أقلام فكرية

أقلام فكرية

هل هناك جواب نهائي للسؤال القديم عن معنى الحياة؟ سؤال لطالما طُرح على الفلاسفة ومعلمي الكهنة. ما معنى الحياة؟ هو سؤال هام. امتلاك معنى وغرض للحياة عادة تترتب عليه نتائج صحية وايجابية. وبالعكس عندما لا نمتلك معنى للحياة سنشعر بالفتور والخسران. فردريك نيتشة خشي من ان افتقار معنى للحياة قد يُغرق العالم في العدمية، وهو الأمر الذي سيكون كارثيا.

العديد من الفلاسفة اقترحوا أجوبة لذلك السؤال القديم، سننظر هنا في أربعة منها. القائمة ليست شاملة، لكن العديد من المفكرين من مختلف المدارس نظروا في المشكلة واقترحوا لها الحلول التالية.

1- الوجودية:

وهي اتجاه فلسفي يركز على اسئلة الوجود الانساني، أي، كيف تعيش حياة ذات معنى في وجه كون لا معنى له. العديد من المفكرين والكتاب ارتبطوا بحركة الوجودية بمن فيهم نيتشة وسيمون دي بينوفور وديستوفسكي. لكن أبرز الوجوديين في القرن العشرين كان جين بول سارتر.

في كتابه (الوجودية هي انسانوية) يضع سارتر اسس الفلسفة الوجودية. هو يوضح "الانسان قبل كل شيء يواجه ذاته، يرتفع في العالم – ويعرّف نفسه بعد ذلك". بكلمة اخرى، بالنسبة للانسان، الوجود يسبق الجوهر. الناس عليهم ان يقرروا ماذا يعني ان يكونوا اناسا  من خلال أفعالهم وبالتالي يعطون معنى لحياتهم. تلك الخيارات ايضا تعرّف الإنسانية ككل. وعلى هذا النحو، يجادل سارتر ان بعض الإختلافات في الأخلاق المطلقة – القاعدة الاخلاقية التي تقول انك يجب ان تتصرف بطريقة يستطيع منطقيا كل شخص آخر التصرف بها – هي جزء حيوي من اتخاذ القرار. اولئك الذين يخشون من ان يقوم  الوجوديون باختيار قيما تمزق المجتمع ربما ايضا يشعرون بالراحة في هذه المعرفة. بالنسبة لـ البير كامو، كان سيزيف بطلا عبثيا لأنه كان يستطيع التمرد ضد عبثية أعماله من خلال وضع قيمته الخاصة على ما يفعل.

2- العبثية  Absurdism:

هي فلسفة أوجدها صديق سارتر ومنافسه الفكري لاحقا البير كامو. انها ترتكز على فكرة ان الوجود هو عبثي أصلا ولا يمكن فهمه من خلال العقل. العبثية، فلسفة مرتبطة بالوجودية لكنها لا تعني ذات الشيء. يجادل كامو ان العبثية تبرز عندما يحاول الانسان ان يفرض نظاما ومعنى على عالم بطبيعته غير عقلاني وبلا معنى. غير ان لاعقلانية العالم وحتمية انقضاء حياتنا فيه دائما يأتيان مجتمعان للاستهزاء بأفضل محاولاتنا لإيجاد معنى. هذا هو الصراع الذي نواجهه.

يرى كامو ان الجواب يكمن في احتضان العبثية. هو يشير الى شخصية سيزيف في الميثولوجيا اليونانية الذي عاقبه زيوس بدفع الصخرة الى أعلى التل. سيزيف لم يتمكن من النجاح لأنه حالما يقترب من قمة التل تتدحرج الصخرة مرة اخرى نحو الأسفل. مهمته بالنهاية كانت بلا معنى ويجب تكرارها الى الأبد. رغم هذا، كامو يدعونا ان "نتصور سيزيف سعيدا".

مثلنا، هو يواجه موقفا عبثيا لا أمل فيه للهروب. كل النظام الذي يفرضه على العالم سوف يتدحرج بالنهاية مرة اخرى. غير ان كامو يخبرنا بان سيزيف يمكنه التمرد ضد عبثية الموقف عبر احتضان العبثية. هو يستطيع الزعم بقيمة حياته واحتضان العبثية في أعماله. عبر القيام بهذا، هو يجد معنى في السخافة – حتى لو ذهب عمله هباءً في النهاية. سيزيف هو بطل كامو العبثي.

3- الوجودية الدينية:

اذا كان الوجوديون الكبار ملحدين –  نيتشة دق ناقوس الخطر حول العدمية عندما صرح "بموت الاله" – فان مؤسس المدرسة الوجودية الدينية كان مفكرا دينيا متطرفا وهو سورن كيركيجارد. فيلسوف دانماركي عمل في النصف الاول من القرن التاسع عشر، هو حوّل تصرفاته الغاضبة الى فلسفة كبيرة. كان كيركيجارد مهتما بالحياة الحقيقية التي يعيشها المرء، وليس فقط في التفكير فيها. ولكن في كل حياة، سنصل الى نقطة يجف بها العقل. في هذه النقطة، يمكن للعاطفة مساعدتنا. كيركيجارد يجادل بان الايمان مطلوب اذا اردنا ان نجد المعنى الحقيقي. ذلك يتطلب "التحلّي بالايمان" leap of faith وهو يجد مثالا على الايمان هذا في احدى شخصيات الانجيل وهو ابراهيم. مثلما كان سيزيف مثالا لكامو، كذلك ابراهيم كان مثالا لكيركيجارد.

في كتابه (خوف وارتجاف)، يرى كيركيجارد ان ابراهيم عرف فورا ان التضحية بإسحق كانت جريمة، وان الله كان يجب ان يُطاع، وان اسحق سيظل حيا وبصحة جيدة. وبالتالي هو كوفئ بسبب ايمانه وذهابه طوعا لتنفيذ اوامر الله. ابراهيم احتضن العبثية من خلال الايمان. العقلانية كانت قليلة الفائدة له، لكن الايمان كان مفيدا. في كتابه (اما او)، يمتدح كيركيجارد ايضا دايوجينس كـ "فارس الايمان" الذي استحق لقبه من خلال النشاطات العادية المألوفة.

4- البوذية:

تجسيد لدين آخر يمكن العثور عليه في أعمال الفيلسوف الياباني كيجي نيشاتاني Keiji Nishitani. نيشاتاني درس الوجودية المبكرة تحت اشراف مارتن هايدجر الذي كان ذاته مفكرا وجوديا رئيسيا، لكنه قدّم اتجاها بوذيا للعديد من المشاكل التي يعالجها الوجوديون.

لاحظ نيشاتاني المشكلة الحديثة في العدمية في كل مكان وانها ارتبطت بإحكام بنزعة التكنلوجيا لتسمح لنا كي نصبح أكثر أنانية. وبينما نحن عادة نواجه "العدمية" أثناء أحداث الحياة الكبرى مثل موت محب، لكنها يمكن ان تبرز في أي وقت – لتجعل السؤال عن كيفية التعامل معها أكثر اهمية. هو يصف حياة الانسان حين تحدث في ثلاثة مجالات: الوعي، العدمية، الفراغ. نحن في أغلب الوقت نعيش في المجال الاول، حيث نحصل على أفكار مثل الثنائية او ان هناك ذات. غير انه، تقريبا كل شخص بالنهاية يواجه العدمية وعليه ان يواجه فكرة الموت، اللامعنى، والفراغ المتأصل في افكارنا. نيشاتاني يجادل اننا يجب ان نندفع نحو المجال الثالث. الفراغ يحيط بالاثنين الآخرين. انه يسمح للفرد بفهم الذات الحقيقية، وكيف تتجذر العدمية في الفراغ كوعي، وفي العلاقة المتبادلة بين جميع الكائنات. وعلى المستوى الأكثر عملية، هو يقترح تأملا بوذيا كأداة لفهم الفراغ المتأصل في الواقع. وبينما هذا قابل للتنفيذ، لكنه لم يعتقد به كعلاج لمواجهة مشاكل العدمية كما وُجدت في اليابان.

***

حاتم حميد محسن

الفِعْلُ الاجتماعي لَيْسَ زمنًا مُتَحَجِّرًا في الظواهرِ الثقافيةِ والقوالبِ التاريخيةِ، وإنَّما هو تجديدٌ فِكري حقيقي ومُؤثِّر في مفاهيمِ المُجتمعِ وحقولِ المعرفةِ، وكُلُّ تجديدٍ فِكري يُمثِّل آلِيَّةً لإعادةِ إنتاج التفاعلات الرمزية في لُغةِ الفردِ الإبداعية، وهُويته المركزية، وسُلطته الاعتبارية. وإذا تَكَرَّسَ الفِعْلُ الاجتماعي كأداةٍ تفسيريةٍ للأحداثِ اليوميةِ والسُّلوكياتِ الأخلاقيةِ، فَإنَّ وَعْيَ الفردِ بِذَاتِه وعناصرِ البيئةِ المُحيطة به، سَيَصير قُوَّةً دافعةً لأشكالِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، ومُوَلِّدَةً لرموز البُنى اللغويةِ، ومُنَظِّمَةً للمعاييرِ الأخلاقيةِ. وهذا يدلُّ على أنَّ الوَعْيَ هو أساسُ الفِعْلِ الاجتماعي، وكِلاهُمَا مُندمِج معَ عمليةِ تحريرِ الظواهرِ الثقافية مِن عِبْءِ المَصَالحِ الشخصيَّةِ، وعمليةِ تخليصِ القوالبِ التاريخيةِ مِن ضَغْطِ التأويلاتِ المُغْرِضَةِ. وإذا كانَ المُجتمعُ هو ذاكرةَ الأحلامِ الفرديةِ التي تُعيد تشكيلَ سُلطةِ البناءِ الاجتماعي، وترسيخَ إنْسَانِيَّةَ الواقعِ التي لا يُمكِن أَدْلَجَتُهَا مَصلحيًّا، ولا تفكيكُها تاريخيًّا، فإنَّ فلسفةَ المُجتمعِ هي تجسيدُ ذاكرةِ الأحلامِ الفرديةِ في بُنيةِ السِّيَاقِ الحضاري لِثَورةِ اللغةِ وحركةِ التاريخِ، وهذا التشابكُ المعرفي بين المُجتمعِ وفلسفته يَجعل جَوْهَرَ الفِعْلِ الاجتماعي إطارًا مرجعيًّا لِمَنطقِ اللغة الرمزي، ومَنهجِ العقل الجَمْعِي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَجذيرِ الفِكْر النَّقْدِي، وتَكَيُّفِ فَلسفةِ الحَداثةِ معَ فَلسفةِ التُّراثِ، بدون عوامل خارجية ضاغطة، ولا عمليات تَلفيق اصطناعية على الصَّعِيدَيْن الزَّمَني والأيديولوجي.

2

الفِعْلُ الاجتماعي القائم على الوَعْي قادرٌ على تَكوينِ منظومةٍ مُزْدَوَجَة مِن فَلسفةِ الحَداثةِ وفَلسفةِ التُّراثِ، بشكل طبيعي وانسيابي وسَلِس، لأنَّ الوَعْيَ طاقةٌ ذاتيةٌ في تفاصيل المُجتمع، ولَيْسَ عُنصرًا دَخيلًا أوْ كِيَانًا مُسْتَوْرَدًا أوْ كَينونةً غريبةً، وهذا يَعْني أنَّ الفِعْلَ الاجتماعي والوَعْيَ مُتَجَانِسَان، وتَجْمعهما رابطةٌ وُجوديةٌ واحدةٌ، وغايةٌ مصيريةٌ مُشْتَرَكَةٌ، ويَتَحَرَّكَان في نَفْسِ الاتجاهِ ضِمْن تَيَّارٍ معرفي مُتماسك بلا انقسامٍ معنوي ولا انكسار مادي، مِمَّا يَمنع التعارضَ بين الحداثةِ والتُّراثِ، ويَمنع التصادم بين فَلْسَفَتَيْهِمَا على صَعِيدِ الشَّكلِ والمَضمونِ. والفِعْلُ الاجتماعي عمليةُ حَفْرٍ في الفِكْرِ النَّقْدِيِّ والظواهرِ الثقافية، والوَعْيُ عمليةُ حَفْرٍ في البُنى اللغويةِ وأنماطِ الحياةِ. وهذا النشاطُ الإنساني يُمثِّل شبكةً مِن العلاقاتِ الاجتماعية، ونسيجًا مِن الخِبراتِ الحياتية. وكُلُّ نشاط إنساني يَرتكز على التجانسِ بين عناصر البيئة المُعَاشة، ويَعتمد على التفاعل الواقعي معَ مصادر المعرفة، ويَستند إلى الأدوات المنهجية التي تُوَظِّف رمزيةَ اللغةِ في تأويلِ السِّيَاقِ التاريخي للعقلِ الجَمْعِي، وتحليلِ المَسَارِ الحضاري للفردِ والجماعة، مِمَّا يُشير إلى أنَّ النَّشَاطَ الإنساني نظامٌ فِكري مُندمِج معَ البيئةِ والتاريخِ والحضارةِ، وَفْق آلِيَّات عقلانية تَسْعَى إلى النُّهُوضِ بالواقع، ولَيْسَ الهَيمنة عليه، وتَسْعَى إلى تحرير هُوِيَّةِ المُجتمع الإبداعية مِن سُلطةِ اللحظةِ الآنِيَّةِ، ولَيْسَ احتكار الأحلام الفردية لصناعة وَعْيٍ زائف وشُعُورٍ مُخَادِع وإنجازاتٍ وهميَّة.

3

الفِعْلُ الاجتماعي يُؤَسِّس أركانَ الفِكر النَّقْدِي لتحريرِ التُّرَاث مِن أوهام الحداثة، وتحريرِ الحَداثة مِن تقديس التُّراثِ، مِمَّا يَجعل الفردَ يُمارس سُلطته اللغوية في سِيَاقَاتِ الحداثة ومجالاتِ التُّراث، اعتمادًا على طرحِ الأسئلة المصيرية، والبحثِ عن أجوبة مَنطقية مَهْمَا كانت صادمةً، والأساسُ الفلسفي للأسئلة المصيرية مُتمركز في بُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي، مِن أجل اكتشاف الحقيقة، ولَيْسَ التحايل عليها، أو الالتفاف حَوْلَها. وهذا يَنقل الظواهرَ الثقافيةَ مِن الفِعْلِ الاجتماعي إلى الفاعليَّة الوجودية، ويَنقُل الأحلامَ الفردية مِن المصالح الشخصية إلى الكَينونة المعرفية، مِمَّا يُحَرِّر الفردَ مِن الاغترابِ الرُّوحي في الأحداثِ اليومية، ويُحَرِّر المُجتمعَ مِن الغُربة الزَّمنية في الوقائع التاريخية، وبالتالي، يَتَكَوَّن تَصَوُّرٌ فلسفي لصورة الماضي في الحاضر، وانعكاسِ الحاضر على الماضي، وهذا التَّصَوُّرُ الفلسفي مُرتبط بشكل وثيق مع التَّحليل النَّفْسِي للحَداثةِ والتُّراثِ، وكيفيةِ تَوظيفهما بشكل تكاملي في تفاصيل الحياة، بحيث يُصبح الفِعْلُ الاجتماعي نظامًا تَوليديًّا للفِكْرِ النَّقْدِي، ويُصبح الفِكْرُ النَّقْدِي إطارًا تنظيميًّا للفِعْل الاجتماعي.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الإسلام والوجودية.. هل تأثر فلاسفة الوجودية بالتصوف الإسلامي؟

إذا توافقنا على تصور الأفكار الفلسفية دائرةً متصلة الأطراف يقود بعضهاَ إلى بعض في إطار متجدد من عدد من الرتوش والإضافات الظرفية لمناسبة الآن والزمان والحال. فإن فلاسفة الوجودية ليسوا بمنأى عن ذلك؛ لهذا فمن الغريب ألا تجد محاولة الفيلسوف المصري د.عبدالرحمن بدوي، وكذلك المفكر الأصيل الذي لم ينل ولو جزءاً من حقه الأدبي والفكري الدكتور عبدالغفار مكاوي، لم تجد محاولتهما في نص د.عبدالرحمن بدوي على التشابه بين أفكار فلاسفة التصوف الإسلامي واصطلاحاتهم وأفكار فلاسفة الوجودية سورين كيركجارد (١٨١٣ م - ١٨٥٥ م)، هيدجر (١٨٨٩م - ١٩٧٦م)، وفي تنبيه د.عبدالغفار مكاوي إلى تأثر الوجوديين بأبي البركات البغدادي، لم تجد من يعمل على فحصها ودرسها والتوسع في مقابلة النصوص ومقارنة الأفكار وتطابق النتائج والمقولات.

والسبب فيما يبدو ذلك الذي أشار إليه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي متمثلاً في قابلية الاستعمار لدينا، إن لم يكن عسكريا فليكن اجتماعياً وثقافياً يضعنا في مقام التابع لا المتبوع، لأن مقام المتبوع يزيل الوهج والانبهار الذي تسربلت به منتجات الحضارة الغربية.

لكن لأننا قد درجنا واعتدنا الموضوعية نهجا بحثيا بعيداً عن الذاتية فيما يقتضيه البحث العلمي، فإننا سنعمد إلى المقابلة بين بعض المسائل التي عرضها فلاسفة الوجودية مما نجد له نظيراً سابقاً في معطيات الفكر الإسلامي وتمثلاته الصوفية.

ولنبدأ بمسألة الموت.

تنظر الوجودية إلى الموت على أنه جزء من الهوية الإنسانية الملازمة لوجودها منذ الميلاد، فالموت والحياة نقيضان يمثلان الوجود والعدم قد وجدا جنباً إلى جنب في دورة متواصلة ووجود غير منفصل، وكأن أحدهما غطاء للآخر ومحايث له في الوجود، فهو هوية في الوجود وفي اللاوجود، ويأتي الموت عندما يفارق الوجود (حالة الإمكان ألى الاستحالة فيحل الموت (العدم) محل الوجود العيني (الدازاين)

وليس الموت في الوجودية تتويجاً لاعتزال اللاعبين ملاعب الحياة، لأن الموت لا يختص فقط بكبار السن أو المرضى، بل إنه لا يميز بين كبير وصغير أو بين صحيح وعليل، فهو الحاضر الحي في كل وقت.

وهو تجربة ذاتية لا يعانيها إلا صاحبها ولن يفهمها غيره وإن مات العالم كله أمامه.

وبداية فإن التصوف الإسلامي وفلاسفته الكبار مثل ابن عربي والحلاج وابن سبعين والسهرودي هم الرافد الأول المفترض للتأثير في فلاسفة الوجودية، وذلك ليس نوعاً من المبالغة في التأويل واعتساف المشابهات بأي ثمن كما يتخوف د.عبدالرحمن بدوي (الإنسانية والوجودية في الفكر العربي ص 82، 98)

بل إن الأمر يستند إلى واقع دراسات التصوف الإسلامي في الغرب على يد كبار المستشرقين واللاهوتيين على حد سواء بدءاً من (نيكلسون 1868م-1945 م) الذي ترجم وحقق بعض مثنويات جلال الدين الرومي وتذكرة الأولياء للعطار، واللمع لأي نصر السراج، وترجمان الأشواق لابن عربي.

ثم الأسباني (اسين بلاثيوسي ١٨71م- 1944م) الذي اعتنى عناية خاصة بابن عربي ثم بالغزالي حجة الإسلام.

أما الفرنسي (لويس ماسنييون 1883م – 1962م) فقد درس الحلاج دراسة مستفيضة ونشر ديوانه وكذلك (الطواسين) وأخبار الحلاج وكانت رسالته للدكتوراة عنه باللغتين العربية والفرنسية، كما كتب عن ابن سبعين.

وليست المقابلة التي أجراها د. بدوي بين المتناظرات والمتشابهات فيما بين التصوف الإسلامي وبين الفلسفة الوجودية في مسائل:

1- الوجود والماهية

2- الإنسان الكامل، الأوحد

3- الوجود كحياة تطبيقية للآراء في تجربة ذاتية للإنسان

فالآراء تحيا في التجربة الذاتية وليست نوعاً من المعرفة النظرية كما كان الحلاج يحيا حياة المسيح وآلامه في تعرضه للموت اختياراً كما تعتقد المسيحية.

و كما كان كيركجارد ينطلق من القصص الديني مقدمات للوجودية.

4- القلق ودوره في تحول الوجود من حالة الإمكان إلى حالة الكينونة المتعينة ليشغل مكان العدم الماهوي.

ليست هذه المقابلة إلا نماذج حقيقية من ذلك التشابه وبتلك المتناظرات التي عندما يُنظر إليها إلى جانب توفر المادة العلمية للإنتاج الصوفي الإسلامي لا يكون ثمة مجال للقول بالمبالغة أو التعسف.

و يزيد هذه النتيجة وضوحاً وتأكيداً التصور الإسلامي للموت سواء في التمثلات الصوفية أو السلفية على حد سواء.

فالموت في التصور الإسلامي ليس النهاية، وإنما اختتام مرحلة فحسب وبداية لمرحلة وجود أخرى لا متناهية الزمن وهي الحياة المثلى التي ينعدم فيها الموت عدماً حقيقياً ليحقق الوجود الحقيقي والكينونة المتعينة اللانهائية للإنسان، فالإنسان لم يخلق للفناء والعدم بل للبقاء والخلود فالموت في الإسلام ليس عدماً بل وجود خلقه الله إلى جانب الحياة ليؤدي مهمة فاعلة وظيفية: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).

وهذا الموت تجربة ذاتية لكن يعايشها الإنسان في الإسلام معايشة دائمة ومستمرة يومياً: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) الزمر/42

و تتعدد صور الموت في الإسلام ما بين موت وظيفي متجدد متكرر، وما بين موت وظيفي محدد.

فالموت الوظيفي المتكرر هو ما أشارت إليه سورة الزمر ممثلاً في الوفاة بالنوم.

أما الوظيفي المحدد فهو موتتان محددتان تعقبهما حياتان إحداهما محدودة قصيرة والأخرى غير محدودة: (أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) غافر/11

هي الحياة الدنيا التي ينجح الإنسان فيها إن عاشها (كأنك غريب أو عابر سبيل) لأنها ممر

أما الثانية فهي الحياة الحقيقية الدائمة: (وما هذه الحياة إلا لهْو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت / ٦٤.

ويأتي التأكيد الإسلامي على تجاور الموت والحياة وتحايثهما كموجودين منذ بدء خَلْق الوجود، ولذلك ليس بغريب أن الوجود والحياة قد بدأت بالموت والعدم: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يُحْييكم ثم إليه تُرجعون) البقرة /٢٨.

ولذلك يفتقد الموت لدى الصوفية أية صيغٍ من المرارات أو التخوفات من المجهول؛ لأنه بمثابة إذن الولوج إلى لقاء المحبوب الأعظم: (مَن أَحبَّ اللهَ أحبَّ لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله كره لقاءه) رواه الشيخان في باب من أحب لقاء الله.

ثانيا: (حقيقة الوجود الإنساني)

بعيداً عن تصنيف الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي للفيلسوف الألماني مارتن هايدجر بأنه ملحد، ذلك التصنيف الذي لا يصح بحال من الأحوال ولم يوافقه عليه أحد من الأثبات.

فهل يمكن القول بأن هايدجر عندما أقام نسقه الفلسفي على أساس من (الوجود) حياة الإنسان، (الموت) الذي هو جزء من كينونة الإنسان، وبينهما القلق تجاه مصير الإنسان الحتمي، ذلك القلق الذي ليس شعوراً بل قيمة فلسفية باحثة عن معنى الوجود وكيفية تحقيقه بالدازاين (Da zein) الوجود الحقيقي المتعين بالعالَم، ذلك الوجود الذي تفقد حياة الإنسان معناها إذا لم يحققه باختياره وإرادته الحرة، وإلا أصبح مغترباً عن ذاته، منتفياً وجوده الحقيقي، متهرباً من مسؤوليته الوجودية تجاه العالم، فاقداً البصمة المؤثرة في الحياة، متحولا إلى رقم في قطيع استهلاكي روتيني مغلق تافه.

هل يمكن القول بأنه أول فيلسوف غربي يدرك عظمة الخلق الإنساني على النحو الذي طرحه التصور الإسلامي بأنه سيد الكون الذي خلقه الله تعالى خليفة في الأرض لعمارتها وأمدَّه بكل مقومات الامتياز المناسبة لأداء تلك المهمة وتحمل الأمانة التي عجزت عن تحملها السموات والأرض والجبال، فمنحه العقل وأدوات الإدراك والحواس وأرشده بالوحي لكي يعمل بإيجابية وتأثير يُحاسب على التقصير فيه، فلا تزول قدماه حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مم جمعه وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل به؟

فإن كان ذلك كذلك فما هي المصادر التي اعتمد عليها هايدجر من تراثنا ومن فلاسفتنا ومفكرينا خاصة أنه بدأ حياته لاهوتياً، بل يرى بعض نقاده كذلك مثل جلال صادق العظم أن نسقه الفلسفي عبارة عن لاهوت مُقَنَّع، أو على الأقل كما يقول جاك دريدا عن كتاب هايدجر الرئيسي (الوجود والزمان): إنه لم يُقرأ جيدا بعدُ، ولا يزال يعاني سوء الفهم أو عدمه، وما زال الكثير من مواضعه غير واضح وغامض وعسير على الفهم.

ويؤيد ما ذهب إليه جاك دريدا أن هايدجر نفسه قد انتقد الفيلسوف الفرنسي سارتر بأنه قد استعار اصطلاحاته لكنه حرَّفها؟

***

أ. د. عبد الراضي رضوان

عميد دار العلوم السابق - رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة

1. افلاطون مشاعية الجنس والتملك:

منذ عصور الحضارة اليونانية القديمة نعثر على عبارة افلاطون، في دعوته الى مشاعية النساء والثروة، حتى لا يكون القتال من اجلهما وتنشب الحروب بسببهما.

من الواضح أن النساء والثروة كانت مسألة تحظى بأهتمام الفلاسفة اليونانيين الزاهدين بهما، في محاولتهم وضع قوانين وتعليمات دستورية ملزمة تنظّم حياة المجتمع وتنأى به عن المنازعات والاقتتال خاصة بين كل من أثينا وأسبارطة، كما حدث في حرب طروادة التي خلّدها هوميروس في الالياذة، وتسببت بها امرأة (هيلينا) زوجة ملك اسبارطة التي أحبت (باريس) ابن ملك طروادة وهربت معه وكان ماوقع من حرب وسفك للدماء بسببها.

وفي تقصّينا معرفة صحة وصواب دعوة افلاطون لمشاعية الجنس والثروة في عصره، نجد انه كان من مميزات حضارة اليونان تقبّل مثل هذه الدعوة التي نعتبرها نحن الآن من مخّلفات وأرث المجتمعات البدائية المشاعية الجنسية المتخلفة. في أن يكون جميع النساء وبلا استثناء زوجات مشتركات للرجال بحيث لا يكون لكل واحد منهم زوجة واحدة خاصة به، ولا لكل أمرأة زوجا واحدا خاصا بها، ويكون الاطفال مشتركين بالنسب لا يعرف الولد اباه ولا يعرف الاب أبنه لذا كان الى مرحلة متقدمة من الحضارة الانسانية تؤصل الانساب بين القبائل البربرية البدائية على أمومة المرأة وانتساب المولود للأم التي كانت رمز الخصب وربيع الحياة لا للأب غير المعروف.

وهذا ماجرى لألمانيا التي خسرت الحرب العالية الثانية واعقبه اغتصاب جيوش الحلفاء ومنهم الروس الالاف من النساء الاسرى اللواتي حملن وانجبن أطفال تم تسجيلهم باسم الام فقط المجهول الاب.

وبالعودة الى عصور البدائية الحجرية، وبالتحديد الى عصر الصيد والالتقاط، الذي يسبق عصر بداية صنع الانسان للحضارة في اكتشافه الزراعة والري وتخزين الحبوب وتدجين الحيوانات 7500 قبل الميلاد.نجد ان تملك النساء وتملّك الثروة المشاعيين لم يكونا بنفس الاهمية عند التجمعات البشرية البدائية المشاعية. ولم يكونا متكافئين كسبب مباشر باحتمال نشوب النزاعات بين الرجال والاقتتال على الاستئثار بهما.

وانهما بالنتيجة لم تكونا عاملين في هدرهما اخلاقيات تلك التجمّعات المتنقّلة ونشوب الحروب والنزاعات بين تلك التجمعات البشرية، هذا في حال جاز افتراضنا أن انسان تلك المرحلة (الرجل) كان متواضعا متوافقا مع غيره من الرجال على عرف اخلاقي في أبسط معانيه واشكاله أن جاز التعبير، عرف مشاعي ينّظّم امتلاك الرجال للنساء بلا عدد محدد، علما أن الانسان المشاعي الوحشي البدائي لم يكن يعرف التواصل باللغة الشفاهية الكلام، ولا يعرف الكتابة التي هي من أختراع السومريون في بلاد ما يسمى ميزابوتوميا (ما بين النهرين 350 ق. م)، .

بعد آلآف السنين من مغادرة عصر الصيد المشاعي والزراعي القبائلي، كما أن المرجّح ايضا عدم معرفة الانسان البدائي لأدنى قيمة اخلاقية ابتدعها الانسان في مراحل تاريخية حضارية لا قبل اختراع الانسان التدوين ولا بعده لا حقا نشأت مع ظهور الاديان الوثنية وبعدها التوحيدية، ولم يكن هناك ماهو اخلاقي في الحياة البدائية الأولى على الأقل في ما نعرفه بالمجمل العام.

أذن المرأة والتملّك المشاعي لم يكونا عاملي استثارة للمنازعات والاقتتال بين الرجال. وأن الدراسات الانثروبولوجية(علم دراسة الانسان) التي تعتمد التنقيبات الاركيولوجية الاثرية في اطلاق فرضياتها التخمينية، تذهب أن الانسان البدائي لم يكن يعرف معنى اقتران الرجل بأمراة واحدة معينة لا غيرها، ولا المرأة تعرف معنى اقترانها برجل واحد دون غيره ايضا. لا في صيغة تملّك الرجل ولا في صيغة اتفاق تعاقدي بين الرجال والنساء عموما. وأكثر ترجيحا أن المرأة والرجل كلاهما لم يكونا مدركين أن الجماع الجنسي هو وسيلة التكاثر وحفظ النوع الانساني من الانقراض الا في مراحل تاريخية متقدمة من ممارسة الجنس والانجاب بشكل عفوي ناتج عن ممارسة الجنس لاشباع اللذة والمتعة.

اما الثروة فانها تشّكل مرتبة ثانوية بالأهمية على اعتبار أنّها ملكية متواضعة جدا حتى في مقاييس تلك الازمنة، وليست ملكية استغلالية مجحفة تستحق التنازع عليها ودخول التصفية الجسدية بين المتنازعين.

فهي ملكية بسيطة لا تتعدى الطعام وادوات الصيد والكهف والجلود وما تجود به الطبيعة . فهي لا تشكل عامل احتراب وتصفية بين الرجال، والثروة الطبيعية لبساطتها،  وصعوبة التملك الانفرادي الاناني لها لتكون عامل فتنة قتالية الا في مراحل متقدمة جدا على مجاوزة العصور الحجرية الكهفية البدائية، حين اصبح التملّك قيمة استغلالية في استملاك الاراضي الزراعية الشاسعة وامتلاك قطعان الحيوانات الداجنة ووسائل الانتاج الاخرى والاستئثار بها دون الاخرين.

ويمكن القول أن المشاعية الجنسية والتملك السلعي كانتا سببا مهما في بقاء الجنس البشري الذي كان يتهدده الانقراض من قبل الوحوش الكاسرة المفترسة من جهة، وقسوة الطبيعة التي لا ترحم من جهة اخرى في ندرة الغذاء، كانت المرأة ملكا مشاعا لكل الرجال في الحفاظ على الانجاب والتكاثر وتوّحيد الرجال ضد الأخطارالمحدقة بالانسان كنوع. لقد كان الانسان البدائي يحرص على عدم فقدان أشخاص من نوعه في ظروف معيشية صعبة كان فيها الانسان البدائي يقتات الجيف والحيوانات النافقة في ندرة وقلة الحيوانات التي كان يصطادها بصعوبة، كما نشأت في مرحلة لاحقة قبائل أكلة لحوم البشر. فرجل تلك العصور لم يكن يعرف أهمية أن يمتلك هو دون غيره لافي الجنس ولا في التملّك الطبيعي للاشياء، وفي مراحل لاحقة كان يجري تبادل النساء بين القبائل والتجمعات كسلعة تداولية اما لفض النزاعات او لتدعيم اواصر التحالفات ضد اخطار الاخرين..ثم من العسير جدا اعتبار الانسان البدائي مجردا من عاطفة الحب والاناسة الاجتماعية مع غيره من جنسه البشر، فهو يأنس بتلك العلاقة الاجتماعية مع غيره من نوعه ويتأنسن بالطبيعة بهذه الرابطة ككائن نوعي اجتماعي بالفطرة. وفي غير ذلك محال ان لا يكون انقراض الانسان حاله حال انقراض حيوان الماموث والديناصورات قد حصل.

اذا تقدمنا مراحل طويلة من عمر وعصور البشرية البدائية، وبعد معرفة الانسان للعائلة والقبيلة، ووضعنا رحالنا في عصور ماقبل التاريخ عند السومريين والاكديين والبابليين والاشوريين.نجد ان مشاعية الجنس قد اخذت صيغة البغي والدعارة المنظّمة لدى السومريين ابتداءا، فقد كانت المرأة الراهبة في المعبد والمرأة في المجتمع الوثني كلتاهما يمارسان الدعارة كتعبير اخلاقي وطقسي مقدّس من قبل الكهنة ورعايتهم له، وتعتبر تلك الرعاية الوثنية المقدسة للدعارة بمثابة ميثاق ديني اخلاقي متواضع عليه ووجوب ممارسته مجتمعيا.وقدسيته تنسحب ايضا على دلالة الخصب الطبيعي في تجدد الحياة والنماء المستمر المبارك حسب معتقداتهم.وأن أول بيت للدعارة في التاريخ البشري كان من ابتداع السومريين واطلقوا عليه اسم (ميثقديم). methikdeam.

أذن كان الكهنة الوثنيون ينّظّمون تلك الاباحية الجنسية بالقداسة التي أبتدعوها ولم تكن في معايير عصرهم تشي بأي نوع من التسفيل الاخلاقي والعمل المشين اجتماعيا، خاصة في تزكيتهم تلك الدعارة كهنوتيا وثنيا، اذ وصل الحد الى الألهة عشتار البغي أنها كانت تمارس الجنس مع عبد تختاره كل مرة لتروي ظمأها الجنسي بعد اذن الملك زوجها في قضاء حاجتها الجنسية مع العبد الذي يصارلاحقا الى حرقه حيّا في طقس وثني، وانتقام سادي غامض.كما أن راهبات المعبد كنّ يمارسن البغاء مع الزوار الاجانب ايصا لقاء مبالغ من المال.

2. المشاعية في المفهوم العصري:

في المجتمعات الرأسمالية والعالم قاطبة تقلصّت الى أبعد الحدود ليس مشاعية الثروة والمال فحسب امام مشاعية النساء، بل واصبح اليوم ندرة الغذاء بسبب الجفاف والتصحر على الارض وتغير المناخ انتشار المجاعات والاوبئة التي لم تعد تناسب الزيادات الانجابية بالسكان. وقد اسيء كثيرا تفسير تنبؤ توماس مالثوس مالثوس لهذه الكارثة التي يشهدها عالمنا اليوم في مقاله الذي نشره عن الواقع السكاني الجزائري عام 1789 عام اندلاع الثورة الفرنسية..عندما اعلن ان التناسب العكسي يحكم علاقة ازدياد السكان مع قلة موارد الطبيعة في توفير الغذاء.

وباتت اليوم التطلعات الاشتراكية الاقتصادية من (يوتوبيات) عصور الانقراض التي عفا عليها الزمن وتجاوزها التاريخ، ليحّل محلها في الاولوية الاباحية الجنسية وانحلال الاسرة وانحدار الاخلاقيات الجنسية الى مراتب حيوانية بهيمية. علما أنه لا توجد مشاعية جنسية حيوانية الا في فترة محدودة هي موسم التكاثر عند مختلف انواع الحيوانات، وممارسة الحيوان للجنس عنده ليس بافضل منها لذّته بالأكل فقط،  بعكس الانسان الذي يجد متعة الجنس أفضل من متعته بالاكل.

لذا تعتبر مشاعية الجنس عند الحيوان حتى وأن لم يدرك ذلك أعلى مرتبة في نظامها الطبيعي الغريزي بالحفاظ على نوعه من أباحية الجنس الآدمية المبتدعة في المجتمعات الغربية الرأسمالية اليوم، بأسم ممارسة حرية الجنس كحق مكتسب من حقوق الانسان في الاباحية وفي ازالة حواجز التحريم الجنسي نهائيا في زنا المحارم والديوثية واللواط وغيرها من انواع الجنس الشاذ.

السؤال الذي تتناسل عنه عشرات الاجوبة الجاهزة، هو لماذا انحّلّت الاسرة في المجتمعات الغربية ولم يحصل ذلك مع الشعوب الشرقية؟ هل بسبب حصانة الدين وتحريماته وحده ام بسبب مؤثرات اخرى؟

هل تتحمل المرأة مسؤولية أنحلال أخلاقيات الجنس في الغرب، وما دور الرجل بذلك؟ هل لعبت المرأة دورا تخريبيا سياسيا واقتصاديا، شأنها شأن الثروة المتراكمة في جيوب حفنة من الاغنياء المليارديرية والمليونيرية؟ وفي مؤسسات احتكارية عملاقة. هل المرأة والثروة متلازمتان كسبب انحلال الاسرة اجتماعيا عليها، وصولا الى تدمير اخلاقيات المجتمع المتواضع عليها أسريا؟

ولماذا نقصر اخلاقيات الدين في قيمومته الوصاية على اخلاقيات المجتمع في تماسكه الاسري؟ وكيف يمكننا الاحتكام في تقييمنا اخلاقيات المجتمع مع الاقرار بادانة ان النساء والثروة هما سببا التدمير الاسري والاخلاقي الاجتماعي الى يومنا هذا بتفاوت نسبي بين شعوب الارض؟.

واذا سحبنا النقد الاخلاقي الينا، ألم يكن في مجتمعاتنا قبل وبعد الاسلام خروقات جنسية فاضحة ودامغة تبدأ بممارسة البغاء العلني، تلاها الامير والسلطان والقائد الذي يملك كذا عدد من المحظيات والجواري والغلمان وما ملكت ايمانه ممن لا ينالون حظوة الجماع والنكاح معه مرة واحدة كل عام؟ ما عدا الزوجات الاربعة اللواتي يجري عليهن تدويرحكم الطلاق للهروب من فضيحة المخالفة الشرعية الاسلامية، في سحب الدين غطاءا للمستور في ظهور الالتزام بتعاليم الشرع والدين أن الزوجات الاربع كاف لا اكثر.أليس في هذا مشاعية جنسية أنثوية في مضاجعة كذا عدد من النساء لرجل واحد يتشدق بالذكورية المالكة والمتسلطة على الانثى وهوعبد شهوته التي يعجز من اشباعها بايولوجيا؟

3. الاباحية الجنسية بين النظامين الراسمالي والاشتراكي:

هل كان من المفروض ان النظام الاشتراكي الشيوعي مقدّرا له بعد أن ينجز بنجاح توزيع الثروة توزيعا اشتراكيا منصفا عادلا، أن يرافقه انحدار مغاير في الوصول الى نوع من الاباحية الجنسية تقوّض الاسرة واخلاقيات المجتمع كما حصل في مجتمعات النظام الرأسمالي حتى من غير توزيع عادل اشتراكي للثروة.؟ بل فرضية انعدام التكافؤ التقريبي بين امتلاك الثروة الراسمالية وطبقة الفقراء وشرائح المعدمين هي سبب انحلال الاسرة في الغرب خاصة بعد تحييد عامل الدين.

بما يتعلق بهذا التساؤل قبل الدخول في تفاصيل، أشير الى معلومة، انه على خلاف المتداول عن مشاعية الجنس في النظام الاشتراكي الشيوعي، أن ماركس أنكر المشاعية الجنسية وأستهجنها من منطلق تقويضها البناء الاسري وتماسك العائلة والمجتمع، وبذلك وضع حدا فاصلا بين مشاعية الثروة التي يسعى النظام الشيوعي في مراحل متطورة من تطبيق النظام الشيوعي ضرورة الوصول لها وبلوغها كحتمية تاريخية مهمة، وبين مشاعية الجنس التي تستهدف نظام الاسرة بمقتل يتوجب الاحتراز منه وعدم الانغماس به.وليس مؤكدا عندي ايضا ان كان فريدريك انجلز قد ذهب في مؤلفه الشهير(اصل العائلة) نفس المنحى ام لا؟ حول مشاعية الثروة ومشاعية الجنس.

ولتوضيح هذه المسألة الهامة على قدر المامي المتواضع بادبيات الفكر الماركسي اجازف بتحليلي واقول ان النظام الشيوعي بحسب اهتدائه بالنظرية الماركسية ومنهج المادية التاريخية، أعتبر الشيوعية آخر مراحل تطورانحلال الامبريالية الراسمالية يعقب أفولها وانهيارها الحتمي، وبعدها سيمضي النظام الشيوعي الى مراحل متطورة من تعزيز الاشتراكية وتطويرها قبل وصولها الى حتمية تطورية تاريخية معقّدة جدا تشي بانحلال الدولة، ليتولى الشعب أدارة شؤونه بنفسه وربما بمساعدة مؤسسات بديلة لا تمثل الدولة بمفهومها الحديث في تنظيم الحياة.

لكن سوف لن يبقى هيمنة لسلطة ومؤسسات دولة فاقدة لمبرر وجودها اصلا في تمثيلها مصالح طبقية هي طبقة البروليتاريا، وقتها سينعدم اي تملّك فردي لتحل محله مشاعية مالية وامتلاك شعبي مباشر للثروة. لكن الاهم من كل ذلك ان هذه المراحل النظرية الافتراضية لن تشهدها أجيال عمرية محصورة بمئة سنة من الحياة على أبعد التقديرات المستقبلية في توّقع أطالة معدل عمر الانسان ليشهد مراحل من الحياة تحتاج كذا الف عام..في تطور النظام الشيوعي ووصوله مراتب عليا في التطور الذي سيشهد انحلال الدولة. وهو ما لايتاح لاحد اليوم الجزم بان هذه الافتراضات النظرية التاريخية ستحصل ام لا؟ لكن مع تفاقم الانحدار نحو شحّة الغذاء سيصبح من الضرورة الملزمة اللجوء الى انواع من الاشتراكية الديمقراطية المحسنّة.

التفكيك والانحلال الاسري من قبل الغرب الرأسمالي ليس في مشاعية الجنس وحده، ولكن في مشاعية تردي الاوضاع المعاشية التي شهدها النظام الاشتراكي قبل انهيار مركزيته في تفكك الاتحاد السوفييتي القديم بداية التسعينيات.الذي كان بالضرورة يترتب عليه انهيار المنظومة الاخلاقية المجتمعية الاسرية وهو مالم يحصل اقتصاديا تمهيدا له..

في المقابل بقي النظام الرأسمالي في متاجرته بالاباحية الجنسية كواحدة من حقوق الانسان التي يغيظ بها النظم الاشتراكية، وتكدّس المال الاحتكاري الاستغلالي بطبقة ثرية متخمة ومجموع يعيش ضياعه بالحياة المستقرة في الاباحية الجنسية وانحلال النظام الاسري في تفشي الاستهلاك الجنسي غير المقّيد بأية موانع او محرمات تضفي عليه نوع من الانسانوية الاخلاقية التي اعتادتها العصور البشرية وفتك تعاطي المخدرات بانواعها.

وأجد ان هناك استدراك لا بد من التلميح له حول تجربة النظام الاشتراكي مع اخلاقيات الجنس والتماسك الاسري، بان المجتمعات الصينية والنظام الذي يعيل ويقود اكثر من مليار ونصف المليار في حياة انسانية يشبع فيها الفرد والمجتمع جميع حاجاته الاساسية في حياة كريمة في التامين الغذائي والصحي والتعليم ومستلزمات الحياة الاخرى، من ضمنها توفير الكرامة الاخلاقية الجنسية في منحيين، الاول منحى عدم التفريط بالبناء الاسري ماديا وجنسيا، والمنحى الثاني عدم هدر اخلاقيات المجتمع بنوع من الاسفاف الجنسي المبتذل التي تتمشدق به الراسمالية المتغوّلة اقتصاديا والمنخورة اخلاقيا وجنسيا في ما لابراء منه الا في انحلال الراسمالية ومغادرتها مسرح التاريخ المعاصر.لكن نظام مثل الصين يبيح الدعارة الجنسية ويشرف على ضبطها الطبي معتبرا الدعارة استثمارا ماليا كبقية مؤسسات الدولة الاستثمارية الاخرى.

4. العاملان الاقتصادي والديني في البناء الاسري:

أصبح من المتعذر جواز ربط الاباحية الجنسية التي يشهدها العالم على مستوى الفرد ومستوى الجماعة من غير ما ربط ذلك بفلسفة النظام السياسي الكلّية.وأن الربط الاباحي الجنسي بحرية الفرد الشخصية وحقوق الانسان انما هو لعبة استغفالية يعمد لها النظام الرأسمالي التستّر على نهجه الاستغلالي اللاانساني المقيت المدان.

النظامان الاشتراكي والرأسمالي يفترقان في تفسيرهما المختلف حول انحلال الاسرة وتدهور اخلاقيات المجتمع في شيوع الاباحية الجنسية، وأهمية ربطهما بفلسفة النظامين كلا على حدة، فالاباحية التي يصورها الغرب واحدة من الحريات الشخصية وحقوق الانسان لا يلغي الطابع الاستلابي المقيت للمجتمع الغربي اقتصاديا وسياسيا واخلاقيا.وهذا لا يلغي تأشير حقيقة البناء الاسري في المجتمعات الاشتراكية والتمسك بالاخلاقيات العامة، وكانه قد أعدم أمامه فرص الحياة في حقوق الانسان وممارسة الحرية الشخصية المتداخلة مع الحرية العامة المكفولة في النظام الاشتراكي.

من بين عشرات الاجوبة الجاهزة في معالجة اشكالية تفكك الاسرة وتفشّي الاباحية الجنسية عالميا يبرز العامل الديني المنقذ من الضلال على حد تعبير الغزالي، على انه حامي الاخلاق في الماضي وسندها في حاضرها وأمانها في مستقبلها وفي هذا تعميم غير منصف، بدليل انه يلغي اليوم التعددية الدينية وفلسفتها الدينية المميزة المتفردة، ويلغي ايضا رابطة ووصاية ايديولوجيا النظم السياسية على الدين وتبعيته لها، فنظرة المسيحية للاباحية الجنسية هي غيرها نظرة الاسلام او البوذية وهكذا في اديان لاحصر لها تقدر باكثر من اربعة الاف دين ومذهب وطائفة. كما والاهم التغيّر التاريخي الذي ساد عبر العصور في وصوله لنا كما نعهده ونعيشه اليوم.

لا اعرف بالضبط اين قرأت معلومة تفيد ان من مجموع سبعة مليارات نسمة تستوطن الارض عام 2017 من بينهم ست مليارات انسان يؤمنون بالدين ووجود الخالق الله، ولكنهم لايؤمنون باخلاقيات الدين تقود الحياة، وأن المليار الباقي واعتقد انا اكثرمن ملياري انسان يتوزعون بين ملحد وغير مؤمن لا يؤمنون أيضا باخلاقيات الدين تقود الحياة، بخاصة في مجال أباحة الجنس وتفكك الاسرة.

وهنا يبرز أمامنا النفاق البشري أزاء مهمة الدين في اصلاح أخلاقيات المجتمع والحفاظ على مستقبلها.عندما نجد الخرق الجنسي- الديني يأخذ صفة التطرف في استهدافه معاقل المقدسات الدينية في تحدّ سافر لسلطة ايديولوجيا الدين.ومثاله التطرف الجنسي الشاذ الذي لا يتوقف عند الزنا بالمحارم والديوثية، يعطينا مؤشرا واضحا انه لا العامل الاقتصادي وراء المشكلة ولا رغبة الدين معالجتها، فهي حرية جنسية وحق من حقوق الانسان الذي يلجم الجميع ومؤمن قانونا كما تذهب له المجتمعات الغربية.

تسليع الجنس؟:

تسليع جسد المرأة وارتهانه بالمتعة واللذة لا يحيلنا الى سبب معيشي أو اقتصادي، يتخفّى وراءه الدافع الغريزي غير المعلن في الرغبة الشديدة تكسير المتواضعات الاخلاقية التي كانت سائدة بصرف النظر عن كونها مستمدة من خلفية دينية او مستمدة من أعراف مجتمعية سائدة، هذا ما تشهده المجتمعات الغربية.

واذا أجرينا مقارنة بسيطة بين دخل الاسرة في مجتمعاتنا الشرقية وتحديدا العربية الاسلامية، نجدها اوطأ كثيرا عنها في معظم بلدان العالم –باستثناء دول الخليج العربية – ونجد المفارقة في تسليع الجنس غربيا لا يقوم على دعامة دخل الفرد او الاسرة والذي كثيرا مايأخذ مقوماته من اشباع حاجات الانسان الضرورية المؤمنة للجميع تقريبا لكن بمستويات متفاوتة، مع ذلك نجد الممارسات الاختراقية الجنسية المتطرفة بشذوذها واستباحة كل الاخلاقيات الطبيعية ذات المصدر الديني او المجتمعي على السواء وعبور جميع حواجز المنع والمحرمات الجنسية هي سيدة الجنس.وهنا ينتفي ان يكون لمستوى دخل الاسرة اي دور في الموضوع في تفشّي الاباحية الجنسية في الغرب في مقابل حقيقة رغبة وغريزة تحطيم المرتكزات الاخلاقية السائدة.اما في مجتمعاتنا الشرقية العربية الاسلامية يكون انحدار كسر المحظورات الاخلاقية في ممارسة الدعارة والبغاء مبعثه في الغالب العوز المعيشي والحاجة لتوفير مستلزمات الحياة الصعبة، لكنه يبقى محصورا في نطاق ضيّق اجتماعيا بعيدا عن التأثير المباشر العام الذي يجعل من السقوط في الانحراف الجنسي بديلا لأخلاق المجتمع المتعارف على حمايتها بشكلها الطبيعي العام .وهي بهذا تكون مختلفة جدا عن الاباحية الجنسية المتداولة اجتماعيا بعيداعن مؤثرات واسباب المعيشة في الغرب، وتكتسب مشروعيتها الزائفة في التمرير على انها حق لحرية الجنس المكفولة كحق من حقوق الانسان فيما يجسده الواقع الغربي ان الاباحية الجنسية هي الاخلاق الجنسية ان لم تكن المرتكز الوحيد لها على صعيد الحياة الترقيهية.

على عكس ما نجده في مجتمعاتنا الشرقية ان الجنس مرتكز المحافظة على الاخلاقيات المجتمعية الطبيعية في بقاء الاسرة، وان العوز والحاجة رغم اهميتها في الحياة الصعبة، نجد ان الهاجس الذي ينتظم السلوك العام هو الحفاظ على تماسك الاسرة من الانحلال الذي هو عماد بقاء المجتمع كيان موحد غير ممزّق تسوده اخلاقيات الطبيعة السوية في الزواج والانجاب الاسري.

***

علي محمد اليوسف

حينما جاءت نسبية اينشتاين أسقطت فكرة الزمان والمكان المطلقين، واستبدلتهما بنسيج من الزمكان. لكن هل الزمكان حقا له وجود مادي؟

الأفكار الأساسية:

1- لكي يكون الشيء واقعيا وفيزيقيا يحتاج ان يكون ماديا وقابل للقياس مباشرة، وليس فقط وسيلة للقياس لأجل عمل تنبؤات صحيحة.

2- وفق هذا المعنى، الذرات والجسيمات التي يمكن ملاحظتها هي بالتأكيد واقعية، لكن الجسيمات الافتراضية التي لا يمكن ملاحظتها هي حتما غير واقعية.

3- وفيما يتعلق بالزمكان هل هو واقعي مثل الذرات ام انه فقط اداة للقياس؟ هذا هو الموضوع الملفت والذي يستحق الإستطلاع .

عندما يفكر أغلبنا حول الكون، نفكر حول الأشياء المادية التي تمتد هناك عبر المسافات الكونية الهائلة. المادة تنهار تحت جاذبيتها الخاصة لتشكل هياكلا كونية مثل المجرات، بينما سُحب الغاز تتقلص لتشكل النجوم والكواكب. النجوم تطلق الضوء عبر احتراق وقودها من خلال الانصهار النووي ليسافر ذلك الضوء على طول الكون مضيئا كل شيء يأتي في تماس معه. لكن هناك ما هو اكثر للكون من الاشياء التي في داخله. هناك نسيج الزمكان الذي له قواعده الخاصة التي يعمل بواسطتها وهي: النسبية العامة.

ان نسيج الزمكان ينحني بفعل وجود المادة والطاقة، والزمكان المنحني ذاته يخبرنا كيف تتحرك المادة والطاقة فيه. ولكن بالضبط ما هي الطبيعة المادية للزمكان؟ هل هو واقعي كالذرات ام انه مجرد اداة نستعملها لإعطاء الأجوبة لحركة وسلوك المادة ضمن الكون؟ انه سؤال مثير وصعب الفهم.

قبل ان يأتي آينشتاين، كان تصورنا للكون مختلف جدا عن التصور الذي لدينا اليوم. لنعود الآن للخلف الى الكون قبل ان يكون لدينا مفهوم عن الزمكان ومن ثم نتحرك للامام الى حيث نحن اليوم.

على المستوى الأساسي، نحن لطالما افترضنا انك لو تأخذ كل شيء في الكون وتقطعه الى أجزاء أصغر فأصغر، انت بالنهاية ستصل الى شيء ما غير قابل للتجزئة. هذا بالضبط ما تعنيه كلمة "ذرة": من الكلمة اليونانية atomoc، بمعنى غير قابلة للقطع. أول سجل لهذه الفكرة يعود الى ما يقرب من 2400 سنة الى ديمقريطس، ولكن من الجائز انها تعود الى أبعد من ذلك التاريخ. هذه الوجودات "غير القابلة للقطع" توجد بالفعل، وكل واحدة منها تُعرف كـ جسيمات كمومية. وعلى الرغم من حقيقة اننا أطلقنا اسم "ذرة" على عناصر القائمة الدورية، فان ما لا يتجزأ حقا هو الجسيمات دون الذرة مثل الكورك quarks (وهو جسيم اساسي في المادة)، والغلونس gluons (وهو جسيم افتراضي بلا كتلة يشد الكورك الى بعضه)، والألكترونات (بالاضافة للجسيمات التي لا توجد في الذرات ابدا).

هذه الوحدات المادية للتفاعل (quanta) ترتبط مجتمعة لتبني كل الهياكل المعقدة التي نعرفها في الكون، من البروتونات الى الذرات وصولا الى جزيئات الكائن البشري. ومع ذلك، لا يهم أي نوع نتعامل معه من السمات المادية المطلوبة للتفاعل سواء كان ماديا او ضد المادة، ضخم او بلا كتلة، أساسي او هياكل مركبة، على مقاييس كونية او دون الذرة، هذه الوحدات من الخصائص المادية توجد فقط ضمن نفس الكون الذي نحن فيه.

هذا يُعتبر هاما لأننا اذا أردنا من الأشياء الموجودة في عالمنا ان تقوم بأشياء مع بعضها البعض – تتفاعل، تترابط مع بعضها، تكوّن هياكل، تحوّل طاقة وغيرها – يجب ان تكون هناك طريقة لمختلف الأشياء الموجودة ضمن الكون تؤثر فيها على بعضها البعض. انه يشبه ان تكون لديك مسرحية فيها جميع الشخصيات مجسدة، جميع الممثلين مستعدون لتمثيل دور الشخصيات، جميع الأزياء الخاصة بالتمثيل جاهزة للإرتداء، وجميع الأسطر تُكتب وتُتذكر. الشيء الوحيد المفقود والمهم جدا للتمثيل كي يحدث هو المنصة (stage) . ما هي المنصة في الفيزياء؟

قبل اينشتاين كانت المنصة وُضعت من جانب نيوتن. جميع "الممثلين" في الكون يمكن وصفهم بمجموع من الأحداثيات: موقع بثلاثة أبعاد بالاضافة الى لحظة من الزمن. انت تستطيع رؤية انها تشبه شبكة ديكارتية : بناء من ثلاثة ابعاد بمحاور X,Y,Z، حيث كل كمية يمكن ايضا ان تمتلك زخما، يصف حركتها خلال الفضاء كدالة للزمن. الزمن ذاته افتُرض ان يكون خطيا، دائما يمر بنفس السرعة. في صورة نيوتن، كل من المكان والزمان كانا مطلقين. لكن اكتشاف النشاط الاشعاعي في أواخر القرن التاسع عشر بدأ بإثارة الشك بصورة نيوتن. حقيقة ان الذرات يمكنها اطلاق جسيمات دون الذرة تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء علّمنا شيئا مثيرا وهو، عندما يتحرك جسيم قريب من سرعة الضوء، فهو يعمل في زمان ومكان مختلفان جدا عن شيء كان اما بطيء الحركة او في سكون.

الجسيمات غير المستقرة التي تتآكل بسرعة عند السكون تعيش أطول كلما تحركت أقرب الى سرعة الضوء. هذه الجسيمات نفسها قطعت مسافات اكبر مما تشير اليه سرعتها وأعمارها قبل ان تتحلل. واذا حاولت حساب الطاقة او زخم الجسيم في الحركة، فان مختلف المراقبين (بمعنى الناس الذين يشاهدون الجسيم ويتحركون في سرعات مختلفة بالنسبة له) سوف يحسبون قيما كانت غير منسجمة مع بعضها.

هناك شيء ما يجب ان يكون معيبا في تصور نيوتن للزمان والمكان. في السرعة القريبة من سرعة الضوء، يتسع الزمن، ويكون طول الشيء المتحرك أقصر من طوله المناسب، والطاقة والزخم هما في الحقيقة معتمدان على الموقف (frame-dependent). باختصار، الطريقة التي انت تتعامل بها مع الكون تعتمد على حركتك خلاله. اينشتاين كان مسؤولا عن إختراق هام في مفهوم النسبية، هو حدد أي الكميات كانت غير متغيرة ولا تتغير مع حركة المراقب، وأي الكميات معتمدة على الموقف. سرعة الضوء مثلا، هي ذاتها لجميع المراقبين، مثلما هي الكتلة الساكنة rest mass لأي كمية من المادة(1). لكن المسافة المكانية التي انت تلاحظها بين نقطتين تعتمد بقوة على حركتك على طول الاتجاه الرابط لتلك النقاط. ونفس الشيء، السرعة التي تدور بها ساعتك عندما تسافر من نقطة الى اخرى ايضا تعتمد على حركتك. المكان والزمان لم يكونا مطلقين، كما كان يظن نيوتن وانما كانا يُلاحظان بطريقة مختلفة من جانب مختلف المراقبين: هما كانا نسبيين وهو الاسم الذي تأتي منه النسبية. كذلك، هناك علاقات خاصة بين الكيفية التي يلاحظ بها أي مراقب للمكان والكيفية التي يلاحظ بها الزمن: شيئان وُضعا مجتمعين من جانب استاذ اينشتاين السابق البروفيسور هيرمان مينكووسكي Hermann Minkowski بعد سنتين من طرح اينشتاين لنظرية النسبية الخاصة، حيث وضع مينكوويسكي بناءً رياضيا موحدا يدمج الزمان والمكان مجتمعين: الزمكان. وكما أشار مينكوويسكي ذاته:

"من الآن فصاعدا، المكان بذاته والزمن بذاته محكوم عليهما بالتلاشي الى مجرد ظلال، فقط نوع من الاتحاد بين الاثنين سيحفظ الواقع المستقل".

ولكن في كوننا الواقعي، نحن بالفعل لدينا جاذبية. الجاذبية ليست قوة تعمل فورا عبر أقصى الفضاء، وانما هي فقط تنتشر بنفس السرعة التي تتحرك بها جميع الكميات الخالية من الكتلة: سرعة الضوء. (نعم سرعة الجاذبية مساوية لسرعة الضوء). كل القواعد التي صيغت في النسبية الخاصة لا تزال تنطبق على الكون، ولكن لكي نعترف بالجاذبية فان شيئا اضافيا كان مطلوبا: فكرة ان الزمكان ذاته له انحناء باطني يعتمد على وجود المادة والطاقة ضمنه. انه ببساطة : عندما تضع مجموعة من الممثلين على المنصة، تلك المنصة تحتاج ان تتحمل وزن الممثلين أنفسهم. اذا كان الممثلون بحجم هائل والمنصة ليست جامدة تماما، فان المنصة ذاتها ستتشوه نتيجة لوجود الممثلين. نفس الظاهرة عند حضور الزمكان: وجود المادة والطاقة يحنيه، وذلك الإنحناء يؤثر عل كل من المسافات (الفضاء) والسرعة التي تدور بها الساعة (الزمن). كذلك، انه يؤثر على الاثنين بطريقة معقدة، حيث اذا كنت تحسب التأثير الذي تمتلكه المادة والطاقة على الزمكان، فان التأثير "المكاني" و"الزماني" هما مترابطان. بدلا من خطوط شبكية بثلاثة أبعاد التي رأيناها في النسبية الخاصة، تلك الخطوط الشبكية هي الآن منحنية في النسبية العامة.

انت تستطيع، ان كنت ترغب، تصوّر الزمكان كوسيلة قياس خالصة وليس أعمق من ذلك ابدا. رياضيا، كل زمكان يمكن وصفه بقياس رياضي metric tensor، وهو صياغة رياضية تسمح لك لحساب كيف يمكن لأي مجال، خط، قوس، مسافة ان يوجد بطريقة محددة جيدا. الفضاء يمكن ان يكون مستويا او منحنيا بطريقة عشوائية، الفضاء يمكن ان يكون متناهيا او لامتناهيا، منفتحا او مغلقا، الفضاء يمكن ان يحتوي على أي عدد من الأبعاد. في النسبية العامة، القياس الرياضي هو أربعة أبعاد (ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد واحد زماني)، وان الشيء الذي يقرر إنحناء الزمكان هو المادة والطاقة والضغوط الموجودة فيهما. محتويات كوننا تقرر كيفية إنحناء الزمكان. انت تستطيع اعتبار الزمكان منحنيا وتستعمله للتنبؤ بالكيفية التي تتحرك بها وتتطور كل وحدة من المادة والطاقة في الكون. قواعد النسبية العامة تمكّننا من التنبؤ بالكيفية التي تتحرك بها المادة، الضوء، المضاد للمادة، النيوترونات، وحتى موجات الجاذبية في الكون، وان تلك التنبؤات تنسجم بشكل رائع مع ما نلاحظ ونقيس.

مع ذلك، ما لا نقيسه، هو الزمكان ذاته. نحن نستطيع قياس مسافات وقياس الفواصل الزمنية لكن ذلك هو فقط فهم غير مباشر للزمكان الأساسي. نحن نستطيع قياس أي شيء يتفاعل معنا – أجسامنا، أدواتنا، كاشفاتنا – لكن التفاعل يحدث فقط عندما تشغل كميتان اثنان نفس النقطة في الزمكان: عندما يلتقيان في "حدث".

نحن نستطيع قياس أي من تأثيرات إنحناء الزمكان على المادة والطاقة في الكون بما في ذلك:

1- إنزياح الإشعاع الأحمر نتيجة لتوسّع الكون.

2- تأثير مرونة الفضاء frame dragging على جسم دوار (2).

3- البطء الإضافي لحركة المدارات نتيجة لتأثيرات الجاذبية التي تتعدى ما تنبأ به نيوتن.

4- كيفية حصول الضوء على الطاقة عندما يسقط عميقا في مجال الجاذبية ويفقد الطاقة عندما يخرج منها.

لكن حقيقة اننا نستطيع فقط قياس تأثيرات الزمكان على المادة والطاقة في الكون، وليس الزمكان ذاته، يشير الى ان الزمكان يتصرف بشكل لايمكن تمييزه بواسطة أداة قياس خالصة. لكن ذلك لا يعني ان الزمكان ذاته ليس كينونة فيزيائية واقعية. لو كان لديك ممثلون يمثلون مسرحية، انت تستطيع ان تسمي الموقع الذي تحدث به المسرحية "منصة"، حتى عندما يكون الموقع مجال بسيط، سطح مستوي، ارض خالية وغيرها. في العالم المادي، على الأقل كما نفهمه، انت لا تستطيع امتلاك وحدات مادية او تفاعلات بينها بدون زمكان توجد فيه. حيثما يوجد الزمكان، كذلك توجد قوانين الفيزياء وكذلك مجالات الكوانتم الاساسية التي تؤطر كل الطبيعة. بمعنى ما، العدم هو فراغ الزمكان والحديث عما يحدث في غياب الزمكان هو لامعنى له – على الاقل من منظور الفيزياء – كالحديث عن "أين" خارج حدود المكان او "متى" خارج حدود الزمان. مثل هذا الشيء يوجد لكننا ليس لدينا تصور مادي عنه.

ربما الأكثر إثارة للإهتمام، عندما نأتي الى طبيعة الزمكان، هو ان هناك العديد من الأسئلة التي تبقى بلا إجابة. هل الزمان والمكان بطبيعتهما كوانتميان ومنفصلان، هل هما ذاتهما يقسمان الى اجزاء غير قابلة للقسمة، او هل هما مستمران؟ هل الجاذبية بطبيعها كوانتمية في الطبيعة مثل القوى المعروفة الاخرى، او هل هي بطريقة ما غير كوانتمية - نسيج كلاسيكي مستمرعلى طول الطريق حتى حدود الكون الحالية؟ واذا كان الزمكان أي شيء غير ما تشير له النسبية العامة، اذاً كيف يكون مختلفا وبأي طريقة سنكون قادرين على اكتشاف ذلك؟

لكن بالرغم من جميع الأشياء التي يمكّننا الزمكان من التنبؤ بها ومعرفتها، لكنه ليس واقعيا بنفس الطريقة التي تكون فيها الذرات واقعية. لا شيء هناك نستطيع عمله لإكتشاف الزمكان مباشرة، انت فقط تستطيع إكتشاف وحدة انفرادية للمادة والطاقة توجد ضمن زمكانك. نحن وجدنا وصفا للزمكان في شكل النسبية العامة لآينشتاين الذي يمكن ان يوضح ويتنبأ بنجاح لـ ظاهرة مادية لاحظناها او قسناها في اي وقت مضى، ولكن ماذا بالضبط هو وما اذا كان "واقعيا" ام لا، ذلك السؤال الذي لم يستطيع العلم اكتشاف جواب له حتى الان.  

***

حاتم حميد محسن

..............................

Spacetime: is it real and physical, or just a calculation tool? bigthink.com, May4, 2023

هوامش توضيحية :

(1) الكتلة الساكنة مفهوم من نظرية النسبية. احدى نتائج نظرية النسبية الخاصة لاينشتاين (1905) هي ان كتلة اي جسم تزداد مع سرعته بالنسبة للمراقب. عندما يكون الجسم في استقرار (قياسا للمراقب)، اي عندما يكون لديه ميل لمقاومة القوة المطبقة، تكون لديه كتلة عادية مألوفة لدى الجميع تسمى الكتلة الساكنة للشيء. اما عندما تكون للجسم سرعة قياسا بالمراقب، فان المراقب سيلاحظ كتلة أقل من الكتلة الساكنة.

(2) وهي نظرية تعني ان الفضاء مرن والجسيمات التي فيه تستبدل الطاقة معه. كلمة مرن elastic تعني علميا انك عندما تطبق مقدار من القوة على شيء(وهو ما يجعله ينحني) ومن ثم تزيل القوة، فان الشيء سيعود الى شكله الأصلي والى حالة الطاقة. مفهوم مرونة الفضاء يوفر أجوبة للسؤال القديم جدا حول الجاذبية وازدواجية الجسيم الموجي (كيف يمكن لـ أشياء مثل الالكترونات ان تعمل مثل الموجات والجسيمات في وقت واحد).

توطئة: من المتعذّر الاحاطة الشاملة بالكتابات والدراسات التي تناولت موضوعة الجنس، كلازمة انسانية بيولوجية غريزية فطرية رافقت وحفظت بالصميم الوجود البشري من الاندثار منذ وجد الانسان في عصور موغلة بالقدم، وتعاقب دور الجنس في تحولات متنوعة مؤثرة وكبيرة، كعامل محرّك للتاريخ والاديان. وتعددت الدراسات الفلسفية والعلمية والتاريخية والثقافية والنفسية والاجتماعية التي تناولت الواقعة الجنسية وتأثيرها في الحياة القديمة و المعاصرة.

نحاول في هذا المبحث طرح مقاربة في دراسة الجنس من منظورين بعيدا عن تلك التناولات:

الاول منظور الاخلاق الجنسية المتعالقة مع منظومة القيم الاخلاقية السلوكية والاعراف السائدة مجتمعيا .

والثاني منظور التعالق الجنسي كسلوك مجتمعي مع الحداثة والمعاصرة في الحياة سلبا اوايجابا.

وما يهمنا في المجتمعات العربية الاسلامية هو قصدية مدى امكانيتنا كشف ان يلعب الجنس دورا مؤثرا في ردم هوّة تخلفنا عن الحداثة او تحفيز تقدمنا منها وتحقيقها في حياتنا، بعدما اصبحت لدينا اشكالية تجديد الفكر الديني (نقد ومراجعة التراث العربي- الاسلامي) بؤرة مركزية في التجاذبات الفلسفية - الثقافية في كيفية توظيف تلك المراجعة النقدية لموروثنا الفكري الديني في مسعى تحقيق نهضة حداثية تجديدية عندنا تأخرنا كثيرا عن ادراكها في حياتنا ومجاراة العصر بها.

نعيش منذ نهايات القرن التاسع عشر اشكالية المسألة الجنسية التي لا تقل خطورتها واهميتها، من نفس منطلق محاولة استحضار (اصلاح الفكر الديني) في اعتماده عامل تنشيط الحداثة والمعاصرة لدينا في ممارستنا النقد الديني في جنبة، ومسعى ان يكون (الجنس) ومنظومته الاخلاقية وتنظيمه في حياتنا عامل يقظة تنويرية تقدمية في حياتنا، لا مصدر انحلال وتدهور واعاقة لتقدمنا من جنبة اخرى، ونسعى تماما لأعطاء مراجعة وتجديد الفكر الديني والتراث عموما مثل هذا الدور في حياتنا وفي تلمسنا تحقيق نهضة حضارية، وأملنا ان يضطلع تنظيم الاخلاقية الجنسية الاسرية والعامة بمثل هذا الدورأيضا.

وربما في هذا المجال الضيّق نستطيع حصر الدراسات الجنسية التي سنرفضها لا حقا فهي لا تناسبنا، ممثلة في منحيين لا نأخذ بهما ولا يشكلان عندنا اضافة يمكننا الافادة منها، كما يتعذّرعلينا حتى محاولتنا ادماجهما تلفيقيا معا، لأننا غير معنيين بذلك فهو(إشكالية الجنس) من خصائص افرازات الحضارة الغربية فقط، لها مبررات اجتماعية ثقافية معزولة عن سعينا ومحاولتنا ايجاد منفذ خاص بنا ان كان ذلك متاحا متيسرا لنا وامامنا في معالجة اهمية ودور الجنس في تقدم حياتنا والمحافظة على حشمة تقاليد واعرافنا الجنسية الخاصة بنا كأمة عربية إسلامية.

1. منهجان لدراسة الجنس:

المنحى او المنهج الاول: الذي يشمل دراسة الجنس (فلسفيا، تاريخيا، علميا، ثقافيا، نفسيا) في المجتمعات الغربية، نجده في سحبنا تلك الدراسات والباسنا نتائجها البحثية، واقعنا الاخلاقي العربي الإسلامي الذي فيه الكثير من التعسّف والمحاذير التي تصطدم مباشرة مع امانة المنهج العلمي، قبل وجوب الاخلاص لواقع حال مجتمعاتنا وخصائصنا الاخلاقية، من حيث ان تلك المباحث اخرجت التقائنا بها من منطلقات دراسة الجنس، كمعطى بايولوجي غريزي انساني وتكوين فسيولوجي متمايز في توزيعه بين فروقات المذكر والمؤنث، الذي طبع تاريخ الجنسانية البشرية، والتي تنعدم فيه التمايزات والفروقات الجوهرية في اهمية ان يكون (الجنس) مؤثرا سلوكيا واخلاقيا ومبعث تجديد حداثوي للحياة لدينا، المنتفية الحاجة لها أساسا عند غيرنا، فالعلم والمعرفة في (اوربا وامريكا) حققتا لهم الهدف في تجاوزهم كلا من ثنائية (الدين والجنس) ان يسهما في تحقيق القفزات الحداثية والحضارية التي حصلت عندهم. بداية كان تجاوز الدين في فصل تدخل الكنيسة في شؤون العلم والحياة للناس في القرن التاسع عشر الميلادي، والثانية ان الجنس واهميته جاء لاحقا نتاجا للحضارة الغربية وليس خالقا ومساهما تكوينيا لها.

اهمية ثنائية (الدين – الجنس) كعاملي نهضة عندنا معدومة اصلا، ويرافقها انعدام انتاج مؤثرات العلوم ومؤثرات التطور المعارفي الكبير في جميع المنظومات التكوينية لانتاج حضارة خاصة بنا كطموح نريد استحضاره وبلوغه في مستقبل حياتنا لا وجود له الا بحضور حضارة الاستهلاك التي نحيا العصر بها اليوم ومن خلالها فقط.

وفي محاولة تلخيصنا لهذه الدراسات المتشّعبة نجدها لا تخرج عند كثير من الفلاسفة الغربيين العظام مثل سيجموند فرويد وكانط واتباعهما في نزعتهم التشاؤمية، فهم يعتبرون الجنس انحطاطا للطبيعة البشرية، وان الرغبة الجنسية منافية للاخلاق حتى لو كانت ضمن نطاق الزواج، وهدف الانجاب، وان الجنس اذا لم يتقيّد بصرامة الاعراف الاجتماعية السائدة فانه سيؤدي الى انحدار البشرية والحضارة. (الى هذا الحد كلام فرويد يخدمنا) لكن نجد فرويد ينحى بتطرف يناقض اهمية تنظيم الجنس في الحياة قائلا: وكل قيد ديني اخلاقي مجتمعي او تقاليد واعراف، هو قيد باطل للجنس ومدمّر لطاقة الانسان وهو كبت غير مشروع (1)، وبهذا يكون فرويد اول فيلسوف وعالم نفس طبّي شرعن طبيعية ممارسة الاباحية الجنسية التي اجتاحت العالم بجنون غير مسبوق .

على العكس من هذه التشاؤمية السوداوية، نجد الفلاسفة المتفائلين يتقدمهم افلاطون وبراتراند رسل وفوكو، يذهبون ان النشاط الجنسي يمثل اضافة (بعد) آخر يكمّل وجودنا كبشر، وان الدافع الجنسي ينقلنا الى شكل أعلى من السعادة والرضا، والجنس آلية طبيعية تربط البشر وتوّحدهم، لان العلاقة الجنسية اشباع الذات وارضاء الاخر معا.(2) قد لا نقع بمفارقة القول ان هذا التفاؤل المنظّم للجنس يخدمنا اكثر من اطلاق فرويد عنان الاباحية.

المنهج او المنحى الثاني :من دراسة الجنس هو مانجده عندنا، المنطلق من نزعة المجاراة فيما تتركه فينا فلسفات ودراسات الجنس الغربية من ابهار، ورغبة في التقليد ولكن بالاعتماد على مرجعية الجنس في (حكايات الف ليلة وليلة) واخواتها، الروض العاطر في نزهة الخاطر، طوق الحمامة، رشف الزلال من السحر الحلال، مباهج القلوب في غرائبيتها وما تحمله من ادهاش يعزّز هوس القراءة الترفيهية الاستهلاكية في تقليب صفحات المتعة الايروسية النظرية للجنس في الكتب، كمثل قراءة الشعر الماجن او الروايات الجنسية الخليعة كجواز مرور حصد الاقبال القرائي منقطع النظيرلها .

اي ان تلك الدراسات العربية الاسلامية القديمة والحديثة الغربية (نوعا ما ) أهملت تناول الجنس كواقعة تمثّل اشكالية وجودية اخلاقية، ترتبط من حيث التوظيف المطلوب والمراد منها (بهدف سيسيوتحديثي)، وبوثيق الارتباط والصلة باشكالية مظلّة أشمل منها عندنا هي علاقة (التراث والمعاصرة) التي كثر الجدل حولها منذ ما يقرب القرن كاملا ولم تحسم نتائجها في التوظيف لنهضة عربية حضارية وبقيت حبيسة التنظير في المراجعات النقدية التي تراوح مكانها.

وافضل تعبير عن هذا المنحى في تناول الجنس كمادة قرائية للمتعة والترفيه نجده في كتاب مالك شبل(الجنس والحريم/ روح السراري) فهو من جهة يحاول مجاراة وتقليد تناول الجنس كموضوع فلسفي تناوله باهتمام فلاسفة فرنسيين واوربيين، ومن جهة ثانية فهو يتوفر على متعة القراءة الترفيهية لا علميتها في كشف ابعاد الجنس الحضارية، حين اختار المؤلف المجتمع العربي المغاربي المعروف بنزعته (الاسلامية) عيّنة لموضوع دراسته، بما يعزز مرجعية الجنس في العادات والتقاليد والعرف الاحتشامي الاخلاقي المشبوب، والمشبوه أيضا باختراقات جنسية كبيرة مستترة، كما في جميع المجتمعات العربية / ازدواجية الممارسة الجنسية في السر والعلن.

وبالأحالة الى القديم في الكتابات والمؤلفات العربية والاسلامية الجنسية كمادة ترفيهية بعيدة عن مقتضيات البحث العلمي وآثاره الفكرية والثقافية، وتلبيس سيسيولوجيا البحث عباءة القديم بما يحتويه من امتاع قرائي شبقي استهلاكي لا اكثر، الجنس لذّة غريزية فقط غير مقيدة ولا منظمة بعرف أخلاقي مستمد من خصوصية الدين وخصوصية المجتمع.

لم يطرح مالك شبل في مؤلفه المذكور (الجنس) اشكالية حضارية يتطلبها الواقع العربي كمعالجة اخلاقية، في موازاة اشكالية اصلاح الفكر الديني في حياتنا المعاصرة وتكافلهما معا،  بل طرح سيسيولوجيا الجنس في العادات والتقاليد الاجتماعية والاخلاقية في المغرب العربي كسرد امتاعي لممارسات وعادات جنسية فولكلورية شعبية تختزل إشكالية الجنس بالعادات والتقاليد.

2. بين فوكو وبورديو:

بضوء التمهيد الذي سقناه سابقا يمكننا الآن الاشارة الى كتابات ميشيل فوكو 1926 – 1984 في اشهر مؤلف فلسفي له حول تاريخ الجنسانية ثلاثة اجزاء، ذهب في الجزء الاول (ارادة العرفان ) 1976 الى ربط الجنسانية باركيولوجيا التاريخ وحفريات المعرفة مرورا بعصر الفلسفة اليونانية القديمة والرومان، وفي المسيحية وما قبلها في العهد القديم، محاولا الاجابة عن تساؤل يهمنا نحن اليوم بالصميم هو : لماذا يشكّل السلوك الجنسي والانشطة والمتع المتعالقة به موضوع انشغال اخلاقي؟.

لا نغالي اذا قلنا ان الاجابة عن هذا التساؤل هو صميم ما نحتاجه ونبحث عنه لمجتمعاتنا العربية الاسلامية، في اجابتنا الذاتية الخاصة بنا نحن وليس بما يجيب فوكو عوضا عنا عنه ان جاز التعبير، فهو يجيب بما يرضي نزوعه الفلسفي الخاص بالمجتمعات والحضارة الاوربية لا بما نحتاجه نحن كمجتمعات شرقية لم تعرف من الحضارة غير الاستهلاكية منها بعد في حاضرها و في مستقبلها المنظور.

اجابتنا نراها في تسليط الضوء على التساؤل المشروع الجوهري، هل ان الجنس اصبح اليوم كما هو الحال مع الفكر الديني، اشكالية وجودية في اعاقة او تسريع تقدمنا نحو حضارة معاصرة، في حال امكاننا وضع الجنس ضمن منظومة اخلاقية مجتمعية نظيفة محتشمة، تمتلك كل مقوماتها في قيم شغّالة مصدرها تشريعات الدين المعتدل من جهة، ووصاية القوانين الوضعية الرقابية العادلة في حمايتها ورعايتها (الجنس- الزواج) كعرف اخلاقي تقليدي يحمي الممارسة الجنسية من السقوط في الابتذال والاباحية والتفكك الاسري من جهة ثانية؟!

بهذا التفريق في ان يكون الجنس عامل تحديث نحو معاصرة ننشدها في حياتنا، ام ان يكون عامل انحطاط يحملنا الى انفلات جنسي كما في الغرب، يغذّي ويلتقي عندنا عوامل التردي والانحلال في مجمل اشتمالات حياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، هو ما نسعى حضوره ويمكّننا من العثور على ماهو خاص بنا ومفيد لنا.

وبالعودة الى فوكو نجده في تقصّيه وتشعّب الاجابات بما يمتلكه من ثراء فلسفي معرفي عمد ربط الممارسة الجنسية المرتذلة اساسا بتاريخ السلطة والمصّحات وقوانين الحظر الوضعية غير الانسانية التي سادت ردحا طويلا من عمر التاريخ الاوربي، بما تحمله تلك الممارسات الجنسية الطبيعية والشاذة، من خرق بعضها النظام الاسري والمجتمعي التي تجاوزها فوكو متعمّدا قاصدا من منطلقات ادانته لها في متراكمها التاريخي الذي يتقاطع مع نزوعه البحثي ولا يماشيه او يخدمه في توكيده الغلمانية وأنواع الشذوذ الجنسي الذي كساه بمنطلقات حقوق الانسان والحرية الاجتماعية في اشباع الجنس والنزعات الجنسية المكبوتة والمحاربة عبر العصور.

وعمد فوكو في دوغمائية فلسفية وقبلية معرفية الباس التاريخ الجنسي رؤاه المنحرفة جنسيا حين سعى بمثابرة وجهد كبير ايجاد تدعيمات تاريخية في تمريره انحرافات وشذوذات الجنس، تحت مسوغات عاطفية وانسانوية مرجعيتها(البيولوجيا، الفسلجة وعلم التشريح، علم النفس الطبي، الاجتماع، السلطة، وفي المصحات والعزل والسجون.

في هذا المتراكم البحثي المعرفي والثقافي استطاع فوكو تطويع حقائق الجنس في اعتبارها اشكالية بيولوجية غريزية انسانوية قبل اي اعتبار آخر لا يهمه ولا يعنيه، في عدم ادانة شذوذاتها، او محاولة تهذيب تلك الممارسات الشاذة في منظومة اخلاقية شاملة، وسعى ما وسعه الجهد انقاذ الاباحية الجنسية بدءا من مراحلها التاريخية القمعية، ومراحلها التسفيلية، الاستلابية المجتمعية وسحبها الى مراتب ومصاف حرية التعاطي الجنسي الفردية، وضرورة اشباع الغرائزالايروسية الانسانوية للجنس، المفتقدة للمشروعية في القمع خلال وطيلة احقاب زمنية تاريخية، وانه حان الوقت اعادة الاعتبار المفقود لها وتجويزه تلك الخروقات الجنسية الشاذة على انها من مسلمات الطبيعة الغريزية الانسانية، لا يتوجب التقاطع المجتمعي معها، ولا تحشيد المؤسسات الدينية اوالسلطة المدنية بوجوب رفضها ومحاربتها، وليس من حق السلطة والقانون الوضعي محاسبتها او الجامها وايقافها عند حدودها المقبولة اجتماعيا بما يحفظ الجنس من الابتذال الاباحي.

ويشير تاريخ حياة فوكو انه في ايامه الاخيرة اراد وضع آرائه الفلسفية الجنسية موضع التطبيق، حيث انخرط في ممارسات جنسية مثلية اعتبرها على حد تعبيره، (الخلق الحقيقي لا مكانية الرغبة التي لم يكن يحظى الناس بها في الماضي) وأدت الى اصابته بالايدز ووفاته.

النموذج الثاني هو عالم الاجتماع الفيلسوف الفرنسي بيار بورديو (1930- 2002) في مؤلفه (الهيمنة الذكورية) فقد ذهب الى دراسة الجنس (بيولوجيا)، في مقارنته تضاريس الجسد الذكري والانثوي فسيولوجيا وظائفيا، وتشريحيا طبيّا، وتوظيف التمايزات والفروقات الجسدية الجنسية بدءا من اختلاف بيولوجيا الاعضاء التناسلية، وهيمنة الذكورة في الحياة الزوجية الاسرية، والبيت، والعمل، والعلاقة مع الآخرين، والاختلافات النوعية في السلوك والممارسات الاجتماعية، بما يمنح الرجل ويكسبه شرعنة الافضلية على المرأة، بحكم تمايز بيولوجيا الجسد وما تجرّه وراءها من تبعات التمايزوالاختلاف على مختلف الصعد، .والانفراد والهيمنة الذكورية، ليس على صعيد علاقة (فوق- اسفل) جنسيا وحسب، ولكن في انسحاب النتيجة التنافسية في اعلاء شأن الذكر على الانثى وعجز المجاراة في جميع مفاصل الحياة تقريبا. العلاقة التي يشوبها الكثير من الاجحاف بحقوق المرأة انسانيا واجتماعيا وحقوقيا.

ان في اختلاف بيولوجيا الجسد – الجنس الفيزيائي الذكوري والانثوي الذي يكرّس هيمنة الرجل (هذا خارج الدعوة الحضارية بالحقوق المتساوية للجنسين وتحقيقها ضمن ميادين ومستويات عديدة في اوربا وامريكا وبلدان العالم الكثيرة) تكون مساحة استقبالها عندنا مجتمعيا وسلطويا اكثر من مقبول ومرحّب به، في جميع المجتمعات العربية الاسلامية تقريبا، وما ينفرز عنها من ممارسات الافضلية الذكورية على صعيد فروقات بايولوجيا الجسد والجنس، واستخدام هذا التمايز في مجالات المعيشة والعمل ومرافق التعامل مع الحياة.

ويغذّي ويعمّق هذه الواقعة المكتسبة نزعة الافضلية، المتراكم التاريخي التقاليدي والاعراف المستمدة من الموروث الطويل تاريخيا في المتجذّر الوجداني والسلوكي وفي مصدرية ومرجعية الاسناد الديني وقوانين واوامر السلطة والحكم الانفرادي الوراثي المستبد والهيمنة الأطلاقية الذكورية الاحادية غير المتنافسة على مفاصل الحياة والسلوك على مدى قرون طويلة.

لذا يأتي مؤلف بورديو (الهيمنة الذكورية) مطابقا تماما لمسرح اشتغاله لواقع الجنسانية في المغرب العربي، الذي يصح تعميمه على اقطار الوطن العربي الاسلامية بلا ادنى تحفّظ عليه في المفصح عنه او المخفي المستور.

لم نجد في هذا المؤلف، رغم ان كاتبه فيلسوف وعالم اجتماع متمّيز، اية انتباهة في اهمية نقل دراسة الواقعة الجنسية من ميدان سيسيولوجيا الممارسة الجنسية الى سيسيولوجيا الاخلاق والسلوك الجمعي الذي يعزز الالتزام العام باخلاق الجنس الطبيعية المحتشمة على الاقل ما يهم منها مجتمعاتنا الشرقية العربية سيسيولوجيا جنسانيا.

في غياب هذا الربط المفقود الذي اشرنا له، الذي لا يقلل من اهمية ثيمة الكتاب في وصوله نتيجة هي تحصيل حاصل موجود في مجتمعاتنا / الهيمنة الذكورية وما يترتب عليها من ممارسات اخلاقية متمايزة ليس على صعيد الجنس وحده بل في مجمل الحياة كما ذكرنا سابقا.

3.كيف نفهم اشكاليتنا في الجنس؟

بأي فهم ومعنى والى اي مدى يمكننا الحكم على اخلاقيات الجنس، ان تكون مرتكزا في تعميمنا لها على اخلاقيات السلوك المجتمعي العام المعلن، في حال توفرنا على الضبط المطلوب ان لا تصبح العلاقات الجنسية عوامل تردي وانحلال مجتمعي وأسري عندنا؟

وما الفرق الذي يمكننا الافادة منه في مقارنتنا اشكالية الجنس عندنا واشكاليتها في المجتمعات الاوربية والامريكية على وفق منظور (السيسيولوجيا) الذي ذكرناه في اعلاه؟

قد يبدو للوهلة الاولى ان هذا الطرح يحوي افتعالية /مقارنة الاشكالية الجنسية بيننا وبين الغرب الاوربي انها ليست في محلها، وانها تسطيح في انعدام اوجه المقارنة المحسومة مسبّقا لصالحهم، وليس في صالحنا نحن.وهو خطأ... كيف؟

الاشكالية الجنسية في الغرب انتهت الى نتيجة انها استنفدت نفسها جنسيا اباحيا، ولم يعد لديها ما تدّخره وتنافس به غيرها.فهي وصلت مراحل متدنية جدا في الاباحية الجنسية التي لا ينفع معها المعالجة في تصحيح السقوط النهائي. وان زوايا الرصد والمعاينة من قبلنا لاشكاليتهم الجنسية وفروقاتها الكبيرة بيننا وبينهم، لا تتكافأ (نوعيا وقيميا)مع اشكاليتنا التي هي في مراحلها الاولى المستترة بعد، وامكانية وقدرات التصحيح عندنا موجودة وليست ميؤوس منها كما هي عندهم.ان الاباحية الجنسية في امريكا واوربا خرجت ان تكون مخرجا لتنظيم المجتمع اخلاقيا سوّيا.

ان الانحدار الجنسي في اوربا وامريكا انحدار مفزع ومؤرق برأيهم هم وليس برأينا نحن الى حد ان وصف ذلك احد المهتمين بهذا الشأن بقوله:ان تفاقم الاشكالية الجنسية التدميرية في امريكا والغرب تمثل قنبلة نووية، يهدد انفجارها المستقبلي افناء البشرية.

ورغم كل ماذكرناه قد يبدو انه مصادرة بحثية نظرية من قبلنا في حسم مقارنة تحتاج الى توضيح اكثر، يدخلنا ببعض التفاصيل، اننا نجد وبشكل عام معلن ان الجنس في المجتمعات الغربية انحدر وينحدر اليوم بمتواليات رياضية نازلة في الاباحية والاخلال السلوكي والخرق العام للنظام الاخلاقي والقيمي الاسري السوي، ما رتّب انحلال الاسرة، وتراجع الزيجات، انفلات التربية الاسرية وفقدان السيطرة بحكم القانون، في البيت والمدرسة، ممارسة الشذوذات الجنسية المثلية الذكورية والسحاقية الانثوية وحمايتها قانونا، زنا المحارم، الديوثية، تعاطي المخدرات وهكذا.

يقابل هذا الانحدار البشع في الجنس، تصعيدا (قيميا) في السلوك الاخلاقي العام عندهم، بمتوالية تصاعدية مناقضة لمتوالية الانحدار الجنسي الاباحي، تعبيراتها تفشّي سلوكيات وقيم العلم والتحضر والحداثة، اعلاء قيم المساواة والعدالة والديمقراطية في الحقوق والواجبات، النزاهة والصدق والاخلاص، حقوق الانسان والمرأة، حرية المعتقد، وحرية الممارسات الفردية،  الى غيرها من قائمة طويلة عريضة تقاطع جميعها التسفيل الامتهاني للجنس لديهم. ولا ننفي ان يكون هناك خروقات غير مقننّة، انه ليس كل من يمارس التسفيل والانحطاط الجنسي، يكون حريصا على ممارسة التصعيد الاعلائي الاخلاقي القيمي في السلوك والحياة. فقد يمارس العديدون اباحية التسفيل والانحطاط الجنسي بالتماهي مع ممارسة الخروقات في السلوكيات والقيم العامة التي ادرجنا بعضها، في ما ذكرناه مفارقة غريبة فعلا.

لكن لو نحن جربنا سحب هذه المعادلة السبق لنا ذكرها على مجتمعاتنا العربية – الاسلامية، ومحاولتنا تطبيقها، لوجدنا ان مرتكز اخلاقنا الجنسية وغير الجنسية مستمدة من ثنائية (فقه الدين – السلطة الحاكمة) وفي تنظيم الحياة برمتها، وفي مجال الجنس تمارس تلك الثنائية دورها التحريمي الانضباطي الاخلاقي الذي يحول دون السقوط في الانحدار التسفيلي الانحطاطي – هذا على الاقل في المعلن المتداول والمتواضع قبوله مجتمعيا – في تطويق انتشار الاباحية الجنسية وتفكك النظام الاسري الاخلاقي المتين.والمحافظة على الشرف الشخصي والتقاليد الاخلاقية السلوكية المجتمعية.

في مقابل هذا التعالي الاخلاقي المكابرعندنا في العلن ماذا نجد من خروقات واختراقات عميقة غائرة في السر والكتمان على صعيد الممارسة الجنسية.وماذا نجد بخلاف الغرب عندنا من تفريط مذهل بكل قيمة اخلاقية على صعيد سيسيولوجيا الحياة والسلوك الجمعي العام.في عجز ايقاف التردي الاخلاقي في السياسة والاقتصاد والثقافة وميادين الحياة، فلا وجود لقيم الصدق والنزاهة والامانة ومصلحة المجتمع في جميع مفردات التردي البشع في حياتنا، وفي تقاطعها المعيب مع كل مقومات التقدم ومجالات التحضر من حولنا التي تحاصرنا.

اننا هنا لا نتخطى ازدواجية المعلن في تقاطعه الاختراقي مع المستور، بان فواحش الجنس غير المعلنة عندنا هي نفسها فضائح الاباحية الجنسية في اوربا وامريكا المعلنة التي ندينها، لا فرق بين اباحية معلنة ليس فيها محظور او ادانة اسرية او مجتمعية او سلطوية، واباحية تمارس في السر داخل الغرف المقفلة واسرار وخفايا السرير.

الفارق ان الاباحية الجنسية غير المعلنة عندنا يقترن فيها التسفيل الانحطاطي الجنسي مع الانحطاط السلوكي المجتمعي الاخلاقي العام. (يوجد استثناءات لذلك).على صعيد العمل والوظيفة والمؤسسة وتقديم الخدمات وغيرها، وهو ما لانجد مشابهاته في المجتمعات الغربية، فالجنس خارج معادلة الشرف المهني عندهم.فشرف أداء الواجب الوطني والعملي في الحياة اليومية عندهم يتم بمعزل تام عن ممارسة الفرد لحرياته الشخصية الاجتماعية.

وحيثما وضعنا نحن الجنس ضمن وصاية ومدركات (الدين – العقل) نجد يلازم ذلك انحدار كبير في اخلاقيات المجتمع وتدني قيم البناء المجتمعية.ان ما يشكل في المجتمعات الغربية، عيبا او خللا في منظومة البناء الحضاري، نجده لدينا لا يوازي الخلل الذي نتعمده في تعطيل بنانا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الغش والفساد والكذب والتزوير.

قضية تردي اخلاق الجنس لدينا، مع تردي مجمل احوالنا الاخلاقية والسلوكية العامة، اصبحت قضية مركبة في ان يكون الاختراق في احدهما يكمله ويعاضده مفردات التردي والاختراقات في الجانب المتتم الآخر وهكذا، حتى تكتمل حلقات التردي والانحلال التدريجي في هياكل المجتمع البعيد عن ادنى معيار اخلاقي متحضّر يحكم الحياة وينظّم شروط وواجبات وحقوق الفرد وحقوق المجتمع.

خاتمة:

نخلص من هذا بمجمله ان التسفيل الجنسي الاباحي في اوربا والعالم تقريبا، منعزل تأثيره في سيسيولوجيا القيم والسلوكيات الاخلاقية والمهنية التي تنظم شؤون الحياة المتحضّرة لديهم، وهذه الممارسات غير مستمّدة لا من وصايا وتحريمات الدين، ولا من رفض قيم العلم والاعراف الاخلاقية لها، اذ كلما انحدرت تلك المجتمعات جنسيا، ارتفعت وتسامقت في تحضّرها في توفير ضرورات الحياة اليومية، ومتطلبات معيشتهم في الرفاهية والسعادة والعيش الكريم.بعيدا ان تكون هذه المعادلة اشكالية تقرر مصير وموقع الفرد في المجتمع. طبعا من غير المعقول انه لا توجد خروقات في تلك المعادلة، لكنها عديمة التأثير بالمنحى الأخلاقي والسلوكي المتمدن العام. نريد العكس عندنا في اهمية ووجوب ان يكون للتربية الجنسية والاخلاقية دورها المؤثر الكبير في بناء مجتمعات متقدمة، تتكافل مع كل قيم بناء الشخصية الفاعلة المنتجة التي تمتلك المعاني الكبيرة في تعاملها مع الحياة.

بقينا عصور طويلة من تاريخنا نفهم الاخلاق انها (جنس ومتعة فقط) يتحدد موقعه ومجال اشتغاله ما تحت حزام بنطلون الرجل وسرّة بطن المرأة، وكل ماعداها من خروقات جائز حلال، وفهمه غيرنا ان مافوق حزام البنطلون وسرّة بطن المرأة تكون ممارسة الاخلاق خارج الابتذال الجنسي عندهم الذي ندينه في العلن ونمارسه في السر.

***

علي محمداليوسف

.............................

1، 2: موقع الباحثون السوريون الالكتروني

ثمة صورة مثيرة للاهتمام، على الرغم من عدم الانتباه لها إلى حد بعيد تتعلق بالترابط الوثيق بين الفلسفة والترجمة، فالفلسفة بسبب الطبيعة الكونية لأفكارها وطروحاتها لطالما اتكأت على الترجمة في تصدير نصوصها إلى لغات عديدة ومختلفة للانتشار حول العالم. كذلك يخضع التنظير للترجمة عادة، سواء من قبل المترجمين أو الفلاسفة، لسلطة الفلسفة ومناهجها. وهناك مستويات عدة للعلاقة بين الفلسفة والترجمة، منها فلسفة الترجمة وترجمة الفلسفة والفلسفة الترجمية، لكن أهمها على الاطلاق هي الترجمة الفلسفية التي اكتسبت أهميتها بسبب تعلقها بالمنهج، حيث تهتم الترجمة الفلسفية بترجمة النصوص الفلسفية اعتمادا على المناهج الفلسفية وبعض الحقائق التأملية الخاصة بالفلسفة.

وعلى مدى التاريخ كان هنالك دوما فلاسفة اشتغلوا في الترجمة، ومترجمين أثروا التنظير الفلسفي في الترجمة، ومن أشهر الفلاسفة المعاصرين الذين جمعوا بين الترجمة والفلسفة وقدموا نظريات مهمة الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير H.G.Gadamer 2002- 1900 الذي قدم نظريته في الترجمة في كتابه " الحقيقة والمنهج"، كما قدم أيضاً أفكاره حول الفهم والتأويل وكان متأثراً بالفلسفة اللغوية والتأويلية عند مواطنه الفيلسوف مارتن هيدغرMartin Heidegger(-19761889) الذي طرح أفكاره حول الترجمة في مواضع عديدة من مؤلفاته ومقالاته منها، كتاب "الكينونة والزمان" وكتاب "المدخل إلى الميتافيزيقا" حيث ميز هيدغر بين اللغة كألفاظ موضوعة وبين اللغة كحقيقة وجودية مستقلة، كما ميز بين المعنى الأصلي للمصطلح الفلسفي وبين معاني مقابلاته غير اليونانية. وبالاستناد إلى هذا التمييز طرح نظريته في الترجمة التحريفية التي تفصلنا عن الوجود المعبر عنه بالنص الأصلي وتؤدي إلى تعارض بين الفلسفة والترجمة، والترجمة التحقيقية التي تصلنا بالمعاني الأصلية وتتيح للغة القدرة على التكلم بذاتها. وأبرز فكرة هيدغرية تأثر بها غادامير هي فكرة "الدزاين" ومعناها عند هيدغر الوجود هنا، اي وجود الكائن في زمان ومكان محددين، فالوعي الأنطولوجي ميزة تخص الإنسان دون غيره في كل الأزمنة وجميع الأمكنة، لأنه الكائن الوحيد القادر على الفهم والتخيل والاهتمام بقضايا الوجود.

وقد أتفق كل من هيدغر وغادامير على مبدأ الكونية في الفهم، وأعتبر كلاهما التأويل فعالية عالمية كونية لا تقتصر على نصوص محددة، إنما تمتد لتشمل كل انواع النصوص التي أنتجها البشر، وبمختلف أنواعها فنية أو أدبية أو فلسفية وغيرها. فالهدف من التأويل هو تسليط الضوء على الزوايا المظلمة في ذهن المؤلف واكتشاف المعاني المختبئة في ذاته. لذلك قد يجد المترجم نفسه احياناً وكأنه في حوار حاد ومحتدم يقاوم فيه التعسف والسلطة وجميع الإكراهات المتوارية في ذهن المؤلف لحظة كتابته للنص.

والمثير للانتباه هنا هو أن غادامير قد وظف تأثره بهايدغر عن طريق تقديم مجموعة واسعة من المفاهيم التي بنى عليها تأويلاته، نذكر منها،" التأويل " و" الحقيقة " و" الحوار " و" التراث" و" الجدل" و"التاريخ" و"الاستحضار" و" القول" و" التوضيح" و" التأثير" و" الإحداث". ولبيان العلاقة الجوهرية بين الفلسفة والترجمة قدم مفهومان أساسيان هما: التأويل والحوار.

التأويل

رأى غادامير بداية أن كل فهم هو تأويل، والاهمية الرئيسية التي حازتها مشكلة اللغة في الفلسفة تقوم اساساً على حقيقة أن الفهم والتأويل هما شيء واحد، فالفهم برمته تأويل، والتأويل برمته يحدث وسط لغة ما ومثله مثل المحادثة، دائرة مغلقة لجدل السؤال والجواب. والتمكن من اللغة شرط اساسي لبلوغ الفهم، لكن غادامير لم يقصد بالتأويل استخراج معنى موضوعي خارجي يستقل به النص، إنما شبه التأويل بالدخول في محادثة خاصة يتجدد بها معنى النص، لأن من يقوم بالتأويل لا ينظر إلى النص نظراً مباشراً في رأيه، وإنما يستمع إليه استماعاً حياً من اجل الوصول إلى مرحلة الفهم المطلوبة. وغادامير يقدم اللغة بوصفها وسيطاً للتجربة التأويلية حيث رأى أن المحادثة لا تكتسب صفة الاصالة والحقيقية إلا حين يجد الطرفان أنفسهم قد سقطوا في المحادثة وتورطوا بها، فهم غير قادرين على التحكم في سيرها، كما لا يعرفون على وجه الدقة النتيجة التي سوف تنتهي إليها. وهذا يعني أن المحادثة كلما تمت بشكل غير مقصود وبطريقة تلقائية تتدفق فيها الكلمات كلمة بعد كلمة بمنتهى العفوية كلما كانت المحادثة أصيلة وحقيقية. وهذا هو ما يمنح المحادثة روحها الخاصة، كما أن اللغة التي تجري بها المحادثة تحمل أيضاً حقيقتها الخاصة وتتيح لشيء ما أن يتجلى عبر المحادثة، فاللغة هي الوسط الذي يحدث فيه الفهم والاتفاق الجوهريان بين أي طرفين في أية محادثة. واستنادا إلى ذلك على المترجم أن يفهم السياق الذي يحيا فيه المتكلم الآخر (صاحب النص الأصلي) لكي يتمكن من نقل المعنى وصيانته وجعله مفهوما في لغة جديدة في الوقت نفسه. وهكذا رأى غادامير " أن كل ترجمة هي في الوقت نفسه تأويل حتى اننا يمكن أن نقول أن الترجمة هي ذروة التأويل الذي يكونه المترجم للكلمات". ومن أجل ذلك حدد للتأويل خلال الترجمة مراحل ثلاث هي: الوعي التاريخي، صهر الآفاق، إقصاء الذات.

الوعي التاريخي

يركز غادامير هنا على الجهد الذي يحتاج أن يبذله المؤول لكي يتمكن من استيعاب كل اللحظات الزمنية التي عاش فيها المؤلف وخضع لسلطتها وتأثر بسحرها، فالمؤلف أو المبدع يتعامل مع احداث التاريخ كما يتعامل مع مفردات اللغة، فهو يختار من بينها ما يناسبه، لكن عملية الاختيار ليست سهلة وبسيطة، لأنها عملية فكرية تحتاج إلى مران وممارسة وخبرة. وكلما كان الجهد الذي يبذله المبدع كبيرا، وكلما كانت خبرته عميقة وطويلة، كلما كانت بالتالي مهمة المؤول شاقة وأكثر صعوبة. لأن النص عادة يثير دلالاته التاريخية الزمانية والمكانية التي تمت كتابته في أطارها، لذلك على المترجم الواعي بأصول التأويل وفنون الحوار مع النصوص أن يتجاهل هذه الدلالات ويعود إلى زمن أنتاج النص ليتمكن من الخروج بمعان منتجة.

صهر الآفاق

لجأ غادامير إلى صياغة هذا المصطلح ليقول أن صهر الآفاق واندماجها أثناء ترجمة النصوص الادبية والفلسفية لا يتم إلا عبر إدراك حقائق الماضي (التاريخ) الذي أنتجت فيه هذه النصوص، بالإضافة إلى الوعي بمعطيات الحاضر( الواقع) التي تسربت إليها، واندماج الاثنين معاً لا يتم إلا من خلال الفهم والحوار والنقد وصولاً إلى تشكيل وانتاج وعي جديد لا يظهر إلا من خلال اندماج تلك الآفاق. وكذلك ليشير إلى أن النص الابداعي من حيث البنية ومن حيث الحدث هو وجود عالمي كوني يتجاوز زمانه ومكانه الأصلي.

إقصاء الذات

الأبداع خلق حر وفضاء فكري وفني وجمالي، والنص بعد انتاجه يصبح قائماً بذاته ومعزولاً عن منتجه، فالنص كما الإنسان عند غادامير وجود تاريخي يصنع نفسه بنفسه بعد أن يتم أنتاجه وهو مشروع في حالة تغير وتجديد وخلق دائم. لذلك علينا الأخذ بنظر الاعتبار أن الترجمة مهما كانت أمينة لا يمكنها ردم الفجوة القائمة بين روح الكلمات الأصلية وإعادة انتاجها في لغة أخرى جديدة. الفجوة سوف تبقى قائمة ولا يمكن ردمها تماما باي حال من الاحوال. وكما يجري في أية محادثة عادية بين طرفين في الواقع وتكون هناك اختلافات لا يمكن تجسيرها، فيتم اللجوء إلى تحقيق تسوية في الحوار المتبادل بين الطرفين، كذلك يلجأ المترجم إلى أيجاد حل أمثل عن طريق تحويل نفسه تحويلاً تاماً إلى مؤلف النص الذي يترجمه. لذلك فان المترجم هو الوحيد الذي يعيد أبداع النص ويُحدث في اللغة الموضوع الذي يتناوله، فقد رأى غادامير أن (إعادة إدراك العملية الأصلية في عقل الكاتب، هي إعادة خلق جديدة للنص الذي توجهه طريقة فهم المترجم لما يقوله النص" وهذه إعادة أنتاج وأبداع لنص جديد عبر التأويل وعن طريق إيجاد لغة مناسبة للنص الأصلي. لذلك فان موقف المترجم وموقف المؤول هو موقف واحد، ومهمة المترجم في إعادة الانتاج هو عملية ابداعية تختلف بالدرجة فقط وليس في النوع عن المهمة التأويلية العامة التي يقدمها أي نص. وقد حدد غادامير ثلاث مستويات للتأويل هي: المستوى الجمالي، المستوى التاريخي، والمستوى اللغوي.

المستوى الجمالي

يتحرى المترجم في هذا المستوى عن الجوانب الجمالية في النص الذي بين يديه، فيبحث عن مقاصد المبدع وعن المعاني الجمالية الأصلية التي قصد المبدع إلى ترسيخها اثناء كتابته للنص. وهنا يبتكر غادامير مصطلح جديد هو " المسافة الجمالية " للدلالة على المسافة التي تنشأ عن التباعد الزمني والفرق بين زمن أنتاج النص وزمن عمل المترجم على النص، أي المسافة الزمنية بين المؤول (المترجم) والنص. وفي هذا المستوى على المترجم النظر إلى النص ضمن فضائه الثقافي الخاص وضمن الأطر الجمالية والقيم الفنية والفكرية والعادات والتقاليد والدين، فكل ذلك وأكثرسوف يكون حاضراً بشكل خفي أثناء كتابة المبدع للنص. وعلى المترجم إعادة انتاج النص من الناحية الجمالية على نحو مختلف فنياً في الشكل والصياغة والأسلوب ومتوافق جوهرياً مع المعنى الذي يتضمنه النص.

المستوى التاريخي

ليست غاية غادامير في الممارسة التأويلية تمثل تاريخ خاص، إنما تمثل تاريخ عام وكلي، فقد حاول أنسنة التاريخ وتصوره على أنه ذات تحاور وتجادل وتفرض وجودها . وتاريخ الادب والفن والفلسفة هو إرث عالمي كوني حتى وأن تم انتاجه الاول بصورة محلية، فهو منتج إنساني عالمي كوني يستحق منا الاهتمام والدراسة والفهم والتأويل في ضوء مفاهيم حداثوية عالمية وكونية.

المستوى اللغوي

نجد هنا المستوى التأويلي بامتياز، فاللغة هي المادة الاساسية لعمليات التأويل والفهم والتفاهم. وللقالب الفني وللصياغة اللغوية أثرها الكبير في عملية التأويل، والنصوص هي صورة ومادة في الوقت نفسه، ظاهر وباطن، لذلك يتضمن هذا المستوى عند غادامير عدة عناصر أهمها، "مواطن الصمت" أو ما يمكن أن نسميه بالصراع بين الغياب والتجلي، ذلك الصراع بين الكلام والواضح وبين المسكوت عنه داخل النص الابداعي، فهناك طبقات عدة للمعنى، منها السطحي المباشر، ومنها الضمني المتخفي الذي يكتشف عن طريق التحليل والتفكيك والربط والاستنتاج. كما تلعب " الأوجه الخطابية" و" الستراتيجيات النصية " دوراً مهماً في تعميق الفهم ومتابعة الاحتمالات المتعلقة بالنص، فلكلمات لها طاقتها الصوتية والعاطفية والتصويرية والنص هو المجال المناسب لاستثمار كل تلك الطاقات وما بداخلها وما تعنيه. وتقود " الاستراتيجيات النصية " إلى الاشتغال في حقل الدلالة، فمواقع اللاتحديد تعمل على تحويل كل موجود إلى علامة، إذ لا يمكن فهم ظاهرة بالعودة غلى سياقها الثقافي فقط، إنما يجب فهم أبعادها الكونية ودلالتها الاجتماعية والفكرية، لذلك غالباً ما يستعين المبدع بالرموز الفنية التي لا تقتصر على مجرد الدلالة، بل تضيف شحنة عاطفية في نفس المتلقي.

الحوار

وكما قرر غادامير " أن كل فهم تأويل " فقد قرر أيضاً أن كل تأويل هو ذو طبيعة لغوية معينة، فيكون لديه كل فهم لغوياً بالضرورة، فاللغة ليست مجرد وسيلة يتوسل بها الإنسان للتعبير عن أغراض خارجية، وإنما هي من حيث الاساس حقيقة حوارية يتواجه فيها عالمان لغويان مختلفان يصيران تدريجياً إلى التداخل فيما بينهما، فتنبثق من هذا التداخل لغة متجددة تحمل معاني جديدة وغير مسبوقة، وهذا هو المعنى المقصود من "صهر الآفاق"، أي تحول الفهم في النهاية إلى تفاهم.

وبناءً على هذين المفهومين جمع غادامير بين الفلسفة والترجمة على أساس أن كل واحدة منهما تقوم على فهم تأويلي، فالتأويل عند غادامير صفة شاملة للفلسفة، حيث وظيفتها الأساس تأويل نصوص الماضي، كما ان الترجمة في جوهرها تأويل، لأن المترجم لزاماً عليه حفظ المعنى الأصلي للنص ونقله كما هو إلى عالم لغوي آخر يختلف عن عالمه الأصل. وهنا قد يحتاج إلى التصريح بما هو ملمح إليه، أو العكس إلى اضمار ما هو ظاهر فيه. وإذن فالترجمة تأويل وعمل يعيد أنتاج النص من جديد .

إن كلاً من الفلسفة والترجمة يقوم على فهم حواري " تفاهم"، فالفلسفة هي فهم يجتمع فيه الفكر إلى الواقع أو إلى التراث، ولا فكر ولا واقع ولا تراث بمعزل عن اللغة. فالوجود الحقيقي للغة هو وجود حواري. والتحاور الفلسفي هو تواجه بين عالمين: عالم الواقع أو عالم النص التراثي مع عالم الفيلسوف، حيث يكون هذا التواجه عبر مقابلة السؤال بالجواب، إذ يضع المتفلسف السؤال الذي أثاره فيه الواقع أو التراث من خلال النص الذي بين يديه، منتظراً ان يتلقى جوابه من النص نفسه.

وأخيراً، فإن الفلسفة والترجمة عند غادامير تجتمعان من جهتين اساسيتين: الاولى تأويلية والثانية حوارية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن التأويل في الترجمة أظهر وأكثر منه في الفلسفة على اعتبار الفارق الذي يفصل بين اللغة الناقلة عن اللغة المنقولة، كذلك أن الحوار في الترجمة اكثر تعقيدا عما عليه في الفلسفة للبناء المزدوج الذي يقوم عليه والذي يدعو المترجم الى حفظ النص المنقول في كلتا طبقتيه. وعليه تكون الترجمة النموذج الأعلى لعمليات الفهم والتفاهم التي تتم في الفلسفة.

***

د. غيداء محمد حسن – أستاذة فلسفة إسلامية / جامعة بغداد

.......................

المصادر والمراجع

1. غادامير، هانز جورج: الحقيقة والمنهج، ترجمة:حسن ناظم، علي حاكم، مراجعة: جورج كتوره، دار أويا للطباعة والنشر، طرابلس 2007.

2. عبد الرحمن، طه: فقه اللغة (الفلسفة والترجمة)، المركز الثقافي العربي، بيروت 1995.

3. ألبرت، هانس: هايدغر والتحول التأويلي، ترجمة: عبد السلام حيدر، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط 2016.

4. هيدغر، مارتن: الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق: فتحي المسكيني، مراجعة: أسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت 2012.

5. لزهر، فارس: التأويلية عند غادامير (قراءة في المرجعيات والمنظومات والآليات)، مجلة الفتوحات، العدد الثاني، تبسة2015.

البناءُ الاجتماعي لَيْسَ كِيَانًا وهميًّا يُفْرِز علاقاتٍ اجتماعيةً ميكانيكية، ويُنتج أنساقًا ثقافيةً جامدةً تَقُوم على الوَعْي الزائف، إنَّ البناءَ الاجتماعي هو الحاضنةُ الشرعية لِوُجُودِ المُجتمع معنويًّا وماديًّا، والمرجعيةُ الفكريةُ القادرةُ على إعادةِ أحلام الفرد إلى الحياة، وتشكيلِ الهُوِيَّة الفَردية والجَمَاعية التي لا تَكْتفي بذاتها، بَلْ تَسْعَى إلى التواصلِ معَ مَصادر المعرفة التي تُحَدِّد أبعادَ سُلطة المُجتمع، والتفاعلِ معَ التجارب الحياتية التي تُحَدِّد معالمَ شخصيةِ الفرد. وإذا كانت مَصادرُ المعرفةِ تَتَأسَّس على عَقْلانِيَّةِ الواقعِ اليَومي، فإنَّ التجارب الحياتية تَتَأسَّس على رمزيةِ الدَّلالات اللغوية. وهذا التَّشَابُكُ المعرفي مع الواقعِ واللغةِ يَحْمِي العقلَ الجَمْعِيَّ مِن العَيْشِ خارج التاريخ، ويَحْمِي التاريخَ مِن العَيْشِ خارجَ فلسفة الوَعْي. والوَعْيُ إذا اتَّصَفَ بالحَيَاةِ، والحَيَوِيَّةِ، والحُرِّيةِ في ذاته، والتَّحَرُّرِ مِن عناصرِ المنظومة الاستهلاكية المُحيطة به، سَيَتَحَوَّل إلى رافعة لفلسفة اللغة، لأنَّ اللغةَ تَستمد وُجودَها مِن الوَعْيِ لا الغَيبوبةِ المَعرفية، وتَكتسب شرعيتها مِن الخَلاصِ التاريخي لا الهُرُوبِ مِن الزمن.

2

مَركزيةُ اللغةِ في البناء الاجتماعي ذات طبيعة عابرة للزَّمَنِ، وغَير خاضعة للتَّجنيس المَكَاني، لأنَّ اللغةَ تَدَفُّقٌ مَعرفي مُستمر أُفقيًّا وعَمُوديًّا، وانفجارٌ رَمزي مُتواصل على صعيدِ الألفاظِ والمَعَاني. وشَبَابُ اللغةِ الدائمُ هو الضَّمانةُ الأكيدة لحماية العلاقات الاجتماعية مِن التَّشَيُّؤ (تَحَوُّل العلاقات الشخصية بين الأفراد إلى علاقات آلِيَّة بين الأشياء). وإذا صارَ الفردُ شيئًا هامشيًّا في المُجتمع، وعُنْصُرًا مُغترِبًا عن ذاته ومُحيطه،  فإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيَخرج مِن فلسفة التاريخ، ويَتَشَظَّى بَين الأفكارِ الذهنية والإدراكِ الحِسِّي.وهذا التَّشَظِّي شديد الخُطورة، لأنَّه يُدخِل المُجتمعَ في مَتَاهَةِ رُدُودِ الأفعالِ والمواقفِ الارتجالية، بلا تخطيط ولا تنظيم. وكُلُّ خَلَلٍ في البناء الاجتماعي هو بالضَّرورة خَلَلٌ في مَنطق اللغة الرَّمزي، وإذا غابَ اليقينُ عن العلاقات الاجتماعية،فإنَّ شرعية المُجتمع سَتُصبح وَهْمًا مُكَرَّسًا بِفِعْلِ الأمرِ الواقعِ، ومُعتمِدًا على عوامل مَصلحية مُؤقَّتة، بلا مبادئ عقلانية ذاتية، ولا جُذور تاريخية ضاربة في الأعماق. وكُلُّ شَجرة تعتمد في الثَّبات على غَير جُذورها، سَتَسْقُط معَ هُبُوبِ الرِّياح.

3

لا مَعنى للوَعْيِ خارج عملية التفاعل النَّقْدِي معَ الأنساق الثقافية التَّحَرُّرِيَّةِ لا الفَوْضَوِيَّةِ، ولا قيمة للفِكْرِ خارج نطاق الفِعْلِ الاجتماعي القائم على قُوَّةِ المَنطقِ لا مَنطقِ القُوَّة. وَهَذَان المَبْدَآن يُحَدِّدَان طبيعةَ الحقيقةِ الإنسانية القائمة على العقلانيةِ لا الاضطهادِ، ويُكَوِّنان ماهيَّةَ الواقعِ اليَومي القائم على الاختيار لا الاضطرار، ويَصنعان هُوِيَّةَ الرمزيةِ اللغوية القائمة على التَّمحيصِ لا التَّقديسِ. وهذا يَعْني أنَّ قواعد البناء الاجتماعي هي: الحقيقة الإنسانية، والواقع اليَومي، والرمزية اللغوية. وهذه القواعدُ الثلاث تتبادل الأدوارَ فِيما بَينها، لأنَّ البناءَ الاجتماعي لَيْسَ كُتْلَةً أسْمَنْتِيَّةً أوْ إطارًا حَجَرِيًّا أوْ شكلًا ثابتًا، وإنَّما هو بناءٌ وُجودي يَمتاز بالحركةِ والمُرُونةِ والانطلاقِ، والقُدرةِ على تبديلِ الأنساقِ الثقافية، والقوالبِ الفِكرية، والسِّيَاقاتِ الزمنية، والتجاربِ الحياتية، وتغييرِ زوايا الرُّؤية للأحداثِ اليوميةِ والوقائعِ التاريخيةِ. وكُلُّ بناءٍ اجتماعيٍّ هو بالضَّرورة بُنيةٌ معرفية، وسيظلُّ الوَعْيُ عُنصرًا أساسيًّا في تَكوينِ الفِعْل الاجتماعي في البيئة المُعَاشة، وإعادةِ إنتاج النظام اللغوي لِيَصِيرَ دَليلًا على الحقيقةِ الإنسانيةِ، ودَلالةً على تَجاوزِ الفرد لذاته في رحلته لاكتشافِ وُجُودِه في المُجتمعِ، وَوُجُودِ المُجتمعِ في التَّحَوُّلات الحضاريةِ مَحَلِّيًّا وعالميًّا.

4

الوَعْيُ النَّقْدِيُّ في المُجتمع لَيْسَ نَسَقًا أُحَادِيًّا، وإنَّما هو شَبَكَةٌ مُعَقَّدَةٌ مِن العلاقاتِ الاجتماعيةِ، والمعاييرِ العقلانيةِ، والأنساقِ الثقافية.وهذه الشَّبَكَةُ تُؤَسِّس مناهجَ لُغَوِيَّةً قادرة على تفسير الرابطة بين المعرفةِ والمصلحةِ مِن جِهَة، وبين التاريخِ والسُّلطةِ مِن جِهَة أُخْرَى. وهذا يدلُّ على أنَّ التأويلَ اللغوي هو الحَكَمُ بَين عناصرِ البناء الاجتماعي، والحاكمُ على إفرازاتِ الواقع اليومي، لأنَّ اللغةَ وَحْدَهَا هي القادرة على تخليدِ اللحظة الآنِيَّة، ونَقْلِها عبر مراحل الزمن. وكُلُّ مُجتمعٍ خارج اللغة يُعْتَبَر وَهْمًا لا هُوِيَّة له ولا ماهيَّة، وكُلُّ واقعٍ خارج اللغة يُعْتَبَر فَرَاغًا لا كِيَان له ولا كَينونة، مِمَّا يُشير إلى أنَّ اللغةَ هي المَرجعيةُ الوُجوديةُ التي تُقَدِّمُ الحقيقةَ الإنسانيةَ أوْ تَسْلُبُها، والشَّرعيةُ المعرفيةُ التي تُفَسِّر الفِعْلَ الاجتماعي كَنُقطةِ تَوَازُن بين العقلِ الجَمْعِي والسُّلوكِ الأخلاقي.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

التيه العدمي الذي وضع نيتشة الانسان فيه منذ نهايات القرن السابع عشرفي مقولته الاستفزازية الملغمّة موت الاله أستقبلته البنيوية في أعتمادها مرتكزين الاول أن الانسان كوجود مأزوم قلق ليس من المتاح أنقاذه في المدى المنظور بل ولا أهمية تسترعي الاهتمام به كبؤرة مركزية تدور في فلكها الفلسفة والعلم والمعرفة واللغة والحياة .، بهذا المعنى كان التبشير غير المقصود من نيتشة لما جاءت به مفاهيم فلسفة ما بعد الحداثة.

والمرتكز الثاني هو تطرف فلسفة علوم اللغة واللسانيات كمفهوم مستحدث خارج منظومة الحياة وصناعة التاريخ الحضاري للانسان. مفاده البنية اللغوية نسق تنظيمي مستقل لا علاقة تربطه بما أصطلح تسميته السرديات التاريخية الكبرى من ضمنها سردية الدين والتاريخ وايديولوجيات السياسة والفلسفة التي انجبتها الحداثة في مقدمتها سردية الماركسية ممثلة في كتاب راس المال....

كلا المفهومين الانسان كوجود ومنظومة اللغة بنية مستقلة في إنفصالها عن الانسان والواقع جرى أقصائهما العمد على لسان دي سوسير مخترع لعبة اللغة القائمة على إزدواجية المفهوم الفلسفي وليس أزدواجية المعنى اللغوي التي كانت مفتتح تجربة جديدة في إستقبال الايديولوجيا الفلسفية المستمدة من نيتشة وغادمير في توظيف اللغة كأداة هدم وتقويض لمباحث فلسفية زادت عليه البنيوية تطرفا أسلوب (القوة الناعمة) بالفلسفة اللغوية والتاويل وهو مصطلح يعود نحته لأول مرة لاجتهادنا بضوء هذا الترسيم الفلسفي الذي أرادته البنيوية عسى أن يحظى بمطابقة الإحالة الصحيحة في التقويض البنيوي- التفكيكي لعالم الانسان من دون ارادة الانسان كجوهرفاعل في الطبيعة والحياة.

من الجدير الاشارة الى أن آراء جاتلوب فريجة وفينجشتين في نظرية المعنى وفلسفة اللغة انما جاءتا متأخرتين على بدايات دي سوسير وليفي شتراوس بداية القرن العشرين. فريجة اعتبر لاحقا عدم ربط الفلسفة بالرياضيات وصمة عار مخجلة بحق تاريخ الفلسفة فوضعها امانة في عنق بيرتراند راسل ووايتهيد وجورج مور(يطلق عليهم حلقة اكسفورد) الذين اقتنعوا بالفكرة واشتغلوا على ما اطلقوا عليه الوضعية التجريبية التحليلية المنطقية قوامها تزاوج اللغة والرياضيات والمنطق وخالفهما هذا المسعى جورج مور احد اعضائها وفينجشتين المتاخرفي كتابه الثاني (تحقيقات فلسفية) ..

شتراوس استغرقه بحثه الفلسفي دراسة اقوام ما قبل التاريخ الذين لا تاريخ لهم كونهم لم يعرفوا معنى التدوين(الرسومات اللغوية والكتابة) وما يطلقونه من اصوات تواصلية دالة اكتشفها شتراوس من دراسته اركيولوجيا الحفريات الاثارية. وعلم الاثنولوجيا المصطلح الذي التزمه شتراوس وتم الاجماع عليه انه يعني دراسة تاريخ الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ.

وبهذا الترسيم العدمي البعيد جدا عن إعتماد إيديولوجيا السياسة التي إستهلكت نفسها على هامش نقد الفلسفة الفضفاض إذ لم تعد أيديولوجيا السرديات الكبرى وسيلة هدم وبناء كما هو المرجو منها فأستأثرت الفلسفتان البنيوية - التفكيكية تحديدا ملء فراغ الهدم والتقويض اللغوي دونما البناء في إعتمادهما أسلوب قوة اللغة الناعمة في تنفيذهما المطلوب بانقلاب ابيض.

، وسرعان ما تبنّى أقطاب البنيوية كلا من بارت وفوكو ولاكان وميرلوبونتي والى حد ما على صعيد ما نقصده منطلقات فلسفة اللغة الناعمة في المراجعة والتقويض إنضمام كلا من شتراوس في الانثروبوجيا (اثنولوجيا الاقوام البدائية) تاريخا وكلاما على اعتبار لا اللغة الصوتية الابجدية ولا مدوناتها الاشارية كانت مخترعة قصديا من انسان ذلك العصر السحيق للوصول الى لغة تواصلية تقوم على الصوت بذلك الوقت، وهي حقيقة لا يمكن دحضها. اللغة صوت له معنى.

والتوسير في إستهدافه السردية الماركسية الكبرى الشاخصة في كتاب رأس المال..والمادية التاريخية ومثله فعل ليفي شتراوس وسارتر في هجومه على الماركسية في عمودها الفقري كتاب راس المال أيضا. لكنهم جميعا توصلّوا الى اختلاق ماركسية بلا ماركس وبلا راس المال في هالة من التنظيراللغوي الفارغ المحتوى الذي يقوم على بنية فلسفية تقويضية هدفها الرفض لمتراكمات النص بما هو لغة وليس باسلوب الاختلاف الفلسفي المفهومي.

ورولان بارت وجيل ديلوز على صعيد الادب في مقولتهما موت المؤلف، ولاكان في نقده علم النفس الفرويدي ، وفوكو في أستهدافه كل شيء يطاله بدءا من إلغائه الانسان والعقل وليس انتهاءا بالجنسانية والجنون وسلطة القمع والمنع والسجون..

إذا ما سمحنا لأنفسنا تجاوز المسار الفلسفي المعقد المتشعب لأقطاب البنيوية سنجد أنفسنا نتوقف أمام تداخلاتهم مع أبرز إمتداد فلسفي لتطويرمفهوم علم اللغة واللسانيات في مشروع بول ريكور في فلسفة التاويل الهورمنطيقا الذي يقوم بالاساس الاشتغال على تطوير منحى التاويل البنيوي الذي جاء تتويجه حين وجد ريكور مشروعه التاويلي اللغوي يستثمر أتجاهات الفلسفات الغربية الحديثة جميعا، البنيوية، الوجودية، التاويلية، الماركسية ، العدمية ، ونظرية الثقافة، والتفكيك، والتحليل اللغوي ونظريات علم اللغة، وأخيرا انثروبولوجيا ميتافيزيقا الدين..

يعتبر الآن كلا من ريكور وجاك دريدا رائدا العبث في فلسفة اللغة بتطرف لا معنى له زاد في تجريد الفلسفة تجريدا اضافيا زاد في انغماس الفلسفة باللغة بما هي لغة عمادها نحو وصرف وقواعد وليس كما هو المعلن تصحيح أخطاء تاريخ الفلسفة بوسيلة تصحيح اخطاء معنى اللغة . القضاء على الابستمولوجيا كمبحث مركزي بتاريخ الفلسفة جعل فلسفة اللغة ونظرية المعنى تدخل التيه العدمي الذي لم تستطع الخروج منه لحد اليوم.

وقد أفاد بول ريكور في منهجه البنيوي التأويلي أيضا من ميراث فلاسفة التاويل غادمير، وشلاير ماخر، وأخيرا دلتاي.. كانت التاويلية لعبة ارادت تاصيل فائض المعنى المدخّر في ايجاد نسق كلي خاص في مجانسة لغوية قائمة لوحدها فقط بعيدا عن التكامل المعرفي مع الواقع بل في التوازي مع كل الموجودات والمفاهيم التي ترافق بنية اللغة ولا تقاطعها بشيء يخدم الحياة.

تاولية بول ريكور في البحث عن فائض المعنى المدّخر في متوالية قرائية مستقلة للنص لا غبار عليها يدينها. اما ان تبنيها اللغة تجريد يوازي الحياة ولا يقاطعها فهي بذلك حفرت فلسفة اللغة قبرها بيديها. وتفكيكية جاك دريدا التي ارادت بناء امجاد فلسفية لا يمكن تحقيقيها في ابتداعه ان التقويض والهدم استراتيجية تحكم النص اللغوي بما لا نهاية له في الوصول الى لا معنى يرتبط بمرجعية (ميتافيزيقية) مرفوض سلفا الاحتكام بها. رفض العقل وتحييد اصل النص وترميز الاهتمام بالاطراف والحواشي كل ذلك جعل من حفريات القراءة الجديدة عقيمة فلسفيا.

الإنفصامية المرضية فلسفيا التي وضعت الانسان كوجود مركزي طارد في مأزق الإحتضار السريري التي كانت البنيوية أضطلعت بالمهمّة الكبرى تنفيذه في حقنها ذلك المريض المحتضر(الانسان) كوجود مركزي بالحياة بمصل الموت الرحيم الذي خرج من محنة الحداثة وما بعدها في تقويضهما كل مكتسباته التي حققها له عصر النهضة والانوار والحداثة، نقول عمدت البنيوية تشييئها الانسان الإلغائي كوجود محوري تدور في فلكه كل ماسمّي بالمعارف والعلوم والسرديات الكبرى على ما شابها من قصور لم يكن الانسان مرتكز ذلك القصور كسبب ولكن كان المساهم الاكبر الوحيد الذي ناء بتحميله عواقب ذلك القصور لزمن طويل وصل الى اليوم في إلقائهم عبء العقل القاصر وخيانة المعنى اللغوي (يراجع كتابات فوكو الفلسفية في اعدامه عالمنا الحاضر ومركزية الانسان بهذا الخصوص)... وكلا الافتراضين لا اساس لهما من الصحة.

هذا الإنفصام المرضي الفلسفي الذي تبنته البنيوية بضراوة كان إعتمادها مفهوم الاكتفاء الذاتي في منظومة اللغة الانفصال التام عن الواقع الانساني بغية الوصول الى معرفة حقيقية للعالم على وفق قراءة لغوية بنيوية نسقية جديدة تنقذ اللغة من إحتكار علاقتها بالواقع وإستئثارها التعبير عنه وحدها.. ..

ولم تعد اللغة مرتهنة وظيفيا وسيليا في تجسير فهم الواقع بتعبير اللغة السطحي المعتاد على حد سوق ذرائع البنيوية كفلسفة حضور لمفاهيم ما بعد الحداثة..وهذا الإنفصام جعل من الأنظمة اللغوية في البنيوية وتأويلية بول ريكور وتفكيكية دريدا أنظمة مغلقة على نفسها مكتفية ذاتيا تنطوي ضمنا على جميع العلاقات الممكنة بداخلها، وبالتالي لا يبقى من علاقة ضرورية تجمع اللغة بالعالم الخارجي في تمثّلات اللغة له.

واضح المقصود بالخارج اللغوي هو العالم الواقعي الخارجي للانسان بما هو الحياة في تمثّلات اللغة التعبيرية عنه تداوليا كلام تحاوري مجتمعي.. وليس بالمعنى الفلسفي الذي عّبر عنه دي سوسير أن اللغة تمتلك نظامها الداخلي الخاص بها ولا حاجة للواقع الخارجي التعريف بها ، وكذا الحال معكوسا أن الواقع بكل منظوماته التكوينية له يحقق الكفاية الذاتية بمعزل عن أهمية اللغة الاسهام بهذا التوضيح الاسهامي لمعنى الحياة..

وعندما تبطل وسيلية توظيف اللغة ويجري إنسحابها من ميدانها ألمألوف في مهمة التعبير عن التمثلات الواقعية للعالم الخارجي فهي تكون أنساقا لغوية خاصة بما هي منظومة علائقية تجريدية قائمة داخليا بعالمها الخاص بها خارج مهمتها التعبير عن الواقع ما يرتّب ذلك أن الواقع الانساني الحيوي يكون التعبير عنه بالكلام الشفاهي وليس باللغة المكتوبة التي تكون لوحدها خطابا يبحث في العلاقات النسقية للاشياء بما هي صيرورات لتصورات فلسفية متداخلة متنوعة داخل بناها اللغوية وليس في عالمها الخارجي المرتبط بالانسان الذي أصبح لا يمتلك سوى اللغة في توكيد وجوده الانساني والتي عمدت فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي مصادرة عائديتها الخصائصية بالانسان كوجود نوعي تنتظمه اللغة.. برأيي من الخطأ اختزال الانسان بالخاصية اللغوية فقط لكن يمكننا اختزال الوجود كاملا باللغة كما ذهب له فريدريك سيلارز.

هذه الواقعة المعتمدة بنيويا بموجبها تعتبر نفسها فلسفة نمطية نسقية كليّة من التفكير الجوّاني الذي يعتمل ويتكوّن داخل السيرورة اللغوية بما هي نسق معرفي مستقل له احكام وضوابط خاصة يهتم بعوالمه المخترعة لغويا ولا قيمة للواقع والانسان في علاقة الربط بينهما وبين اللغة...

هذا النمط النسقي اللغوي ( يكون تفكيرا يتخطى جميع الاشتراطات المنهجية، حينها لم تعد اللغة وسيطا بين العقول والاشياء) على حد تعبير ريكور. فقد تم إغتيال الواقع الحياتي ملاذ الانسان الاخيربأستعداء اللغة عليه وركنه جانبا خارج إهتمامات الفلسفة..بعيدا عن كل إشتراط منهجي عقلي مخالف لهذا التوجه المنحرف..

هناك حقيقة متداولة عمرها عشرات القرون هي أن اللغة تفكير العقل المدرك في معرفة الاشياء والتعريف بها، واللغة هي الوسيط التعريفي بين وعي العقل والاشياء في تعالقهما إدراكا معرفيا.. هذا الفهم إعتبرته البنيوية ومن بعدها التفكيكية في إعتمادهما منظومة علوم اللغة واللسانيات والتاويل والتحليل والإحالة والإرجاء مرتكزا فلسفيا في فهم العالم والانسان في عالمه الخارجي لم يعد له تلك القيمة المطلقة التسليم بصحتها وحقيقة الانسان خارج المنظومة اللغوية لاشيء كما هي اللغة من دون الانسان لا معنى لها لا معرفيا ولا فلسفيا.. متناسين حقيقة الانسان وجود انثروبولوجي لغوي لكنه – اي الانسان – لا يمكننا اختزاله كجوهر في البعد الواحد هو اللغة.

هذا التوجه في أخراج الانسان من الحياة والتاريخ قاد مأزق الانسان الوجودي بالحياة الى أكبر منه ، فاللغة هي تجريد علاماتي خطابي في فهم الانسان وعالمه الخارجي، فكيف باللغة عندما تكون في الفلسفة البنيوية والتفكيكية تجريدا مضافا لتفسير تجريد سابق عليه في الإنفصال الفلسفي التام التعبير عن الواقع الانساني والحياة؟ انفصال اللغة عن الحياة كما هو متداول اصبحت نسقا لغويا ادخلت تاريخ الفلسفة في نظرية فائض المعنى وقصور اللغة في متاهة البحث عن معنى كل شيء في وضعه امام علامة استفهام لا تجد اجابة لها.

لوفيدج فنجشتين فيلسوف اللغة المعروف أراد إخراج اللغة من عنق الزجاجة كما يقال الذي هو النفق الذي أدخلته البنيوية ومن بعدها التفكيكية فيه حين أعتبرتا النظام اللغوي المكتفي بصنع عوالمه الذاتية المستقلة كنسق يسير في توازيه مع الواقع المعيش هو منظومة اللغة أو الخطاب الواجب الإهتمام به...

وليس من مهمة هذا الخطاب اللغوي المنعزل عن تفسير العالم الخارجي ومركزية الانسان فيه الذي بشّرت به الحداثة لأكثر من قرن...ولا أهمية يمتلكها إنسان ما بعد الحداثة ليحتكر محورية التفكير بالحياة والوجود والتاريخ فلسفيا وعلميا وسياسيا ايضا....لذا نجد الفلسفة التي انتزع الاميركان سيادتها من الفرنسيين طرقوا ابوابا غريبة على تاريخ الفلسفة في محاولة تعويض الضياع الزمني في عقم وعجز التجديد بمنطق فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى. ونجد هذا في اقتراب الفلسفة من قضايا علم الاجتماع بمثابة النجاة من الغرق.

أمام هذا الفهم الفلسفي البنيوي التهميشي الذي زرع بذرته الاولى فينجشتين في كتيبّه (رسالة منطقية فلسفية) عن قصور فهم وليس عن خطأ متعمّد مقصود حاول تصحيحه لاحقا قبل وفاته لكن تلك الأخطاء التي تضمنتها المخطوطة مهدّت لبروز ظاهرة التطرف اللغوي في البنيوية والتفكيكية من بعده، وأستثمرته البنيوية والتفكيكية والعدمية بعد وفاة فينجشتين إستثمارا سلبيا بشعا حتى بعد طرح فينجشتين في كتيبه الاخير(تحقيقات فلسفية) توضيحات اعتدالية حاول فيها تصحيح أخطائه في رسالته المنطقية الفلسفية...

ويبدو بفضل نقودات عديدة وجهت لمخطوطته الفلسفية الاولى في الرسالة المنطقية تراجع فينجشتين عن معظم طروحاته التي وجدها لم تكن ناضجة وأراد التصحيح في كتابه التالي تحقيقات فلسفية قائلا ما معناه أن تمثّلات اللغة للواقع هو تلك الحيوية الخلاقة التي تبعثها اللغة في جسد ذلك الواقع المعيش في الوقت نفسه التي تكتسب هي- اللغة - حيويتها الحضورية في تطوير نظامها اللغوي بتأثير من الواقع الذي تحكمه الصيرورة الحياتية أيضا كما تحكم الواقع بذات الحين..

وفي حال العجز من تحقيق هذه المهمة فسوف لن يكون للغة معنى يمكن حضوره وعليه يكون صمت اللغة في العجز أجدى وأكثر حيوية من التعبير عن اللامعنى في التشبث بنحو وشكلانية اللغة من حيث هي لغة فقط على حساب إلغاء المضمون الفلسفي المرجو تحقيقه في حل إشكاليات مفاهيم الفلسفة العالقة بوسيلية تعبير اللغة الإلتباسي المعقد وليس حل مشاكل نحو اللغة بما هي تجنيس في الادب على حساب تنحية مفاهيم الفلسفة عن طريق ماسمّي التحول اللغوي كتجديد فلسفي تاريخي .

هذا التحذير الذي نادى فينجشتين به أن اللغة لا تستمد فعاليتها القصوى إلا في صيرورة الحياة وجريانها المجتمعي المتدفق والانسان جزء هام من هذه المنظومة التي هي مصنع الحيوية البشرية للحياة والوجود..والذي تبنته الفلسفة التحليلية الانجليزية في رفضها والتقاطع مع رائد فلسفة التاويل اللغوي بول ريكورالذي هو أمتداد وتطوير منطلقات البنيوية في اللغة قوله ( لم تعد اللغة بوصفها صورة الحياة كما أراد لها فينجشتين ، بل صارت نظاما مكتفيا بذاته يمتلك علاقاته الخاصة به) . وكان سبق لأقطاب البنيوية أن أخرجوا اللغة بوصفها خطابا لا تتحدد مقاصده في تعابير المفردات اللغوية المنفصلة التي لا ينتظمها سياق الجملة وموقعها في بنية النسق الخطابي داخليا..

منطق دي سوسير هو تنحية الكلام عن مهمته واسطة التعامل المتحاور مع الواقع الحياتي، في أزاحته التنافسية عن طريق فهم اللغة أنها منظومة خطاب متكامل مكتف ذاتيا في تصنيعه عوالمه اللغوية، ويرى سوسيرالكلام فرديا تعاقبيا عارضا، أي أنه محاورة مجتمعية من الكلام الشفاهي ، تسمه بصمة فردية المتكلم، والتعاقب الحواري في تنوع المصدر الفرد المتكلم وما يحمله من محمولات الحديث العابر، وهو أي الكلام أخيرا عارض مؤقت زائل لإنتهاء دوره الإستعمالي التوظيفي في التواصل الحواري التخاطبي التداولي مع إنتهاء وتفرّق المتحادثين المشاركين في إنتاجية وإستهلاك الكلام الجماعي في التحاوربينهم.

فالكلام يختلف عن اللغة الصوتية أنه لا يصلح لتدوين مكتوب يلازمه ملازمة تدوين الكتابة اللغوية.بينما تكون اللغة حسب فهمنا عن دي سوسير خطابا تدوينيا ثابتا مكتوبا في الغالب حين يكون نصّا لغويا تعبيريا.. يحكم ذلك الخطاب نسق من العلاقات الداخلية التي تجعل منه بؤرة مركزية ثابتة الفهم والقيمة على المدى البعيد على خلاف الكلام الذي يستهلك نفسه في الشفاهية التحاورية الوقتية الزمنية الزائلة التي يطالها التزامن العرضي..

نعود الآن الى مبتدئات فهمنا معنى الكلمة أو المفردة هو أنها لفظ صوتي مسموع دال وصوري مكتوب خال من المعنى ما لم يكن متضمّنا دلالته المحمولة بمعناه القصدي سلفا، وفي هذا تجد البنيوية تبسيطا مخّلا عندما لا يكون معنى المفردة مستمدا من سياقها المنتظم في جملة نسقية تشي عن عبارة تحمل معنى متكاملا ونجد تعبير ريكور بهذا المعنى (الجملة وحدة الخطاب الاساسية التي تشمل وحدات أكثر تعقيدا، وتعاقب الكلمات بالجملة لا معنى ينتظمها ما لم تكن ضمن وحدة نسقية تحمل الدلالة بلا قطوعات معاني المفردات المنفردة التي هي الجملة .).

هذه المفارقة التي حاولت البنيوية تكريسها إنما وجدت ضالتها في التماهي الهيدجري معها الذي أيّد منطلق أن تكون اللغة أصبحت فلسفيا حقيقتها مكفولة في إنفصالها عن الواقع وتمّثلاته ويؤثر هيدجر ويفضّل (الشاعر – ويقصد به شاعره الاثير هولدرين الذي يمتلك نفس الحفاوة لدى فوكو ايضا – كونه يقول اي هولدرين قبل وبعد جنونه الوجود بلغة الوجود الاصيلة الغريبة علينا على حد اعجاب هيدجر)... هنا الوجود الاصيل الذي يقصده هيدجر هو الذي ينفرد التعبير عنه بمكنة خاصيّة لغة الشاعر التعبير عن (اللاوجود)، أي بمعنى الوجود القائم على تصورات التهويم الخيالي في تفكيك نسق اللغة التداولي الذي يقصي سلطة العقل على المعنى تماما في رقابة اللغة الشاعرية، فيكون بهذا تعبيرالشاعر الشعري عن الوجود الاصيل إنما هو تداعيات الخيال في اللاشعور الذي تتفكك اللغة فيه وتخرج عن نظامها الدلالي المألوف الى حد طغيان اللاشعورفي تعبير اللغة.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

ما نقصده بالثقافة في موضوع بحثنا هذا، هي تلك الأنساق النظريّة في المعرفة، التي اكتسبها الإنسان عبر تاريخ علاقته مع الطبيعة والمجتمع، والثقافة في هذا الاتجاه، هي ثقافة شعوب، وبالتالي هي ثقافات متعددة، تختص بشعوب وحضارات قديمة وحديثة، وكل ثقافة منها لها سماتها وخصائصها التي تميزها عن غيرها. وهذا ما يجعلنا نؤكد، بأن الثقافة اليونانيّة هي تختلف من حيث بنيتها عن الثقافة العربيّة، أو الثقافة العربيّة الإسلاميّة، وهي تختلف بالضرورة عن الثقافة الصينيّة أو الهنديّة أو الفارسيّة أو الأوربيّة. مع تأكيدنا بأن كل ثقافة من هذه الثقافات ليست منعزلة عن غيرها، بل هناك تلاقح ثقافي تم عبر تاريخ الشعوب وعلاقاتها مع بعضها، فالثقافة اليونانيّة تأثرت بالثقافة الشرقيّة ثقافة مصر (الاسكندريّة) وسوريا وبلاد النهرين. والثقافة الأوربيّة تأثرت بالثقافة اليونانيّة والعربيّة الإسلاميّة، والثقافة العربيّة الإسلاميّة تأثرت بالثقافة الهنديّة والفارسيّة واليونانيّة والرومانيّة. وهكذا.

بنية الثقافة العربيّة:

هي في سياقها العام، وخاصة في نسقها العربي "ثقافة عالمة"، حيّة في لغتها وأدبها ودينها وفكرها.(1). وهي متغلغلة في العقل واللاشعور، وفي الفكر والسلوك معاً. وهي بالحتم كانت ولم تزل ثقافة الماضي المجيد الحاضر دائماً في الذاكرة مع كل فخر واعتزاز، وهي من يشكل الملجأ والحصن ضد كل عدو خارجي يحاول النيل من حملتها العرب. وكل ذلك كما يقول "محمد عابد الجابري" يجعل منها في وعينا تراثاً وليس مجرد إرث. وبالتالي هي عنوان حضور السلف في الخلف.

سمات وميزات خطابنا الثقافي العربي في تاريخنا المعاصر:

أولاً: إن البنيّة الثقافيّة العربيّة السائد الان، هي في مجملها اجترار وتكرا للماضي، وإعادة إنتاج للتاريخ الثقافي العربي نفسه بشكل رديئ، وخاصة التاريخ الثقافي الذي ساهمت السلطة بإنتاجه، وليس التاريخ الثقافي المسكوت عنه، وهو التاريخ الثقافي المشبع بالعقلانيّة والتنوير والدعوة إلى العدالة والمساواة وحرية الرأي والموقف. أي الثقافة التي أنتجها التناقض والصراع داخل بنية المجتمع وعلاقات إنتاجه، ومع طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطات الحاكمة المستبدّة التي ولدت بالضرورة نشاط وتوجه فكري مناهض لثقافة الاستبداد والاستلاب وتشيئ الإنسان وتغريبه.

إنه تاريخ الثقافة نفسه الذي كتبه أجدادنا تحت ضغط الصراعات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة التي عاشوها، وفي حدود الإمكانات العلميّة وخاصة المنهجيّة منها التي كانت متوفرة عندهم. لذلك كانت ثقافة السلطة والطائفة والمذهب، أكثر من منها ثقافة الشعب الحر المبدع، والعقل النقدي، والمنطق العقلاني والبرهان. من هذا المنطلق نقول: نحن مازلنا في الحقيقة سجناء الروئ والمفاهيم والمناهج التي اشتغل عليها أجدادنا في الماضي، مما يجرنا دون أن نشعر إلى الانخراط في صراعاتهم ومشاكلهم ومذاهبهم وطوائفهم ومناهج تفكيرهم، وإلى جعل حاضرنا ومستقبلنا مشغولاً بمشاكلهم. فالصراع السني الشيعي لم يزل قائما، وسب عمر وأبو بكر وعثمان لم يزل موجودا، وقصص وأساطير آل البيت في صيغتها الصفويّة لم يزل يتداولها من ينتمي لها مذهبياً أو طائفياً، وكذلك لم تزل أساطير أهل السنة وكراماتهم التي أنتجها العصر المملوكي والعثماني وتكفير المختلف وإخراجه من الفرقة الناجية قائما، وكثيراً ما يمارس عليه حد السيف. والاختلاف بين المذاهب السنيّة لم يزل فاعلاً فهذا شافعي وهذا حنبلي وذاك مالكي أو حنفي أو جعفري.

بتعبير آخر: إن تاريخنا الذي نقرأه اليوم هو تاريخ فرق ومذاهب وطبقات ومقالات وفتن وصراعات دموية، فكتاب: الفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والنحل للشهرستاني ، ومقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري وغيرها الكثير، لازالت تملأ مكتباتنا ونتحاجج بها اليوم لإثبات إيمان أو تكفير المختلف من الأفراد والجماعات.

نعم إن تاريخنا هو تاريخ الاختلاف في الرأي والموقف، وليس تاريخ البناء والتوافق في الرأي والموقف. وإذا كانت حياة القدماء وطريقة تفكيرهم مبررة لهم في عصرهم، ولا مجال للومهم أو انتقادهم اليوم، ولكن اللوم كل اللوم والانتقاد وبأشد صوره يوجه لأبناء عصرنا الذين يتمثلون أو ينقادون بشكل أعمى لثقافة وسلوك سلفنا باستسلام تام، على أن الحقيقة المطلقة قد أعطيت لهم وحدهم، وبالتالي اعتبار كل خروج عن ثقافتهم وطريقة تفكيرهم وسلوكهم، هو بدعة وضلالة.

لا شك أن تاريخ ثقافتنا المعاصرة هو تاريخ فنون وآداب وعلوم طبيعية وفلسفة... الخ. بيد أنها علوم منفصلة عن بعضها. وكل علم منها لا يتفق مع ما قررته ثقافة الماضي من حيث توافقه مع الشرع أو مخالفته، لا مكان له، وهو ليس أكثر من محاولات فرديّة، غالباً ما يكفر حملة هذه الثقافة، إن كان على مستوى الفن أو الفلسفة. لذلك تغيب قضايانا المعاصرة ومشاكلنا في ثقافتنا الراهنة، وتظل ثقافة الماضي ومشاكل عصرها هي من يسطر على السوق الثقافيّة الراهنة. والنتيجة تداخل الأزمنة في وعينا التاريخي الثقافي، مما يفقدنا الحس التاريخي بالزمن وقضاياه التاريخيّة، وجعل ثقافة الماضي تتري أمامنا متزامنة وليس كمراحل متعاقبة.

ثانياً: إن ترابط الأزمنة في ثقافتنا الراهنة، سيؤدي بالضرورة إلى تداخل الأمكنة. أي نستطيع القول: إن تاريخنا الثقافي يرتبط داخل وعينا بالمكان أكثر من ارتباطه بالزمان، فتاريخنا كما يقول الجابري وهو محق في ذلك، هو تاريخ الكوفة والبصرة والحجاز ودمشق وبغداد وقرطبة وفاس والقاهرة والقيروان، مثلما هو تاريخ شخصيات، فقهاء ومتكلمين وخلفاء وسلاطين.. وغيرهم. وهنا يتداخل تماماً الزمان والمكان والشخصيات، وهذا ما يجعل وعينا وثقافتنا تقوم على التراكم وليس على التعاقب، تقوم على الفوضى وليس على النظام.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.............................................

1- الثقافة العالمة: هي برأيي ثقافة تحمل في مضمونها ثقافة النخبة والثقافة الشعبيّة معاً، فثقافة النخبة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو تحتها، والثقافة الشعبيّة التي تحول قسم كبير منها إلى حكم وأمثال وقصص وحكايات وسير ومواقف ذهنيّة وشرعيّة نعيد إنتاجها والتعامل معها في شقيها من باب النقل لا العقل. أي هي ثقافة حازت على الحقيقة المقدسة، وغير قابلة للمراجعة والتعديل أو الإلغاء.

إن الانعطافات التي شهدتها الدراسات الفكرية في القرن العشرين، كانت فلسفة اللغة ثمرة من ثمارها، إذ تمكنت من فرض هيمنتها على الأنساق المعرفية الأخرى، وفي هذا السياق المعرفي لم تكن الأخلاق بمعزل عن الإنعطافات اللغوية التي أحدثها فلاسفة اللغة حيث تركت بصماتها الواضحة على النظرية الأخلاقية، مخلفة وراءها أسئلة جوهرية تمخضت عنها تصورات نقدية للأخلاق شكلت ما يعرف بـ (ما وراء الأخلاق Metaethics-)، ولكن ماذا يعني هذا المفهوم؟ هل له فلسفة خاصة؟ وإن وجدت ما مفاهيمها؟ ما موضوعاتها؟ وما نظرياتها؟

إن (الما وراء) في ما وراء الأخلاق لا تعني تغير Changing أو تحول  Transformed، بل إنها تعني الوقوف وراء الأخلاق إنها بصورة عامة تفكك وتحلل البنى، سعياً للهبوط على أسس الإلزام الخفية. وهي تمثل منعطفاً أخلاقياً بوصفها جزء لا يتجزأ من الفلسفة اللغوية المعاصرة، واللغة تعبر عن هذا الجانب وتمثله فكرياً، على اعتبار أنه أي - ما وراء الأخلاق - تحليل للخطاب الأخلاقي بجوانبه الثلاث (التفكير، والكلام، والفعل)، وهناك عدد بالغ الكثرة من الفلاسفة الغربيين أسسوا لهذا التمييز بين الأخلاق المعيارية وماوراء الأخلاق، بوصفه نقطة إنطلاق لطرح أسئلة متنوعة، مما أسفر عن وضع نظريات منفصلة .

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن اللغة والأخلاق في هذا الميدان ثنائيان يفترض أحدهما الآخر، إذ تمثل اللغة الأساس النظري، وتساهم في تشكيل وعي الانسان في ذاته أولاً وفي العالم ثانياً، أما الأخلاق، ففي بُعدها النظري بالتحديد مثّل اجابات متنوعة قدمها الإنسان العادي والفيلسوف عن السؤال الضارب في القدم في الفكر الأخلاقي (ما الخير؟).

وهذا ما يكشف عن نقطة تقاطع وانعطاف الفلسفة الأخلاقية المعيارية مع فلسفة ما وراء الأخلاق، بوساطة نقطة انعطاف وحيدة هي (اللغة)، وقد لقيت هذه الفلسفة حظها من الدراسة في العقود الأخيرة، فاستثمرت التحليل اللغوي لفهم نصوص الفلسفة الأخلاقية، لذلك بدا من العبث دراسة الأخلاق بموضوعاتها وبمناهجها المألوفة، وبعض فلاسفة اللغة المعنيين بالأخلاق منذ بداية القرن العشرين انعطفوا يتأملون مفاهيم تلك النظريات، وطرحوا تساؤلات مثلت الأسئلة المركزية في اللغة التحليلية التي يمكن تقديمها على شكل أسئلة، وهي :-

1- كيف تؤثر اللغة على التفكير والقول الأخلاقي، وما تداعيات ذلك على السلوك؟

2- ما تداعيات حضور المنعطف اللغوي التحليلي على الأخلاق؟ وبالإمكان تحديد المنعطف التحليلي بأنه مرتكز المنعطفات اللغوية وهذا أولاً، أما ثانياً فأنه ضم أكثر من تيار، ولاسيما أن هذا الحضور ولَّد منعطفاً أخلاقياً مثلته العديد من النظريات الفلسفية .

لم يستعن الفيلسوف الماورائي بوصفه تحليلياً بأدوات الفيلسوف المعياري بوصفه ميتافيزيقياً، إنما سعى الى تحليل التجربة الأخلاقية بوصفها تجربة خاصة ومستقلة بأنماط فريدة من نوعها، وأدواته في ذلك تحليل لغة التجربة في ضمن ممارستها اليومية، وإن لم يستغن عن تحليل الجملة الأخلاقية تركيبياً، وتحليل النصوص الفلسفية تداولياً بمقاربتها إلى الواقع التجريبي، لينسج بثبات لغة الحكم الأخلاقي بعد تحليلها، إذ أن اللغة والوعي بالتجربة الأخلاقية لا ينفكان عن بعضهما البعض، وأعلن فيه عن تهافت البناء الفلسفي الأخلاقي الكلاسيكي انطلاقاً من تحليل صارم للغة وليؤكد تغيير المعنى من خلال لعبتها، بدلاً من ثبات المعنى الذي سيطر على تاريخ الأخلاق، ذلك أن اللغة هي مجموعة اختلافات .

ومن الجدير بالذكر أن الإهتمام بهذا الجانب لم يكن يوماً حكراً على فلاسفة اللغة، ففي كل نظرية أخلاقية بنية خاصه مسؤولة عن تبني مفاهيم خاصه، فيها تحافظ على وحدتها الموضوعية، وبها تبلور مجموعة من الأحكام الأخلاقية، مثلاً نظرية الواجب من مفاهيمها (الالزام، وينبغي)، وقد صاحب هذان المفهومان أحكاماً أخلاقية، ومن خلال تحليل هذه المفاهيم يمكن الإستدلال بوساطتها على القيم الأخلاقية التي يسعى الفلاسفة أن يرسو دعائمها في الفكر .

