أقلام فكرية

مقدمات لـ "فهم الفلسفة السياسية" (7): المساواة والإنصاف

علي رسول الربيعيسنتناول تحت هذا العنوان القضايا التي تدور حول:

- ما يشكّل تقاسم عادل للموارد

- تأثير الاقتصاد على الحياة السياسية

- الرأسمالية والمساواة

- الديمقراطية ومشكلة الأقليات.

الاقتصاد هو المفتاح. لكن لماذا يجب أن يكون للاقتصاد أهمية في تقييم الحياة السياسية؟ يريد الناس أساساً أن يشعروا بأنهم يعامَلون بإنصاف. ويشتكون إن كان هناك قسم آخر من السكان يحصلون على مزايا هم محرومون منها على أساس أنه يجب معاملة الناس بشكل متساوٍ وعادل. هناك العديد من الطرق التي يريد الناس أن يتم التعامل معهم فيها بطريقة عادلة ومتساوية، لكن المشاركة في الموارد المادية هي نقطة جيدة لنبدأ منها، ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى العودة والنظر إلى ميزتين رئيسيتين للمشهد السياسي: النفعية والرأسمالية.

عند التفكير في أي مشكلة، من المفيد أن تبدأ بتأسيس القيم التأسيسية الخاصة - وبعبارة أخرى، المبادئ التي تملكها والتي لا ترغب بالتنازل عنها. هناك قيمتان أساسيتان للفلسفة السياسية هما المساواة والحرية. الأولى هي نقطة انطلاق الفلاسفة الذين يفضلون النهج الاشتراكي للسياسة، والثانية أولئك الذين لديهم قناعة ليبرالية في دراسة قضايا المساواة والعدالة.

النفعية هي النظرية الأخلاقية التي تقوم على فكرة أن الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله هو ما يوفر أكبر فرصة للاستفادة لأكبر عدد من الأشخاص المعنيين. طُورت هذه النظرية من قبل جيريمي بينثام (I748-1832) وجون ستيوارت ميل (1806-73)، ويمكن القول أنها النظرية الأخلاقية الأكثر استخداماً اليوم. هناك ثلاثة أشكال رئيسية للنفعية:

يحكم "مبدأ المنفعة" على النظام السياسي ما إذا كان ينتج منافع أكثر أو أقل، ويوفّر رفاهية وسعادة لأكبر عدد من مواطنيه. ويبدو طبقاً للفلسفة السياسية أن النفعية هي نتيجة منطقية للديمقراطية. إذا كان بإمكان الجميع المشاركة في انتخاب حكومة، فإن التوقع هو أن تعمل الحكومة بعد ذلك لصالح الأغلبية. وبالفعل، فإن هذا المبدأ وإن لم يكن مقيَّماً بعبارات نفعية، يعود إلى أفلاطون وأرسطو. وفي مجتمع عادل، فإن مصالح الأغلبية وليس مصالح النخبة هي التي ينبغي أن تسود.

 يُنظر إلى الرأسمالية عموماً على أنها الطريقة الواضحة لتقديم ما يتطلبه التقييم النفعي، وتفترض أن مهمة الحكومة هي فسح المجال لقوى السوق الرأسمالية بتوزيع الخيرات والمنافع وتوفير مستوى المعيشة الذي يريده الناس، واعتبرت النفعية في القرن التاسع عشر أن على الحكومة ألا تتدخل في المساومات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال على أساس أن اقتصاد السوق الحر سيؤدي في الواقع إلى تحقيق أكبر قدر من الخير للعدد الأكبر من الناس.

قد يجادل الاشتراكيون أنه يجب تأميم الصناعات بحيث يربح الجميع وليس فقط أصحاب رؤوس الأموال. من جهة أخرى، ترى النيوليبرالية أو المحافظة أن الكفاءة والربح هما الحافزان اللذان يدفعان الأعمال إلى الأمام، وهذا في نهاية المطاف يعود بالفائدة على جميع المعنيين. كلتا الحجج تعبّر عن النفعية.

من الواضح أن المنافسة العادلة بين الشركات تعتبر جيدة من منظور نفعي، ولكن عندما تعتبر المنافسة غير عادلة فإنه يبدو ومن خلال تنظيم درجة هيمنة السوق المسموح بها، على الحكومات أن تضمن تفوق النفعية على الرأسمالية، أيً بما أن المطلوب هو أن تعود الفائدة الى الأغلبية فلها الأسبقية اذن على حق الشركات في السيطرة على السوق.

