أقلام فكرية

كيف نفسر نشأة العلم تفسير ابستمولوجياً؟!

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن دراسة العلم، سواء في مرحلته الراهنة، أو في أي عصر من عصور التطور، ويكون ذلك من وجهة نظر فلسفية، فإن الباحث يمكن له أن يتناول الفكر بالدراسة من منظورين مختلفين، لكنهما يكمل أحدهما الآخر بالنسبة لنا.

 المنظور الأول: هو ما نطلق عليه اسم "وجهة النظر الاجتماعية لتفسير نشأة العلم وتطوره"، وفي هذه الحالة فإن الباحث يهتم بكل ما من شأنه أن يعمل على قيام العلم أصلاً، وتوفير متطلباته الاجتماعية. إنها وجهة نظر تأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية وتنظر للعلم فقط من الخارج، وفى هذه الحالة يتعرض الباحث للنظام السياسي- الاجتماعي القائم في حضارة أو دولة معينة، والذي أصبح إنتاج معرفة علمية بعينها من جراء مشروعه الثقافي. فالعلم لا يعرف طريقة التوالد الذاتي، وإنما العلم هو في نهاية الأمر محصلة لمؤسسات بعينها ولمعدات وأجهزة بعينها، ولميزانية تمول ما هو مطلوب من أجل إنتاج معرفة معينة. إنه يحتاج إلى مناخ سياسي، واجتماعي، وثقافي معين، والمثال الواضح لذلك هو المعرفة في العالم الغربي الأمريكي اليوم على وجه التحديد .

المنظور الثاني: ووجهة النظر المعرفية تأتى مكملة لوجهة النظر الاجتماعية، وهى وحدها القادرة على تقييم العلم "وتثمينه" من ناحية التطور المعرفي. وهذا المنظور هو الذي يسمح للباحث بالولوج إلى داخل العلم نفسه، كي يحلل هيكله ويتوقف على مساراته، وبنيانه، وطرق الاستدلال بداخله، وكيفية صياغة المبادئ العامة التي تعبر عن التقدم العلمى بداخله. كما يستطيع المعرفي أن يستخرج مراحل التطور الرئيسة التي سلكها هذا الفكر أو ذاك في بناء نفسه، وحتى بلوغه مرحلة التطور المعرفي التي هو عليها في حالته الراهنة .

إنها وجهة نظر تأخذ بعين الاعتبار بناء العلم من الداخل، وتضع جانبًا كل العوامل الاجتماعية الخارجية التي أشرنا إليها في المنظور الأول. وغنى عن البيان أن وجهة النظر المعرفي حين تكتمل لا يجد أصحابها مفراً من توسيعها لتشمل في نهاية الأمر البعد أو المنظور الاجتماعي. فكما يقول ( أوجست كونت) إن العلم هو ظاهرة اجتماعية تاريخية لم ينشأ من فراغ، أو خارج المجتمعات، وارتبط نمو العلم وتطوره ارتباطاً وثيقاً بنمو وتطور المجتمع الإنساني، وارتبط هذا وذاك بنمو وتطور العقل الإنساني نفسه. لكننا حين ندرس وجهة النظر الاجتماعية منفصلة عن وجهة النظر المعرفية، فإننا نفعل ذلك استجابة لحاجات الدراسة الأكاديمية وما تفرضه من تجزئة للمعرفة حتى يمكن دراستها.

ولقد لقد فرض العلم الحديث سيطرته الايديولوجية، بشكل منهجي منظم أو بعبارة أخري فرض سيطرته الايديولوجية بشكل علمي، لهذا فإن القطيعة الابستمولوجية هنا كما يري بعض الباحثين " تعلن الحرب علي الأوهام الايديولوجية، وتحاول تعرية آليات المستوي الايديولوجي . لهذا تعني القطيعة المعرفية الانفصال في لحظة عن البداهات الايديولوجية، وبهذا المعني لا تكون القطيعة حدثا تاريخياً منعزلاً وقائما بذاته، بل هي مجموع من اللحظات التي يلقي فيها العلم نظرة إلي ماضيه العلمي، ليكشف عن مواطن الزيف الايديولوجي فيه . ويكشف عن الخطأ التي اكتنفت المعرفة العلمية وغلفتها بأغلفة ايديولوجية . إن تحرير الخطاب العلمي من نوايا وأغراض الباحثين، ومن الايديولوجيات القابعة خلف تفكيرهم، يؤدي إلي إظهار هذا الخطاب علي سجيته وفي تناثره التلقائي البحت، ذلك لأن مثل هذه النوايا والأغراض الايديولوجية من شأنها أن تعرقل مسيرة الخطاب العلمي في تقدمه، وهذا لا يأتي إلا عبر القطيعة الابستمولوجية ".

ومفهوم القطيعة الابستمولوجية، والذي أحاول أطبقه هنا في هذا المقال هو، يمثل كما ذكر أحد الباحثين " ... النقلة الكيفية من إطار معرفي إلي إطار آخر، وهي لا تعني قطيعة مطلقة، لأنه لا يمكن تصور أن خيط التطور ينقطع عند لحظة معينة من التاريخ أو يتجمد عندها، إنما القطيعة المعرفية في مفهومنا هي منعطف ثوري ننتقل فيه من مرحلة إلي مرحلة أخري متقدمة ينفتح فيها طريق، كان مسدودا أو كان يبدو مسدوداً لفترة طويلة . لقد تحرك العلم والفلسفة واللاهوت، أي الأطر المعرفية كلها في العصر القديم حول النظام الفلكي الذي شيده بطليموس منذ ما يقارب الالفي سنة والذي يقول بأن الأرض هي مركز الكون، إلي أن جاء " كوبرنيقوس" (1472-1543)، وقلب نظام الكون وقال بحركة الأرض حول الشمس فدخل بذلك علم الفلك منعطفاً جديداً. وكان العالم القديم يعتبر الأجرام السماوية كائنات روحانية تختلف عن عالم الأرض أي عالم الفساد، فجاء جاليليو (1546- 1642) وأكد مادية الأجرام السماوية وقضي علي تصور تقسيم إلي العالم الروحاني العلوي والعالم السفلي المادي الفاسد . بل وخرج بنظرية "كوبرنيقوس" من حيز الرياضيات إلي حيز الوجود الطبيعي وأثبتها تجريبيا من خلال تلسكوبه الفلكي الذي اكتشف به عددا من النجوم وهضاب القمر ووديانه، ولقد اهتم جاليليو بالبحث عن العلاقات التي تربط بين الظواهر وترك جانباً ( البحث عن المبادئ والأسباب الميتافيزيقية التي استحوذت علي الفكر القديم وبذلك أحدث قطيعة بين الفكر الجديد والفكر القديم، قطيعة لم يعد من الممكن بعدها العودة إلي أساليب التفكير القديمة والتصورات الأرسطية والوسطوية التي كانت تشكل أساس العلم والمعرفة) .

كما أن القطيعة تعني الانتقال الجذري من تصور خاطئ أو قاصر إلي تصور يفتح الطريق أمام معرفة موضوعية وليس من الضروري أن يكون صحيحا مائة بالمائة . فما فعله فرويد مثلاً في علم النفس يعتبر نقلة كيفية بمعني القطيعة مع كل التصورات القديمة حول النفس الإنسانية . وإن كان علم النفس ذاته لم يقف عند تحليلات فرويد ولن يتجمد حيالها. والانتقال من جاليليو إلي نيوتن . والانتقال من نيوتن إلي أينشتين . لم يكن انتقالا هادئاً ولا معبداً، بل كان انتقالاً كيفياً أو قطيعة معرفية جعلت بريق القديم أقل لمعاناً مما يقدمه الجديد . فالقطيعة الابستمولوجية التي أحدثها أينشتين وماكس بلانك هي قطيعة بالنسبة إلي علم نيوتن وجاليليو .

إن القطيعة المعرفية التي نبغيها أيضاً في هذا البحث ليست هي القطيعة التي أخبرنا عنها بعض الباحثين بأنها ذلك " .. التغير الجذري الثوري، بحيث لا نجد أي ترابط أو إفصال بين القديم والجديد، (وأن ) ما قبل وما بعد، يشكلان عالمين من الأفكار كل منهما غريب عن الاخر "، بل تعني التعبير عن التحول الواعي والهادف في مجال العلم والمعرفة العلمية، لهذا لا تمارس القطيعة عملها من خارج العلم، بل تمارس عملها من داخل العلم ذاته . فالعلم في تطوره ينشئ القطيعة من أجل المراجعة، والنقد المستمرين لأسس ومناهج ومفاهيم وتصورات العلم أو المعرفة العلمية السابقة . فالقطيعة ليست نبتة غريبية عن حقل العلم أو المعرفة العلمية، إنما هي نبتة أصيلة، تنبع أصالتها من داخل العلم ذاته، لأنها تدعم وتقوي العلم وتدفعه للأمام عن طريق النقد والمراجعة، وإعادة البناء المستمر له، لهذا فإننا نستخدم القطيعة هنا بالمعني الذي أخبرنا عنه أحد الباحثين بأنه ":" إعادة بناء ماضي العلم والمعرفة العلمية لا من أجل مهاجمة ونقد العلم والمعرفة العلمية ذاته ؛ بل من أجل تأسيس حاضر العلم وتقدمه في المستقبل، وبالتالي تكون القطيعة هي التجاوز النشط المسئول للماضي والمبدع الخلاق للحاضر، فلا تعود اللحظة تكراراً كمياً للتاريخ بل هي عمل دءوب، إنجاز الحداثة، بل الجدة " .

وهذا المفهوم للقطيعة الابستمولوجية هو نفس ما نادي به الدكتور " حسن عبد الحميد بأنها " لا تعني هنا الحد الفاصل الزمني اللحظي، أو هذا التغير السريع الذي ينتج عنه امر جديد كل الجدة، بل عبارة عن مسار معقد ومتشابك الأطراف، تنتج عنه مرحلة جديدة ومتميزة في تاريخ العلم .

والقطيعة الابستمولوجية تكمن " كما أكد بعض الباحثين"، " في هذا الطابع الجدلي الذي يطبع تاريخ العلم فلا يمكن أن نتخيل وفقاً لهذا التعريف تاريخاً للعلم تنقطع فيه الصلة بين ماضيه وحاضره، وبالتالي لا تفهم القطيعة إلا علي أرضية من الاستمرارية والاتصال . علاوة علي أنه لا يوجد تقدم قائم علي الانقطاع الكلي عن كل ما سبقه، فليس ثمة قطائع نهائية جذرية بين حاضر العلم، والذي يمثل أعلي مرحلة يصل إليها التقدم في العلم، وبين ماضي العلم، بل توجد قطائع بمعان معينة بين فيزياء جاليليو وفيزياء نيوتن أو بين نظرية النسبية لأينشتين والميكانيكا النيوتونية . إنها قطائع تصويبية تحاول حل المشكلات التي عجزت النظرية السابق عن حلها . إن وجود حصيلة من الاخفاقات المعرفية النظرية في مجال ما من مجالات العلوم ووجود سلسلة من العوائق المعرفية التي تؤدي بدورها إلي هذه الاخفاقات والعوائق يأذن بوجود قطيعة معرفية التي تعني هنا في هذا السياق، التحول الابستمولوجي في هذا المجال أو ذاك من مجالات العلوم الطبيعية . هذا التحول لا يتم بطريقة جذرية ؛ بمعني أن يستوعب هذا التحول تدريجياً، الاسهامات المعرفية والاكتشافات العلمية والنظريات السابقة، وأن يسقط من حسابه تدريجياً أيضاً، تلك العوائق والاخفاقات التي أعاقت نمو وتقدم وتطور العلم" .

ريما أن المفهوم للقطيعة قد لا يرضي عنه البعض (وبالأخص الرديكاليين) ؛ لكونه كما يري بعض الباحثين " يخفي وراءه فكراً تقليدياً، حيث يشير هذا التعريف إلي وجود عنصر الاتصال بين النظريات العلمية السابقة واللاحقة، حيث يمثل هذا الاتصال أحد الصفات التي تميز التقدم في العلم بمعناه التراكمي، وإن كان الاتصال هنا يفهم بمعناه الجدلي ؛ بمعني أن النظريات العلمية المتعاقبة ( أو القضايا والاشكاليات الفلسفية )   لا تسير في خط متصل متراكم ؛ بحيث أن كل نظرية تقضي حتما إلي التي تليها، ومن ثم لا يوجد ثمة قطيعة أو ثورة أو تجاوز، وإنما عنصر الاتصال هنا بين النظرية العلمية المتقدمة وبين النظرية السابقة عليها، يتخذ في أن النظرية العلمية المتقدمة لا تلغي النظرية السابقة، بل تحتويها وتبرز عناصر النجاح التي حققتها النظرية السابقة .

ولذلك فإنني هنا أناشد بأهمية هذا التصور للقطيعة المعرفية ومحاولة تطبيقه ليس فقط في العلم ولكن أيضاً في الفلسفة، ولذلك فإن توجهي في هذا البحث هو نفس توجه لوي ألتوسير Althusser`s L (1918-1990) ، حين استعان بمفهوم القطيعة المعرفية من أجل تناول الماركسية تناولا علمية دقيقا . فقد كانت مهمته كما أكد بعض الباحثين " تأسيس تصور للعلم يكون له دعامة قوية، ولإنجاز هذه المهمة تناول إشكالية " التعيين" Demarcation فلم يؤكد ألتوسير علي الشروط الكافية أو الضرورية للعلم، ولم تكن نيته متجهة نحو التمييز بين العلم واللاعلم، بل كان اهتمامه بالتحولات العميقة داخل العلم ذاته .. ولهذا شرع ألتوسير يقرأ كتاب " رأس المال "، قراءة ابستمولوجية بعد أن استعار مقولة القطيعة المعرفية من " جاستون باشلار "، ليشير إلي أن ماركس قد أحدث قطائع معرفية علي طول حياته الفكرية، فقد أحدث ماركس قطيعة مع أفكاره السابقة وتبني كل من فلسفة كانط وفشتة وذلك في عام 1840 إلي 1842، وكان في هذه الفترة يؤمن بالحرية كجوهر للإنسان ولكن سرعان ما هجر هاتين الفلسفتين، وأحدث قطيعة معهما ليتجه في فترة 1845 إلي فيورباخ والنزعة الإنسانية .وبحلول عام 1845، أحدث قطيعة ثالثة مع الاتجاه الإنساني الفيورباخي لصالح الاتجاه الهيجلي الايديولوجي ثم أخيراً أحدث قطيعة مع الاتجاه الهيجلي ليؤسس الماركسية العلمية إلي العلم".

 

د. محمود محمد علي

كلية الآداب –جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم