أقلام فكرية

الإرادة العامّة وأخلاق الحرّيّة (2)

علي رسول الربيعي صناعة المواطن من النّاس: يعتبر التّصوّر اللّيبراليّ أنّ حجّة روسّو في العقد الاجتماعيّ تقود إلى خلاصة تتطابق مع آراء المنظّرين الجمهوريّين مع إدعاء بعض النّقّاد أنّها قد تفضي إلى الاستبداد.[1] فطبقا لفلسفة الجمهوريّة يعرَّف المواطن كمشارك في السّلطة وليس كمحلّ للامتيازات ولا كحامل للحصانات.[2] وهذا هو أساس الحجاج الرّوسويّ في إجبَار النّاس عند الضّرورة على أن يكونوا أحراراً من أجل حمايتهم من انتهاك القوانين التي أكسبتهم صفة المواطنة، فليس لمعترض أن يدفع بالحرّيّة ولا بالحاجة الطّبيعيّة إلى تلبية الرّغبات الذّاتية ليبرّر انتهاك القوانين وإنهاء العقد الاجتماعيّ بإعطاء المصالح الشّخصيّة الأسبقيّة على المصلحة العامّة... وبه تقوم حجّة روسّو على مفهوم النّظام السّياسيّ العادل أو دولة القانون كتعاون عمليّ يخضع لمبدأ الإنصاف، إذ يشير منطقه بشكل واضح إلى أنّ أحد الأْوجُه المهمّة لهذا المفهوم هو الرّغبة في تعزيز روح التّعاون من خلال تشجيع النّاس على التّفكير بأنفسهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات من ضمنها الخضوع لقوانين شرعوها بأنفسهم لأنفسهم.

إنّ أكبر إمكانات المجتمع السّياسيّ طبقًا لروسّو، هي رفع أيّ ظلم مادّيّ يمكن أن يقع بين النّاس بالتّوزيع العادل للثّروة والملكيّة، وبالمساواة الأخلاقيّة لأنّه "لا يبقى شيء من الحرّيّة في غياب المساواة"، ثمّ بإعمال قاعدة ترى أنّ "الحالة الاجتماعيّة تكون مريحة طالما كان الكلّ يملك شيئًا ولا أحد يملك شيئًا زائدًا أو غير ضروريّ"[3] فالسّلم الاجتماعيّ يقتضي ألاّ يكون هناك ثراء فاحش يستطيع معه الأثرياء شراء ذمم الآخرين، ولا فقر مدقع يضطرّ معه الفقراء لأن يبيعوا أنفسهم للآخرين".[4] هكذا تعزّز المساواة الحرّيّة بإقرار سلم اجتماعيّ يحمي النّاس من التّبعيّة للأثرياء والأقوياء، علما أنّ كره التّبعيّة هي روح الجمهوريّة عند روسّو يعتبرها أساس كلّ رذيلة ومبعثا على الفساد.[5] وأنّ فكرة العدالة في ظلّ القانون هي برأيه ما يمكّن النّاس من أن يتمتّعوا بالاستقلاليّة والحرّيّة الأخلاقيّة، ويشجّعهم على طاعة ما شرعوا لأنفسهم من قوانين، وعلى النّظر لأنفسهم بوصفهم مواطنين يتقاسمون الإرادة العامّة في مشاريع ومؤسّسات مشتركة. 

إميل وفكرة التّعاون

يناقش روسّو في كتابه (إميل) المسألة التّربويّة مشجّعا على التّعاون مثلما قام بذلك في العقد الاجتماعيّ عند الحديث عن التّشريع والإعلان المدنيّ عن الإيمان، فهو يعتبر الرّغبة في الاختلاط بالآخرين عاطفة حبّ بدونها لا يكون المواطن صالحاً.[6] ويمثل تأكيده على محاولة الجمهوريّين تضمين اللّيبراليّة نزعة مدنيّة خالصة دفاعه المستميت عن التّسامح وحرّيّة الفكر والتّعبير. فالدّين المدنيّ في نظره مسألة هامّة بالنّسبة للدّولة: "أن يكون لكلّ مواطن دين يحبّب له القيام بالواجب؛ وإن كانت عقائد هذا الدّين ليست من شأن الدّولة إلاّ بقدر ما لها من صلة بالأخلاق والواجبات التي يتعيّن على كلّ فرد الالتزام بها تجاه الآخرين في المجتمع. عدا ذلك، فإنّ لكلّ فرد حقّ اعتناق الآراء التي يرتضيها ولا يحقّ لصاحب السّيادة معرفتها،لأنّه ليس معنيّا بمصير الشّعب في الدّار الآخرة، وليست له أهليّة النّظر في أمورها ولا مخوّلا بالتّدخّل في ذلك طالما هم مواطنون صالحون في الحياة الدّنيا".[7] فالوضع القانونيّ والمعياريّ للدّولة يفرض تسامحا مع كافّة الأفراد بصرف النّظر عن عقائدهم ماعدا أولئك الذين يؤمنون بعقيدة غير متسامحة تدعوا للكراهيّة وتحرّض النّاس على مواجهة بعضهم فتقف بذلك ضدّ الفضائل المدنيّة. ويتّفق روسو من وجهة النّظر هذه مع جون لوك في "رسالة في التّسامح" اعتبارا للأسباب المدنيّة المحضة، بل إنّه يفوق لوك حزما بوضع معايير صارمة تضمن قداسة العقد الاجتماعيّ وسموّ القانون. فهو يرى أنّ المشرّع المكلّف بصياغة القوانين وترسيخ قواعد دولة المؤسّسات من الواجب عليه حتما "أن يؤمن بإمكانيّة تغيير الطّبيعة البشريّة مستعينا بفكرة الوجود الاجتماعيّ، وأن يسعى إلى مساعدة الأفراد على العبور من حَالة الوجود الفيزيائيّ المستقلّ أي من حالة الطّبيعة إلى حالة المجتمع حيث يصبح الفرد جزءا من كلّ أكبر، وعضوا في كيان متكامل يتلقّى منه الوجود...".[8] ومستعينا كذلك بما يُنتِجُ هذا العبور من حالة الطّبيعة إلى الحالة المدنيّة من "تغيير بيّن حين يصغي الفرد لعقله فيحلّ في سلوكه العدالةً محلّ الغريزة، والحقّ محلً الرّغبة ليضفي على أفعاله صبغة أخلاقيّة تستجيب لنداء الواجب وتتنزّه عن النّزوة الفيزيائيّة. فهو وإن ألفىَ نفسه مرغماً على العمل بمقتضى مبادئ تصرفه عن أن يستجيب لميول كثيرة تتأتّى له من الطّبيعة، فإنّه مع ذلك يجد نفسه قد حصل على مزايا أعظم من أن تقاس على شيء دونها: يجد ملكاته قد تمرّست ونمت، وأفق أفكاره قد اتّسع، ومشاعره قد ازدادت نبلاً، وسَمَت نفسه بأكملها فبلغت ما بلغت من درجات السّموّ فيبارك تلك اللّحظة السّعيدة التي انتشلته من وضع منحطّ إلى الأبد بأن صنعت من حيوان بليد ومقيّد الأفق كائناً ذكيّاً وإنساناً سويّا".[9] فمهمّة المشرّع إذن، هيً توفير الأساس القانونيّ والمؤسّساتيّ الذي يمنع الشّطط في استعمال السّلطة وسوء استعمال الحالة المدنية من خلال توجيه النّاس باتّجاه الإرادة العامّة بهدف استكمال مشروع التّغيير ومساعدة النّاس على استعادة حالة الطّبيعة.[10]

ما تبقّى من مشكلات

لقد استهدف روسّو من خلال ما صاغ في نظريّة العقد الاجتماعيّ من معايير تشجيع النّاس على أن يتصرّفوا كمواطنين. وإذا بدت بعض المعايير مُفْرِطة أو مُفَرِّطة فمردّ ذلك إمّا إلى صعوبة التّوفيق بين "ما يتيحه القانون وما تقتضيه المصلحة" وهي صعوبة استثنائيّة، أو إلى ما واجهت فكرة العقد الاجتماعيّ من تحدّيات واعتراضات حينما بدت بعض معاييره في غير محلّها، أو تنطوي على مفارقة تاريخيّة إذ ربّما كانت ملائمة للجمهوريّة الكلاسيكيّة أكثر من ملاءمتها للجمهوريّة اللّيبراليّة مثل إقصاء المرأة من المجال العامّ، ورأيه المتعلّق بدور المشرّع وشروطه، أو بالإعلان المدنيّ للإيمان. كما أثارت صياغته لمبدأ الإرادة العامّة التي تتطلّب من الأفراد التّصرّف كمواطنين لا كمجرّد بشر جملة من الأسئلة منها:

ـ كيف يمكن تطبيق الإرادة العامّة؟

ـ ماذا يعني القول بوجوب أن تخدم السّياسة العامّة المصلحة العامّة للمواطنين وتتجاهل المصالح الخاصّة للنّاس؟

ـ هل تظهر المصلحة العامّة للمواطن بشكل واضح دائمًا؟

ـ هل يكفي مشروع القانون المقترح للتّصويت الحصول على الأغلبيّة في المجلس التّشريعيّ ليكون جوابا صحيحا صوابه أكثر احتمالًا من رأي الأقلّيّة؟

ـ هل يعدّ لازما حمل رأي الأغلبيّة على الصّواب دائما؟ وهل يعدّ واجبا الاتّفاق معه باعتباره أكثر احتمالا أن يكون على حقّ؟

لقد خطّأ روسّو الأقلّيّة عند الحديث عن الدّولة العادلة وأثناء الحجاج دفاعا عن متطلّبات الإرادة العامّة، فهل ستتغير المسألة بالانضمام إلى وجهة نظره التي تعتبر الرّأي الذي أحرز الإجماع هو الرّأي الصّواب والأقرب إلى الحقّ والأكثر تجسيدا للإرادة العامّة.[11] ماذا لو فشلت سياسية الجهة الفائزة في التّطابق مع الإرادة العامّة؟

ألا يمكن أن تؤدّي هذه الحالة إلى العصيان المدنيّ؟

ألا يريد كلّ الأفراد في الدّولة الظّالمة أن يسود العدل وينتصر الجواب الصّحيح؟

لقد أهمل روسّو هذه الافتراضات فلم يجب عنها إمّا لأنّه رآها غير متوقّعة الحدوث باعتبار الظّروف السّياسية السّائدة في ذلك الحين، وإمّا لأنّه لم يكن مقتنعا تماما بفعل ذلك، لكن هل عليه أن يفعل هكذا؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يتعيّن الذّهاب إلى ما بعد روسّو حيث يكون من الضروريّ تنقيح تحليله ومفاهيمه وربّما طرح بعضها.