قضايا النفعية

عندما نقول أن كل شخص يجب أن يحصل على أفضل رعاية صحية ممكنة أو مستوى معيشي معقول في التقاعد، فإننا لا نقدم تقييماً نفعياً لما يمكن أن يفيد المجتمع ككل، فنحن ندعم ما يعتبره الفرد معقولاً، وما يعتبر ترتيباً عادلاً للمجتمع. بعبارة أخرى، يستند الحكم على تقييم ما يشكل حياة متحضرة للفرد. وسيكون من الصواب تشجيع هذه الحياة المتحضرة حتى لو لم يستفد المجتمع ككل منها. بمعنى آخر، هناك بعض الحقوق الأساسية التي يجب أن تكون لها الأسبقية على المنفعة العامة. لذا فإن السؤال الأساسي للنفعية هو: هل تتفوق حقوق الإنسان على فوائد نفعية؟

سؤال آخر: كيف تقيّم من يشارك (في المنفعة)، وبالتالي يجب أن تؤخذ مصالحهم في الاعتبار؟ هل ينبغي أن يتم ذلك على أساس محلي، أو من حيث القوة العاملة لشركة معينة؟ هل يجب أن تقاس المنفعة أقليمياً أو وطنياً؟ أم يجب أن تكون عالمية؟

عندما يتعلق الأمر بالاحتباس الحراري العالمي أو القيود المفروضة على التجارة الدولية، قد تتعارض مصالح المواطنين في بلد واحد مع المصالح العامة للمجتمع العالمي. ما هو التقييم النفعي الذي تأخذه في الحسبان - المحلي أم العالمي؟ الجانب الآخر من هذه العملة هو الشكوى، ففي أي تقييم نفعي تتفوق الأغلبيات على الأقليات، وبالتالي يتم التمييز ضدها عندما يتعلق الأمر بتفضيل أفضلياتها. هذا بالطبع ينطبق على كل من النفعية والديمقراطية.

قضايا الرأسمالية

الرأسمالية هي في الأساس آلية لتوليد الثروة، دافع الربح يكون أساسياً فيها. لكن الرأسمالية غير المقيدة قد تؤدي إلى نتائج (ظروف العاملين، والتأثيرات على البيئة، وما إلى ذلك) يجدها الناس غير مقبولة. بعبارة أخرى، قد ينظر إلى التكلفة الاجتماعية أو البيئية لتوليد الثروة التي يحصل عليها من يملكون رأس المال على أنها مرتفعة بشكل غير مقبول.

قد يبدو التوجه السياسي ورأسمالية السوق الحر غير متوافقين، لأن المبادئ الاقتصادية التي تقود الرأسمالية ليست سياسية. ومع ذلك، فإن معظم الدول تشعر بالحاجة إلى فرض تشريعات ذات دوافع سياسية على الصناعة باسم الإنصاف، من خلال تشريعات مكافحة الاحتكار على سبيل المثال، أو من خلال القواعد التي تنطبق على التأثير البيئي للمنتجات أو على تسويقها (على سبيل المثال، القيود المفروضة على الإعلان عن منتجات التبغ).

لقد اعتقد ماركس أن العمال يهددهم الاغتراب - بدلاً من أن يكونوا قادرين على التفوُّق بما أنتجوه، فقد خُوّلوا إلى التروس في عجلة الإنتاج. لا يزال هذا الأمر يمثل تهديداً، فيتم استخدام "التسليع" حيث يتم منح جميع جوانب حياة الفرد قيمة نقدية وليست قيمة شخصية - من الوظيفة إلى فكرة الشهرة، كل شيء له سعره ومكانه.

