أقلام فكرية

علاقة الزمن الفلسفي باللغة

كُل فلسفة لا تتكرَّس في قلب اللغة رُوحًا ومادةً، ستقع في الفراغ، وتُؤسِّس للعدم . ولا يُمكن للأنساق الفلسفية أن تعيش وتنمو وتتكاثر، إلا إذا ارتمت في أحضان اللغة بشكل إرادي لا قَسْري . واللغةُ الحاملةُ للفلسفة هي وسيلةٌ للتخاطب، ونظامٌ للرموز، وعَالَمٌ مِن الإشارات، ومكانٌ لتوليد الأحلام، وزمانٌ تَوحيدي للمراحل، أي إن اللغة تُوحِّد الماضي والحاضر والمستقبل في زمن فلسفي واحد، يمتد في أعماق الإنسان وتفاصيل المجتمع وجزيئات الأحلام .

2

لا مكان في الزمن الفلسفي لعملية حَرق المراحل، لأن المراحل وُجِدَت لتبقى علاماتٍ في الطريق، ومعالم في مسيرة الإنسان . وما يحدُث هو ظُهور قفزات ذهنية عابرة للمراحل، وهذه القفزات الذهنية تكون على شكل طفرات اجتماعية (تغييرات في تسلسل أنماط الوجود الاجتماعي، تُؤدِّي إلى تكوين أنماط جديدة تمتاز بالقُدرة على بعث الدهشة والانبهار). وهذه التغييرات مُفاجئة وصادمة وغير مُتوقعة، لأنها تقوم على الإبداع وصناعة الفِعل، وليس الاتِّباع وانتظار رَد الفِعل. والمراحلُ لا تُعيق انطلاقَ الفكر، وإنما تُنظِّم حركته، وتضبط تحرُّكاته، تمامًا كإشارات المرور التي تُنظِّم حركة السيارات، وتمنع تصادمها. والسياراتُ تتحرَّك وتمضي إلى وُجهتها، في حين أن إشارات المرور تظل ثابتة في مكانها . ومَن يُطالب بحرق المراحل لضمان تدفُّق الأفكار وانطلاقها نحو المستقبل، كَمَن يُطالب بحرق إشارات المرور للسماح بانطلاق السيارات إلى هدفها .

3

الواقعُ انعكاس لمحتويات الذهن . والتغييرُ الاجتماعي على الأرض إنما يبدأ بفكرة ذهنية . والسفينةُ تُصنَع على اليابسة، ثُمَّ يتم إنزالها إلى البحر . وهذا يدل على الارتباط الوثيق بين فلسفة التغيير الواقعية ولغة الذهن المُجرَّدة . وإذا استطاعت الفلسفةُ أن تندمج في اللغة، وتُحوِّلها إلى بَوتقة لصهر الأحلام الإنسانية، وتحويل الأفكار المُجرَّدة إلى واقع محسوس، ستصبح _ أي الفلسفة _ هي التعبير الدقيق عن فاعلية الفرد (قُدرته على إحداث تأثير إيجابي) ودَافعيةِ المعنى الاجتماعي ( حالة المجتمع التي تُسهِّل استجابته للتأثير الإيجابي وُصولًا إلى التَّوازن بين الفكر والغريزة ) .

4

إن بناء الزمن الفلسفي على لغة الذهن، يستلزم التفريق بين البُنية القَصْدِيَّة في الفلسفة (قَصْدِيَّة الفلسفة) والبُنيةِ الحَدْسِيَّة في اللغة (حَدْسِيَّة اللغة) . وهذا التفريقُ ضروري لتحديد أسبقية العوامل الفكرية، وترتيبها بشكل منطقي وفعَّال، وتعيين الفِعل ورَد الفِعل دُون الخلط بينهما . وقصديةُ الفلسفة هي التَّوَجُّه المركزي في أنساق الشعور الفكري نَحْو معرفة خصائص الأشياء، وطبيعة العناصر، وظواهر المجتمع، وتحليل جُزيئاتها بشكل منطقي مُتسلسل، للوصول إلى نقاط القوة ونقاط الضعف، والربط بين العِلَّة (السبب) والمَعلول      (النتيجة) . أمَّا حَدْسِيَّةُ اللغة فهي انبعاث الشُّعور في الداخل الإنساني دُون القُدرة على تفسيره. وهذا الانبعاثُ يكون مُفاجئًا، لأنه يَظهر دُون ترتيب مُسبق، ولا تخطيط منطقي . ورغم هذا، فإن الشعور الإنساني غير المُفسَّر هو نوع المعرفة، وله منطق خاص به. ووظيفةُ الفلسفة أن تكشف عن هذا المنطق الخاص.

5

الإنسانُ يَستمتع بزقزقة العصافير، ويَشعر بها، وتُسيطر على حواسِّه وأحاسيسه، ومع هذا فهو عاجز عن تفسير هذه الزقزقة، ولا يَعرِف معناها . ويَطرَب لصوت المطر أو هدير أمواج البحر، ويتفاعل مع تفاصيل الصَّوت بكل مشاعره . ورغم هذا، لا يَقْدِر أن يُفسِّره ويَفهمه. ورُبَّما يبكي الإنسانُ من الفرح، أو يَضحك مِن الألم (شَر البَلِيَّة ما يُضحِك) . وهذا الأمرُ له منطق خاص في حالات مُحدَّدة، ولا يُمكن تعميمه، ولا أخذه على إطلاقه . وقانونُ المنطق العام يَرفض العلاقةَ بين البكاء والفرح، أو الضحك والألم . وفي العقل الجمعي، يرتبط البكاءُ بالألم، والضحك بالفرح . وهذا يُثبِت أن للمنطق مَفْهُومَيْن: خاص (نِسبي) وعام (مُطْلَق). وإذا استطاعت الفلسفةُ دراسةَ الأشكال الاجتماعية المُنبثقة عن هذين المَفْهُومَيْن، سيتجذَّر المعنى الفلسفي في المجتمع كلُغة رمزية قائمة بذاتها، وقادرة على كشف الأنساق الفكرية المُستترة في مشاعر الفرد، وأحاسيس الجماعة، وعواطف المجتمع . وعندئذ، تُصبح فلسفةُ اللغة الكاشفة للأنساق الاجتماعية، هي لغة الفلسفة التي تُعيد تعريفَ الفردِ والجماعةِ والمجتمعِ، اعتمادًا على الجوهر لا الشكل .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

في المثقف اليوم