أقلام فكرية

حق الدين.. تشريع القانون والإستقلال الأخلاقي (1)

علي رسول الربيعييختلف الفلاسفة الليبراليون حول الطريقة التي يجب أن نفهم بها استحقاقات الأفراد المتدينين.[1] تُخاض هذه الخلافات أحيانًا حول كيف نُـنَظر لمكان الدين في السياسة. يصر بعضهم على أن لاينبغي معاملة المعتقدات الدينية بأعتبار لها خصوصية واستثنائية مقارنة مع أنواع أخرى من القناعات أو التفضيلات؛ ويزعمون أنه لا يوجد سبب مبدئي لإعطاء أهمية أكبر لمتطلبات الورع الديني عند تقرير ما يجب أن يكون عليه القانون. ينكر آخرون هذه الادعاءات ويحتجون بأن الممارسات الدينية تستحق اهتماما وحماية خاصتين، أما لأن الدين بذاته له خصوصية، أو لأنه يشترك مع رؤى للعالم غير دينية أ وراابط خاصة يقع على الأفراد الذين يخضعون لها واجبات صارمة للعيش بطريقة معينة.

يختلف الليبراليون بالإضافة إلى هذا النزاع حول كيف يجب أن نتداول شأن الدين في السياسة. يختلفون حول كيفية تعامل القانون مع الأفراد المتدينين وحمايتهم. السؤال الأول هنا هو ما إذا كان ينبغي على التنظيمات والتشريعات القانونية أن تعفي المتديننين من بعض القوانين حتى تكون عادلة أو شرعية. يتعلق السؤال الثاني حول حماية القانون الأفراد من أستبعادهم من الخير العام من قبل أفراد آخرين

على الرغم من اختلاف السؤالين من الناحية التحليلية، إلا أنه من السهل نرى خلافاتهما، حول ما يجب أن يكون عليه القانون، وحول الكيفية التي يجب أن تكون فيها العلاقة بين القانون والدين. إذا اعتقد المرء أنه لا ينبغي أن تكون هناك إعفاءات من القانون بالنسبة للأفراد المتدينين، فمن المرجح أنه لا يعتبر الدين يستحق مراعاة وأهمية خاصة في المداولات السياسية. مقابل ذلك، إذا اعتقد المرء أن للدين خصوصية، فمن المرجح أن يكون أكثر تعاطفا مع الإعفاءات الدينية وحماية الأفراد المتدينين وتوفير الفرص لممارسة معتقداتهم دون تعرضهم أو فرص عملهم للخطر.

على الرغم من أن الأسئلة المتعلقة بالإعفاءات الدينية تشكل الخلفية لهذا النقاش الفكري الذي أثيره، الاً أن هدفي هنا هو مراجعة وتفسير ودفاع عن الموقف الليبرالي المميز لرونالد دوركين الذي يتعلق بتصوره للمغزى و الأهمية الأخلاقية للالتزامات الدينية في السياسة، وهو ما يؤكد "الحق العام للاستقلالية الأخلاقية"، ولكن عدم حقانية أي خصوصية لممارسة دينية، وبعبارة أخرى لايوجد أيً حق خاص في ممارسة دينية. إن معالجة دوركين للدين هي جزء من رؤيته السياسية الأخلاقية العامة التي تستند الى مفهوم معين للكرامة الإنسانية، وأنا أعتبر مفهومه هذا للكرامة أمر جوهري لتقدير الطبيعة الراديكالية لوجهة نظره.

أحد الاعتراضات البارزة على رؤية دوركين هي أن الاستقلال الأخلاقي يفتقر إلى الملاذ والوسيلة اللازمة للدفاع عن الترتيبات القانونية التي تمنح الأفراد فرصة كافية لمتابعة معتقداتهم الدينية. ولأن رؤيته لا تولي أهمية خاصة للدين أو الضمير، فهي تنظر إلى القناعة الدينية على أنها مجرد تفضيل لا يحمل أيً دلالة معيارية، أنها ليست أكثر من الرغبة في بعض الطقوس. وبناءً على ذلك، يستمر الاعتراض على وجهة نظر دوركين، بوصفها تقييد فرص المواطنين في متابعة التزاماتهم الدينية: أيً أن رؤية دوركين غير قادرة على تبرير الإعفاءات للمتدينين من قوانين معينة، فمثلا، هي غير قادرة على الدفاع عن القيود القانونية على أصحاب العمل وغيرهم لحماية الأفراد الذين يرغبون في العمل دون المساس بهويتهم الدينية.

قبل مراجعة تصوره لمكانة المعتقد الديني ضمن الأخلاق السياسية، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من رفضه للحق الخاص في ممارسة دينه، فإن دوركين منفتح على فكرة أن ترتيبات معينة تتمتع بها بعض الجماعات الدينية بإعفاءات من قوانين أو قواعد معينة قد يكون لها ما يبررها. إن كراهية دوركين تجاه الحق الخاص في الحرية الدينية هي، في الواقع، رفض للراي الشائع عن "الحق الخاص"، أيً الدفاع عن الإعفاءات الدينية. ومع ذلك، وكما تكشف لنا ملاحظاته،  انه يبقى منفتح العقل ليصغي الى دعاة الإعفاءات لتقديم حجج مختلفة لهم غير تلك التي ينقدها. فيرى أنه من المحتمل أن تكون هناك حجج عن حالات من الإعفاءات ونوعها وتوزيعها مختلفة عن لك الحجج التي نعرفها تمامًا، لأن إذا كان دوركين على صواب ، فلن نتوقع من نظام الإعفاء يتبع الالتزام الديني.[2]

تفسير الحريات الدينية: حق خاص أم استقلال أخلاقي؟

يقدم دوركين في كتابه المنشور بعد وفاته، Religion without God (الدين بدون الله ) (2013)، مقارنة مزدوجة للحق في الاستقلال الأخلاقي وتصور مختلف للكيفية التي يجب على المجتمع السياسي أن يستجيب فيها للادعاءات والمطالب الدينية، والتي تفرض حقًا خاصًا للحرية الدينية. حجته هي أن هذه الأخيرة تواجه صعوبات مختلفة يتجنبها الأول.

ينطوي الاستقلال الأخلاقي على ادعاء بشأن الأسباب التي تنطبق على المجال السياسي الذي به نسنّ القوانين ونفسرها وننفذها. على النقيض من ذلك، يدعي دعاة الحق الخاص في الحرية الدينية بالأهمية الأخلاقية للأفراد الذين يتابعون بحرية معتقداتهم الدينية الخاصة. ويزعمون أن المجتمع السياسي يقع على عاتقه واجب ثقيل للغاية يتمثل في عدم تشريع قوانين تمنع سعي الأفراد من ممارسة قناعاتهم الدينية. لأن هذا النقاش يدور على خلفية الاتفاق على حقيقة ما يسمى بعدم المأسسة أو التأسيس، أيً لا ينبغي للدولة أن تؤكد أو تؤيد أي وجهة نظر دينية معينة - وأن الحماية التي يسعى إليها المدافعون عن حق خاص للدين يمكن أن تنطبق على كل دين بغض النظر عن حقيقته أو معقوليته.

أريد أن أشير هنا الى أن مصطلح "التأسيس" يدل على أي من الترتيبات الممكنة المتعددة للدين في الحياة السياسية للمجتمع. إنه يعبر الفكرة الضيقة المتمثلة في أنه لا ينبغي للدولة أن تنحاز إلى دين معين، بدلاً من الفكرة الأوسع المتمثلة في أن الدولة لا ينبغي أن تنحاز إلى دين ضد وجهات النظر غير الدينية. المطالبة السابقة الأكثر تقييدًا هي وجهة النظر التي يشترك فيها المدافعون عن حق خاص في الحرية الدينية وهي التي يناقشها دوركين. بالطبع، إن حجته هي أن عدم التأسيس على نطاق أوسع هو الراي الصحيح. ومع ذلك، فإن هذا الراي هو أستنتاج لحجة تتحدى تماسك عدم التفسير الضيق لراي من يتبنون عدم التأسيس.

هناك وجهات نظر مختلفة حول الكيفية التي يجب أن نصف بها واجب الحكومة الثقيل أزاء الحق الخاص المفترض للحرية الدينية. يستخدم دوركين تشبيه الحق في حرية التعبير والمختلف في المعنى عن الحرية الدينية، بأعتباره يكفي لضمان مثل هذه الحماية وبالتالي لاحاجة الى الحق الخاص للحرية الدينية. فطبقاً لحق حرية التعبير من غير المسموح أخلاقياً بشكل عام منع الأفراد من التعبير عن آرائهم، حتى لو كان لخطابهم عواقب سلبية على الآخرين، لأنه، عن سبيل المثال، حماية حقهم في قول أشياء معينة يعتبر أمر ثمين للغاية. قد يحصل أن يتم حظر الكلام أو يكون خاضعا للرقابة، كما يعتقد دوركين، ولكن في حالات الطوارئ وفقط إذا كان الخطاب يهدد المجتمع السياسي بخطير كبير.[3] يقدم المدافعون عن الحق الخاص في الحرية الدينية، على الأقل كما يصفهم دوركين، ادعاء مشابهاً حول واجبات المجتمع السياسي تجاه المتدينين: أنه في غياب خطر جسيم، يجب ألا يمر تشريع يمنع احترام ألتزاماتهم الدينية للأفراد. وبدون ان يكون هناك سبب وجيه ومهم، يجب أن تعفي التشريعات التي تحظر سلوكًا معينًا أولئك الذين يطلب منهم دينهم أن يتصرفوا بطريقة معينة. من وجهة نظري، إن مناقشة الحق الخاص في حرية التعبير يوضح فقط معنى "الحق الخاص"، الذي يرفضه عند تطبيقه على الحرية الدينية. لا أقصد تأييد روايته لحرية التعبير.

يقول دوركين انه ينبغي رفض المفاهيم التي تتعلق بالحق الخاص في الحرية الدينية لأنها تضع قيودا كثيره جدا على المجتمع السياسي. هناك جزآن لحجته. أولا، يشير إلى ان بعض الحجج المتعلقة بالحرية الدينية فاشلة من ذاتها لأنها لا تؤيد توسيع نطاق الحق الى كل دين. فعن سبيل المثال، إذا كانت القضية المتعلقة بالحق مرهونة بتجنب الحرب الاهليه، فان الحق في الحماية لا يحمي سوي مجموعه فرعيه من الديانات، وهي الأديان التي يهدد اتباعها بالاضطراب الاجتماعي إذا منعت قانونا من التقيد بممارساتها الخاصة.[4]

الجزء الثاني من قضية دوركين هو أن الحجج التي تنجح في أن تشمل جميع الأديان التوحيدية/ السماوية قابلة للتعميم لتتضمن العقائد غير التوحيدية ايضا. وهو يصف بعض العقائد غير الإيمانية بأنها "دينية"أيضاً. ويكرس الفصلان الأولان من كتابه "الدين بدون الله" لتوضيح مفهوم جديد للدين يمكن أن يشاركه فيه الذين ينكرون وجود الله. فعن سبيل المثال، إذا كان هناك ما يبرر الحماية الخاصة لمعتقدات عميقة حول قيمة ومعنى الحياة البشرية وما يعنيه العيش بشكل جيد، فإن هذا الحق سوف يمتد إلى كل من يمتلك مثل هذه المعتقدات العميقة مثل رفض التجنيد العسكري من قبل أولئك الذين يعتقدون أن القتل ممنوع أخلاقيا. ومع ذلك، على الرغم من أن هذا التمديد للحماية يبدو جذابا للوهلة الأولى، الا أن مثل هذا الحق من شأنه أن يقيد الحكومة أكثر من اللازم. يقدم دوركين بعض الأمثلة التوضيحية مثل أن الاعتقاد بأن استهلاك العقاقير المسببة للهلوسة يمنح نظرة خاصة عن معنى الحياة، أو هو جزء من اسلوب حياة ممتع مما يتطلب حماية خاصة؛ وبالتالي من شأنه أن يضع حداً صارماً على حق الحكومة في سن قوانين تمنع المواطنين من المواد المسببة للإدمان. وبالمثل، فإن من شأن حق خاص في الحرية الدينية سيجعل من المستحيل على المجتمع السياسي فرض ضرائب على أولئك الذين وصفهم ماكس فيبر الشهير بأنهم ملزمون بجمع الخيرات المادية.[5]

وعندما يتم تعميم (ما ذكرناه أعلاه) فإن الحق الخاص في الحرية الدينية سوف يدين الكثير من التشريعات، وهذا سبب قوي لرفض مثل هذا الحق. نحتاج، بدلاً من ذلك، إلى محاولة تحديد مفهوم مختلف للحرية الدينية لا تترتب عليه مثل هذه العواقب غير الجذابة.

يترتب على رأي الذين يدافعون عن الحق الخاص في الحرية الدينية نتائج ضارة، فطبقا لرأيهم: يجب على الحكومة ألا تقيد الحرية لمجرد أنها تفترض أن هناك طريقة واحدة للناس ليعيشوا حياتهم، وتدعي أن فكرة معينة عن الحياة هي أفضل من غيرها وتستحق العيش في حد ذاتها، ليس لأن عواقبها أفضل فقط كما تعتقد الحكومة ولكن لأنها ترى أن الناس الذين يعيشون بهذه الطريقة هم ناس أفضل. فيجب على الدولة التي تمنح الحرية للمواطنين وأن تتركهم يقرروا مثل هذه المسائل أو الأمور بأنفسهم، وليس للحكومة الحق في فرض وجهة نظر واحدة على الجميع. وبناءً عليه وطبقا لهذا الرأي ليس للحكومة الحق أن تحظر استخدام المخدرات لمجرد أنها تعتبر استخدامها مخجلًا، أو تمنع قطع الأشجار لمجرد أنها تعتقد أن الأشخاص الذين لا يقدّرون الغابات الكبيرة سيئون أخلاقيا؛ وقد لا تفرض ضرائب تصاعدية لمجرد أنها تعتقد أن المادية شر. ولكن بالطبع، هذه نتائج غير مقبولة فلا يمنع الاستقلال الأخلاقي الحكومة من التدخل في طرق الحياة التي اختارها الناس لأسباب أخرى، منها: من أجل حماية الآخرين من الأذى، مثلا، أو لحماية عجائب الطبيعة، أو لتحسين الرفاهية العامة. لذلك فقد تمنع المخدرات من أجل حماية المجتمع من التكاليف الاجتماعية للإدمان، وقد تفرض ضرائب لتمويل الطرق ومساعدة الفقراء، وقد تحمي الغابات لأنها في الواقع رائعة ومهمة لتوازن الطبيعة ولفوائد أخرى.[6]

إن حجة دوركين هي: أن الحق العام في الاستقلال الأخلاقي أمر مفضل، لأنه يلبي العديد من الرغبات دون تقييد المجتمع السياسي أكثر من اللازم. ولا يقتضي هذا الحق إقامة أي تصور تفصيلي خاص بأساليب أو أنماط الحياة الجديرة بالمتابعة والعيش؛ إنه يصر على أن المجتمع السياسي يجب ألا يتعامل مع المزايا الجوهرية لأي تصور خاص بالأهداف الشخصية التي يسعى إليها الناس كسبب للتشريع. نعم. يجب عدم التقليل من الحقوق القانونية للمواطنين الدينيين لأن قناعاتهم خاطئة أو أن ممارساتهم لا تستحق الأحترام أو الألتزام بها. إلا أن الحق، وبشكل حاسم، يسمح بفرض قيود على الحريات القانونية حيث توجد أسباب للقيام بذلك لا تعتمد على تفوق التصورات الخاصة للأهداف والعلاقات الشخصية التي تستحق السعي من أجلها. فعن سبيل المثال يمكن للحكومات فرض ضرائب عادلة لأنها مسؤولة عن ضمان تمتع كل مواطن بحصة عادلة من الموارد. لا تفترض مثل هذه السياسة أن المعيشة بدون دفع الضرائب سيئة بشكل جوهري. إنها سياسة مبررة على أسس العدالة .[7] يتناقض الحق الخاص مع الحرية الدينية بشكل واضح: يحاول الحق الخاص ترسيم مجال النشاط الذي لا يجوز للحكومة التدخل فيه؛ بينما يضع الحق العام فيما يتعلق بالاستقلال الأخلاقي قيودا على الأسباب التي يلجأ اليها المجتمع السياسي عند البت في القانون وتقرير السياسات، ولكن هذا القيد يتوافق أو ينسجم، من حيث المبدأ، مع فرض قيود على حرية الأفراد.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...........

[1] Bou-Habib, P., 2006. A Theory of Religious Accommodation. Journal of Applied Philosophy 23: 109- 26.

[2] Dworkin, R., 2013. Religion without God. Harvard University Press.136.

[3] Dworkin, R., 2013. Religion without God.131-2.

من وجهة نظري إن مناقشة دوركين للحق الخاص في حرية التعبير توضح فقط معنى "الحق الخاص"، الذي يرفضه عند تطبيقه على الحرية الدينية. لا أقصد تأييد تفسيره لحرية التعبير طبعاً .

[4] Dworkin, R., 2013. Religion without God.110-11.

[5] فيبر، ماكس، الأخلاق البروتستانتية وروح الراسمالية، ترجمة محمد علي مقلًد، مركز الأنماء القومي، بيروت، الفصل الأول.

[6] Dworkin, R., 2013. Religion without God. 130-1.

[7] Dworkin, R., 2013. Religion without God. 128 - 37.

 

 

في المثقف اليوم