إن فرض حد أدنى قانوني للأجور والقيود المفروضة على الظروف التي يسمح فيها للأشخاص بالعمل هي قيود سياسية على الرأسمالية. وغالباً ما تشكو الشركات الصغيرة من مثل هذه القيود ومقدار "الروتين" المرتبط بها. إذا كان الناس مستعدين للعمل بأقل من الحد الأدنى القانوني للأجور فهل يجب عدم السماح لهم بذلك؟ كيف تشجع الشركات على توفير ظروف عمل أفضل؟ هل يجب تغيير مستويات الضريبة على الأرباح وفقاً لجودة العمل التي تقدمها الشركة؟ هل هذا تدخل كبير في عمل الرأسمالية والذي قد يخنق المنافسة؟

تعتمد الرأسماليةعلى النجاح داخل الأسواق، استناداً إلى التكنولوجيا المطلوبة للإنتاج والبيع والمعلومات المطلوبة من أجل القيام بذلك. يميل النيوليبراليون إلى تحرير الرأسمالية من التشريعات المقيدة، على افتراض أن توليد الربح هو في حد ذاته هدف صالح للأعمال. لكن هل الرأسمالية والنفعية قادرة على تحقيق الإنصاف في المجتمع أم أن هناك حاجة ماسة أكثر منهما؟

عدالة التوزيع

غالباً ما يُفترض أن السمة الرئيسية للحكومة الجيدة هي إدارتها للاقتصاد. بعبارة أخرى، ما يريده الناس هو مستوى معيشي يتزايد باستمرار، ويتم وضع الحكومة في السلطة من أجل توزيع الخير. هناك بالطبع عوامل أخرى - الناس يتطلعون للحصول على المدارس، والمستشفيات، والطرق، والأمن - يأخذ توفيرها أهمية اقتصادية وسياسية، فالأغنياء أكثر قدرة على الحصول على الطب الخاص والتعليم وما إلى ذلك، في حين ليس لدى الفقراء من خيار سوى قبول ما تقدمه الدولة. لذا، فإن السؤال الرئيسي المطروح على الحكومة هو ما إذا كانت تقدم خدمات تعكس قيمة جيدة مقابل المال (أي الأموال التي قدمها الناس على شكل ضرائب)، على افتراض أن الحكومة تعتبر أكثر كفاءة وفاعلية، كلما قلت الضرائب التي تفرضها. ووفرت الفرص للمزيد من الأموال التي يحتفظ بها الناس في حوزتهم.

لكن هناك مشاكل في هذا:

- في السوق العالمية، يعتمد اقتصاد أي بلد بشكل كبير على ما يحدث في أي مكان آخر في العالم. ولا تستطيع الحكومة بمفردها تحديد أو مواجهة الاتجاهات والأوضاع العالمية.

- ما إذا كان يجب على الاقتصاد توفير مستويات أعلى من المعيشة وهو سؤال سياسي لا يتم طرحه في كثير من الأحيان، لأن إجابته مفترضة وبديهية.

- يميل السؤال إلى افتراض أن المؤشرات الاقتصادية (معدل التضخم ومستوى التوظيف وما إلى ذلك) محايدة فيما يتعلق بالقرارات السياسية - وبالتالي يمكن استخدامها لمقارنة أداء الحكومات. لكن، في الواقع، إن الأشياء ذاتها التي تستخدم كقياس هي جزء من عملية صنع القرار السياسي.

تميل النزعة المحافظة والاشتراكية إلى الانقسام حول هذا، حيث يتوقع المحافظون دفع ضرائب أقل وقبول - حيثما كان ذلك مناسب - بتخفيض في الخدمات، مما يسمح للأفراد حرية اختيار كيفية إنفاق الأموال الإضافية المتوفرة لديهم بعد الضرائب. إن النزعة الاشتراكية، التي لها اهتمام خاص بالفقراء في المجتمع تفضل عموماً خدمات عامة أفضل (يعتمد عليها أولئك الذين تمثلهم)، مع زيادة الضرائب إن لزم الأمر والتي تقع بشكل أكثر تناسباً على عاتق الأثرياء.

لكن كيف تقرر الكيفية التي يتم وفقها توزيع الخيرات؟ هل تفعل ذلك على أساس:

- ما الذي يحتاجه الناس؟

- ما الذي يستحقه الناس؟

- مشاركات متساوية للجميع؟

رأى ماركس أن على الناس أن يقدّموا حسب قدراتهم وأن يتلقّوا حسب حاجاتهم. هل هذا طموح واقعي؟ من حيث العدالة التوزيعية، سيطر أحد المفكرين على المناقشة لأكثر من 30 عاماً: جون راولز. وهذا ما سنناقشه في المقال القادم.

 

الدّكتور علي رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم