أقلام فكرية

الواجب الأخلاقي في الإسلام

علي رسول الربيعيالإسلام والعلمانية وتحديات حقوق الإنسان (5)

أن الواجب أو الضرورة الأخلاقية هي فعل مطلوب عقلائيا (وجوب عقلي بلغة الفقهاء) لأستنادة إلى قواعد أخلاقية تنبثق عن الطبيعة البشرية- أيً الى أسس القانون الطبيعي. يستلزم الواجب العقلاني نظامًا أخلاقيًا موضوعيًا قائمًا على الإرادة والعدل الإلهيين، ويكون تقييمه واضحًا للعقل الإنساني. وبالمقارنة مع الالتزام المستدل عليه عقلانيًا، تُعد العقيدة القائلة بأن إرادة الله هي المصدر النهائي لتصور للألزام الأخلاقي القائم على الوحي (الواجب الشرعي) كتعبير عن إرادة الله المطلقة. يقدم العقل الحر، وفقًا للمعتزلة ، مبرراً لتصور الواجبات المعتادة كجزء من تحقيق إرادة الله، وهي الضرورة المبنية على الوحي (واجب شرعي) من أجل أن يحقق الناس الفلاح في الدنيا والثواب في الآخرة. أن الفرق بين العقل والواجب القائم على الوحي هو أن الفعل القائم على الشعور الأخلاقي بالواجب، وفقًا للقرآن، هو جزء من التقليد والأمرالأبدي (سنة الله)، وهو القانون الطبيعي، وهدف للتفكير البشري؛ فبينما يعمل الأنبياء الواجب القائم على الوحي تجاه أتباعهم لتحقيق إرادة الله في الرخاء للبشر؛ يقوم العمل الأخلاقي على المعايير الأخلاقية والاجتماعية التي تكون عالمية وقابلة للتطبيق على جميع البشر كبشر. علاوة على ذلك، من حيث هدفه المتمثل في تعزيز العلاقات بين البشر، فإن الالتزام الأخلاقي يُستمد من أسس المعايير الأخلاقية التي تتبع الطبيعة البشرية الأساسية. ويؤدي العمل القائم على الوحي إلى اكتشاف الواجبات المطلوبة دينيًا وهي حصرية بالضرورة، من حيث أنها لا تنطبق إلا على العضوية داخل المجتمع الديني .

قد يدفع هذا الوصف  لهذين النوعين من الإجراءات الضرورية القارئ إلى اعتبار الالتزام الأخلاقي القائم على الوحي في الإسلام  أنه شامل ولديه قدرة على أن يكون شاملاً في المجال العام. والواقع، مثلاعلى ذلك نريد مناقشة، إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام القائم على افتراض أن الإسلام التاريخي، كنظام شامل، قادر على أن يصبح مصدرًا لحقوق الإنسان العالمية.

إن الآثار الدينية لإعلان القاهرة كما هو، وافتقاره إلى أي تعبير لاهوتي- أنطولوجي (وجودي) عن الشخصية الإنسانية وقدرتها على معرفة الصواب من الخطأ بناءً على العقائد- الكلامية (اللاهوتية) الإسلامية حول الطبيعة والكرامة الإنسانية لا تترك مجالًا كبيرًا لمنظِّر حقوق الإنسان لتقدير الإمكانيات التأسيسية في الإسلام للأنخراط في مطالب العلمانية بالعالمية بشروطها الخاصة. بمعنى آخر، وفقًا لإعلان القاهرة ، فإن الأسباب التي يجب على المسلمين إعمال حقوق الإنسان من خلالها في مجتمعاتهم هي أنهم مسلمون، وليس لأنهم بشر أولاً وقبل كل شيء. مثل هذا النهج الخاص لحامل حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف في إعلان القاهرة كبديل أو كرد فعل إسلامي على الإعلان العالمي يبطل حقًا زعمه بأنه عالمي، لأنه يخدم في المقام الأول أعضائه بوصفهم أصحاب حقوق مميزة- مهما كانت هذه العضوية كبيرة - دون الاهتمام بتقديم حقوق عالمية متساوية لجميع البشر الذين هم بشر بشريين. لابد أن يؤدي حديث جماعة الإيمان في هذه الوثيقة الإسلامية عن الخصوصية الذاتية ("هناك نحن، كمسلمين، الذين يؤمنون.. في التزامنا بإقامة نظام إسلامي")، إلى التمييز ضد أولئك الذين يقفون خارج حدود الجماعة. إن تقييمي النقدي لإعلان القاهرة أساسي، لأن لايمكن أن تأتي المهمة المتمثلة في تحديد الأساس الإسلامي لحقوق الإنسان إلا من خلال التحليل المضني لللاهوت العام (أو السياسي كما يطلق عليه البعض)  الإسلامي – ولأنه  مجال للتقييم النقدي للأداء السياسي لأولئك الذين في في السلطة – الذي بقى معلق في معظم العالم الإسلامي بسبب الحكم غير الديمقراطي الذي يعوق أي نقد لهؤلاء الموجودين في السلطة وأي محاولة لتنفيذ الحقوق الأساسية للمحكومين.

إن القضية الحاسمة التي تم تجنبها عمدا من قبل إعلان القاهرة هي البعد السياسي للتقييم اللاهوتي فيما يتعلق بالطبيعة البشرية والنظام العام العادل في التقليد الإسلامي التاريخي. لايرفض أغلبية  الفقهاء والقادة المسلمين التقليديين اعتبار البشر كائنات عقلانية فقط، وأنهم أيً البشر قادرون على توجيه انفسهم واستنباط معيارًا للحكم أستنادا الى عقلهم يتناسب وبيئتهم، ولكنهم    ينكرون أيضًا – طبقا للخلفية الأشعرية- أن هناك أي شيء شر بطبيعته أو خير بجوهره يمكن إدراكه بالعقل من قبل البشرولا يعتمد على إرادة الله. علاوة على ذلك، وربما أن رفض ادعاء الوثيقة بأنها عالمية هو إنكار أساس عقائدي لفكرة أن الإنسان يولد حرًا ويساوي جميع البشر الآخرين في الخلق.

سواء يمكن أن تكون الأخلاق اللاهوتية (الكلامية) الإسلامية بمثابة الأساس لخطاب حقوق الإنسان في الإسلام أم لا، فإن جوهر مشكلة العلاقة بين الإسلام وحقوق الإنسان يعود إلى اللامبالاة التاريخية بين الفقهاء المسلمين تجاه اللاهوت العقلاني وعلاقته بالأخلاق في الخطاب الديني الإسلامي. يوفر المذهب الأشعري القائل  بأن إرادة الله هي المصدر النهائي للأخلاق وأن هذه الشريعة هي تعبير عن السيادة المطلقة لله تبرير السيادة المطلقة للحكام المسلمين كمظهر لسلطة الله المطلقة. من ناحية أخرى، فإن عقيدة المعتزلة بالإرادة الحرة البشرية والفاعلية البشرية الأخلاقية تبرر المهمة الحقيقية للأخلاق وكذلك الضرورة الأخلاقية، أي فهم الحياة الأخلاقية وتأكيدها كمظهر للإرادة العقلانية الممنوحة للبشرية كجزء من إرادة الله بوصفها خلق هادف. بهذا المعنى، ترتبط الشريعة والضرورة الأخلاقية بالفضيلة التي هي مصدر القيم التي يمكن تمييزها من قبل العقل البشري. عنئذ توصف هذه الشريعة بأنها قانون طبيعي، ومبدأه الأساسي هو المساواة بين جميع البشر كمتلقين لطبيعة إلهية.

إن هذا الفهم للطبيعة المشتركة للبشر وقدرتهم العقلانية على أن يكونوا أخلاقيين يمكن نعتهم بانهم أمة واحدة (مجتمع واحد). وعليه لا يمكن أن يتعارض جوهر الإنسانية مع هذه الطبيعة المشتركة، والتي هي مصدر الخير الاجتماعي المشترك والمسؤولية البشرية تجاه الله في التمسك بها أيضًا. إن هذه البنية الأخلاقية  للمجتمع الإنساني من حيث الصالح العام في عقيدة العدالة عند المعتزلة هو ما يجب التأكيد عليه في الخطاب الإسلامي لحقوق الإنسان. من المؤكد لا يصف مبدأ العدالة المعتزلة طريقة تحقيق مجتمع عادل. لكنه يؤكد على القدرة والمسؤولية البشرية عن تأسيس نظام عام عادل حيث يتم احترام الأفراد على أساس عقلاني للضرورة الأخلاقية، والذي يستبعد المعاملة التمييزية وغير العادلة لشخص ديني أو ثقافي آخر.

ليس من الصعب معرفة لماذا لم يعامل الفقهاء المسلمون التقليديون الأخلاق الكلامية الأصولية (اللاهوتية) الإسلامية كنظام مستقل، متميز عن الأحكام الفقهية التي تتعامل مع أوامر الله ومحظوراته، ولماذا لم يطور الفقهاء المسلمون أبدًا نظرية منهجية للقانون الطبيعي بآرائه البارزة التي تعبر عن عقلانية مبنية على مبادئ لا تقبل الجدل، الفردية على اساس الحقوق الطبيعية للبشر وغير القابلة للتصرف، وتقديم برنامج للإصلاح الاجتماعي يدعو إلى إنهاء جميع المؤسسات السياسية التي ترتكب الظلم في المجال العام. على النقيض من ذلك، طرح العقلانيون المسلمون، علماء الكلام المعتزلة السنة والشيعة، أسس مثل هذه النظرية الإسلامية للقانون الطبيعي عندما شرحوا المعرفة الأخلاقية التي ادعوا فيها أن المعرفة الأخلاقية موضوعية ومكتسبة بشكل عقلاني من خلال العقل الحر. كانت هذه العقيدة الأخيرة هي الأساس للقيمة الأخلاقية الإنسانية والفردية الأخلاقية - وهما الشرطان الأساسيان للمطالبة بحقوق الإنسان العالمية.

تفترض اللغة الحديثة لحقوق الإنسان القدرات الأخلاقية للشخص مسبقًا في ممارسة حقوقه. وبالتالي، فإن قدرة  الشخص على التأثير الأخلاقي شرط مسبق لممارسة حقوق الإنسان. فبدون الممارسة الحرة للإرادة، لا يمكن أن يتوقع من صاحب الحقوق اتخاذ قرار أخلاقي وقبول المسؤولية عن أفعاله. يفترض الحق الأخلاقي القدرة على التصرف بما يتوافق مع القانون الطبيعي. إن أمتلاك الحق  يعني أن يكون لديك القدرة  التصرف بشكل صحيح بطريقة أو بأخرى؛ التصرف بهذه الطريقة هو ممارسة هذا الحق1.

تحتاج المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء العالم إلى المشاركة بشكل جماعي ونشط في تعزيز القدرة البشرية على التصرف بما يتوافق مع متطلبات ما هو صحيح أخلاقياً من خلال تحدي الافتقار إلى هذه الحساسيات الأخلاقية بين أعضاء المؤسسة الدينية والسياسية في العالم الإسلامي . أنا أعتبر ذلك تحديًا لحقوق الإنسان أمام الفقهاء المسلمين، الذين يبدو أنهم اتخذوا موقفًا سلبيًا تجاه الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان للأقليات غير المسلمة أو المنشقين في المجتمع المسلم داخل حدود الدول القومية الحديثة. هذا الموقف السلبي، في رأي، هو نتيجة القبول غير النقدي للموقف الأشعري الموروث فيما يتعلق بالطبيعة البشرية وتأييد الأطروحة القائلة بأنه لا يوجد مفهوم للقانون الطبيعي أو أي فكرة عن شخصية أخلاقية مستقلة في الإسلام.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................

1- فمثلا بصفتي مالك منزل، لدي القدرة على تأجير جزء منه كلما رغبت في ذلك ؛ إذا كان هناك شخص أخر لايملك المنزل وقام بتأجيره فأنه بهذا  ينتهك القانون الأخلاقي، ولكن كيف أجعل ذلك الشخص الآخر يعترف بحقي  اذا لم تكن هناك أي سلطة تمنعه من التصرف بهذه الطريقة؟ وهنا تصبح الأعراف الاجتماعية مصدراً هاماً للتوافق مع القانون الأخلاقي ضمن حدود القانون الطبيعي. توفر القوة غير الرسمية للمجتمع الضغوط الأخلاقية اللازمة. ويعمل المجتمع ككل كحامي للحقوق من خلال تنظيم قواعد القانون أو الأخلاق بحيث لا يحصل أي عمل من الظلم دون لوم.

 

 

في المثقف اليوم