أقلام فكرية

التاريخانية.. الطريق المستقيم للحداثة عند العروي

علي رسول الربيعييتبى عبد الله العروى المنهجية التاريخانية التي يعود أصلها الأصطلاحي إلى العقيدة التى تقول بأن كل شىء أو كل حقيقة تتطور مع الزمن، وهى تهتم بدراسة الأحداث في ارتباطها بالظروف التاريخية. لقد كان أوج الاهتمام ﺑالتاريخانية كعقيدة ومنهج فى الدراسات التاريخية إبان القرن التاسع عشر الميلادي حيث ارتبط صعودها بانتشار الفلسفة الوضعية الكونتية، تتبنى "التاريخانية" فرضيات فلسفية وأيديولوجية بغية التسويغ لأفكار قد تكون دينية أوقيم أخلاقية أو سياسية أو حتى ثقافية، من خلال توجيه التاريخ كخط مستقيم ومتواصل؛ وهي تنطوى على رؤية للتاريخ تقول بالتقدم المتدرج (مع الزمن) انطلاقاً من أصل (أولي) نحو نهاية أرضية أكثر أكتمالاً باستمرار وهذا هو موقف الفلسفة الوضعية.

إن التحليل التاريخانى عند العروي (العرب والفكر التاريخى ، دار الحقيقة ، بيروت 1973م )عديد من معطيات أولية تسيره بكيفيات واعية أو لا واعية وهي عبارة عن فرضيات تتمثل في:

1- وجود مرحلة متقدمة فى تطور التاريخ، بالنسبة لظروف مجتمعه الأصلى.

2- وجود وحدة سياق ووحدة سير فى التاريخ.

3- سطحية التاريخ (أى تقدم التاريخ على سطح واحد أو فى بعد واحد).

4- إمكانية الطفرة فى التاريخ.

أما "التاريخانية " الماركسية فلا تعد مرحلة تاريخية من تطور الفكر الماركسى بحسب ما يرى العروي، بل هى متجددة دائماً ومتطورة وفق أربع مقومات هى:

1- ثبوت قوانين التطور التاريخى (حتمية المراحل) .

2- وحدة الاتجاه (الماضى والمستقبل) .

3- إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس).

4- إيجابية دور المثقف والسياسى (الطفرة ، واقتصاد الزمان).

وتبعاً للعروى فإن الماركسية مفهومة على ضوء العقل الشمولى ، وهو بذلك يعتبرها ـ متعرفة بالتاريخ باعتباره هو تاريخ الإنسانية المعاقة لا حينما ترقص بكيفية عمياء طبعا ـ بل عندما تقبل أن تتجه وجه التقدم البديهى فى طريق سيرها الذى يتم بالخضوع للفكر التاريخى ومقوماته التى تحدد فى :

1- صيرورة الحقيقة .

2- إيجابية الحدث التاريخى .

3- مسئولية الأفراد (بمعنى ان الفرد هو صانع التاريخ) .

ويرى العروى أن الماركسية فى تأولها التاريخانى تعد أفضل مدخل وأحسن مدرسة للفكر التاريخى يمكن أن يجدها العرب اليوم، لأن الفكر التاريخانى هو الذى يحرر المرئ من الأوهام ويوجهه نحو الواقع والإنجاز وكذلك هي مقياس المعاصرة ، فيحتاج العالم العربي في ظروفه الحالية إلى ماركسية " تاريخانية " يتوحد فى اطارها الثقافى نواة حركة تحديثية فى المجتمعات العربية. فالماركسية التاريخانية الموضوعية كما يرى العروى هى الأكثر ملائمة لمتطلبات الواقع العربى وأن الأيديولوجيا العربية المعاصرة عليها باعتماد الماركسية لا أن طريق التعليل المجرد ولكن على من منطلق المنفعة. وعليه يعتقد بضرورة مرور العالم العربي في المرحلة " التاريخانية " أى كتابة التاريخ بشكل قومى ووطنى ومركزي كما حدث فى أوربا إبان تشكيل القوميات فى القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين.

يحاول العروى (بتاريخانيته) تجاوز كل من الشرق والغرب بمرجعية يراها جديدة ولا يغير من الأمر شيئاً إذا كانت غربية المنشأ، حيث لابد من اعتماد الماركسية (التاريخانية) التي يربطها باستيعاب الثقافة (الليبرالية)، وكذلك على ضرورة المرور بمرحلة النقد الأيديولوجى حتى نتخطى الفجوة بين العمومية الفارغة والخصوصية النسبية بشىء من التطلع والاستشراف. إنه يريد أن يغير التاريخ أساسا بقانون المتصل والاستمرارية، لكنه هذا المأزق النظري المأسور فى الميتافيزقيا هو الذى جعله قريباً من الماركسية، غير أن الماركسية فى أحد أشكالها الأكثر صرامة ترفض تاريخانية الفكر الليبرالى (القرن الثامن عشر الأوربى) التى أوجدت بدائل تحل محل مطلقات التعالى وهى بدائل معلمنة: العقل ، الفرد ، الحرية ؛ رغم أنها في الحقيقة ظلت تقوم على الترية الميتافيزيقية ذاتها ورغم التحول الأيديولوجى الحاصل في أوربا والغرب عموما. إن التوسير مثلا يدعي أن التاريخ وصراع الطبقات بلا باعث ولا غائية، لقد غير موقف الماركسة النظرى دفعة واحدة وفى تجاوز هذين النوعين من (التاريخانية)، وهنا نجد أن عمل العروى يبقى معلقاً بينهما.

تريد هذه التاريخانية أن تعيد التفكير فى (الوعى التاريخى) بالنسبة إلى الأيديولوجية العربية مؤكدةً على معنى الاستمرارية التاريخية، وعلى الدور الموجه للحقب ذات الزمن الطويل، حتى يتمكن من إعادة تخلفنا الثقافى كله إلى مجال التاريخ. ولكننا، بالمقابل، نجد أنفسنا غير ملزمين باتباع المسيرة ذاتها ونجتاز من جديد المراحل التى اجتازها الغرب ،لابد أن ننطلق مباشرة وأن نبدأ من الموجود، أن ندخل إلى الحداثة فوراً من القائم هنا كمسألة؛ وخلاصة القول لا توجد أى ضرورة أو حتمية تقول لكى تتحقق الحداثة في عالمنا العربي لابد أن نرجع إلى نقطة معينة فى التاريخ الأوربى ثم نسلك المسار نفسه، ، وكذلك ما يقوض تاريخانية العروى هو خلطها بين (الآخر) و(الغير) بين الأنثوروبولوجيا الثقافة وفكر الاختلاف بين التاريخى والتأريخى إضافة إلى ذلك نجد أراءه حول الواقع العربى تتساقط من تلقاء نفسها ومثال على ذلك تجده يقول " منذ ثلاثة أرباع القرن يطرح العرب على أنفسهم سؤالا وحيدا واحداً: من الآخر ، ومن أنا " (العروى : الأيديولوجية العربية المعاصرة ) إن هذا القول يلغى البعد التاريخى لحقيقة السؤال ذاته، لأنه سؤال لا ينفك يطرح وباستمرار من قبل فكر الوجود ، لكن العروى يغيب هذا السؤال الجوهرى عن الوجود والموجود ، المؤتلف والمختلف كما يطرح فى الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية ، إن أيديولوجية العروى منهارة فى أساسها ولا قيمة لها.( الخطيبى ، عبد الكبير : النقد المزدوج )

أما بخصوص التراث فهو يعنى عند العروى مجموعة الأشكال الكلامية والسلوكية التى انحدرت إلينا من الأجيال السابقة وفى نطاقه يطمس التعاقب الزمنى والتمايز الاجتماعى حيث إن رباطنا بالتراث العربى الإسلامى فى واقع الأمر قد انقطع نهائياً فى جميع الميادين وأن الاستمرار الثقافى ما هو إلا خدعة وسراب ، فقراءتنا للمؤلفين القدامى لا تؤدى إلا إلى عدم رؤية الانفصام الواقعى لأن الذهن يكون مفصولاً عن واقعه متخلفاً عنه بسبب اعتبارنا الوفاء للأصل حقيقة واقعية مع أنه أصبح حنينا رومانسيا منذ أزمان متباعدة . فالانبعاث لا يعنى إحياء إنجازات الماضى بقدر ما يعنى استعادة العرب للمركز الحضارى الذى احتلوه فيما سبق بين الأمم . فالعروى يعتقد أن الثقافة العربية المطلوبة ستكون بالطبع متشابهة للثقافة القديمة من جوانب شتى ، لكنها ستكون بالطبع مخالفة لها فى المضمون من حيث كونها فى مستوى الثقافات المعاصرة ، وهذه نظرة للثقافة والتقليد لا تنبع من داخل التقليد ، إنها تستقل عنه لتعود إليه ثم تحكم عليه وتستغله ، فهى نظرة خارجية موضوعية تستخدم منظور التاريخ عنصرا معرفياً وأساساً لتكوين المعرفة العلمية .

لا يستطيع عرب اليوم، كما يرى العروي، أن يقولوا إن لهم حضارة وثقافة بالمعنى الدقيق إلا بإن تكون انجازات اليوم بمستوى إنجازات الأمس، وفى الوقت ذاته متميزة عن إنجازات الأمس وبالتخصيص الأوربية التى تدعى الكونية، فربط الأصالة بإنجازات الأمس فقط يشير إلى تاريخ بائد، وكذلك الربط بإنجازات الحالية تكون كلاماً فارغاً لأن ثقافتنا الحالية مقتبسة فى معظم مظاهرها، والحل المعقول هو أن نربط الأصالة بطموح العرب وما يرغبون فى تحقيقه مستقبلاً، فتكون الأصالة عبارة عن مشروع ثقافى. ولذلك يؤكد العروى على أن مفهوم الأصالة غير مستقر، يرمز إلى الدين مرة ومرة إلى الثقافة، يشير مرة إلى واقع انثروبولوجى ومرة إلى اختيار تاريخى. إن السؤال حول الأصالة لا يتعلق بمفهومها وشرعية الدعوى إليها، بل بالأحرى حول من له مصلحة فى نشرها، وكيف يفهم الأصالة ويستغلها؛ ولكن فى الوقت نفسه يدرك العروى أن هناك من يعطى لكلمة الأصالة مفهوماً لا يتجانس مع مفهوم الانبعاث إلى حد أن المفهومين يصبحان متناقضين، وذلك لظهور طرفين أحدهما يركز على الأصالة والآخر على الانبعاث عن طريق الاغتراب، وما هو مهم بالنسبة لنا هل التناقض الحاصل بين الطرفين ناتج عن اختلافات مصلحية فقط ، أم هو تعبير عن مفارقة تاريخية تكمن فى صلب مفهوم الانبعاث بوصفه مشروعاً إنسانياً عاماً ؟ أى هل مسألة الانبعاث تؤدى بالضرورة إلى التناقض بين الأصالة والمعاصرة؟ ( العروى : ثقافتنا فى ضوء التاريخ ).

وبناء على كل ما تقدم نلاحظ أن العروي يذهب إلى أننا إذا فهمنا الأصالة بكيفية مطلقة بأنها تعنى أن يضاهى أهل اليوم أهل الأمس نجد فيها نوع من التعجيز الذى يولد المحافظة على الأوضاع الفكرية السائدة وتكون الأصالة وسيلة لرفض الاقتباس من الخارج والحوار معه حتى يمكن المحافظة على التشكيلة الاجتماعية القائمة.

وبناء على كل ما تقدم نلاحظ أن العروى يذهب إلى أننا إذا فهمنا الأصالة بكيفية مطلقة بأنها تعنى أن يضاهى أهل اليوم أهل الأمس نجد فيها نوع من التعجيز الذى يولد المحافظة على الأوضاع الفكرية السائدة وتكون الأصالة وسيلة لرفض الاقتباس من الخارج والحوار معه حتى يمكن المحافظة على التشكيلة الاجتماعية القائمة ، وأما أصحاب الموقف المعارض فيدعون إلى تقليد الغرب والأخذ من حضارته بهدف الخروج من وضعنا البائس ، وهكذا يوجد على الساحة الثقافية اليوم طرفان يتفقان فى الهدف ويفترقان فى الغاية. وهذا التعارض بين الطرفين يوجب علينا النقد المفهومى حتى يمكن إدراك الاختيار الذى يمثل الخطوة الحاسمة لتحقيق قفزة نوعية تجعل منه مجتمعاً تاريخيا وبوعى تاريخى حتى يمكن تجاوز هذه المفارقة بعملية جدلية مرتبطة بالتاريخ الوقائعى نفسه .

ولكي نعيد تقويم العروي نلاحظ أنه يؤسس خطاب السؤال من خلال قضية مشروعية تدور حول إشكالية: لماذا لم تجسد العقل عندنا فى نظام اجتماعى موظفاً فى ذلك أدوات معرفية ومفاهيم رئيسية موجهة لخدمة قضايا (الديمقراطية) و(التحرر) بطريقة منهجية ذات دلالة قوية على الفعالية والاستمرار، و على النقد والتأويل ومحاولة إقناعنا على أن واقعنا ليس الحاضر وإنما المستقبل، فمشكلة التأخر نجد حلها فى المستقبل الذى هو عنده، أوربا عصر الأنوار ( العروي :أزمة المثقفين العرب) فمنهجية العروى ترفض الفصل بين الغرب والشرق، وكذلك نجده يحاول فهم الأحداث فى مضمونها التاريخى والاجتماعى من خلال تأكيده على ضرورة تحقيق وحدة الاتجاه التاريخى وبالقول بأن لكل شىء معنى في التاريخ، لهذا يتطلب استيعاب مفهوم التاريخ لتجاوز تأخرنا الثقافى، ونقيم دولة المعاصرة التى توحد بين المجتمع المدنى والدولة(العروى: مفهوم الدولة )، هذه "التاريخانية " تنير المستقبل أكثر ما تنير الماضي، فتكون الرد على دعوات تأصيل التراث، فالذى يخرجنا من تخلفنا هى العلاقة العقلانية المرتكزة على دولة معاصرة ليبرالية تربطنا مع عصر الأنوار، لكن المشكلة هنا هي أن الاستمرارية عند العروي ليست استمرارية مع الماضى التراثى العربي الإسلامي ولكن استمرارية مع ماضى آخر هو عصر الأنوار الأوربي.

تقوم منهجية العروى على العالمية أى التسلم من الثقافات المغايرة وعليه لايمكن النظر الى منهجيته من زاوية منطق الهوية بل أنه يرد التاريخ إلى شمولية ميتافيزقية، نسيجها الاستمرارية والعقلانية والميل إلى النظام والإرادة كما لو أن (عامل التاريخ) عقل مطلق أن يسيطر على العصر. والأمر فى تاريخانيته يتعلق بمنهج فني (تكنيكى) يكتفى بتسجيل الوقائع التاريخية وترتيبها فى خط زمنى متواصل تقرأ فيه البدايات والأصول والتاشيرات والأحداث من كل نوع وبالتالى فإن الرأى الذى يقول بأن العروى يقول بالقطيعة التاريخية غير مقبول، فالتاريخ عنده هو النظرة الشاملة الى مجموعة حوادث الماضى، إنها نوع من فلسفة المتصل التاريخى التى رفضتها طروحاتها مدرسة الحوليات الفرنسية والمنهجية الحفرية لاحقاً.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم