفت أنّه عبر بحارًا كثيرة، وتبدّلت اسماؤه وألقابه وتكاثرت حرفه، تعلّم لغات الشوارع والسلالم الموسيقية وتخطيطات EEG *، وصفحات الكتب القديمة واحتضن برودتها، وظل برغم مضي العمر يفر كلّما وجد بيتًا، وكان من الممكن اعتباره ناجيًا لولا أنّ الطيور ما زالت تنقر قلبه، ذلك المحفور في إغدراسيل.

ووجدتني أصور ما يختلجني حرفًا بحرف. وأراه بعين ترود للقلب، وقلب يتقوّى بأحكام الكرب، وشوق يوهن أركان الجسد، وتيه يهيج الحاسد عن الحسد، وينفث النفّاثات في العقد؛ وأداري فيه هوى نفسٍ لولا طروق الخيال والطب لكانت تزهق، وأعالج فيه روحًا لولا إلمام المنى بحواشيها لكانت تُزهق. وحال لولا تكفّل الله بتدابيرها لكانت تُمحق، وحشاشة لولا صنعة لطفه لكانت تحترق. وأقول يا صاحب المقامات حدّثني عنّي، واسمعني منّي وأقلَّ حواسي حدسي وظنّي، واثبُت لأصناف فنّي وعنّي فقد قابلتك بوجه وقّاح، وناقلتك بلسانٍ نوّاح، ووقفت في حالٍ برجاء إذا أنست به يئست منه، وإذا استوحشت به رجعت إليه، وأنا في خضم ذلك لا أدري كيف أبرّد غلّتي فقد حرّت، ولا أدري كيف أبرّد جمرتي وقد التهبت، ولا اسكّن زفرتي وقد توالت، ولا كيف أنفّس كربتي وقد غالت، ولا كيف أكفّ عبرتي وقد سالت.

ظاهري محشوٌ بالشرور، وباطني قد غشي من الغرور، وفنائي في حبيب أجهل كنهه، فَدائي من دوائي ودوائي من طبيبي، وعلّتي من نبعي، وبلائي من نعيمي، وفنائي من حبيبي. يعلّلني النسيم إذا رقّ، ويؤنسني البرق إذا برّق. أنا الجيب الممزّق من هذه الأشجان، والطرف المجرور في هذه الأوطان، والخد المخموش على فوت ما بين الخبر والعيان. قد اشتدّ من هذه الحال وجعي، وازداد من هذا البوح جزعي وعليه أقول:

(أصاح ألم تحزنك ريحٌ مريضةٌ

وبرقٌ تلالا بالعقيقين لامعُ

فإنّ غريب الدار ممّا يشوقه

نسيم الرياح والبروق اللاوامعُ)

٢

ليس مرعبًا أن يكتب أمين عن الخوف، انتقامًا من كوابيس ناخت على صدره، الطفل المذعور التائه سقط عنه لونه فغيّر جلده، ورمى أقنعته، أنفاسه متسارعة تخرج رئتيه عن طورهما، خوفه وحشٌ يسكن الرؤوس والقلوب، خوفه نبضات جمهور صاخب يتراكض من انفجار. رأى أمين في خوفه عوالمًا يمتزج فيها الغيم بالحجر. تنقّل بين أحلام غامضة أرهقها النوم، وافترش أعشاشًا تقرع أبواب الشّجر، ضيّعه ضبابٌ يصفّق لزوّار الشمس، فتقافز مفزوعًا بين الأعماق والأعالي، ورأى قمرًا يقود عربة للنجوم، وشمسًا تحرس مصابيحًا للّيل. ابتكر حياته، وقرأ موته. قال أمين إنه خيط الشبكة الذي يتقطّع كلّما تحرّك، وإنه لا ينعقد إلّا على نفسه، ولا يفكّ إلا ليدخل إلى نفسه. وقال إنّ قلبه المتحجر صخرة من فن وابتكارات، كأنّ بشرًا استبقوا الزمن فجاؤوا إليه، نحتوه وماتوا، وانكسرت أزاميلهم من التكرار. وقال مرّة أنّه روحٌ مترهلة مثل حبال تراخت على صفحات الماء وتلاعب بها قارب مهمل، تتأرجح بين الأيادي، وتسلّم أقدارها للخيوط التي تتلاعب فيها، فتحملها لوجهة تجهلها وتنازعها رغبات مكتومة. كلّما نبت الأمل في واديه يترصّده منجل. قلبه مسرحٌ أطفئت أضواؤه وتلاشى ضجيجه، ولم يعد يدرك بعد عامه الخامس والعشرين ما يفعل.

(هو لا يدري.. هل السعي فرارُ

أم من القيد انعتاقٌ للحياة؟!

كلّ بابٍ وبه يحكي انتظار

صدأ الوقت ونزق الطرقات

مرّة يشدو بعينيه انتصارُ

مرّة يفلت طوقًا للنجاة).

٣

التبس عليّ الجهرُ بالكتمان، وامتزج الخبر عندي بالعيان، واعتلق الفقدان بالوجدان، وسُلّطت عليّ ألسنة مقرّعة بالتقصير، وعاقرت أهوالًا مروّعة بالتنكير، حتى نبوت عن الكون نبوًّا، وسموت عليه سموًّا، فلما أُخذ بمخنقتي في هذا الوقت، ومنعت من أن أروي أو أكشف، عطفت لائذًا بالإسفار عمّا دهاني بالاستتار. فلمّا رآني الله على هذا الحال المائل. حبسني في نفسي، ودفنني في رمسي، وسلبني روحي وأُنسي، غيّب عنّي قمري وشمسي، وضيّع حسّي عن غدي وأمسي. وقلت يا ولي النعم! هل وراء الصدق غاية، أو هل فوق العشق نهاية؟ غيّبتني بصدقك عن رؤية صدقي. فما حيلة من إذا أدنيته أبليته، وإن أخفيته جلّيته، وإن قيّدته أمرجته، وإن بعّدته قرّبته، وإن أرويته أعطشته، وإن حرّكته وقّفته؟ فكلّ الذي منك به عجب، وكل الذي بي منك شجب. همت الدموع بالفرق، والتهفت الضلوع بالحُرق، وزيّنت حقيقتي بالحق. وحّدتك فوجدت، وتوجّدت بك فاتّحدت. اللهم روّح صدري بنسيم ودّك، وأغمر أرجاء قلبي بغوامر رفدك، وجد علّي بك. واجعل روحي في مغارس معرفتك، ولساني في قواطف وصفك. وإذا ضعفت فقوّني، وإذا اعوججت فسوّني، وإذا أصحرت فآوني، وإذا اعتللت فداوني، وإذا نكرتك فعرّفني، وإذا بنت عنك فصلني بك، وإذا التويت عليك فقوّمني لك. يا صاحبي للطائف برّي، ويا كاتمًا لغوامض سرّي. أظهرتني ببوالغ قدرتك، وقلّبتني في سوابغ نعمك، وعجنتني في روائع صنعتك، وقرّبتني من شاسع حقيقتك، وأمّنتني من قوارع سطوتك، وحُشتَني بهذه الأعاجيب إليك حوشًا بعد حوش. ونوّشتني ببراعة أساليبي إلى أُنسك نوشًا بعد نوش. وأنا على عادتي في الفتور والنفور، مؤثرٌ لمخاوض الظلمات على النور. أزحت علّتي ورفقت بي، وجلت في وهمي، وسكنت حرمي، وقبلت برّي وقدّمت إسعافي، وعظّمت ألطافي، آثرت نجاتي، وقدّمت غياثي، وكنت لي الممتّع المؤنس، والمفرّج المنفّس من بعد أن تاهت روحي في مساكن الغربة، وتجرّعت في ضياعها الكربة بعد الكربة. وكنت وليي ياربّ عندما سرحت في غياهب الظلمات، ومددت لي حبلًا من عطفك يدّلني على نورك. اللهم فكنّ لي كما قلت *. واخرجني من ظلمات التدبير إلى شوارق نور التفويض، وحسبي من سؤالي علمك بحالي، فقد جعلت الفقر لوجهك سببًا للوصول إليك والدوام بين يديك. وإنّ التدبير معك من أشد حُجب القلوب عن مطالعة الغيوب، وإنما التدبير للنفس ينبع من وجود المواددة لها. وما أقبح عبدًا جهل بأفعالك، وغفل عن حسن نظرك.

(قد تخلّلت مسلك الرّوح مني

وبذا سمّي الخليل خليلا

فإذا نطقت كنت كلامي

وإذا صمتَّ كنت الغليلا)

يا لسان الوقت، وواحد هذا الورى، وعين الزمان! يا ربّ الأرواح الفانية، والأجساد البالية، والبنات الصغيرات، وربّ من أحببتهن، ومن ابتسمن لي ومن أردنني أن أحبّهن، وربّ من كتبتهنّ. فرّغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفّلت لي به ولا تحرمني وأنا أسألك، ولا تعذّبني وأنا أستجيرك، افتح مسامع قلبي لذكرك، وهب لي مع كلّ بليّة صبرًا ومع كلّ نعمة شكرًا. لك الحمد في اللّيل إذا أدبر، ولك الحمد في الصبح إذا أسفر، ولك الحمد حمدًا يبلغ أوّله شكرك، وآخره رضوانك. واسمع يا ربّ حديثي عن شوق إليك لاهب، وعين نحوك رانية، ونفس في يدك عانية، وكلٍّ عندك رهين، وبعض بسوء إغفالك له مهين. وما زاد في بلواي أنّي قانط من عودك إلى معهودي منك، مرحوم في حالتي التي ملك زمامي فيها لك، طامع في أريحيّة تحرّكك. اللهم فاكفني مؤونة قول لا تراد به، وغائلة معنى لا تصح فيه، وغبّ أمرٍ لا تكون عنده، وارحمني وأنت أرحم الراحمين.

٤

شهق أمين مع الضوء. وأدمن أعياد الميلاد وكؤوس الفرح، يتراءى له خيط ضوء تراه خيالاته عتبات ستأذن بعدها بانهمار اليقين، يستيقظ الطفل المنتشي مع صواني الشموع وورق الياس، تعشب روحه فجأة مع أغنيات العجائز والجارات، والبنات الصغيرات، يغفو طويلًا وهاجسه أن يرى النور في لحظة يتنقّل بها بين كوابيس ما أنزل الله بها من سلطان. الطفل بوجهه المستدير وصوته المتلعثم الذي لا يتوّقف، وقميصه الأزرق. سيكبر ويكره أعياد الميلاد، ويبعثر حيرته في الفضاءات، ولا يتبع إلّا سرابه، يشعل موقده بحطب الشّك، فتشرب من روحه اللحظات الرّتيبة وتقاسمه القلق.

(لو كان جُبّا لقُلنا:

ربّ قافلة تأتي على بهجة الأقدار ترفعهُ

تمرّ مثقلة بالغيث ذات ضحىً

لكن إلى حيثما قد كان ترجعه

والروح قد هرمت من فرط ما انتظرت

ورقّ، حتى سؤال الوقت يوجعهُ

وأوهن العمر والمرآة قد شحبت

وصاح يهذي ببيت كان مطلعه

يا للغياب متى تأتي؟!

تعيد لي المعنى؟

وتغلق بابًا كنتُ أشرعهُ).

٥

أطرق باب الحلم كلّ صباح، أفتح في ذاكرة الكتب ثقوبًا تنزف منها الذكرى، تتسرّب منها مقطوعةً موسيقية تسقط سهوًا وأنا أعزف، مثل نص شعري كتبته وأخفيته، أشبه بمقطوعة خالدة في ذاكرة جمهور لم يستمع إليها بعد، بكلمات لا بدّ منها ليستمرّ الكون، كلّ منها عالمٌ كامل الصفات، كلّ منها مجرّة. مثل درويش مصلوب دفُن وظلّت يده طالعةً من القبر تداعب حبّات المسبحة في فجرٍ تستنير به بغداد. مثل راعٍ جلس فوق غيمة متأملًا هلع الناس من موت محتم. بعدها ضرب بعصاه الأرض، وكان نداءً لأسافل الكائنات. مثل ولد حاول أن يجعل في وجه أيّامكِ لحظة شمس، أرادكِ متأخرًا عن العالم لكي يحمل حق ميلادكِ مرارًا، كي يجنّب الكون زلزالًا بدرجة اختفائكِ. وهذا جهدٌ ياعزيزتي المُقلُّ في شأنه كثير، وإفضال المثرى فيه خطير، وزخرف القول فيه غرور، وتحبير اللفظ فيه تحيير، وهتك السرّ فيه افتضاح، وكتمان الحال فيه إيضاح. مقادٌ قوله سهل، ومراده صعب، الرجاء فيه ممدود، والحق في إظهار الشوق معه مقصود، والخلف فيه إنجاز، والذلُّ في ترديده اعتزاز، دركه فوات، وموته حياة، زمانه ممتدٌ بلا زمان، والخلق فيه عن الحق مرتدٌّ بلا بيان، والصمت يا هذه في ذكر غرامكِ أبلغ. وقلبي يخاف من المضي ومن المكوث، وقلبي كهفٌ يغفو به وحش، يشبه آدم الذي يمشّط الأرض باحثًا عن ربّه كلّ حين؛ وما زال الحنين فيه عند البعد باردًا ولم يطفئه دفئ العالم ولا حضن أمّي ولا وجوه من ابتسمن لي.

وقلبي مثل قلبكِ ليس يخشى

 مصابرة فكيف يخاف ذعرًا؟*

وأتمنّى حينًا لو أنّي عتبة لا تضطر أن تدخل أو تخرج، وأنّ نكون واحدًا لا كمثل المرء وظلّه؛ بل أن نمتزج ونشيع كما يضيع المرء بنفسه، فقد قيل أن المحبّة لا تصح بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر يا أنا*. وهذه أصوات قومٍ تحلّقوا حولي عن هواجس جادها الحق بصور الغرام، فتهامسوا بينهم في أوقات كان لله فيها تصرف بحق إظهار العشق وإنشاء الكون، فتخافتوا بها متهاجزين، ونبروا عن حقيقتها متعاجزين، قولهم يا حبيبتي في الجملة كثير مختلف، منتشر مشتهر، يشتهي أن يصادف قلبًا علوقًا ونفسًا عشوقًا، حتى يعشعش فيها. خبت الأنوار والأضواء، وخوت السماء والأنواء، وفقِد الصباح وأُدرك بالعشاء. فلا كبد إلا وهي مقرونة بالحزن، ولا عين إلا وهي ذارفة عن القلق والفرق، ولا أمل يصح إلا في الله، ولا رجاء إلا عنده، ولا خلاص من نيران البعد، ولا نجاة منها إلا برَوحه.

(بيني وبين قلوبٍ كلّما ابتسمت

أتيتها من صحاري النفس ألتحفُ

غسلت في حلو ما قالو مرار دمي

حتّى تقاطر شهدًا قلبي الصلفُ

وكلّما كنت أُوحى من محبتهم

زملت قلب نبيٍ فيّ يرتجفُ

تنزّلوا في صعيد الروحِ ثم سمَوا

لأنّهم أصفياء الحبّ حين صفُوا

كانوا -وقد كانت الأسماء محض صدى-

حقيقة واسمهم في القلب معتكَفُ

من قبل أن تعرف الأنهار وجهتها

من بعد ما عبّأوها الحبّ وانصرفوا

وجوههم كلّما حاولت أقرأها

تسللت في دمي واحتدّ بي شغف

لأنّهم سرّي المفضى علانيةً

إنّي بهم أتّقي قلبي وأعترفُ).

٦

اعتّق اشتياقي وأحاول أن أطرده من فناء قلبي، أرمي شياطين الغياب بجمرات من حنين، وأحلّق مع الملائكة الغيارى، والعشّاق السابقين ومرتّلي الذِكر والعازفين. رأيتُ سماوات ملوّنة، وطيورًا دائخة، وقبائلَ تعزف الموسيقى على غيمٍ يخبّئ مطره لصلاة استسقاء. عدوت بين النجوم، وصرت مزارًا للدمع وباركته. ربّتّ على غيابكِ المرتبك مثل مغنٍ على مسرح نسي أغنيته الأولى موهمًا صوته أنّ العالم ما زال يحبّ ويطلب أن يسمع أغنية أو يقرأ قصيدة. مثل مركب بلا ربّان طوّحته ارتطامة قوية بالصخر، نحو هاوية تتقاطع في أسفلها شرائح من نور، وأجساد ملائكة لها أجنحة مجروحة لا تكفّ عن الاختلاج والخفقان. مثل كعبة يخشع الطائفون حولها والكون يستكين بدويّ تلبيةٍ، ودعاء محروم. الطفل يا هذه أُلقي في بحر مظلم من سفينة دبّ فيها الخوف، وهلك من فيها، وكان حيًا ولكنّه من الغرقى، وكان كالموتى، ميتًا بلا جنازة ولا تابوت. حتّى وجدكِ.

فسبحان الذي خلقني وسمّاني، وألقى في صدري غضب العواصف، وأضاء بحرفي الطريق، قدّني من أطراف الأقلام، ونادى في الطّور أنّني آت، فانشقّ صدر الغيب متّكئًا على صلوات سبقتها دموعٌ حرّى، جمرة تحترق في قلب الزمان وتتفتّح زنبقة في ركام أيّامه. سبحان الذي جعل قربتي لا تمتلئ إلّا منه، ورماني في مطحنة العوام ثمّ صفّاني من شرورها، و أنعم عليّ بتخليص النفوس من شوائبها بفهمها وتسليتها وعلاجها. وإذ أُشعل من الذكريات مراكب شوقٍ لأيامٍ تأخذني لحنين قديم يقاسمها الضوء، و أُزهر حين يتراءى لي وهجٌ منتظر من نبع ترتجُّ روح البداية في خطواته، وتهمس على وقعه أغنيات الأثر. ولدت في السابع والعشرين من شهر آذار عام ١٩٩٨. اسمي أمين صباح كُبّة. وأنا صاحب المقامات.

***

أمين صباح كبّة كاتب من العراق صدر له مقامات إيلاف ٢٠٢١

......................

* إغدراسيل: شجرة العالم في الميثولوجيا الإسكندنافية

* EEG:تخطيط كهربائية الدماغ

* إشارة إلى قوله تعالى (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)

* (لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر يا أنا) من كتاب السحاب الأحمر لمصطفى صادق الرفاعي

* البيت لبديع الزمان الهمذاني من مقامته البشرية بتصرّف

بالودّ أحيّيكم وبالحبّ ألاقيكم وبعد: مضى زمن يا سيدي الرّئيس، لا أنت تواضعت ورددت على رسائلي ولا أنا تابعت جديد أخبارك... كما أنّي لا أملك المعلومة إن كان حرّاسك وموظّفوك يوصلون لك كلّ الطّرود والرّسائل أم هم كعادتهم يتجسّسون على محتوياتها وأصحابها ثم يبلّلونها ويشربون ماءها، قيل أنّ ماء الورق المنقّع في الماء حينما يسيل حبره يصبح بمثابة الرّقية ودواء يحصّن شاربه من كلّ سحر وداء ويزيل عنه الغمّة والضّيق... وإذا كان هؤلاء قد وجدوا في رسائلي حروزا ونفعا، هنيئا لهم مريئا... سأجتهد لأجلهم لأكتب رسائل جديدة حتى يبارك لي الربّ عملي، طالما المسعى شريف والمقصد نبيل...

سيّدي الرّئيس، نسيت ما كتبت لك في رسائلي السّابقة.. ونسيت ما أريد، ونسيت حتى ذاكرتي في إحدى القراطيس، إذ سقطت منّي سهوا وأنا بصدد خربشة خاطرة، لقد تخلّيْت عنها فكان مصيرها الحاوية.. حاوية المكتبة العمومية التي كنت أجلس فيها من وقت لأخر... وفي المساء ألقى عون تنظيف المكتبة بقرطاسي الحاوي لذاكرتي مع جملة من الأوراق والجرائد القديمة جنب قمامة الشْارع، استبشر بها "الحمّاص" بائع الدّخان والبذور والحمص واللّوز والفستق والجوز، وحبوب اليقطين.. التقط جميع الأوراق وجعلها قراطيس يلفّ فيها طلبات زبائنه وأبناء الحيّ والعابرين، وسكارى آخر الليل، أظنّ أنّ القرطاس الذي سقطت به ذاكرتي... قد لفّ به الحمّاص وزنة من المكسّرات الشّهيّة لكهل سمين، توقّف بسيّارته ونزل مترنّحا من شدّة إفراطه في حسك الخمرة، بعدها انطلق وهو يرحي المكسّرات رحيا ويجرشها جرشا، تحت أضراسه الكبيرة بنهم شرس ودون رحمة او شفقة، ولمّا فرغ منها، ألقى بالقرطاس من خلال زجاج نافذة سيارته، فطار عاليا في الفضاء، ثم نزل شيئا فشيئا في بركة خلّفها المطر، لا أظنّ أنّ ذاكرتي قد وقعت هنالك أيضا، بل من المحتمل أنّها وقعت فوق زجاج السّيارة الخلفي وعلقت بمسّاحته خشية الوقوع والتّهشّم، وظلّت تراقب أفعال السّكير،... حتى بلغ بيته، فتح الباب على مصراعيه، ثم تراجع قليلا إلى الوراء وتوجّه قبالة الشارع، فتح سحّاب سرواله وراح يتبوّل وهو في تمايل، بعضه فوق جذع شجرة مغروسة على الرّصيف، وبعضه يذهب نحو الطّريق العامّ وهو في تحمحم، وتنحنح.. لمّا فرغ، رفع السحّاب إلى النّصف تاركا سرواله يتدلّى ثمّ تجشّأ، ودخل بيته صادحا بالغناء، "اللي...ل يا لي..لى يعا..تبني، ويقووو:ل لي سلّم.. على الخممره.. وانا على حبيييبتي البيرّااا محااال أتخلّى..."

 عفوا سيدي الرئيس، لقد انحرفت عن الموضوع، وقلت ما لا يجب أن أقول دون وعي، وعن غير قصد، فقط كنت أتابع ما ترسله لي ذاكرتي، حسنا سأحاول الاختصار والمسك بتلافيف القضيّة قبل أن تفرّ مني تفاصيلها... فأنا أحدّثكم وذاكرتي تائهة عنّي... سيّدي الرّئيس، لقد تعرّضت منذ فترة لحادث، كنتُ أهمّ بعبور السّكة الحديدية وقطع تذكرة وركوب الميترو، ونسيتُ أن أحدّثك أنّ السّيارات صارت تهرب من زحمة الطّرقات، فأصبحت تنعرج، وتصعد وتنزل، لم تسلم منها أرصفة، ولا أنهج ممنوعة، ولا سكّة قطار أو ميترو كانت تقطعها بسرعة جنونيّة قبل أن يداهمها أو يصادفها أحد قادم من الضّفة المقابلة.. ، ماذا ذكرت، الضّفة المقابلة؟ كأنّني أخبرتك في إحدى رسائلي الماضية عن مغامرتي العجيبة.. عندما حرقت بنيّة الهجرة غير الشّرعيّة إلى إيطاليا في مركب مطاطيّ، أو ربّما كان خشبيّا معدّا خصّيصا لتهريب النّعاج والكباش..، في بلادنا لا أحد يهتمّ بهذه الدّواب وإن ماتت جيفة.. ، على الأقل لمّا تصل هذه الحيوانات إلى الضفّة المقابلة قد تجد المرعى والرّاعي، وقد تأكل الأخضر واليابس،..، غير أنّي لا أذكر تفاصيل مغامرتي الشّنيعة، مضى على القصّة زمن،.. لكنّي طرحتها في رسالتي الثّانية التي بعثت بها لك منذ سنة أو أكثر... ما أعرفه الآن أنّي عدتُ، عدتُ إليك يا أبي، ألستَ أنتَ أبي يا سيّدي الرّئيس، ألم تقم بالإمضاء على اتّفاقيّة أو معاهدة ليعيدوا لك خرفانك وكباشك.. إذا ألقوا القبض عليها هنالك في مراعيهم أو وجدوها سارحة في براريهم.. وحتى بعد الزجّ بها في المستودعات والاسطبلات، طالبت أن تعود إليك عجولا سمينة، جميلة...

المهمّ أنا عدتُ يا سيّدي الرّئيس، كيف؟ لا أدري، متى؟ لا أدري، عدت نعجة أم شاة أم بقرة حلوبا؟ لا أدري، أخبرتك إنّ ذاكرتي قد طارت منّي.... ياااه! كالعادة يا سيدي الرئيس، سرعان ما أسرح في خيالي ومع خيالي، ربّما لأنّني تدرّبت على السّرح هنالك مع الثّيران الهولنديّة والعجول الألمانية، وجاموس الأهوار العظيم، الذي نادرا ما التقيته، فهو يفضّل عدم الاختلاط والتّزاوج من غير فصيلته... حكايتي يا سيّدي الرّئيس أنّ سيّارة فاخرة دعستني حين كنت أعبر السّكة، والسّائق اللّعين، لم يشعر بجريمته، برغم صراخ المارّة وتجمّعهم والتفافهم من حولي، يبحثون عن مكان إصابتي، يتفقّدون أصابعي، إصبعا، إصبعا ،يتلمّسون خواتمي، ينظرون إلى الوقت في ساعتي في معصمي، يجسّون لي نبضي، أنظارهم تتوجّه إلى جيدي، وما تدلّى على صدري... لا أحد اهتمّ بالسّائق... جميعهم عبّروا عن أسفهم لحالتي، أشفقوا عليها، ومن هول حزنهم وصدمتهم تغافلوا عن طلب النّجدة أو الحماية المدنية، ولما أفاقوا من غفوتهم، تذكّروا ما عليهم من التزامات وأنّ لديهم أعمالا تنتظرهم، فانتشروا كالفراش المبثوث، ذكّرونني بيوم الصّاخة يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه... ... إنّها القيامة وما أدراك ما القيامة، وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظنّ أن يفعل بها فاقرة.. ، ووجوه يومئذ مسافرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه مصفرة ترهقها قطرة...، اوووه، استغفر الله، استغفر الله، لقد نسيت الآية التي أريد.. نزلت فوق راسي الطّامة والعامّة وقرعت أذني القارعة... بسبب كثرة الوجوه التي تطلّ عليّ هي من فوق، وأنا في التّحت .. وها أنّي حرّفت القرآن، إلهي أغفر لي زلّتي، وثبّت حالي عند السّؤال فأنت أدرى بحالي وما جرى، ووحدك تشهد على ما أقول وتعلم أنّ ذاكرتي ليستْ في حوزتي...

يا سيّدي الرّئيس، لا أدري من حملني إلى مستشفى الحروق البليغة، وألقى بي في بهوه للرّيح تداعب "بُنْواري" أقصد فستاني، ورجلاي مهشّمتان.. ، ولا أدري من نزع من أناملي خواتي الذْهبيْة، ومن أخذ ساعتي السّويسريّة، ومن سلخ من يدي أسورتي الفضية اليتيمة التي ورثتها عن جدّتي، وفكّ من عنقي عقدي المرجان... لا أدري... لقد كانت تطلّ فوق جثّتي رؤوس كثيرة وقرون كبيرة، بعضها معقّف وبعضها طويل، وتوجّه نحوي مخالب، بعضها لنسور أخرى لذئاب...

يا سيّدي الرّئيس، نسيت كم طالت مدّةُ علاجي، ومن تحمّلني تلك الأشهر، يُقال جارتي، ويُقال، صديق قديم قدم من الرّيف، سمع بمُصابي فأتى لينال جزاء من الله، وبالمناسبة يقيم عندي فترة بالعاصمة بحثا عن فرصة عمل.. ويُقال أنّ بعض الشّعراء والأدباء ساهموا في تجميع مبلغ ماليّ ضئيل، وأرسلوه لي مع حيّة من حيّاتهم العديدة، ادّعتّ معرفة مقرّ سكناي، فالتهمت الصّدقة، وأشاعت أنّني تسلّمتها منها، وأنا لم أتسلّمها، ولأنّي فاقدة للذّاكرة، صدّقوها، وتغاضوا عن كلامي...

 سيّدي الرّئيس، طلبي أن تجدوا لي حلاّ، تمكّنوني من فضاء وسط العاصمة، المباني داخل المدينة العتيقة كثيرة ومغلقة. لا أحد يستعملها ولا ملاّك يسأل عنها أو عن إيجارها، ثمّ باتتْ مهدّدة بالسْقوط،.. أريد أن أجعل منه مقهى ثقافيّا، أرتزق من مدخوله وممّا أحصل عليه مقابل خدمات أعرضها على الزّبائن والحرفاء وبعض المثقّفين المتشرّدين أمثالي، أنظّم لهم أنشطة ثقافية، أعدّ لهم سهرات رمضانيّة ، أجلب الفنّانين الهواة والمبدعين الَمهمّشين والمعتوهين الذين وقع إقصاؤهم من النّدوات، وأدعو الشّعراء الذين نحتوا أسماءهم على تجاعيد أوراقهم، صار بعضهم يستعينون برجل ثالثة يتّكئون عليها حين المشي محاولين التّغلّب على القدر، يتوسّلون الشّمس لتفرش لهم ظلالها وليتوسّدوها وقت الهجير، أدعو كذلك الأدباء التّعساء من الشّبان، الذين لم يلقوا حظّهم في الأفق... فنحن أشباه المثقّفين، ليس لنا أرض، لا دعم، لا تمويل، لا وزارة، لا مندوبيّات تكترث لنا.. ، ولا احتضنتنا دور ثقافة أو رأفت لحالنا، إنّ هذه الإدارات تحكمها أشباه العلاقات واللّوبيات والعصابات، المافيا.. ت، وحدهم يقيمون المهرجانات والملتقيات والتّظاهرات والأعراس الثقافية بدعم من العيون التي لا تنام، وبرعاية المنظّمات الخارقة للسّلام وجمعيّات اليتامى والشّهيد، يحصلون على الدّولارات، يستضيفون أسماء ووجوها متكرّرة، مستنسخة في مسرح صنع العرائس المتحرّكة مقابل المليارات، يدعون المتحصّلين على الدكتوراه الفخريّة من مختبر المعرفة العبقريّة عربا وعجما، مطبّعا ومنقّعا، أحيانا بتذاكر مدعومة من الهلال الأحمر وأخرى بأسعار خياليّة توفّرها الجامعات الدّوليّة، يُحضرون نقّادا يجترّون أوراقهم وأقلامهم من عهد الجاهليّة، يحشرون أصحابهم، يتحدّثون عن إنجازاتهم، يقولون عنها إبداعات جهنّميّة لم تر مثلها البشريّة، يُؤجرون نفس الأقنعة من الإعلام، صارت الإذاعات والتّلفزات الحكوميّة، بعصمتهم، وبعصمة من نالوا الجوائز في المسابقات الخليجيّة والكوماريّة والأكترائيّة، والكريديفيّة و... امتلكوا كلّ وسائل الإعلان اندسّوا في كلّ القنوات.. كالفقاع اكتسحوا المكتبات الخاصّة والعامّة، ودور النّشر المدعومة الحكومية منها والخصوصيّة، باتوا، جماعات، جماعات، مواكب، مواكب، طبّالة وزكّارة، والكعك الذي هرّبه الموريسكيون والعثمانيّون والألمان المحشوّ بمدّخراتهم من حلي ومجوهرات وأحجار كريمة وقطع نقديّة ذهبيّة... وقع اقتسامه عند حلول الظّلام، في أروقة المعابد، وفي ليالي الأعياد قبل أن تشمّ رائحتها بعض الأنوف القويّة وتفترسه بعض العيون الحارّة أو تجرؤ أيادي فتمتدّ بنيّة التّذوّق منه قليلا...

سيّدي الرّئيس، لقد أصبح وضعنا الاجتماعي والثّقافي والاقتصادي كارثيّا، النّدوات أصبحت مضحكة بمن فيها... شلّة تقدّم شلّة، شلّة تستضيف شلّة، والحلقات تتواصل، حلقة، حلقة، فتصير مسلسلات ومسلسلات من الجرعات ضدّ من يدنو من سور الثّقافة، ويتبادل أصحاب الشاليهات ومديري بيوت المعلّق..ااات، الضْيااافات، يبيعون في سوق عكاظهم الشّعر والقصّة والرّوايات، ويوم الفوز والإحراز على المليار، تبات كل الجواري في حريم السّلطان، يرقص سنبل على وقع ترانيم الأقدام، ويقع تسريب روح المرّ في أقداح مرمريّة لملكة غجريّة، أو لقائد بربريّ... تبّا لي، ماذا قلت... المرّ؟، لا،. لا إنّي أقصد الحبر، الذي يوزّع على المبدعين بالمجان، ليكتبوا حكاياتهم على ظهور السّمك، ورسائلهم على رمل البحر...

أوووه...! جفّ حبر مقلمتي، وجفّت جميع أقلامي، كذلك السّمك، لا أدري أين توارى، بلغني أنّه أصبح باهضا، فكيف لي أن أكمل رسالتي..؟ وأنا مازلت لم أكمل سرد روايتي..؟ عفوا، عفوا، سيّدي الرّئيس، أستسمحك، سأغادر الآن، فقد بتّ لا ذاكرة، لا حبر لا قلم.... سأنظر، منْ يبيعني فكرة، أو قصيدة أو قصّة أو رواية... مقابل مبلغ زهيد، أو ربّما أصادف أحد هؤلاء الممحونين بالخمور في "بار" اليونيفار أو نزل الكونتينونتال، فأحظى بليلة من ألف ليلة وليلة في شاتو الخليفة قار... وأحصل على رغيف، وبعض الدّنانير أحلّ بها مشكلة الحبر والقلم وأسكب للزّمن بعض الألم..

 في الختام وفي انتظار ردّكم، لكم مهجتي وبهجتي، دمتم في رعاية الإبداع، وفي حضن المحبّة والجمال، وأسأل الله أن تبلّغكم القروش الرّاصدة لأفكاري، رسائلي قبل التهامي...

 والسّلام من ابنة تونس الحالمة بالازدهار

***

 سونيا عبد اللطيف

تونس 07/ 03/ 2024

 من كتابي الذي لم ينضج "رسائل وخواطر لم تصل إلى الرئيس"

 

رواية للأديب البرتغالي [جوزيه ساراماجو]

يقع الكتاب في 380 صفحةً، ويبدأ كعادة ساراماجو بالحدثِ الرّئيس مباشرةً، فعلى إشارة المرور يُصابُ سائقُ سيّارةٍ بالعمى، يصرخُ، ويستغيثُ، يتجمّعُ النّاسُ، ويتطوّعُ أحدُهم لإيصاله إلى منزله بسيّارته نفسها، لكنّه يسرقُ السّيّارةَ بعد إيصاله.

يؤخَذُ المصابُ بالعمى إلى الطّبيب، فيفحصُه لكنَّ الفحصَ يُثبتُ عدمَ وجودِ مرضٍ، وأنّ العينين سليمتان.

خلال ساعاتٍ يُصابُ سارقُ السّيّارة بالعمى، والطّبيبُ أيضاً، والمرضى الذين كانوا في غرفة الانتظار، وينتشرُ وباءُ ما سُمّيَ بالعمى الأبيض بين النّاس دون معرفة السّبب.

كان العمى مختلفاً عمّا نعرفُه، بحيث يرى المصابُ كلَّ شيءٍ أبيضَ، وكأنّه غارقٌ في بحرٍحليبيٍّ.

تبدأ المرحلةُ الثّانيةُ من الرّواية داخلَ الحجر الصّحّيّ الذي وضعَ المصابون داخله ليعيشوا ويتدبّروا أمورَهم، فالدّولةُ لن تتدخّل في أيّ شيءٍ يحدثُ هناك (خشية العدوى) إلّا في أمرين هما: إرسالُ الطّعام والشّراب للعميان، وقتلُ مَن يحاولُ الخروجَ منه.

فالكاتبُ هنا تحدّثَ عن غيابِ السُّلطة، وأثرِ هذا الغيابِ، ففي الحجر الصحي  غابَتْ السُّلطة الدّاخليّة بين العميان، وغابَت سُلطة الدَّولة، فالإنسانُ دون سُلطة يعيشُ حياةً بهيميّةً، ويعودُ لقانونِ الغابِ، أي البقاءُ للأقوى.

كلُّ مَن في الحجر عميانٌ سوى زوجةِ الطّبيب التي تظاهرَت بالعمى لتبقى مع زوجها، ولأنّها كانت تتوقّع إصابتها به في أيّ لحظة.

المرحلةُ الأخيرةُ من الرّوايةِ ستكونُ بعدَ الخروجِ من الحجر، ليس لِشفاءِ المرضى بل لسببٍ آخرَ، فكيف ستكونُ حياةُ الأعمى في عالَمٍ مفتوحٍ...؟

زوجةُ الطّبيب المبصرةُ كانتِ الأشدَّ ألماً، لأنّها الوحيدةُ التي رأتْ انهيارَ الأخلاقِ، ورأتِ القذارةَ والخيانةَ والجثثَ واغتصابَ النّساء....!!

الرّوايةُ رمزيّةٌ، فمصطلحُ العمى الأبيض، وعدمُ وجودِ خللٍ في عينِ المصاب به إشاراتٌ إلى( عمى الفكرِ والوعي) وأنّنا نظنُّ أنفسَنا سليمي الحواسِّ، بينما نحن غارقون في وحل الجهلِ.

الكاتبُ لم يسمِّ البلدَ الذي أصيبَ بهذا الوباء، ولم يسمِّ الأشخاصَ، بل ذكرَ صفاتِهم وأعمالَهم، كالطّبيب والأعمى الأوّل والطّفل الأحول والمرأة ذات النّظّارة السّوداء، وكأنّه أرادَ أن يُشعرَنا بنوعٍ من العمى.

وناقشَ أخلاقيّاً في فقراتٍ من الرّواية أحداثاً جرَتْ في الرّوايةِ كمسألةِ سرقةِ سيّارةِ الأعمى الأوّل، ومسألةِ مساعدةِ زوجةِ الطّبيبِ للعميان وغيرها.

كما أنّه لم يكشفْ سببَ الوباءِ، ولا سببَ ذهابِه، ولا سببَ عدمِ إصابةِ زوجةِ الطّبيب.

براعةُ الكاتب في السّرد والوصفِ عظيمةٌ، وقد جعلَتْني أعيشُ الحالةَ، إذ أنهيتُ فِقرةً من الكتابِ داخل فترة من  الوعكة الصحية ، ولمّا وقفتُ للنّزولِ من سريري  ظننْتُ نفسيَ المبصرَ الوحيدَ في المستشفي، وأنّ النّاسَ لا يرونَني...!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

لم تشهد العاصمة الدانماركية كوبنهاگن تشييعاً مهيباً،  بكثافة الحضور، وصدق المشاعر وحرارتها، كانت طوابير المركبات اصطفت واقفة تنتظر لحظة انطلاق المشيعين الى مقبرة اخضلّ شوكها بالزهر، واغتسل الندى بترابها.

كانت عيون المشيعين تبحث هي الأخرى عن بلاد تضم رفاتهم، هؤلاء المتناثرين في عواصم البكاء، الذين ضاعت أحلامهم، وتصدّعت بيوتهم، وانخرمت أعمارهم في: (ليت، أو عسى، و لعل، أو متى) وما من حيلة لهم وما من عزاء، موزعين كالشتات في بلدان الغربة، هؤلاء هربوا من قاتل يتوعدهم.

تأملوا ملامح هؤلاء، انه الخوف يرسم بصمته على الوجوه التي غادرها فرح العمر، سرقت الغربة أعمارهم، ليس لأحد ان يتذكر أي نعش أخير شيعوه، ومن القادم الذي يطوي الثرى جسده؟ انهم يكابدون لحظات الانتظار!

اختلط البكاء والغناء في مشهد تراجيدي لا يتكرر، من يفهم صوت الألم؟ صوت نحيب النسوة، يهبط ويعلو مع صوت يردده كوكب سماوي:

يمتى تسافر ياگمر واوصيك

والوادم البيها الألم تدليك

كان الجثمان أثناء النزول في الحفرة، والصوت يأتي مع الريح :

يافشلة الملهوف ويدور هله بمحطات

أحااااه ياديرة هلي

من يسمع شهقات الطيور وهي ترفرف تحمل روحك يا كوكب، تتضور من وجع،  انها تغني قبل الرحيل الأبدي، تجهش في البكاء : دعوه كما يشتهي الآن يغني!

تمدّ لها كفاً.. وكفاً لفجر الضياع، آه يا طائر الحزن كم نصبوا شركاً لاغتيال طيورك يا زهير!

دعوها تطير بسلام.. ترفرف بأجنحتها فوق ترابي قبل أن يصير حجراً صلداً بلا روح.

دعوا الطيور تحلق ما تشاء، وأنى تشاء، تغزل عشاً لها في أغصان الورد من حولي...

فورد الحدايق لا يذبل يا نجوى!!

لا أحب الضجيج، انتما يا صديقيّ (زهير الدجيلي، وذياب كزار " ابو سرحان") كونا دليليّ إلى غابة الزيزفون، انتما تعرفان المنافذ، ومفازات المقابر، حيث أرقد هناك.. أعزي رفاق الطريق، وأغوي النساء، وألم شظايا الروح المبعثرة.

***

جمال العتابي

وسلافة معمار تستحق الاوسكار

إن السينما والمسرح والفن والادب تعبير في محتواها عن مصالح واخلاق الطبقة الحاكمة، كونها المتحكمة بشكل مباشر وغير مباشر في اموال الانتاج وقانون الهيئات التمثيلية والسينمائية ووسائل العرض والبث.

وهذا يرجع الى أن النظام الرأسمالي العالمي حين دخل في ازمة عالمية في عام ١٩٦٠ - ١٩٧٠ نتيجة صعود الاشتراكية، طورَ من نفسه (اي الرأسمالية) وأنتج النظام اللبرالي الذي عمل على تدخل الطبقة الحاكمة في كل ميادين الحياة من السينما والمسرح والفن والادب والرياضة..الخ. للسيطرة على المجتمع وزيادة الارباح المالية لافراد السلطة، لذا نجد لمساتهم ونشم رائحتهم في كل هذه المجالات.

إن مسلسل ولاد بديعة التي عرض في رمضان ٢٠٢٤ قد اعطى حقيقة الظواهر الاجتماعية الواقعية.

ويمكن التمعن والتوقف في قضايا المسلسل:

⁃ مسألة الاغنياء: يُبين المسلسل أن جميع الاغنياء سراق، ويقسم طرق السرقة، وتتم عمليات غسيل الاموال للتغطية عليها، هنا تتضح قدرة الكاتب العلمية في الاقتصاد بان دوران الاموال لا يمكن كسبه واستثماره بشكل طبيعي وجهد عملي لتكوين الثراء وانما يتم بالسرقة، وباقل تقدير دون مبدأ كأرباح مشاهير كرة القدم حيث الاعلى منهم سراق المال العام ويتم غسيل الاموال في كرة القدم.

⁃ استغلال الدين: حين عجز (مختار) في اخفاء فشله وعقده النفسية وجرائمه بقتل والدته من اجل الميراث وقتل زوجة ابيه (بديعة) وظلم اولادها ودمر صديقه، واستمرت احقاده، لم يجد ألذ واضمن وسيلة من استغلال الدين كونه اداة مهيئة لذلك، والسلطة السياسية داعمة له للسيطرة على المجتمع، لذا (مختار) كسب المجتمع والسلطة وحماية نفسه وامواله، ولولا افتضاح جريمة القتل لاحد "الشيوخ" للرأي العام لما تم القبض عليه.

⁃  انانية الاب: ان كل العاهات في شخصية (مختار) وكل ردود الفعل لاولاد بديعة هي نتيجة انانية والدهم (عارف الدباغ)، وهذا طرح حقيقي لمشكلات المجتمع والتي غالبا تلونها الدراما بقدسية الاب ووجوب طاعته واعطائه سلطة ابوية تنسجم مع اخلاق وارادة الطبقة الحاكمة.

⁃ احقاد الام: كشفت المسلسل كيفية تبث الام احقادها ودسائسها الملونة بالحنان والعاطفة وتحفر كلماتها المدمرة في عقل ابنها (مختار) ويستمر الصراع الطبقي مع نفسه واخوته والمجتمع.

⁃ الصراع الطبقي: ينتج عن توزيع غير عادل لثروة البلد، لذا الصراعات في المسلسل نتيجة هذا الصراع، وما الصراعات  داخل المجتمعات جميعها نتيجة هذا الصراع لا غير.

⁃ اولاد الحرام: ابدعت المسلسل في ايضاح حقيقة أن اولاد “الحرام” بشر متساويين مع باقي البشر، وما هذا المصطلح (ابن الحرام) الا طريقة ابتكرها الساسة لاسقاط معارضيهم وخصومهم سياسيا واجتماعيا.

⁃ الحب: فسد نتيجة الصراع الطبقي الناتج عن الفوارق المالية لا غير، ولا وجود لاي مشكلة اخرى تفسده او تنهيه، وهنا بينت المسلسل في عدة مشاهد ذلك.

⁃ الشهادات الاكاديمية تمنح هدايا للاغنياء كما فعل والد زوجة شاهين. اثبتت المسلسل ان هذه الشهادات لا تنتمي الى الوعي ولا الى الثقافة في شيء، حيث المناهج الدراسة انعكاس مباشر لاخلاق السلطة.

⁃ ركزت المسلسل في الحلقة الاخيرة عن الهجرة من الريف الى المدينة. هذه القضية انتاج الطبقة الحاكمة للتمايز والتفريق بين اهل الريف والمدينة وبالتالي؛ ارباح مالية للطبقة الحاكمة وسيطرة فكرية وجمهور انتخابي..الخ.

⁃ الطبقة الحاكمة في الانظمة الرأسمالية تتهرب من مسؤولياتها، وخصوصا النساء أمثال حالة (بديعة) فلو كان دور للدولة في حمايتها لما تم التحرش بها واستغلالها من (عارف الدباغ)، وملايين الحالات امثالها في مجتمعات العالم.

ولا ننسى أن التحرش صناعة سياسية لاضطهاد المرأة وارجاعها الى البيت والمطبخ وضرب فكرة المساواة التامة مع الرجل، كما حدث في الثورتين التونسية والمصرية بارسال مجاميع داخل المتظاهرين للتحرش بالنساء لاسكات صوتهن.

ولاد بديعة مسلسل فكري توعوي وشامل للدراما والكوميديا والاكشن والغموض والرومانسية وحتى السيناريو والحوار طُرح بطريقة فكرية.

ملاحظة: أن الممثلات الحائزات على جائزة الاوسكار أمثال رينيه زيلويغر وفرانسيس مكدورماند وإيما ستون وبري لارسون لم تكن سلافة معمار أقل منهن في دور (سكر)، بدليل: يمكن مراجعة افلامهن والمقارنة مع (سكر).

***

حسام عبد الحسين

تستكشف رواية جراهام جرين "وزارة الخوف" عدة مواضيع سائدة طوال القصة. أحد المواضيع الرئيسية في الرواية هو مفهوم جنون العظمة والخوف. يعيش بطل الرواية، آرثر رو، في خوف وشك دائمين، حيث يتورط في شبكة من الخداع والخطر. ويتجلى هذا الموضوع في العنوان نفسه، حيث ترمز "وزارة الخوف" إلى الحالة الذهنية التي يجد آرثر نفسه فيها، مليئة بجنون العظمة وعدم اليقين.

هناك موضوع بارز آخر في الرواية هو فكرة الذنب والفداء. يعاني آرثر رو من الشعور بالذنب بسبب أفعاله الماضية، الأمر الذي يقوده في النهاية إلى البحث عن الخلاص طوال القصة. بينما يعود ماضيه ليطارده، يجب على آرثر مواجهة شياطينه الداخلية والتصالح مع أخطائه من أجل العثور على السلام والمغفرة.

يعد موضوع الخداع أيضًا عنصرا أساسيا في الرواية. يكتشف آرثر أنه تعرض للخداع من قبل من حوله، وعليه أن يبحر في عالم مليء بالأكاذيب والخيانة. يسلط هذا الموضوع الضوء على فكرة الثقة والولاء، حيث يكافح آرثر لتحديد من يمكنه الاعتماد عليه في بحثه عن الحقيقة.

موضوع آخر مهم في الرواية هو مفهوم القدر والمصير. تتشابك حياة آرثر مع حياة الآخرين بطرق غير متوقعة، مما يدفعه إلى التساؤل عما إذا كانت تجاربه مقدرة أم أنها نتيجة للصدفة العشوائية. يتناول هذا الموضوع فكرة السيطرة والوكالة، حيث يتصارع آرثر مع فكرة الإرادة الحرة والحتمية في حياته الخاصة.

الحب والخسارة هما أيضا موضوعان أساسيان في الرواية. يشكل آرثر علاقات مع عدة شخصيات طوال القصة، بما في ذلك آنا الغامضة وويلي الغامض. تجلب هذه الروابط الفرح والألم إلى حياة آرثر، مما يوضح تعقيدات المشاعر الإنسانية وتأثير الحب والخسارة على التجربة الإنسانية.

تم استكشاف موضوع السلطة والفساد أيضًا في الرواية. يصادف آرثر أفرادا يسيئون استخدام سلطتهم ويستغلون الآخرين لتحقيق مكاسب خاصة بهم، مما يوضح الجانب المظلم من الطبيعة البشرية وعواقب السلطة غير المقيدة. يسلط هذا الموضوع الضوء على الغموض الأخلاقي للسلطة والطرق التي يمكن استخدامها للتلاعب بالآخرين والسيطرة عليهم.

كما أن موضوع الحرب وعواقبها سائد في الرواية. على خلفية الحرب العالمية الثانية، تدرس "وزارة الخوف" الآثار الدائمة للصراع على الأفراد والمجتمع. تطارد تجارب آرثر خلال الحرب، وعليه أن يتصالح مع الصدمة والخسارة التي شكلت حياته.

يعد موضوع الهوية واكتشاف الذات عنصرا مهما آخر في الرواية. يتصارع آرثر مع أسئلة حول من هو وماذا يمثل، بينما يواجه ماضيه ويبحث عن المعنى في ظروفه الحالية. يتعمق هذا الموضوع في تعقيدات الهوية الشخصية والبحث عن الوعي الذاتي والغرض.

يلعب موضوع الولاء والخيانة أيضا دورا مهما في الرواية. يجب على آرثر أن يتنقل في عالم مليء بالولاءات المتضاربة والولاءات المتغيرة، حيث يتعلم من يمكنه الوثوق به ومن سيخونه. يسلط هذا الموضوع الضوء على أهمية الولاء في العلاقات وعواقب الخيانة على الأفراد والمجتمعات.

في الختام، يستكشف كتاب "وزارة الخوف" بقلم جراهام جرين مجموعة واسعة من المواضيع التي يتردد صداها لدى القراء على مستوى عميق وعميق. من تعقيدات المشاعر الإنسانية والعلاقات إلى المعضلات الأخلاقية للسلطة والفساد، تتعمق الرواية في الجوانب المظلمة للتجربة الإنسانية وتتحدى القراء للتفكير في معتقداتهم وقيمهم. إن سرد القصص المتقن ونثر جرين المثير للذكريات يجلبان الحياة إلى هذه المواضيع في سرد مقنع ومثير للتفكير يستمر في جذب القراء حتى يومنا هذا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

......................

المرجع

The Ministry of Fear, Graham Greene

بقلم: أناندي ميشرا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

التعري ليس حالة جسدية، ولا يمكن إدراكه بالعين البشرية، ولا هو ظاهر في محيط جسم الإنسان.

إن التعري هو حالة بسيطة وغير مريحة ومقدسة للحواس البشرية. هناك حيث أستطيع أن أشعر بكلماتك مثل الريح ضد وجهي، حيث يمكنني الجلوس والاستماع إليك إلى ما لا نهاية ويمكننا أن نجمع نظراتنا معًا في سماء الغسق، حيث يمكنني الاستماع إلى حفيف أوراق الشجر، حيث أستطيع أشعر بفرشاة شعرك الناعم على بشرتي.

إن التعري، بالنسبة لأي عقل ضعيف، يعني إزالة الغطاء الجسدي والتعرض للعالم. لكن بالنسبة لي، كوني عارية الجسد، وعارية، يكمن في حقيقة أنني أستطيع أن أفتح نفسي لإنسان آخر دون خوف من الحكم. هذا يعني أنه يمكنني أن أترك الأمر كذلك. أستطيع أن أترك محادثاتنا تتدفق، مهما كانت مضطربة أو غير مرتبطة أو حساسة، دون أن تتم مقاطعتك أو استجوابك أو الحكم عليك.

أستطيع أن أقول أنه بالنسبة لي، كوني عارية يعني أن أتمكن من تقشير مشاعري طبقة تلو الأخرى، عندما أزيل جلدي الميت، عندما يمكن إزالة الألم بالشمع بمجرد التحدث حتى الساعات الأولى من الصباح وبعد ذلك ربما. النوم في حضنك، مسترخية وهادئة، وتتمتع بهزة الجماع المُرضية والمريحة عاطفيًا.

عندما يحدث الكثير بداخلي ويرى العالم ببساطة أنني سمراء، أريد من هذا الشخص أن يرى السبب وراء البشرة المسمرة، والمشاعر المضطربة، والرغبة الشديدة التي لا نهاية لها، والأشياء الصغيرة التي تؤلمني، والمحادثات السطحية التي تخون؛   عندها أستطيع أن أكون صادقة معك ومع نفسي، وعارية أمامك  عندها أستطيع أن أكون صادقة معك ومع نفسي، عارية أمامك.

إنه أمر يحررني أن أكون عارية، دون كل المخاوف من إخفاء ندباتي، وكشف كل ما مررت به، والشعور بعدم الاضطرار إلى قمع المشاعر، فقط الذوبان في عقل الآخر مثل حلوى القطن.

أن أكون مختنقة، فقط بصمت الكلمات وحديث العيون، وذلك عندما أشعر بالعري أمامك، الشعور الواضح بقدرتك على الدخول في بشرتي، وفقدان حراستي عندما تكون معك، وحقيقة أنك قادر دائمًا على التذوق والبلع، بنفس سهولة كل فكرة من أفكاري وكل تجربة من تجاربي، وقدرتك على جلب الراحة لي في أوقات الغضب، وهذا وحده يمكننى من تهدئة العواصف في داخلي.

ربما لا تزال الأسئلة المزعجة قائمة، لكن حقيقة أنك تستطيع فهم كياني هي ما يمكن أن يساعدني في التغلب على هذا الاضطراب، لأنه فقط بسببك استطعت أن أكون على قيد الحياة، وقد أشعر بين الحين والآخر بأشياء جديدة وتنمو بداخلي؛ سهولة العيش مع نفسي. إن وصفك بالصديق سيكون بمثابة استطراد وبعيد كل البعد عن الواقع. لذا، أدعوك بسيرتي الذاتية، وأسميك جزءًا مني، وأدعوك - أنا، لأنك جزء مني بقدر ما أنا جزء من هذا الكون.3672 تخطيط العارية

صُمم هذا الرسم التوضيحي بواسطة صديق فنان تشكيلي لمرافقة هذا المقال. قد يكون لدي نسخة مادية من هذا أيضًا، في مكان ما.

*** 

..............................

الكاتبة: أناندي ميشرا/ Anandi Mishra كاتبة وناقدة مقيمة في دلهي. كتبت لمنشورات عديدة من بينه:

The Atlantic، Los Angeles Review of Books، Virginia Quarterly Review، وPublic Books، وAl Jazeera

 وأماكن أخرى. وهي مراسلة سابقة لصحيفة

The Times of India و The Hindu.

عندما يمنحك شخص ما مفاتيح الزمان ومقاليد المكان...

تخترق الحجب وتصبح كائنا أسطوريا...

تنبعث من رمادك عنقاء رأسك تعانق السماء وجناحاك يلتحمان بالفضاء وقدماك يغوصان في أعمق ثوابت الكون...

إنك تتحول الى هواء يتنفسه الهواء..

إنك تصبح أنت الأصل والكل خواء....

عندما يمنحك أحدهم بعضا من شغاف روحه ويقدم لك قلبه فداء...

تصدق حينها أن في هذه الحياة حقيقة واحدة....

هي أن الله موجود في ذرات روحك...

وهذا وحده يكفيك أن تكون أنت هو الهواء ....

وكل ما دونك خواء....

***

عواطف نصرلي – تونس

 03 افريل 2024

 

الرحالة والفقيه ومربي الأجيال

شهدت سنوات منتصف القرن الثامن عشر ولغاية بدايات القرن العشرين موجات من الهجرة القفقاسية الفردية أو الجماعية نحو تركيا وعدد من البلدان العربية لعوامل ودوافع متعددة دينية وسياسية وَاقتصادية وكانت حصة سوريا والاردن والعراق كبيرة مقارنة ببقية البلاد العربية.

وحيثما تواجد القفقاس في بلدان المهجر كانت تبرز بينهم شخصيات قيادية ومؤثرة في محيطهم الاجتماعي. ساهمت الى حد بعيد في النهضة الحضارية لهذه البلاد بعد أن اختارتها موطنا لها ولاحفادها من الأجيال المتعاقبة فتقلدت مناصب ومراكز عليا وساهمت في تثبيت أركان المجتمعات العربية في مختلف المجالات.

في بيت متواضع وصغير في قرية جصين السورية حط الاواري الجمري (محي الدين ثريا شهباز الداغستاني) رحاله بعد ان غادر موطنه الأصلي داغستان وبالذات قرية غيمري (مسقط رأس الإمام الخالد شامل) مرورا بلبنان ثم السعودية وأخيرا سوريا بدايات القرن الماضي.

كان الشيخ محي الدين متمكناً من اللغة العربية والأوارية الداغستانية وكذلك كان يمتلك قاعدة رصينة وخزينا معرفياً وافرا في العلوم الدينية وخاصة في القرآن والسنة والطب الشعبي والأبراج الكونية والعلاقات الإجتماعية، لذا كان من الطبيعي أن يكرس نفسه لخدمة مجتمعه فحوّل القرية الى بؤرة إشعاع، فكان المعلم الوحيد الذي وظف امكاناته العلمية والتربوية لتحقيق مقاصده النبيلة، فنجح بفضل قوة شخصيته وقدراته الفائقة من تخريج أجيال متعاقبة من أبناء وبنات القرية بعد ان تلقوا على يديه دروسا في قواعد اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم، في وقت كانت المدارس معدومة في القرى والارياف فضلا عن القيود الاجتماعية الصارمة على تعليم الفتيات آنذاك خاصة أن الفترة الزمنية كانت محصورة ما بين العام ١٩٠٠ والى ١٩٤٥ م.

وبعد إفتتاح المدارس في عدد من القرى المجاورة وتواجد المعلمين فيها فقد تفرغ الأستاذ محي الدين لخدمة سكان تلك القرى وكانت له مواقفه الاجتماعية والدينية والعلمية البارزة أثناء حضوره المناسبات الاجتماعية، فكانت له الكلمة الأولى بحكم المقام الذي تبوأه وكان الجميع يحترمون ويلتزمون بنصائحه وتوجيهاته.

في إحدى إنتقاءاته يؤكد الشيخ الاستاذ محي الدين على أهمية العمل والتحلي بالصبر حيث اشار (إلى ان من أعظم الصفات التي يمتاز بها الرجال، وتكون سببا لفوزهم على أقرانهم في معترك الحياة العمل والصبر، فهل وجدت طالب علمٍ نبغ في علومه أو تاجرا تقدم في تجارته، أو عاملاً نجح في عمله، أو قائدا انتصر على أعدائه، أو سياسيا تغلب على خصومه إلا بحسن أعماله والصبر على المكاره، إن كان ذلك لا يكون فشمّر عن ساعد الجد والعمل، ولنعتصم بحبل الأناة والصبر لنتبواً المكان الذي تبوأه أجدادنا من قبل).

لم يستقر الشيخ في قرية جصين بل كانت له مواقف وادوار في محافظات دمشق وحماه وحمص وفي الاخيرة كانت آخر محطاته حيث توفي عند أبن أخيه بدر خان داغستاني (أبو مصطفى) سنة ١٩٧٠ وترك وراءه الكثير من المخطوطات عن نشاطاته العلمية  والدينية والفكرية .

***

محمد حسين الداغستاني

الربيع مفهوم مناخي – جغرافي يقع بين الفصل البارد والفصل الحار ويتميز بالتغير مابين درجات الحرارة الشتوية ودرجات الحرارة الصيفية في نصف الكرة الأرضيّة الشمالي وتوقيته بأشهر أذار/ مارس ونيسان/ أبريل ومايس/ مايو، مابين 1 أذار و 31مايس، أما في نصف الكرة الأرضيّة الجنوبي فتوقيته من  1أيلول/ سبتمبر إلى 30 تشرين ثاني/ نوفمبر، وفلكيّاً يبداء مع الاعتدال الربيعيّ الذي يكون عادةً  في 21 أذار في نصف الكرة الأرضية الشماليّ وفي 22 أيلول في نصف الكرة الأرضيّة الجنوبيّ ويستمرّ حتّى وقت الانقلاب الصيفيّ، حيث يكون محور الأرض في فصل الربيع مائلاً نحوَ الشمس لذلك يزدادُ طول النهار ويقلّ خلال فترة الليل.

تحدث ظاهرة الاعتدال مرتين في السنة حيث تصطف الأرض مع مدارها حول الشمس مرة في 20 أذار ويسمى الاعتدال الربيعي ومرة أخرى في 23 أيلول ويطلق عليه الاعتدال الخريفي حيث تكون الشمس مباشرة فوق خط الاستواء ويتساوى نصفا الكرة الشمالي والجنوبي في ساعات النهار والليل، وكل كواكب النظام الشمسي لديها هذه الاعتدالات عندما يؤدي مدار الكوكب وميله بالنسبة للشمس إلى تلقي كلا نصفي الكوكب كميات متساوية تقريبا من الضوء، والأعتدال ظاهرة فريدة يكون خلالها نهار وليل الأرض متساويين في الطول مما ينتج عنه 12 ساعة من ضوء النهار و12 ساعة من الليل في كل جزء من أجزاء الأرض وهذا ليس بحال الأيام الأخرى من السنة، حيث يتسبب ميل محور دوران الأرض حول الشمس بزاوية 23.5 درجة؛ في اختلاف طول النهار والليل وذلك حسب فصول السنة والموقع الجغرافي – الفلكي لأقسام الأرض.3641 الربيع

في الوقت الذي يبدأ فيه الربيع بفعل الدفء الناتج عن ميل محور الأرض نحو الشمس يتأثر الطقس في كثير من مناطق العالم بظواهر غير مستقرة ويرتبط ذلك بمجموعة من الاتجاهات المتعلقة بدورات وظواهر جوية طويلة المدى تحدِّثها التيارات القادمة عبر المحيطات والمرتبطة بتغير درجة حرارة المحيطات ذاتها كظاهرتي (النينو، والتذبذب الجنوبي) اللتين تم بصددهما إجراء العديد من الأبحاث العلمية الجغرافية والجيوفيزيائيه، ويشهد الطقس خلال فصل الربيع حالة من عدم الاستقرار وذلك عندما يبدأ الهواء الدافئ في الهبوب من وقت لآخر من المناطق القريبة من خط الاستواء بينما لا يزال الهواء البارد يهب أيضاً من المنطقة القطبية وهذا ما يؤدي الى حدوث الفيضانات في المناطق الجبلية وبالقرب منها بفعل مياه الثلوج الذائبة، وفي الولايات المتحدة وتحديداً في المنطقة التي يطلق عليها زقاق الأعاصير تكون أعاصير (التُرنادو) أكثر نشاطًا في هذا الوقت من العام لأن سلسة جبال روكي في الغرب تمنع الكتل الهوائية المتدفقة سواء الباردة أم الدافئة من التدفق شرقًا وتدفعها بدلاً من ذلك إلى التصادم المباشر مع بعضها البعض، كما تهب رياح عاتية للغاية وعواصف رعدية عملاقة.[1]3642 الربيع

الربيع تجديد لكل المخلوقات

يرتبط مفهوم فصل الربيع مناخيا بمجموعة من الظواهر مثل تفتح زهور العديد من الفصائل النباتية، وتزايد الأنشطة الحيوانية كالهجرة والتزاوج، ويُنْظر للربيع على أنه وقت النمو والتجديد والنشاط والحيوية لكافة المخلوقات بما في ذلك النباتات والحيوانات وهنالك ارتباط وثيق بين جميع الكائنات الحية في هذا الفصل كالتكاثر وأُزهار النباتات، كما أن خروج الإنسان من الظروف التي يواجهها في الشتاء واستقباله للربيع يمنحه الكثير من الراحة النفسية لتعرضة لأشعة الشمس في الربيع والتي تؤثر إيجابيا على الدماغ من خلال تحفيز إفراز هرمونات السعادة والشعور بالراحة النفسية، لذلك ارتبط الربيع بالحب عبر التاريخ من خلال الأدب والرسم والموسيقى، وكانت أسباب هذا الارتباط مجهولة؛ فهل لما يحدث علاقة بتفتّح الأزهار وانتشارها أم بسبب أشعة الشمس الساطعة؟ وهل يدعو الربيع الانسان للحُب والعشق فعلا أم ان ذلك وهما؟ أم أن هناك علاقة سحرية تربط بينهما، ان مشاهد تفتح أزهار الأشجار وعودة الطيور المهاجرة وزيادة ساعات النهار وزرقة السماء وغروب الشمس الرائع مع انعكاس أشعتها؛ تبعث الأمل والطاقة والحيوية في النفس البشرية ولهذا يصبح الربيع بطبيعته الخلابة بمثابة أرض خصبة للمحبة بمعناها الواسع، ويعد فصل الربيع فصلَ الراحة والجمال والحياة حيثُ تكثر فيه الرحلات والنزهات والسفر لكونه معتدلاً بين الحرارة والبرودة.

الربيع والحضارات

نظرا لأنتشار ما يقرب من ثلاثة ارباع سكان العالم في النصف الشمالي لكوكب الأرض بسبب سعة اليابسة لتعدد القارات؛ فأن ابتهاجهم بقدوم الربيع اكتسب أهمية عظمى لخروجهم من قسوة الشتاء نحو الحياة المتجددة، لذلك فأن سكان العالم القديم لم تكن أحاسيسهم وعواطفهم وأفراحهم تختلف عما لدينا اليوم من مشاعر حين قدوم الربيع والخضرة والزرع والورود والثمار والنسيم المُعطر بروائح الزهور البرية التي تملأ الوديان والجبال والسهول والمراعي الخضراء التي ستطعم كل الكائنات الحية، لذلك فأن كل شعوب العالم قد إحتفلت بقدوم الربيع بشكل من الأشكال وهذا كان معروفاً منذ الأزمنة القديمة لبلاد ما بين النهرين؛ فقد إحتفل السومريين بأعياد الربيع منذ عصر (أريدو-5300 ق.م) باسم (زاكموك) وكان يُحتفل به مرتين خلال العام الواحد في الربيع والخريف، أما الساميون الذين سكنوا العراق القديم فقد إختاروا له تسمية (أكيتو) وتعني (الحياة) في اللغة السريانية الآرامية، كما إحتفل بالربيع في مدن (أريدو، أور، لكش، كيش، أوروك)، لقد كان (زاكموك و أكيتو) عيدين رئيسيين؛ فالاول هو عيد الإحتفال بحصاد الشعير، وكان الثاني في جذوره القديمة الأولى عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام ويُمثل رأس السنة الجديدة (الإعتدال الربيعي)، وهكذا راح البابليون يحتفلون بعيد الأكيتو في اليوم الأول من شهر نيسان (نيسانو) والذي يعني بالعربية (نيشان) بمعنى الأشارة/ العلامة على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب.

ربط الانسان تأريخيا فصل الربيع بمناسبات أحتفالية محلية وعامة قد تمتد لأكثر من يوم ولكل بلد طريقته الفريدة في الترحيب بالموسم الجديد سواء كان ذلك من خلال مهرجان أو موكب أو وجبة جماعية، ومن مناسبات الربيع؛ يوم الأمّ الذي يأتي في أول يوم من أيام فصل الربيع من كلّ عام أي يوم 21 أذار، وعيد الربيع، وعيد النوروز، واليوم العالمي للمياة  يوم 22 أذار،  ويوم العمّال الذي اختيرَ بأنْ يكون في اليوم الأول من مايس لأعتبار هذا اليوم بمثابة مرحلة انتقاليّة بين فصول السنة، وعيد الفصح المجيد الذي يعتبرُ من أهمّ الأعياد الدينيّة المسيحيّة.

عيد شم النسيم: يرجع الإحتفال بعيد شم النسيم المصري إلى (2700 ق.م) وبالتحديد إلى أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة، ويرمز إلى بعث الحياة لاعتقادهم بانه أول الزمان وبداية خلق العالم، وترجع تسمية (شم النسيم) إلى لفظة شمو الفرعونية، وقد أجمع المصريون باختلاف معتقداتهم على تعظيم شم النسيم ولا يزال الجميع في مصر يحتفل به حتى يومنا هذا، كما ارتبطت تسمية شم النسيم بالتقويم الزراعي المصري.

عيد الربيع الصينيّ: يعدُّ من أشهر الأعياد التقليديّة، ويطلق عليه أيضاً رأس السنة القمريّة الجديدة، وعيد لم الشمل، وتعود جذوره الى ثلاثة الاف سنة، كما يحتفل به في الكوريتين وتايلاند وميانمار ولاوس. أما عيد الربيع الياباني سيتسوبون فيكون أيام 2و3و4 شباط.

عيد الربيع في الدولة العربية الأسلامية العباسية:

أعتبرت الخلافة العباسية ببغداد يوم الربيع/ نوروز بداية لسنة جديدة من النواحي المالية والإدارية وأسناد المناصب وتعيين القادة ومنح الأوسمة والخلع والهدايا وعموم التكريم. وكانت المظاهر الجميلة لعيد الربيع في بغداد زمن العباسيين جلية للعيان وتمثلها زينة البيوت بمختلف أنواع الورد والرياحين وقد ملأت الأرجاء بعبق رائحتها الزكية، ومثل ذلك أعلى دلالة لمعاني الود ومشاعر الأخاء والمحبة، وكانت عادة التألق والتأنق في الأزياء ظاهرة ملموسة لدى الاسر البغدادية، كما كانت حدائق قصور الخلفاء مزهوة بحدائق الورد الجميل، لقد كان عيد الربيع في بغداد خلال العهد العباسي اكثر الاعياد جاذبية ورونقا فقد غدا الاحتفال بالعيد عندهم كارنفالا عظيما وتمتد ايامه نحو أسبوعين وكانت مظاهره متجلية في افراح الناس وتزيين بيوتهم بالوان مختلفة من الورد والأزاهير التي تملئ الاجواء بعطرها الفواح وهذا ما مثل باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال ولذلك أنشد ابن الجهم صادحا؛ (لم يضحك الورد إلا حين أعجبه.. حسن الرياض وصوت الطائر الغرد).

في عاصمة العباسيين الثانية سرمن رأى/ سامراء؛ وأثناء خلافة المتوكل على الله و ولده المعتز(869-841 م)؛ أنشد البحتري قصيدة الربيع مبتهجا ومسرورا بحلول فصل الربيع في سرمن رأى ومطلعها؛ (أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا . . من الحسن حتى كاد أن يتكلما).

عيد نوروز عند الفرس المجوس:

كان (نوروز) عند الفرس متجليا طبقا لتقاليدهم المتوارثة منذ القدم في الخروج الى الغابات الكثيفة قبل يوم لجمع الاحطاب ليشكلو منها اهرامات عالية وعندما تشتعل النيران تبدأ جماعات المجوس في هذا الجو الساخن والوهج الساطع بالرقص بملابس العيد الزاهية حول الكتل المشتعلة مغتبطين مبتهجين. أما عيد (نيروز) الفارسي في 21 أذار فعد العيد القومي ويوم الإعتدال الربيعي ورأس السنة الفارسية في إيران، حيث تُعطل فيهِ كل الجهات الحكومية والأهلية إعتباراً من 20 آذار ولمدة خمسة أيام،  كما تُعطل لمدة أربعة عشر يوماً كافة المدارس والجامعات.

في مصر أطلقوا عليه تسمية نيروز القبطي، كما يحتفل به الأكراد يوم 21 أذار عيدا قوميا، وفي سورية عيد الربيع الشامي، ويحتفل به اليزيديون في شمال العراق تحت تسمية سري صال في الأول من نيسان، ويحتفل بهذا العيد سريان العراق المسيحيين في الأول من نيسان وكذلك الصابئة المندائيين في العراق. أما نوروز دول آسيا الوسطى؛ فيُحتفل به بالتزامن مع الاعتدال الربيعي 21 أذار، ويرمز هذا اليوم إلى حياة جديدة وتختلف أٍساليب الأحتفال به من بلد إلى آخر.  في سنة 1935 تم تأسيس مهرجان الربيع السنوي (24 نيسان) بمدينة حماة/سوريا،  كما أسس سنة 1969 بمدينة الموصل/العراق مهرجان الربيع السنوي (10 نيسان).3643 الربيع

من الأمثال الشعبيًة المتداولة عالميا عن الاعتدال الربيعي؛  بالإنكليزية/ تأتي الأمطار في أبريل لتجلب زهور مايو،  وبالألمانية/ أبريل يفعل ما يريد،  وبالفرنسية/ في أبريل لا تخلع خيطًا،  وبالإسبانية/ حتى مايو لا تخلع ثوبك، وبالبرتغالية/ في أبريل آلاف المياه، وبالإيطالية/ الربيع هو موسم الحب،  وبالهولندية/ ربيع جديد صوت جديد، وباليابانية/ نصف ساعة في مساء الربيع تساوي ألف قطعة ذهب، وبالروسية/ للحروف الحسنى صوت مثل يوم ربيعي، وباالصينية/ في الربيع يكون هناك أوركيد، وبالكورية/ البرد يحسد الزهرة.[2]

***

ا. د. مجيد ملوك السامرائي - جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

1.https://web.archive.org/web/20171222051209/

2.https://www.alaraby.co.uk/6-

 

- مَن ذا أبو عدنانَ، أصَديقٌ لكَ هو أم نديمٌ، أم هو لكَ صَاحبٌ حميمٌ بودٍّ وحنان؟

- ليتني تَحَلَّيتُ بصُحبتِهِ في هذهِ، وتَجَلَّيتُ بصُحبتِهِ يومَ هَولِ صِراط فتَّان، بل أبو عَدنان هذا هوَ شَيخٌ أميٌّ تَناوشَ الثَّمانينَ وعَليها اثنان. ولقد قعَدتُ وإيَّاهُ ولا غيرَنا مَعنا في المَكان، جلَسنا أسفلَ منبرِ المَسجدِ فإصَّعَدنا مُحَلِّقِين في العَنان، فَفَقَدنا ساعتَئذٍ حقائقَ المكان وفَقَدَتنا دَقائقُ الزَّمان. أبو عَدنانَ هذا هوَ رجلٌ عَن عِبادةِ خَالقِهِ لا يَسأمُ ولها مُتَعَطِّشٌ ظَمآن، وتَريْنَهُ عَن بعدٍ بهيئةِ رَاكعٍ وَلهان، فظَهرُهُ مُحدَودَبٌ كعُرجون نخلةٍ في بُستان، ذاكَ انَّهُ يأبى الصَّلاةَ قاعِداً إلّا بهيئةِ قائِمٍ هَيمان، إنَّهُ القائِمُ بأمرِ اللهِ ﷻ المُتَنَسِّكُ الرّهبان. هكذا أحسَبهُ وذلكَ هوَ وصفُ أبي عَدنان.

ثُمَّ إنّي قد قَصَفتُ بسَهمِ سؤالي مُقلَةَ عينِهِ المُفعَمَةِ بالأمان؛

"إيهٍ أبا عدنانَ، كيفَ لكَ أن تَعبُدَ مَعبوداً بذا حَنانٍ، وتناجيَ رَبَّاً مَخفِيّاً فيما وراءَ سُحبٍ ودُخان"؟

فبَرَقَتْ في أبي عدنانَ المٌقلتَان، وردَّنيَ أبو عدنانَ بفزعٍ غيرِ ذي جَزعٍ وافتنان؛3618 علي الجنابي

"ويْسَ مَسمَعي وما سَمِعَ منِ استِبيان! أفلا أعبدُ ربيَ اللهَ، الفاطِرَ أهلَ التَّقوى والغُفران، خَالقي المُهيمنُ الحَكيمُ الرَّحمَن ﷻ".

فرَدَدتُ مِن فَوري بِشَماتَةٍ على أبي عَدنانَ؛

"مادامَ رَبُّكَ مُهيمنٌ حكيمٌ رَحمن، ويرجو منكَ تَعبّداً كلَّ حينٍ وآن، وأرسلَ لكَ رسولاً يَصدَحَ في أُذُنِكَ سبعةَ أيامٍ بخَمسٍ من آذان، فلمَ إذاً كتبَ عليكَ المَوتَ ولم يَجعلْ التَعَبُّدَ بتأبيدِ أعوامٍ رَغدٍ وسَعدٍ حِسان، وما مِن حَاجةَ لقَصِّ قَصَصِ استخلافٍ وشَجرةِ تَخليدٍ وإغواءِ شَيطان"؟

واهٍ!

قد غَمَّتْ غُيومُ سؤالي نَظَرَةً لأبي عدنان نقيةَ اللَّمعَان، وتِيكَ نظرَةٌ من مَنابِع ربِّها مُستَلهِمةٌ لِلمَعَان، بل قد سَمَّتْ سمومُ سُؤالي نبرَةً لأبي عدنان تَقيةَ المَعان، وذيكَ نبَرَةٌ بينَ أصَابِع ربِّها مُستَسلِمةٌ بأمان، وبَدَا ليَ لومضَةٍ أنَّ أبا عدنانَ كأنَّهُ حَيرانٌ بما أملَيتُ عَليهِ من تِبيان، وللمضةٍ كأنَّيَ أفحَمتُ فؤادَهُ بما أقحَمتُ فيهِ من غثاءٍ وغَثيان. ثُمَّ مُتَبسِّماً هَمْهَمَ أبو عدنانَ بخَلجَاتِهِ بعدَما لَمْلَمَ دَمعتَينِ من مُقلتَيهِ على وجنتَيهِ نَزلَتا بإيمان، ثمَّ مثلُهُ أنا مِن مُقلَتيَّ على وَجنَتيَّ نَزَلَت دَمعَتان...

لاريبَ أنَّهُما مِن أبي عدنانَ دمعَتا خُشُوعٍ وإيمان، ولكن أكانت دَمعتايَ عن تَعاطفٍ مَعهُ أم كانتا عن إيمان. لستُ أدري يا نُمَيلَتي ومُحالٌ عليَّ أن أحيطَ بما في نفسي مِن شَأنٍ وشَنآن. وأظنُّ أنَّ التَّعاطفَ هو الأقربُ فلومَا دمعتاهُ لمَا نزَلتْ من عينيَّ الدَّمعَتان...

وهل يَتَنَزَّلُ الدَّمعُ من فُؤادٍ رحَّالٍ ما بينَ بينَ خوضٍ وبُهتان.

هَمَسَ ليَ أبو عدنان بلهجةِ قُرويٍّ من ريفٍ وبِوِدٍّ وحنان؛

"لا أدري يا أُخَيَّ، بيدَ أنّيَ أعلمُ أنَّ رَبِّي ﷻ غَنيٌّ رَحيمٌ بالإنسَان، وأنَّ ٱللَّهَ یُرِیدُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡنا وَیُرِیدُ ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَ ٰ⁠تِ أَن نَميلَ مَیۡلًا عَظِیمࣰا بِخُذلان. یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنَّا وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا ما بينَ هَوانٍ وطُغيان، وما مِن أحدٍ على ظَهرِها إلّا وهوَ فقيرٌ لِرَحماتٍ مِنَ الغَنيِّ بهَديٍ ودَرْس، ولبرَكاتٍ مِنهُ حين يَضُنُّ الغَرْس، ولعَطفٍ بشفاءٍ حينَ يأنُّ الضِّرْس، ولِلُطفٍ منهُ بوجاءٍ حينَ يَرنُّ التَّرْس بعُدوان. أنا لا أدري يا أُخيَّ بيدَ انّي أعلمُ أنَّهُ هوَ الغَنٍيُّ ﷻ عن شَجرٍ وحَجَرٍ وعنِ حَيوان، وعنِ مَلَكٍ وجَانٍّ وإنسَان". ثُمَّ تَنَهدَ أبو عدنانَ..

"أوَتُسائلُني أخيَّ لمَ إذاً كتبَ ﷻ عليَّ المَوتَ ولم يَجعلْها ألفَ ألفَ عامٍ رَغداً حِسان. لا أعرفُ أُخيّ، رُبَما رَحمتُهُ ﷻ صَيَّرتِ الالفَ ألفَ مِئةً بنقصَان، لكيلا يَجعلَ في الدِّينِ من حَرَجٍ وفينا العاجِزُ والمُستَضعَفُ والكَسلان. ثُمَّ يَتَوفانا ﷻ فيَجعلُها عندَهُ هنالكَ سَرمداً في الجنان، فيرويَنا ﷻ مِن كَوثرٍ رَيّان، ويأويَنا على سُرُرٍ مَرفوعةٍ مع حُورٍ حِسان، في غُرَفٍ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٍ عاليةِ البُنيان، ويُمْدِدَنا من لَدنهُ بفاكهةٍ ونخلٍ ورمَّان، وقبلَ كلّ أولئكَ سَوفَ يَهَبُنا ﷻ نعمةَ عَفوٍ وغفرانٍ، ثمَّ تأتي منهُ سبحانَهُ المِنَّةُ الكبرى وتلكَ هيَ مِنَّةُ الرِّضوانِ، ويَومَئذٍ وحَسب تَسعدُ النَّفسُ المُطمَئِنةُ السَّعادةَ الحقَّ بأمان، ولسَوفَ نَعبدُهُ جميعاً هنالكَ عبادةَ أنبياء أخيارٍ بإمتِنان، لا عبادةَ أغنياءَ تجّارٍ بإفتِنَان، وستَعلمُ النَّفسُ أنَّ السَّعادَةَ في الأولى ما كانَت إلّا هَوسَاً وهَلسَاً وطَلسَاً أسوداً في حالكٍ من دُخان".

- قد أتاكَ أبو عدنانَ بجَوابٍ يا سَيِّدي من القُرآن. ولقد سَمِعتُ المذياعَ في غُروبٍ يصدحُ بآيةٍ في جَوِّ هذا البستَان، يَشرَحُ فيها الرَّحمنُ بلطَيفِ البَيان؛

"مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "،

ولعمري إنَّ هذا لخِطابٌ كَريمِ منَ القرآنِ، قد أتَى هُنا ليَنفيَ شَنَّةَ العَبادةِ ويَضفيَ مِنَّةَ اللهِ ﷻ عليكُم بإحسَان، وما بَدا هَهُنا أنَّهُ خِطابُ أوامِرَ مِن عباداتٍ بل كتابُ بَشائِرَ مِن رَحماتِ تُضفي بهَديٍ مُنيرٍ وشَرحٍ للدَّرْس، مثلما أَنبَأَكَ مِن قبلُ أبو عدنانَ بنَبيلِ هَمْس، كي تَتَكاثَرَ فيكمُ البرَكاتُ والقطفُ بهناءٍ حين يَضُنُّ الغَرْس ، وتَتَناثَرُ العافياتُ والعَطفُ بشفاءٍ حينَ يأنُّ الضّرْس، وتَتَواتَرُ الانتصاراتُ بلُطفٍ وبهاءٍ حينَ يَرنُّ التَّرْس. بينَما أمَدُ ما فُرِضَ في الكتابِ عَليكم من نُسُكٍ لا يَستَغرق في اليومِ إلّا كعَطسةِ رَضيعٍ في طَستِ غَطْس. نُسُكٌ عَفيفٌ أنزِلَ من فوقِ سَمواتٍ ذاتِ حُبُكٍ وحَرس. نُسُكٌ خَفيفٌ لكنَّهُ شَريفٌ ومُفَصَّلٌ عَلَىٰ عِلْمٍ، وهو هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالحقِّ وينأوْنَ عمّا هو عَكْس.

***

علي الجنابي

.....................

* النص هو صفحة مقتطعة من كتابي "حواري مع صديقتيَ النملة".

 

صدر للمؤلف والكاتب كنعان مكية رواية "الصخرة " في عام ٢٠٠٠ م وتمّت ترجمتها عام ٢٠٢٢ م عن دار الجمل الى العربية على يد الاستاذ الدكتور "سليم سوزه" وتعتبر رواية "الصخرة" احدث روايات مكية بعد روايته "الفتنة"

كنعان مكية هو معماري أكاديمي عراقي من مواليد مدينة بغداد، العراق عام 1949 م. حصل على الجنسية البريطانية عام 1982 م.

الصخرة: رواية ذات طابع تأريخي تُجسد مجموعة من الأحاديث والروايات وربما الأساطير الميثولوجية حول " القدس" والصخرة المقدسة في القرن الاول الهجري.

نُشرت هذه الرواية باللغة الإنكليزية في: "مؤسسة الدراسات الفلسطينية".

تلك الراوية تجمع بين ثلاثية الأديان التوحيدية (اليهودية، المسيحية، الأسلامية) ضمن سياقها التأريخي والروايات الواردة والاحاديث والأبحاث التي تمحورت حول ثنائيتين (صخرة بيت المقدس) وصخرة (مكة) الحجر الاسود.

جسم الرواية: صنعه مكية على ثلاثة اقطاب استنبط منها حكايته مدعومة اقطابه الثلاثة بالأدلة التاريخية التي وضعها ضمن مُلحق روايته " المصادر " وتلك هي نفسها الثلاثية الانفة الذكر لكن تتجسد ضمن سياق الشخصيات لتتمحور في نتيجتها الى ثلاثيّة الأديان التوحيدية، فالقطب اليهودي الذي مثله كعب الأحبار وتفاصيل اسلامه وسردياته التأريخية للنص الذي يعتمده القاص حول قُدسية الصخرة، بل حول روايات الكون والخلق وادم والأنبياء، كعب الذي يروي عنه ابنه "اسحاق " اخذ يتمظهر بالراوية وكأنه يتحدث عن الديانة اليهودية والذي اكده مكية بالمصادر التأريخية، ثم القطب الاخر المتمثل " صفرينيوس " الذي مثل النصرانية " المسيحية " ومن ثم القطب الإسلامي الذي مثلته شخصيات عدة ابتداءا من محمد الى الخلفاء ونهاية بـ عبد الملك بن مروان، وضع صاحب الرواية الخليفة " عمر بن الخطاب " ضمن السياق الزمني للحدث في تلك الراوية كون المصادر تُشير الى ذلك من خلال فتحه بيت المقدس، كما هو الحال مع عبد الملك بن مروان الذي شيد بنيانه هناك.

{بثلاثيّة الأقطاب هذه مثل ثلاثية الاديان التوحيديّة}.

تمحورت الراوية وفق تلك الثلاثيّة على مناقشة اشكالية متمثلة " بالصخرة " التي في بيت المقدس بفلسطين، ومايدور حولها من احاديث وروايات أو اساطير. وأيضاً حول الحجر الاسود في مكة وما تدور حوله الروايات.

واضعاً جميع التحولات التأريخية ضمن نسقها التأريخي وفقاً للمصادر.حتى قبل الهجرة وما تضمنته روايته من حروب الرومان وقسطنيطن على اليهود، مرورًا بالغزو البابلي..

هكذا شكل مكيّة بناء روايتهِ ضمن انساقٍ متعددة ركزت ثلاثيّة الاديان التوحيديّة تمظهراتها في ابطال الرواية، ومركز الرواية الذي تتبع " الصخرتين".

يقول مكية ان بطل الراوية هي " الصخرة " وانا اقول ان أبطال الرواية هم الديانات التوحيديّة ومركز الراوية هو " الصخرة " وربما الصخرتين، احدهما كان نيترون والآخر إليكترون الفعل الفيزيائي المُحرك للراوية.3607 رواية الصخرة

الراوية من منظور قارئ: هذّه الرواية التي تقع في حدود ٥٠٠ صفحة مع المصادر والملحق، في أول قراءتها تعتقد انها تتكلم عن خيال تأريخي او ملحمة من الملاحم الأسطورية، وما ان تغادرها عند النهاية، تجد ان الكاتب قد وضع مصادرهُ بجميع تفاصيلها مستندًا على تلك المصادر المستفيضة في طرح الآراء للديانات الثلاثة حول " صخرة بيت المقدس " ومن ثم حول " الحجر الاسود " داعمًا سرديته بتلك المصادر، لم يصيب القارئ اي شعور بالملل وهو يحتضن سطور هذه الرواية وكأنه يعيشها بلحظاتها التأريخية راجعًا الى الماضي بقرونٍ خلت.

وكأنه احد ابطال رواية "الصخرة" المكلفين اما بإكتشاف الحقيقة، او بصيانة ما تم تحقيقه، أو بمحاكمة تلك الحقيقة، وإرجاعها اما إلى الذهول، او الى اللامعقول او لربما الى الخرافات!.

جسدت الراوية الانتقالات التأريخية بصورة مركزة وممتعة جدًا للواقع الاسلامي للنبي و بعد وفاة النبي محمد (ص) والانتقال الى الخلافة وكيف سارت الخلافة الى بنو أمية وما فعلوا؟.

حيرة تنتابُ القارئ وهو يبحثُ بين سطور الصخرة على ملاذٍ منطقي يُشبع له تساؤلاتهُ الماضية والحاضرة، عن جميع انواع الصراع الذي قادته البشرية من اجل تلك الصخرة! فحرب العقائد لازالت، لم تموتَ بعد.

الصخرة من منظور نقدي:

تتلائم رواية كنعان مكية ضمن سلسلة الروايات التي تحمّل الإثارة في متونها غير المحتوية على النسق الدرامي، لكنها ضمن الأثارة التأريخية تحوي جانباً من الاكتشاف الذي يحمل الاستغراب. السردية في الراوية جميلة ومتنوعة تكاد تكون سردية لكاتب مؤرخ يحكي قصص القرون الغابرة ضمن احداثٍ متسلسلة وضعها في سياقٍ قصصي، فالأصلح وانت تقرأها كانك تقرأ كتابًا للتأريخ منضدة متونهُ ضمن فصول.

الذي يميزها كونها "رواية " لسانُ حال الراوي (اسحاق بن كعب) و هو محور لسان النُطقِ بالاحداث والسردية والحواريّة لاغيره.

يتراءى لي انني اقرأ شيئًا مشابها لنصوصِ " دان بروان " وهو المؤلف الأمريكي لقصص الخيال والإثارة الممزوجةبطابع علمي وفلسفي حديث بأسلوب مشوق، كـ شيفرة دا فينشي.

سبقت هذا العمل الروائي رواية اخرى تحمل نفس المضمون لكن اكيد لا تحمل نفس المتن والصناعة والحرفة فلكل رواية متنُها وسرديتها التأريخية وبراعة كاتبها، تختلف ضمن وحدة الموضوع والشخصيات والهدف و هي: (صخرةأورشليم للدكتور مروان العلان) قصة الصخرة التي تقبع تحت القبة حاليا.

الراوية والترجمة: عقد المترجم فصلًا في ايضاح طبيعة ترجمة هذه الرواية والصعوبات التي واجهتهُ وكمية البحث التي استند عليها في اظهار النصوص الاصلية كماهي من اللغة الإنكليزية الى اللغة العربية، علمًا ان الرواية مترجمة أيضًا للتركية، لكن صاحب الترجمة العربية الاستاذ الدكتور " سليم سوزه " وضع بما لايقطع الشك كمية الدقة والجهد والبحث والتنقيب واللغة الممكن صيانتها ضمن الجو التأريخي للقرون الماضية لإيصالها بشكلها الحالي الى القارئ وهذا ما اكده كنعان مكية في فصل الملحقات والمصادر ايضًا.

الصخرة والفتنة:

هل لنا ان نقارن الفتنة أو جمهورية الخوف باعتبارها ابرز روايات مكية بهذه الرواية؟

الصخرة تتفرد وتنفرد عن سلسلة احداث الروايتين السابقتين بعدة اسباب، اهما العمق التأريخي الغابر لأحداث رواية الصخرة عبر قرونٍ خلت، وكيف استطاعَ الراوي ان يُثير شعلة النور على هذا الماضي السحيق وكيف ازال رماد الحروب وغبار الزمان عن حكاية تتناولها الروايات والاساطير والمعتقدات الى يومنا هذا، بل تتبلور على ضوئها الصناعة السياسيّة والقرارات وحتى العلاقات الدبلوماسية…

فالصخرة من هذا الجانب تتفوق تأريخيا على الروايتين السابقتين من حيث حساسية الحدث ودقة الموضوع وزمكانية الصراع.

تتحد: للرواية سرٌ اخر تتحد فيه مع افقٍ سياسي ماضي وحاضر، وضع شكله ومضمونه وارسى مبادئه حراس المعبد ورهبان الكنسية وأوصياء الكعبة ضمن معقولية او لا معقولية اتحاد الديانات الثلاث.