 

د. علي رسول  الربيعي

.....................

المصادر

 روسو، جان جاك، في العقد الاجتماعي،عبد العزيزي لبيب (مترجم)، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،،2011

 Adrian, O., Citizenship and Community: Civic Republicanism and the Modern World, (Routledge, 1990).

Andrew L., The Politics of Autonomy: A Kantian Reading of Rousseau’s Social Contract (Amherst: University of Massachusetts Press,1976).

Barry, B,. Political Argument (London: Routledge and Kegan Pual,1965).

Barry, ‘’ The Public Interste’ in Political Philosophy,(ed)Anthony Quinton (Oxford: Oxford University Pres,1967).

John C., The Social Problem in the Philosophy of Rousseau (Cambridge: Cambridge University Press, 1974).

Klosko.G.: in The Principle of Fairness and Political Obligation,( Lanham,MD: Rowman and Littlefield.1992).

Lester C., Rousseau’s Social Contact: interpretive Essay (Cleveland, OH; The Press of Case Western Reserve University, 1968).

Levine, A, The Political of Autonomy: A Kantian Reading of Rousseau’s Social Contract (Amherst: University of Massachusetts Press, 1976).

Maurizio,V., Jean-Jacques Rousseau and the ‘’ Well-Ordered Society’’ trans. Deerek Hanson ( Cambridge University Press, 1988).

Quentin S.,‘’The Republican Ideal of Political Liberty,’’in Machiavelli and Republicanism, ed. Gisela Bock, Quentin Skinner, and Maurizio Viroli (Cambridge: Cambridge University Press).

 Rawls,J,. A Theory of Justice ( Cambridge, MA: Harvard University Press,1971).

Riley, Patrick, The General Will before Rousseau: The Transformation of the Divine into the Civic (Princeton, NJ; Princeton University Press, 1986).

Rousseau,J,J,. Politics and Art: Letter to M.D’Alembert on the Theatre, Trans. Allan Bloom (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1968).

Rousseau.J.J.,Emile, trans. Bloom Allan (New York: Basic Books, 1979).

Rousseau, J.J, On the Social Contract, ed. Roger D. Masters and trans. Judith R. Masters ( New York: St. Martin’s Press. 1978).

Simmons. A.J., The Anarchist Position: A Replay to Klosko and Senor,’’ Philosophy and Public Affairs 16 (1987).

Simmons. A.J., Moral Principles and Political Obligations (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1979).

Talmon.J.L., The Origins of Totalitarian Democracy (New York: Praeger, 1960).

Trachtenberg, Z. M., Making Citizens: Rousseau’s Political Theory of Culture (London, Routledge, 1993).

 هوامش

 [1] أنظر على سبيل المثال:

Talmon J.L., The Origins of Totalitarian Democracy (New York: Praeger 1960), chap.3, and Lester Crocker, Rousseau’s Sociحخal Contact: interpretive Essay (Cleveland, OH; The Press of Case Western Reserve University, 1968).

[2] Rousseau J.J On the Social Contract P.54

 [3] المصدر نفسه، ص 58.

[4] المصدر نفسه، ص 75.

[5]Rousseau J.J. Emile, trans. Bloom Allan (New York: Basic Books, 1979) P.85.

 [6] Rousseau J.J On the Social Contract P. 13

[7] المصدر نفسه، ص 130.                    

[8] المصدر نفسه، ص 68.                   

[9] روسو، جان جاك، في العقد الاجتماعي،عبد العزيزي لبيب ( مترجم)، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2011، ص 98-99.

[10] Simmons A.J Moral Principles and Political Obligations

(Princeton NJ: Princeton University Press, 1979) P.139.

‘’ The Anarchist Position: A Replay to Klosko and Senor,’’ Philosophy and Public Affairs 16 (1987):269-79.

ولكن أنظر الدليل المناقض الذي قدمه

Klosko G.: in The Principle of Fairness and Political Obligation (Lanham MD: Rowman and Littlefield.1992) Appendix 2.

وايضا قوله: "أعتقد أن تفسير الإلزام السّياسيّ بواسطة مبدأ الأنصاف ملائم لتفسير شعور الفرد بالتزامه يتقوّى عند مباشرة أعباء عديدة يعتقد أنّ الآخرين يتولّون مثلها، ويضعف إذا ما أدرك أنّهم ليسوا كذلك". ص 148 .

 

في المثقف اليوم