أقلام فكرية

ماذا يعني أن نفكر في الإسلام اليوم؟ (3)

علي رسول الربيعيراولز والإسلام:

كيف يمكن النظر إلى لإسلام على ضوء نظرية راولز؟

يعود سبب تساؤلي في العنوان إلى أمرين: الأول، يتعلق بالأسلام كشريعة في علاقته بالشأن العام، أيً طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة والدولة وهنا أتبع خطوات عبد الله النعيم في رؤيته لهذه العلاقة وقد أشرت إلى طروحاته من خلال ذكر مصادره أو كتاباته، لكني أعدل رؤية النعيم من خلال تبني رأي أبو يعرب المرزوقي الذي أشرت إليه في مقال سابق من هذه السلسة وهو في ما معناه إجمالاً أن لاعلاقة مباشرة بين الدين والسياسة، اي أن يتحول الدين إلى حزب سياسي، ولكن صلة الدين بالسياسة من خلال وسائط نظرية عديدة، فيكون دور الإسلام ومكانته المرشد والموجه القيمي، أما الثاني حول ما إذا كان يمكن النظر إلى لإسلام على ضوء نظرية راولز والسؤال الشهير الذي يطرحه: " كيف يمكن لأولئك الذين يعتنقون عقيدة دينية تستند إلى سلطة دينية ... أن يكون لديهم مفهوم سياسي معقول يدعم نظام ديمقراطي عادل؟". ينطوي تسـاؤلي على إمكانية إجراء بعض التعديل على نظرية راولز ذاتها ذلك لأن تفكير راولز في العقيدة الدينية والمسائل ذات الصلة بها يأتي من نظر مسيحي، أيً أنه يفكر في الدين بوصفه الدين المسيحي. أما المسلمون الذين يفكرون بالدين استرشادا بمنظور راولز فأن تفكيرهم يأتي من خلال "التخمين" في كيفية أن تكَّون علاقة الدين بالإسلام.

هناك عاملان مهمان وهما تأثير الشريعة على كيفية تفكير المسلمين في هذه الأسئلة وسياق العصر الحديث متمثلاً في مرحلة مابعد الكولونيالية (مابعد الاحتلال) الذي يبحث فيها المسلمون هذه القضية. لذلك قد يتم توجيه استفهام إلى تعريف راولز للعقل العمومي وكيف يُفترض به أن يعمل في حالة الممارسة بالفعل : في إطارات وخلفيات وأوضاع يتم بها تطبيق العقل العمومي، وعلى من؟ وكيف يتم ضبطه ومراقبته ورصده؟

ما أقترحه هنا هو النظر إلى ممارسة العقل العمومي في سياق إسلامي. والأختلاف ياتي من الأصرار على أن هناك دورأساس للمؤمنين في أي دين (المسلمون هنا) كمشاركين متساوين في ممارسة ما يقدمه راولز كهدف للعقل العمومي.[1] إن ما يسميه راولز "العقيدة الشاملة" قد تكون ببساطة الطريقة التي يوافق بها المواطنون المسلمون على السلطة السياسية ويقوم على أساسها "احترامهم المتبادل"، والإنصاف، والقدرة على التعقل، والمعاملة بالمثل، والقيم الأخرى التي يستشهد راولز بها.[2] للإشارة إلى هذا الاختلاف، اخترت مصطلح " عقل مدني".

أريد أن أوضح بإيجاز الأسباب الموجبة التي تدفعني لإجراء تعديل على موقف راولز، وهي: ينبغي دائماً النظر إلى لعلاقات بين الدين والدولة والسياسة من منظور دين محدد في مجتمع معين.فمن الصعب للغاية وضع تصور عن "الدين" بعبارات شاملة تكون كافية ليتم تطبيقها على جميع المجتمعات البشرية في سياقاتها المتنوعة، فمن المتوقع فقط، بوعي أو بدون وعي، أن يُطور أيً مُنَظِّر نظريته عن العلاقات بين الدين والدولة والسياسة فيما يتعلق بدين معين في سياق اجتماعي سياسي معين. كما أن الاختلافات في طبيعة وتشكيل السلطة الدينية بين التقاليد الدينية للمذاهب المختلفة وداخلها تؤثر على كيفية إدراك المؤمنين للسلطة الدينية. حتى التمييز بين ما يسمى المجالات الدينية والعلمانية لا ينطبق على جميع التقاليد الدينية. إن لدى المسلمين في تجربتهم التاريخية فهم إيجابي للعلمانية، بمعنى المادية الدنيوية ويمكن أن تُعتَمَد لتكون جزءًا لا يتجزأ من نظرتهم للعالم بدلاً من النظر إليهما كمتعارضَين. هذا الاتساق والتكامل الأصيل للعلماني والديني يحفز المسلمين على التفكير في كليهما بوصفها متظافرَين ومتظافرين متشابكين: فالحياة دينية وعلمانية وروحية ومادية في آن واحد، والإسلام يأخذ كل جانب من جوانب التجربة الإنسانية ويجمعها بالتساوي وعلى محمل الجد. لذلك، فإن تعريف العلمانيين والدينيين على أنهم متناقضون أو غير متكافئين ليس حلاً عمليًا للمسلمين. كما ذكرت في مكان آخر، "من المضلل أن نقارن بين الدينيين والعلمانيين بمثل هذه المصطلحات الثنائية لأنها في الواقع مترابطة فيما بينها".[3]

هناك تعريف آخر يمكن تقديمه لمصطلح "علماني" وهو "الافتراض بأن كل شيء مادي أو مجرد مشتق من المسعى الإنساني".[4] بينما يتجنب هذا التعريف الاعتماد على الديني الموجود في العديد من التعريفات الأخرى، فإنه يغفل أيضًا أي إشارة إلى العلاقة بين ما هو علماني وما هو ديني. من وجهة نظر إسلامية، هناك اعتراض أكثر جدية على هذا المفهوم للعلمانية وهو أنه يبسط مسألة لاهوتية وفلسفية معقدة عن القدر والإرادة الحرة في العلاقة بين الإلهي والقوة الإنسانية. ماذا يعني قول شيء "مستمد من المسعى الإنساني"؟ هل هذا ينكر بالضرورة أي دور للقوة الألهية، حتى بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن القوة الإلهية تعمل من خلال القوة الإنسانية؟

لا تعني ملاحظة هذه الاختلافات أن نظرية رولز ليست ذات صلة بالمسلمين في سياق العصر الحديث، سياق ما بعد الأستعمار، ولكن فقط لإثارة السؤال حول ماهية هذه الاختلافات التي تنطوي عليها تلك النظرية. في الواقع، وفي رأيي، إن حقائق التنوع الديني الأعمق، إلى جانب حقائق عالم يزداد ترابطًا، تزداد الحاجة أكثر إلى نظرية راولز. لذلك، بينما أعتقد أن على المسلمين أن يتوسطوا أو يحلوا هذه التوترات بين الإسلام والدولة والسياسة بطرق تأخذ الشريعة على محمل الجد وفقًا لشروطها الخاصة، كما يجب أن يتم ذلك أيضًا في شراكة حميمة بين المؤمنين الآخرين وغير المؤمنين.

باختصار، إنَّ ادعاء راولز الأساسي في هذا الصدد هو: بما أنه من غير المرجح أن يوافق المواطنون على حل المسائل السياسية الأساسية، ينبغي التوصل إلى اتفاق سياسي عن طريق " العقل العمومي"، على الرغم من الخلاف الأخلاقي القوي. بالنسبة له، فإن العقل العمومي هو ممارسة للتداول في ظروف الخلاف الأخلاقي العميق، ويتعلق تحديداً بـ "الأساسيات الدستورية ومسائل العدالة الأساسية". وبعبارة أخرى، فإنه يحدد على أعمق مستوى القيم الأخلاقية والسياسية الأساسية التي تحدد علاقة حكومة ديمقراطية دستورية بمواطنيها والعلاقات بين المواطنين أنفسهم. والأهم من ذلك أن راولز يستثني الدين، إلى جانب جميع "العقائد الشاملة"، من التفكير العمومي حول هذه المسائل.[5]

أُشارك راولز مخاوفه بشأن الاعتماد على المعتقدات الدينية كأساس للسياسة والتشريعات العامة، ودعوته إلى توضيح الأسباب التي هي في متناول جميع المواطنين على قدم المساواة دون الرجوع إلى المعتقد الديني على هذا النحو. لكنني أعتقد أنه من الواقعي والمثمر الاعتراف بأن هناك صلة غير مباشرة أي بالواسطة النظرية البعيدة بين الدين والسياسة ( أي الدين كنظومة قيَم ووصايا ومرشد ودليل للسياسة) وتنظيمهما من خلال المتطلبات الدستورية وحقوق الإنسان والسياسة المدينة أكثر من محاولة الفصل الباتر بين الدين والسياسة التي يبدو لا تتحقق، فقد فشلت أغلب محاولات القطع بينهما ولاسيما في المجتمعات في السياق الإسلامي، ولكن ينبغي مع ذلك إبقاء الدين خارج الدولة من خلال آليات واستراتيجيات مختلفة. دائمًا ما تسترشد الإجراءات السياسية للمؤمنين الدينيين بمعتقداتهم الدينية، سواء أكان هذا معترفًا به أم لا، والاعتراف بهذه المعتقدات وتنظيمها كمصادر مشروعة للتفكير السياسي هو أكثر صحة وأكثر عملية من إجبارهم على الدخول في مجال سياسي يهربون منه ويكون الحال سريع الزوال ويشوه أو يُقيد مشاركة المؤمنين في السياسة. إنني أتبع هذا النهج لاحتضان الأديان في عالم "سياسي" أوسع بكثير مما يسمح به حقل العمومية عند راولز إنني أعتمد "السياسة" لتشمل جميع المداولات العامة حول أمور الشأن العام السياسية، سواء من قبل المسؤولين أو المواطنين العاديين، كما تختلف عن الجوانب أو الهيئات الشغالة الأكثر استقرارا للدولة.

أرى أن إقصاء راولز للأديان من العقل العمومي، على وجه الخصوص، أمر خاطئ في عدد من المسالك أو الطرق المعينه، ولا سيما عند تطبيقها على "الأسس الدستورية ومسائل العدالة الأساسية" التي يركز عليها كثيرا، لعدة أسباب. أولاً، إنه من غير العدل رفض وجهة نظر أو خطاب بكل بساطه لأنه يعتبر دينيًا، بصرف النظر عما يقوله فعليًا بشأن القضية المطروحة. ثانياً، يعتبر هذا شكل من أشكال الرقابة الاستباقية التي تمنع ممارسة حقوق الإنسان الأساسية المتمثلة في حرية المعتقد والتعبير قبل إثبات حدوث ضرر مفترض. ثم أن هذه الرقابة ليست فقط غير عادلة من حيث المبدأ، ولكنها أيضًا غير مجدية أيضاً، فكيف لنا أن نعرف مقدمًا أي من الادعاءات تعتبر "دينية" قبل سماعها؟ ثالثًا، من وجهة نظري، ينبغي تشجيع جميع المواطنين على المشاركة في النقاش السياسي، بشأن جميع القضايا وفي جميع السياقات، من أجل تطوير والحفاظ على تفكيرهم المدني مع مرور الوقت. يبدو لي أن استبعاد رولز للأديان سيشكل عقبة كبيرة أمام هذا. رابعاً، باستبعاد الأديان وغيرها من "العقائد الشاملة" من التفكير العام. يعاملهم راولز كما لو كانوا معزولين ومنغلقين وغير منفتحين للنقاش أو حتى غير قابلين للتفنيد الداخلي، وأيضًا كما لو كان من الممكن تقسيمهم إلى فئات "دينية" و "علمانية".[6] ومع ذلك، سيكون هذا تشويها وتحريفًا خطيرًا لطبيعة التفكير الإسلامي السياسي، الذي يتطور من خلال النقد "الداخلي" و "الخارجي" والعلاقات المعقدة مع غير المتدينين. إن إقصاء راولز للدين ينكر بالتالي حقيقة العقلانيات المتنافسة داخل العقائد الشاملة ويحد من فرص الإقناع بين المؤمنين. أخيرًا، وبشكل أعم، فإن محاولات راولز لاستيعاب الأديان في النقاش العام غير كافية. فلا يزال، على وجه الخصوص، التأكيد على النطاق المحدود لـ "الأساسيات الدستورية ومسائل العدالة الأساسية" يستبعد الأديان من النقاش حول هذه المسائل السياسية الأساسية، ومع أن "شرط" راولز وفكرته عن " الحدس" يمكن أن تستوعب التفكير الديني داخل النقاش العام، الأً أنها ماتزال تحتاج إلى التعبير عنها أو ترجمتها في نهاية المطاف إلى لغة ومصطلحات عامة غير دينية حتى يمكن للمواطنيين تقاسمها.

وفي رأيي، إذن، يجب تقييد حرية التعبير عن الأفكار الدينية وغيرها من أفكار العقائد "الشاملة" في السياسة والتنظيم السياسي ومن الترويج لها فقط: إذا كانت تنتهك الحقوق الدستورية للآخرين، وفقًا لما تفرضه الدولة أو مطبق من قبلها، وليس على أسس أنواع الأفكار التي تنطوي عليها، كما تصر نظرية راولز بهذا الفصل والتمييز بين الدولة والسياسة، كما اقترحت من منظور إسلامي متبعا راي عبد الله النعيم، أعتقد أن متطلبات العقل المدني أو "العمومي" يمكن تشغيلها بطريقة أو بشكل أكثر فاعلية.

إنَّ الدور الحاسم والدقيق الذي أسنده إلى الدولة هو السبب الذي يبين لماذا في التمييز بين "الدولة" و "السياسة" ضروري وصعب الحفاظ عليه. كون الدولة هي الاستمرارية المؤسسية للسيادة، في حين أن السياسة تشير إلى حكومة اليوم. يحق للحكومات استخدام مؤسسات الدولة لتنفيذ السياسات التي انتخبت من أجلها ولكن لا ينبغي لها أن تفعل ذلك بطرق تقلل من استقلالية مؤسسات الدولة واستمراريتها أو أن توحد بين سلطتها والدولة. وبهذه الطريقة، تستمر مؤسسات الدولة، مثل وزارة التعليم أو وزارة الخارجية، في خدمة الحكومة المقبلة، والتي قد يتم انتخابها لتنفيذ سياسات مختلفة عن سابقتها. من المسلم به أن التمييز بين الدولة والسياسة في أي مجتمع لن يتم تسويته نهائيًا وسيختلف اعتمادًا على الإرادة السياسية للشعب لدعم التمييز (وليس الانقسام) بين الدولة والسياسة. وأعتقد أنه يمكن القيام بذلك من خلال الضمانات المؤسسية والمعيارية مثل الدستورية وحقوق الإنسان والمواطنة، والتي توفر الإطار الأساسي لما أفهمه كعقل مدني.[7]

في الختام، اسمحوا لي أن أحاول أن أصف بإيجاز ممارسة ما أسميه "العقل المدني" في المسار الطبيعي لحياة المجتمعات في كل مكان، بدلاً من أن تقتصر بشكل مصطنع على مواضيع معينة أو تنطبق على وظائف منفصلة معينة للمسؤولين الحكوميين والمرشحين للمناصب العامة فقط. ففي مجرى الحياة المعتادة للمجتمع، يتم تربية الأطفال أن يكونوا أجتماعيين داخل عائلاتهم، وفي المدرسة، وفي بيئات أخرى مختلفة من أجل دعم قيم معينة من التفاعل الاجتماعي والسلوك السياسي. كذلك يتم أختلاط السكان البالغين وإقامة العلاقات الإجتماعية بينهم في المجتمع نفسه وتذكيرهم باستمرار بالسلامة الأخلاقية والفائدة العملية للقيم الأساسية. من المحتمل أن تشمل تلك القيم كونها صادقة وجديرة بالثقة في التفاعل الاجتماعي والاقتصادي مع الآخرين، وأحترام كرامة الإنسان للآخرين، وقبول هويتهم العرقية أو الإثنية، وكذلك معتقداتهم الدينية والسياسية، لأننا نحتاجهم لاحترام كرامتنا وهويتنا ومعتقداتنا. هذا لا يعني أن أي مجتمع مثالي أو يمكن أن يكون مثاليًا في تعزيز هذه القيم والعيش بها، لكن تجربتنا تؤكد أيضًا أن هذه مهارات "البقاء" لجميع الجماعات و المجتمعات.

نقطتي الرئيسية هي أن ما يسميه راولز "المذاهب أو العقائد الشاملة" ليس فقط جزءًا لا يتجزأ من هذه العمليات، ولكن في الواقع تلعب دورًا رائدًا في التنشئة الاجتماعية على القيم الإنسانية العلوية التي نحتاج إلى تعزيزها. تُظهر تجربتنا بوضوح أنه لا يمكننا مراقبة وضبط نوع الخطاب الذي يتم في أي مكان إلا باعتبار إن الدين والثقافة والتفاعل الاجتماعي والأنشطة الاقتصادية جميعها تدفعنا قبل كل شيء إلى حياة صحية ومنتجة وهادئة، على الرغم من أننا نشارك أحيانًا في مواجهات مرَضية ومدمرة وعنيفة. أيَّا كان ما نحن عليه، فإن الدين بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون به جزء لا يتجزأ من هويتهم وكيف يعيشون.

 

الدّكتورعليّ رَسول الربيعيّ

..........................

[1].An-Na'irn, ed., Human Rights in Cross-Cultural Perspective: Quest for Consensus (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1992).129-80.

[2]Rawls, John, Political Liberalism, Columbia University Press, 1993,(pbk.) 38, 223.

[3]AbdullahiAhmedAn-Na'irn,"IslamandSecularism,"inComparativeSecularisms in a Global Age, ed.L.E.Cady and E.S.Hurd(NewYork:PalgraveMacmillan,2010), 218.

[4]Lilly Weissbrod, "Religion as National Identity in a Secular Society," Review of Religious Research 24, no. 3 (1983):189.

[5]PL (pbk.) 212, 214, and 227-30, and IPRR132-33. AshisNandy, Talking India:AshisNandyin Conversation with RaminJahanbe­ gloo (Delhi: Oxford University Press, 2006), 10 3- 4.

[6]AshisNandy, Talking India:Ashis Nandyin Conversation with Ramin Jahanbegloo (Delhi: Oxford University Press, 2006), 10 3- 4.

[7]An-Na'irn, Islam and the SecularState,89-97.

 

في المثقف اليوم