والصراع المرير الذي يقود العالم اليوم ماهو الا جزء من صراعٍ دام لقرونٍ خلت، كان أولها هزيمة اليهود على يد النصرانية " الرومان" الذين نسوا تلك الهزيمة واختاروا عدوًا اخر لها!

***

انور الموسوي

 

المدينة عندها مجال شاسع للنظر والتأمل والجمال.

تبرز المدينة العتيقة أو "البلاد العربي" كما يسميها البعض بمميزات معمارية تعود لتاريخها وتعاقب سكان وحضارات وثقافات حيث كانت الحضن والمكان للتفاعل وهو ما برز في طبيعة تركيبتها المعمارية وعاداتها وتراثها وتقاليدها ومشهدياتها المتعددة شأنها شأن عديد المدن ضمن تشكلات المدينة العربية الاسلامية .. هذا الأمر منح العديد من المبدعين في المجالات الأدبية والفنية التشكيلية مجالات من التماهي معها محاورة ومحاولة للتوغل في عوالمها وجمالها الدفين..

و في هذا السياق كانت اشتغالات الفنانة التشكيلية ايناس لزرق حيث تعددت لوحاتها لرصد هذا البهاء بالمدينة.. ومن هنا وضمن أنشطتها الثقافية والمشاركاتها الفنية التشكيلية في تونس وخارجها تواصل ايناس لزرق نشاطها الفني التشكيلي ضمن عملها الفني حيث تتعدد أعمالها الفنية بين مشاهد من جمال المدينة بسحر امكنتها وأجوائها والتراث والمرأة وقد تعددت مشاركات الفنانة التشكيلية ايناس الأزرق ومنها المعارض الخاصة والجماعية واشتغلت على المرأة وحالاتها والتراث والمدينة وجمال المشاهد في تلوين به الكثير من حميمية الأشياء وجمالية التعاطي وفق تعبيرية بينة تقول بالشغف الكامن في ذات الفنانة بالرسم وعوالمه.. هي المرأة في مشهدية لونية حيث الزخارف وجمال النقوش والاطلالة البهية على موسيقى وايقاع مدينة تونس الجميلة بأزقتها وقبابها وناسها وصخبها القديم الهادئ كموسيقى الأرجاء الناعمة.. (من شرفة بالقلب.. يعلي اللون من شأن دهشاته حيث مدينة ونساء وقباب وحالات شتى لنشيد ملون ندعوه مرارا.. لنسميه الحنين.. وفسحة هذا القلب المكلل بالأغاني.. والشجن المبين..).نعم.. هي فكرة التلوين عندما همت الطفلة بالجمال الكامن في المشاهد.. فمن شباك تنعم هي بالنظر لترى المرأة وهي تحكي خيزا من سيرتها التونسية وقد أمسكت بخيوط اللعبة.. لعبة القول بجمال التفاصيل.. وهي تفعل كل ذلك فانها تفصح عن وجيعتها وحزنها المخفي وشجنها المبين.. هكذا هي الألوان لديها.. نظر وتأمل قتلا للبشاعة والكامن فينا من فوضى وضجيج...ايناس لزرق فنانة تعلي من قيمة الأشياء والمدينة عندها مجال شاسع للنظر والتأمل والجمال..

***

شمس الدين العوني

أغاني رمضان القديمة ما زالت تملك علينا أسماعنا وقلوبنا كلما استمعنا إليها كل عام.. إنها تعيد لأذهاننا أطياف من حياة قديمة لفها ضباب الأيام. لكنني أثق أن نفس هذه الأغاني لها نفس التأثير الوجداني على أبنائنا من الجيل الحالي.. إنها ليست حالة نوستالجيا إذن، وإنما استعادة لحالة متفردة من أجواء رمضانية قديمة أجاد الفن التعبير عنها حتى تحولت لتراث أصيل لم نستطع حتى اليوم تقليده أو تجاوزه.

تلك الحالة من الحنين للفن القديم تفرض سؤالاً جوهرياً حول الحالة الفنية والثقافية قديماً لنقارنها بما نراه اليوم. وهل الثقافة اليوم تطورت وارتقت أم ارتدت وتراجعت؟

لو ألقينا نظرة سريعة على قنوات الفضائيات التي تعد بالمئات، وما تحويه من برامج ودراما وأفلام لوجدنا أنفسنا أمام شلال هادر لا قبل لحواسنا باحتماله؛ ملايين ومليارات يتم ضخها لصناعة إعلامية ذات ميزانيات ضخمة متميزة، وتحولت صناعة الإعلام إلى صناعة كبري مؤثرة مربحة ومتجاوزة للحدود. حتى أن بعض الدول العربية أعادت صياغة هويتها الثقافية من خلال إعلامها وحده. وبات ثقلها الإقليمي مرتبط بثقلها الإعلامي والثقافي!

النظرة العابرة لكل تلك القنوات وما تنتجه يومياً من برامج تتنوع في مضمونها بين الأخبار والرياضة والدراما والأغاني وبرامج التوك شو، كلها غارقة في بحر من الإعلانات المتدفقة على مدار الساعة. ومعلوم أن أرباح القنوات يعتمد في الأساس على تلك الإعلانات التي باتت هي الهدف وهي الرسالة، وكل ما حولها من إنتاج ثقافي يخدم هذا الهدف الأوحد!

معني هذا أن التطور الكبير الذي حدث في الديكورات والإمكانيات والتقنيات لم يتم استخدامه لرفع كفاءة المنتج الفني ورسالته الثقافية، وإنما لخدمة أهداف أخري مادية أو سياسية أو تنافسية وأن التطور الهائل الذي حدث للبرامج والمنتجات الثقافية والفنية والرياضية والدرامية حدث على مستوى الشكل وحجم الإنتاج، بينما تأثر المضمون تأثراً سلبياً وانحدر مستواه رغم كثرة ما يُعرض ويُقدَّم. والدليل أن أكثر المسلسلات والأفلام تكراراً من حيث عرضها هي تلك التي تم إنتاجها قديماً بين الستينيات والتسعينيات من القرن الماضي. فلماذا انحدر مستوي الإنتاج الفني مضموناً وقيمة وتأثيراً رغم كثرة ما يقدم، ورغم أننا لم نعدم المواهب في كل مجالات الإبداع الثقافي والإعلامي من تأليف إلى إخراج إلى تمثيل إلى تلحين إلى هندسة صوت وإضاءة ومونتاج وغيرها من وسائل وأدوات الإنتاج الفني التي تطورت تطوراً مذهلاً غير مسبوق؟!

إشكالية الكيف والكم

المائدة الرمضانية الإعلامية متخمة بعشرات المنتجات المرئية. وعلى رأس تلك المائدة مسلسلات بلغ عددها نحو ثلاثين مسلسلاً!! فمتي وكيف نشاهد كل هذه المسلسلات أو بعضها؟!

المنتجون لا يهتمون بإجابة السؤال ولا يلتفتون إلى حجم المشاهدات بقدر اهتمامهم بتكديس إنتاجهم الدرامي تكديساً في الفضائيات خلال موسم رمضان. وبعض المسلسلات يتم بثها على عدة قنوات. ثم يعاد عرضها نهاراً وليلاً كأنها منهج دراسي ينبغي للجمهور حفظه واسترجاعه مراراً! هكذا صار حجم الإنتاج هو الأهم، وكأننا أمام مصنع لتعليب المنتجات الدرامية بأحجام تكفي لإشباع جمهور فقد شهيته بسبب التخمة التي تسببها مثل تلك المنتجات فائقة الدسامة ثقيلة الهضم!

أذكر أن بعض الزملاء الصحفيين كان دائم السخرية على حالة الإسهال التي انتابت استوديوهات التليفزيون ليتحفنا بعدد هائل من البرامج الرمضانية والسهرات التليفزيونية والمسلسلات الدرامية، ولم يكن لدي التليفزيون حينئذ إلا ثلاث قنوات فقط! فكيف إذا رأي اليوم هذا الكم الضخم من إنتاج يطمر بعضه بعضاً حتى لا تكاد تذكر من كل هذه البرامج والمسلسلات إلا واحداً أو اثنين، والبقية الباقية يدفنها النسيان؟!

يبدو أن هناك علاقة عكسية بين حجم الإنتاج وجودته، ويبدو أن المسئولين عن مثل هذا الإنتاج لم يعد لديهم الوقت الكافي لإعادة النظر في تلك الإشكالية بين الكيف والكم.

نموذج شديد الوضوح

سأضرب مثلاً ببرنامج اشتهر خلال السنوات القليلة الماضية وهو برنامج "صاحبة السعادة" للفنانة إسعاد يونس. وقد بدأت مشوارها في الفن من باب الإذاعة وعملت كمذيعة ماهرة وصحبتها في تلك الرحلة الإعلامية الشهيرة إيناس جوهر. وكلتا المذيعتين وصلتا إلى شهرة كبيرة في مجال الإذاعة، ثم تحولت إسعاد يونس للتمثيل، حتى عادت لمكانها الذي بدأت منه كمذيعة ذات دور ثقافي وخط فكري ميزها عن غيرها من الفنانات.

برنامج صاحبة السعادة لاقي شهرة واسعة، وحقق مشاهدات بالملايين، رغم أنه كان مصاباً بنفس حالة النوستالجيا التي أصابتني. وكثير من حلقات البرنامج استضافت عدداً من نجوم تلك الفترة الذهبية من زمن الفن الجميل. وهو ما يعني أن العودة للماضي هي عودة فرضتها ظروف الفن اليوم، وأن ثمة أشياء تنقص "وصفات" الدراما والإعلام اليوم، وأن مقادير الطبخة الإعلامية الحديثة تنقصها نكهات وتوابل لم تعد متوافرة اليوم. ولهذا تبدو طبخات الفن أحياناً بلا طعم. وأن العودة للماضي هي في الأصل محاولة لاكتشاف سر التركيبة الغائب عن المشهد الإعلامي والثقافي والفني.

إسعاد يونس نفسها تنتمي إلى جيل سابق. وهي تحمل في ذهنها وفي دمها أسرار الطبخة ذات النكهة الأصلية القديمة. ولهذا نجح برنامجها. ثم إن برنامجها، ومثله برامج أخري كبرنامج مني الشاذلي، اهتم بالحوار مع رموز الفن ونجوم الدراما والسينما. وهي تيمة ناجحة لها أمثلة كثيرة في ذاكرة التليفزيون المصري المليئة بالكنوز..

من ذاكرة التليفزيون

نجوم الفن والسينما والغناء أسهموا في إثراء ساحة الإعلام وإبراز أسماء اشتهرت في ساحة الإعلام وباتوا نجوماً من نجومه. وكثير من الإعلاميين البارزين اليوم صعدوا للنجومية من خلال برامج حوارية استضافوا فيها عدداً من نجوم الفن والرياضة والفكر والأدب.

وإذا كنت قد ضربت مثالاً ببرنامج صاحبة السعادة، فإن النماذج الشبيهة له من ذاكرة التليفزيون في رمضان مليئة بأمثلة مشابهة من البرامج والإعلاميين. ولعلنا نذكر المذيع الشهير "طارق حبيب" الذي ارتبط اسمه بشهر رمضان؛ إذ كان يفاجئنا كل عام ببرنامج مختلف في فكرته وطريقة عرضه. وكان للمذيع أسلوب مميز جذاب وبديهة حاضرة أكسبت برامجه تألقاً وجاذبية واشتهر ببرامج مثل: أوتوجراف، واثنين على الهوا، ودوري النجوم، ومن الألف إلى الياء. وكلها ما زال يتمتع بنفس الجاذبية والإمتاع عند إعادة عرضه على بعض القنوات الفضائية واليوتيوب.

تلك الفترة وما قبلها امتازت بعدد كبير من مشاهير الإعلاميين والإعلاميات نعرف منهم مفيد فوزي ورمسيس ومني الحسيني ومدحت شلبي ونجوى إبراهيم وطارق علام وكثيرون غيرهم. وإذا شئنا الحفاظ على الصدارة والتميز في وسط إعلامي عربي ضج بما حواه فإن الأفضل هو التركيز على المضمون والرسالة الثقافية مهما كان الكم قليلاً في سبيل جودة المنتج الثقافي واحتوائه على خلاصة تلك الخبرات المتراكمة في شتي مجالات الإبداع.

أمسيات رمضان الثقافية

من بين البرامج التي اشتهرت قديماً برامج ثقافية جادة نالت شهرة لم تقل عن برامج حوارية وفنية ورياضية. ولعلنا لا ننسي برنامج أمسية ثقافية للشاعر فاروق شوشة. وبرامج تناولت السيرة الذاتية لبعض نجوم الفن كبرنامج (نجوم لها تاريخ) لحسن إمام عمر. وبرنامج (مع النجوم) للكاتب الساخر عبد الله أحمد عبد الله. وبرامج ثقافية وفكرية لعدد من العلماء والأطباء والمتخصصين كبرنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفي محمود، وبرنامج عالم البحار للدكتور حامد جوهر. وبرنامج جولة الكاميرا لهند أبو السعود. كانت جميعها تعتمد في الأساس على موهبة خاصة لمقدمي تلك البرامج. بالإضافة للمحتوي الثقافي الدسم لتلك البرامج بما جعلها تستمر وتصل إلينا ليعاد بثها وعرضها حتى اليوم.

إنني إذ أستعيد ذكري زمن الفكر والفن الجميل فإنني لا أتقمص حالة النوستالجيا، وإنما أحاول لفت انتباه المسئولين وأصحاب الفكر والرأي النافذ لأهمية البحث عن الجوهر والمضمون والموهبة. لأن القيمة الثقافية الحقيقية هي فقط التي تبقي ويُكتب لها الاستمرار والدوام.

***

عبد السلام فاروق

المعروف عن (نوروز) انه يعني في اللغة الكردية (يوم جديدNew day)، فيه تتم الأرض دورتها السنوية حول الشمس، لتبدأ دورة جديدة تدخل فيها شهر الخصب وتجدد الحياة . وفيه تبدأ الافراح استبشاراً بحلول عهد جديد تتحول فيه الطبيعة الى جنة خضراء، يتوجه اليها الناس لمعانقتها وترتدي فيه العائلات الكردية الزي التقليدي المزركش بالألوان الفاتحة والزاهية ،وتصدح فيه ألاهازيج، وتتشابك الأيدي في حلقات رقص ودبكات ومهرجانات غنائية شعبية تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل، تتخللها مقاطع شعرية تتحدث عن الثورات ضد الطغاة،حيث يعدّ نوروز رمزا للتحرر من الظلم والاضطهاد في كردستان وعدد من دول المنطقة.

  واجمل ما يدهشك ان هنالك علاقة بين (نوروز) و(تموز وعشتار). فالمعروف عن حادثة “تموز” أنه في آخر مرة يذهب الى تحت الأرض ثم يأتي الى وجه الأرض كإله، وانه كان يحتفل بموت وحياة “تموز” في وطن سومر، وانه في 21 آذار في كل عام كان السومريون يعقدون احتفالات كبرى في حياة “تموز” ويعرفون هذا اليوم بعيد (زكمك). والحادثة ذاتها ترد في ملحمة الشاعر الكردي الكبير احمدي خان، (مم وزين) حيث يبدأ الملحمة بيوم نوروز 21/ آذار، فهنالك شبه كبير بين قصة (تموز وعشتار) وقصة العاشقين (مم وزين)..اذ تمتليء حياة (مم) بالعذاب والفراق بعد معرفته لحبيبته (زين)..وتصبح حياتهما مشابهة للحياة الكارثية لـ(تموز) الذي يذهب الى الاسفل فيما يودع (زين) في السجن الى الموت.

   ومن اسرار نوروز ان 21 آذار الذي يصادف اليوم الأول من العام الكردي الذي يمتد تاريخه الى 700 سنة قبل الميلاد، كان يوم عيد عند السومريين!، وانهم كانوا يحتفلون به تحت مسمى عيد (زكمك)، وأن (كاوا) الكردي هو (تموز) السومري!.

 فماذا  يعني هذا؟وما الرسالة التي يبعث بها الى من استلموا السلطة بعد 2003؟

 يعني: أننا العرب والكورد شعبان لنا تاريخ مشترك حتى في الطقوس والأساطير والأعياد، وأن نوروز (كاوه) او نوروز (سومر) الذي وحّد العرب والكرد آلآف السنين، سيبقى ينعش مشاعر التآخي بين الشعبين!. ويعني.. ان من هم في السلطة وقادة احزاب وكتل سياسية، عليهم ان يعوا أن الشعبين العربي والكوردي سيبقيان متحابين..اليوم وغدا.

وكل نوروز والعراق بأن ومحبة وسلام.

***

د. قاسم حسين صالح

 

عزيزي القاري هذه بعض الخواطر الفكرية والأدبية الناقدة لبعض الظواهر العامة في المشهد الثقافي عساها تلتقي بما يحول في خاطرك، ولنبدأ بمفهوم الرواية ما بين الغث والسمين:

الرواية الناجحة تحيّد كاتبها المُلْهَمُ لأنها كائن حي مستقل بذاته له هوية واسم وعنوان وقضية، وتتحول كلما امتد بها الزمن إلى بحر يعج بالحياة بكل متناقضاتها، لا بل ويحمل على أمواجه أساطير وملاحم يصنعها عشاق التأمل وصناع الحياة، لذلك يبحث عنها رواد المعرفة وعشاق السندباد، أما الضعيفة التي تُفَصَّلُ على ذوق الناس وشروط لجان التحكيم (أحياناً) وأهواء النقاد المتفذلكين، فلا بد وتتكئ على قدرة كاتبها في فنون الدعاية والتسويق المبتذل، القائم على الاسترجاء والاستمناح، فهي كبركة السباحة التي تُجَدَّدُ مياهُها كلما غشاها عفن الرواد التافهين؛ لذلك تموت إذا ما أُسْعِفَتْ بالاستكتاب وعقد الندوات التي تغمرها المجاملات في كثير من الأحيان إلا من رحم ربي.

***

تجربتي في كتابة المقالة

كتابة المقالة الناجحة تقوم على مواكبة الحدث وتطوراته، والتنقيب عن الأسباب المتوارية، ثم استنباط الأهداف من المستجدات المتنامية، وربطها من ثم بجذور القضية المعنية؛ حتى تتحول إلى رؤية تتسع حدقتها حتى الإشباع، ثم تَضْيَقُّ من أجل أن تتركز عملية إنتاج الفكرة في الخلاصة التي تتضمن رسائل الكاتب وتوصياته لتعم الفائدة.

فالكتابة على هذا النحو مسؤولية فكرية ومعرفية تصاغ بأسلوب يناسبها وفق خبرة الكاتب حتى تمثل رؤيته المتكاملة.

هذه حصيلة خبرة ألفي مقالة تنوعت مواضيعها ما بين النقد الأدبي والسياسة والاقتصاد والفكر، ونشرت في أشهر المواقع والصحف العربية عبر مسيرة عشرين عاما وقمت بتجميعها في أكثر من 15 مخطوطة نشر معظمها إلكترونيا.

***

إذا لم يقرأ الكاتب أكثر مما يكتب فاعلم بأنه سيصاب بالهذيان فيسهل حصاره.

***

قد يفشل الخبير الإقتصادي في إدارة دكان صغير ما لم يستلهم أفكاره من أمزجة أهل الحي وحاجاتهم.. فالعلاقات جزء من أي استثمار.

وقاعدة التفاعل مع الناس تبدأ من مبدأ: حافظ على صديق، إصنع صديق، حيّد عدو.. واجه عدوك بالحوار.. وإلا فامتلك أدواتك قبل المواجهة على أن تترك أبواب التفاهم مواربة.

***

سقراط بجلال قدره فشل في أن يصنع الأمان في بيته، لأنه قضى عمره في إضاءة مصابيح الحكمة والمعرفة للعالم، وترك أهله في العتمة يعمهون!

***

الرداءة نسبية. بقي أن يتفق المبدعون على محدداتها.. فقد يكون قول الفيلسوف إذا انفعل رديئاً.. ووفق ما يعتلف المرياع يفعل قطعان التابعين الذين يغشاهم العمى حينما يقدسون الفيلسوف على علاته.. في المحصلة من أشكال الرداءة في النص المحتوى الهابط..

***

الصراع الطبقي والطائفي والجهوي في ذروته ونتاج ذلك على الأرض يتعاظم، لكن تجربة غزة ولدت خارج الصندوق لذلك تحولت إلى فكرة عالمية مؤثرة، ولأنها أحرجت مواقف التيارات المتناحرة كلامياً تحولوا لمحاولة وأدها، حتى يتخلصوا من العار

***

التفاهة أحياناً تصدر من مفكر يعتقد بأنه محصن من الخطأ فيهرف أحياناً بما لا يعرف.. هذا حمق وبلاهة.

***

ربما لا تجد دار النشر منفعة من المنجز المعني بالنشر، لاعتبارات فنية حتى لو خالفت توجهات المفكر على اعتبار أنه لا حصانة لفيلسوف أو أديب، إلا إذا اعتقد المفكر بأنه إله صغير يمتلك الحصانة ورأيه مطلق ونافذ.. مثل بعض الذين ينخرطون في نقد الأعمال الجيدة دون أدوات فقط من باب الفذلكة لإثبات الذات التي تبحث عن الحجم المفرغ ولو كان بلا محتوى.. يحدث كثيراً.. هؤلاء أصادفهم كثيراً ولكن إهمالهم أحياناً يمنحهم الإيمان بمشاعر السوبرمان..

***

"كيف تكتب" لعبة جميلة نمارسها بعد صلاة التراويح

إنها أجمل لعبة معرفية تحفيزية ناقدة، جمعتنا في بيت الصديق د. رمضان علي المتخصص في اللسانيات في مرج الحمام، وتقوم هذه اللعبة على فهم قواعد اللغة العربية من خلال إحداث بعض الأخطاء اللغوية الدقيقة ومن ثم محاولة الكشف عنها وتصويبها من قبل اللاعبين، تحت عنوان ما بين الخطأ النادر والصواب، يتخلل ذلك حوارات في النقد والأدب وقضايا عامة أخرى لإشغال الوقت بعد صلاة التراويح بما هو مفيد.

للأسف اكتشفنا بأن بعض من يدّعون الكتابة يجهلون مبادئ اللغة إلى درجة أن أحدهم لم يستطع إعراب المنصوب في حالة جمع مذكر السالم. والبعض منهم عهدناهم أثناء كتاباتهم على حساباتهم في الفيسبوك يكتبون بلغة ركيكة وهذا أمر طبيعي جداً، وفجأة تحولوا إلى كتاب هواة، يكتبون بلغة سليمة وإن كانت المواضيع ضحلة، معتمدين في ذلك على برنامج الذكاء الاصطناعي في كتابة النصوص والتعليقات باعترافهم أمامنا بعد أن أحرجتهم أخطاؤهم.

قلنا لأحدهم بأن هذا يعتبر تزويراً، وينم عن عدم الثقة بالنفس وهو لا أخلاقي ما لم يقر صاحب النص بالحقيقة، فمثل هذه التقنيات لا تصنع مثقفين بل تشوه الأسوياء وهي مكشوفة كونها لا تسلط الضوء على جوهر الموضوع، وتعتمد على معلومات قديمة في بناء النصوص بإسلوب إنشائي مكثف ومتشابه في البنية وإن اختلفت في المعلومات بحسب السؤال الموجه للبرنامج، مع أن هناك برامج بوسعها اكتشاف الحقيقة لخطورة ذلك على التعليم الجامعي ولا أريد أن أقول "على الثقافة" وخاصة أولئك الذين يشعرون بالنقص دون مبرر.

فتقبل صاحبُنا ملاحظاتِنا مع أنه مقاول مرموق وحاصل على ماجستير اقتصاد، ويهتم بشؤون الثقافة من باب الإعجاب، حتى أن كلّ من يجتمع به من الأصدقاء يتحول بيته إلى صالون ثقافي لغزارة معرفته في الشؤون العامة.. فهل يحتاج صاحبنا إلى اللغة السليمة حتى يشار إليه بالبنان، فالأجدى بأن يكتب على سليقته فهو ليس في مسابقة لغوية حتى يحاسب على الهنّات اللغوية؟عجبي!.

يوم غد لدينا مجموعة جديدة من الأصدقاء في لقاء سيجمعنا في بيت الصديق المثقف عارف المحسيري ابو محمد في العاشرة مساءً بإذن الله.

***

بائع الخضار إذا كان مزارعاً، قد يحسن تقدير منتجات الأرض، فلا يبخس بها، كما يفعل الدلال في السوق الذي يناور على أقل الأسعار.

***

بقلم: بكر السباتين

20 مارس 2024

بغلة القبور، ومحكمة الشيخ الكامل الليلية.

مدخل أساس: بعيدا عن الملاحظات المعيارية التي تنتقد (الخرافة/ الأسطورة)، أشتغل على لملمة ولو جزء يسير من الأحجيات الشعبية (الشفهية / التراث اللامادي) والتي كانت تؤثث جلسات الأسر التقليدية والشعبية. حيث كانت الجدة والعمة تبدع في الحكي والقصص الخرافية المخيفة... كان الملك سيف ذو يزان ... ورأس الغول... وبغلة القبور من مستملحات الحكايات الشائعة والرائجة ... اليوم أحكي لكم بعض ما ورد من خرافات بغلة القبور... لا أمارس نشر الخرافة، وإنما أبتغي التوثيق فقط لجيل ما بعد (الطابليت) والهاتف الذكي...

من بين الحكايات التي كانت تثير الرعب في الصغار كما في الكبار، قصة بغلة القبور التي كانت تروع أطراف مدينة مكناس ليلا. بغلة القبور حسب ما ورد من حكي شفهي، كانت تحمل مواصفات الحيوان بمتمثلات الإنسان في شقه العلوي، أي أنها خليط في بنيتها الجسمانية. بغلة تسكن قبور الموتى، ولا تخرج إلا ليلا بعد صلاة العشاء، وتعود إلى المقابر وحالتها الأولية قبل بيان الخيط الأبيض من الفجر.

تحكي الحكاية أن كل مقبرة بمكناس، كانت تخرج منها بغلة للقبور ليلا، كانت تلك البغلات يقمن بترويع الساكنة وبعث الخوف فيهم ليلا، وبكل من تجرأ الخروج، أو اضطر إلى البقاء خارج بيته ليلا. وكانت بغلة القبور كما ورد في حكايات عمتي (رحمها الله) امرأة ارتكبت ذنب الحد، وهي في ثوب الحداد الأبيض، فعند موتها وغضبة الله عليها، تم مسخها إلى صفة جنية في هيئة نصف امرأة من بداية العنق وهي تحمل فيما تبقى جسد بغلة، مكبلة بسلاسل غلاظ.

تَصْمُت العمة (رحمها الله)، ونحن في شوق التجمهر حولها لمعرفة طاقة وقوة بغلة القبور. حينها تورد العمة (رحمها الله) أن بغلة القبول كانت تمثل القوة الضاربة في حي الزيتون بمتسع العراسي و خرير السواقي الليلية. كانت تسمع آتية من بعيد وهي تجر رنين سلاسل حديدية. كان الفزع التام يأتي من عيونها التي تشابه لعنة عيون ميدوزا في الأسطورة الإغريقية، فعيونها تشع منهما نيران بركان حارقة لمن يجرأ النظر فيهما بالتحدي !!!

ومن عجيب سلوكيات بغلة القبور أنها كانت رحيمة بالنساء، فلا تؤذي أية امرأة وقعت في طريقها، وبالعكس كانت تستهدف الرجال تنكيلا، وقد تعبث بعقولهم وأجسامهم فيصبحون (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ/ قران كريم/ سورة المنافقون)، بعد ممارسة عملية الإخصاء التام!!!  تبتسم عمتي رحما الله خفيفا وتقول: كانت الزوجة عندما تغضب من زوجها تدعو له بلقاء بغلة القبور في ليلة مظلمة يطول بزوغ فجرها !!! حينها كانت قهقهاتنا تتعالى بيننا !!! كانت انطلاقتها من مقبرة سيدي عياد، وكانت تقف على حوافرها الورائية بدون حدوة عند باب باب كبيش ولا تقدر على تجاوزه ولو لبضعة خطوات. و لا يُعلم سبب عدم تجاوزها لحدود باب كبيش. وحين ضاقت ساكنة حي الزيتون من تصرفات بغلة القبور خاصة في موسم الصيف والحصاد. حملوا شكواهم إلى القيمين عن ضريح الهادي بنعيسى، وعن ضريح سيدي اسعيد.

كانت خصلة النية تُصاحب طيبة ساكنة الزيتون، كانت البركات تُوزع بغباء النية على أقطاب المدينة، كانت العلاقة وثيقة بين الشيخ والمريدين الطيعين الأوفياء. حقيقة كانت تصوراتنا ونحن صغار السن، انعقاد محكمة للجن تشابه محاكم شياطين جبل (شمهروش). كنا نتمثل كل بغلات القبور حاضرة وهي تضع عيونها أرضا احتراما لشيوخ الأضرحة والزوايا. في تلك الليلة تقول عمتي (رحمها الله) كما وصلتها من أخبار متواترة بالزيادة والتحريف والتشويق: حضر الساحة الخلفية لضريح الشيخ الكامل قرب البئر الموالي للمقبرة رموز أولياء الله كل على هيئة وصفة طيور الهدهد، إلى الحمامة، إلى النوق البيضاء والأحصنة التي تشع نورا. كان في تلك الليلة جمع طارئ لرفع الضرر والحد من تجلياته على الساكنة، كان تسمع نقاشات بين من حضر غير مفهومة اللغة بالبيان ، كانت بغلات القبول لا تتحرك ولا تحدث رنينا لتك السلاسل المتدلية منها.

من خوفنا ممن حضر وترأس محاكمة بغلات القبور بمكناس، كنا نسمع إلى حكي العمة (رحمها الله) ونحن في بنج من الحركة والتفكير. انتهت المحكمة قبل أن يصعد مؤذن الفجر لصومعة الضريح. حين نزع الشيخ الكامل سلهامه الشديد البياض، ومرره برفق على رؤوس كل بغلات القبور.كان الصمت يوازي صمت ساكني قبور مقبرة الشيخ. كان الحكم برفع الضرر، والتوسل إلى الله لرفع غضبه عن بغلات القبور، والعودة إلى مقامهن الأخروي بنهاية الظهور، والتعسف على الجنس البشري الحي.

تقول عمتي (رحمها الله) من ذاك اليوم انتهت أحداث بغلة القبور، وباتت تلك الليلة تخلد بالذبيحة الآتية من حي الزيتون عند بوابة الشيخ الكامل وسيدي سعيد. لكنها تركت بصمات حوافرها على باب كبيش على حجرة الرخام المزينة لأطرافه، وبعدها بات النسوة الغاضبات عن أزواجهن يضعن شموعا عند حفرة حوافرها تيمنا ببغلة القبور التي تأخذ الحق من قوة الرجال بالخصي، وعند هدم باب كبيش سوء تدبير وقرار، تحول النسوة إلى حدود اليوم على وضع الشمع في غار بالسور الإسماعيلي قرب الشراشر العلوية.

خاتمة أساس: لن، ولا نمارس تمجيد الخرافة، ولا نتبنى تلك المشعوذات اللاحقة بالموروث (اللامادي) الشفهي مكناس، ولكن نقوم بتجميع مجموعة من الحكايات الخارجة عن سياق المنطق والعقل، أولا لأجل التوثيق والتقاسم، وثانيا لأجل وصل الماضي بالحاضر، وأخذ المسافات البعيدة عن كل الخرافات غير الحقيقية.

 ***

محسن الأكرمين

لا يتكئ الكاتب الناجح والذي يريد أن يحترف الكتابة على موهبته فقط بل يقرأ سير الكتاب العظام و يتعلم منهم أسرار الكتابة ويأخذ بنصائحهم التي تختصر له الطريق تجعله يتسلح بالخبرات الفنية ويمتلك أدوات الكتابة فلا تستغرب إن قلت لك أن الكتابة الآن وخاصة في الغرب صارت تدرس وتعلم في معاهد وتقدم في دورات إبداعية والكتابة قرار يتخذه الكاتب ويتحمل تبعاته يقول جيمس سكوت:

(أنا أتذكَّرُ جيداً اليوم الذي قررتُ فيه أن أكون كاتباً، حيث كَتبتُ في دفترِ يومياتي «اليوم قررتُ أن آخذ الكتابة على مَحمل الجِدّ، وأن أستمرَّ دُون توقف، وأن أتعلَّمَ كلَّ ما يُمكن تَعَلُّمُه لأصبح كاتباً ناجحاً) هذه العبارة أوْردَها “جيمس سكوت” في مقدمة كتابه (الحبكة والهيكل) والذي جعل مقدّمتَه أشبهَ ما تكون بالسيرة الذاتية، لرِحلتِه الشاقة والطويلة لتعلّم صنعة الكتابة" (1)

يعطي  الكاتب  والروائي ومدرب الكتابة الأميركي جيمس سكوت الحائز على جائزة  كريستي للتميز  مجموعة من النصائح الهامة لكل من يريد أن يبدأ مشوار الكتابة نحو الاحترافية والتميُّز، وكانت أول خطوة دعا إليها، هي أن تُحبَّ الكتابة حبا صادقا، وألا تتخلى عنها أبدا مهما حدث، وألا تتنازل عن حُلمِك في أن تصير كاتبا متميزا في يوم من الأيام، ثم أسرد مجموعة من النصائح الأخرى نُجمِلُها في التالي:

* لا تيأس أبدا، وحافظ على معنوياتِك مرتفعة دائما.

* تَمسَّك بِحُلمِك في أن تصير كاتبا ناجحا، وابذُل كل ما في وُسْعِك لتحقيق حُلمك.

* يجب عليك ألا تُعَوِّلَ كثيرا على معرفتِك المحدودة، بل يتوجَّبُ عليك البحث عن الكتب والمدربين المتخصصين في مجال الكتابة، ليساعدوك على تطوير مستواك باستمرار.

* .يجب عليك أن تلتزِمَ بمُخططٍ تدريبيّ جادٍّ ومستمر.

* اجعل مَكتَبَك أو المكان الذي تَكتُبُ فيه مليئا بالمؤشرات الإيجابية.

* اجعل لوحاتٍ على جدران مكتبتِك مكتوبٌ عليها عباراتٍ وأقوالٍ تُحبِّبُكَ في الكتابة.

* انسخ أقوال مشاهير الكُتَّـابِ وصُوَّرِهم وزَيِّــن بها مكتبتك.

* جعل أيَّ يشيء في مُحترَفِك الكتابي يدل على حُبِّك للكتابة، ويجدد فيك باستمرار حُبَّ الوصول إلى هدفِك

* أكتب عباراتٍ تحفيزية واجعلها خلفية لشاشة حاسوبك.

* اقرأ للكُتَّـاب المشاهير، واقتنِ الكُتب الأكثر مبيعا في العالم.

* عندما تشعر أنك تحتاج إلى الكتابة افعل ذلك مباشرة وبدون رسميات، ولا تهتم بما تكتب، المهم أن تُمرِّن نفسك على عملية الكتابة.

* لا تقلق بشأن كتاباتِك السابقة التي تبدو لك غيرَ ذي جدوى، اعتبرها خواطرا أو مجرد انسكابٍ حرٍّ على الورق. وستكتشف الفقر الإيجابيَّ مع مرور الزمن.

* عندما تحس أن ما تكتبه قاصرٌ وناقص، فاعلم أن مُستواك يتحسن وأنك بدأت تلاحظ الفرق بين كتاباتِك القديمة والحديثة.

* لا تكتب وأنت قلق أو متوتر أو متشنج، الكتابة في هذه الحالة تكون متدنية على جميع المستويات.

* حدد لنفسك حصةً مَعلومة للكتابة كل يوم، وانضبط معها، وإذا أهملتْ الكتابة يوما لسبب من الأسباب، فلابد أن تعوضه. هذه الطريقة ستختصر عليك الوقت، وستجد نفسك من الكُتَّــاب المكثرين في وقت قياسي.

* حافظ على الاستمرارية والإصرار على الكتابة، ولا تستسلم أبدا.

إذا أردت عزيزي الكاتب أن تكون ناجحا في كتابتك فاستمر ولا تنقطع عن الكتابة فهناك فرق بين الكاتب الناجح و غير الناجح ..

"الفرق بين الكاتب الناجح والكاتب غير الناجح يكمن في الإستمرار والإصرار على الكتابة. فهناك فيلق من كُتاب الرواية الذين ظلوا لسنوات لا يلاقون أي قبول. ولكنهم واصلوا الكتابة واستمروا لأنهم يحتضنون في داخلهم كُتّاباً. وهذا هو ما أنت عليه الآن. وذلك هو ما أنت بصدده إزاء هذا الكتاب. فعندما أصادف أي من تلاميذي الكُتاب أكرر كلمتين (واصل الكتابة). وهذه هي أفضل نصيحة. فهل أنت مقتنع بهذه الحقيقة؟ وهل أنت مستعد لتأليف حبكة تجعل القراء يسهرون الليالي؟ تعال معي لأريك كيف تفعل ذلك"(2).

***

الكاتب: شدري معمر علي  -الجزائر

.......................

1- الحسن بشوظ ، الكتابة مِن الهِواية إلى الاحتراف، موقع بالعربية.

2- وصايا جيمس سكوت بل، صحيفة الأيام البحرينية.

 

اعتدت في شهر رمضان المبارك من كل عام اختيار كتاب مميز ليضاف إلى قراءاتي الاعتيادية في سائر الأيام.

واخترت هذا العام كتاب (محمد جواد مغنية من التجديد الفقهي إلى الدولة المقاصدية العصرية) لمؤلفه المفكر جواد علي الكسار.

والكتاب من الإصدارات الحديثة لدار الشؤون الثقافية العامة، وهي مشكورة جداً على هذا الإصدار الرائع، ويقع في 535 صفحة من القطع الوزيري، وتضمن معلومات كثيرة ومتنوعة، وأفكار تنويرية راقية، وتجارب حياتية ناضجة، وقد كتب بأسلوب جميل يشد القارئ المثقف منذ السطور الأولى.

عن حياة المترجم له قال المؤلف في أحدى الومضات:

(محمد جواد مغنية، عاش حياة قاسية يتيم الأبوين، بعد أن فقد والدته دون الخامسة، ووالده وهو في الثانية عشر من عمره، مشرداً بلا مأوى، ولا معيل يرعاه أو كفيل يوفر له مستلزمات الحياة، ولو على مستوى الكفاف!

هكذا مضت بواكير حياته الأولى؛ عقبات كأداء من اليتم والتشرد والفقر وفقدان المأوى، فواجه ذلك كله بثبات مشوب بالتحدي والعناد، عندما جرب حظه في عاصمة بلده بيروت، بألوان المهن المتواضعة من قبيل بيع الصحف والكتب العتيقة، والمشروبات الغازية وصناعة المعجنات المحلية، إلى أن جاءت هجرته إلى حاضرة النجف الأشرف، لتكوم هي المنعطف الذي غير مسار حياته بالكامل، فصار العالم والمتكلم والمفسر والفقيه، ومنظر الفكر الاجتماعي والسياسي، والداعية التنويري الغيور، والمنافح عن الإنسان ومشكلاته والشعوب وقضاياها.

كان عظيم الهمة، بالغ العزيمة، جلداً مثابراً، يعمل دون كلل أو ملل، يمضي من اليوم والليلة بين 14 – 18 ساعة عمل، منكباً على الإنتاج بحثاً وتدويناً حتى الليلة الأخيرة من حياته).

وعن الفكر السياسي للعلامة محمد جواد مغنية يقول المؤلف إنه (شهد المزيد من أنسنة الدولة وجرها من أفقها الهلامي؛ أفق دولة التصورات والأماني، دولة اللامكان واللازمان، المعلقة في أعالي التاريخ وعالم المثل، إلى دولة الإنسان على الأرض وفي هذا العالم!)، وقد جرؤ على "أسلمة" الأنظمة الإنسانية، بمعيار الرؤية المقاصدية القائمة على إقامة القسط في حياة الناس ميزاناً لفعلها.

ويصف المؤلف كتابه الممتد على مئات الصفحات بأنه دراسة وطفية تحليلية لأفكار ورؤى ونظريات وغيرها الكثير، والأهم أنها مسعىً لاكتشاف الأسس المعرفية العميقة التي تقوم عليها هذه النظريات والبنى الفكرية التي ترتكز إليها.

***

جواد عبد الكاظم محسن

أكتب لكل المغاربة أينما يوجدون وحيثما وُجدوا، أكتب عن الوطن الإنسان والأرض. أكتب عن برزخ الترف وأهل الحل والعقد والديمقراطية التمثيلية. أكتب عن تجليات أسباب البؤس وهمِّ الحياة. أكتب عن الوطن الذي نتقاسم هواؤه بلا رسوم ضريبية، أكتب عن وطن لا نقدر القبض فيه على عدالة الاستفادة من ثرواته بالإنصاف والمساواة.

 أكتب عن كل أصنام وعبيدي كراسي السيطرة السياسية، والتحكم في الرقاب والأرزاق. أكتب عن مخلفات توزيع الثروة بالتفاوت، أكتب عن أشكال الفساد، و حربائية الريع (حلال). أكتب عن القيم وحقوق العباد والوطن، وعن جفاف بئر القيم و أخلاق العناية في وطن التمايزات، قبل موسم الجفاف والعطش. أكتب عن عوزنا في تجديد قيم تُوازي التحولات الاجتماعية. أكتب عن نكوص رؤية الخير بالموازاة مع طوفان المكر والخداع (الحديداني) والفساد والشر. أكتب عن تحويل المثُل السليمة والأخلاقية إلى ماض يوصف بالرجعية. أكتب عن صفقات التحديث بتسويق ثقافة التفاهة الهجينة، و طمس محتويات الثقافة الملتزمة النظيفة.

الوطن الذي يسكني، ويوحدنا بالعدل عبر تسلسل رقم بطاقة، هو الذي أكتب عنه بفخر، وبلا مشوشات من نخبة الفكر الخاملة، ولا من النقاد المتشائمين، ولا من اللغويين الشكليين في النحو الكلي وسياسة الرفع والنصب والجر والراحة داخل ردهات الثقافة النفعية. هو الوطن الذي وزعت فيه مشاتل طفيلية أنبت الوصولية والانتهازية والنصب والاحتيال والفساد. هو الوطن الذي صُنعت فيه بصيغة المبني للمجهول، المستبد بالسياسة، والممتهن لها. هو الوطن الذي لم ينصف كل مواطنيه بالعدل والمساواة والحق في حياة الكرامة.

أكتب إليكم جميعا يا من يتحركون بلا أسناد العدالة الاجتماعية على أرض الوطن الطيبة، يا من يتحركون بتلف وسط زحام الحكرة واحتكار الغلاء. أكتب إليك أنت والآخر ، ونحن بالمذكر والمؤنث في مغرب العمق وهوامشه القصية والدانية. أكتب عن رائحة عرق تعب الحياة ووجع ضبابية.  كل الكتابات تبقى يتيمة بثوب نظافة كفن حدوث موت المستقبل. كل الكتابات تستكين إلى معقوفات قسوة الحياة و توتر التفكير السياسي البديل، ما بعد هذه الحكومة؟.

 حين أكتب تنطلق الذات بالتعبير عن بعض متنفسات كَرْب الحياة. تبدأ الريشة تبحث عن مداد الكرامة والعدالة، وحماية القانون من القاعدة الشعبية بالبدء. لكنها قد تنكسر لزوما أمام عيوني، وبين أناملي عمَّا فسد ويُفسد تفكير بناء آليات إدارة التغيير ضمن استمرارية الاستقرار الاجتماعي.

أكتب عن المواطن البسيط  حد الروعة. أكتب عن مطالب معدودة على رؤوس اليد الواحدة (كرامة/ عدالة/ حرية/ إنصاف/ حكامة). أكتب عن المواطن الذي يمني نفسه بتعليم عمومي وفق رؤية الإنصاف وتكافؤ الفرص و الجودة. أكتب عن المواطن الذي يرى العدل في نيل الرعاية الصحية  بالمجانية. أكتب عن المواطن الذي لا يقبل الإحسان المفبرك والمخدوم. أكتب عن المواطن الذي تمرغت إنسانيته وسط مطارح الأزبال بالهبش والنبش في القمامة. أكتب عن المواطن الذي يطمح إلى بلوغ بداية سلم الكرامة في المعاملة و المساواة عند الدولة.

أكتب إليكم جميعا عن بوابات خلق مصالحة توافقية بين كل مكونات الشعب المتفردة والمشتركة. أكتب عن جبر الضرر والتعويض عن موائد البؤس والفقر والعوز لغالبية الشعب.

لن أكتب لجهابذة الكتاب والفكر وهم   في منتجعاتهم على الأرائك متكئين. لن أكتب لنقاد القسوة التقليديين ومسقطي المناهج الغربية بأمانة النقل، لأن مهمتي كانت دائما تكسير الجدار الرابع، والثورة على تصويباتهم الفجة. لن أكتب عن فِطْر الشكلايين من ذوي النحو الكلي، فَهُمْ في قياس الكلمة بين الرفع والجر والنصب مُلتصقين، ولا زالوا مع إخوة كان في التصب يمارسون ثقافة (أبا هند فلا تعجل علينا...). لن أكتب عن الانطباعيين  في المدح والتكريم، بل أنا بحق أمارس  حقي في الكتابة عَمَّا في حياة المواطنين من تهافت واضطراب في وطن (أهل المكارم).  

***

محسن الأكرمين

 

المقال مهدى الى الصديق محي الإشيقر

يبدو أن عودته لبلده وبعد فترة إغتراب قصري ربما زاد على الثلاثة عقود من السنين قد تركت أثرا كبيرا عليه، وخاصة إثر تلك الزيارة التي قام بها لشارع المتنبي الذائع الصيت في بغداده. فها هو بين دفتي ذلك المكان العريق وليتفاجئ بالعديد من المتغيرات، منها ما سُرَّ به قلبه ومنها ما لم يكن بالحسبان. فما لفت إنتباهه على سبيل المثال تلك التجمعات الجانبية المتنوعة وما رافقها من أحاديث ونقاشات صاخبة، وبشكل خاص الجادة منها وفي مُختلف المجالات. كذلك عديد الأنشطة المقامة والتي تراوحت بين مَنْ إجتهدَ بالغناء وعلى طريقته ظناً منه بأنه سينال من الرضا ما سُيفتح له باب الشهرة واسعا، والتي ستساعده بدورها على ولوج مبنى الإذاعة والتلفزيون برحابة وثقة، كما كان سائدا من أعراف في عهود سابقة.

وَمنهم مَنْ راح يرسم ما يطيب له من خطوط طول وعرض ويداخل فيما بينها وعلى نحو عشوائي في أغلبه، محاولا تقليد بعض الرسامين العالميين ممن كانت لهم الحظوة في تأسيس وبناء تلك المدارس الفنية التي باتت منهلا ومصدرا للملتحقين الجدد، حاثين الخطى للسير على ذات النهج، آملين أن تفتح لهم كل المداخل الموصدة. ومنها وللأسف مَن مدَّ يديه بعيدا، طلبا لمن يشفق عليه ويُكرمه بما تجيد به النفس الأمارة بالحب وبالرحمة، ولعل أعداد الفئات الأخيرة وللأسف ما يشير الى تزايدهم وبشكل مُلفت على وفق ما شاهدتهُ  وما أنبأني به كذلك مَنْ كان برفقتي.

في ذات الشارع وبينما كان يزجي الوقت، فقد شدَّت ناظريه مجموعة من الصور المرصوفة على واجهة أحد المحلات، لعدد ليس بقليل من المفكرين والشخصيات البارزة، والتي لعبت في وقت ما دورا كبيرا وشكلت منعطفا هاما في رفد الإنسانية بمعارفها وعلومها، ككارل ماركس وهيغل وإبن خلدون وأنجلز وآدم سميث والفارابي وإبن سينا. فضلا عن تعليقه وعلى الجانب الآخر من واجهة المحل وفي مكان بارز منه، لصورة ذلك الشاعر الماجن أبو نؤاس، كما يحلو للبعض أن يطلق عليه من تسمية. وتعليقا على هذه الصورة وما لفتَ إنتباهي لها هو تعرضها كما يبدو الى محاولات عبث وتشويه متكررة، ومن قبل نفرٌ ضال وبذرائع شتى، وهذا ما أكده لي أيضاً صاحب المحل حين إستفساري عن الأمر. ناسين ولا زال التعليق له، بأن ما نشاهده على أرض الواقع من موبقات ووقاحات وإنحرافات، ومنذ وقوع ما يسمى بالتغيير، لتشيب لها الولدان وتهتز لها العروش.

وبسبب تعذُّر العثور على ما هو أوضح منها وأكثر قربا وشبها به، ولأنه أيضا أي صاحب المحل، يمتلك من الذائقة أجملها، فقد راح معلقا بجانب صورة أبو نؤاس رسما تخطيطيا لأحد الشعراء المتصوفة المعروفين والبارزين، والحديث هنا عن كبير القوم، إبن الفارض أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، المولود في مصر المحروسة والملقب  بسلطان العاشقين.

ثم راح كاتباً تحتها وبخط كوفي واضح وشديد الأناقة مع إضافة علامات الإعراب المناسبة، التي أضفت على جمال كلمتها جمالا، كذلك ستساعد القارئ على تحريكها وبلغة صحيحة نظيفة، لا يطالها عيب، بل ستطرب لها الأسماع، بعض من أبيات شعره، والتي جاءت على هذا النحو:

مالي سوى روحي وباذلُ نفسه

في حب مَنْ يهواه ليس بمُسرفِ

*

فلئن رضيت بها فقد أســعفتنـي

يا خيبة المسعى إذا لم تُســـــعَفِ

في هذه اللحظات، ألفتني وقد توقفت طويلا عند أبيات الشعر هذه وما حملته من دلالات وَعِبَر. ثم شرعت ومن شدة تفاعلي معها وتأثري بها وكي لا يسمعني أحد بترديدها همسا بيني وبين نفسي ولأكثر من مرة، الاّ أن العقال قد فلت وافتضح أمري حتى تنبَّه لي صاحب المحل وليعلق: لقد ذهبت أيام العشق وذهبت معها مَنْ كنتَ تهواها. هنا ما كان لي الاّ أن أردٌ عليه: في هذه الأبيات، ألمَسُ عشقا زاهدا، سمِّهِ إلهياً أو سَمِّه صوفياً أو ناسكا إن شئت. وعلى إثر ذلك فقد إمتد الحديث بين صاحب المحل وبيني وبما يعطي إنطباعا بأننا على تناغم وألفة ومنذ عقود خَلَتْ.

ثم أعقبها بأن قام صاحب المحل وبعد أن فتح لي قلبه ليفتح لي أيضاً باب مخزنه الداخلي، وهذه وعلى ما جَزَمَ لي من الأفعال النادرة التي يقوم بها إن لم تكن من المستحيلات، وليقودني الى ما يخبأه من تُحف وصور ذات شأن وقيمة ودلالة، والتي من بينها تلك اللقى التي ما كان لها أن ترى النور في عهود سابقة لولا فسحة الإنفتاح النسبي الذي يشهده البلد، والذي بلغ حداً من التسيب في بعض من جوانبه، وربما هي نعمة أو عثرة فلتت من بين عيني الرقيب دون رغبته أو إرادته وسوف لن تدوم طويلا، حيث سيلتفت لها سدنة الحكم ليقدموا على حجبها عن العامة ولو بعد حين.

ومن بين الصور التي عرضها على سبيل المثال، تعود لبعض الممثلين العالميين كغريغوري بيك وجيميس ستيورات وكاترين دينوف، فضلا عن آخر ظهور لمخرج فيلم الرسالة مصطفى العقاد قبيل رحيله عن الدنيا بفترة قصيرة وبصحبته أنتوني كوين الذي قام بأداء دور حمزة إبن عبد المطلب وبكفاءة عالية، حيث أثبت وبما لا يدع مجالا للشك بأنَّ ما قام به من أداء، ليفوق كثيرا حتى على بعض الفنانين العرب فيما لو أنيط بهم الدور، وذلك بإعتراف نقاد السينما أنفسهم وكل من له صلة بهذا الفن.

غير أنَّ ما لفت إنتباهي أكثر ومن بين كل الصور التي عرضها داخل المخزن وبسرية عالية، هي تلك اللقطة التي تعود الى الممثل العالمي الراحل عمر الشريف، متوسطا في جلسته مجموعة من الرجال وفي إحدى صالات القمار. وأظنها قد ألتقطت أثناء إحدى زياراته المعتادة والتي كان يقوم بها الى هوليود بين حين وآخر.

وبمناسبة الحديث عن عاصمة السينما العالمية فقد سرَّني أيضا بعرض صورة الممثلة الأمريكية الراحلة مارلين مونرو، والتي تعود الى فترة الخمسينات وهي الفترة التي شهدت بدايات تألقها، حيث تظهر فيها شبه عارية. ثم راح مستذكرا وعلى هامش هذه اللقطة ما أحاط بها من واقعة، حين قال: كاد أحدهم وممن ركب موجة التدين مؤخرا ومع مجيء سلطة الحكم الجديدة، أن يقدم على تمزيقها بعد أن صَعُبَ عليه سرقتها، لولا تنبهي له وبمساعدة أحد الزبائن لما كان ينوي القيام به وفي اللحظات الأخيرة.

وآخر تلك الصور التي عرضها عليَّ صاحب المحل تعود للباشا نوري السعيد، آخر رئيس وزراء العهد الملكي الذي يحلو للبعض بتسميته بالبائد، حيث يظهر فيها واقفا وبجانبه صهره الضابط العتيد جعفر العسكري. وبالمناسبة فقد ساومتُ وناورتُ كثيرا على الصورة الأخيرة بهدف شرائها الاّ أنه رفض ذلك رفضا قاطعا، حيث عدَّها من بين مقتنياته الخاصة والتي لا يمكن التفريط بها وبأي شكل من الأشكال وبأي ثمن كان.

وعن هذه الظاهرة أي الإنتشار الكبير والواسع للصور الممنوعة وما يشبهها من نوادر، فقد وجد لها صاحب المحل وبحكم خبرته ورصده ومواكبته للتطورات السياسية ولعهود مختلفة، تفسيرا يبدو مقنعا والى حد بعيد، حيث أدخلها في باب ما أسماه بالفوضى العارمة التي يشهدها البلد وكذلك ضياع البوصلة وما يرافقها من تخبط، حيث لم يعثر أصحاب السلطة وحتى اللحظة على قرار أو خيار أو أرض مريحة يستقرون عليها. أو أن ما نراه وفي تفسير آخر له، فهو ناجم عن فلسفة جديدة في الحكم، عمادها دع السلطة لصاحبها، قبالة أن يُترك للشعب فعل ما يراه مناسبا، حتى وإن عمَّت الفوضى وضربت أركان الدولة من أقصاها الى أقصاها، شريطة أن لا يتقاطع الطرفان (أي الحاكم والمحكوم) أو يصطدمان ويُفسخ العقد المبرم شفاها بينهما، إنطلاقا من تلك القاعدة التي طالما أنقذت العديد من أنظمة الحكم الديكتاتورية والتي مفادها: ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

مع حلول ساعة الأصيل وإسترخاء ضوءها وغفوته على كتفي نهر دجلة، راحت أمواج النهر تتراقص لتبعث في نفس الناظر مشهدا، شديد في جماله،  ساحرا. في لحظات كهذه ستبدو الشمس كمن أعطت إيذانا للزائرين بمبارحة المكان وليجد صاحبنا نفسه سائرا مع الركب أسوة بغيره، وذلك بعد أن أنهى جولته وأشفى غليله. غير انه ولكي تكون خاتمته مسكا، تعمَّدَ التأخر قليلا عن ركب المغادرين وليتوقَّفَ عند ذلك الصرح الثقافي العظيم، وليطوف حول نصب الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي، متأمله، محاولا الربت على كتفيه. ولأنه قد تَعَذّرَ عليه تحقيق ذلك بسبب مقامه العالي، إستعاض عنها ببضعة كلمات حانيات، مباركا له إختياره من نهر دجلة والذي لا يبعد عنه سوى بضع خطوات، صاحباً وجليسا وأنيسا لتبديد وحدته ووحشته إذا ما جُنَّ الليل. غير انه سيعاتبه أيضا: أما كان لك ولصاحبك النهر في أن تزجيا الليل حين يجفاكما النوم بتلك القصيدة التي تقول فيها:

أرقٌ علــى أرَقِ ومــثليَ يـــأرَقُ

وَجَوىً يزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ

*

جُهدُ الصبابةِ أن تَكونَ كَما أرى

عَــينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلْـبُ يَــخفِـقُ

وإذا ما ملتُ قليلا للتحدث عن شاعرنا طيب الذكر وسيد المقام، فهو لم يعش تلك الحقبة الذهبية من الزمن والتي أسماها المؤرخون بالعصر العباسي وبكل ما حملت من زهو وسمو فحسب، بل كان كذلك شاهد حق وناطق صدق عليها. يوم كانت بغداده عاصمة للدنيا وشاغلة للناس، يأتونها من كل بقاع الأرض ومن كل فج عميق، إذ هي محجَّهم وقبلتهم وموئلا للطامعين والطامحين، لينهلوا من فنونها وآدابها ومن كرمها، إبتغاءاً لسعادة الروح قبل الجسد، فعطاءها ليس له حدود ولا أظنه سينضب، رغم ما تعانيه في هذه الآونة من كبوة، وعلى أيدي غزاة أوباش.

وبعد أن إتخذ من أحد الفروع المفضية الى الشارع الرئيسي وجهة له وصولا الى مسكنه القريب من هناك، تناهى الى مسامعه وعبر مكبرات الصوت مشاجرة أطرافها أكثر من إثنين على ما يبدو، تبادلوا خلالها أقذع الكلام وألوان من الشتائم والسباب، الّا أن الأمر لم يدم طويلا حيث جرى تنبيههم من قبل أحد الواقفين. وعند إقتراب صاحبنا أكثر تبين أن هناك تجمعا صغيرا يحيط بما يشبه الدكة وقد إعتلاها بضعة أشخاص، كان من بينهم بل متصدرهم ذلك الذي كثيرا ما كتبت عنه وضده صحافة الخارج المعارضة، بسبب تلونه وتنقله بين أحزاب عدة، كان من بينها ما هو محسوب على اليسار وبشقيه، قيادته ولجنته المركزية، كذلك إنتماءه فيما بعد لما يسمى بالتيار القومي العروبي، وأخيرا إصطفاءه لإحدى المجاميع الدينية وبعد أن ضربته صحوة الضمير على ما إدعى وروج له، ولابد له ما دام الحال كذلك من العودة الى صفاء الروح وإرضاء الضمير ومغادرة الدنيا لملاقاة خالقه بقلب خاشع مطمئن سليم.

في هذه الأثناء وعند توقفه الإضطراري إنتظارا لخلو الطريق، فقد وصل مسامعه قول أحدهم للآخر: أتعرف هذا الشخص المعتلي الدكة .... لقد ساوم أرملة صديقه، مبديا تقديم كل أشكال المساعدة لها، قبالة ليلة حمراء يقضيانها معا. أمّا صاحبنا ولأنه إستهجن الموقف فلم يطل به المقام حيث مرقَ من بين بضعة من الواقفين، ليتجه صوب الشارع الرئيسي والذي سيقوده الى بيته مشيا على الأقدام.

الذي خفف من وطأة ما لاقاه قبل قليل، هو مشهد الإنتقال الى العالم الآخر وما يحدثه من تداعيات داخل النفس البشرية، والتي لم يكن ليتوقعها، ولعلها ستبعث في روحه شيئ من السكينة. فقد مرَّ من أمامه موكب جنائزي طويل، تتقدمه إحدى العجلات الخاصة والتي تحمل بداخلها نعش أحد رجال الدين من أهلنا المسيحيين وهي متجهة صوب إحدى الكنائس القريبة في العاصمة، وذلك لأداء فريضة القداس على روحه، وعلامة الصليب قد بانت واضحة وهي تعتلي مقدمة العجلة. وأزاء هذا المشهد ما كان على المارة وأمام حالة خشوع كهذه الاّ التوقف إحتراما للراحل ولجلال الموت.

في هذه الأثناء لفت إنتباهه وفي الجانب الآخر من الشارع وحيث يقف، رجلان وهما بكامل قيافتهما العسكرية، في حالة إستعداد وإنضباط تامين وهما يؤديان التحية عرفانا وإحتراما للرجل الراحل، ولتأتي إنسجاما مع تلك العادات والتقاليد الأصيلة التي ورثوها وتشبعوا بها، وما أملته كذلك المؤسسة العسكرية التي ينتسبان اليها. في هذه الحركة التي أقدما عليها أعاداني الى تلك الطقوس التي جُبلنا عليها يوم كنّا صغارا وَتنامت حتى كَبُرت معنا.

أخيرا، تلوح لي ومن بعيد وفي آخر النفق حزمة من الضوء، تكاد أن تخترق الظلمة، حاملة معها بشائر خير ورسائل حبٍّ لجمهرة من العاشقين. أمّا عن شجرة التفاح التي سقيناها سوية فستثمر يا صاحبي ويحين قطافها ونشم عطرها، وسيعود العراق الى أهله من جديد.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

ها هي اللحظة بكامل بهائها حيث يقبض الحالم.. بنظرة طفل على جمرة شؤونها وشجونها في غفلة من الزمن قولا بالبهاء الكامن فيها من جمال وقسوة وأمل وشجن في حالة من والحب والحيرة والأسئلة الفاتنة.. انها فتنة الصورة وهي تحاور الأشياء والعناصر والتفاصيل نحتا للسيرة والدواخل حيث للأمكنة والجهات والمعالم والمشاهد والكائنات ومختلف العوالم تلك الأسرار التي بها وفيها واليها يبوح القلب بما يعتري شواسعه ذهابا تجاه العميق من الأشياء والدال عليها..

هكذا هي اللعبة الفنية مع الصورة التي هي حالة قنص وحوار مع الزمن  لابراز الأهمية والجميل والبشع بكثير من صدق اللحظة وما يعتريها من انشائية ممكنة قولا بجمالية أخرى تقترحها الآلة التي تطلب وهنا النظر بعين القلب لا بعين الوجه لتقول بالنهاية تلك الصورة ما يخطه المبدع بل أكثر فهي تغني أحيانا وأكثر هذه الأحيان عن الكلام.. والكلمات.. الصورة أبلغ من النص..

من هنا نمضي مع تجربة في مجال الفن المتصل بالصورة والفوتوغرافيا حيث القول بالمكان والمعمار وما به تتسع الذاكرة وهي تفصح عن المهمل والمتروك والمهمش والبهي الذي لم يعد موجودا ليخلف الحسرات بفعل اللامبالاة والاهمال لتتعدد هذه المعاني تجاه الأزقة والأحياء والعمارة والأمكنة والمشاهد والشخوص و.. وغيرها وكل ما دل ويدل على شيئ من أحوالنا الشتى..

انها الصورة بأهمية ما تخطه لتقترح علينا نصوصها من سرد وشعر وتوثيق وتأريخ.. بابداعية وحلم وحنين وغناء لا ينتهي معه العزف والنزف.. هي الصورة حيث العين الدالة الى ثيماتها تقود الفنان الى ما غفل عنه القوم.. الى جوهر الأشياء في كثير من الحب.. حب الالصورة والمصور وما هو موضوع تصوير.. هذا الحب الذي هو عنفوان رفعة وسمو للقول بالذات تجترح فعلها الجمالي ولا ترنو لغير ما هو كامن في ذلك على أنه عين من عيون الفن القصر الفسيح عالي الأسوار والحكايات ويطلبه ذلك من مكابدة ودأب واصرار..

و من هنا أيضا نمضي ضمن سياقات الفن مع عوالم الفنان الفوتوغرافي عاشق الصورة وما يحف بها من ممكنات ودلالات.. الفنان أمين بوصفارة الذي يبحث ومنذ سنوات في مجالات هذا الفن عن لعبته المشتهاة مثل أطفال الأحياء متجولا بينها مثل قناص ماهر يتخير مكامن الأهمية في التعاطي مع الآلة لأجل القول بالحالة..

في عمله الفني غوص في تفاصيل الأمكنة حيث المواضيع على قارعة الطرقات يحاورها ويحاوله بما به من دهشة ولوعة وحنين.. وهكذا كانت مؤلفاته المصورة عناوين متعددة لما تخيره طيلة عقود لتكون الثمرة معارض فردية وجماعية ومشاركات في تونس وخارجها وصولا الى الكتاب الأنيق بعنوان " تصور لمصور " الذي يحكي شيئا من قصته الجميلة هذه مع الصورة وفنونها وشؤونها وشجونها..

الكتاب في صفحاته يأخذك الى مجالات شتى من عوالم تونسنا الجميلة بأمزجتها وأحوالها المختلفة ولكن بكثير من حميمية الفن ولحظاته الفارقة وذلك بروح فنان هام بالأشياء يجترح ضمنها حيزا من فكرة الصورة لديه.

فناننا أمين بوصفارة أصيل مدينة المهدية التي شهدت خطاه الأولى في التعلق بالصورة والتصوير منذ طفولته وقد برز عشقه هذا بنادي التصوير بدار الشباب بالمهدية وعمره 12 سنة في عام 1986حيث كانت له تجارب عمل كمصور بخابر التصوير وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي تخير الذهاب والمغامرة في فنون الصورة والتصوير بعد تزايد شغفه بعالم الفوتوغرافيا ليصبح كل ذلك همه وفي كثير من النزوع الى الجمالية والابداع لتبرز في صوره المنجزة تلوينات من حياة الناس والمشاهد والجدران وما علق بها من عبارات دالة وصور وخربشات والمعمار و.. غيرها.

برزت خصوصيات العمارة والمعمار في الأحياء التونسية في صوره وفي هذا الكتاب الفني وخاصة المباني التي شهدها القرن التاسع عشر وما بها من آثار مبتكرة تعود الى فترات المعماريين من ايطاليين ومالطيين وفرنسيين وغيرهم.. صور لجمال عابر وبعضه مقيم حيث الصور التي تكاد تكون الأخيرة قبيل التداعي والاندثار.

أمين بوصفارة فنان خبر عوالم وخفايا وعطور الصورة بما هي مادة قول ووسيلة ذكرى وذاكرة وأيضا شاهدة عصر قدام هذا الخواء والسقوط الذي تشهده الانسانية التي تدوسها العولمة قتلا للخصوصيات والهويات لأجل التنميط حتى يكون الانسان رقما ومتحفا مهجورا..

هذا وقد انتظمت لهذا الكتاب الفني – الكاتالوغ الأنيق للفنان بوصفارة عدة حصص وحفلات للتوقيع بحضور عدد من الفنانين والنقاد والذين هاموا بعالم الصورة حبا وعشقا وغراما وبالنظر لمحتوى هذا الكتاب المتضمن لشيء مهم من ذاكرتنا. ذاكرة العناصر والأشياء..

الأمين طفل شغوف يحمي شغفه بالصورة بهذا الدأب اليومي والانكباب على ما به يتجدد ويجدد من علاقاته المختلفة بالناس والأمكنة والتفاصيل والعوالم نحتا للقيمة وقولا بالفن يعلي من شأن الدلالات..  ودفعا باتجاه رغبات شتى ومنها رغبات الطفولة المقيمة بدواخله كذات حالمة ومسافرة ومقيمة في ذات الآن  حيث الصورة تسطو على الكثير من مساحات الانسان الوجدانية والجمالية والحضارية.

***

شمس الدين العوني

حرصتُ ومعي عدد من الزملاء للحصول على مجلد أنيق وجميل ضم بين دفتيه الأعداد المائة الأولى من جريدة “ زوراء” التي صدرت في العهد العثماني أيام الوالي المتنور مدحت باشا، وعُدَّ صدورها لأول مرة في حزيران 1869 م عيداً للصحافة العراقية. وقد أوفى الزميل يحيى الزيدي بالوعد الذي قطعه لنا بأنه سيتواصل مع مركز ژین للتوثيق والدراسات في السليمانية، وهو الجهة التي قامت بنشر المجلد ضمن مشروع مشترك مع مكتب التفسير للطبع والنشر للحصول على نسخة منه لكل منا، وخلال بضعة أيام كان المجلد في متناول أيادينا.

يمكن اعتبار مجلد اعداد “ زوراء “ في سنتها الأولى، من أواخر الأعمال المهمة التي أنجزها المؤرخ الكبير عماد عبد السلام رؤوف، فقبل يوم من وفاته كما تخبرنا كلمة المركز كان قد اطلع على صورة صفحة منظفة مسحوبة للجريدة ففرح بها كثيراً لأن الصفحة الأصلية لم تكن بمثل هذا الوضوح الذي جاء نتيجة جهود ومحاولات كوادر فنية متخصصة استغرق عملها نحو سنة قامت بتنظيف المستنسخات الإلكترونية غير الواضحة بسبب ما علق بها من بقع وحبر منشور على صفحاتها، غير أن المفاجأة كانت في وفاة الدكتور عماد في اليوم التالي الجمعة السابع عشر من حزيران 2021 بعد يوم واحد من اطلاعه على تلك الصورة، إذ لم يمهله القدر ليتابع ويرى نتاج جهده في فهرسة الأعداد المائة ودراستها منذ أن أبدى سروره بهذا المشروع حين طرحه عليه المركز قبل عام من وفاته.

يعرف الكثير من الباحثين وطلبة الدراسات العليا في تاريخ الصحافة العراقية حجم المعاناة التي كانوا يبذلونها للحصول ولو على عدد واحد فقط واضح من جريدة “ زوراء” التي كانت تصدر باللغتين العثمانية والعربية، فما بالك وأن هذا المشروع يضع بين أياديهم مائة نسخة منها واضحة نسبياً، ويمكن للدارس أن يخرج بعد تصفحها بالعديد من الأفكار والانطباعات والأحكام المهمة حول ملامح الحقبة التاريخية التي صدرت خلالها الجريدة وطبيعة الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وقت صدورها . ولكي يسهل المؤرخ الراحل على الباحثين وعموم القراء عملهم فقد صنع ما يشبه المعجم الصغير للمصطلحات الواردة في الجريدة مرتبة بحسب الحروف الهجائية التي “ تناولت مختلف جوانب الإدارة والحضارة في العراق عهد ذاك “، كما أعد فهرساً للمواقع والمدن والبلدان، وآخر لأعلام الناس الذين وردت أسمائهم ضمن الأخبار والحوادث والموضوعات المنشورة في تلك الأعداد مما وفر الكثير من الجهد لمن يأتي بعده.

وأحسب أن الرحيل المفاجئ للمؤرخ عماد عبد السلام رؤوف، قد ترك أثره في ظهور بعض الهنات البسيطة التي لا تقلل من أهمية هذا العمل التوثيقي الكبير الذي يشكر القائمون على انجازه، وأولها كتابة اسم الجريدة معرفاً على غلاف المجلد، وهذا مخالف لاسمها مجرداً من لام التعريف، فهي “ زوراء” لا “ الزوراء”. فضلاً عن أن الأرقام التي تدل على أماكن الفهارس من مواقع وأسماء غير دقيقة، وتبدو كأنها وضعت لنسخة أخرى غير هذه النسخة. كما وردت بعض الأغلاط الطباعية الطفيفة في كلمة المركز وبالأخص في قلب الفاء إلى قاف وبالعكس، مع أن الدكتور رؤوف يكرر في أكثر من مكان بأن “ زوراء” التي كانت تُطبع بطريقة الترتيب اليدوي “جاءت خالية من الأخطاء المطبعية” !.

***

د. طه جزّاع

هي جغرافيا التشاؤم بالمعنى الذي لا ترقى إليه الكثير من العقول، كون خلفيته تتأسس على الأفكار العظيمة التي تعرّي كل شيء تقريبا، تكشف زيف الديموقراطية، مثلا.

من منظور جوزيه ساراماغو، أقلّه، والذي هو مستهل هذه الرواية المنفلتة، أو الأفق الفاضح لأقنعة السياسي، من غير أن تتم بواسطته، عملية إشباع فضول ورؤى شخوص عالم المابين، ضمن حدود مثل هذه السردية، سردية التحول، وهوس المسخ.

أمجد والعجوز الضريرة دوجة، فضلا عن السارد، لبنات بارزة جدا، في هذا البناء السردي القائم على الأفكار الكبيرة، ورؤى التجديد والمغايرة.

يقول الراوي:

كنت وما أزال في الرحى. مر علي الزمن ثقيلا، واضطررت للبقاء، لم يكن عندي شيء في بلادي أسكن إليه. زمني تيبس فجأة، وصارت ساعاته حجرا، وما رويته رأيته بعيني رأسي، وسمعته، أو أخذتني في روايته الأهواء وحالات القول. ص(8).

إنها نافذة للغرائبي مكيفا، أو بالأحرى مضمّدا للزائد من جرع الحياة غير المرغوب فيها، على تراكم وعلقمية تكاليفها، كي يكابد الكائن بالتالي، كدمات ثقافة التفاؤل الزائف، حين يكون التشاؤم الواعي أداة استغناء عنه.

 هنا بطل الرواية الأول، بعدّه ساردا أيضا، وبعد أن يستقر في بلدة برلتراس، يجد في أمجد الرفيق الوفي والأنيس الصدوق، فيصعق بذبول المشهد، حدّا ينسيه هدفه من تأمم كهذه قلعة ناهضة على أنقاض حضارة قديمة.

أمجد بدوره يصمت عن جرح هجران خليلته له، وهو الأب لخمس فلذات، كأن لديهما القواسم المشتركة ذاتها، والتي تدفع بهما إلى الانخراط بقوة في حياة تشاؤمية تجاور المستويات الرمزية للتحول، وتنشد الأسفار في أفلاكه.

بديهي إذن أن نستوعب منسوب هذه الغرائبية، وأن نتنفّس معاني الحلمية المدموغة بإبداع التحول، بين جناحي عالم فوضوي دموي مضطرب، تماما مثلما يترجم ملامحه استذءاب الإخوة الأعداء، هوية الكائن بين الأدغال الدامسة، تظل مجرد هوية مشوهة، ومقامرة خلط أرقام ليس إلاّ.

هو تجلّي أنوي متشرّب لعقيدة التشاؤم الواعي:

 أما أنا فلقد حملوني في الليل، وأنزلوا سروالي، وكشفوا عن ربلتي اليسرى، وامتدّت يد بمخالب إلى الدمغة الحديدية الباردة، فوضعت فوق النار حتى احمرّت وتوهّجت، ثم ألصقت بتشفّ في لحمي، أحسست بشدق يفترّ، وبجسم غير بشري يدفع الدمغة الحمراء في لحمي، ويرجعها إلى مكانها. وانطبعت أرقام أربعة على مؤخرتي، ورميت إلى الخارج. الآن أنا إنسان مدموغ في مؤخرتي، رقم، مجرد رقم، بلا اسم. من يتذكر لي اسما في برلتراس؟ ص(12).

لعله شعور الوحدة القاتل، في عالم من الأرقام الباردة، بما ينم عن الإنكار والتجاهل والنبذ.

قد تكون السوداوية التي ترسمها قضبان السجون، وقد يكون جحيم الحياة وخريفها الذي حوّل الكائن إلى مجرد رقم، ونكرة بين معطيات الطبيعة وفي غمرة صراع الكائنات.

يقول الراوي:

لا أنا حسن الوزان، ولا الحسن البصري، ولا الحسن بن علي. أنا حي الله حسن، المعروف بالزيني، حسن بن بحارين من كفر بعيد، لا أفكر إلا في الستر. وها أنا لا يسترني شيء في أرض لا بحر فيها ولا سماء. أنا رجل من ذلك الزمان، اسمي الأصلي حسن، أما الزيني فاسم يناديني به الناس، قدر لي أن أبعث في حكاية كهذه، وها أنا أقبل بقدري، وأتم ما كتب لي. تمر الأزمنة متطاولة، ولا يتغير شيء. أهل برلتراس كما هم من بداية عهدهم، يترمدون إلى أن يتبخروا. وصبح يتنفس بملء منخريه، وهو يفرد جناحيه القويين، ويطير مسلطا عينيه على الوحش الرابض بهدوء في الأسفل.ص(231).

 إنها الهوية الحقيقية في استعدادها وقابليتها لتقديم جملة من التضحيات والتنازلات، طلبا للستر فقط، غير أن جل ما تحظى به، هو الباعث على الترمد، حدّ التبخر وفقدان كل شيء.

فإلى أي حضيض قد تهوي مثل هذه الشخصيات المكابدة لشتى صنوف المذلة والهوان.

أهي تستحق؟ كونها باعت بأبخس الأثمان، أصواتها، وبدل أن تزرع الأفق لاءات، وتتشبث بثقافة الرفض لواقع القمع وتمظهراته، تناهضه بكل ما أوتيت من قوة، فلا تذهب، بالتالي، تضحياتها هباء.

أم أن هناك ما هو مقصود لسلب الكائن إنسانيته، ومسخه، وجعله مجرد تابع أعمى وأبكم وأصمّ؟

أسئلة عميقة ومحرجة من هذا القبيل، تزخر بها سياقات الرواية، وتلهج بها ألسن شخصياتها المتماهية في قواسم مشتركة عدة، تحقن شريان هذه السردية بملح التشاؤم المشروع مثلما يجسّده الوعي.

التشاؤم عن وعي، لا حالة نفسية تحكمها المرَضية أو الإكلينيكية، باعتباره، أي التشاؤم، المرآة الفاضحة لنظير هذه السادية في استعباد واضطهاد الكائن وسحق هويته.

مهما يكن فسقف الحرية يعلو ولا يُعلى عليه، لذلك يتم تدوير أسئلتها على هذا النحو، وبأسلوبية المزج بين واقع انقماع الكائن وتسلحه بثقافة التشاؤم، نكاية في رمادية المشهد.

أسلوبية "كافاكية" أغدقت على السردية من طقوسيات المسخ والتحول، وفق شاكلة تليق بما تكابده مثل هذه الكائنات من أزمات وجودية كبرى، ضمن خارطة لتجاور الجنائزي والغرائبي.

والجميل في العمل، أن تجب فصول الشعر، في ذروة إقحام مخاتل، زمكانية التشخيص في استغراق سردي جواني متسارع، يستوعب موسوعية الإسقاطات.

الشعر كبلسم يذكرنا بألوان فجرعروبتنا المفقودة.

كعادته، يُفلح الروائي المتمرس نصر سامي، في توسيع معاني الإنسانية، موقنا بأن المعجم يفترض أن يكون على مقاس الوجع، وأن يفيض بانتهاكات سياقية، استحضار الزمان والمكان والتاريخ، عبرها، يتم، في أفق خدمة المعنى المبتكر، مباهاة بالموروث، وانتشاء بعصارة ذاكراتية ملهمة.

يقول:

لمن الديار بتولع فيبوس

                              فبياض ريطة غير ذات أنيس

هذا البيت لعبد الله بن سلمة الغامدة، وهو يلامس جوانب من جور المكان، فتغريب روح الكائن، انتهاء.

وإذن... هي رواية انبعاث، تفرج عن تفاصيله، شقوق خلفية تشاؤمية، تفتي بفوضوية مرتِّبة، وهدم بان.

حين تتملك الذات الساردة، مثل هذه النظرة التشاؤمية والتي أساسها الوعي العميق بالواقع.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب

......................

هامش:

انظر رواية: برلتراس، لنصر سامي، طبعة أولى2023، مسكلياني للنشر والتوزيع، تونس العاصمة.

 

غالباً ما يراودنا الحنين إلى الأمكنةِ التي تركت في داخلنا أثراً ما..

أثرٌ أقربُ ما يكون إلى ذكرى جميلة، عَصيّة على مغادرةِ الذّاكرة..

ذكرى تبقى مطبوعة في لمساتها الأخيرة على جدار الذّكريات..

وعندما نستدعي حضور الأمكنة عبر الذّاكرة، نشعر كما لو أنّنا نستعيد ملامح إنسان أثير لَدينا..

فالمكان المطبوع في ذاكرتنا والمتوغّل عميقاً في مجرى الشّعور، يقارب في ملامحهِ أو يقترب من ملامح الإنسان..

فطالما دفعنا الحنين لرؤيةِ أمكنةٍ باتت في عداد الذّكريات وأضحَت محضُ ذكرى، تنمو جماليّاً بمرور الزّمن، وتأخذ شَكلاً مغايراً، له نكهة ورائحة ولون لم يكن يتوافر عليها المكان في أوّل عَهدنا به.

ما مبعث تلك التّغيّرات التي حَدَثَت في مجرى الشّعور؟ فالمكان لم تُجرِ على ملامحهِ تبدّلات، بَقيَ كما هو في الذّاكرة، ولكن بقي الحنين إليهِ يزداد بإطراد، تتضاعف وتيرته كُلّما طوى الزّمن مسافة خلاله مروره، تاركاً جمرة الحنين تَتّقد..

ما علاقة الزّمان بالمكان؟ أيّةِ وشيجةٍ تصل بينهما؟

المكان كما يتراءى لنا مخلوقاً قائماً بذاته، مخلوقٌ كما نحن، مشدودٌ لجذورهِ أكثر مِنّا..

هل سمع أو رأى أحد ما مكاناً غادر مكانه!

الأمكنة لا تغادر أمكنتها ولا تستطيع أن تتحرّر من مكانها، مستأنسة في عزلتها، وربّما تأمّلاتها السّرمديّة، ولكن كيف تُلقي بظلالها عَلينا؟ بتأثيرها؟ بالحنين؟ بالتّوق إليها؟ كيف أفلحت في تبديل مشاعرنا حيالها؟ ما صلتنا نحن بالمكان، ذلك المخلوق المُحايد؟!

إلّا إذا أعددنا المكان كما نحن بوصفه روح، فنتبادل التّأثير فيما بيننا..

لا أستطيع أن أخال المكان بلا روح، وإلّا بماذا أُفسّر أو أسوّغ إنشدادنا إليه إن لم يكن يملك روحاً؟ روح كانت تفيض عَلينا بجمالها وحنينها ومؤثّراتها.. وعندما نُغادرها في وقتٍ ما، تبقى ذكراها مطبوعة في الدّاخل تلازمنا.

لو كانت الأمكنة خالية من الرّوح أو بلا إحساس أو لاتملك وجدان فَلِمَ نتوقُ إليها؟

رُبّما ينبري أحد ما ويقول: الأمكنة لا تملك أيّ شيءٍ من الذي ذكرت، وإنّما أنت تُضفي إليها من عنديّاتك ما ليس فيها.. هل بوسع مشاعرك أن تنجذب لأمكنةٍ لم تَرها أو تعش فيها؟

الجواب: لو لا المكان لما كانت الحياة ولا الذّكريات ولا المشاعر والجمال، نحن خارج المكان عَدم، المكان هو من يُضفي على وجودنا معنىً جَماليّ..

الجمال الذي نتحسّسه هو نتاج المكان، فالأمكنة لا تموت ولا تغادر، نحن من يَرحل ويتحلّل وربّما يغدو جزءاً حميماً من المكان عبر تحوّلات عضويّة تصيب الجسد، وربّما نغدو حجراً أو شجراً أو عشباً طافياً على سطح مياه ما..

وربّما كُنّا نحن جزءاً من مكانٍ ما في سالف العصور، وما حنينا إلّا توقٌ إلى جزئنا الذي تركناه هناك يمرّ بتحوّلات الزّمان.. جزئنا الذي تركته الرّوح القديمة، التي عادت إلينا ولكن بملامحٍ مغايرة..

 الأمكنة لا تموت، فما زالت الكهوف شاخصة، ماثلةٌ للعيان..

مات الإنسان وترك آثاره على الكهوف التي لن تموت أو تبرح مواقعها..

***

علاء البغداد - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

 

عند تلك المحطة توقف قطار الحياة ليترجل فارس جديد من فرسان التشكيل تاركا أثره في قاطرته والقاطرات المجاورة أعمال فنية وانسانية كثيرة وغزيرة ستواصل رحلتها في قلوبنا وقلوب كل من عرفوه من الفنانين والاصدقاء والمحبين (الفنان عبد القادر عزوز في ذمة الله).

يبدو أثر البيئة واضحا في تلك اللعبة العفوية والتلقائية التي يسترسل من خلالها الفنان عبد القادر عزوز كما طفل عابث في كومة تراب قادر على التوقف متى أراد محتفظا بذاك الأثر الباقي والمتبقي من تلك اللعبة لمتلق عابر وقادر على تلمس تلك الجماليات المكنوزة.

البيئة بكل مكوناتها أزقة حارات بيوت تراب وعمائر هي المحرك الأساس لذات الفنان ولا يمكنها أن تكون كذلك إن لم تنتعش في مختبرات الذاكرة مشحونة بكل الآثار المرافقة شوق حنين دفء وهو يترجم أثرها هذا من خلال ذاك المجموع المشتق والمنبثق عن الترابيات والبنيات والقادر على العيش وسط هذا الدفء حتى وإن كان لونا مغايرا (من الألوان المكملة).

سر السحر في أعمال الفنان عزوز يتجلى في بساطة التلخيص للشخوص الانسانية كما ظلال متلاحمة ومترابطة   والخط الطفولي الراسم لحدود الاشكال المكتشفة والتشطيبات العابثة هنا وهناك وهو من حيث التكنيك يعمل وفق تراتبية مترابطة ما بين شفافيات الألوان المائعة والسائلة والمتروكة لتشق طريقها العفوي  وعجينة اللون وما تصنعه الفرشاة والشعيرات من تأثيرات تغني سطح العمل فهو لا يعنيه المنتج النهائي بقدر ما تعنيه تلك المتعة المتواصلة مع تلك التأثيرات وما تحققه من غياب وتلك إحدى أهم سمات فن الطفل (المتعة اللحظية  المبرر والغاية).

بتلك الروح استطاع الفنان الوصول الى حلول لكافة الاشكالات التي يطرحها العمل الفني لتتحقق معادلة التوازن والتناغم ولتعكس ألوانه عبر وعيه الفطري لتلك العلاقة ما بين الحار والبارد والأسود والأبيض ذاك الأثر الصادم  للون في النقطة الذهبية وذاك الاحساس المتناغم في مجمل العمل ككل.

***

الفينيق حسين صقور

تكاثرت الأعياد علينا والأيام حتى بتنا نعيش بين عيد وآخر أعيادا كثيرة. في صمت العينين قد يبدو التاريخ يؤرخ لكل الدموع النازلات من عيون بنات حواء ما بين يوم 8 مارس الماضي والآخر الحاضر بمتغيرات الذات والجسد، ثم يُنتج 8 يوم مارس في المستقبل قصة حب من زمن متاعب همِّ الحياة. مرات عديدة، تبدو التساؤلات عالقة بعلامات استفهام كبرى، وترتد على الشفاه المطبقات لتقتنص بَوح: أحبك سيدتي، حتى ولو كان يوم 8 مارس ممطرا من دمع السماء، فأنا كرهت الجفاف وجفاء العيون اللاصقات.

 لم أسلم من تيار شدِّ العيون العسلية استهلالا للحديث، وإعلان أنَّ الحب ليس رواية شرقية ولا غربية، ولا تربطه ب8 مارس إلا وردة عارية من أشواك الحياة !! مع الأيام بدوت أعشق تلك العيون العسلية، وحين يتموج اللون متغيرا مع قرب الأجساد والأرواح. في صمت كلام العيون، فأنا فقير في قراءة علامات الترميز والإضمار في يوم المرأة يوم 8 مارس، ولم أقدر يوما على فك شفرات ظلال العيون المخملية، لكني ما بعد يوم 8 مارس سأصبح متيما بحبك سيدتي.

في السرِّ أكتب رسالة حب في يومك سيدتي 8 مارس، وأُمزق كل ذكرياتي الباقيات، وأسميك الخوف والشجاعة. في كل الليالي الممطرة، أكتب شعر الصمت بأنين الرياح وموج البحار، ومن بدايات أُنشودة أمزق بوح الغزل على وجه الحياة، وأقف معاندا ظلي المعاكس في يوم 8 مارس الممطر من سماء الغيث بالبوح والحب.

أناديك يوم 8 مارس، بكل صور بلاغة فرح اللغة بذات (العينين الصاحيتين الممطرتين). أناديك الحكايات، التي لا تنقضي بنوم شهريار عند سماع حكي شهرزاد الأسطوري. أناديك في السر، وأعلن العصيان والثورة على يوم 8 مارس، وعند مرمى حرائق بقايا الحب، وأزداد جمالا بحضور أميرة (وجعي في حبي) أمام عيوني ابتداء من عيدك العالمي.

حبك سيدتي يحلو زهرا مع يوم 8 مارس، وجع من ذات الوجدان، آت من عمق قلب الحياة ومتاعبها. حبك مثل البارود يوقظ العشق والحكايات الأزاهير، ويُفتن بادية العشق. حبك قسمة ارث من وجعي الخفي والظاهر، فكيف لي أن أفسر ما لا يفسر وأنت الوجع الجميل؟ أحبك وجعي بلا منومات عشق، أحبك بلا انقلاب على عرف الحياة، ومواثيق عشاق العالم. أحبك، كالطفل وهو يرقص نشوة تحت تيار سحر العيون العسلية، وتحت رذاذ ماء المطر.

سيدتي صاحبة يوم 8 مارس: لم يكن عشقي الممنوع والمباح بفيضه الروحاني عالقا فوق الجسر، فهو دائما كان في مأمن بدوام روحي العاشقة، ولم ينجرف يوما بسرعة مياه عمق الوادي والتيار. يوما بعد يوم، قد كنت أَغلقت صفحات روايات الحب عند مرمى نار الحزن، مثلما ألغيت مسافات الذكريات البعيدة. يوما بعد يوم، لم أعد أستسغ طعم اختلاف عطر النساء، ولا فزع موج طوفان المواجع والألم، إلا أنت (وجعي في حبي... وفرجي الأبدي).

سيدتي صاحبة يوم 8 مارس: أيتها الأيام المتسربة بين الأيدي والقلوب، حبيبتي عرشها في سفينة بحر لا شط له غير قلبي. تتواجد عند كل حروف النداء: أحبك يا وجعي وفرحي، أنت القلب والحياة بحجم حنيني عشاق العالم. أنت الورد بلا شوك، ينبض مقطوفا بدم الحياة.

سيدتي ملكة يوم 8 مارس: ذات العيون العسلية، أرى العالم يتأثث في لوحة على مرمى كل العيون على الجدار. ألعب.. أرسم.. أبكي.. أضحك.. ألون الحياة من الأبيض الداكن بالسواد، بمساحيق تجميل العيون المخملية.. أنت وجع حبي، فمدي يديك.. نرقص على شرفة الحياة.

***

محسن الأكرمين

 

ماكس هايفلر؛ تعتبر احد روائع الأدب الهولندي، وهي للكاتب الهولندي ادوارد دوفاس ديكر 1820ـ 1887 م الذي اختار اسم مولتاتولي كاسم أدبي والذي يعني "أنا أعاني" باللغة اللاتينية. وقدا اختير هذا الأديب في سنة 2002 م كأكبر أديب في تاريخ الأدب الهولندي..

وُلد بالعاصمة أمستردام، ينتمي الى عائلة تمتهن التجارة، ولما صار شابا يافعا ً سافر الى جاوة، وفي تلك البلاد البعيدة  شرع في ممارسة أعمال تجارية وسياسية، اذ عُين سنة 1851م، حاكما في مالقا. وفى سنة 1857م عين حاكما في جزيرة جاوة.

وهذه الحياة السياسية جعلته يقترب أكثر من معاناة السكان المحليين، والظلم الذي يتعرضون له من طرف الإدارة الاستعمارية في اندونيسيا.

وبدأ يعلن عن تذمره من تلك المعاملة الغير عادلة، والانتهاكات اللا إنسانية، وبالمقابل اقترح بعض التصورات الإصلاحية التي تخص شؤون تسيير المستعمرات.

هَدد بأن يقال من منصبه اذ واصل الاحتجاج، فلم يأبه بذلك وعاد الى هولندة ساخطا، وفي  بلاده لم يستطع آن يبقى صامتا فشرع في نشر مقالات تحوي شهاداته عن الوضع السيئ في المستعمرات الهولندية القاصية ما وراء البحار والمحيطات.

وفي سنة 1860م نشر رواية ماكس هايفلر التي تصور وتفضحُ ممارسة المستعمرين الهولنديين في اندونيسيا، وحاولت السلطات أن تمنعها لكن عبثا فالرواية اشتهرتْ في هولندة، وفي كامل أوروبا، وهي اليوم تُعتبر من روائع الأدب الكلاسيكي الهولندي. وكان لها تأثير مباشر على السكان المحليين اذ باشرت الإدارة الاستعمارية في اندونيسيا إصلاحات واسعة تتعلق بالمجتمع المحلي والنشاط الزراعي.

وكانت هذه الرواية، بداية لإنتاج أدبي متنوع ومتميز، أشهره رسائل الحب 1861، أفكار 1862،توتييه بياتريس 1877، ومدرسة الأميرات. غادر مولتاتولي بلده هولندة، لكي يعيش في مدينة صغيرة في منطقة الراين بألمانيا، توفي سنة 1870م.

***

بقلم عبد القادر رالة

في المثقف اليوم