ومما تجدر الاشارة اليه رغم أن فاتحة ممارسة ما وراء الأخلاق كانت منذ كتاب جورج مور مبادئ الأخلاق من حيث الموضوع، إلا أن آراء فتجنشتين اللغوية الواضحة في الرسالة المنطقية أو في تحقيقات فلسفية مثلت التأسيس المنهجي، وبذلك فتح ميدان ما وراء الأخلاق، سواءٌ أكان بإصراره على أن اللغة هي صورة للعالم، أم على وصف إستعمالها، إلا أنه لم ينتج خطاباً أخلاقياً بمقدار ما ساهم في تشكيل نقد للخطاب الأخلاقي التواصلي، لأن الفعل التواصلي هو مفتاح الأخلاق وهذا يعني من بين ما يعني أن الأخلاق تؤسس على الممارسة الكلامية، ذلك أن المعنى الحقيقي (الكامن) يقف وراء أساليب التواصل، وهو يعني أيضاً أن لغة الأخلاق مجموعة من الأنماط السلوكية المنبثة في المجتمع البشري، لأن اللغة عمل بل هي اتصال (نشط)، لكن لماذا هذا الاهتمام بلغة الأخلاق؟

إن التجربة الأخلاقية بوصفها فناً للعيش تتمظهر بالتنوع المشهود في الأفكار المعبر عنها في قوالب لغوية، وهذا ما يدعم وجود الإهتمام بلغتها، على العكس من لغة الأخلاق التي أنتجها افلاطون في جمهوريته، ففيها وصفاً لمجتمع شمولي، إذ اخترع لغة تتناسب مع ما كان يهدف اليه من إقامة مجتمع طبقي، وترسيم قوى النفس لإحكام السيطرة على عقول الأفراد وبالنتيجة على أفعالهم فأبد صورة الإنسان المثالي، وكلما تشدد الفلاسفة في رسم تلك الصورة زاد الكبت على الحرية الفردية، وهذا ما كان يعنيه لزلي ستيفنسون عندما أشار الى أن الطاغية يصرخ واجب، وحق ليثني الجمهور الغفير لإرادته هذا من جهة .

ومن جهة أخرى هناك الخطاب الأخلاقي الكوني الكانطي، الذي أسس على وحدة الطبيعة البشرية، ولم يؤسس على اختلاف اللغات بين الشعوب، واختلافها وهذا يعني إختلاف التفكير والممارسة، وهو بدوره ينعكس على المواقف الإنسانية المختلفة، والجماعات البشرية ترى في لغتها الأخلاقية تمثيلات لهويتها، وهذا ما أكده الفريد آير عندما قال أن ما ينطبق على اللغة الإنجليزية لا ينطبق على غيره من اللغات، إلا أن هذا القول في ضمنه قولاً آخر وهو أن كل لغة تمتلك حصيلاً من التعبيرات الأخلاقية، فالتنوع اللغوي هو الذي يعطي أشكالاً لا تُعد ولا تحصى للأفعال.

ان الرأي الأخير كان من نتائج تقسيم فلاسفة اللغة للغة ومعناها الى إنفعالية ووصفية، ويبدو أنهم لجأوا الى اللغة الإنفعالية لأن من الأفكار الملحه ليس هناك من لغة أخرى تناسبها. فهناك بون شاسع بين السمات المنطقية للغة وطاقاتها الإنفعالية ومخزونها التعبيري، ونظرية ما وراء الأخلاق هي نظرية في اللغة .

ورب سائل يسأل ما الهدف من ذلك كله؟ والجواب على ذلك إن الهدف من الجهد التحليلي الكشف عن الحقيقة المستترة وراء الأخلاق وهو جهد علاجي أولاً، أما ثانياً لإسدال الستار عن الأوهام التي عاشتها الإنسانية من خلال تمسكها ببنى فكرية غير واضحة. وتجدر الإشارة الى أن التعامل مع المفاهيم الأخلاقية على وفق زيفها ينتج وعياً زائفاً بها، وهذا ما جعل فلاسفة التحليل يعتقدون أن المفاهيم الأخلاقية غير قابلة للتحليل، ولهذا السبب أيضاً أعرض بعضهم عن القيام باعطاء تعريفاً للمفاهيم الأخلاقية، إلا أنهم لامسوا هذه القضية عن بعد عندما وضعوا معايير التواصل اللغوي، وما الأخلاق بالنسبة لهم إلا لغة؟

إن موقفهم اللغوي من الأخلاق كان محيرا، وتمثل في (لو لم يكن للمفاهيم الأخلاقية أية دلالة، فهذا يعني أنه فصل الفكر عن الواقع الأخلاقي)، مما يؤدي إلى غياب الأخلاق عن الواقع، وقد يعكس من جملة ما يعكس غياب الواقع عن الاهتمام، واذا أفلحوا في تجريد المفاهيم الأخلاقية من أي معنى تستعمل فيها اللغة التي تمنع مثول الصور الذهنية، فهذا لن يعط للأفراد امكانية فهم معنى ما يفعلونه، ومن ثمّ لن يستطيعوا تغييره، فالإنسان وإن كان له وعياً أخلاقياً إلا أن هذا الوعي لن يكتمل أن لم يكن مقروناً بفهمه للمعنى، إلا أن الواقع يثبت العكس فالإنسان وان كان له وعياً أخلاقياً إلا أن هذا الوعي ليس مقروناً بفهمه للمعنى، وهذا من نتائج فصل اللغة عن الواقع، فتكون المعاني اعتباطية وليست ذات صلة به. وفي الواقع لم يكن فلاسفة اللغة هم المذنبون في فصل اللغة عن الواقع الأخلاقي بل أن سبب غموض المفاهيم الأخلاقية يعود الى أن فلاسفة الأخلاق استعملوها دون وصلها بالمجال الحقيقي الذي تنتمي إليه .

***

أ. د. نوال طه ياسين - جامعة البصرة

(إن البناءات الاجتماعية لديها القدرة على أن تنتج في داخل ذاتها عناصر الإحلال بالقوة والتغيير)... رالف داهرندورف.

- المقدمة: عمل ماركس على بناء نظريته في المادية التاريخية على أساس جدلي (مادي)، معتمداً على البيانات التاريخية والموضوعية حتى عصره. لكن النظام الرأسمالي شهد تغيرات موضوعية وفكرية بعد وفاة ماركس، هذا إلى جانب ظهور قراءات خاطئة للماركسية نفسها، كما تجلت هذه لدى من أخذوا بالحتمية الاقتصادية.

لذا حاول رالف داهرندورف إلى بناء نظريته المعاصرة حول مفهوم الصراع الاجتماعي بالاعتماد على إعادة قراءة ونقد الأفكار الاجتماعية والاقتصادية التي قدمتها النظرية الماركسية الكلاسيكية، بالإضافة إلى استيعاب التغيرات التي شهدها مجتمع ما بعد الرأسمالي وبالأخص في النصف الثاني من القرن العشرين.

ترى الماركسية أن منشأ الصراع الاجتماعي هو صراع طبقي في المؤسسات الصناعية وذلك بالاعتماد على مقولة ماركس في بيانه الشيوعي (المانيفيستو) عام 1848 (ليس تاريخ المجتمعات سوى صراع طبقي). إلا أن داهرندورف يعتقد بأن الصراع الدائر في وقتنا الحالي ليس صراعاً طبقياً بين طبقة البروليتاريا وطبقة مالكي وسائل الإنتاج كما اعتقد ماركس، حيث أخذ مفهوم الصراع الاجتماعي منحى آخر بناءً على أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته والتغيرات التي لحقت بالمجتمع ما بعد الرأسمالي. من هذا المنطلق يهدف المقال إلى تسليط الضوء على نظرية الصراع الاجتماعي عند رالف داهرندورف من خلال تناول بالدراسة والبحث العناصر التالية:

أولاً - من هو رالف داهرندورف (1929- 2009)؟  هو عالِم اجتماع ألماني - بريطاني، فيلسوف، سياسي، وليبرالي، كان خبيراً بارزاً في شرح وتحليل الانقسامات الطبقية في المجتمع المعاصر. درس الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة، وهو من أبرز منظّري الصراع الاجتماعي المعاصر الذين اهتموا بدراسة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع، كما اهتموا بدراسة ومراجعة ونقد النظرية الماركسية في تفسير الصراع الطبقي، وكان نتاجه الفكري ينصب على أربعة موضوعات أساسية: (الطبقة ونظرية الصراع، نظرية الدور، المجتمع والديمقراطية، التحديث كعملية). أما عن منهجيته ( أي زاوية اقترابه من الواقع الاجتماعي) فهي مزيج من أفكار ماركس وفيبر. من أهم مؤلفاته:

- بعيداً عن اليوتوبيا: نحو إعادة توجيه التحليل السوسيولوجي 1958.

- الصراع الطبقي في المجتمع الصناعي 1959.

- مقالات عن نظرية المجتمع 1968.

- فرص الحياة 1979 وهو آخر كتاب له.

أما فيما يتعلق بحياته السياسية والمهنية، كان عضواً في البرلمان الألماني، ووزير الدولة البرلماني في وزارة الخارجية الألمانية، والمفوض الأوروبي للتجارة، والمفوض الأوروبي للبحوث والعلوم والتعليم، وعضو مجلس اللوردات البريطاني، وعُرف لاحقاً في المملكة المتحدة باسم اللورد داهرندورف.

لقد تأثر داهرندورف كثيراً بالأفكار والمبادئ التي جاء بها ماركس سواءً الاجتماعية منها أو الاقتصادية، وبالأخص التي تتحدث عن الطبقات والصراع الطبقي، ومع ذلك فتأثره لم يكن كلياً وإنما بدرجة نسبية، ويظهر ذلك في عدم اتفاقه معه على أن الصراع ليس محصوراً بين العمال ومالكي وسائل الإنتاج فقط، وإنما هناك أنواع أخرى من الصراع من بينها الذي يحدث بين ذوي البشرة البيضاء والبشرة السوداء (الصراع القائم على التمييز العنصري)، وأيضاً بين الآباء والأبناء داخل الحياة الأسرية (الصراع الأسري)، وبين المدرسين والطلاب في المدارس والجامعات (الصراع المعرفي)... وغيرها. كما يرى أن بعض أفكاره لم تعد تتلاءم مع طبيعة المجتمعات المعاصرة التي عرفت تطوراً كبيراً مقارنة بالوقت الذي كتب فيه ماركس نظريته عن الصراع الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، لم تعد الطبقة العاملة (البروليتاريا) ذات التوجه الواحد والأهداف الواحدة، بل أصبحت هناك مصالح مختلفة ومكانات متعددة لأفراد الطبقة الواحدة، كما أن نظام الملكية لم يعد كما كان في السابق، بل أصبح هناك انفصال للملكية عن الإدارة، وأُخرج الملاك من عملية الإنتاج وبالتالي القضاء على سلطتهم الاستغلالية، وهذا ما سمح بتحسن ظروف الطبقة العاملة الاقتصادية وارتفاع مكانتهم الاجتماعية. إلا أن هذا ليس معناه أن الصراع لم يعد موجوداً أو ليس له قيمة، بل على العكس، فالواقع يثبت أن الصراع الاجتماعي لم يغب يوماً عن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بل أخذ ممارسات ومظاهر مختلفة.

ثانياً- رؤية داهرندورف لمفهوم الصراع الاجتماعي: ينظر مفكرو مدرسة الصراع على العكس من تشديد الوظيفيين على الاستقرار والإجماع الى العالم على أنه في حالة صراع متواصل، ويفترضون أن السلوك الاجتماعي يحسن فهمه في سياق الصراع أو التوتر بين الجماعات المتنافسة، وليس من الضروري أن يكون هذا الصراع عنيفاً إذ يمكنه أن يأخذ شكل المفاوضات العمالية والسياسات الحزبية والتنافس بين الجماعات الدينية والاثنية. وامتداداً لأعمال ماركس بدأ علماء الاجتماع المعاصرون ينظرون الى الصراع لا على أنه مجرد ظاهرة طبقية فحسب، ولكنه جزء من الحياة اليومية في جميع المجتمعات ومن بين هؤلاء العلماء رالف داهرندورف. ومن أهم التصورات الأساسية التي يقوم عليها اتجاه الصراع الاجتماعي عموماً في علم الاجتماع في الجوانب والنقاط التالية

- المصالح هي عناصر هامة للحياة الاجتماعية, وخاصة المصالح الطبقية.

- توجد وتتكون الحياة الاجتماعية من جماعات ذات مصالح مختلفة ومتناقضة ومتصارعة.

- تولد الحياة الاجتماعية بطبيعتها الصراع.

- تتضمن التباينات الاجتماعية أشكالاً مختلفة من القوة.

- الأنساق والنظم الاجتماعية ليست متحدة أو منسجمة.

- تميل الأنساق والنظم الاجتماعية للتغير والتبدل.

- الصراع الاجتماعي هو أداة الطبقة المستغلة لتأكيد ذاتها وحقوقها وتحريرها من الطبقة المستغلة.

يعتقد رالف داهرندورف أن الصراع الاجتماعي يحدث نتيجة لغياب الانسجام والتوازن والنظام والاجماع في محيط اجتماعي معين. ويحدث أيضاً نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية أو كليهما معاً. أما المحيط الاجتماعي المعني بالصراع فيشمل كل الجماعات سواء كانت صغيرة كالجماعات البسيطة أو كبيرة كالعشائر والقبائل والعائلات والتجمعات السكنية في المدن وحتى الشعوب والأمم.

ينطلق داهرندورف في نظريته للمجتمع من نقده للبنائية الوظيفية والنظرية الماركسية معاً، ويعتبرها نظريات مجتمع اليوتوبيا. ويرى ضرورة الخروج عن هذا التحليل الطوباوي الذي ينظر للمجتمع نظرة مثالية مطلقة بحيث كل المؤسسات متضامنة، إلا أنه استخدم نفس أدوات التحليل لكلا النظريتين وحلل بنظرية التكامل ونظرية القهر.

ترى نظرية التكامل أن كل المجتمع متواصل إلى درجة ما وثابت من حيث بناء عناصره المتكاملة، ولكل عنصر وظيفة خاصة بحيث يسهم في دوام المجتمع كنسق، ويعتمد كل بناء اجتماعي وظيفي على نوع من الوفاق بين أعضاءه، وعلى العكس من هذه الأفكار تركز نظرية القهر على أن كل مجتمع عبارة عن موضوع عمليات التغير بوجهة أو بأخرى، والتغير الاجتماعي هذا كل الوجود، ويصور كل مجتمع في كل فترة نوعاً من النزاع أو الصراع ويسهم كل عنصر في عدم تكامل النسق، كما أن كل بناء اجتماعي على وفاق القيم، وإنما يعتمد على قهر بعضها البعض، وقد رأى داهرندورف أن كلتا النظريتين هامتين لفهم المجتمع في اجتماعهما.

من خلال هذا الدمج اقترح داهرندورف نموذجاً للصراع الاجتماعي بدل من النموذج اليوتوبي، حيث حاول أن يضفي نوعاً من الموضوعية على نظريته فاعترف بالصراع كظاهرة اجتماعية طبيعية في كل المجتمعات يمكن أن تكون له وظائف إيجابية تدفع نحو التغير، فهو لا يتصور وجود المجتمع في ضوء مفاهيم التنسيق الوظيفي والتكامل والتناسق والتوازن والتضامن، كما لا يتصور وجود المجتمع في ضوء الصراع الطبقي ذو المضمون الاقتصادي المادي كما زعم ماركس، وإنما ينادي بضرورة إعادة توجيه علم الاجتماع نحو مشكلات التغير والصراع والقهر التي ينطوي عليها البناء الاجتماعي.

حاول داهرندورف في كتابه "الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي" عام 1959 أن يفحص مدى فائدة التحليل الاجتماعي الذي قدمه ماركس في دراسته للمجتمع الرأسمالي إذ ذهب إلى أن: " هذا التحليل يحتاج إلى تعديل عندما يطبقه على المجتمع الصناعي الحديث أو المجتمع ما بعد الرأسمالي، ويرجع ذلك الى أن البناء الاجتماعي لهذا المجتمع قد شهد تغيرات ملحوظة منذ أعمال ماركس مثل: تطور الشركات الصناعية والتجارية ونتيجة للتقدم التكنولوجي، تغير أوضاع العمال في الشركات الصناعية، واختلاف معدلات العمال المهرة وغير المهرة، تطور مفهوم الطبقة الوسطى التي أصبحت تضم ذوي الياقات البيضاء والزرقاء، ارتفاع معدلات الحراك الاجتماعي وبخاصة بين الأجيال...".

ويوضح داهرندورف في تحليله للمجتمع الصناعي الحديث أن الصراع في المجتمع ما بعد الرأسمالي سوف يصبح صراعاً منظماً ويتم بصورة نمطية يمكن التنبؤ به والتحكم أو السيطرة عليه إذا خضع لقواعد محددة ومعروفة. فالصراع يتم ويقع في المحيط السياسي وليس في الميدان الاقتصادي ومن علاقات الملكية لوسائل الإنتاج إلى علاقات السلطة، ومن تعارض المصالح الى استمرار الصراع، ومن الصراع كوسيلة ضرورية للتغير إلى البحث في وظائف الصراع في الكل الاجتماعي.

خلاصة القول، ليس من الضروري أن يكون هذا الصراع الاجتماعي عنيفاً كما هو التنظير الكلاسيكي، إذ يمكنه أن يأخذ شكل المفاوضات العمالية والسياسات الحزبية والتنافس بين الجماعات الدينية والاثنية. وامتداداً لأعمال ماركس بدأ علماء الاجتماع المعاصرون ينظرون إلى الصراع  لا على أنه مجرد ظاهرة طبقية فحسب، ولكنه جزء من الحياة اليومية في جميع المجتمعات ومن بين هؤلاء العلماء رالف داهرندورف، راندال كولينز، لويس كوزر.

ثالثاً- أسس المجتمع ما بعد الرأسمالي: يرى داهرندورف أنه بالرغم من التغيرات والتحديثات التي طرأت على النظام الرأسمالي، والطبقة الرأسمالية، وظهور المجتمع ما بعد الرأسمالي، ونمو الطبقة الوسطى، إلا أن كنظام محافظ على قوته ومحكاً لسيطرته على مصادر الثروة والقوة وأمور الحكم في المجتمع، ويظهر ذلك من خلال وجود حاكم ومحكوم وآمر ومأمور داخل المجتمع، فكما هو معروف أينما وجدت القوة والسيطرة وُجد الخضوع والاستغلال. إن هذه السيطرة والقهر هو ما يجعل من التنظيمات الاجتماعية متسقة، كما أنه هو أيضاً الذي يدفع إلى التمرد والتغيير الاجتماعي لإعادة تقسيم القوة وتمركز السلطة، فالصراع دائماً ما ينشأ بين مواقع السيطرة ومواقع الخضوع. وعليه فالصراع في المجتمع الصناعي يتولد من علاقات السلطة لا من علاقات الإنتاج كما قال ماركس. فإذا كان الصراع عند ماركس اقتصادياً مادياً، فإنه عند داهرندورف سياسي بدرجة أكثر. استناداً إلى الرؤية السابقة يحدد داهرندورف أسس المجتمع الرأسمالي الذي يسميه "مجتمع ما بعد الرأسمالي" في النقاط التالية:

1- يغير كل مجتمع من قيمه ونظمه باستمرار، وقد يكون هذا التغير سريعاً أو تدريجياً عنيفاً أو منظماً شاملاً أو محدوداً، ولكن لا يمكن أن يغيب عن الذهن أبداً أن الأفراد يخلقون تنظيمات ليعيشوا في إطارها سوياً متعاونين، وهي حالة التوازن والنظام.

2- يجب إعادة صياغة المقولات الاجتماعية لتخرج من عالم اليوتوبيا إلى نموذج الصراع، الذي له كفاءة امبيريقية تتمثل في قدرته الكبيرة على دراسة التغير، فالصراع هو القوة الخلاقة التي تصاحب التغير.

3- يتمسك داهرندورف بنموذج الصراع والتوازن، فالمجتمع له وجهان متوازيان: الأول يكشف عن الاستقرار والتآلف والاتفاق العام "التوازن" والوجه الثاني يكشف عن التغير والتحول "الصراع" ومن هنا ليس بمقدورنا - حسب داهرندورف - فهم الواقع بشكل حقيقي إلا إذا وضعنا أيدينا على التفاعل الجدلي بين الثبات والتغير والصراع.

4- لم تعد النظرية الماركسية في الصراع الطبقي تتلاءم مع بناء المجتمعات الصناعية الحديثة، فقد تغير هذا البناء الاجتماعي الرأسمالي عن الوقت الذي كتب فيه ماركس أطروحته.

ومن أهم مظاهر هذا التغير في رأي داهرندورف انفصال الملكية عن الإدارة إضافةً إلى تفتت وحدة الطبقة العاملة فلم يعد كل أفراد البروليتاريا يشغلون مكانة واحدة في المجتمع وهنا يركز داهرندورف على مصطلح "أشباه الجماعات" بدلاً من "الطبقات". ويرى بأن توجهات هذه الجماعات تحدد من خلال حيازة السلطة والاستبعاد منها، وبكلمة واحدة أينما وجدت السلطة فسوف يناضل الناس من أجلها. كما أدى نمو الطبقة الوسطى الجديدة وتطورها من خلال تجمع كبير ونامٍ لمجموعات متباينة أسهمت عملية التصنيع في المجتمع على تكوينها واتساع نطاقها وهي تمثل فئة أكثر مما تعبر عن فكرة الطبقة وذلك في ضوء استخدام ماركس لهذا المفهوم وهي تتكون من العاملين ذوي الياقات البيضاء من أمثال المعلمين والمحاسبين. ومن مظاهر هذه التغيرات أيضاً زيادة فرصة الحراك الاجتماعي والدليل على ذلك الحراك الذي حدث ما بين الأجيال وبين المهن وزادت مسألة التبعية الذاتية حيث يتبع الابن مهنة والده بالأخص في المهن العليا (الطب، السلك الدبلوماسي،...). بالإضافة إلى ذلك استخلص داهرندورف نمو المساواة، حيث إنه يمكن تمييز المجتمع على نحو صحيح في ضوء الصراع بين جماعات المصلحة المتنافسة وقد تصبح الصراعات في مجتمع ما بعد الرأسمالي تنمو على نحو منظم ونمطي ويمكن التنبؤ بها والتحكم فيها، ويشير داهرندورف في ذلك إلى عدم قدرة النظرية الماركسية على تفسير الواقع لأنها تربط ما بين القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبين ملكية وسائل الإنتاج بطريقة فجة، حيث تلعب المتغيرات الاقتصادية العامل الوحيد في عملية الصراع الاجتماعي، وهذا ما جعل داهرندورف يحدد الطبقات الاجتماعية على أنها فئات منظمة أو غير منظمة من الناس يشتركون في مصالح ظاهرة أو كامنة تنشأ عن أوضاعهم في أبنية السلطة التي يجدون فيها أنفسهم ولهذا يعتبر الصراع الطبقي في رأيه مجرد أي صراع بين الجماعات ينشأ عن علاقات السلطة، وزعم داهرندورف أن معظم الناس في المجتمع ليس بالضرورة أن تكون لديهم الرغبة في الانخراط في صراع صناعي، واقتصادي، واجتماعي، وسياسي الذي ينشأ عن مصدر بنائي واحد كما هو الحال في علاقات الملكية (التفاوت الطبقي). وبدلاً من ذلك، أوجدت التغيرات (المذكورة أعلاه) في مجتمع ما بعد الرأسمالي الأساس الذي سوف يستند إليه الوعي الجمعي لجماعات المصلحة، وكذلك المتغيرات التي سوف تحدث من خلالها عملية الصراع الاجتماعي.

وهكذا نجد أن النموذج الذي قدمه داهرندورف يجمع بين عناصر التوازن والاستقرار، وعناصر الصراع والتغير. وبذلك نجده اهتم بالصراع الاجتماعي الذي أهمله أصحاب النظام، وقَبِل بالشكل العام كما تصوره ماركس، ولكنه في الوقت ذاته رفض مضمونه ليقدم مضموناً جديداً استبدل فيه الحتمية الاقتصادية بالحتمية السياسية.

رابعاً- مقولات نظرية الصراع الاجتماعي عند داهرندورف: اهتم داهرندورف بحقيقة مؤداها أن الأبنية الاجتماعية قادرة على أن تنتج من نفسها العناصر التي تديرها أو العناصر التي تغيرها، وتبعاً لذلك حاول تحديد الجماعات والعمليات التي تدخل في أحداث هذه الظاهرة تحديداً نظرياً، وتحليلاً تجريبياً (إمبيريقياً)، وقد حاول أن يصيغ نظرية عامة عن الصراع الاجتماعي مستفيداً من نظرية التكامل ونظرية القهر. وتنحصر تلك المقولات فيما يلي:

- المصالح هي العناصر الأساسية للحياة الاجتماعية.

- تتضمن الحياة الاجتماعية القهر والإغراء والاقناع.

- الحياة الاجتماعية انقسامية بالضرورة.

- الحياة الاجتماعية تولد التعارض والتناقض.

- الحياة الاجتماعية تولد مصالح تتباين في القطاعات المختلفة.

- يتضمن التباين الاجتماعي وجود سلطة.

- الأنساق الاجتماعية مفككة ومملوءة بالتناقضات.

- تتجه الأنساق الاجتماعية إلى التغير (كل مجتمع يظل عرضة بصفة دائمة إلى عملية التغير).

- كل مجتمع هو صيغة من العناصر المستمرة نسبياً.

- كل مجتمع هو صيغة متكاملة من العناصر.

- يسهم كل عنصر من عناصر المجتمع في أداء وظائفه.

- يقوم كل مجتمع على أساس الاتفاق بين أعضاءه.

إذن في ظل هذه الرؤية فإنه من المحال أن يبقى المجتمع جامداً لا يتحرك. لذلك حسب داهرندورف فالنظرية السوسيولوجية ينبغي أن تنقسم إلى قسمين:

- نظرية الصراع: وهذه النظرية تهتم بدراسة صراعات المصالح وأشكال القهر التي تحافظ على  سلامة المجتمع.

- نظرية الوفاق: وهذه تركز على دراسة الدمج في المجتمع مثل النظرية الوظيفية البنائية.

وهكذا يعترف داهرندورف أن المجتمع لا يمكن أن يوجد بدون وجود الصراع والوفاق معاً واللذين يكملان بعضهما البعض. ولأن الصراع يحدث في المجتمع الذي يسوده الاتفاق في جميع أجزائه، فإن الصراع أيضاً يحدث طالما يولد الحاجة إلى الوفاق. لذلك ينبغي بناء النظرية السوسيولوجية على مبدأين: (مبدأ الصراع، مبدأ الوفاق) هذا يعني حسب النظرية الصراعية أن لن يكون هناك وجود لأي مجتمع بدون حضور المبدأين الضروريين لبعضهما البعض. فالمجتمع الذي يسوده الاتفاق بين أجزائه يحدث فيه صراع بين أجزائه والعكس صحيح، فالصراع يؤدي إلى الاتفاق فيما بين أجزائه مثل الأسرة.

خامساً- آلية حدوث الصراع الاجتماعي عند داهرندورف: ينطلق داهرندورف في فهمه لمفهوم الصراع الاجتماعي من مفهوم السلطة الذي يعني احتمال طاعة أشخاص معينين لقائد جماعة معينة، فشير إلى أن المجتمع في الغالب يتألف من جماعتين متضادتين إحداها مسيطرة وأخرى خاضعة يحدث عادةً صراع بينهما نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول كيفية تقسيم الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية. وأيضاً لوجود "ما يسمى بـ " الرموز الثقافية " وهو نوع من الأسباب التي تؤدي إلى انسجام بين البشر أو إلى خصام، والخصام في هذا السياق قد يتجلى في الاختلاف على مفهوم السلطة المادية. فمن له الحق السلطة وتملكها؟ ولماذا؟ هو سؤال يسمح بنشوب صراع. أما من وجهة نظر ماركسية فإن قضية العدالة الاجتماعية تعد متغيراً بنيوياً في إثارة الصراعات الاجتماعية طالما أن هناك توزيع غير عادل للثروة. بمعنى آخر، سعى داهرندورف إلى بناء رؤيته لمفهوم الصراع على أساس نظرية القهر التي تفترض وجود التغير الاجتماعي والصراع الاجتماعي والقهر، (ومساهمة كل عنصر في المجتمع في تفككه وتغيره). وتعتبر هذه الافتراضات هي أسس الصراع الاجتماعي.

وباعتراف داهرندورف بهذا التوصيف عن الحقيقة الاجتماعية، يرى أن الاتحادات مجبرة على التعاون إذ أن تعاونها يحدث تحت وطأة الأوامر. وهو يعني بذلك أن أعضاء هذه الاتحادات يشكلون منظمات رسمية ومن ثم فهم خاضعون لعلاقات السلطة. والعوامل الفاعلة في بناء هذه الاتحادات هي تجمعات من المراكز (السيادة والخضوع). وهو يعني بذلك أن جماعة تملك السلطة فهي تأمر وجماعة أخرى لا تملك سلطة فهي مأمورة وبالتالي (مقهورة).

ويرى داهرندورف أن كل تجمع من هذه التجمعات يمتلك مصالح كامنة مشتركة، بمعنى أن كل جماعة لديها توجيهات لا شعورية منغرسة في أوضاع اجتماعية معينة والتي تمثل الأسس لشبه جماعات (أي جماعات غير منظمة يشارك أعضاؤها في مصالح مشتركة كامنة). وهذه المصالح الكامنة قد تفصح عن نفسها في شكل مصالح ظاهرة، بمعنى تحوّل المصالح اللاشعورية إلى اتجاهات واعية شعورية، والتي تتعارض مع مصالح الاتحادات الأخرى، ومن تصبح شبه الجماعات طبقات اجتماعية.

ويعني داهرندورف أن الاتحادات تشترك في مصالح ظاهرة وكامنة ولها علاقة ببناء السلطة في الاتحادات المتعاونة بالأمر. وإن الإفصاح عن المصالح يعتمد على وجود عدد من العوامل المعينة: ظروف التنظيم، والظروف الفنية ويعني بها هيئة التنظيم وإجراءات التنظيم. والظروف السياسية ويعني بها الحرية والتحزب أو التعصب، والظروف الاجتماعية ويعني بها اندماج أدوار المصالح – أي مدى تشرب أعضاء الجماعة لأدوارها. كما أن وجود الظروف السابقة يتوقف عليه كثافة و حدّة الصراع الطبقي الناتج، ويعني مدى اكتمال وجودها أو أنها ما زالت في طور التكوين، ويعني المدى الذي فيه صراع الطبقات والجماعات قد ظهر على السطح. ومدى توزيع السلطة والمكافآت، ومدى انفتاح النسق الطبقي.

ويتوقف انفجار الصراع الطبقي وعنفه على مدى تواجد الظروف (التنظيم، الفنية، السياسية، الاجتماعية والنفسية)، وإلى مدى تحول الحرمان المطلق للحرمان النسبي ويعني بها تحرر أعضاء الجماعة أو الطبقة من الإذعان والخضوع المطلق وتحولهم الى خضوع نسبي، وكذلك يتوقف الانفجار والعنف على المدى الذي وصل إليه ترتيب وتنظيم الصراع.

وهكذا يمكن القول إن داهرندورف أخذ بنظرية القهر، واعتبر أن جماعات المجتمع تتعاون ويتم بناؤها مجبرة على ذلك بواسطة المصالح الكامنة. وتحت ظل ظروف اجتماعية معينة تفصح هذه المصالح الكامنة عن نفسها في شكل مصالح ظاهرة تتعارض هذه المصالح بعضها مع البعض الآخر مما يؤدي إلى الصراع الطبقي، ويتوقف كل ذلك على كثافة وعنف هذا الصراع على ظروف موقفيه معينة. وبما أن المجتمع ما هو إلا عبارة عن مجموعة من الاتحادات المتنافسة والمتعاونة إجبارياً والتي تبنيها المصالح ويحيط بها ظروف اجتماعية. فإن مثل هذا المجتمع يصبح مجهزاً بمنبع للديناميكية والتغير الاجتماعي المستمر.

ويلاحظ أن محاولة داهرندورف لتركيب أفكار كل من ماركس وفيبر تعتبر وصلة هامة بين نظريات الصراع ونظريات السلوكيين الاجتماعيين، وخاصة أنها أيضاً تتعامل مع مواضيع التناقض بين هاتين النظريتين. ولقد حاول في نظريته تفسير ضرورة ولا ضرورة الصراع الطبقي، وانبعاث وعدم انبعاث الصراع الطبقي، وتلك كانت دراسة محكمة توضح مدى تعقد الصراع في المجتمع الصناعي.3239 الصراع الاجتماعي

الشكل رقم (1) يبين آلية عمل الصراع الاجتماعي عند داهرندورف بين الجماعة المسيطرة والجماعة الخاضعة لها

وفي النهاية نجد أن الصراع سمة مميزة للحياة الاجتماعية، يحدث نتيجة تعارض المصالح بين طرفين أو أكثر، كما أنه يتخذ أشكالاً مختلفة، بحيث إننا نجد الصراع الطبقي عند كارل ماركس الذي يعتبر في جوهره صراع بين من يملكون وسائل الإنتاج وبين من لا يملكونها. ولمعرفة النتائج والاتجاه الذي سينتهي إليه والعلاقات الجديدة التي ستنشأ من جرائه، يكفي اكتشاف العلاقات والقوانين التي تتحكم فيه، وهذا ما تسعى الماركسية للوصول إليه. لقد ركز رالف داهرندورف في رؤيته لمفهوم الصراع باعتباره حالة مستمرة ومتواصلة بين الطبقات والأفراد التي ستؤدي لا محالة إلى حالة دائمة من التغيير الاجتماعي، إلا أن هذا لا يمنع وجود فترات يسود فيها نوع من الوئام والوفاق التي تضمن بعض الاستقرار الاجتماعي. فإذا سلمنا بوجود مجتمع دائم الثبات والاستقرار، فإننا نقع في اليوتوبيا. وأيضاً وجود مجتمع دائم الصراع والتغير معناه مجتمع متهالك ومحطم وفاقد للقيم.

خلاصة القول، قدم داهرندورف تفسيراً للعلاقة الوثيقة والمستمرة بين القوة، والسلطة، والصراع، كما سعى إلى تقديم نظرية متماسكة حول تشكل جماعة الصراع، والتي تعطينا نقطة بدء جيدة لإيضاح أهداف الناس وتحديد التعارضات المحتملة. ويصف داهرندورف عدداً من العوامل الهامة التي تخلق أيضاً جماعات الصراع المتحرك وتكثف الصراع وتجعله شديداً، أو بشكل مماثل، تقود إلى اختزال الصراع الاجتماعي. وعلى الرغم من ذلك، فإن نظريته حول حراك جماعة الصراع تفشل في إيضاح ما يجعل الناس مدركين لأنفسهم كجماعة لها مصالح عامة ومظالم عامة، إن الانتقال الحاسم مما وصفه ماركس " طبقة في ذاتها " إلى " طبقة من أجل ذاتها " مسار جدل بين منظري الصراع، وحتى منظري الاختيار العقلاني حول صياغة آلية هذا الانتقال، ولا يوجد مُنظر حتى الآن يقدم إجابة مقنعة تامة، ربما لأن متغيرات سوسيولوجية ومتغيرات سيكولوجية قصيرة المدى وبعيدة المدى تنخرط في هذه العملية. كما تنحصر الانتقادات الموجهة لنظرية داهرندورف بشكل أساسي بأن تعاريفه لمفاهيمه الرئيسية المتعلقة بالطبقة والصراع غير واضحة، باعتراف داهرندورف هو نفسه الذي يرى بأن نظريته في الصراع وأن كانت حديثة إلا أنها غير كاملة وتحتاج إلى مزيد من التطبيقات والتدقيق.

*** 

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

......................

- المراجع المعتمدة:

1- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.

2- محمد عبد الكريم الحوراني: تأويل الاستغلال في نظرية علم الاجتماع – العناصر التكميلية لنظرية سوسيولوجية في الاستغلال، مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2010- 2011.

3- علي ليلة: النظرية الاجتماعية الحديثة (الأنساق الكلاسيكية)، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الثالث، بدون تاريخ.

5- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008. 

6- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.

7- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999.

8- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978.

9- إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة – دراسة تحليلية في النظرية الاجتماعية المعاصرة، دار وائل للنشر، عمان، ط3، 2015.

10- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019.

11- فيصل زيات، محمد مخطار ديدويش: نظرية الصراع الاجتماعي (من منطق كارل ماركس إلى منطق داهرندورف)، مجلة دراسات في علوم الإنسان والمجتمع، جامعة جيجل، الجزائر، المجلد: 02، العدد: 01، مارس 2019.

12- إبراهيم عيسى عثمان: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2008.

كتب استاذ الفضاء البلجيكي توماس هيرتوج عن زميله العالِم المعاق ستيفن هاوكنك وكيف عملا معا لأجل تطوير "نظرية كوانتمية جديدة عن الانفجار العظيم بغ بانغ" عام 1998(1). ما بدأ كمشروع رسالة دكتوراه تطوّر على مدى عشرين عاما من التعاون المكثف لينتهي بوفاة العالِم البريطاني هاوكنك في 14 مارس عام 2018. اللغز في بحثهما طوال تلك الفترة كان: كيف أمكن للانفجار العظيم خلق ظروف مثالية جدا لنشوء الحياة. جوابهما نُشر في كتاب جديد بعنوان (أصل الزمن: النظرية النهائية لستيفن هاوكنك).

الأسئلة حول الأصل النهائي للكون وضعت الفيزياء في موقف غير مريح. غير ان هذا بالضبط ما غامر به العالم البريطاني هاوكنك. الأمل بفك لغز الكون قاد هاوكنك الى المزيد من البحث في الكوزمولوجي او (علم الكون). شعارهُ كان "إعمل أشياءً يخاف منها الآخرون".

يقول توماس ان سعيهما العلمي المشترك يعني انهما اقتربا جدا. كونك قريب منه يجعلك تتأثر بتصميمه وتفاؤله بأمكانية معالجة الأسئلة المحيرة. يقول: هو جعلهُ يشعر كما لو كانا يكتبان قصة خلقهما الخاصة، وهو ما قاما به فعلا.

في السابق كان الإعتقاد ان تصميم الكون يشير الى ضرورة وجود مصمم – او إله. اليوم، يشير العلماء بدلا من ذلك الى قوانين الفيزياء. هذه القوانين لها عدد من الخصائص المدهشة المنتجة للحياة. انظر الى كمية المادة والطاقة في الكون، تجد هناك نسبة دقيقة من القوى، او عدد من الأبعاد المكانية. الفيزيائيون اكتشفوا انك لو تغيّر قليلا في هذه الصفات ،ستجعل الكون غير قابل للحياة. الشعور تقريبا كما لو كان الكون مرتّب – حتى مع حجمه الكبير.

ولكن من أين جاءت قوانين الفيزياء؟ بدءاً من اينشتاين وحتى هاوكنك في عمله المبكر، اعتبر معظم فيزيائيو القرن العشرين ان العلاقات الرياضية هي التي تؤطر القوانين الفيزيائية كحقائق أبدية. حسب هذه الرؤية، يكون التصميم الظاهر للكون هو مسألة ضرورة رياضية. الكون هو الطريقة التي يجب ان يكون عليها لأن الطبيعة ليس لها خيار آخر غير ذلك.

وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، برز توضيح مختلف. وهو اننا نعيش في كون متعدد، او فضاء هائل يفرز خليطا من الاكوان، كل واحد له نوعه الخاص من الفيزياء والانفجار العظيم. سيكون من المنطقي إحصائيا لبعض هذه الأكوان ان تكون صديقة للحياة.

غير ان هذه التأملات في تعدد الأكوان وقعت حالا في  مفارقات دائرية ولم تكن لها تنبؤات ذات موثوقية بحيث يمكن التحقق منها.

إعادة نظر جذرية في علم الكون

هل يمكننا العمل بشكل أفضل؟ نعم يقول العالمان هاوكنك وزميله، ولكن فقط عبر التخلي عن فكرة متأصلة في علم الكون المتعدد بان نظرياتنا الفيزيائية يمكنها ان تتبنّى نظرة الهية كما لو انها تقف خارج الكون الكلي. من الواضح انها مسألة تيليلوجية (غائية). نظرية الكون يجب ان توضح حقيقة اننا نوجد ضمن الكون لا خارجه. "نحن لسنا ملائكة ننظر الى الكون من الخارج"، يقول هاوكنك لزميله. "نظرياتنا لا تنفصل عنا ابدا ".

يقول توماس انهما انطلقنا لإعادة التفكير بعلم الكون من منظور المراقب. هذا تطلّب تبنّي القواعد الغريبة لميكانيكا الكوانتم التي تحكم العالم الجزئي للجزيئات والذرات. طبقا لميكانيكا الكوانتم، يمكن للجزيئات ان تكون في عدة أماكن في وقت واحد – وهي الخاصية التي تسمى بالتراكب superposition(حيث يسمح النظام الكوانتمي بوجود الجسيم في اكثر من موقع في وقت واحد مادام لم يتم قياسه بعد). فقط عندما يُلاحظ الجسيم يكون التقط (عشوائيا) مكانا محددا. ميكانيكا الكوانتم ايضا تستلزم تقلبات وقفزات عشوائية، مثل ظهور الجزيئات من مكان فارغ ثم اختفائها مرة اخرى.

لذلك، يبرز في الكون الكوانتمي ماضي ومستقبل محسوس من سديم الإحتمالات عبر عملية مستمرة للملاحظة. هذه الملاحظات الكوانتمية لاتحتاج الانسان لتنفيذها. البيئة او حتى الجزيء الواحد يمكن ان "يلاحظ". هناك عدد لامتناهي من أفعال الملاحظة الكوانتمية تحوّل باستمرار ما يمكن ان يحدث الى ما يحدث فعلا، وبالتالي تسحب الكون بقوة راسخة نحو الوجود. وحالما تتم ملاحظة شيء ما، فان جميع الإحتمالات الاخرى تصبح غير ملائمة.

العالمان اكتشفا بانه عند النظر رجوعا الى المراحل المبكرة للكون وبعدسة كوانتمية، يجدون هناك مستوى عميق من التطور تتغير فيه حتى قوانين الفيزياء  وتتطور في تزامن مع اتخاذ الكون لشكله. وما هو اكثر من ذلك، ان ما بعد التطور هذا meta evolution (تطبيق مفاهيم تطورية على انظمة غير حية) يتخذ نكهة دارونية. التغيرات تدخل للعملية لأن قفزات الكوانتم العشوائية تخلق باستمرار رحيلا مؤقتا عن ما هو اكثر احتمالا. الاختيار يدخل اللعبة لأن بعض تلك السفرات يمكن ان تتضخم وتتجمد بفضل الملاحظة الكوانتمية. التداخل بين هذه القوى المتنافسة – التغاير والاختيار – في الكون المبكر أنتج شجرة متفرعة من القوانين الفيزيائية.

المحصلة من ذلك هي مراجعة عميقة لأساسيات علم الكون. علماء الكون عادة يبدأون بافتراض قوانين وظروف أولية وُجدت في وقت الانفجار الكبير، ثم ينظرون كيف تطور منها كوننا الحالي. لكننا نفترض ان تلك القوانين ذاتها هي نتيجة للتطور. أبعاد، وقوى، وجزيئات تتولى التحوّل والتنوّع في فرن الانفجار الكبير – بطريقة ما مشابهة لبروز الانواع البايولوجية بعد مليارات السنين لتكتسب شكلها الفعال بمرور الزمن. كذلك، العشوائية المتجسدة في العملية تعني ان محصلة هذا التطور – مجموعة معينة من قوانين الفيزياء التي تجعل كوننا على ما هو عليه - يمكن فهمها فقط بأثر رجعي.

بمعنى ما، الكون المبكر كان تراكبا لعدد هائل من العوالم الممكنة. لكننا ننظر الى الكون اليوم في وقت يوجد فيه البشر والمجرات والكواكب . هذا يعني اننا نرى التاريخ الذي يقود الى تطورنا. نحن نلاحظ حدوداً مع "قيم محظوظة". لكننا نخطيء في الافتراض انها صُممت او هي دائما كذلك.

مشكلة الزمن

يقول توماس ان جوهر فرضيتنا هي اننا عند التفكير بأثر رجعي في الزمن، فان التطور يستمر نحو مزيد من البساطة وأقل بنية على طول الطريق. وبالنهاية، حتى الزمن ومعه قوانين الفيزياء ستتلاشى. هذه الرؤية خصيصا وُلدت من الصورة الثلاثية الأبعاد لنظريتنا. "المبدأ الثلاثي الأبعاد" يتنبأ بانه مثلما الصورة الثلاثية الأبعاد تبدو لها ثلاثة أبعاد عندما هي في الحقيقة تُشفّر في بعدين فقط، كذلك تطور كامل الكون هو مشفّر على سطح مجرد وبلا زمن.

الكاتب وهاوكنك ينظران الى الزمن والسببية كـ "صفات ناشئة"،ليس لها وجود سابق وانما تظهر من التفاعلات بين جزيئات كمية لامتناهية. انها تشبه الى حد ما الحرارة عندما تبرز من عدة ذرات تتحرك مجتمعة، حتى عندما لا تمتلك أي ذرة منفردة للحرارة.

عند المغامرة رجوعا في الزمن، وأخذ نظرة ضبابية مختزلة لسطح ثلاثي الأبعاد، سنفقد بالنهاية  كل المعلومات المشفرة في ذلك السطح. هذا سيكون أصل الزمن – الانفجار الكبير.

يقول الكاتب انهما درسا أصل الكون مقابل اساس مستقر لقوانين الطبيعة الثابتة. لكن نظريتهما تقرأ تاريخ الكون من الداخل أي  يتضمن في مراحله المبكرة أصل القوانين الفيزيائية. انها ليست القوانين بحد ذاتها وانما قدرتها على التغيير هي الكلمة الأخيرة.

ملاحظات المستقبل الكونية قد تجد دليلا على هذا. على سبيل المثال، ملاحظات دقيقة لتموجات موجات الجاذبية في نسيج الزمكان  قد تكشف بصمة بعض الفروع المبكرة للكون. لو تم تحديدها، فان ملاحظات هاوكنك الكوزمولوجية النهائية قد تثبت انها أعظم موروث علمي.

***

حاتم حميد محسن

..................................

الهوامش

(1) القصة نشرها بروفيسور الفيزياء توماس هيرتوج  Thomas Hertog الاستاذ في جامعة كيو لوفين في the conversation بتاريخ 10 مايو 2023.

لايُعد التشاؤم الفلسفي كله كآبة ويأس، انه حول توضيح ومواجهة أصل المعاناة الانسانية ووجودها الدائم بيننا. في مجتمع اليوم، الشعور بالسعادة والتفاؤل هو تعبير عن مواقف ضمنية تحكم الأفعال والعقائد بين الناس وبطريقة مقبولة والذي بدوره يؤثر سلبا على الطريقة التي نعيش بها وعلى الخيارات التي أمامنا. بعض علماء النفس أشاروا الى الطريقة التي تطورت بها السعادة الى صناعة. هذا بالتالي، خلق ما نسميه "إلزامية السعادة" happiness imperative، وهو الهدف الذي يجب ان نسعى اليه جميعا. غير ان هذا في الحقيقة يشكل عقبة أمام السعادة. ذلك اننا اذا اردنا حقا ان نعيش حياة أفضل فان التشاؤم هو النظام الفلسفي الملائم الذي يساعدنا في تحقيق ذلك.

وبينما تشير نزعة التشاؤم بالمعنى السايكولوجي الى التركيز على النتائج السيئة، فان التشاؤم الفلسفي هو في الأساس ليس حول النتائج. بدلا من ذلك، انه نظام يدعو لتوضيح أصل المعاناة وانتشارها ووجودها الدائم. وحتى لو نتبنّى موقفا بهيجا وايجابيا تجاه الحياة (وبالتالي لا يجعلنا متشائمين نفسيا) فنحن لا نزال متشائمين فلسفيا لأننا نستمر بالإعتقاد ان الوجود بشكل عام مليء بالمعاناة.

التركيز على القلق

الفيلسوف الفرنسي جين بول سارتر يُنظر اليه أحيانا كفيلسوف كئيب يتعامل بقلق وجودي مع موضوعات كئيبة و مظلمة. هو ايضا ارتبط بالتشاؤمية لكن هذا نتيجة لسوء الفهم له. في عام 1945 أراد سارتر ان يزيل هذا الانطباع الخاطئ. وفي محاضرة عامة سميت "الوجودية كأنسانية" جادل بان الوجودية التي تُفهم بشكل صحيح هي فلسفة حول الحرية - تفترض المسؤولية عن خياراتنا التي نخلقها للحياة. نحن احرار او بعبارة وجودية نحن محكوم علينا ان نكون احرارا.

اعتقد سارتر اننا ليس لدينا جوهر، ولذلك يجب ان نخلق ونبني جوهرا لأنفسنا. واذا كان هذا يسبب الشعور بالقلق واليأس لدى البعض، فهو لايحتاج ان يكون محلا للتركيز.

العطف على الكائن البشري

وكما في حالة الوجودية، اليأس والقلق ليسا بالضرورة مظهران معرّفان للتشاؤم الفلسفي. التشاؤمية لها تاريخ طويل في الفلسفة يعود الى اليونان القديمة. الاسطورة اليونانية القديمة تخبرنا ان ساتير سيلنوس Satyr Silenus كشف للملك ميداس ان أعظم شيء يأمله الانسان هو ان لا يكون قد وُلد والشيء الثاني الأفضل هو الموت مبكرا.

لكن الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر آرثر شوبنهاور اعتُبر اول كاتب غربي حديث تعامل منهجيا مع التشاؤمية في أعماله. تشاؤمية شوبنهاور الفلسفية تتحفز بالعطف والاهتمام  بكل الناس، تعاطف شوبنهاور يمتد لكل الكائنات الحية وليس فقط الانسان. هذا يشكل واحدا من الاختلافات الهامة عن الوجودية.

إدانة الوجود

في تشاؤمية شوبنهاو، نجد إدانة واضحة للوجود. وكما أعلن ان "العمل، القلق، الكدح، والضيق هي في الحقيقة مصير معظم البشر طوال حياتهم"، و "يمكن للمرء ايضا ان يتصور حياتنا كحلقة مزعجة عديمة الفائدة في هدوء العدم". وهو يقول ايضا "العالم ببساطة هو جحيم، وان كل الناس من جهة هم أرواحه المعذبة وهم شياطينه من جهة اخرى". وبالنتيجة، يرى شوبنهاور ان عدم الوجود أفضل من الوجود. هذا يعني في ظل خيار الوجود او اللاوجود، يكون عدم الوجود هو أفضل خيار. في هذا هو يردد صدى سيلينوس وهذا هو الشيء الهام،  طالما نحن هنا، فان أفضل شيء يمكننا القيام به هو تبنّي موقف حياة يجعلنا بعيدين عن الرغبات والحاجات. انه من مصلحتنا التوقف عن ملاحقة الأشياء بما في ذلك السعادة.

لا لتحطيم الحياة

لم يدعو شوبنهاور ولا أي فيلسوف تشاؤمي آخر الى إنهاء الحياة او إتخاذ خطوات محطمة للحياة كما يعتقد البعض خطئاً. في النهاية، تشاؤمية شوبنهاور تعتمد كليا على رؤى ميتافيزيقية حول طبيعة الوجود ذاته – الجوهر الذي يسميه الإرادة.

يكفي هنا فهم الإرادة كنوع من القوة تؤطر الظروف وتحفز كل شيء ليوجد. وبالنتيجة، كل شيء يوجد ليريد ويرغب بلا نهاية ولن يحصل أبدا على أي قناعة دائمة.

الجانب المضيء

بالنظر الى ان العالم الذي نعيش فيه يجبرنا للتعامل مع الأوبئة والمشاكل الاقتصادية والحروب وتقلبات المناخ ذلك يبدو شعورا طاغيا باننا يُفترض ان نكون سعداء. ومن غير الواقعي الاعتقاد اننا يجب دائما ان ننظر الى الجانب المشرق من الأحداث. وحتى لو نختار هذا، لايزال الأمر كذلك، طبقا للتشاؤمية، نحن نوجد لنريد ونرغب بلا نهاية. وفي ضوء هذا، تصبح السعادة في تصادم مع جوهر الوجود (رغبة شوبنهاور) لأن القناعة غير ممكنة. ولذلك فان التوقعات في ان نكون سعداء، تصبح صراعا ضد طبيعة الحياة ذاتها. هذا يفسر لماذا تصبح الإيجابية سامة عندما يتوقع المجتمع منا ان نكون سعداء ويلومنا لو لم نكن كذلك. لو وجدنا أنفسنا غير قادرين على العيش بسعادة، سنشعر بعدم الكفاية وبما يشبه الفشل.

التشاؤمية يمكنها ان تقدم لنا اداة لفهم جيد لمكاننا في الوجود. انها تساعدنا للانسجام مع الفكرة التي تؤكد ان رفض الملاحقة المستمرة للسعادة هي الموقف الصحيح والمعقول.

***

حاتم حميد محسن

يبدو لدى غالبية الفلاسفة الغربيين والعرب مثل هذه العنونة غريبة على الفلسفة الغربية المعاصرة مفتعلة على احسن الفروض, فالفلسفة تجريد إفصاحي لغوي نوعي إجناسي متفرد نخبوي يختلف عن الاجناس الادبية مثل الشعر والقصة والرواية والمسرح والفنون التشكيلية. وتختلف الفلسفة عن التجربة العلمية والعملية وتطبيق الايديولوجيا بكافة ما يطلق عليه السرديات الكبرى. في الوصاية على تاريخ الانسان والحياة.

الفلسفة ليست نصا ثقافيا ادبيا تجنيسيا يتقبل (ثيمة) الالتزام علما ان الفيلسوف الفرنسي الشهيرسارتر طرح مثل هذا التساؤل في كتابه ما الادب؟ ومثله فعل هنري برجسون. نال سارتر جائزة نوبل بالادب وليس بالفلسفة ورفض استلامها. اما برجسون فقد منح جائزة نوبل بالادب واستلمها.

هنا اسأل سؤال اجيب عنه راجيا عدم تذكيري توضيح الاجابة عليه اكثر مما احاول اختصره مراعاة ضيق المجال. لماذا لا تمنح جائزة نوبل للفلاسفة وتمنح لجميع الاختصاصات العلمية في الفيزياء وفي الرياضيات والكيمياء  وفي شتى ضروب الحياة تليها تخصصات الاجناس الادبية كافة في تسمية جائزة نوبل بالادب؟ الاجابة التي لا ارغب ذكرها في سبب حجب جائزة نوبل عن الفلاسفة هو لان الفلسفة بنية منطقية تجريدية لا تلتزم واقع الانسان والحياة. على خلاف من العلوم والاجناس الادبية. وكذا منعت جائزة نوبل عن الايديولوجيات السياسية الوحشية الممثلة بالعنصرية والابادات الجماعية.

الالتزام في الادب

أوصل صدى ما طرحه سارتر حول الالتزام بالادب في نهاية الستينيات من القرن العشرين إبان إزدهار الفلسفة الوجودية الفرنسية ان بادر الكاتب الروائي الكبير سهيل ادريس صاحب مجلة الاداب اللبنانية بداية السبعينيات دعوة عميد الادب العربي طه حسين تلبيته رغبة اتحاد ادباء لبنان القائه محاضرة حوارية نقاشية امام بعض  الحضور من ادباء ومثقفي لبنان يناقشون فيها معه مسالة الالتزام بالادب من وجهة نظر فلسفة سارتر. لا اعتقد تم تنفيذ الدعوة.

في محاولة رفض الادباء والفنانين والشعراء العرب تحديدا اتخاذهم موقف المعاداة في الزام الاجناس الادبية والفنون من غير الفلسفة تبني ثيمة الالتزام بالانسان والحياة علما ان مناقشة الالتزام بالفلسفة ليس واردا اطلاقا والى يومنا هذا. خاصة بعد هيمنة فلسفة اللغة على المشهد الفلسفي عالميا واصبحت الفلسفة الاولى منذ منتصف القرن العشرين.

تعقيب توضيحي حول فهم الحداثة العربية الماخوذة عن الغرب إذ بقي تمسك ادبائنا وفنانينا بالحداثة الاوربية كموضة استهلاك مهووسة وليس كضرورة حياة عربية معاصرة. الى ان جاء عالم اللغة باختين في مقولة موت المؤلف ليعقبه في نفس المقولة رولان بارت احد ابرز فلاسفة البنيوية الفرنسيين في تكراره موت المؤلف فسقط بايدي مستنسخي الحداثة الادبية الغربية من قبل الادباء والفنانين العرب في استقتالهم بناء امجاد انفرادية بعيدا عن هموم المجتمعات العربية باستثناءات بقيت مغمورة مهمشة لحين وفاتها.

تجريد الفلسفة اللغوي وإن كان يلتقي معه لغة التعبير التجريدي في الاجناس الادبية  من شعر وقص ورواية ونقد الا ان ذلك يبقي على انفصال تجريد تعبير لغة الفلسفة لا يلتقي تجريد لغة الاجناس الادبية في ثيمة الالتزام بمعناه الانساني السيسيولوجي قائما حضوريا عبر احقاب تاريخية من عصور الفلسفة.

الاجناس الادبية وإن كانت ايضا تجريدا لغويا لكنها مقارنة مع تجريد الفلسفة في التعبير تصبح الاجناس الادبية التزاما واقعيا في حياة الانسان حتى وإن طغى المخيال الادبي اللاشعوري على لغة الاجناس الادبية. تجريد تعبير اللغة فلسفيا تجريد منطقي في مرجعية وصاية العقل عليه. بخلاف تجريد لغة الاجناس الادبية الذي هو تعبير لغة اللاشعور الخيالي متداخلة مع احساسات الواقع المادي الانساني وغير الانساني في الطبيعة.

ربط الفلسفة بالعلوم والرياضيات

المفارقة كانت في محاولة بعض الفلاسفة ربط الفلسفة بالعلوم الطبيعية تارة والرياضيات والفيزياء تحديدا تارة اخرى ولم يفكروا ربط الفلسفة بالادب في ثيمة الالتزام او ثيمة الجمال في صنوف الادب والفن كموضوع فلسفي وليس اندغاما تكوينيا بالسرد الفلسفي.. علم الجمال هو علم الفن قبل ان يكون علم الفلسفة رغم ان كليهما الفلسفة والفن تجريد تعبيري مختلف بوسائل تواصله مع المتلقي رغم النخبوية الاستقبالية الواحدة التي تجمعهما معا. الفن الجمالي في الرسم والنحت والتشكيل الفنتازي والشطحات المدرسية المتفردة في مثل الرسم بالافكار وبالمفهوم قبل جمالية الصنعة. لا يلتزم حياة الانسان بالوجود كما هي الفلسفة تماما.

السبب ان لغة الفلسفة التجريدية لغة متعالية على مفهوم لغة التداول ولغة الكتابات الادبية والثقافية فهذه الاخيرة تتمكن من تمرير الالتزام لانها لغة مقارنة بغموض لغة الفلسفة يمكنها اي الاجناس الادبية تمرير ثيمة الالتزام بالادب لانها تخاطب واقع الانسان في جميع مناحي حياته. وهو ما لا تتمكن منه لغة الفلسفة العصية على التلقي والاستقبال والفهم المباشر. بما يخص فلسفة الجمال بالفن لا تلتزم معالجة الواقع والحياة, بل كانت افكارها مستمدة من عالم الذاكرة والخيال واللاشعور وتختلف مع الفلسفة بمنطق اللغة المفصح عنها. بينما تكون لغة الجمال والفن وليس لغة التنظير لهما هي لغة التموضع التكويني الكامن في اشكال التعابير الفنية الجمالية التي يستقبلها المتلقي بعاطفته الجمالية قبل عقله.

لذا تكون تهمة الفلسفة انها ترف الطبقات النخبوية المتعالي بضمنهم بعض المثقفين والفنانين الذين نعيش تطرفهم اللغوي وتعبيرهم التجريدي بالادب والفن وخاصة بالشعر الموغل بالابهام والغموض في بعضه بما يلغي حضور الفهم والاستيعاب الجماهيري لما يعبّرون عنه في محاولتهم الالتقاء مع ماتقوله الفلسفة من ابهام تجريدي لغوي عصي على المتلقي. وهو امر وارد واقع نعيشه.. والاكثر عصيا على الاستقبال هو فن التجريد في الرسم او ما يسمى الفن المفهومي الذي تكون اللوحة فيه تعبيرا عن مفهوم وليس تعبيرا عن تجريد لغوي كامن باللوحة يتقبل التاويل. كما نجده في اعمال بيكاسو في مراحله الفنية خاصة التكعيبية. الفن المفهومي هو التعبير عن الافكار بغير وسيلة اللغة بل بوسائل الصنعة الجمالية الفنية.

ربما يبدو غريبا ان يشغل طرح قضية الالتزام بالفلسفة غربيا اوربيا قبل قرنين من الزمان مقارنة مع ما ساوضحه لاحقا عندنا عربيا . الالتزام بالفلسفة سابقة لم يشهدها تاريخ الفلسفة لعقود تاريخية طويلة ماضية لاسباب تجعل من الاجناس الادبية قبل الفلسفة فعاليات يتوزعها الاهتمام الشعبي الاستقبالي الواسع كون الاجناس الادبية بعد منعطفها الحداثي عربيا المتاثر بالحداثة الثقافية الاوربية ما جعل ايديولوجيا الاحزاب السائدة عندنا عصرذاك تتقاطع مع ثقافة الادب والاجناس الثقافية الاخرى وتقف مختلفة معها بفواصل عقائدية دوجماطيقية  بين مستويين احدهما رفض الالتزام بالادب عموما كون الاستجابة لهذه الدعوة هو اعطاء مشروعية الايديولوجيا السياسية للاحزاب السياسية المتزمتة تطويع مجمل الثقافة حق السياسة الوصاية على الشعر والاجناس الادبية الاخرى مثل القصة والرواية وبعض الفنون التشكيلية التي فقدت ملامح الهوية العربية بالانغماس غير المتحفظ الواعي بالصرعات الفنتازية الاجنبية الحداثية كما وردت في السريالية والبرناسية والدادائية وفي الحداثة التجريدية في فن المفهوم وادب اللامعقول مؤخرا.

ولا يعني هذا التعميم انه لم يجر التزام ادبي خاصة بالشعر الجديد والرواية العربية في تمرد جريء مناوئ الايديولوجيات العربية بكافة اشكالها التضليلية واستغفالها الجماهير في التسلط ونهب خيرات تلك البدان العربية في تواطئها مع الانحرافات الحزبية المتتالية التي تقودها التدخلات الاجنبية التي جعلت من فقر وجهل وقطعانية الاذعان في المجتمعات العربية ظاهرة لم يسبقها مثيل.

فمثلا اعمال الروائي العربي المصري نجيب محفوظ ويوسف ادريس واحسان عبد القدوس ومثلهم بسوريا والعراق ولبنان كانوا جميعا ملتزمين الواقع الاجتماعي العربي المتردي في انحطاطه السياسي والاقتصادي في غالبية النتاج الادبي والثقافي الذي التزمته الاعمال السينمائية والمسرحية.

وفي ضروب الثقافة الغربية الاجنبية عموما جاءت ردة الفعل المتطرفة على صعيد المروق على فنون عصر النهضة في البداية التي غادرت اعمال عمالقتها ليوناردوا دافنشي ومايكل انجلو, رافاييل, غويا, وفان كوخ وماتيس ومانيه وغيرهم من الذين استهوتهم رغبة كسر جميع انواع المحددات المحذورة التي تجعل من اللوحات الفنية استنساخا فوتغرافيا للواقع الذي يماليء توجه اللاهوت الديني في خدمة الطبقات الارستقراطية التي كانت تتطير من مفهوم ان يكون الادب والفن للعامة من الناس وتحارب هذا التوجه بضراوة في رشوة الطبقة الارستقراطية والملوك غالبية الادباء والفنانين في العصور الوسطى وعصر النهضة.. كي يكون جل اهتمامهم تنفيذ رغائب الطبقات الارستقراطية والغنية.

فكان ان ظهر تبشير كاندنسكي في التجريد الفني التجديدي إيغالا غير مسوّغ في دفن رغبة ان يكون الفن في خدمة العامة فظهرت السريالية الفنية في الرسم لدى بيكاسو وسلفادور دالي وآخرين غيرهما متماهية مع تجريدية الشعر من خلال تحطيم النسق اللغوي الدارج التي كان تزعمها اندريه  بيرتون في مقولته الشهيرة القصيدة الشعرية يجب ان تكون حطاما للعقل.. واصدر بيانا يبشر به ان كتابة الشعر ورسوم اللوحات الفنية يجب ان تخضع لسطوة تداعيات اللاشعور.

الاتجاه الثاني الذي قاده منهج الالتزام الادبي عندنا عربيا فقد ابتلعها الموروث العربي المستمد من مرجعية وصاية الاحزاب السياسية وهيمنة رجال الدين الرافض لكل تجديد يطال اي منحى بالحياة ونكاد نقول اليوم انه لازال الموروث ذي الخصائص الهوياتية العربية الراضخ تحت الهيمنة الحزبية المتدينة سياسيا يعيش قابعا في جوف الحوت  الذي أعقبه قيء  يونس حيّا من جوفها بعد ثلاثة ايام.

هيدجر وفوكو والتزام عالم الجنون

السؤال طالما كانت الفلسفة تجريديا يماثل الالتقاء مع تجريدية اللغة والتي ايد هذا التكامل كلا من هيدجر ومن بعده فوكو فماذا اضاف هذا التلاقي على صعيد البنية المضمونية بالنسبة لثيمة الالتزام بالفلسفة؟ ولماذا فشل هذا المسعى الذي عبّر عنه هيدجر وفوكو ان عوالم الشعر التجريدية وضعت بصمتها الجوهرية في تداعيات لغة اللاشعور في كل من لغة الشعر وتكاملها الوجودي الفلسفي مع لغة الجنون واعتبرا هذا التعبير الخارج على نظامية تحقيق المعنى اللغوي في التواصل هو اصدق تعبير عن عالمنا الزائف بكل شيء منها تعبير لغة الفلسفة في تضليلها العقل. واعتبرا حقيقة الوجود هو ما يمثله الجنون والشعر في تعبيرهما عن لغة تداعيات اللاشعور في تبشيرهما بعالم حقيقي جديد هو غير عالمنا الذي نعيش..

وهذه الثنائية بين لغة الشعر السائبة بلا معنى تحت راية تقليد الحداثة الغربية, وهذاءات وغطرفة لغة المجانين في اصوات ايضا لامعنى لها في التزام نيتشة وهيدجر وفوكو والشاعر الالماني هولدرين. ان هذه النماذج من القول الفارغ بلا معنى في تفسيره المعلن والخفي هو الذي يمثل الوجود الحقيقي بما نطمح تحقيقه في ازاحة وجودنا الزائف الذي نعيشه بنفاق كاذب. ....

تعقيب حول اعجاب نيتشة وهيدجر وفوكو بتجربته الشعرية هو ان هولدرين الشاعر الالماني تحت وطأة هذا الانحراف الهستيري جاءت تجربته الشعرية في تقمص هولدرين حالة الجنون كي يصل اعماق الحفريات الدفينة في عالم الجنون وخرج بنتيجة انه تلبسه الجنون تماما. ما اثار تمجيدات نيتشة وهيدجر لتجربة هولدرين في اثباته من خلال تجربته الجنون لا حقيقة العالم الذي نعيشه وعالم الجنون الذي لا نستطيع فهمه ربما يكون اصدق من عالمنا الذي نعيشه.

الالتزام وتنحية الابستمولوجيا فلسفيا

الى هذا الحد يمكن تمرير هذا الهوس باسم التجديد على الصعيد الفلسفي في نظرية المعنى والتحول اللغوي وعلوم اللسانيات التي انبثقت بدايات القرن العشرين وبلغت اوجها منتصف ذلك القرن, لكنما كيف يمكننا تمرير وجوب ربط الفلسفة بالعلم او ربط الفلسفة بالرياضيات او ربط الفلسفة بالمنطق وعلوم الطبيعة والفيزياء التي ترى في حضور العقل هو ان نجعل من تجريد الفلسفة بلا معنى لغوي يعني انعدام امتلاكها مقبولية فكرية تداولية تلقى الاستقبالية الشعبية التي تفتقدها؟

وإن كانت هذه الطروحات الطوباوية فاشله وأن افتراض نجاحها الفلسفي لم يكن ليلغي حقيقة ثيمة الالتزام بالنسبة للفلسفة ليست اكثر من مطالبة تعجيزية لا تقبلها الفلسفة نفسها فهي رازحة تحت وطأة حقيقة الفلسفة للنخبة الاكاديمية والقراء وتلامذة الجامعات من النوابغ وبعض الفلاسفة الفرنسيين والاوربيين قاطبة.. الفلسفة تعبير مافوق اللغة. شرحت في مقال منشور لي مصطلح ما فوق اللغة بالفلسفة الغربية واجريت عليه اسقاطا عربيا على واقع لغة القران الكريم ولغة الشعر وتطورهما على يد العبقري اللغوي الخليل بن احمد الفراهيدي ت 79 هجرية.

بعد منتصف القرن العشرين تسّيدت فلسفة اللغة مكانة الفلسفة الاولى. وتلتها عشرات الاتجاهات الفلسفية التي قامت على اهمية مراجعة تصحيح تاريخ الفلسفة بضوء تصحيح تاريخ اللغة التضليلي معرفيا في نظرية المعنى وفي علوم اللسانيات ما نتج عنه تشعب تيارات فلسفية جعلت من التفكير في مسالة الالتزام بالفلسفة سذاجة لا يقبلها عصر ما بعد الحداثة الذي كفر بكل ايقونة ثابتة وردت بتاريخ الفلسفة الملازم للحداثة مثل اللغة, الذات , السرديات الموروثة في الدين والماركسية والتاريخ.

حتى وصل الحال انكار وجود العقل عند فيلسوف العقل واللغة جلبرت رايل 1900 - 1976 الذي كان سبقه التبشير به ديفيد هيوم. في مقولته لا يوجد شيء يسمى عقلا يمتلكه الانسان أبدا. الغاء العقل ليس المقصود به الغاء الدماغ  العجينة التي تحتويها جمجمة الانسان , بل الغاء العقل هنا على انه الغاء خاصية العقل كتفكير تجريدي معرفي فلسفي منتج للافكار.

كما برزت لنا فلسفات عديدة قامت بتعميق الشرخ الفاصل بين الفلسفة والالتزام في ابسط معانيه ابرزها الفلسفات الفرنسية فقط مثل تاويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا وعدمية فانتيمو. اعقبهم العشرات من الفلاسفة الاميركان امثال ريتشارد رورتي ,جون سيرل, سيلارز, سانتيانا, نعوم جومسكي , فريدريك سكينر, وكارناب , وفينجشتين المحسوب على فلسفة بيرتراند راسل الانجليزي قبل احترابهما الابيض بينهما بعد نيل فينجشتين شهادة الدكتوراه في فلسفة اللغة تحت اشراف راسل واصراره الحفاظ على وصيّة جاتلوب فريجة قوله من العار على فلسفة اللغة وجوب تضييع فرصة دمج الايقونات القارة الفلسفة واللغة والرياضيات والمنطق في توليفة واحدة رأى كلا من فينجشتين وجورج مور وفلاسفة امريكان لا حصر لهم ان راسل يهذي بهذا التعجيز الفلسفي ليقابلهم هو بالرد ان الفلسفة الاميريكية البراجماتية نذلة وخسيسة..

الفلاسفة الذين رأوا بعد خلاص الفلسفة من هيمنة الابستمولوجيا (المعرفة) السيدة الاولى بالفلسفة بعد منتصف القرن العشرين بعد تتويج الفلسفة لفلسفة اللغة عروس التفلسف.

على امتداد تاريخ ثلاثة قرون فلسفية تحت تأثير من ديكارت في القرن السابع عشر. ودخول العالم بعدها في سلسلة من التطورات التاريخية التي بدأت في نهضة ايطاليا القرن السادس عشر لتنتشر باشكال علمية ودينية ومعرفية لا سابق لها اوربيا سميت بعصر النهضة الحداثية.

بمجيء عصر ما بعد الحداثة التي تبنت بداياتها الاولى الفلسفة البنيوية التي كانت ثورة هوجاء على كل ما جاءت به الحداثة وعصر الانوار من اعلاء قيمة الذات الانسانية ونيل كرامتها وتنحية تدخلات رجال الدين بالعلم. اول فيلسوف سويسري فتح ابواب فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى هو دي سوسيرفي بدايات الفلسفة البنيوية بعمالقة فلاسفتها مثل شراوس وفوكو والتوسير ولاكان  ورولان بارت.

الفلسفة البنيوية بجميع فلاسفتها الفرنسيين والالمان والانكليز والاميركان اجمعوا ان ضياع عصور من تاريخ الفلسفة في تضليل العقل هو مراوغة اللغة في التعبيرعن المعنى. وبعد ان وجدت الفلسفة البنيوية انها كانت البادئة في ايصال فلسفة اللغة وتيهان علوم اللسانيات الى طريق مسدود لجأت مرغمة التزام طروحات ما بعد الحداثة في انكار الوجود الزائف الذي نعيشه ونكرانها منجزات العلم التي ادخلت الانسان في نوع من هيمنة الالة والذكاء الصناعي والسبرانية والذرة والروبوت الالي, والتمرد على نزعة الحداثة في رفض تمجيد الذات والانسان ولم يسلم العقل ايضا من السخرية منه..

وضرورة اعلان افلاس سرديات التاريخ الكبرى في مقدمتها الماركسية وكتاب راس المال.. فكان موت التزام الفلسفة سريريا حقيقة فكرية مجتمعية صادمة لا تقبل المعالجة خاصة في طغيان طروحات فلسفة بنية اللغة على انها نسق ذاتي مستقل يوازي الواقع والحياة ولا يقاطعهما ولا يعمد الاسهام بصنعهما ابدا.

حتى ذهب بعض الفلاسفة من الفرنسيين والاميركان أبعد من ذلك التطرف حين ارادوا اثبات كليّة النسق اللغوي المستقل خارجا عن فهمه الخاص أن اللغة جوهر انساني يمتلك خاصية الانسان التواصلية والحوارية المتراجعة الاهمية امام اعتماد خاصية متفردة أن اللغة  صوت ذو دلالة يحمل نظاما خاصا في المعنى لا علاقة له بحياة الانسان.

في عبارة اخرى حين يصار الى تجريد اللغة من معناها الفكري القصدي والمعرفي والتواصلي فماذا يبقى للفلسفة ما تتاجر به أن اللغة فائض معنى نبحث عنه في قراءات متعددة جديدة بامكانها تصحيح مسار تاريخ الفلسفة الوهمي التضليلي للعقل وقضاياها الزائفة المتوارثة عبر العصور.

***

يتبع بمقال قادم

علي محمد اليوسف

تمهيد: صوت اللغة تعبير خارجي وصمت الفكر رؤية لغوية داخلية لا صوت لها. وصمت الفكر وصوت اللغة نسختان تحملان نفس الابجدية المنطوقة خارجيا والصامتة داخليا في ادراك الاشياء من حيث حقيقة التفكير هو لغة تجريدية صورية.

تعبير اللغة الخارجي وصمت اللغة الداخلي نسختان لابجدية تصويرية واحدة في التعبير عن المدركات المادية خارجيا والخيالية داخليا منها التعبير عن الاحاسيس الغريزية البيولوجية التي يحتاج جسم الانسان اشباعها, فهما يمثلان تطابقا بالدلالة واختلافا بالمفهوم ماجعل فلسفة اللغة المعاصرة ونظرية العقل والمعنى تدور في حلقة دائرية مغلقة مرتكزها اللغة بما هي ضوابط نحوية تراوغ في التعبير عن المعنى.

يكتنفها عدم وضوح التفريق في التعبير عن حقيقة واحدة هي ان اللغة ابجدية صوتية تجريدية تطابقها لغة تجريدية تحمل نفس الرؤية الخيالية هي الفكر الصامت في تعبيرهما عن  تجريد اللغة للمادة او الموضوع المستمد من مصنع الخيال الذاكراتي حيث يصبح الفكر واللغة  دلالة لمعنى محدد لفهم الواقع او موضوعات الخيال.

مميزات لغة الانسان

اكتسب اختراع اللغة تعريفه الفلسفي المعاصر عند الانسان من صفة اللغة انها(صوت) يحمل معنى ودلالة مصدره ما تطلقه حنجرة الانسان المتطورة فسلجيا عبر الاف السنين في ملازمتها اللسان التدريب على اطلاق صوت ذي معنى لا صوت حيواني لا معنى له, وباختلاف تدني قدرة وعي الحيوان تطوير اصواته الى نوع من لغة تواصلية لعدم ادراكه ان الصوت يمكن تطوره الى ابعد من اشباع حاجتي رغبة الجماع وحاجة تحذير نوعه من الخطر الذي يتهدد بقائه من استهداف الكائنات الاخرى للاضعف في الطبيعة...

من ميزات تطور لغة الانسان وتحولها من اصوات حيوانية بلا معنى يقلد الانسان بها غيره من الحيوانات مقارنة باختلافها عن اصوات بقية الكائنات الحية:

لغة الانسان عقلية صوتية تشير لمعنى اي تصدر عن شبكة اعصاب ترتبط بقشرة الدماغ. لها رموز وقواعد واحكام تضبطها منها الابجدية او المقاطع الرمزية المكتوبة في تعبيرات الدلالة التواصلية لفهم مشتركات الطبيعة مع الانسان ومدركاته لموجودات عالمه المادي والخيالي.لغة الانسان الصوتية والمكتوبة تحمل دلالة ومعنى لشيء محدد معين. لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى الشيئي.

الصوت الصادرمجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى ايضا فالحيوانات تمتلك اصواتا تعبيرية لكنها ليست لغة مضمون متفق عليه في فهم الحيوان له..

وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار السلوك اللفظي بزعامة يورهوس فريدريك سكينر 1904 - 1990 الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات ونظرية فائض المعنى.

لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات وتشكيل ونحت والموسيقا والغناء التي يجري توظيف اللغة بها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر.

في تقريب نوضحه لاحقا تفصيلا ان الفكر لغة ابجدية تصورية تحمل معنى قصدي. ولا يمكننا تصور لغة لا يحتويها فكر قصدي هادف. بفارق من عدة فوارق ان اللغة صوت نشأ استجابة لاشباع رغبات يحتاجها جسم الانسان داخليا وخارجيا ولا يختلف شكل الصوت اللغوي من حيث هو ابجدية بلا صوت عن الفكرالملازم لها من حيث كونه محتوى لغوي صامت لا قيمة له بدون لغة تعبيرصوتي كلام او ابجدية مكتوبة عنه.

ملازمة اللغة للفكر هو خزين تحتفظ به الذاكرة والذهن كحلقات في منظومة العقل الادراكية. وفرق اللغة عن الفكر انهما كلاهما ابجدية لغوية واحدة تختلفان بالصوت فقط. اللغة تعبير عن صوت والفكر لغة تعبير عن صمت.

اللغة والفكر وحدة تعبيرية واحدة متكاملة يتوزعها السلوك والعمل والتعايش المشترك لمجموعة بشرية تجمعها خواص مشتركة ومصالح واحدة.

لا اختلف مع احد ابرز الفلاسفة الاميركان المعاصرين وليفريد سيلارز قوله الحياة او الوجود هي لغة فقط فهو مصيب تماما ان الادراك الشيئي هو لغة مجردة . كل الاشياء وموجوداتها وعلاقاتها لا يمكننا فهمها والتعبير المشترك والمنفرد عنها من غير اللغة. من الخطا اعتبار سيلارز في مقولته الوجود لغة انه يتفق مع المثاليين الذين يقولون لا وجود خارجي مادي مستقل خارج تفكير عقولنا.

بخلاصة العبارة اللغة هي وسيلة فهم العالم وادراك الوجود . ولا وجود لعالم سليم له معنى يدركه الانسان بلا لغة او لغات تنظم ادراكاتنا له. كلية المنظومة الفكرية الادراكية العقلية بدءا من الحواس وانتهاءا بالدماغ هي (لغة) فقط. بهذا نجزم بارتياح لا يحتاج برهنة عليه هو ان العقل جوهر تجريدي ماهيته التفكير حسب تعريف ديكارت. هنا نحن نسقط خاصية التفكير على الدماغ ومن غيره لا يوجد تفكير معرفي. اي علينا الانتباه التفريق بين فيزيائية العقل كعضوفسلجي من مكونات الجسم المقصود به الدماغ بمحتوياته وبين العقل كناتج تعبيره التجريدي عن الوعي بمدركاته بوسيلة اللغة. على حد تعبير ديكارت العقل جوهر ازلي خالد ماهيته التفكير. الخالد هو انتاجية افكار العقل وليس خلود العقل البيولوجي المقصود به الدماغ الذي اغفل ديكارت التمييز بينهما..

حينما نقول فهم العالم يبدأ باللغة وينتهي بها هذا لا يعني ان العالمين المادي والخيالي للانسان غير موجودين بدون لغة. لغة التعبير عن الاشياء هو توكيد لوجود موجودات سابق وجودها على اللغة. وبغير تلازم اللغة مع الوجود لا يبقى لكليهما معنى انفصاليا عن بعضهما.

***

علي محمد اليوسف

 

غالباً ما يتبادر إلى ذهننا عندما نقرأ أو نسمع مصطلح "الصراع الطبقي، أنه يرتبط مباشرة في البعد السياسي، دون أن ندرك أبعاده الأخرى، الاجتماعيّة والفنيّة والأدبيّة والقيميّة والجماليّة وغير ذلك. وهذا ما يشكل نقصاً معرفيّاً لهذا المفهوم عندنا. ومن هذا المنطلق المعرفي، تأتي رؤيتنا الفلسفيّة لهذا المفهوم، محاولين تبيان هذه الأبعاد بشكل أولي آملين تحقيق الفائدة المرجوة من ذلك.

أولاً: مفهوم الطبقة:

نظراً للتغير الحاصل والمستمر في البنية الطبقيّة للمجتمعات تاريخيّاً، انطلاقا من المرحلة العبوديّة مروراً بالإقطاعيّة والرأسماليّةّ والاشتراكيّة، وبالدول المتعددة الأنماط الإنتاجيّة، وصولاً إلى المرحلة الرأسماليّة المتوحشة في النظام العالمي الجديد،  يظل مفهوم الطبقة برأي أمراً على درجة عالية من الصعوبة وإشكاليّة التحديد معا.  ومع ذلك يمكننا أن  نحدد مفهوم الطبقة في السياق العام بقولنا:  بأن مفهوم الطبقة، ينطوي على مجموعة من الأفراد داخل مجتمع ما، يتشاركون بمصالح ماديّة ومعنويّة ذات معالم واضحة إلى حد كبير من الناحية الاقتصاديّة والاجتماعيّة (ملكيّة وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج) والثقافيّة والسياسيّة وحتى القيميّة. هذا إضافة إلى تكوّن مجموعة من الميول والاهتمامات التي تختلف عند كل طبقة عن ميول واهتمامات الطبقات الأخرى في المجتمع، وهذا ما يخلق تضاداً جوهريّاً بين تلك الجماعات أو الطبقات على كافة المستويات الحياتيّة.

وبناء على ذلك  ظل موضوع الطبقات إشكاليّاً كما قلنا بالنسبة للدراسات والتحليلات عند علماء الاجتماع وعلماء السياسة وعلماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين الاجتماعيين والنقاد الأدبيين والفنيين وغيرهم. وبالتالي لم يكن هنالك رأي محدد بشأن تعريف كلمة طبقة والمصطلح يشمل تعاريف مختلفة.

نظام الطبقات:

هو عبارة عن مجموعة من المفاهيم في العلوم الاجتماعيّة والفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة والأخلاقيّة والجماليّة والسياسيّة، التي يتجلى فيها التراتب الاجتماعي، الذي يتم من خلاله تصنيف الناس إلى مجموعة من الفئات الاجتماعيّة الهرميّة. فيتبين لنا أن أكثر الطبقات شيوعاً هي: الطبقة الغنيّة والطبقة المتوسطة والطبقة المنتجة. وكل طبقة من هذه الطبقات لها مفاهيمها الخاصة بها إلى حد كبير كما أشرنا أعلاه، التي تميزها، وغالباً ما تنمذجها، لتتفرد عن غيرها من الطبقات.

صراع الطبقات:

صراع الطبقات، هو كل تجليات التناقضات والتوترات الدائرة بين الطبقات المستغِلة والمستغَلة، بحيث أن كل طبقة تقاوم من أجل وضعها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي. وقد شكل موضوع صراع الطبقات أساساً للدراسات والتحليلات عند علماء الاجتماع وعلماء السياسة وعلماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين الاجتماعيين.

الطبقات الاجتماعيّة في السياق التاريخي:

إن كل مجتمع عبر مراحل التاريخ، مُكوّن من طبقات متنافسة، وكل طبقة تؤدي وظائف مُتباينة ومُنفصلة، مثل الأنشطة العسكريّة والدينيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وقد ظهرت المجتمعات ذات الطبقات المُتعددة في العصور القديمة عند الرومان والفرس واليونان، وفي العصور الوسطى في المرحلة الاقطاعيّة، وفي المجتمعات المدنيّة الحديثة مع ظهور الثورة الصناعيّة وحاملها الاجتماعي البرجوازيّة والطبقة العاملة. فكل مجتمع كما أشرنا أعلاه مقسماً إلى طبقات، ولكل طبقة حقوقها وامتيازاتها الخاصة ولها عاداتها وتقاليدها وأعرافها، كما عليها واجباتها الخاصة أيضا. وعلى هذا الأساس نجد أن المفاهيم الطبقيّة وصراع الطبقات تُستخدم في سياقات تاريخيّة مختلفة.

السياقات التاريخيّة لمفاهيم الطبقات وصراعاتها:

1- الصراع بين العبيد والأسياد في مجتمعات الرقيق والدُخلاء من المجتمعات القديمة. نجده في دول حضارة ما بين النهرين ومصر القديمة وعند الفرس اليونان والرومان (ثورة سبارتاكوس). وحتى في تاريخ الخلافة الإسلاميّة. نجدها في ثورة الزنج والخرميّة والقرامطة وغيرها الكثير.

2- الصراع بين الأقنان ومُلاك الأراضي (النبلاء ورجال الكنيسة) كما هو الحال في أوربا العصور الوسطى. ثورات لفلاحين في الماني مع نهاية الربع الأول من القرن السادس عشر

3- الصراع بين البرجوازية والعمال مع طبقة النبلاء عشية الثورة الفرنسية. 1789.

4- الصراع بين العمال وأصحاب العمل في المجتمع الرأسمالي الحديث. كومونة باريس في فرنسا (1871) والشارتية (1825 و1836) في بريطانيا. ولقد ظهر هذا المفهوم في القرن التاسع عشر لدى بعض المؤرخين الفرنسين الليبراليين من استعادة بوربون، فرنسوا غيزو واوجوستان تييري، وأدولف تيير وفرنسوا اجوست مينيه، هم من استعار منهم كارل ماركس المفهوم.(1).

5- الصراع بين الرجل والمرأة في المجتمعات البطريركيّة (الأبويّة) حيث الاستغلال المحلي من قبل الرجل للمرأة هو شريان التدرج الاجتماعي.

6- الصراع بين الطوائف الدينيّة والعرقيّة في العديد من دول العالم ماضياً وحاضراً.

7- الفصل بين المستوطنين والسكان الأصليين في المستعمرات.

8- الانقسام بين بلاد الشمال وبلاد الجنوب.

9- التفرقة العنصريّة بين المجتمعات الثقافيّة في المدن.

ومع ذلك، فإن أساس مفهوم الطبقيّة هو الاقتصاد، حيث يأتي موقع الطبقة ما بين ما لك ومنتج، فالولاء الطبقي لا يحدده القانون بقدر ما تحدده عوامل كثيرة منها:

أولاً: طموح الفرد ذاته وقدراته في العمل على تغيير بنيته الطبقية.

ثانياً: المنافسة:

يعتقد منظرو الصراع، أن المنافسة هي عامل ثابت وفي بعض الأوقات حاسم لكل علاقة أو تفاعل إنساني. إذ توجد المنافسة نتيجةً لشح الموارد، بما في ذلك الموارد الماديّة مثل النقود والملكيّة والسلع وغيرها الكثير، ويتنافس الأفراد والمجموعات داخل المجتمع على الموارد غير المحسوسة أيضًا بما في ذلك أوقات الفراغ والسيطرة والأوضاع الاجتماعيّة والشركاء الجنسيون وعدة عوامل أخرى، يفترض منظرو الصراع أن المنافسة هي الأمر الطبيعي وليس الشراكة.

الثورة:

بالنظر إلى افتراض منظري نظريّة الصراع بكون الصراع يحدث بين الطبقات الاجتماعيّة، فإن إحدى نتائج هذا الصراع هي الثورة، تكمن الفكرة هنا في أن التغيير في ديناميّة السلطة بين الجماعات لا يحدث نتيجةً للتكيف بل للصراع بين هذه الجماعات، وبهذه الطريقة فإن التغير في ديناميّة السلطة يكون حادًا وضخمًا بدل أن يكون متدرجًا وتطوريًا.

التفاوت البنيوي:

لعل أهم افتراض لنظريّة الصراع الطبقي هي أن العلاقات بين البشر داخل البنى الاجتماعيّة تمر بمرحلة تفاوت السلطة، ونتيجةً لذلك يطور ويكسب بعض الأفراد والمجموعات - بصورة متأصلة - سلطاتٍ أكبر من البقيّة، ونتيجةً لذلك فإن هؤلاء الأفراد والمجموعات الذين ينتفعون من السلطة يعمدون إلى العمل على المحافظة على هذه البنى للحفاظ على سلطاتهم وتحسينها.

الحرب:

يعمد منظرو نظريّة الصراع الطبقي على رؤية الحرب باعتبارها مُطهرةً أو موحدةً للمجتمعات. وتُعد الحرب - في نظريّة الصراع- نتيجة صراع تراكمي نامٍ بين الأفراد والمجموعات وبين مجتمعات كاملة، وقد يصبح المجتمع موحدًا بطرق معينة لكن الصراع يبقى بين المجتمعات المتعددة. (2).

تُعد نظريّة الصراع ملهمًا مهمًا للنظريات الحديثة وما بعد الحديثة للتفاوت الجنسي والعرقي، والمناهضة للاستعمار، ودراسات السلام والصراع والتشكيلات المتنوعة لدراسات الهويّة التي بزغ نجمها بين الأوساط الأكاديميّة الأوروبيّة خلال العقود القليلة المنصرمة.

***

د. عدنان عويّد

..............................

1- الوكيبيديا.

2- نظرية الصراع الطبقي. راجع موقع.

:(https://www.ibelieveinsci.com

 

من بين الأسئلة الكبرى في بحوث الشيخوخة هي ما اذا كان هناك سقف للعمر الذي يعيشه الانسان. دراسة جديدة نُشرت في (العلوم)، تقترح أن لا وجود لذلك السقف. قامت الدراسة بقياس إحتمالات بقاء 3896 شخصا على قيد الحياة في ايطاليا تتراوح أعمارهم بين 105 سنة وأكثر. وجدت الدراسة انه، بينما نحن من المحتمل جدا ان نموت في عمر 75 سنة بدلا من 55، لكن حالما نصل الى عمر 105سنة، فان احتمال الموت يبقى ذاته في كل سنة من سنوات الحياة.

هذا العامل عادة يُشار اليه بـ "عدم التغيير في نسبة الوفيات" mortality plateau. اذا كان العيش مستحيلا بعد عمر معين، سنتوقع ان تستمر نسبة الوفيات بالإرتفاع مع تقدّم الناس في العمر، بدلا من ثبات النسبة. حقيقة ان احتمال الموت لايزداد بعد الـ 105 سنة يشير الى اننا لم نصل بعد الى عمرنا الأقصى كنوع بشري. لكن هل احتمال العيش لأكثر من قرن هو شيء يمكن ان نتطلع اليه؟ هنا يمكن للفلسفة ان تقدّم بعض الرؤى الهامة.

بالطبع، نحن لانزال لا نعرف بالتأكيد عدم وجود للسقف. بعض الباحثين يرون ان هناك "تاريخ انتهاء صلاحية" طبيعي للانسان، يكون عند 125 سنة. شيو مايكو Chiyo Miyako حاليا يُعتبر الشخص الحي الأطول عمرا في العالم،عند 117 سنة. اما جين كالمينت Jeanne Calment الذي مات عام 1997 سجّل أعلى عمر عند 122 سنة.

في المملكة المتحدة، تضاعف عدد الناس الذين هم بعمر 100 سنة او أكثر منذ عام 2002 ليصل كما متوقع الى 36000 شخص في عام 2030. اذا كانت هناك نسبة وفيات ثابتة، فانه في سنة 2300 يكون أقدم شخص حي قد يصل عمره الى 150 سنة.

المتعة مقابل الألم

هل مضاعفة أمد الحياة الى 150 عاما يجعل حياتنا أفضل حالا ام انها ستكون طويلة فقط؟ احدى طرق التفكير في ذلك هي ما يتعلق بالمتعة والألم: المزيد من المتعة (والقليل من الألم) الذي نحصل عليه اثناء حياتنا يجعل حياتنا افضل حالا. ومع ثبات الأشياء، الحياة التي تستمر الى 100 عام هي أفضل من الحياة التي تستمر 80 عاما، طالما ان الـ 20 سنة الإضافية تحتوي على متعة أكثر من الألم.

مع تقدّم الناس في العمر، يحصل تدهور تدريجي في ظروفهم الحياتية بما يقود الى نوعية متدنية للحياة. لكن هذه الظروف يمكن تخفيفها عبر اسلوب حياة صحي وخدمات اجتماعية كافية. وبينما حياة الكبار في السن قد تكون مقيّدة بطريقة ما، لكن لا سبب هناك لتكون غير ممتعة في المحصلة.

من جهة اخرى، ان الحياة الممتدة قد تؤثر على نوعية حياتنا المبكرة. في عام 2017 كان هناك ما نسبته 3.5 شخص في سن العمل (16-64) مقابل كل شخص بعمر الـ 65عام، لكن هذه النسبة يُتوقع ان تهبط الى 2.1 شخص في عمر العمل  ثم الى واحد شخص في عام 2040. هذا يعني سيكون هناك نسبيا المزيد من الناس يطالبون بخدمات التقاعد، يقابلهم القليل من الناس في سن العمل الذين يدفعون الضرائب لمساعدتهم . هذا قد يقود الى حالة تتطلب من قوة العمل ان تدفع ضرائب اضافية وتبقى في العمل لفترة أطول، او يتم خفض الخدمات والمنافع المطلوبة لتغطية تكاليف التقاعد.

رؤية اخرى

هناك من يرى ايضا ان حياتنا ستصبح أفضل حالا عندما نحصل على الأشياء التي نريدها. امتلاك حياة طويلة قد يمنحنا المزيد من الوقت لإنجاز أهدافنا ومشاريعنا الخاصة. لكننا قد نرى ايضا ان الحياة المرغوبة هي حياة ذات بناء سردي معين. الفيلسوف رونالد دوركين Ronald Dworkin ميّز بين "الإهتمامات التجريبية" experiential interests و "اهتمامات شديدة الأهمية" critical interests. الاولى تتعلق بأشياء  مثل المتعة – أي شيء نتمتع به. اما الاهتمامات شديدة الأهمية هي تلك التي تشكّل حياة جيدة. مثال على هذا إهتمام الآباء بسعادة أبناءهم.

يمكننا ان نتصور شخصا لديه اهتمامات هامة في تجنّب الإهانة الناتجة عن ضعف الذاكرة التي ترافق تقدم العمر. وحتى لو لم يكن الفرد منزعجا من تراجع ادراكه في التمتع بالحاضر،هذا قد لا يجسد ما أراد ان تكون حياته عليه. قد نرى من الأفضل للفرد ان يأخذ كامل حياته في الإعتبار اذا مات قبل هذه الفترة من التدهور. وبكلمة اخرى، قد تكون هناك ظروف نعيش فيها زمنا طويلا جدا. أحيانا ربما أفضل لنا ان نموت مبكرا بدلا من البقاء، اذا كان هذا العمل منسجم مع "قصة الحياة" التي أردناها لأنفسنا، كأن نكون نشطاء ومستقلين طوال حياتنا.

انحدار الرغبات

مخاوف مشابهة أثارها الفيلسوف برنارد وليم . جادل فيها ان الأشياء التي تعطي معنى لحياتنا هي "رغبات غير مشروطة" categorical desires (لا ترتبط بالمدى الزمني لحياة الفرد)، والتي هي ضرورية لهويتنا. انها تتضمن اشياءً مثل كتابة رواية، تربية أطفال او انجاز مشروع خيري رغم الصعوبات التي تكتنفه. هذه يقابلها مزيد من الرغبات "الخاوية من المعنى" مثل الحاجة الى الطعام او الجنس، التي لا تجعلنا سعداء في المدى الطويل. إعتقد وليم انه اذا كنا نعيش لفترة تكفي سنتمكن من تحقيق جميع رغباتنا غير المشروطة . ومن ثم سنواجه ما تبقّى من حياتنا بملل شديد، او نستبدل رغباتنا الاساسية ونغيّر هويتنا بشكل جذري.

لكن البعض يرى ان الحياة يمكن ان تبقى ثرية حتى بالنسبة لكبار السن، وان مباشرة مشاريع جديدة لايحتاج إضعاف هويتنا. هذا يصح خصيصا لو ان أصدقائنا وأحبائنا يعيشون لفترة أطول ايضا. وبينما رغباتنا واهتماماتنا قد تتغير، فان الارتباط بالآخرين يمكن ان يساعد في تعزيز الاستمرارية في مختلف مراحل الحياة.

جميع تلك الرؤى تبيّن ان العيش فترة أطول لايعني بذاته اننا نكون أحسن حالا. ومع استمرار تقدم الناس في العمر، سنحتاج لعمل خيارات هامة وصعبة حول الكيفية التي نريد بها رعاية كبار السن. من المهم ادراك ان الاستراتيجيات الصحيحة لحماية الشيخوخة الصحية هي ليست فقط  لتخفيف الأعباء عن المجتمع، وانما تساعد في ضمان ان حياتنا الأطول هي حياة أفضل – حتى بالمعنى الفلسفي.

***

حاتم حميد محسن

مركزيةُ الثقافةِ في البناء الاجتماعي تَمنح الفردَ القُدرةَ على تَقْيِيمِ الوضعِ المعرفي للمُجتمع،وتَقْوِيمِ الأنساق الوجودية التي تَربط بين الوَعْيِ والهُوِيَّةِ، وتَصهرهما في سُلطةِ الفِكْرِ الإنساني القادر على نَقْدِ الواقعِ الاجتماعي على صَعِيد النظريةِ والمُمَارَسَةِ، وكشفِ وَهْمِ المعرفة الذي يَجعل العلاقاتِ الاجتماعية تُلْغِي ذَاتَهَا بذاتها. وسُلطةُ الفِكْرِ الإنساني لَيْسَتْ منظومةً استبداديةً تَنْطِوي على بِذرة انهيارها في داخلها، أوْ بُنيةً وظيفيةً تَحْتوي على أشكال اجتماعية مُتناقضة وغَير مَنطقية، وإنَّما هي سُلطة عقلانية تُعيد تشكيلَ الحُلْمِ الإنساني في البيئةِ الواعيةِ والتاريخِ المُعَاشِ، مِن أجل تحديد معالم المصير المُشْتَرَك بين أفراد المُجتمع باعتبارهم صُنَّاعًا لفلسفة الأحداث اليومية، ولَيْسُوا أدوات يتمُّ تحريكها والتلاعب بها مِن وَرَاء السِّتَار، وهذا الأمرُ في غاية الأهمية، لأنَّه يَحْمِي الكِيَانَ الإنساني والكَينونةَ المُجتمعية مِن غُربةِ الوَعْي، والاغترابِ عن الذات الفاعلة فرديًّا وجماعيًّا، مِمَّا يَدْفَع الفِعْلَ الاجتماعي إلى حِماية مركزية الثقافة، بِوَصْفِهَا مشروعًا معرفيًّا يُحَرِّر الوُجودَ مِن الوَعْيِ الزائفِ والشُّعُورِ الوهمي، وهذا يَضمن توليدًا مُسْتَمِرًّا لأنساق التاريخ، مُنْفَعِلًا بالتجارب الحياتية الذاتيَّةِ (الجُزئية) والعامَّةِ (الكُلِّية)، ومُتَفَاعِلًا معَ منطق اللغة الرمزي، وعابرًا للمراحل الزمنية، ومُتَجَاوِزًا للإفرازات السَّلْبِيَّة لدوافع السُّلوك المُرتبطة بالمصلحة الشخصية الضَّيقة.

2

مركزيةُ الثقافةِ لَيْسَتْ بُؤْرَةً لاستقطابِ المعاني المُسْتَهْلَكَةِ، والنظرياتِ المُجَرَّدَةِ، والشِّعَارَاتِ الفارغةِ، وإنَّما هي مركزيةٌ وُجوديةٌ تُعيد إنتاجَ الزمنِ واكتشافَ المَكَانِ، ونِظَامٌ فلسفيٌّ مُتمركزٌ حَوْلَ الشرعية الإنسانية في أعماقِ المُجتمعِ والتاريخِ والحضارةِ. وهذا النظامُ الفلسفي يُحَافِظ على مَاهِيَّتِهِ وَحَيَوِيَّتِهِ رغم كُلِّ الضُّغُوطات الماديَّة الاستهلاكية، لأنَّه قائمٌ على رُكْنَيْن : نَقْد الواقعِ الاجتماعي، وكَشْف وَهْمِ المعرفة. وهذان الرُّكْنَان يُحَدِّدَان طبيعةَ رُؤيةِ الفردِ للأنا والآخَرِ، مِمَّا يُسَاهِم في تَوحيدِ مَصادرِ المَعرفةِ المُبَعْثَرَةِ في مناهج التحليل الاجتماعي، ونقلِ الوَعْي الحضاري مِن التمركزِ حَول الذات إلى الانطلاقِ نَحْو فضاءات الهُوِيَّةِ الإنسانية الجامعة، ومِن الانغلاقِ العقلي إلى الانفتاحِ على أنساقِ التفكيرِ النَّقْدِي الإبداعي، ومِن التَّقَوْقُعِ في البيئةِ المَحصورة إلى الزمن الوجودي المفتوح المُتَحَرِّر مِنَ التَّحَيُّز المُسْبَقِ والأنماطِ الثقافية المُتَحَجِّرَةِ. ولا يُمكِن إعادةُ البريق إلى التجارب الحياتية إلا بإعمال آلِيَّاتِ التحليل النَّفْسِي لشخصية الفرد الإنسانية داخل اللغة وخارجها، ولا يُمكِن إعادةُ المَعنى إلى الحُلْمِ الإنساني إلا بتكوين أدوات التحليل التاريخي لِسُلطة المُجتمع الاعتبارية داخل المكان وخارجه.

3

مركزيةُ الثقافةِ - بما تَملِكه مِن زَخْمٍ فِكري ووَعْيٍ حضاري - قادرةٌ على فتحِ اللغة على جُذور المُجتمع العميقة. وسُلطةُ الفِكر الإنساني - بما تَملِكه مِن نَسَق عقلاني ورمزية لُغَوية - قادرةٌ على تشكيل المَوروث الثقافي كسياسة حضارية. وهاتان الحقيقتان تُسَاهِمَان في تحريرِ إرادة الإنسان مِن تَسَارُعِ الأحداث اليومية، وتَعَارُضِ الوقائع التاريخية، وتحقيقِ التناغم بين نقدِ الواقع الاجتماعي وفحصِ المَوروث الثقافي، وتحقيقِ الانسجام بين كشفِ وَهْم المعرفة ومناهجِ التحليل الاجتماعي،وبالتالي تُصبح المعاييرُ الأخلاقيةُ قوانينَ تاريخية، وتُصبح القوانينُ التاريخية مَرجعياتٍ حياتية لتطهيرِ الحُلْم الإنساني مِن الوَهْم، وتنقيةِ الأزماتِ المعرفية مِن غُرور القُوَّةِ، وانتشالِ الأنساق الثقافية مِن مِصْيَدة اللحظة الآنِيَّة، وتخليصِ العلاقة بين الإنسانِ والطبيعةِ مِن هَيمنة الآلةِ الميكانيكية، ومَا تُفْرِزه مِن شُعورٍ صِنَاعي مُخَادِع ووَعْيٍ مادي زائف، يَصِيرَان معَ مُرور الزمن حَاجِزًا بين هُوِيَّةِ الفرد الحالمة وسُلطةِ المُجتمع الضاغطة، مِمَّا يَجعل الفردَ عاجزًا عن تحليلِ مُكَوِّنَاتِ ذَاتِه وعَناصرِ بيئته، ويَجعل المُجتمعَ عاجزًا عن تفسيرِ أُسُسِ تاريخِه وأركانِ حضارته.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

كيف ركّب الفلاسفة الافلاطونيون الجدد عناصر من الفلسفة القديمة لكي يضعوا نظرية عن الواقع من مبدأ احادي؟ استُعمل مصطلح الافلاطونية الجديدة ليشير الى جماعة من الفلاسفة عاشوا لفترة استمرت عدة قرون، من القرن الثالث الى القرن السابع الميلادي. هم كانوا منتشرين عبر منطقة جغرافية واسعة امتدت من مصر وشمال افريقيا الى غرب اوربا وتركيا الحالية ومعظم الشرق الاوسط. افلوطين اعتُبر كمؤسس للافلاطونية الجديدة والمناصر له بورفايري porphyry كان شخصية رئيسية اخرى في الافلاطونية الجديدة. افلوطين أسّس مدرسة فلسفية في روما ويبدو انه بث نظريته هناك. كانت الافلاطونية الجديدة مؤثرة جدا على بعض المسيحيين الثيولوجيين الأوائل وبالذات القس اوغسطين.

ماهي الإفلاطونية الجديدة

لا أحد من الإفلاطونيين الجدد سمى نفسه افلاطونيا جديدا – انها تسمية خاطئة بقدر ما تمثل مشروعا للافلاطونيين الجدد كمحاولة لإيقاظ عقائد افلاطون. بالتأكيد، الافلاطويون الجدد كانوا افلاطونيين، والتأثير الذي أحدثوه على التيار العام للفلسفة الغربية كان التحوّل بعيدا عن الفلسفات الأكثر مادية التي سبقتهم (المرتكزة على الإيبيقورية والفلسفة الرواقية) باتجاه تصوّر افلاطوني للواقع.

يجب التركيز كثيرا هنا على الأهلية . لاشك ان العديد من الافلاطونيين الجدد بمن فيهم افلوطين، كانوا الأعظم تأثيراً من بين الفلاسفة الافلاطونيون الجدد – رأوا انفسهم منسجمين مع فلسفة افلاطون ككل. هذا لا يسمح لنا بإفتراض ان الافلاطونيين الجدد فهموا انفسهم كمشتركين بنسخة من فكر افلاطون تتطابق مع ما نفهمه عن افلاطون اليوم، او مع الكيفية التي فهم بها معاصرو افلاطون فلسفته. في الحقيقة، ذلك ينطبق على مختلف الاستخدامات التي أجازها ومارسها الفلاسفة من الافلاطونيين الجدد. تفسير ارسطو كتابع لافلاطون هو مثال واحد على ذلك.

المبادئ المميزة للافلاطونية الجديدة

المبدءان المميزان للافلاطونية الجديدة ليسا افلاطونيين بامتياز. الأول اعتقد به افلاطون، ولكن ايضا اعتقد به ارسطو والعديد من فلاسفة اليونان الآخرين في تلك الفترة. المبدأ يمكن تلخيصه كـ: "الذهن يسبق المادة"، او "الذهن فوق المادة". بالنسبة لمفردة "ذهن" يمكننا استبدالها بـ "ذكاء يقظ"، "وعي"، "عقل"، او "فكر". المفردة اليونانية nous تحمل دلالات لجميع هذه المفردات الانجليزية.

هذا الادّعاء الانطولوجي (ادّعاء حول أي مفاهيم الوجود اكثر جوهرية وأهمية) بدوره يتضمن ادّعاءً ابستيمولوجيا – اي، ادّعاء حول المعرفة. هذا الادّعاء هو بان العالم كما يبدو لنا، مضلل الى حد ما، او على الاقل بحاجة لتفسير جاد وحازم اذا أردنا فهم ذلك المفهوم الأكثر جوهرية.

المبدأ الثاني هو المبدأ الاكثر تميّزا للافلاطونية الجديدة – وهو الفكرة بان الواقع بمجمله يعتمد على مبدأ أعلى. هذا المبدأ هو مبدأ الوحدة. انه اعتُبر الهي، واحيانا يُشار اليه بـ "الله"، رغم ان الافلاطونيين الجدد كانوا وثنيين. انه يتخذ اسماءً اخرى: "الواحد"، "الخير"، "الاول"، وغير ذلك. من الواضح ان هذين المبدءين مترابطان. اذا كان الذهن يسبق المادة، عندئذ فان المبدأ الاول للخلق يجب ان يكون واعيا. لهذا، فان الافلاطونية الجديدة تحاول توضيح الكيفية التي يأتي بها كل الواقع من الوعي.

الخلق والإنبثاق (الفيض)

الإفلاطونيون الجدد يجب ان لا يُساء فهمهم في الاقتراح بان الواقع خُلق من لا شيء بواسطة الوعي. سيكون من الأصح القول انهم يتصورون العالم على انه ضمن عملية تكوينية، حيث هنا لا يعني التكوّن إنشاء مثيل من أشياء مادية جديدة، بل إضافة تفاصيل للبناء. في الحقيقة، الكلمة الأكثر انطباقا على الافلاطونية هي "انبثاق" او فيض، الذي يفيد في توضيح ان – الاشياء تُصنع لكن ليس كل شيء نشأ من لا شيء. اذا كان العالم اشتُق من مبدأ واحد للخلق، فهو سيكون دائما هكذا. بروز الكون هو تدريجي – ضمن مراحل مقررة.

السؤال الطبيعي عن هذا المبدأ الذي يبدو غامضا هو "حسنا، لكن ما هو؟". وللحديث بخصوصية اكبر، نحن نميل لنسأل ماذا بالضبط يقرر او يعالج او يعني مبدأ "الواحد". الجواب الافلاطوني الجديد لهذا ربما فيه جزئين. اولا،يجب ملاحظة ان القول الكثير عن مبدأ قُصد به ان يكون بسيطا وواضحا، في إعطائه صفات وتجزئته الى مفاهيم فرعية، سوف يخالف دور المبدأ في بناء الواقع. المبدأ الذي يمكننا ان نقول عنه أكثر لايمكن ان يكون المبدأ الاساسي الذي يُؤسس عليه باقي الوجود.

ثانيا، انه عقيدة مركزية للافلاطونية الجديدة بان كل شيء يمتلك عنصرا باطنيا وخارجيا، وان العنصر الباطني (المبدأ الذي على أساسه يتكون شيء معين" سوف يتطابق دائما مع العنصر الخارجي. لذلك، فان المبدأ سوف يستبق تأثيراته وربما نستطيع ان نتعلم شيئا حول المبدأ عبر محاولة فهم هذه التأثيرات.

المبدأ الواحد الذي يبرز منه كل شيء

الكثير من الإنجذاب للافاطونية الجديدة يكمن في أناقة وصف بناء الواقع عندما يأتي من مبدأ احادي. لكن حتى عند قبول البساطة الكلية لهذا المبدأ، نحن مع ذلك نستطيع التفصيل حول مفهوم النوس، وهو في الواقع "المبدأ الثاني" للفلسفة الافاطونية الجديدة.

من الجدير التأكيد على الكيفية التي يكون بها الاساس الانطولوجي للنوس في نشاز مطلق مع نزعة الفلسفة الحديثة في تصور الوعي كنتاج للعلاقة بين الأجزاء المادية. حتى اكثر الماديين تحمسا بشان ارادة العقل، اذا كانوا مدركين لذواتهم قليلا، ستكون لديهم لحظات يشكّون فيها من ان أي آلية مادية هي سبب كاف لعمليات العقل. وبكلمة اخرى، حتى في الثقافة الفلسفية التي هي معادية نسبيا للطريقة الافلاطونية الجديدة في تصور الوعي، يبدو انه أحد شكوكنا السرّية بان هذا الوضع الراهن يفتقر لشيء ما.

هذا ربما يكون مفيدا في توضيح مواقف فلسفية مثل عقيدة الروحية الشاملة (panpsychism ) - القائلة بان كل شيء مهما كان صغيرا له عنصر في وعي الفرد - والتي شهدت انتعاشا اخيرا ضد المادية حول العقل. ان مبدأ العقل(nous ) او الوعي هو البوابة لفهم العناصر الافلاطونية الجديدة الأكثر تميّزا للعقل. وبالذات، انه من خلال تصوّرهم للوعي الذي فهمه الافلاطونيون الجدد كخلق للأشكال، تلك المفاهيم التي يراها افلاطون تشكل الطبيعة الواقعية للواقع الذي وراء عالم الظهور.

الإفلاطونية الجديدة والمسيحية

الإفلاطوني الجديد يتصور الوعي باعتباره ينشأ من المبدأ الأول، مبدأ الوحدة او الواحد. مع ذلك، حتى عندما يكون الوعي، كما كان، ينحدر من هذا المبدأ الاول انطولوجيا، فان من طبيعة الوعي ان يفكّر في أصله والرجوع الى هذا المبدأ الاول من أجل التفكير فيه . الافلاطونيون الجدد يؤمنون بان هذا الوعي بالوجود الآخر يشطر الوعي الى اثنين. مع ان الاسباب لهذا غير ثابتة عبر التقاليد الافلاطونية الجديدة (ونادرا ما تكون واضحة)، فمن المحتمل، ان الفكرة هي ان هناك فرق نوعي هام بين الوعي من حيث ارتباطه بما هو ثانوي انطولوجيا، والوعي من حيث ارتباطه بأعلى مراتبه الانطولوجية. في اية حال، انه تفككك الوعي الذي يراه الافلاطونيون الجدد سبب خلق الأشكال – الاختلاف، التعدد، الهوية، المساواة، وأكبر او أصغر من، وجميع المفاهيم على اختلافها .

ربما يجدر الإختتام بمحاولة توضيح لماذا الافلاطونية الجديدة، رغم صعوبتها تستحق الفهم. الافلاطونية الجديدة تستحق الفهم لأجلها بالذات، لكنها تستحق اهتمام أي شخص آخر وبشكل منفصل يريد فهم كيف تطورت الفلسفة اثناء الفترة التي اصبحت فيها المسيحية والاسلام قوتين تاريخيتين عالميتين وجاءا ليهيمنا على التيارات الفكرية في مجتمعاتهما. فهم الافلاطونية الجديدة هو ايضا اساسي لفهم فلسفة القرون الوسطى (في كل من المسيحية والاسلام)، ومن ثم، البيئة التي برزت بها الفلسفة كما نعرفها اليوم.

***

حاتم حميد محسن

التنظير الكلاسيكي لمفهوم علم الاجتماع: النظرية العضوية لنشوء وتطور المجتمع عند هربرت سبنسر

- تمهيد: لقد عارض أنصار الدارونية الاجتماعية وعلى رأسهم سبنسر فكرة كونت التي تذهب إلى أن تطبيق المعرفة العلمية يمكن أن يؤدي إلى الإسراع بالتقدم الاجتماعي. فقد شاركوه في ادعائه بأن التغير الاجتماعي عبارة عن عملية تطورية. ولكنهم أضافوا إلى ذلك، أن التغير محتوم بقوى لا تثنى ولا يمكن أن تتعدل بالفعل الإنساني وكل المحالات التي تبذل للتأثير في مجرى (النمو التطوري) لن تؤدي إلا إلى قلقلة التوازن الاجتماعي الموروث الأمر الذي يحدث أسوأ الآثار، وكان هدف العلم الاجتماعي عندهم، اكتشاف المراحل الحتمية في التطور الاجتماعي، متمثلين تشارلز داروين في تتبعه لتطور الأنواع الحيوانية “ (1).

يمكن اعتبار دراسة هربرت سبنسر* بعنوان " مبادئ علم الاجتماع The Principles of Sociology"(2) التي تقع في ثلاثة مجلدات والتي نشرت سنة 1877 هي أول دراسة منهجية خُصصت لتناول قضايا التحليل في علم الاجتماع. وكان هذا الباحث أكثر تحديداً من كونت من حيث بيان الموضوعات أو الميادين التي يجب أن تحتل أهمية في التحليل السوسيولوجي في نظره.

فقد أوضح في المجلد الأول من كتاب " المبادئ " مجالات الدراسة في علم الاجتماع حيث ذكر أنه على علم الاجتماع أن يوضح لنا كيفية نشوء الوحدات والأجيال المتعاقبة، وكيفية تنظيمها بحيث تحقق التعاون المتبادل. ويمكن تلخيص المبادئ التي تقوم عليها هذه المدرسة، فيما يلي(3):

1) " يعد مفهوم التطور Evolution المفهوم الرئيسي لفهم العالم بكامله، والمبدأ الأساسي الموحد لكل العلوم، وهو القانون السامي لكل الموجودات، إنه سنة الوجود وقانونه الحاكم، فالطبيعة تتضمن أنماطاً متباينة من الحياة تخضع جميعها لعمليات من التحول والتطور المستمر "(4).

2) اعتبار علم الحياة هو الأساس الذي يقوم عليه علم الاجتماع.

3) إن المبادئ الحيوية يجب أن يكون لها اعتبارها عند تفسير الظاهرة الاجتماعية.

4) إن المجتمع الإنساني وحدة حية تختلف عن كونها مجرد مجموعة من الأفراد المنعزلين.

5) لما كان أفراد المجتمع يخضعون للقوانين البيولوجية فإن المجتمع الإنساني بذلك لا يخرج عن كونه كائناً عضوياً.

6) لما كان المجتمع الإنساني كأي كائن عضوي يتكون من خلايا حية، (الأفراد) أصبح المجتمع بذلك كالكائن العضوي في تركيبه وأعضائه ووظائفه.

7) التطور الاجتماعي للإنسان استمراراً للتطور الذي يسميه (ما فوق العضوي) للحيوان، وهذا الأخير ليس إلا استمراراً لعملية التطور العضوي.

بناءً على ما تقدم يهدف المقال إلى مناقشة الأفكار الرئيسية التالية:

أولاً- علم الاجتماع والاتجاه العضوي: يعد الاتجاه العضوي من أهم الاتجاهات السوسيولوجية في تاريخ الفكر الغربي، وقد ارتبط مع عالم الاجتماع الانكليزي هربرت سبنسر (Herbert Spencer). ويهدف هذا الاتجاه إلى وضع مماثلة نظرية ومنهجية بين المجتمع والكائن العضوي، متأثراً في ذلك برواد الفكر البيولوجي، أمثال: داروين، ولامارك، وبرونوتيير، ومندل... ويعني هذا أن هربرت سبنسر ينظر إلى المجتمع نظرة بيولوجية تطورية أو عضوية*.

فقد لاحظ سبنسر أن هناك تشابهاً بين المجتمع والجسم الحي ولكنه تشابه غير كامل. إذ يستمد كل منهما كيانه ووحدته وتماسكه من عوامل خاصة به. فالعوامل التي تؤدي إلى وحدة الجسم هي عوامل مادية داخل الجسم، أما المجتمع فيستمد وحدته من عوامل خارج جسم الأفراد، مثل العادات والتقاليد والأعراف والأنماط الثقافية، وقد أطلق على تلك العوامل الاجتماعية اصطلاح ما فوق العضوي، وقد لاحظ سبنسر أن الجماعات الإنسانية تميل دائماً إلى النمو، فيكبر حجمها ويزداد فيها التنظيم والتكامل وكلما ازداد التباين البنائي ازداد تساند أجزاء الكائن الاجتماعي واعتمد بعضه على بعض (5). " بذلك يتوقف التطور الاجتماعي على حدوث تغيرات جوهرية في أشكال التجمع الإنساني. وليست عملية التطور في جوهرها إلا تنوعاً متلاحقاً، بحيث يتفرع عن نوع واحد من الكائنات عدد من النماذج المختلفة، ومثل هذا التنوع الذي يحدث في أشكال الحياة الاجتماعية هو المظهر الدائم للحياة الاجتماعية"(6).

ثانياً- سياق الاتجاه العضوي: سنحاول في هذا العنصر استعراض الأفكار التالية:

1. ظهر الاتجاه السوسيولوجي العضوي في القرن التاسع عشر الميلادي، مع ازدهار العلوم الطبيعية، وخاصة البيولوجيا التي تدرس الكائنات العضوية الحية. وقد تحقق هذا التطور العلمي مع البيولوجي داروين، ولامارك، وماندل ... وغيرهم.

2. تأثرت السوسيولوجيا بدورها بأفكار النظرية العضوية البيولوجية، واستعملت مفاهيمها النظرية والمنهجية والتطبيقية في وصف المجتمعات وتصنيفها ومقارنتها.

3. جاءت هذه النظرية كرد فعل لتطلعات إنكلترا في الهيمنة والسيطرة على الشعوب الأخرى لتصريف منتوجاتها الفائضة، فكان الصراع هو محركها. فكان لابد من رؤية سوسيولوجية تؤيد هذا المشروع الرأسمالي الإمبريالي، وتبرر الرغبة العارمة في السيطرة وإلى إشعاع الحروب التوسعية الاستعمارية، فكان نتيجة ذلك أن ظهر الاتجاه العضوي الذي يؤمن بالصراع والتطور والبقاء للأصلح.

4. وهكذا كانت طبيعة المناخ السياسي والفكري والاقتصادي الذي كان سائداً في إنكلترا آنذاك بحاجة إلى نظرية اجتماعية تقدم الدعم الإيديولوجي الذي يمجد الصراع داخلياً والحرب خارجياً من أجل البقاء والتقدم.

5. جاء سبنسر، وهو المعروف بإعجابه بالمذهب الدارويني*، ليؤكد أهمية وطبيعة وحتمية فكرة القوة والصراع كأساس للعلاقات الاجتماعية سواء بين الأفراد أو الجماعات، وبأشكال مختلفة. ونظراً إلى طبيعة وحتمية هذه الظواهر، تعد كل محاولة للوقوف في وجهها محاولة فاشلة وغير علمية وضارة لأنها تخالف قوانين الطبيعة. ويعني ذلك أن النظرية الوضعية هي التي كانت تمد إنجلترا بالطاقة الحيوية القائمة على القوة والصراع والسيطرة من أجل البقاء والاستمرار في الحياة(7).

ثالثاً- مفهوم الاتجاه العضوي في علم الاجتماع: يقصد بمفهوم العضوية بالمفهوم الذي يعقد المماثلة بين المجتمع والكائن الحي. بمعنى، أن المجتمع يتطور كتطور الكائن الحي أو الكائن العضوي. أي تتعرض المجتمعات الإنسانية لثلاث مراحل أساسية هي: النشوء، والارتقاء، والانحلال، أو لظاهرة الولادة والتكيف والفناء.

تستند هذه الرؤية العضوية البيولوجية في مرجعتيها الفكرية والنظرية إلى أفكار ومبادئ تشارلز داروين في النشوء والارتقاء. " كما عرفت نظريته (سبنسر) بالدورانية الاجتماعية، لأنها كانت تؤكد أن مجتمعات معينة، وهي غالباً المجتمعات الغربية، تعد أكثر تفوقاً وطبيعية من غيرها "(8).

يرى سبنسر المجتمع الإنساني يُولد ويتدرج في تطوره ورقيه حتى يصيبه الفناء والزوال. ويعني هذا أن تطور المجتمعات البشرية خاضعة للحتمية البيولوجية أو الحتمية التطورية العضوية.

يعتبر هربرت سبنسر من أبرز أنصار الاتجاه العضوي في علم الاجتماع الذين يحاولون الأخذ بفكرة المماثلة العضوية بين المجتمع والكائن العضوي والتأكيد على أن تطور المجتمع الإنساني يسير عبر مجموعة من المراحل الحتمية التي لا يمكن لإرادة البشر تغييرها، فالتطور الاجتماعي عند أنصار هذا الاتجاه محكوم بقوى طبيعية تتجاوز إرادة الإنسان.

تقوم أفكاره على مبدأ التطورية التاريخية* المستندة على ثنائية التجانس واللاتجانس، وثنائية البساطة والتركيب، وثنائية التماثل والتباين، وثناية التباين والتكامل. ومن هنا فقد أقام سبنسر" تصوره لعلم الاجتماع على مبدأ المماثلة بين الحياة البيولوجية والحياة الاجتماعية، حيث يقرر أن في الحياة ميلاً إلى التفرد، والتفرد هو غاية كل ارتقاء، وكل ارتقاء إنما ينطوي على الانتقال من التماثل إلى التباين، أو من المتجانس إلى اللا متجانس، ويقرر كذلك أن التخصص هو غاية كل تطور وارتقاء في الموجودات، وينتقل سبنسر بهذه الحقائق من ميدان الحياة البيولوجية إلى ميدان الحياة الاجتماعية، فيحاول تطبيقها على هذه الحياة مشبهاً إياها بالحياة البيولوجية، وبعد أن يشرح كيفية نشأة الحياة الاجتماعية وتطورها ووضوح وظائفها، وازدياد ظاهرة التفرد والتخصص حتى وصلت في العصر الحاضر إلى أدق مظاهرها(9).

ويعرف سبنسر علم الاجتماع بناءً على ما تقدم بأنه العلم الذي يصف ويفسر نشأة وتطور النظم الاجتماعية مثل الأسرة، والضبط الاجتماعي والعلاقات بين النظم المختلفة، علاوةً على أن علم الاجتماع يقوم بمقارنات متعددة بين المجتمعات على اختلاف أنواعها لمعرفة تطورها. كما يتناول علم الاجتماع دراسة البناء والوظيفة التي توجد في المجتمعات عامةً (10). أما المجتمع عنده فهو " تنظيم تقوم به المجموعة بشرح وتأكيد الترابط المعقد للأجزاء المختلفة"(11).

رابعاً- أهم المبادئ التطورية عند هربرت سبنسر: تنحصر في أهم المبادئ التالية:

1- يرى سبنسر في كتابه الاستاتيكا الاجتماعية أن التقدم سواءً في مجال الكائنات العضوية أو المجتمع إنما هو تطور من ظروف تؤدي فيها الأجزاء المتشابهة وظائف متشابهة إلى ظروف تؤدي فيها الأعضاء أو الأجزاء غير المتشابهة وظائف غير متشابهة أي من الشكل الموحد إلى الأشكال المتعددة أو التجانس إلى اللاتجانس.

2- بذلك يعتبر المبدأ التطوري عند سبنسر الأساس الحقيقي لمذهبه فقد صاغ في كتابه المبادئ ثلاثة قوانين أساسية هي:

أ- قانون استمرار القوة الذي يشير إلى وجود واستمرار نوع من العلة النهائية تفارق المعرفة.

ب- قانون عدم قابلية المادة للفناء.

ج- قانون استمرار الحركة ويعني أن الطاقة تتحول من شكل إلى آخر لكنها تستمر في هذه العملية.

ويرى أن هذه القوانين وما أضافه إليها فيما بعد يمكن أن تتمثل في قانون التطور الذي كان عنده بمثابة القانون السامي لكل موجود.

بمعنى آخر، بنى هربرت سبنسر نظريته التطورية على الفرضيات العلمية التي استمدها من علم الفيزياء والبيولوجيا، وهي (12):

- قانون ثبات الطاقة: أي أن هناك استمراراً لنوع معين من الطاقة الموجهة لكافة الظواهر، والتي تستند إليها هذه الظواهر ولكنها بعيدة عن إدراكنا ومعرفتنا ويشير هذا القانون إلى وجود واستمرار نوع من العلّة النهائية تفارق المعرفة.

- قانون عدم قابلية المادة للفناء: أي أن العناصر الرئيسية للمادة والطاقة في العالم لا تخلق ولا تتحطم وتفنى ولكنها تتشكل مع الحفاظ على بقائها.

- قانون استمرار الحركة أو اتصالها: أي أن هناك استمرار دائم للحركة في العالم فكل الأشياء تستمر في حركتها أي تحولها من شكل لآخر ولكنها تسير في الاتجاه الذي يتزايد فيه الجذب وتقل المقاومة.

- الشكل الموحد للقانون: ويعني أنه يوجد نوع من الاطراد أو الانتظام في العلاقات بين الظواهر المحددة في العالم.

- كافة ظواهر الطبيعة لها معدل وإيقاع خاص للحركة والاستمرار والتطور: أي أن لكل ظاهرة نمط خاص للتحول يعتمد على طبيعة تنظيم الطاقة التي تتحكم فيها وعناصر المادة ونمط الحركة.

وهكذا يحاول سبنسر تطبيق خلاصة قناعاته على المجتمع مستشهداً بأن الحياة الاجتماعية تشبه الحياة البيولوجية، فالتطور الاجتماعي يقوم على فكرتين أساسيتين:

- التباين: يقصد به الانتقال من المتجانس إلى اللاتجانس، وقد قرر في هذا الصدد أن في الحياة ميلاً إلى التفرد والتخصص.

- التكامل: وهذه الظاهرة تسير جنباً إلى جنب مع ظاهرة التباين بمعنى أن التفرد أو التخصص لا يؤد إلى الاستقلال والاكتفاء الذاتي. ولكنه يؤدي إلى التضامن والتماسك واعتماد الأجزاء والوظائف بعضها على البعض الآخر.

إنه تطور من حالة عدم التماسك والترابط إلى حالة التماسك والترابط، ومن عدم التمايز، إلى حالة تمايز البناءات والوظائف وتخصصها، إنه - وباختصار شديد - تطور من حالة التجانس إلى حالة اللاتجانس والتباين الداخلي في البناء الوظيفي. وهي حالة من التحول والتغير تتسم بالتوازن والثبات والاستقرار (13).

كما يصل سبنسر أيضاً في نظريته التطورية (العضوية) إلى قناعة أن التخصص هو غاية كل تطور وهذا القانون قائم على دعامتين كما يتصوره:

- كلما ازداد المركب الحيوي تعقيداً كلما ازداد تخصصاً وتفرداً.

- كلما ازدادت الأعضاء تفرداً وتخصصاً كلما ازدادت استقلالاً. وهو يرى أن الإسراف في التخصص لا يعني استقلال كل كائن عن الآخر وكل طائفة اجتماعية عن بقية المجتمع ولكن هذا التخصص ينطوي على التضامن والتعاون ويتجه نحو التآلف.

بناءً على تقدم يعتقد سبنسر أن المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون، وعلم الاجتماع هو محاولة لمعرفة نشأة المجتمع وتركيبته وعناصره وهيئاته ومراحل نموه وتطوره وما إلى ذلك من المظاهر التي تخلقها العوامل الطبيعية والنفسية والحيوية.

" بذلك تنسحب مسلمة الطابع التطوري التقدمي لتشمل كل الموجودات والكائنات الحية والاجتماعية، إنها القانون العام للتقدم في النظم غير العضوية، والعضوية، وفوق العضوية أو الاجتماعية. ويشكل هذا القانون الأساس الحقيقي لمذهب سبنسر، وإطاره المفاهيمي والنظري الذي قام بصياغته لمعرفة العالم الاجتماعي وفهمه، والنموذج الذي قدمه عن المجتمع الإنساني "(14).

خامساً- إسهامات سبنسر في علم الاجتماع: يعتبر سبنسر مؤسس السوسيولوجيا التطورية أو الداروينية أو السوسيولوجيا العضوية الوظيفية. وقد شبه المجتمع بالكائن العضوي، كل عضو يقوم بوظيفة معينة في إطار النسق الكلي.

وتأثر في ذلك بمبادئ الطبيعة، وقد استعمل منهج التفسير لاستكشاف قوانين التطور لدى المجتمعات الإنسانية تحليلاً وتصنيفاً ومقارنةً. وقد استعان سبنسر بالتاريخ لرصد تطور المجتمعات، فقد وجد أن المجتمعات البدائية كانت تتميز بسمات البساطة والصفاء. في حين، تتميز المجتمعات الحضارية بسمات التخصص والتعقيد والتركيب والاختلاف(15).

هذا، وقد قدم هربرت سبنسر دراسات عدة في مجال السوسيولوجيا، مثل: الاستاتيكا الاجتماعية 1850، المبادئ الأولى 1862، والسوسيولوجيا الوصفية 1873، ومبادئ علم الاجتماع 1876-1896، ومدخل إلى العلم الاجتماعي 1884.

وهنا يجب أن نشير أن هدف هربرت سبنسر لم يكن تصحيح المجتمع أو تحسين أحواله، بل المهم هو فهم هذا المجتمع على نحو أفضل، وتفسير تطور المجتمع وتغيره من حالة إلى أخرى، بالاعتماد على المنهج البيولوجي التطوري الذي بلوره تشارلز داروين في كتابه (أصل الأنواع). ومن أهم الإسهامات التي قدمها سبنسر في مجال علم الاجتماع ما يلي:

- المماثلة البيولوجية

- المجتمع ومراحل تطوره

1- المماثلة البيولوجية: يعتبر المبدأ التطوري أساس نظرية سبنسر في علم الاجتماع، لكنه مع ذلك قدم مبدأ ثانوياً آخر لعب درواً رئيسياً في نسقه الفكري، هو المماثلة العضوية (البيولوجية). فقد لاحظ سبنسر العديد من أوجه التشابه بين الكائنات الاجتماعية والكائنات العضوية على النحو التالي (16):

أ‌- يتميز كل من المجتمع والكائنات العضوية عن المادة غير العضوية بالنمو الواضح خلال الشطر الأكبر من وجودهما مثال الرضيع ينمو حتى يصبح رجلاً والمجتمع الصغير يصبح منطقة متروبوليتارية· والدولة الصغيرة تصبح إمبراطورية.

ب‌- تنمو كل من المجتمعات والكائنات العضوية وتتطور في الحجم، كما أنها تنمو في درجة تعقدها البنائي. ويقصد بذلك أن الكائنات البدائية بسيطة والكائنات العليا معقدة وكذلك المجتمعات.

ت‌- يؤدي التطور سواء في المجتمعات أو الكائنات العضوية إلى تباينات في البناء والوظيفة، وكل منهما يجعل الآخر ممكناً.

ث‌- يصاحب التفاضل أو التمايز التقدمي في البناء سواء في المجتمعات أو الكائنات العضوية تمايز تقدمي في الوظائف فكل عضو يؤدي وظيفة محددة لمركب الكائن العضوي، كما أن التنظيمات المختلفة تؤدي وظائف مختلفة في المجتمع الذي ينقسم إلى مثل هذه التنظيمات.

وقد أدرك سبنسر أن تطور المجتمعات يخضع لقوانين غير التي يخضع لها تطور الأفراد. والدراسة العلمية التي يحققها علم الاجتماع، حين يستقل بمنهجه الخاص، هي التي تطلعنا على القوانين الخاصة بتطور كل مجتمع على حدة (17). مما يعني أن هناك فروقاً هامة بين المجتمعات والكائنات الحية يتمثل (الفرق الأول) في أن أعضاء الكائن الحي تكون كلاً ملموساً، أما أجزاء المجتمع حرة الدعائم ومشتتة بدرجات متفاوتة. أما) الفرق الثاني (يتمثل في أن الوعي أو الشعور يتركز في جزء صغير من كل الكائن الحي بينما هو ينتشر في الأعضاء والأفراد في المجتمع. أما) الفرق الثالث (في أن أعضاء الكائن الحي إنما توجد لتحقيق الفائدة للكل بينما يوجد المجتمع لمجرد تحقيق الفائدة لأعضائه الفرديين. (ويرى سبنسر أن المجتمع ليس كائناً عضوياً طالماً أن هناك فروقاً جوهرية بينه وبين الكائن العضوي). وأكد أن المماثلة البيولوجية ما هي إلا معبراً أو دعامة لإقامة إطار متماسك من الاستقرار السوسيولوجي، ويقول إذا ما نزعنا هذا المعبر قامت الاستقراءات بذاتها(18).

2- المجتمع ومراحل تطوره: إن تطور المجتمع كما حدده سبنسر، عبارة عن تنشئة اجتماعية تدريجية للإنسانية، كعملية تحدث في استقلال تام عن الممارسة البشرية.

حدد سبنسر المجتمع " كشيء " ينمو بدءاً " بحشود أو تجمعات " بسيطة البناء، انتهاءً ببناءات معقدة. وهذا يعني أن المجتمعات في حالة حركة مستمرة وسائرة نحو هدف معين، وهذه الحركة تمر من صيغة بسيطة وواطئة إلى صيغة معقدة ومتشعبة(19)، أي إن الحقيقة الرئيسية للتطور (من وجهة نظر سبنسر) تتمثل في الحركة من المجتمعات البسيطة، إلى المجتمعات المركبة، فالمجتمع المركب انبثق عن المجتمع البسيط، ومركب المركب عن المركب، ومركب مركب المركب عن مركب المركب. ويتكون المجتمع البسيط من الأسر، أما المركب فيتكون من أسر تتحدد في عشائر، ويتكون مركب المركب من عشائر تتحدد في قبائل، بينما يتكون مركب مركب المركب " كمجتمعاتنا " من قبائل تتحدد في أمم أو دول (20).

ويرى سبنسر أنه من الضروري أن يحدث بين هذه التجمعات البشرية اتحاداً حتى تصل إلى أرقى مظهر وأكثر تطوراً من مظاهر الحياة الاجتماعية. كما يرى سبنسر أن المجتمعات الإنسانية في تطورها تخضع لقوانين التطور حيث تنتقل المجتمعات من المجتمعات العسكرية (الحربية) إلى مجتمعات صناعية، وهي على النحو التالي (21):

1- المجتمعات العسكرية (الحربية): وهي تمثل المجتمعات البدائية والمتخلفة، حيث يسودها مبدأ النزعة العسكرية والتعاون الإجباري واستعدادها الدائم للحروب والعمليات العسكرية، وهي تفتقر إلى التمايز البنائي المعقد، وتسيطر عليها المركزية والديكتاتورية، خاصة في مظاهر السلوك والتنظيم الاجتماعي، أما النشاط الاقتصادي يقوم على الاكتفاء الذاتي وقليل من التجارة الخارجية، وتتركز السمات الفردية حول مفاهيم متعددة مثل الولاء والطاعة والإخلاص للسلطة والنظام. وعندما يسود السلام النسبي بين هذه المجتمعات تتجه نحو التصنيع، ومن هنا ينتقل المجتمع إلى المرحلة الثانية.

2- المجتمعات الصناعية: وهي المجتمعات التي تطورت من خلال القانون العام للتطور، لذا تعتبر أكثر تعقيداً وتمايزاً من الناحية البنائية، وتتميز بتعدد المعتقدات والنظم المستقلة واللامركزية والميل نحو الفردية، ويشيع في هذه المجتمعات نمط التعاون الاختياري التطوعي، وعلى حياة التبادل بين الأفراد من أجل الخدمات وذلك ناتج عن زيادة تقسيم العمل والتخصص. كما تتميز تلك المجتمعات بالسلم والصناعة والأخلاق الحسنة ومرونة التنظيم الاجتماعي والرخاء. على آية حال يعكس هذا النوع الأخير من المجتمعات (الصناعية) مدى اهتمام سبنسر بتحليل طبيعة المجتمع الذي عاش فيه، وكان نواة لتطور التنظيم الاقتصادي والرأسمالي ذي الطابع الليبرالي والقائم على فكرة المنافسة الحرة)(22).

وفي النهاية، يوضح لنا سبنسر أنه ليست هناك ضرورة ملحّة لتحول المجتمعات البشرية خلال مراحل التطور المحددة سابقاً. كما أن كل مجتمع لا يشبه الآخر تماماً فهناك فروقاً بين المجتمعات ترجع إلى الاضطرابات التي تتدخل في خط التطور المستقيم. فالمجتمع في نظره كالفرد يطاله التطور، ويخضع لقوانينه التي لا ترحم وهي: النشوء، والارتقاء، ثم الانحلال. فالوحدة السياسية تنمو من الأسرة والقبيلة، فالمدينة والدولة ثم هيئة الأمم. وكذلك سائر النظم الاقتصادية وغيرها فهناك نظم تولد وأخرى تفنى، فالمجتمع يخضع للقوانين نفسها التي يخضع لها الكائن الحي في نشأته وارتقائه وانحلاله، ومهمة علم الاجتماع هي محاولة معرفة نشأة المجتمع وتركيبه وعناصره وهيئاته ومراحل نموه... والنظم الاجتماعية بدورها تخضع للمبدأ نفسه في تطورها وارتقائها من حالة التجانس إلى حالة اللاتجانس.

- تقييم سبنسر: بناءً على ما تقدم نستنتج ما يلي(23):

1- إن السوسيولوجيا العضوية عند سبنسر تقوم على فكرة الصراع التطوري، وليس على الصراع الجدلي كما عند كارل ماركس وانجلز، وتقسيم المجتمعات إلى بسيطة ومركبة، وحربية وصناعية، ثم القول بمبدأ البقاء للأقوى والأصلح، ومبدأ الحرية الفردية، وربط القيم الأخلاقية باللذة والمنفعة، والتركيز على حتمية التطور الاجتماعي المستمر عبر الزمان.

2- ولذلك، فقد كان سبنسر، على النقيض من كونت، يبتغي من علم الاجتماع أن يوضح ضرورة عدم تدخل الناس في العمليات الطبيعية التي تجري في المجتمع، فالطبيعة من تلقاء نفسها تميل إلى التخلص من الطالح، وتحتضن الأصلح وتبتغيه.

3- وهذا التوجه يعني في المحصلة، الدفاع عن الأوضاع الراهنة آنذاك، ودعوة مكشوفة لتثبيتها، وتبريراً لفظائع المد الاستعماري ومآسيه، وتبريراً ملحوظاً أيضاً للمنافسة الاقتصادية الصارمة في إطار النظام الرأسمالي العريق الذي كان يسود إنكلترا.

4- يعتبر هربرت سبنسر من رواد علم الاجتماع الذين أخذوا بمنهج التفسير التطوري في دراسة الظواهر المجتمعية، بمقارنة المجتمعات البدائية القديمة بالمجتمعات الحديثة على مستوى المكونات والسمات، ولا شك أن له دوراً هاماً في تطور التنظير السوسيولوجي. غير أن الإسراف في اتجاهاته البيولوجية قللت من قيم أعماله.

5- ومن الجدير بالذكر أن موقف سبنسر من الصراع الاجتماعي نادراً ما يذكر عند الحديث عن الصراع الاجتماعي، لأنه كان محسوباً على الاتجاه الوظيفي الذي انتقد بشدة من قبل الاتجاه الصراعي في علم الاجتماع. وبالرغم من أن سبنسر أكد على بعض العلاقات الجوهرية بين السلطة وعدم المساواة، والتهديد والصراع، حيث كان يرى سبنسر أنه كلما نمت المجتمعات وأصبحت أكثر تعقيداً فإنها تعاني من ضغوط الاصطفاء الطبيعي، وسيطرة الأقوى، والتعداد السكاني، حيث تؤدي ضغوط الاصطفاء وتدعيم السلطة بدرجات متنوعة إلى تمركزها بشكل نسبي في أيدي قليلة من أفراد المجتمع الذين سوف يستخدمون السلطة فيما بعد لجلب الموارد من مجموعة أخرى لها، وبالتالي تزيد من مستوى عدم التكافؤ في المجتمع الذي بدروه يؤدي إلى عدم المساواة الاجتماعية، ويتعامل الحلفاء الساخرون مع تلك التهديدات الملحوظة لتشجيع المزيد من السلطة. وبالتالي كلما عظم التهديد كلما كان احتمال تركزها الأكبر في أيادي القلة، وهذا بدوره يقود الممثلين السياسيين وحلفائهم للتمكين من السلطة والاستيلاء عليها، ولتمويل المتطلبات المتزايدة للتحكم الاجتماعي(24). ومن الممكن حصر المجتمعات في هذه الدائرة التصاعدية لاستخدام السلطة للحصول على الموارد مولدة بذلك عدم المساواة والتهديد، الذي يتطلب أن تستخدم السلطة سلطتها الأقوى للاستيلاء على الموارد أكثر من ميلها إلى القمع بالتهديد، وعلى المدى الطويل، فالمجتمعات المحاصرة داخل هذه الدائرة ستولد بالنهاية ظروف الصراع المفتوح بين طبقات المجتمع المختلفة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

(1) محمد عاطف غيث: دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1975، ص(38).

* هربرت سبنسر (1820-1903) فيلسوف وعالم اجتماع إنجليزي، وهو واحد من واضعي أساسات المذهب الموضوعي، وصاحب عبارة: (البقاء للأصلح) التي تصف خاصة من خواص التطور في الكائنات الحية والمجتمعات. ولد سبنسر في بإنجلترا عام 1820 لأسرة كاثوليكية محافظة من الطبقة المتوسطة، لم ينتظم في التعليم الأكاديمي بالمدرسة الحكومية في طفولته، حيث اختار له أبوه " ويليام جورج سبنسر " أن يتلقى العلم عن طريق الكتب، وخاصة الكتب العلمية في فروع الرياضيات والطبيعة. وقد اشتغل بالتدريس في بداية حياته ثم عمل مهندساً بالسكك الحديدية، وظل طوال فترة عمله مشغولاً بالعلوم والظواهر الطبيعية حتى قرر الانخراط في مجالات الأدب والسياسة والتحليلات الاجتماعية، فغير وظيفته واشتغل محرراً في جريدة " الإيكونومست الاقتصادية "، وكانت كتاباته المبكرة عام 1848 تدور في هذا المجال، وفي عام 1851 انضم إلى مجموعة " جون تشابمان " التي كانت تنادي بالفكر الحر والإصلاح، ولاقت كتابات سبنسر في تلك الفترة رواجاً كبيراً، حيث انتشرت فكرته عن أن البقاء للأصلح والنشوء والارتقاء مبادئ تصلح لكل المجالات وللبشر والحيوانات على حد سواء، وكان يرى أنه لا مكان للضعيف في عالم الأقوياء. ألّف سبنسر مجموعة ضخمة من الكتب تتصف بدقة التحليل وعمق الأفكار وأصالتها، ولهذا يعد من مؤسسي علم الاجتماع الحديث. وقد رحب الرأسماليون بفكر سبنسر، واعتبروا نظرياته مسلماً بها، وذلك لأنه كان يعتبر صعودهم للحكم ليس فقط نتيجة حتمية بل حقيقة علمية. وكان سبنسر من أشد المعجبين بالداروينية الاجتماعية، حتى إنه حنث بيمينه بعدم دخول أي كنيسة، إلا ليحضر الصلاة على روح دارون. وقد وضع سبنسر نظريات في علم الاجتماع، أهمها المماثلة العضوية، حيث رصد التشابه بين تكوين الكائنات الحية، وجعل المجتمعات كالكائنات الحية أيضاً تتماثل في التطور من المجتمعات البسيطة إلى المجتمعات المركبة. ومن أهم مؤلفاته ما يلي: " الرجل ضد الدولة "، و" أسس علم الحياة "، و" أسس علم النفس "، و" مبادئ علم الاجتماع "، و " الاستاتيكا الاجتماعية ". توفي سبنسر في بإنجلترا عام 1903 تاركاً جيلاً من المتأثرين به، كانوا هم أشهر فلاسفة الجيل التالي له.

(2) Herbert Spencer: The Principles of Sociology, in Three Volumes (1-2-3), D. Appleton and Company, New York, 1898.

(3) عبد الحميد لطفي: علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، بدون تاريخ، ص (270).

(4) عبد الله شبلي: علم الاجتماع الاتجاهات النظرية وأساليب البحث، دار الشمس للطباعة، القاهرة، 2008، ص (91)

* اتجاه يرى أن حياة الكائن تنتج من تركيب أعضائه الخاصة، ويقابل الحياتية التي ترد الحياة والحركة إلى قوة باطنة في الكائن. ويطبق في علم الاجتماع، فيعد المجتمع كائناً حياً، ويفسر ظواهره تفسيراً عضوياً. والعضوي كل ما يتعلق بالأعضاء أو وظائفها.

(5) ميادة القاسم: تأخر سن الزواج عند الشباب – العوامل والمنعكسات الاجتماعية (دراسة سوسيولوجية- ميدانية)، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص (101).

(6) فاروق محمد العادلي: علم الاجتماع، دار المعارف القاهرة، سلسلة كتابك (28)، 1977، ص (15).

* الداروينية هي نظرية تشرح التطور البيولوجي طورها عالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز داروين (1809-1882) ومعه علماء آخرون، تنص على أن جميع أنواع الكائنات الحية تنشأ وتتطور من خلال عملية الانتقاء الطبيعي للطفرات الموروثة التي تزيد من قدرة الفرد على المنافسة والبقاء على قيد الحياة والتكاثر. تسمى أيضاً النظرية الداروينية وقد تضمنت المفاهيم العامة لتغير الأنواع أو التطور واكتسبت قبولاً علمياً عاماً بعد نشر داروين كتابه أصل الأنواع في عام 1859، وتضمنت المفاهيم التي سبقت نظريات داروين.

(7) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، الجزء:1، ط1، 2021، ص(302-303).

(8) ريتشارد أوزبرن وبورن فان لون: أقدم لك... علم الاجتماع، ترجمة: حمدي الجابري، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 548، ط1، 2005، ص (40).

* الفكر التطوري هو الاعتقاد بأن الأنواع تتغير مع الوقت، له جذور في العصور القديمة، وله وجود في الفكر اليوناني، والروماني، والصيني. وعلى كل، فقد كان التفكير البيولوجي الغربي حتى القرن 18 يقوم على الجوهرية، أي الاعتقاد بأن كل الأنواع الخصائص الجوهرية غير قابلة للتغيير. بدأ هذا المفهوم بالتغير خلال عصر التنوير عندما انتقلت أفكار علم الكونيات التطوري والفلسفة الميكانيكية من العلوم الفيزيائية إلى علوم تاريخ الطبيعة. بدأ علماء الطبيعة بالتركيز على تنوع الكائنات؛ مع ظهور علم الإحاثة (علم الأحياء القديمة أو علم المتحجرات) ومفهوم الانقراض لتقويض النظرة الثابتة للطبيعة. في القرن 19، قام جان باتيست لامارك بوضع نظريته تحول الأنواع، أولى النظريات العلمية الكاملة للتطور. في عام 1858، نشر تشارلز داروين وألفرد راسل والاس نظرية جديدة للتطور تم شرح تفاصيلها في كتاب داروين أصل الأنواع (1859). على عكس لامارك، اقترح داروين سلف مشترك وفروع لشجرة الحياة. تقوم النظرية على فكرة الاصطفاء الطبيعي، وقد لخصت مجموعة من الأدلة من تربية الحيوانات، الجغرافيا الحيوية، والجيولوجيا، وعلم التشكل، وعلم الأجنة.

(9) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مرجع سبق ذكره، ص (304).

(10) عبد الرحمن محمد عبد الرحمن: علم الاجتماع النشأة والتطور، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1999، ص (49).

(11) جان ديفينيو: مدخل إلى علم الاجتماع، ترجمة: فاروق الحميد، دار الفرقد، دمشق، 2011، ص (86). لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: كتاب هربرت سبنسر: مبادئ علم الاجتماع، المجلد: (1)، الجزء:2، الفصل:1 بعنوان: (What is a Society).

- Herbert Spencer: The Principles of Sociology, in Three Volumes (1), op.cit , p.(447)

(12) نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، سلسلة علم الاجتماع المعاصر، الكتاب: الثاني، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978، ص (66).

(13) عبد الله شبلي: علم الاجتماع الاتجاهات النظرية وأساليب البحث، مرجع سبق ذكره، ص (92)

(14) المرجع السابق نفسه، ص (92)

(15) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مرجع سبق ذكره، ص (307).

(16) نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها، مرجع سبق ذكره، ص (71).

مدينة كبرى أو التجمع الحضري Metropolitan area مصطلح يطلق على المدن الكبرى مع ضواحيها المدن والقرى المجاورة لها. هو مركز كبير يتألف من عدد كبير من السكان والعاملين المرتبطين بهذه المنطقة، ويمتد على مجال ترابي واسع، من العادة اتخاذ اسمها من المدينة الكبيرة. ومن الجدير بالذكر أنه يوجد أكبر تجمع حضري في العالم بمدينة طوكيو اليابانية يمتد النسيج العمراني فيها بدون انقطاع ليشغل مساحة قدرها 10,000 (كم²)، ويضم أكثر من (30) مليون نسمة، يشمل العديد من المدن الصغيرة المتاخمة وثلاث مدن كبيرة. وهي وأيضاً مصطلح مختصر في بعض الأحيان إلى مترو الانفاق، ينبغي ألا يفهم خطأ على أنه يعني نظام مترو الانفاق والسكك الحديدية للمدينة.

(17) السيد محمد بدوي: علم الاجتماع ومشكلات المجتمع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995، ص (174)

(18) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مرجع سبق ذكره، ص(309).

(19) إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة – دراسة تحليلية في النظريات الاجتماعية المعاصرة، دار وائل، عمان، ط1، 2015، ص(114).

(20) نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها، مرجع سبق ذكره، ص (73-74).

(21) عبد الله محمد عبد الرحمن: النظرية في علم الاجتماع، ، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2006، ص (181).

(22) Herbert Spencer: The Principles of Sociology, in Three Volumes (2), op.cit, pp. (568-603).

(23) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مرجع سبق ذكره، ص(311-312).

(24) جوناثان ه. تورنر: علم الاجتماع النظري- مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود للنشر، الرياض، ط1، 2019، ص (49-50).

بقلم: جان فرانسوا دورتييه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

لقد اعتبرت فكرة " ثورة علميّة"، وهي الفكرة التي صاغها الكسندر كويري وأشاعها طوماس كوهن، بمثابة بداهة. إلى حدّ وصول جيل جديد من مؤرخي العلوم وضعوا الفكرة موضع السؤال من ناحية زمانها ووحدتها في آن واحد.

تقول الأسطورة إنه في ماي 1543، تمكّن نيكولا كوبرنيك، وقبل أن يسلم الروح، من أن يمسك كتابه بين يديه، وقد خرج للتوّ من المطبعة. أكّد الفلكي البولوني في كتابه :" ثورات الأفلاك السماوية"، بأنّ الأرض ليست في مركز الكون! في 1633 جاء الدور على قاليلي ليثبت صلوحية أطروحة كوبرنيك. وإذا ما كانت الكنيسة قد أدانت الرؤية الجديدة التي اقترحها هذان الرجللآن، فذاك أمر لا يهمّ : فالثورة العلمية تخطّ طريقها. أكد قاليلي في " حوار حول النظامين الكبيرين للعالم" (1632)، بأنّ " الطبيعة مكتوبة بلغة رياضية". وأن هذه القوانين يمكن أن تكتشف بفضل الحساب، والملاحظة والتجريب.

واصل علماء ذاع صيتهم أمثال ديكارت وليبنتز وجاسندي وهوينغنز وغيرهم كثير، وفي بعض العشرات من السنين، السير في هذا الطريق المفتوح. ليستكمل مسار الثورة العلمية مع نيوتن. عرض نيوتن في كتابه " المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" (1687)، قانون الجاذبية الكونية: قمّة العلم الكلاسيكيّ. لقد حدث بين كوبرنيك ونيوتن تحوّل علميّ : فقد اعتبرت الطبيعة من هنا فصاعدا محكومة بقوانين كونية يمكن كشفها بفضل الرياضيات والتجريب. نشأ العلم الكلاسيكي إذن...

هذه هي قصّة الثورة العلميّة مثلما تدرّس لزمن طويل، مبسّطة وفي عرض مختصر. تلك هي الحكاية التي لابدّ لنا مع ذلك من مراجعتها...

زمن الثــــــــــورات

لنعد أولا إلى مقولة " ثورة علمية". تدين هذه المقولة بنجاحها إلى عمل مؤرخين وفيلسوفيْ علوم: الكسندر كويري (1892-1964) وطوماس كوهن 1922-2009)، وإلى بعض الباحثين الأقلّ شهرة أمثال ريبار هال (1920- 2009) وهيبار بوتارفيلد (1900-1979). (1)

تنطلق فكرة هؤلاء من منطلق بسيط: لا يتقدّم العلم بطريقة خطية ومسترسلة على مدار الاكتشافات، مثلما يقرّ بذلك فلاسفة العلم للجيل السابق أمثال بيار دوهايم (1861-1916) أو ليون برانشفيك (1869-1944). يقدر هؤلاء المؤرخين، على العكس، بأن العلم يعرف في مساره، مثل المجتمعات، طفرات وثورات. توجد أوقات تضمحلّ فيها أنماط الفكر القديمة التي هيمنت طيلة قرون لتحلّ محلّها رؤية جديدة للعالم .

لقد كان ألكسندر كويري أوّل المساندين لهذه الرؤية. ولد هذا الأخير في روسيا، وساهم منذ سنّ 15 في الثورة الروسية. وقع إيقافه وسجن بعض أشهر، اكتشف فيها الفلسفة. وبعد سنوات، لما هاجر إلى ألمانيا ثم إلى فرنسا، بدأ مشواره كفيلسوف بدراسة تاريخ التصوّف، قبل أن ينكبّ على دراسة تاريخ العلوم. تتعلّق بحوثه بالكوسمولوجيا منذ القرن 16 و 17 م وخاصة بأعمال كوبرنيك، وجوهانس كبلر وقاليلي. وقد اتسمت هذه الفترة حسب كويري، بـ"بتحوّل في أطر التفكير ". فمن الكون المغلق، حيث الأرض هي المركز، نمرّ إلى "العالم المفتوح"« Univers infini »,، لتكون الأرض مجرد كوكب من بين كواكب أخرى (2). وقد كان " ترييض الفضاء" « mathématisation de l’espace », أي تطبيق الرياضيات على دراسة القوة والحركة، هو التجديد المفهومي الآخر لهذه المرحلة. ففي 1961، اختزل كويري مقاربته في عنوان صريح : الثورة الفلكية La Révolution astronomique.

الثورة العلمية حسب كوهن

لقد أدخل كويري فكرة الثورة العلمية. غير أن طوماس كوهن هو الذي فرضها. ولد كوهن في " أوهايو"(الولايات المتحدة)، تابع دراسته للفيزياء قبل أن يحول وجهته نحو تاريخ العلوم. وفي أوربا اكتُشف كوهن مُؤَلَفَ أ. كويري أو جاستون باشلار اللذان أثرا فيه تأثيرا بالغا. نشر كوهن، بمناسبة عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كتاب " الثورة الكوبرنيكية" La Révolution copernicienne (1957) ثم كتابه الرئيسي بعد خمس سنوات " بنية الثورات العلمية " la structure des révolutions scientifiques (1962) .

اعتمد كويري على غرار كوهن مِثَاَل كوبرنيك لإدخال مقولة " الثورة " في العلوم. يرى كوهن أنه طيلة فترات طويلة من التاريخ تفكر العلوم في الطبيعة انطلاقا من نموذج مهيمن . يطلق طوماس كوهن عبارة " باراديغم" (نموذج إرشادي) على هذا الإطار الذهني المكوّن من نظام فرضيات متصلة ببعضها بعضا تُنْجِزُ "الجماعة" العلمية داخلها بحوثها. يحصر رجل العلم داخل الفضاء النظري المحدد بهذا الباراديغم، بحوثه في حلّ الألغاز الصغيرة (" بيزل (« puzzles ») التي لا تخرج عن المعايير القائمة. ويشتغل " العلم العادي" « science normale » على هذا النحو إلى أن يعرف هذا النموذج أزمة . فتكون الأرضية سانحة ليستقرّ باراديغم أو نموذج إرشادي جديد . نمرّ هكذا من فيزياء أرسطو إلى فيزياء كوبرنيك، ثمّ إلى فيزياء نيوتن. وتكون الفيزياء الكلاسية قد وقع تجاوزها "بـثورات"، حصلت في بداية القرن20م، هي نظرية النسبية ونظرية الكوانطوم quanta..

لقد كان لكتاب " بنية الثورات العلمية " تأثيره الكبير إبان ظهوره 1962. ليوجد في مجال تاريخ العلوم، ما هو قبل كوهن وما هو بعده. وتفرض فكرة الثورة العلمية نفسها مثل بداهة ... إلى حدّ أنْ تظنّن البعض عليها ...

لا توجد ثورة علمية ...

" لم توجد الثورة العلمية أبدا ومع ذلك خُصّص لها هذا الكتاب ." (3). هذا هو الإعلان المثير الذي يفتتح كتاب ستيفن شابان Steven Shapin " الثورة العلمية " La Révolution scientifique (1996). يبدو أن هذا العنوان مع ذلك، يُدرج الكتاب ضمن استمراريةٍ لرؤية كويري وكوهن. يحتلّ ستيفن شابان كرسيّ تاريخ العلوم في هافارد، ويمثل جزءا من الرقابة الشابة للسوسيولوجيين ومؤرخي العلوم الذين واجهوا أفكار شيوخهم.

ومنذ ذلك الحين حذا حذوهم باحثون آخرون. " لقد وضع المؤرخون منذ ثلاثين سنة جذريا مقولة " الثورة العلمية" على المحكّ "، كما كتب ستيفان فان دام في افتتاحية الجزء الأول من كتابه الحديث تاريخ العلوم والمعارف" (4).

لقد وُجّه لمفهوم " الثورة العلمية " أربع أنواع من النقد:

* يتعلّق المأخذ الأول بفكرة " القطيعة" ذاتها

تفترض ثورة جديرة بهذا الاسم تحوّلا مفاجأ بين نظام قديم ونظام جديد. تنطلق فرضية " الثورية" من مبدأ فَرْضِ فيزياء جديدة نفسها في القرن 17م بإسقاط التمثّل القديم للعالم . إلاّ أن المؤرخين قد بينوا أنّ تحوّلاتٍ تحدث في الأثناء منذ العصر الوسيط. صلب الكنيسة ذاتها، أين يشتغل رجال دين بعدُ، أمثال غيوم دي كونش (1080-1150)، وجان دي ساليسبري(1115- 1180) أو ألبار لوغران (1200-1280)، لصالح علمٍ جديد يتميّز عن اللاهوت المسيحيّ الرسمي. لقد اتسم القرن 12م بنشاط كثيف للمعارف العربية في علم الفلك والطبّ والرياضيات. ثمّ، مع الثورة العمرانية للقرن 12م وميلاد الجامعات، متبوعة بالنهضة الإيطالية، انبثقت أفكار جديدة. إنّ التقدّم العلمي للقرن 17 ليس إذن طفرة فكرية مفاجأة، بل تحوّلا بدأ منذ ثلاثة قرون من قبل.

* نقد ثان يتعلّق بأسباب الثورة العلمية

تكون الثورة العلمية في منظور كويري وباشلار أو كوهن ثورة فكرية أو ذهنية، تحوّل مفاجئ للإطار الذهني. يحدث ذلك كله في مملكة الأفكار. إلاّ أن علماء الاجتماع والمؤرخين يؤكّدون بأن العلم اليوم لا يعيش في وعاء مغلق، في عالم أثيري للمفاهيم والتفكير. فلن توجد الثورة الذهنية دون أساس اجتماعي، واقتصادي وتقني حدث في عصر النهضة وفي العصر الحديث. مثال على ذلك؟ إذا ما استطاع قليلي (1610) صناعة تيليسكوبه أو منظاره وَوجّهه نحو السماء، فذلك لأنّ النظارات ذات المدى البعيد تشكّل جزءا من الأدوات الجديدة للملاحة الضرورية، للملاحة في أعالي البحار التي لا تنفصل عن تقدّم التجارة البحرية. وليس من قبيل الصدفة إذا ما صُنعت أولى نظارات المدى البعيد في هولاندا التي هي إذن على وشك أن تصبح أول قوّة بحرية للعالم الغربيّ. يمكننا أن نعدّد الأمثلة التي تشهد بارتباط العلوم بتقدّم الاقتصاد والتحوّلات الاجتماعية و تطوّر التقنيات .

* خط آخر لنقد الفكرة يتعلق حتى بطبيعة " العلم الكلاسيكي"

تحمل " الثورة العلمية " حسب كويري تجديدان رئيسيان: ترييض الطبيعة (حساب السرعة، ومسارات الأجسام) واعتماد المنهج التجريبيّ. إلاّ أنّ التّمشي الذي يدعو له ديكارت مُّؤسّس على البرهنة والاستنتاج لا على التجريب. وفي نفس العصر الذي يدعو فيه الأنجليزي فرانسيس بيكون في " نوفوم أرغانون "الأرغانون الجديد" Novum organum (1620)، على العكس، إلى استخدام المنهج التجريبي. إنّ الاستنتاج المحض أو التجربة هما طريقتان مختلفتان في تصوّر التمشي العلمي.

وفضلا عن ذلك، فإنّ كلّ علوم القرن 17م ليست مبنية على نفس النموذج الفيزيائي. وقد عرفت أيضا العلوم الطبيعية، علم النبات أو علم الحيوان، في هذا العصر تقدّما ملحوظا. وقد سمحت الرحلات بجلب ملايين الأنواع الجديدة من النباتات، والحيوانات التي يجب وصفها وتصنيفها. إنّ نموذج الثورة العلمية الذي يدافع عنه كويري أو كوهن كان مؤسّسا على الفيزياء الكلاسيكية، ولا يمكن أن يُطَبّق كما هو على العلوم الطبيعيّة أو على الطبّ. فقد عرفت هذه التخصّصات ديناميكيتها الخاصّة وزمانيتها التي لا تتلاءم مع النماذج الإرشادية أو الباراديغمات التي يقترحها كوهن.

* تقابل كاريكاتوري بين العلم والدين

وقع وصف الثورة العلمية أيضا بما هي تقابلا كليا بين معرفة قديمة كُتُبيّة livresque، ودغمائية ومندرجة ضمن إطار دينيّ وفكر علمي جديد مؤسّس على الوقائع، وعلى العقل وعلمنة المعرفة. وحتى نختصر القول، عالمان سيتناقضان: من جهة، رجال الدين، الذين يستمدّون مرجعيتهم من الكتابات المقدسة، ومن جهة أخرى، يوجد علماء يعنيهم فحسب " كتاب الطبيعة" (قاليلي). إلاّ أنّ هذا التقابل الكاركاتوري قد أُعيد النظر فيه بشكل واسع. فلم ينشأ العلم الحديث صلب الكنيسة فحسب، بل أكثر من ذلك، كون غالبيية عظمى من العلماء اللائكيين الذي صنعوا العلم الكلاسيكي، مثل كبلر وديكارت وباسكال وليبنتز وبويل أو نيوتن كانوا مسيحيين ورعين.

استمرارية، ثورة أو تحوّل

لقد وقعت إذن مناهضة الثورة العلمية في تحقيبها ومحتواها ووحدة منهجها. لتختلط الأوراق من هنا فصاعدا. مثلما يلاحظ ذلك بخبث المؤرخ لورانس برانسيب Lawrence Principe :" اسألوا عشرة مؤرخي علوم ما هي طبيعتها (الثورة العلمية)وديمومتها وأثرها وستكونون على يقين بتقبّل على الأقلّ، خمسة عشرة جوابا مختلفا ".(5)

ومع ذلك يستمرّ لورانس برانسيب وغيره في استعمال عبارة " الثورة العلميّة". غير أنّهم يفعلون ذلك في دلالة أكثر ثراء بالنظر إلى تصوّرات كويري أو طوماس كوهن. فإذا كانت الثورة العلمية قد حدثت، فإنه يجب، حسب هؤلاء، إعادة النظر في إطارها الزمني (بدأت في القرن 12 م وليس القرن 17م)، وإعادة التفكير في محتواها (لا تنحصر في الفيزياء، بل تمسّ تخصّصات أخرى)، وأخيرا لا يجب اختصارها في ثورة ذهنية يحملها بعض العباقرة، بل النظر إليها بما هي حصيلة تحوّل اجتماعي واقتصاديّ أكثر عمقا.

لا يمكن أن نفكّرإذن، من هنا فصاعدا في ثورة العلوم والمعارف التي أدّت إلى ميلاد العلوم الحديثة إلاّ في هذا الإطار من التحليل الموسّع."

***

.......................

* مجلّة " العلوم الانسانية " عدد 48 سبتمبر - أكتوبر - نوفمبر 2017

المصدر:

https://www.scienceshumaines.com/la-revolution-scientifique-a- t-elle-eu-lieu_fr_38560.html -Jean-François Dortier - Grands Dossiers N° 48 - Septembre-octobre-novembre 2017

- هوامش:

1- أنظر ستيفن شابان / الثورة العلمية، فلاماريون 1998

2- الكسندر كويري، من الكون المغلق إلى العالم المفتوح، 1957، طبعة جديدة قاليمار، سلسلة " تال " 1988.

3- ستيفن شابان، المرجع أعلاه

4- ستيفان فاندام، تاريخ العلوم والمعارف، الجزء 1 من النهضة إلى الأنوار، سوي 2015.

5- لورانس برانسيب، الثورة العلمية، مدخل موجز جامعة أكفورد براس 2011.

في نقاشه لجوهر السعادة، يطرح ارسطو تمييزا هاما بين الاسترخاء والترفيه. الاسترخاء يُعتبر ضروريا بسبب استحالة استمرار الفعالية، لكن الترفيه هو الذي يحتوي على الخير الحقيقي للحياة. الخلط بين الاسترخاء والترفيه يؤدي الى ضياع السعادة العليا.

في الكتاب العاشر من الأخلاق النيكوماخية يحدد ارسطو طبيعة السعادة، والتي هي حسب زعمه "غاية العيش" او الهدف من الحياة. هو يقول، السعادة ليست ميلا وانما فعالية. ويضيف، بعض الفعاليات يتم اختيارها لأجل شيء آخر، بينما اخرى يتم اختيارها لأجلها بالذات. والسعادة توجد في الفعاليات الأخيرة لأن السعادة ليست في طلب أي شيء. الفعاليات التي يتم اختيارها لأجل ذاتها هي تلك التي يكون فيها الهدف ليس اكثر من الفعالية ذاتها، ومن هذا النوع ايضا تأتي الافعال الفاضلة.

سيكون من الغريب لو كانت السعادة تكمن في التسلية بدلا من الفعالية الفاضلة، لأن الانسان سيكدح ويعاني كل حياته لأجل لاشيء غير التسلية. في الحقيقة، هو يسلّي نفسه فقط لكي يستخدم نفسه. التسلية هي نوع من الاسترخاء الضروري بسبب عدم آمكانية استمرار الفعالية. أي شخص محظوظ حتى العبد يمكنه ان يتمتع بالمتع الجسدية بما لا يقل عن أحسن الناس، لكن لا احد يخصص للعبد حصة في السعادة مالم هو يخصص لنفسه ايضا حصة في حياة الانسان. بالنسبة للسعادة، كما قيل، لا تكمن في المتعة الحسية وانما في الفعالية الفاضلة.

التأمل الفلسفي

بعد ان أعلن ارسطو ان السعادة تكمن في الفعالية التي يتم اختيارها لأجل ذاتها، وخاصة في الفضيلة، جادل بانه في جميع هذه الفعاليات ان ما يقود الى أعلى سعادة هو التأمل الفلسفي. متعة الفلسفة هي الاكثر روعة، كما يقول لنقائها وديمومتها. الانسان تميّز بالعقل اكثر من أي شيء آخر، وان حياة العقل هي الأكثر اكتفاءً ذاتيا واكثر سرورا وأسعد وأحسن والأكثر حبا للجميع. في الحقيقة، فعالية الله التي تتخطى كل الفعاليات الاخرى في الخير، يجب ان تكون تأملية. كل الحياة تهدف الى الله والخلود: النباتات والحيوانات تشارك في الخلود من خلال التناسل، لكن الانسان يأتي أقرب من خلال التأمل الفلسفي. التأمل ومن ثم السعادة هما ثمار الترفيه. لأننا منشغلون سنتحتاج للترفيه، واننا نعمل الحروب لكي نعيش بسلام. المرء لكي يكون سعيدا لا يحتاج الى العديد من الأشياء العظيمة، وان حياة الفضيلة والتأمل يمكن ممارستهما بسهولة بوسائل معتدلة. الشخص السعيد لابد ان يبدو غريبا طالما ان العديد من الناس التعساء يفكرون وتتحكم بهم فقط المكتسبات الخارجية.

الترفيه في السياسة

يعود ارسطو لموضوع الترفيه في كتابه (السياسة). الدولة كما يقول يجب ان تهدف لشيء أكثر من مجرد البقاء او الكفاية الذاتية: الانسان يجب ان يكون قادرا على الانخراط في الاعمال والذهاب الى الحرب، لكن الترفيه والسلام هما افضل، هو يجب ان يقوم بما هو ضروري وبما مفيد، لكن ما هو مشرّف هو الأفضل... اذا كان مخزيا للفرد ان لايكون قادرا على استعمال خيرات الحياة (النقود، المتعة، الشرف)، فمن المخزي ان لا يكون قادرا على استخدامها في وقت الترفيه، لأنه عندما يحصل على السلام والترفيه لن يكون أحسن حالا من العبيد. لكي يجعلوا لديهم وقتا للترفيه والفضيلة والتأمل، يجب على المواطنين الاثنيين ان لا يشاركوا في الزراعة او التصنيع والتي هي فعاليات تُترك للعبيد.

استشراف المستقبل

كل منْ يحب عمله ويقوم به لأجله، سوف يتفق مع ارسطو: بان آداء هذه الفعالية، سواء كانت وظيفة او هواية، هو مصدر للنعيم. واذا كانت هذه الفعالية تساعد او تلامس الآخرين، عندئذ تكون سعادتنا الاكثر اكتمالا.

لكن معظم السعادة التامة تأتي من التفكير في الفعالية المفضلة، هدفها، ومعناها. فمثلا، انه شيء عظيم ان تحب العمل في الحديقة، وانه اكثر عظمة ان نفهم لماذا نحب العمل في الحديقة، لأنه يخبرنا عن شيء أبدي وعالمي حول ماذا يعني ان تكون انسانا، ويربطنا مع كل شخص آخر يحب او أحب او سوف يحب الحديقة.

من الضروري التمييز بين الوقت المنفق في التسلية والاسترخاء، بسبب استحالة استمرار الفعالية، والزمن المنفق في الترفيه، اي، في التأمل، الصداقة والفعاليات الفاضلة الاخرى. الضرورات الاقتصادية قادتنا لربط وقت الفراغ خصيصا بالتسلية والاسترخاء. العديد من الناس المتقاعدين ، لم يعودوا بحاجة للتمتع على الساحل او امام الشاشة، وسيجدون انفسهم في خسارة، بسبب انهم لم يتعلموا ابدا الترفيه (في الحقيقة، الكلمة اليونانية للترفيه – schole – هو الأصل لكلمة "مدرسة"). ولكن عبر الخلط بين الاسترخاء والترفيه نكون خسرنا ثمار الهدوء والحضارة، وهكذا، أعلى السعادة.

اخلاق ارسطو، كفلسفة أخلاقية، والتي سميت ايضا أخلاق الفضيلة، هي حديثة بشكل مذهل، وحتى مستقبلية، عندما يحصل الناس على مزيد من وقت الفراغ ستتولى الروبوتات المسؤولية من العبيد والعمال. لقد تغير الكثير منذ عهد ارسطو، ومع ذلك قليل جدا.

***

حاتم حميد محسن

القاعدةُ الثقافية الحاملة للعلاقات الاجتماعية تُكَوِّن أنساقًا لُغويةً رمزيةً تُفَسِّر طبيعةَ الإنسان، اعتمادًا على الرابطة بين الدوافعِ النَّفْسِيَّةِ ومَعاييرِ الإدراكِ. وتفسيرُ طبيعةِ الإنسانِ هو تفسيرٌ للواقع الاجتماعي، وكُلَّمَا تَكَرَّسَتْ عمليةُ التفسيرِ إنسانيًّا وواقعيًّا واجتماعيًّا، اتَّضَحَتْ معالمُ الوَعْي المُسيطِر على التَّنَوُّعِ الثقافي، والسُّلُوكِ اليَومي، والتواصلِ الحضاري. وهذا يدلُّ على أنَّ الهدفَ مِن عملية التفسير هو الوُصُولُ إلى الوَعْي، وَحِمَايَتُه مِن الغيابِ والتغييبِ،لأنَّ حُضُورَ الوَعْي هو الضَّمَانَةُ لدمجِ القاعدة الثقافية مع قاعدة البناء الاجتماعي، واستخراجِ تاريخ التجارب الحياتية مِن أعماق الإنسان. وهذا مِن شأنه إحداثُ توازن بين حُضُورِ الوَعْي وحُضُورِ التاريخ، ومنعُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن عَزْلِ الثقافة، ومنعُ الثقافةِ مِن تَحويل اللغةِ إلى هيكل اجتماعي مُحَنَّط في مُتْحَفِ التاريخ. والغايةُ مِن العلاقاتِ الاجتماعية هي تعميمُ الظواهر الثقافية، وتحديدُ المعاني الوجودية، وتفعيلُ التبادل المعرفي، وتعزيزُ وسائل الاتصال والتواصل، والغايةُ مِن الثقافة هي تفجيرُ الطاقة الرمزية في اللغة، وتأويلُ الواقع الاجتماعي معرفيًّا لا مصلحيًّا، وتحويلُ السُّلوكِ اليومي إلى مُحاولة مُستمرة للتَّطَهُّر مِن العُقَدِ النَّفْسِيَّة في طبيعة الإنسانِ، والعُقَدِ التاريخيةِ في البناء الاجتماعي.

2

لا يُوجد بناء اجتماعي بِدُون بُنية أخلاقية واعية، وقادرة على تحويل مصادر المعرفة إلى فاعلية للتغيير في مركزية الوَعْي في البيئةِ المُعَاشَة وماهيَّةِ الوجود وهُوِيَّة المَعنى الإنساني، وهذا التغييرُ لا يَعْني إقامةَ قطيعة معَ التُّراثِ الفِكري والزمنِ الماضي، وإنَّما يَعْني فتحَ الزمن على إفرازاتِ التاريخِ وإسهاماتِ الحضارة، بحيث يُصبح الزمنُ منهجًا فلسفيًّا لتوليدِ الوَعْي في الفضاء الإبداعي للعلاقات الاجتماعية، واكتشافِ الرموز اللغوية في الدوافعِ النَّفْسِيَّةِ ومَعاييرِ الإدراك. ووظيفةُ المنهجِ الفلسفي تتجلَّى في تحديد أبعاد الواقع الاجتماعي ذي الطبيعة المُزْدَوَجَة (الكِيَان المادي الواقعي والكَينونة المَعنوية الحالمة)، مِمَّا يُسَاهِم في فَحْصِ الأنساق التُّرَاثية الكامنة في الثقافة، والتعاملِ معَ اللغة كمنظومة وُجودية تُزيل التعارضَ بَين الشُّعُورِ الإنساني في تاريخ الوَعْي، وبَين الآلةِ الميكانيكية في حضارة الاستهلاك، وتَضَع حَدًّا فاصلًا بين الصراع في التاريخ، وبين الصراع على التاريخ. وإذا كانَ التاريخُ له فلسفته الخاصَّة، فإنَّ اللغة لها مَنطقها الخاص، ولا يُمكِن الجمعُ بين نظام التاريخ ومَنظومة اللغة إلا بتفعيل ذاكرة منهج التحليل الاجتماعي، حيث يقوم المجتمعُ باكتشاف جَدوى بقائه وشرعيةِ حياته في الحاضر والماضي معًا، بلا انقطاع زمني، ولا قطيعة معرفية. والزمنُ المُتَّصِلُ يَعْني بحثًا مُستمرًّا عن المَعنى الوجودي للإنسانِ والمُجتمعِ والبيئةِ، بلا قوالب جاهزة، ولا أحكام مُسْبَقَة. والمعرفةُ المُتواصلةُ تَعْني إنتاجًا مُستمرًّا للوَعْيِ والإدراكِ والمسؤوليةِ، بلا قَمْع فِكري، ولا عُقَد نَفْسِيَّة أوْ تاريخية.

3

إذا كانَ الإنسانُ ابنَ الواقعِ الاجتماعي، فإنَّ الفلسفةَ ابنةُ رمزيةِ اللغة، وهذا النسيجُ المعرفي المُتشابك يُؤَسِّس المفاهيمَ العقلانية في زوايا الرؤية للتاريخ، ويُكَرِّس التَّحَوُّلاتِ الفكرية والاجتماعية كمعايير وُجودية تُعيد صِياغةَ العلاقة بين الذاتِ والموضوعِ، والنظريةِ والتطبيقِ، والشكلِ والمَضمونِ، والهُوِيَّةِ والمَاهِيَّةِ، مِن أجل منعِ الوَعْي الزائف مِن إنتاج المَعنى التاريخي في الحضارة، ومنعِ الوَهْم المُؤَدْلَجِ مِن تفتيت الفِعْلِ الحَضَاري في التاريخ. وهذا يُؤَدِّي إلى تحقيق التوازن بين الفِعْلِ الاجتماعي والفِعْلِ الحضاري. وهذان الفِعْلان يَنقُلان التجاربَ الشخصية للأفراد مِن الصِّيغة الوِجْدانية إلى الصِّيغة الثقافية، ويُحَوِّلان البناءَ الاجتماعي مِن هَيكل تَرَاتُبي جامد إلى فضاء إبداعي سائل، يَحتضن الأحلامَ الفَرْدية والطُّمُوحات الجَمَاعية، ويَبْني سُلطةَ المُجتمعِ فِكْرًا وأخلاقًا، خَيَالًا وواقعًا، تأصيلًا عِلْمِيًّا وتطبيقًا عَمَلِيًّا. ولا يُمكِن أن تَكتمل سُلطةُ المُجتمع إلا إذا اكتملتْ شخصيةُ الفردِ الإنسانية، لأنَّ شخصيةَ الجُزْءِ هي أساسُ سُلطةِ الكُلِّ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

- يذهب اغلب فلاسفة العقل واللغة من ابرزهم لوفيدج فينجشتين تساؤلهم لماذا يكون الصمت احيانا اجدى من عجز اللغة التعبير المطلوب في الوضوح؟ ارى الصمت في طمسه تعبير اللغة غير الواضح انما يصادر بذلك المعنى الدقيق المطلوب ايصاله للمتلقي. خلاف تعبير اللغة الواضح فهو شمس الحياة في كل تقلبات ظهورها. لم يكن الصمت ولن يكون اسمى رفعة من تعبير اللغة. رغم اتهامات خيانة اللغة للمعنى فلا يكون الصمت افضل من تعبير اللغة التي هي عبقرية العقل في التعبير عن مدركاته.

- تبديد الطاقة والجهد الثقافي يكون في السعي وراء الحصول على لقب لم يستطع الكاتب اكمال صناعته والفوز به.

- فقه ولاهوت الديانات التوحيدية وغير التوحيدية هي ضوابط اخلاقية في تنظيم حياة المجتمع وليست قوانين وضعية تتوخى بناء حضارة ثقافية.

- قلق الكتابة يستنفد طاقة القراءة.

- حين تنعدم الوسائل تموت الغايات.

- اللغة شكل محتوى الفكر بالمعنى والصوت.

- لا فلسفة عربية حقيقية تسحقها مطرقة الجهل ويغيّبها سندان التضليل.

- لا يعجزنك طموح ما لا قدرة لك عليه بالمال.

- الفجوة بين ما تفكر به النخبة الثقافية التي تعيش انفصامية النفاق على صعيد الممارسة العملانية. في محاولة تقديمها اسس وثوابت تحديث مجتمعي في كتاباتها وبين تخلف الوعي الجمعي في محاربة المعاصرة الثقافية غير الاستهلاكية. هذه الفجوة اصبحت من التقادم الزمني على ثباتها المتخلف ايديولوجيا مهيمنة على المجتمع الضال الذي بات يعتبر تلك الكتابات المغذية لتخلفه تمتلك عصمة مستمدة من القداسة الدينية تحميها وهي ليست من الدين بشيء.

- لم اجد اهتماما بكتاباتي الفلسفية اعتز به الا صادرا من مثقفين مميزين يستحقون كل الاحترام.

- الوعي هو معرفة مدركات العقل تجريدا بما لا يتوقف عند مدركات الحواس للمادة التي هي انطباعات اولية او احساسات.

- مافوق اللغة هو اللغة التي اكتسبت هويتها اللغوية بابجدية صوتية خاصة بها بعد ان كانت لغة مشافهة كلامية. واللهجة اللغوية كلام شفاهي لم يكتسب ابجدية نحوية مكتوبة.

- عصر الفلسفة الهلنستية يبدأ بعام وفاة الاسكندر المقدوني 321 قبل الميلاد في محاولته مزج صوفية وروحانية الشرق بالفلسفة اليونانية القديمة.

- الاصطدام بوقائع الحياة المؤلمة خيرا من العيش باوهامها.

- نظرية مالثوس القديمة اصبح عالم اليوم بحاجتها اليوم في ازدياد سكان الارض وندرة ما يحتاجونه من غذاء.

- ادراكات العقل المادية وغير المادية (الخيالية) انما هي صورة تعبير لغوي. اما خاصية بيولوجيا العقل فهو عضو من اعضاء جسم الانسان وظيفته اشباع رغائب وغرائز الجسم.

- ما يعجز تفكير العقل ادراك معناه تعجز اللغة التعبير عنه. هذا التجانس العضوي بين العقل واللغة غير النظور ليس فطريا موروثا بل هو مكتسب بالتجربة الحياتية. في هذا التعالق الثنائي بين ادراك العقل لشيء وتعبير اللغة عنه هو تطابق دلالة (بالمعنى) وليس تطابقا صوتيا فقط ولا هو تطابق دال مع مدلول. كما في تعبير الابجدية الحروفية على ان كل حرف منها هو رمز (لصوت ومعنى) الصوت وحده لا يمثّل لغة فالحيوانات تمتلك اصواتا لكنها لا تمتلك لغة تخاطبية متفق عليها. معنى الشيء في الدلالتين الادراكية العقلية واللغوية التعبيرية لدى الانسان خاصية متفردة هو ما نطلق عليه (لغة). لا يفكر العقل في ما لامعنى له ولا تعبّر اللغة عن ما لامعنى له ايضا.

- من لا يدرك عظمة ضميره يخسر نفسه بالحياة.

- لا اجد في من يحاول الانتقاص من كتاباتي الفلسفية بغير علم غير احمق اكلت الغيرة قلبه في عجزه مجاراتي بالفلسفة.

- لم اجد اهتماما صادقا بكتاباتي الفلسفية الا من نخبة مميزة من المثقفين.

- اذا لم تمتلك الدليل الواقعي بما تفكر به فلا ضمان انك لا تحرث في بحر من الاوهام.

- ما يشل فاعلية السلوك السليم هو كثرة ما يستهدفه من عراقيل.

- كي تتاكد انك تسير على طريق الالف ميل انتظر غيرك يقوم بالخطوة الاولى.

- صعوبة التعامل مع قساوة الحياة في خريف العمر تجعل الانسان متفردا بكرامته فقط.

- نظافة القلب سلوك الحياة الشريفة.

- لا يعجزنك طموح ما لا قدرة لك عليه بالمال.

- ادراكات العقل المادية وغير المادية هل هي لغة مجردة ام خاصية بيولوجية للعقل؟ الجواب هما الاثنان معا.

- الانسان يتكيّف مع محيطه وظروفه الاجتماعية حين يجد تفكيره لا يتعدى عالم ما يدركه.

- النقصان بالفلسفة لا يلازم اللامتناهي المطلق بل يلازم المتناهي المحدود الطبيعة ومحتوياتها وظواهرها.

- فلسفة اللغة والتحول اللغوي في اسقاطهما مبحث الابستمولوجيا من الفلسفة انما ادخلتا تاريخ الفلسفة في متاهة الانفصال عن الحياة لتعيش الفلسفة في تجريد لغوي يصف الواقع ولا يحتدم بصراع التغيير معه.

- ان توّرث ما فشلت تحقيقه لنفسك لمن بعدك معناه انك مصر على تدويرك الحماقة بدائرة مغلقة.

- شرف الانسان مثل بصمة ابهامه لا ينفع معها التزوير ولا يمحوها تقادم

الزمن عليها.

- لو لم تكن بي حاجة التعبير عن انسانيتي بالكلمات لآثرت التعبير عنها بالصمت.

- الوعي يحرر العقل من التزامه الواقع قالها احد الفلاسفة واضفت لها والزمن يسبق الوعي الحقيقي للاشياء.

- الزمن كجوهر مطلق لا يصلح موضوعا مستقلا للعقل لكنه يحضر كدلالة معرفية في ادراكاتنا للاشياء.

- التداول الفطري للهجات اللغوية كلاما تخاطبيا يسبق وضع ضوابط النحو والقواعد كي تصبح اللهجة لغة خاصة بقوم معين. ابجدية الحروف باللغة هي ما يعطيها الصفة القارة في تاريخها على انها (صوت ومعنى).

- ليس كل احلام اللاشعور لا تكون صالحة التطبيق بالحياة، كون الاحلام لا وعي خارج سطوتي العقل والزمن. حسب فرويد اننا نستخدم الوعي بحياتنا نسبة واحد بالعشرة والتسعة اعشار الباقية هي من حصة اللاشعور.

- ما اتمناه لاحفادي من بعدي الانتباه ان لا يسقطوا في فخ بناء احلامهم على رمال متحركة.

- صدق النوايا معيارها اعطاء افعال بدائل واقع الحال.

- جوهر الطبيعة الانسان في ارادته التحكم بظواهر الحياة وصنع مسار التاريخ.

- من تجربتي بالحياة وجدت من يعظني من موقع المتفرج بالكلمات لا يحل لي مشكلة في الواقع.

العقل واللغة

اللغة هي وسيلة فهم العالم وادراك الوجود. ولا وجود عالم سليم له معنى يدركه الانسان بلا لغة او لغات تنظم ادراكاتنا له. كلّية المنظومة الفكرية الادراكية العقلية بدءا من الحواس وانتهاءا بالدماغ هي (لغة) فقط. حسب مقولة سيلارز الوجود لغة عبارة غاية بالدقة. فالوجود بلا ادراك لغوي تعبيري عنه يكون لا وجود له يعيه العقل من غير لغة ولا يستطيع العقل ادراكه كوجود مادي مستقل. بهذا نجزم بارتياح لا يحتاج برهنة عليه هو ان العقل جوهر تجريدي ماهيته التفكير حسب تعريف ديكارت. هنا نحن نسقط خاصية التفكير على الدماغ فقط ومن غيره لا يوجد تفكير معرفي. اي علينا الانتباه التفريق بين فيزيائية العقل كعضوفسلجي من مكونات الجسم وبين العقل كناتج تعبيره التجريدي عن وعي مدركاته بوسيلة اللغة. على حد تعبير ديكارت العقل جوهر ازلي خالد ماهيته التفكير. العقل كخاصية بيولوجية يحوزها الانسان بتفرد نوعي هو مجمل ما تحتويه جمجمة الانسان فهو ليس بخالد بعد الفناء الجسدي لانه مادة. الخالد هو الافكار الصادرة عن العقل فقط..

من يعتبرك وسيلة لا غاية لا ترجوه خيرا.

- اللغة هي شكل محتوى الفكر وعبقرية العقل سابقة لما تفصح اللغة عنه.

- اللغة بمعناها التواصلي الاجتماعي هي ما فوق تفكير الصمت. وحركات الجسد الايحائية الصامتة هي مدخل تاويل ايحاءات تلك الحركات التي لا نهاية لها.

- احساسات ما تنقله الحواس عن العالم الخارجي هو انطباعات ذهنية عابرة وليس افكارا تمثل وعيا معرفيا صادرا عن العقل.

- العقل لا يدرك الزمن موضوعا مستقلا له بل يدركه دلالة معرفية تلازم الاشياء.

- الوعي جوهر تجريدي يلازم موضوعه تحكمه قصدية السلوك العقلي.

- الزمن ادراك دلالة معرفية محايدة للاشياء لا يدخل بعلاقة تموضعية معها ولا بعلاقة جدلية مع مدركات العقل.

- الوعي تموضع ادراكي تجريدي مع الاشياء والزمن احتواء محايد لمدركات العقل.

- كان التواصل اللغوي الشفاهي لهجة كلامية لدى الاقوام البدائية الى ما قبل عصر التدوين 3 الاف عام قبل الميلاد. هذه اللهجات الشفاهية ليست لغة ولا كلاما منسقا تضبطه قواعد نحوية كما هو في نحو اللغة الحروفية التي يمتلك الحرف الابجدي فيها صوتا ومعنى الدلالة على شيء محدد مقصود. واللهجة خاصية تميّز قوما او جماعة معينة تعيش بمصالح مشتركة ويربطها مصير مشترك. والى يومنا نجد هناك لهجات مجتمعية تغتذي بوجودها من لغة ام لها. لكن يبقى الفرق بين الاثنين واضحا فالذي لا يمتلك نحوا وقواعد صرفية وبلاغة وكتابة ابجدية وغيرها لا تكون لغة.

- لن يكون الصمت اللغوي بليغا طالما يلجم العقل اللغة التعبير عما لا معنى له.

- حركات الجسم الايحائية الصامتة مثل بعض الطقوس الدينية وتمارين اليوغا ورقص الباليه والمسرح الصامت هي تجليات لغوية لكينونة واحدة هي الانسان.

- غريزة المنفعة عند الانسان فطرة ينمّيها صراع افراد المجتمع من اجل تحقيق مصالحهم الفردية.

- الجسد والحركة وجهان لبيولوجيا كينونة واحدة.

- علاقة التخارج المعرفي بين الذات وعالم الاشياء هو تموضع ناقص بين مالك ومملوك.

- ما يعجز العقل التفكير به تعجز اللغة التعبير عنه.

- موضعة اللغة في ادراكها الاشياء ياخذ النقص المتعيّن منها كما ياخذ من الاشياء ايضا فكل متعيّن نقص سالب.

- شقاء الحياة كمثل سعادتها لا تمنعان الانسان من كراهيه الموت.

- الغائية والحتمية والضرورة الملزمة توصيفات لصناعة نظرية لا تحكم العلم ولا الفلسفة ولا السرديات الكبرى في التاريخ والدين والايديولوجيات السياسية.

- اللغة خيار الانسان الوحيد في ترسيمه صناعة حياته ومستقبله.

- كلما اردت الحصول على بعض ما هو حق لك ابحث عن الوسيلة الشريفة قبل الهدف النبيل.

- مواجهة صدمات وقائع الحياة المؤلمة خيرا من العيش على اوهام زائفة.

- الكلام التواصلي الشفاهي هو معنى لغوي قبل انتظامه في قواعد نحوية.

- جورج مور احد رواد الفلسفة الوضعية التحليلية الانجليزية دعا اعتماد لغة الحياة اليومية الدارجة مجتمعيا لغة للفلسفة نظرا لوضوحها الشديد.

- التواصل اللغوي البدائي الى ما قبل عصر التدوين كانت لهجات صوتية لا ينتظمها نحو وقواعد والا اصبحت لغة.

- المنفعة الذاتية جوهر انساني غريزي بالفطرة ولا تحتاج فلترة تجريبية للتاكد من صحتها.

- افضع انتهاكات تفكير العقل وتضليل الوعي الجمعي حينما تجد مسؤولين عديدين مهمتهم تخطئة ما لا يفهمونه.

- تكيّف الانسان مع الطبيعة منذ العصور الجليدية وما قبلها لم يكن بوعي من الطبيعة ولم يكن بمؤثرات الجينات الوراثية بل كان بهداية ذكاء الانسان وصراعه ضد اخطار انقراضه.

- من يلازمه ضميره يحتويك بفضله والاخلاق مسطرة والناس درجات.

- التجربة بالحياة يقين عقلي لا يحتاج تكرار حماقات الشك.

- ارادة العقل صمام امان عدم انزلاق العواطف غير محسوبة النتائج.

- الوعي الجمعي الضال يسحق كل بادرة تفكير علمي حضاري.

- تضليل العاطفة يطمس منطق العقل.

- لا تحملن وزرك اعناق آخرين كنت انت فيهم قدوة.

- لنا مرة نحيا واخرى مع هجرة النوارس والطيور نرحل غير عائدين.

- اغبى انسان يجد بمن يعطيه ثقته مطلقة ساذجا.

- ان تعمل بحقائق الحياة الصحيحة متاخرا خير لك ان تعيشها بزيف خادع طيلة حياتك.

- يموت الحق بصمت الكبرياء.

- صدق النوايا افعال وليست اقوالا.

- احيانا تلزمنا ظروف الحياة مجاملة من لا يستحقون التحية.

- الارادة موقف سلوكي لا يعلو قوانين الطبيعة ولا يتكيّف مع عادات المجتمع الخاطئة.

- من اسباب تراجع الثقافة العربية الجادة هو تعاملها مؤسسات وافراد بقوالب المجاملات الرخيصة واساليب التحامل والغيرة والانانية وافساد الضمائر.

- المال يشتري من يشابه مالكه.

- حين تضعك الحياة في مركز تجاذب اقطاب متباينة محصلتها صفرا فالحكم اجتنابك ارتكاب الخطأ.

- الوعي هو معرفة مدركات العقل تجريدا بما لا يتوقف عند مدركات الحواس للمادة التي هي انطباعات اولية المنقولة عن الادراكات الحسية.

- لا تتوقع يعطيك قيمتك كل الناس بل انتظرها تاتيك ممن يكافؤك القيمة.

- الزمن يسبق الوعي بالاشياء ويزامن المكان افتراضيا لذا الزمكان لا يعي ذاته بخلاف وعي العقل للزمكان كدلالة افتراضية وليست حقيقة فيزيائية اكتسبت تجريبية قاطعة يقينا.

- لا فلسفة حقيقية تسحقها مطرقة الجهل ويغيبها سندان التضليل.

- ما فوق اللغة: مصطلح نحته فلاسفة وعلماء اللغة واللسانيات على انها لغة ثانوية في مرتبة اللغات لانجاز حقيقة مالوفة وغير علمية وهي لغة قابلة للتكلم عن نفسها. في مقالة منشورة لي سابقا اجريت اسقاطا لمصطلح ما فوق اللغة على مرحلة من مراحل تطور لغتنا العربية قبل وبعد الاسلام. هنا اعيد بعض ما يحضرني منها ابتغاء تعميم الفائدة لا اكثر.

قبل وضع الخليل بن احمد الفراهيدي ضوابط وقواعد بحور الشعر العربي الستة عشر كان الشعراء العرب ينظمون ويلقون الشعر في مجالسهم وايامهم والفخر بقبائلهم بالسليقة المتوارثة او ما يسمى ما فوق اللغة. بمعنى كان العرب ينظمون الشعر ويفاخرون به في حروبهم وفي جميع مناسباتهم القبلية مثل الهجاء والرثاء والحب وغير ذلك من اغراض الشعر وهم لا يعرفون عن بحور الشعر شيئا قبل وضع الفراهيدي عروض الشعر العربي.

وكان العرب قبل الاسلام وإن تعددت لهجاتهم يقولون وينظمون الشعر بلغة عربية فصحى تفهمها وتتعامل بها جميع القبائل. ولم تكن القبائل العربية قبل الاسلام تعرف ان اللغة العربية تتكون من ابجدية حروفية كل حرف بها له رمز مكتوب يحمل دلالة صوت ومعنى. وكان من المستهجن ان يلحن العربي اي يرفع حكم الرفع للمفعول وحكم النصب للفاعل.

زمن الخليفة عثمان بن عفان عندما اشار عليه بعض الصحابة ضرورة جمع وتوحيد المصاحف اشاروا عليه ايضا وجوب تنقيط القرآن منعا لالتباس اللحن بعد دخول الاسلام اقوام من فرس واتراك وغيرهم من اجناس غير عربية. فاوكل الخليفة المهمة لابي الاسود الدؤلي الذي كان ضليعا متمكنا من اللغة العربية ولهجات القبائل العربية وساعده بمهمته تلميذيه نصر بن عاصم الليثي الكناني ويحيى بن يعمر. فلم يتمكنوا انجاز المهمة حتى سنة 70 هجرية حين امر الحجاج بامر من عبد الملك بن مروان تكليف الخليل بن احمد الفراهيدي بتنقيط القران في وضع النقط على الاحرف وتشكيل الحروف العربية بحركات النحو الاربع الضمة والفتحة والكسرة والسكون كما اخترع وضع الشدة والتنوين بالضم والنصب والكسر.

***

علي محمد اليوسف

تُعتبر العلوم اليوم معقلا للحقيقة والمعرفة، حيث تكشف التكنلوجيا يوميا للناس حقيقة العلم، اما الدين فهو يحاول ان يضع دائما الرؤى العلمية في خط واحد مع العقائد، والسياسيون يُتوقع منهم ان ينظروا ويلتزموا بالدليل العلمي. لا يهم كم هي صرامة وقساوة العلم، هو فشل في تحفيز واثارة التغيير الاجتماعيي المطلوب، ولنا في التغيير المناخي مثال واضح على ذلك. كذلك، بعض الفلاسفة المؤثرين جدا يساوون بين العلم والتكنلوجيا من جهة وعدم الإكتراث من جهة اخرى. فهل هم على صواب؟ واذا كانوا كذلك، هل يمكن للفن ان يقدم لنا الترياق؟

المنظّرة السياسية حنة ارندت لخصت المشكلة بأفضل صورة في كتابها (ظروف الانسان، 1958) عندما كتبت:

"السبب لماذا يصبح من الحكمة عدم الوثوق في النصائح السياسية للعلماء هو ليس افتقارهم الى "السمعة" – في كونهم لم يرفضوا تطوير سلاح نووي – او سذاجتهم في انهم لم يفهموا بانهم آخر من يتم استشارتهم حول استعمال السلاح النووي حالما يتم تطويره – وانما بالضبط بسبب حقيقة انهم يتحركون في عالم فقد فيه الكلام قوته" (ص4).

هذا المقطع يقترح شيئين هامين:

1- هي تسلط الضوء على حدود العلم او على الأقل العلماء. تماما مثل علماء الذرة في الاربعينات من القرن الماضي حينما كانوا غير قادرين على السيطرة على الكيفية التي يُستخدم بها نتاج عملهم، كذلك العلماء المعاصرون غير قادرين على الحث والدفع نحو التغيير الاجتماعي الضروري في القضايا الملحّة مثل تقلبات المناخ والحرب.

2- ارندت تركز على الفرق بين المعرفة والفكر. المعرفة العلمية، الانتصار الكبير للطريقة العلمية، التي جرى التعبير عنها بالمعادلات الرياضية والبيانات ليس من السهل الوصول اليها من جانب اولئك الذين ليست لديهم مهارات رياضية وهي بهذا تختلف عن الكلام والنقاش. حتى عندما نصبح مسحورين بتقدم العلوم والتكنلوجيا، مع ذلك نحن غير قادرين على التفكير وراء الأداة التي أمامنا. ارندت ليست الفيلسوفة الوحيدة تتحدث عن "عدم اكتراثنا" في العلاقة بالعلم. غريمها السابق مارتن هايدجر كتب بكثافة حول التكنلوجيا والمجتمع. في رسالته (خطاب حول التفكير، 1959) هو ادّعى اننا نعيش في زمن طائش: "اللااكتراث هو زائر اسطوري يأتي ويذهب الى كل مكان في عالم اليوم. اننا اليوم نتلقّى كل شيء بأسرع وأرخص طريقة، فقط لننساه بعد حين".

نحن نلجأ للعلم لعلاج السرطان، تحسين المحاصيل الزراعية، استغلال الطاقة، تصميم القنابل، وفهم قوانين الفيزياء – لذا لماذا يربط البعض من كبار مفكرينا بين العلم والتكنلوجيا من جهة وعدم الإكتراث من جهة اخرى؟ واذا كانوا على صواب ماذا يمكننا ان نعمل تجاه ذلك؟

حدود العلم

في كتابه (العلم المرح، 1882) ادّعى نيتشة ان "الاله قد مات، وسيبقى ميتا، ونحن قتلناه" (ص120). لكننا، يجب ان نتذكر ان نيتشة هنا يرثي موت الاله ولا يحتفل به. الاله كان مرة ركيزة للحقيقة والأخلاق، وطالما نحن نتّبع كلمة الله، سنكون مرتاحين في معرفة اننا في المسار الصحيح. ولكن منذ القرن الثامن عشر فصاعدا بدأت تتحطم القاعدة المستقرة التي وفّرتها لنا الأديان التوحيدية. الناس في الغرب تُركوا في حيرة، اذا لم يلتفتوا الى الله، اين يتجهون للحصول على المعرفة والدليل الأخلاقي؟

العديد من الناس سيقولون ان العلم اوكلت له مسؤولية ذلك. لذا، نحن يجب ان نفهم حدود العلم. فمثلا، ليس لدى العلم ما يقوله حول الأخلاق، وهو يعلّمنا القليل حول السياسة. لذا اذا كنا مهتمين فقط بما يندرج ضمن "الطريقة العلمية"، نحن بالضرورة نضيّق الأسئلة التي نسألها والأجوبة التي نبحث عنها، وبالنهاية سوف نفشل في المهمة الأساسية للانسانية في البقاء. في الحقيقة، نحن لسنا في علاقة أفضل الان مما كان قبل الثورة العلمية، نحن فقط اكثر قوة في ما نستطيع عمله.

حتى لو قبلنا ان العلم لا يستطيع الإجابة على مأزقنا الوجودي، فلابد من معالجة حقيقة ان كل من هايدجر واردنت يساويان العلم والتكنلوجيا مع اللااكتراث thoughtlessness. الحجة الشائعة المضادة للدين تقول ان العلم يتحرك الى الامام ويبحث باستمرار عن التطور، بينما الدين دوغمائي. لكن، رغم ان التفكير الثابت قد لايقودنا الى مكان، فان ركوب موجة العلم والتكنلوجيا لا تترك لنا وقتا للتأمل. سرعة التقدم لا تترك لنا وقتا للتفكير. وكما قال هايدجر "نحن نسينا التأمل".

دروس من الفن

في ضوء انحسار الاله او "موت الله"، ومحدودية العلم في ما ينجز، الى أين نلجأ؟ ما الذي يرشدنا في العودة الى المسار الصحيح؟

بعض الفلاسفة المعاصرين، مثل غونتر فيغال، وسانتياغو زابالا، وجينفير مكماهون اقترحوا ان الفن يقدم المسار الضروري للخلاص، طالما الفن هو ميدان للتدخل والتفسير.

وبعيدا عن مجرد لوحات جميلة او ألحان جذابة كتعبير عن اهتمام هامشي في مشاكلنا المعاصرة، يوفر الفن المشاركة. الفن لايجب ان يكون "مقبولا": جميل او جذاب او غير ذلك. الفن يمكن ان يكون مقبولا ويمكن ان يكون قبيحا، غريبا، غير مألوف. بدلا من ذلك، فان السمة المعرّفة للفن هي انه يُفهم بالحواس، وانه يتحدّانا لفهم العالم بشكل مختلف. عندما ننشغل بالفن، نحن نخرج من الفقاعة التي خلقتها حولنا تجاربنا الاخرى ووسائل التواصل الاجتماعي، نحن نضع توقعاتنا القبلية جانبا، ونحاول حقا فهم العمل الفني الذي أمامنا. عمل الفن ليس ابدا ما نريد ان يكون عليه – انه مستقل عن المعنى الذي نخطط له. لكي نفهم العمل الفني، يجب ان نحاول تلقّي ما يحاول قوله. وهكذا في التأمل الجمالي، مهما تستمر تلك اللحظة طويلا، نحن نتحفز بالتفكير.

تقدير الفن هو ليس طريقة للتفكير نساويها بسهولة مع "التفكير"، خاصة في ضوء المدى الذي نكون مشروطين فيه بالوسائل التكنلوجية للفكر. التأمل الجمالي هو ليس حل لغز او مشكلة، انه ليس تطبيق الصيغة الملائمة او النظرية للوصول الى النتيجة المرغوبة. بل، هو كونه محاصر او اُخذ عنوة من قبل ذلك الذي أمامنا، ويسمح لتلك التجربة لتغيّرنا بطريقة معينة. تأمل الفن ليس طريقة للتفكير تحاول السيطرة على موضوعه. انه طريقة في التفكير حينما يتحدث احد او يشارك في التجربة. انه طريقة في التفكير يصل فيها المرء وفي نفس الوقت الى فهم للموضوع ولذاته. من خلال الفن الجيد نحن نتعلم كيف يمكن ان يُفهم العالم بطريقة تختلف عن فهمنا له من قبل. الانخراط في الفن يضيء طرقا جديدة او مختلفة للتفكير والعمل ولهذا فهو يوسّع آفاقنا. وفي كل انشغال يجعلنا اكثر ارتياحا مع هذه الطريقة التشاركية للتفكير. في هذه الطريقة، يقدم الفن دروسا بطريقة من التفكير متميزة عن الطريقة العلمية. بالطبع، التفكير الذي وُصف هنا يجب ان لايستبدل التفكير العلمي. انه يجب ان يكمّله. لكننا فقط عندما نميز طرقا متميزة من التفكير وفهم كيف تتلائم مع بعضها وماذا تستطيع ان تقدم، سنصل الى توازن معرفي معين. وبالنظر الى الوضع الحالي للعالم، من الواضح نحن فقدنا هذا التوازن. في الحقيقة، يبقى التساؤل قائما في ما اذا كان هذا التوازن قد تحقق في أي وقت مضى. لكن الكفاح نحو التوازن في الفكر هو مهمة مستمرة.

المهمة الملحّة للفن المعاصر هي انه يعلّمنا الإنخراط في العالم بطرق حيوية نسيها العديد منا او تجاهلها. مهما كان شغفك – موسيقى او رقص او نحت او شعر او بناء معماري – إعمل لنفسك وللعالم خدمة وخذ درسا او درسين في التفكير من الفن.

***

حاتم حميد محسن

تفريد الطباع

التوغل في النظرية الادبية يمنحنا طاقة كبيرة، لكن يسلبنا تلك الضفة الراسخة في التاريخ، وهنا سنقف حسب المنطق العلمي للأدب في الفراغ، وعندها سيكون الخيال مرحا في التجوال والانفلات في مجازات اللاوعي، ولسنا هنا ضد حرية الخيال، ولا نحن كليا مع الواقع في اصوله وتاريخه، بل لابد من أن يكون التفكير مرة مقيدا، ويكون في اخرى مفتوحا وحرا بشكل تام، لكن يكون يقف على تلك العتبة او الضفة، ولا يكون داخل النهر بلا مركب يواجه نزق الموجات، ولابد من تفكير مجاور يجمع ما بين التفكير المنغلق او الذي يكون بتمام الاستناد الى الذاكرة، والتي هي المصدر الاساس للبشرية والتاريخ، ولا ننكر هناك ذوق فني وجمالي من الممكن أن تحتكم اليه الذاكرة، ولكن قبالة ذلك هناك مجاور نشط الخيال، وهو التفكير المنفتح، والذي قد يمنح اللاوعي تحفيز وتنشيط المجاور المنغلق، واذا كان العقل الفلسفي يعتبر ارسطو هو الاكثر جدارة في التتبع النظري، ويكون تجاوزنا افلاطون امرا موضوعيا، فلا يعني ذلك إن الصدق في الخلق الفني يعتمد الافاق النظرية بشكل كامل وتام .

تشكل عملية الخلق الادبي عدة وجوه، فهناك وجه اول يعتبر المؤلف ليس بطاقة خلق بل شخص يسعى الى الكتابة الادبية عبر الممارسة والتجريب، وذلك الشخص لا يخرج من مدار وجوده، وهو يشكل الموجود الفعلي لذلك الوجود، ومن خلال التوصيف الماركسي بأن الفرد هو مجموعة اشخاص اخرين، لكن ليس كتفسير بأن الاسد هو مجموعة خراف، فهناك ثمة وجوه اختلاف ما بين فكرة واخرى، ولكن تلك الذات الشخصية في المجال الادبي هو تنطلق من التفكير المغلق الى التفكير المفتوح، لتكتسب القيم الفنية والجمالية، وهذا التحول النسبي الكبير من الشخصية او الذات الخارجي الى الوعي وذات الثقافة، وعملية التحول فيها تكتسب المادة المكتوبة نفسا اخر، فما كان يوصف بالمعنى الاجتماعي بعد التحول صار يوصف بالمعنى الادبي، ولكن الكيفية هي التي تشكل الاختلاف والتميز، واذا كانت سلطة النص هي التي توزع الادوار، فذلك امر سيكون ليس وقوع احداث مباشرة، بل هناك توقع وتصور حل بدل التحول المباشر، وذلك ما اعتمده التاريخ الادبي مستمدا الفكرة من ارسطو، والتي يرى فيها التحول ليس فعليا، بل هو ما يمكن وقوعه بعدما اهتمت ذات الوعي بعد التناظر مع الذات الشخصية، بل التفكير بأكثر جديدة بالأمر وجميع ابعاده المتعددة .

في تفسير العملية الادبية حسب التفكير الفلسفي، فذلك يحيلنا الى الاصول الفلسفي وتلك الطروحات التي شكلت المصدر الاساس، وهنا نقف على ناصية فكرة متفردة الطباع، حيث سقراط رسخ المبدأ وما تخلى عنه، والموت سما هو الصورة الادبية المثلى، التي تبناها دوستوفسكي داخليا، حتى بقي في كنيسة يومين كاملين، ليدرك كيفية بناء شخصية دينية، وهذا التعايش الروحي هو المعنى الاجدر الذي يمكن فهم الغاية الاقصى للأدب من خلاله، وما الذات الخارجي والذاكرة صراحة الا عوامل مساعدة، واذا لم تفرد طباعك في الكتابة ما تختلف عن الاخرين ابدا، وما الجدوى هنا من ما كتبت، فلابد أن يكون الاختلاف حقيقيا ومكتسبا بوعي وحس جمالي ايضا، ونحن لا ننكر هناك دور لمفهوم افلاطون المحاكاة، فالفن ينمو عبرها، ولكن ليس بتقوقع المؤلف داخل شخصه، بل يترك لوعيه وثقافته بكل ابعادها الدور الاساس، وصراحة اذا لم يكن هناك ثقافة عامة ووعي ادبي فالكتابة محض تجريب شخصي فاشل، وانت في شخصك لست النموذج الادبي بل ذاتك الورقية، والتي من الممكن أن تطوى بصيغ شتى ملاءمة للنص .

هناك فهم عام للكتابة من الجهة الاساس، وهناك فهم اجدر يقابله من الجهة الاخرى، وهو الفهم النوعي المخصوص، فعندما تخطط لكتابة نص، فأنت في هذه الحال صرت داخل اسوار ذلك النص، وهو يدعوك الى استثمار المقومات الفنية، فأنت بالأساس متربطا بها، ولكن نرى الكثير ممن يضعه همه في الافق العام، ولا يدرك في افق الفن يستدل على مقدرته وحدودها من جهة، ومن جهة اخرى يدرك ما تمكن من تحقيقه لخلق طبع ادبي متفرد، وانت بلا تفرد تشبه اي كاتب اخر يزاول مهنة الكتابة شخصيا، (والحق إن الممارسة تشتمل على الفهم التطبيقي الذي لا يشكل استدلالا محضا حسب بل يكون منفصلا عن الفعل بحد ذاته)1، وصراحة وعيك هو يخطط ويراقب وانت تنفذ فعل الكتابة، ومن الطبيعي نفصل ما بين وعي الكتابة وفعل الكتابة، فأداء الكتابة في البعد العضوي ليس هو الاحساس بها، والنص لست انت بالرغم من وجود اسمك عليه، واذا سمحت للوعي بمنحك طاقة الكتابة وتتبعت هوسه وتندره قد تصل الى نتيجة مرضية للتلقي وعملية القراءة، وبعكس ذلك تكون قد خسرت الرهان في منح شخصك القدرة الكلية، وانظر الى ارنست همنغواي اعادت الصفة الوعي الصفحة الاخيرة من رواية له تسعة وثلاثين مرة فقط .

الكتابة موهبة في الجانب الاساس، ومن يمتلك موهبة فرهانه خاسر، والمعنى الشيق في هذه الفكرة يستدعي أن تمتلك طباعا متفردة اثناء عملية الكتابة، كي تتمكن حتى من نقد اعتقادك دون المساس به بطريقة الايديولوجيا المعارضة، وفرودي يرى دوسوتفسكي ليس فقط وجه نقدا لاذعا للأب، بل وضعه في حرج كبير في رواية – الاخوة كارامازوف – وفي رواية – المغامر – وجه لنفسه ذات المستوى من النقد، ومن المؤسف أن نجد ادباء يمجدون اعتقادهم وهو فيه العديد من المثالب، وغيره يستنكر نقد اعراف رتيبة لا تبعد الذباب عن الهة التمر، واخر يقلب صورته الى حال ممتاز، ويجعل غيره يتحمل اللوم والادانة، ولا اعرف هل نحن في بازار تحسين الضمير ام في مجال ادبي، يستوجب تطوير المعنى الإنساني الى اقصى حد ممكن، عبر خلق مجازات واستعارات وجذب قيم التاريخ والجمال نحو بنية النص، ويقوم المؤلف بالمراهنة على تلك القيم، واذا وجدت في نفسه من الممكن أن يلم لها، واذا يخلو شخصه منها، فالنص يتيح له اكتساب تلك القيم، وهنا يكون قد حقق نوعا من الموازنة الجدير وذات اهمية واعتبار معتبر .

يحتاج التعبير الادبي من اعادة تفسير الذاكرة من جديد، هذا اذا كان هناك سلطة للنص على المؤلف، وهي من تمنحه طاقة اذا تحول الى كائن ورقي يتبادل الافكار مع الشخوص في الرواية والقصة، واما في الشعر المعاصر والقص القصير جدا، فثمة فسحة واسعة للتندر والغرابة وللامعقول ايضا، والعمل الادبي في حالة الفعل ليس هو نفسه في حالة المعنى، فالكينونة تختلف عن الماهية كما يختلف الوجود عن الموجود، والاثر هو ما يفسره التلقي، فيما الفعل هو الاداء العضوي الذي يسعى الى تفسير نفسه عبر ثقافة المؤلف إن وجدت ووعي تأهيل الكتابة، وكما يمكن فصل الأدب او الأدبية كمفهوم عن اي مادة ادبية مكتوبة، وعلى وجه الخصوص في الحال الذي تكون فيه بين دفتي كتاب، وهذا الفصل ليس بذات القصد الذي نفصل فيه بين وعي مغلق من جهة ووعي مفتوح من جهة اخرى، فالوعي المفتوح يتقبل القيام بدور تفرد الطباع، والقصد لينتج ذلك النص الذي يثير كل عملية قراءة بقيمة قضاياه، والتي سنكون في التلقي قد اكتشفناها من جديد بذهول وليس بسياق عابر، فالصيغ المتفردة هي عملية اكتشاف قام بها النص .

***

محمد يونس محمد

.................

1- الحلقة النقدية، ديفيد كوزنز هوي، ترجمة خالدة محمد، منشورات دار الجمل، ص 86

 

"نسيء فهم"مشروع بروست الفلسفي" حينما نعتقد أنه بإمكاننا العثور على فلسفة قائمة في أفكار" (مارلو بونتي في درس عن مارسال بروست).

"تكشف أعمال مارسال بروست الروائية عن" عدوى روائية أصابت ممارسة الفلسفة".. " لم يدمج بروست في كتاباته الروائية موضوعات فلسفية كلاسيكية فحسب، بل ابتكر موضوعات صارت فلسفية وذلك بقدرته على الكتابة فيها روائيا، ليفتح الطريق بذلك للتفكير فيها على نحو فلسفي غير مسبوق" (آن سيمون " صخب عبور المسافات").

"يساعدنا بروست على فهم أسرار الزمن.." (جان ماري ديران). " ليست الساعة ساعة لا غير، بل هي مزهرية مملوءة بالروائح والأصوات والمشاريع والمناخات..إنّ دقيقة نمضيها من نظام الزمن تخلق فينا من أجل أن نحسّ بها، إنسانا تحرّر من نظام الزمن".(م. بروست " البحث عن الزمن المفقود").

*

هل علينا أن نقول أولا أنّ مارسال بروست (1871 - 1922) روائيّ بالأساس؟ ربّما. ولكنّنا إزاء روائي فذّ أثار جدلا وما يزال على أكثر من صعيد وخاصّة من ناحية علاقته بالفلسفة، أو بالأحرى، من جهة حضور الفلسفة على نحو ما في كتاباته الروائية. ذلك أن النظر مثلا في روايته المميزة " البحث عن الزمن المفقود"(التي نشرت من1913 إلى 1927) يكشف، فضلا عما فيها من " مقاطع نظرية" أشبه "بتحليلات الفلاسفة "، يوجد فيها اهتمام بمسائل فلسفية وأخلاقية واستيتيقية.. وإن على نحو خاص. ممّا يؤكّد أنّنا إزاء " رواية " مميزة، وأنّ ما يميّزها، من ضمن عناصر أخرى - هو بالخصوص"البعد الفلسفي ". وهو الذي سمح لبعض النقاد بالنظر إليها جنسا خاصا من الرواية هو" الرواية الفلسفية". أو لعلّها كما يقو آخرون من قبيل فلسفة خاصّة، " فلسفة روائية" أي فلسفة أصيبت بعبارة " آن سيكون " بعدوى روائية". ولعلّ هذا ما يفسّر اهتمام كثير من الفلاسفة بأعمال بروست وبرواية" بحث عن الزمن المفقود " على وجه الخصوص. بل اهتمام كثير منهم أيضا بالبحث في الروافد الفلسفية (من أفلاطون إلى شوبنهاور وبرجسون الخ) لكتاباته الفنية، لرواياته واختلافهم في ذلك في حدّ اليوم. ولعلّ هذا ما يحملنا على التساؤل عمّ يبرّر هذه العلاقة بين ضربين من الإبداع يحيلاننا إلى مجالين مختلفين هما الرواية والفلسفة، إلى الفنّ والفلسفة. ما وجه صلة مارسال بروست بالفلسفة: هل يعود الأمر إلى بروست ذاته، إلى خيار شخصي ام إلى قرابة بين الفلسفة والرواية لم يفعل بروست سوى كشف مقوماتها بل وتكريسها ربما في اعماله؟ وما شأن بروست والفلسفة ؟ هل هو بالأساس فيلسوف ضل الطريق إلى الرواية أم روائي أو فنان يجنح إلى الفلسفة ؟3172 مارسال بروس

"صورة مخطوطة لمارسال بروست لرواية " البحث عن الزمن المفقود " (مذكرات. XXXI-XCII)

علينا أن نشير أولا أن تكوين بروست " فلسفي" بالأساس. فقد حصل على الإجازة في الفلسفة. و أظهر اهتماما بالفلسفة منذ دخوله المعهد وحضور دروس الفلسفة لأستاذه ألفونس دارلي (1849-1931) فيلسوف عرف كبيداغوجي أكثر منه فيلسوف حيث لم يترك آثارا ذات بال، رغم كونه كان مؤسسا لمجلة " الفكر" المعروفة. وقد ورد في مخطوطات معرض حول بروست في المكتبة الوطنية الفرنسية ما يفيد بالعلاقة الوثيقة التي جمعت بروست بأستاذه. فقد جاء فيها:" سيجد مارسال بروست طريقه في قسم الفلسفة بفضل أستاذ فلسفة مميز هو ألفونس دارلي، الذي مارس عليه تأثيرا عميقا. وإذا ما صدقنا رواية جان سانتوفيل حيث يشير فيها على لسان دارلي إلى التعليم الذي يفترض انه أزعج في البداية بروست. على أن الأستاذ والتلميذ لم يتأخرا في تبادل عبارات الإعجاب بينهما بما أن مارسال "كتلميذ ليومين فحسب، قد توجه إلى أستاذه داركي يطلب منه مشورة أخلاقية ".(م.بروست، مخطوطات معرض المكتبة الوطنية الفرنسية 1956 ص14). وقد توطّدت علاقة بروست بالفلسفة فيما بعد في " الكوليج دي فرنس" وتتلمذ على أساتذة فلاسفة أمثال إيميل بوترو وفكتور بروشار وإميل رابيه. انصرف اهتمام بروست في شبابه إلى الكتابة في الفلسفة مثلما تؤكده شهادة معجب به هو دي بارغوت"De bergotte وهو كاتب معروف.إذ يقول عنه:" أحبّ فلسفته (يشير إلى بروست) أكثر من أيّ شيء وقد وهبت نفسي لها إلى الأبد، فهي تجعني متلهفا إلى الوصول إلى السن الذي يسمح لي بالدخول إلى الكوليج حيث يوجد قسم يسمّى قسم الفلسفة". غير أن علاقة بروست بالفلسفة انشغالا وكتابة لم تدم طويلا نتيجة ما أصيب به من إحباط تجاه تعليم الفلسفة، الأمر الذي جعله يتجه شيئا فشيئا إلى الرواية ليصبح كاتبا وأديبا مميّزا. لكن هل يعني هذا التحوّل انقطاع الصلة بالفلسفة؟ هل من أثر للفلسفة على كتابات بروست؟3173 مارسال بروس

على الرغم من أن بروست يؤكّد بأنّ " صلته بالفكر تضعف يوما بعد يوما" (في " ضد سانت بوف") وتحفّظه إزاء " الأنساق الفلسفية" والنظريات وحضورها خاصة في الكتابات الأدبية، حيث يقول تعبيرا عن تقليله من شأن هذه العلاقة:" إنّ أثرا توجد فيه نظريات هو بمثل شيء نضع عليه طابع الثمن"(بروست " البحث عن الزمن المفقود)، فإنّه أي بروست، يفصح عن تأثّر عميق بالفلسفة يؤكد استفادته من تعلمها وذلك من خلال اعتراضه على التيار الرمزي (الذي نقده بمقال في شبابه " ضدّ الغموض" نشر سنة 1896 بمجلة روفي بلانش) في مقابل تأكيده على لزوم وضوح التعبير عن الأفكار، وضوحا هو مدين به إلى الفلسفات التي كوّنت فكره وخاصة تلك التي كانت بارزة في عصره، فلسفة برجسون وغيره، والتي أكسبته قدرة على التحليل، لا خدمة للمفاهيم بل لوصف انطباعات راوٍ يبحث عن الحقيقة السامية، الحقيقة الفنية تحديدا. غير أن حرصه هذا على الوضوح في العبارة والأسلوب و تجنبه غموض " الرمزيين" لا يعني انحيازه إلى" الميتافيزيقيين أصحاب النظريات"، إلى الفلسفي بالذات. فهو القائل بلزوم الحفاظ على حدود التمايز بين مجالات القول، بين الفلسفي والفنّي. عبّر بروست وهو في سنّ 25 عن هذا في مؤلف عرض فيه آراءه الجمالية كتاب " ضدّ الغموض" 1896، إذ قال فيه مبينا حدود التمايز بين الشعر والفلسفة ولزوم تجنب الروائي حشر النظريات في روايته:" إنّ الروائي الذي يحشو روايته فلسفة ما، رواية ستكون دون شكّ بالغة القيمة في نظر الفيلسوف كما الأديب، لا يرتكب خطأ أكثر خطورة ممّا أجده لدى شعراء شبّان لم يطبّقوا النظرية فحسب بل شيّدوا عليها. لقد نسوا كما هذا الروائي أنّه، إذا كان الكاتب والشاعر لا يستطيعان أن يذهبا بعيدا إلى عمق واقع الأشياء بقدر ما يكون لدى الميتافيزيقي ذاته، فذلك لنهما يسلكان طريقا آخر، وانّ عون التفكير، بعيدا عن أن يفوته، يعيق زخم الشعور القادر وحده على حملها إلى مركز العالم. فليس بمنهج فلسفي بل بضرب من القدرة الغريزية كان لـ"ماكبث " عطر بقية فلسفة. إنّ عمق عمل كهذا هو بمثل عمق الحياة ذاتها بما هي الصورة التي تظلّ، حتى للفكر الذي يثيرها، شيئا حسيّا ودون شكّ غامضة. لكنه غموض من نوع آخر، تعميقه مثمر ومن البغيض جعل النفاذ إليه مستحيلا بسبب غموض اللغة والأسلوب".(م. بروست" ضد الغموض ").

هكذا يكون مارسال بروست منحازا بوضوح إلى الفنّ، إلى الرواية، إلى الكتابة الروائية " بوضوح في العبارة والأسلوب". وهو بهذا يؤكّد مرة أخرى أنه روائي بالأساس الأمر الذي يجمع عليه النقاد تقريبا، و يؤكّده أيضا صديقه بنيامين كريميو B. crumieux  (1888-1944) في شهادة نشرت في مقال سنة 1924 في مجلة باريس بعنوان:"بسيكولوجيا بروست" جاء فيها:" من المزعج كثيرا ردّ ما يمكن أن نسمّيه "نسق بروست" إلى مجرد صيغ. فبروست، فعلا هو فنان وليس فيلسوفا، إنه يحذر النسق. و يريد أن يكون واقعيا فحسب ولا يشتغل إلاّ على تدقيق ملاحظاته. وحينما يصل واقعتين في مجموعٍ بعلاقة السبب والنتيجة، فهو يحذر من الذهاب بعيدا. لن تعثر لديه على عبارات جامعة (مفاهيم)، بل بالأحرى على رفض محفّز للوقوف عند عبارات جامعة".

ولكن إذا كان من الثابت لدى النقاد أن بروست روائي بالأساس وليس فيلسوفا، فما قيمة " الفلسفي " الكامن والثاوي في رواياته؟ هل يعبّر عن " فلسفة" أو فكر فلسفي أم يكشف بعبارة فانسون ديكوت " عن فكر روائي" يعبّر عن جنوح إلى الفلسفة لا غير؟

لقد حذّر مارلوبونتي في درس خصّصه لبروست من سوء الفهم الذي قد يثيره "مشروع بروست الفلسفي" حينما نعتقد، كما يقول مارلو بونتي، أنه بإمكاننا العثور على فلسفة قائمة في أفكار". ذلك أنّ فكر بروست من قبيل " الفكر الروائي"، يتنزّل بالأساس في مجال الفنّ لا الفلسفة ؛ حيث أنّه لا يعبّر عن نفسه في لغة نظرية (بمفاهيم فلسفية ولا بمنهج تحليلي استدلالي أو برهاني..) بل بلغة أدبية تحديدا وبأسلوب أدبي. فكتاباته روائية تحديدا، غير فلسفية وإن عبّرت عن " قدرة مستقلّة ذاتية على التوضيح والوصف والتحليل"، تحليلا وتوضيحا لا يعني بالمرّة توسيعا " لنظرية" فلسفية معينة، بالرغم من حضور بارز للبعد الفلسفي خاصّة في الجزء الأخير من رواية " البحث عن الزمن المفقود"، حيث يكتمل معنى الأثر ويبرّر مجموعه". وإذا كانت رواية " البحث عن الزمن المفقود" قد تضمنت اشتغالا " روائيا" أدبيا على مبحث " الذاكرة والزمن"(وهو مبحث فلسفي بلا شك") وهو مركز اهتمام بروست، فإن هذه " المعالجة الأدبية" لم تشر بالمرة إلى فلسفة نسقية بعينها؛ بالرغم من تأكيد النقاد على تأثر بروست بفلسفات عديدة واستلهامه أفكاره عن الزمن وغيره من نظريات فلسفية يردّها بعض النقاد إلى أفلاطون ونظريته في التذكّر. بل إنّ بعض النقاد أمثال الصحفي" جان بيروفو.Pierrefeu J (1881-1940) يعتبر جازما أن " بروست تلميذ أصيل لبرجسون " موافقا في ذلك ل. بيار كينت P،Quint (1895-1958) الذي ذكر في كتاب جماعي خصص لبروست بأنّ " الأفكار التي تهيمن على فكر وعمل بروست كما كتب ل. بيار كوينت في دراسته لحياة بروست، أفكار من قبيل سيلان الزمن والنموّ الأبدي للشخصية في الديمومة، وثراء اللاوعي الذي لا يقبل الارتياب ولا يمكن العثور عليه إلا حدسا، والذاكرة أو التداعي اللاإرادي والذي لا يمكن التعبير عنه إلاّ بواسطة الذكاء، والذكاء الذي يظلّ عاجزا عن إدراك الحياة أو الفنّ بوصفه الحقيقة الوحيدة للعالم والذي يسمح بالعثور على الحياة في عمقها، كل هذه الأفكار مستلهمة من برجسون، ويبدو أن بروست قد عاش وأحس وجرّب شخصيا كل بسكولوجيا برجسون". وهذا بالرغم من أن بروست نفسه قد أنكر علاقته بفلسفة برجسون فيما يخص فكرته عن الذاكرة خاصّة. فقد جاء في رسالة له إلى روني بلوم سنة 1913 ما يفيد توجهه الشخصي بعيدا عن برجسون خاصة وبالذات في روايته " البحث عن الزمن المفقود" التي يعتبرها كما قال:" الكتاب الذي وضعت فيه أفضل ما في فكري وحياتي بالذات". ويقول عنه في رسالته المذكورة:" من غير المفيد أن نقول كل ذلك. إنّه كتاب جدّ واقعي لكنه محمول نوعا ما على محاكاة الذاكرة اللإرادية (التي في رأيي، رغم أن برجسون لا يقوم بهذا التمييز، هي الذاكرة الحقيقية الوحيدة، الذاكرة اللاإرادية، ذاكرة الذكاء والأعين التي لا تعيد لنا الماضي إلاّ في صورة محاكية غير دقيقة لا تشبهه أكثر مما لا تشبه لوحات أسوء الرسامين الربيع الخ ". وبالرغم من هذا التأكيد لبروست على المنحى الشخصي في كتاباته، فإنّ البعض يصر على البحث فيها عن أثر لهذا الفيلسوف أو ذاك، عن أثر لأفلاطون وشوبنهاور وللايبنتز أيضا. فقد ورد في نشريات " بيزييه" ليوم 23 فيفري 1924 مقالا تحت عنوان:" فيدروس" بيّن العلاقة بين بروست ولايبنتز:" في رأي الفلاسفة، يشمل الحدث البسيط في المطلق وفي نظر الإله، تكوين الكلّ وحكم الكون. إنه شعور مثيل نجده عند بروست. يقيم تحت ملاحظات بروست التي تبدو في الظاهر بلا معنى وغالبا رتيبة، المعنى الأكثر دقّة للتداخل بين الكوني والأبديّ. شاء البعض ردّ ذلك إلى تأثّر بفرويد وبرجسون وانشتين. لكن ذلك قد يبدو لنا ذي صلة خاصّة بلايبنتز، إنّ لم تكن رؤية بروست أكثر أصالة، بل لعله يجسّد حتّى مذهب هذا الفيلسوف الكبير. ذاك الذي يمثّل كل موناد لديه الكون كله من وجهة نظره الفردية. إنّ توجهه الضدّ أخلاقي المزعوم هو لايبنيتزي أكثر. هذه النزعة التفاؤلية التي جيب أن نذكرها: النظر إلى الكلّ يكشف عن كلّ شيء حسن، وجميل وهامّ. ومرّة أخرى بالتأكيد إذا ما بدا أحدهم محتقرا للكلّ والأنساق الميتافيزيقية عند كاتب يومي صغير كما كان، فهو بروست. لكنه في هذا بالذات هو ميتافيزيقيّ، وأي نوع من الميتافيزيقيين ! - بما أنه كما سنؤكد على ذلك مرارا - توجد في الحدوث الهارب لساعة، حتى التي هي مؤلمة وسيئة ـ الحياة الأصيلة للنفس الانسانية، وكلّ ارتعاشات الكائنات منعكسة في نفس بروست ذاته. ذلك هو الحوض الكبير الذي يرى الحيوان كلّه في عظم صغير ". لقد طرح بروست على وجه الخصوص في روايته " البحث عن الزمن المفقود" مسائل فلسفية كبرى من قبيل " الزمن والفكر والذاكرة والفردية والوهم والنوم والحياة والاستيتيقا والعرضية والضرورة والمثل العلى أو علاقة اللغة بالواقع الخ.." غير أن طرحه لها، إذ يجعله من جهة " المبحث" مشاركا للفلاسفة دون أن يكون بذاته فيلسوفا خاصّة أنه يأبى على نفسه أن يكون كذلك، بالرغم من حيرة قد تصيبه أحيانا إزاء ما يكتب بسؤاله: " هل أنا روائي؟.." أم أنا فيلسوف؟ ".. ؛ فإنّ طرحه لهذه المسائل ليس طرحا فلسفيا بل على صورة، كما قالت آن سيمون في كتابها " صخب عبور المسافات" اتحاد الفكر بالسرد". أو هو من قبيل" الدمج عنوة لبعض الموضوعات الفلسفية الكلاسيكية ولكنه مفعم بكل نوع من الانفعال والموت والحبّ والغيرة والحرب والحكايات المؤلمة والمغامرات المجنونة التي تجعلها موضوعات متحوّلة ". وتضيف آن سيمون في نفس المصدر، بأن " هذا الدمج في سياق سردي لهذه المشكلات الفلسفية في حكايات يبعدها عن المفهوم، ويجعلها تقيم في شخصيات لا تكف عن المفاجئة والخيانة، وفي أمكنة تهيمن عليها الانفعالات، يجعلها مطبوعة بالتواء ينتهي بنا إلى عدم التعرّف عليها كموضوعات فلسفية."

غير أنّ الدمج " للفلسفي" في "الحكاية"، إذ ميز بوضوح بروست عن الفلاسفة، فإنّه قرّبه منهم. ربما بموجب ما أسماه "لوك فراز" " تلفيقية بروست"، (التي تتجلّى في التقارب مع عديد الفلسفات المتنوعة المناحي والتوجهات بل والمتباينة) و ذلك أن روايته المميزة " البحث عن الزمن المفقود" قد " ساعدت على التفكير فلسفيا في الزمن " والذاكرة وموضوعات أخرى، على " نحو غير مسبوق" فضلا عن أنّها كانت مصدر سعادة عديدة الفلاسفة المعاصرين أمثال مارلوبونتي ودولوز وفوكو وغيرهم أيضا من الفينومينولوجيين والوجوديين أمثال سارتر والمشتغلين على الحقل النفسي أمثال بارط وغيرهم مثل فانسون ديكومب وجيليا كريستينفا ومارتا توشيوم وجاك بوفراس.. لقد قاد كتاب بروست وبالخصوص " البحث عن الزمن المفقود"مارلو بونتي ودولوز كما تقول لنا آن سيمون في كتابها المشار إليه سابقا:" إلى الاشتغال على الرواية في أفق المفهوم وإدماجها من جديد في حركة أفكارهما. فبالنسبة إلى مالوبونتي في فكرته عن: الإدماج والمشهد وعلاقة المحسوس بالمعنى والصمت الكامن في الكلام الإبداعي وإدخال العمق داخل الزمن وفي العلاقة بالمرئيّ. أما بالنسبة إلى جيل دولوز فمن جهة الغيرة والجنون والرغبة والتهيج الجنسيّ وظواهر الغنيمة والتجسيد اللغوي للتعميم وللسرعة..".غيرأنّ استلهام هذه الأفكار من بروست أفضى لدى كل من مارلوبونتي و دولوز إلى حديث فلسفي دون "حكاية" بل إلى تحليل فلسفي ". لقد كان تأثير مارسال بروست في الفلسفة المعاصرة بَيِّنٌ، بما يملك من " قدرة سردية " و ابتكاره موضوعات صارت " فلسفية"، وبقدرته على الكتابة فيها روائيا. يظلّ بروست روائيا دون شكّ ولكنّه روائي مسكون بالفلسفة، يجنح إليها وهو الذي تربي في أحضانها.3174 مارسال بروس

صورة لـمارسال بروست

" من المفيد للفلاسفة قراءة الروايات لا من أجل مغادرة الفلسفة، بل من أجل ممارسة تمرين هو في ذات الوقت خيالي ومجسّد في الفكر " (آن سيمون - صخب عبور المسافات).

ولكن، من شيء أفضل للوقوف على ما سمّي بالبعد الفلسفي في روايات بروست، من الدخول إلى عالمه " الخاص، واللقاء به عبر نصوصه بالذات وقراءتها، حتى نعرف من هو وفيم يفكّر. من أجل ذلك أقترح عليكم قراءة بعض النصوص التي انتقيتها وتيسّرت لي قدر الإمكان ترجمتها دون الزعم بأنها أفضل ما يكون قدرة على رسم صورة عمّا كتب مارسال بروست، عن هذا الذي سميّ " اتحاد الفكر بالسرد". إنما ذلك من أجل أن نتيح للقارئ اللقاء بهذا الروائي الفذّ وربط علاقة " صداقة" معه عبر القراءة، و"القراءة صداقة " كما يقول بروست ذاته.

* مارسال بروست: نصوص مختارة:

1- " صخب عبور المسافات":

" لكن، حينما أشعر أنّ فكري قد أصابه التعب دون أن يدرك مبتغاه، أرغمه على العكس بأن يسلك مسلك هذا اللهو الذي أبعده عنه، أن يفكّر في شيء آخر، وأن يتعافى قبل محاولة قصوى، ثم أجعل ذهني صافيا أمامه، وأضع من جديد قبالته الطعم الحديث لأوّل جرعة وأشعر بانتفاضة شيء ما في نفسي، شيئا ما يتحرّك ويريد أن يصعد، شيئا ما لم يثبّت، في عمق سحيق، لا أعرف ما هو، لكن ذلك يصعد ببطء ؛ وأحس بالمقاومة، وأنتظر صخب عبور المسافات".

(م. بروست " البحث عن الزمن المفقود" على لسان أحد شخصيات الرواية - ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي).

2- عن القراءة:

" الصداقة دون شك، الصداقة التي تولي اعتبارا للأفراد هي شيء عارض، والقراءة صداقة. ولكنها، على الأقلّ، صداقة خالصة، وكونها تتجه إلى ميّت، إلى غائب، فإنّ ذاك يمنحها شيئا من النزاهة، شيئا مؤثّرا تقريبا. إنّها فضلا عن ذلك، صداقة تخلّصت ممّا يشكّل قبح الآخرين. ومثلما أنّنا لسنا، نحن سائر الأحياء، سوى أموات مع تأجيل التنفيذ، فإنّ كلّ هذه اللياقة وكل هذه التحيّات في الرواق التي نسمّيها احتراما وامتنانا وإخلاصا والتي نمزجها بأكاذيب كثيرة، هي عقيمة ومرهقة. بالإضافة إلى أنّنا- ومنذ علاقات التعاطف والإعجاب والاعتراف الأولى، - والكلمات الأولى التي ننطق بها، والأحرف الأولى التي نكتبها، ننسج حولنا أولى خيوط شبكة العادات، بأسلوب حقيقيّ للوجود، لن نستطيع التخلّص منه في الصداقات الموالية؛ دون اعتبار أنّه، أثناء ذلك الوقت تظلّ الكلمات المتهوّرة التي ننطقها مثل صكوك علينا دفعها، أو سندفعها أكثر أيضا كامل حياتنا ندما على تركها تنفلت منّا. في القراءة سرعان ما تردّ الصداقة إلى نقاءها الأول. لا مجاملة مع الكتب. فإذا ما أمضينا المساء مع هؤلاء الأصدقاء، فذاك لأنّنا رغبنا في ذلك. ونحن على الأقلّ لا نفارقها غالبا إلاّ على مضض. وحينما نكون قد فارقناها فلا وجود لهذه الأفكار التي تفسد الصداقة: ماذا كان رأيهم فينا؟ - هل أعوزتنا البراعة؟ هل أعجبوا بنا؟ - والخوف من النسيان بالنسبة إلى آخرين. تنتهي كلّ هذه الاضطرابات للصداقة عند حدّ هذه الصداقة الخالصة والهادئة التي هي القراءة".

"مارسال بروست " عن القراءة" تمهيد كَتَبَه بروست سنة 1905 لترجمته لكتاب " السمسم والزنابق " لجان ريسكان. ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي)

3- عن الحسد:

"الحسد من الأمراض المتناوبة، سببها متقلّب، إلزامي و متماثل دوما لدى المريض نفسه، وأحيانا مختلف تماما لدى آخر. يوجد من مرضى الرّبو من لا تهدأ أزمته إلاّ بفتح النوافذ، وبالاستنشاق الهواء بملء رئتيه، هواء نقيّا على المرتفعات، بينما يلجا آخرون إلى وسط المدينة، في غرفة مليئة بالدّخان. لا يوجد حاسد لا يسمح حسده ببعض الاستثناءات. فهذا يقبل خداعه شريطة أن لا يعلموه بذلك، و آخر أن يخفوه عنه، فيم ليس أحدهما أقلّ سخافة من الآخر، بما أنّ الثاني قد خُدع حقّا فيم حجب عنه من الحقيقة، بينما يطلب الأول في الحقيقة الغذاء والامتداد والتجديد لآلامه."

(مارسال بروست - السجينة - ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي).

4- عن الكآبة:

" لنعترف بفضل الأشخاص الذين يمنحوننا السعادة، إنّهم بستانين رائعين يُزهرون أرواحنا. ولكن لنكن أكثر اعترافا بالجميل للنساء الشرّيرات أو غير المكترثات فحسب، للأصدقاء القساة الذين سبّبوا لنا الأسى.

لقد حطّموا قلوبنا اليوم فهي متناثرة، حطاما، فلا يمكننا التعرف عليها، لقد اقتلعوا الجذوع وقطّعوا أرقّ الأغصان، مثل ريح نأسف لها، ولكنها تزرع بعض البذور لحصاد محتمل.

لقد سمحوا لنا في النهاية بتأمّل الحزن والحكم عليه. وذلك بتحطيم كلّ سعادة صغيرة تخفي بؤسنا الكبير، وبجعل قلبنا فناء عار كئيب. تحدث المسرحيات الحزينة فينا شعورا حسنا مماثلا؛ وعلينا أن نعتبرها أيضا أسمى من المسرحيات المضحكة، التي تخدع جُوعَنَا بدل أن تشبعه: إنّ الخبز الذي يجب أن يغذّينا مُرٌّ. ففي الحياة السعيدة، لا تبدو لنا مصائر أشباهنا على حقيقتها، إذ تقنّعها المصلحة أو تحوّلها الرغبة. لكنّ، فيما يضفيه الحزن من فتور في الحياة، والإحساس بالجمال المؤلم في المسرح، فإنّ مصائر غيرنا من البشر ومصيرنا، تجعل أنفسنا المتيقّظة تفهم في النهاية القول الأبدي غير المنتظر للواجب والحقيقة.

يكلّمنا الأثر الفنيّ الحزين لفناّن حقيقيّ بلهجة أولئك الذين تألّموا، والذين يحملون كلّ إنسان عاش الألم على ترك كلّ ما تبقّى هنا وعلى الاستماع.

يا للأسف! إنّ ما يمنحه هذا الإحساس، هذا المتقلّب، يتفوّق على الأثر الفني. والحزن الأرفع من المرح غير باق مثل الفضيلة. لقد نسينا هذا الصباح "التراجيديا" التي رفعتنا ليلة أمس إلى الأعالي حتّى نظرنا إلى حياتنا في مجملها وفي واقعيتها بشفقة صريحة وصادقة. سنكون ربّما في عام، قد شفينا من خيانة امرأة، ومن موت صديق. والريح قد زرع البذرة تحت دفعة الدمع، وسط هذه الأحلام المحطّمة، لهذا النُّثَاِر من السعادة الذابلة، لكنّها ستجفّ سريعا جدا كي يمكنها أن تصدّ."

(مارسال بروست " اللذات والأيام" 1896. ". نشر "كالمان ليفي" تمهيد "اناتول فرانس". ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي)

5- عن الغياب والنسيان:

" بما أنه يمكن للإنسان أن يؤثّر في العالم، فكيف باستخدامه الحيلة والذكاء والمنفعة والانفعال لا يتوصّل إلى إزالة هذا الشيء الفظيع: غياب ألبارتين؟ نعتقد أّنا سنغيّر الأشياء حولنا وفق رغبتنا، نعتقد ذلك لأنّنا لا نرى حلا مناسبا دونه. لا نعتقد فيما قد ينتج غالبا، مّما هو مناسب أيضا: لا نتوصّل إلى تغيير الأشياء وفق رغبتنا، لكن رغبتنا تتغيّر شيئا فشيئا. فالحال الذي نأمل تغييره لكونه غير محتمل لدينا، يضحى غير مثير لاهتمامنا. لم نتمكّن من تجاوز العائق، مثلما نريد حتما، غير أن الحياة بدّلته عندنا وجعلتنا نتجاوزه حتى أنّنا إذا ما التفتنا إذن نحو الماضي البعيد، بالكاد نقدر على تبيّنه، من فرط ما أضحى عليه من الضبابية. هذا الهدوء الذي أنا بصدد تذوّقه، هو أول ظهور لهذه القوة الكبيرة المتقطّعة، التي ستقاوم فيّ، الألم والحبّ، وستنتهي إلى منحهما الحقّ. إنّ هذا الذي حصل لي من انطباع أول وفأل، كان، وللحظة فقط، ما سيصبح عندي فيما بعد حالة مستمرّة، حياة لن أقدر فيها على التألم من أجل ألبارتين، حياة لن أحبّها فيها. وقلبي الذي قد اعترف بعدّوه الوحيد الذي يستطيع التغلب عليه، أي النسيان، صار يرتجف، كأسد في قفصه الذي حبس فيه."

مارسال بروست " غياب ألبارتين" ترجمة: عبد الوهاب البراهمي)

6 - عن البحر:

" يفتن البحر دوما أولئك الذين تخطّى لديهم الاشمئزاز من الحياة و إغراء الغموض، أولى الأحزان، مثل شعور بقصور الواقع عن إشباعهم. أولئك الذين هم في حاجة إلى الراحة قبل أن يعيشوا مرة أخرى أيّ تعب، سيواسيهم البحر، ويثير حماسهم على نحو غامض. لا يحمل البحر مثل الأرض آثار أعمال البشر والحياة الإنسانية. لا شيء يستديم فيه، ولا شيء يمرّ عبره إلاّ هاربا، كم يضمحلّ فيه أثر مَخْرِ السفينة! من هنا كان هذا الصفاء الكبير للبحر الذي لا تملكه الأشياء الأرضية. وهذا الماء البكر هو أكثر حساسية من الأرض الصلبة التي لابدّ من فأس لنبشها. تترك فيه خطوة الطفل أثرا عميقا مصحوبا بصخب، وتكون الفوارق المجتمعة للماء لحظة مهشّمة؛ ثمّ تمّحي البقيّة، ويعود البحر هادئا مثلما كان في الأيام الأولى للعالم.سيقع إغراء كلّ من كان متعبا من دروب الأرض أو من يتنبأ، قبل أن يسلكها، كم كانت خشنة ومبتذلة، سيقع إغراءه بالطرق الشاحبة للبحر، أكثر خطورة وأكثر عذوبة، غير آمنة ومقفرة. كل شيء فيه غامض، إلى حدّ ظلاله الضخمة التي تطفو أحيانا بسلام على الحقول العارية للبحر، دون بيوت ودون تظليل، والذي تتسع فيه الغيوم، قراه السماوية، و أمواجه الهائلة.

للبحر سحر الأشياء التي لا تسكت عند الليل، وهي بالنسبة إلى حياتنا القلقة رخصة للنوم، ووعد بأنّ كلّ شيء سيزول، بمثل مصباح ليلي لأطفال صغار يؤنسهم حينما يضيء. ليس البحر منفصلا عن السماء مثل الأرض، إنه دوما في تناغم مع ألوانه، يتحرّك بفوارقه الأكثر رقّة.إنه يشعّ بنوره تحت السماء و يبدو كل مساء كأنما يموت معها. وحينما تختفي، يستمر متأسفا عليه، في الحفاظ قليلا عن ذكراه المضيئة، قبالة الأرض التي يعمّها ظلام دامس. هي لحظة انعكاساته الكئيبة، نحسّ فيها بقلبه لطيفا جدّا يذوب وهو ينظر إليها. وبالكاد يحلّ الليل وتظلم السماء على الأرض المسودّة، يتوهّج البحر وهجا ضعيفا، لا نعرف بأيّ غموض، وبأي بقايا للنهار تحت موجات مدفونة.

ينعش البحر ذاكرتنا لأنّه لا يجعلنا نفكّر في حياة البشر، بل يسعد روحنا، لأنّه مثلها رشفٌ لا محدود وعاجز، زخم لا ينتهي حطّمته الشلالات، شكوى دائمة ورقيقة. هكذا يفتننا البحر مثل الموسيقى، التي لا تحمل كما اللغة أثر الأشياء، والتي لا تقول لنا شيئا عن البشر، لكنها تحاكي حركات روحنا. ينسى قلبنا، وهو يقارع الموج ويسقط معها، خيباته الخاصّة ويواسي نفسه في حميميّة متناغمة بين حزنه وحزن البحر، الذي يمزج بين مصيره ومصير الأشياء."

(مارسال بروست "اللذّات والأيام" 1896 - "28 - البحر" ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي)

***

...................... 

مراجع:

- بروست " البحث عن الزمن المفقود" ترجمة إلياس بديوي.

- مجلة أدب" الفرنسية " بروست فيلسوفا؟ - هشام ستيفان

- بروست والفلاسفة - فرانس كيلتير.

- موقع غالياكا gallica.bnf.fr " بروست والفلسفة " اوليفييه فريسار

-ويكيبديا.

- مارسال بروست، دراسة نقدية - جاك برات

- دراسات فرنسية - مارسال بروست، نقد أدبي - جان إيتيه -بلاي.

- فلسفة الرواية ونظرية القراءة: بروست،ديكومب وألتوسير - جيوم بيرييه النشرية العالمية للفلسفة 2009 عدد 248 ص 177-190.

- التلفيقية الفلسفية لمارسال بروست - لوك فراسو.

 

يعد النقد الثقافي Cultural Criticism من أهم الظواهر الأدبية التي رافقت (ما بعد الحداثة) في مجال الأدب والنقد، وقد جاء بمثابة رد فعل على البنيوية اللسانية، والسيميائيات، والنظرية الجمالية (الإستيتيقية) التي تعتني بالأدب باعتباره ظاهرة لسانية شكلية من جهة، أو ظاهرة فنية وجمالية وبويطيقية (شعرية) من جهة أخرى. ومن ثم، فقد استهدف النقد الثقافي تقويض البلاغة والنقد معاً بغية بناء بديل منهجي جديد، يتمثل في المنهج الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والمؤسساتي؛ إما فهماً أو  تفسيراً. وقد تأثر المنهج الثقافي بمنهجية جاك دريدا* (1930-2004) التفكيكية القائمة على التقويض، والتشتيت، والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز التضاد والمتناقض، وتبيان المختلف إضاءة، وهدماً، وتأجيلاً، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص والخطابات، سواءً أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، متأثرة في ذلك بالدراسات الثقافية المتنوعة، وتمثل الماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والمادية الثقافية، والنقد الاستعماري (الكولونيالي)، والنقد النسوي الذي يدافع ثقافياً عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير(1).

إن النقد الثقافي هو منهج سبقنا إليه الغرب (أمريكا وفرنسا) له أدواته للكشف عن المضمر النسقي في العمل الأدبي(2). ويمكن القول إن النقد الثقافي هو نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعاً لبحثه وتفكيره، ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها(3). ويرى المفكر والفيلسوف المصري صلاح قنصوه* (1936-2019) أن النقد الثقافي ليس منهجاً بين المناهج الأخرى أو مذهباً أو نظرية كما أنه ليس فرعاً أو مجالاً متخصصاً بين فروع المعرفة ومجالاتها بل هو ممارسة أو فاعلية تتوفر على دراسة كل ما تفرزه الثقافة من نصوص سواء  أكانت مادية أو فكرية، ويعني النص هنا كل ممارسة قولاً أو فعلاً تولد معنى أو دلالة(4).

والنقد الثقافي هو صورة جديدة من العودة إلى ربط النص بمحيطه الثقافي، والمتميز فيه أنه ليس مدرسة محددة المعالم، بل يمكن أن يتبدل بتبديل شخصية الناقد وثقافته وتوجهاته وطبيعة النص وقضاياه وثيماته، كما أن النقد الثقافي مفتوح على التأويل وعلى مناهج السيمائيات وتحليل الخطاب ومختلف العلوم الإنسانية المحيطة بالأدب، بل إنه مرتبط بحركات فكرية وثورية كالحركة النسوية، وحركة " الزنوجة " وصراع الحضارات والثقافات، وغير ذلك مما يقع في باب الخطاب المضمر في النص، والنسق المضمر المحرك له(5).

بناء على ما سبق يمكننا تعريف النقد الثقافي بأنه " فرع من النقد النصوصي العام. ومن ثم فهو أحد علوم اللغة، معني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه. وهو نقد غير مؤسساتي وغير رسمي، فهو غير معني بكشف الجماليات كالنقد الأدبي، وإنما هَمُه الكشف عن أقنعة المخبوء جمالياً وبلاغياً "(6). وهو ظاهرة من الظواهر التي تزامنت مع نقد ما بعد الحداثة في الأدب والنقد يستعين بجميع المناهج ليتمكن من كشف وتعرية الأنساق الثقافية المضمرة الموجودة في الخطابات الثقافية .

إن تبني النقد الثقافي ظهر نتيجة لتوسع الثقافة في النصف الثاني من القرن العشرين، فالثقافة تجعل المرء باستطاعته القدرة على الإبداع والابتكار والخلق، لذا فالنقد الثقافي يكشف العيوب النسقية الموجودة في الثقافة، وهو لا يفرق بين فن النخبة المختارة والآخر الجماهيري، ولا بين الآداب الرفيعة والآداب الشعبية .

بذلك يعتبر النقد الثقافي في دلالته العامة كما يوحي اسمه، نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعاً لبحثه وتفكيره ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها. وبهذا المعنى يمكن القول إن النقد الثقافي نقد عرفته ثقافات كثيرة، ومنها الثقافة العربية قديماً وحديثاً. غير أن تطور هذا الميدان من النشاط ونشاط البحث في التعرف عليه هو ما تكاد تحتكره الثقافة الغربية، التي تشكل حالياً المرجعية الرئيسية للتعرف على سماته ومراحل تطوره، مثلما أنها عامل تأثير أساسي في تطور مثل هذا اللون من النشاط البحثي في غيرها من الثقافات. وحين تطور ذلك النقد في الثقافة الغربية فإنه لم يتطور كمنهج في البحث أو يتبلور على شكل تيار ذي سمات واضحة، وإنما ظل نشاطاً عائماً تدخل تحت مظلته ألوان مختلفة من الملاحظات والأفكار والنظريات(7).

ويعتبر الناقد السعودي عبد الله الغذامي* (1946- ) أول باحث عربي تبنى النقد الثقافي بمفهومه العربي بكتابه    " النقد الثقافي- قراءة في الأنساق العربية الثقافية " الصادر عام 2000. كان الغذامي جريئاً في تحطيم ما يعتري الثقافة العربية من أنساق مضمرة وهتك أسرارها بما لم يفكر فيها أحد من قبل، وهو أول باحث عربي تسجل له الريادة فمشروعه مشروع حيوي مهد الطريق أمام الباحثين العرب لتعرية الأنساق الهدامة الموجودة في الخطابات .

تطور النقد الثقافي عن النقد الأدبي، فالنقد الأدبي بقي على تقليديته بنقد النصوص وتفسيرها ثم إصدار الحكم النقدي المتعارف عليه ضمن مصطلحاته المعروفة لكن النقد الثقافي لا يحل محل النقد الأدبي أو يلغيه فالعلاقة بينهما علاقة تكامل لا علاقة تنافس أو الغاء لأن النقد الثقافي ينفتح ويستعين بكل المناهج ومنها النقد الأدبي (8).

كما يسعى النقد الثقافي إلى إلغاء الطبقية الثقافية لكونه يركز على أنواع الخطابات عامة، ويدعو إلى المساواة بين الأثرياء والفقراء، ويمقت التمايز الطبقي والعنصري، ويعري الظلم الذي يسلط على المهمشين من خلال تركيزه على ضرب المركز ليتساوى المهمش معه، ويعري ثقافة المؤسسة لتتساوى معها الثقافة الشعبية المهمشة. إذن هو نقد إنساني يخدم الانسان دون النظر إلى قوميته أو عرقه أو طائفته .

ولا يهمش الآخر سواء أكان ذكراً أو انثى، ولا يفرق بين فقير أو غني، ويعلي من شأن الحرية والمساواة والديمقراطية وقد ساعدته الحرية والديمقراطية على كشف الأنساق سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو دينية أو اجتماعية، أو أخلاقية. فهذه الأنساق بإمكانها التعبير عن ذواتها بحرية فضلاً أنه ينقد الأنساق المضمرة والظاهرة في كل الخطابات وبكل أنواعها وصيغها، ويسعى النقد الثقافي إلى زحزحة المركزية الذكورية التي تقصي المرأة حتى تتساوى مع الرجل في الحقوق والواجبات ويعري ذكورية المجتمع التي أوجبت هذا التمايز بينهما .

وبإمكان النقد الثقافي الالتزام بقضايا الشعوب ومشكلاتها المجتمعية، وبآمالها وطموحتها، ويعري فهم المؤسسة الرسمي الذي يتبنى النص الجمالي فهو ينفتح إلى ما هو أبعد من اهتماماتها وإلى ما هو أبعد من الجمالي ويركز على أنظمة الخطابات يحفر في داخلها من أجل معرفة معانيها الغامضة(9). أي إن النقد الثقافي هو تحليل التصورات الثقافية للعالم، كما أنه يدخل في نقد أعم هو النقد الحضاري. وفي اللغات الأجنبية يستعمل لفظ Cultural للنقدين معاً. النقد الحضاري هو النقد الثقافي من منظور أعم. فالثقافة وعي تاريخي، وتراكم من الماضي في الحاضر. هي رؤى للعالم تعبر عن ثقافات الشعوب وخصائصها، فهناك رؤى للعالم يغلب عليها الطابع الحسي التجريبي (البريطاني)، وأخرى يغلب عليها الطابع العقلي التجريدي (الألماني)، وثالثة يغلب عليها الطابع الوجداني (الفرنسي).. وهي تعميمات تنقصها الدقة أحياناً. هي إذن أربع حلقات متداخلة من الأصغر إلى الأكبر، من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي إلى النقد الاجتماعي إلى النقد الحضاري. تشارك في مركز واحد هو النص وتنتهي إلى دائرة واحدة هي الواقع. ويمثل النقد الأدبي، على سبيل المثال لا الحصر: " النقد الأدبي عبد القاهر الجرجاني، والنقد الثقافي ابن رشد، والنقد الاجتماعي ابن خلدون، والنقد الحضاري إدوارد سعيد " (10).

وعليه، فالنقد الثقافي هو الذي يدرس الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، هو ربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم، لا يتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجمالية والفنية على أنها رموز جمالية ومجازات شكلية موحية، بل على أساس أنها أنساق ثقافية مضمرة ومتوارية بامتياز، تعكس مجموعة من السياقات الثقافية التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية، والقيم الحضارية والإنسانية. ومن هنا، يتعامل النقد الثقافي مع الأدب الجمالي ليس باعتباره نصاً، بل بمثابة نسق ثقافي يؤدي وظيفة نسقية ثقافية تضمر أكثر مما تعلن(11). أما عن خصائص النقد الثقافي فإنه يتصف بمجموعة من الخصائص، وهي كالآتي(12):

1- " إبعاد الانتقائية المتعالية التي تفصل بين النخبوي والإنتاج الشعبي، فيقوم بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.

2- كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفت إليها من قبل.

3- الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحية.

4- كشف القيم الفضلى والحقيقية للنص.

5- تذوق النص بوصفه قيمة ثقافية، لا مجرد قيمة جمالية، وذلك من خلال عن الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله.

6- ربط العلوم الإنسانية بالأدب (علم الاجتماع، علم النفس، التاريخ...) مما يساهم في إثراء النص والساحة الثقافية.

7- يرتبط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.

8- كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتم هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.

9- يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحلية، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالمية ".

علاوةً على ذلك، علينا ألا نخلط النقد الثقافي بنقد الثقافة أو الدراسات الثقافية العامة، فالنقد الثقافي هو الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبية والجمالية والفنية، فيحاول استكشاف أنساقها الثقافية المضمرة غير الواعية، وينتمي هذا النقد الثقافي إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق. في حين، تنتمي الدراسات الثقافية إلى الانثروبولوجيا، والاثنولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والإعلام، وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى(13). وهذا يعني (بمعنى أدق) أن الدراسات الثقافية تركز على مختلف الخطابات الثقافية التي تنتجها المجموعات البشرية المختلفة والمتنوعة، وعلى مستوى المثاقفة بين تلك الثقافات، وعلى أنواع من الثقافات الخاصة والعامة والهامشية، وبالخصوص الهيمنة الثقافية. وقد ظهرت النظريات المؤثرة للهيمنة الثقافية وفعلها من حركة الدراسات الثقافية مثلما هو الشأن بالنسبة لمعظم نظرية التواصل التي تحاول تفسير القوى الثقافية الموجودة وراء النظام العالمي الجديد، وبالعولمة(14).

وفي هذا السياق، يقول عبد الله الغذامي " ونميز هنا بين " نقد الثقافة " و" النقد الثقافي "، حيث تكثر المشاريع البحثية في ثقافتنا العربية، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقوية، وهذا كله يأتي تحت مسمى " نقد الثقافة "، كما لابد من التمييز بين الدراسات الثقافية من جهة والنقد الثقافي من جهة ثانية، وهذا تمييز ضروري التبس على كثير من الناس حيث خلطوا بين " نقد الثقافة " وكتابات " الدراسات الثقافية "، وما نحن بصدده من " نقد ثقافي "، ونحن نسعى في مشروعنا إلى تخصيص مصطلح " النقد الثقافي " ليكون مصطلحاً قائماً على منهجية أدواتية وإجرائية تخصه، أولاً، ثم هي تأخذ على عاتقها أسئلة تتعلق بآليات استقبال النص الجمالي، من حيث إنه المضمر النسقي لا يتبدى على سطح اللغة، ولكنه نسق مضمر تمكن مع الزمن من الاختباء، وتمكن من اصطناع الحيل في التخفي، حتى ليخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين والتجديديين، وسيبدو الحداثي رجعياً، بسبب سلطة النسق المضمر عليه " (15).

بيد أن الظهور الفعلي والحقيقي للنقد الثقافي لم يتحقق إلا في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم والتحديد في عام 1985 في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استفاد هذا النقد من البنيوية اللسانية، والانثروبولوجيا، والتفكيكية، ونقد (ما بعد الحداثة)، والحركة النسوية، ونقد الجنوسة، وأطاريح ما بعد الاستعمارية. ويعتبر الناقد الأمريكي فنسنت .ب. ليتش Vincent Barry Leitch  (1944- ) أول من تبلور على يده مصطلح النقد الثقافي منهجياً الذي أصدر في عام 1992 كتاباً قيماً بعنوان: " النقد الثقافي - النظرية الأدبية وما بعد البنيوية "* الذي نقله إلى العربية هشام زغلول الصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر. ويعني هذا أن ليتش ينتمي إلى نقد (ما بعد الحداثة)، إذ يلتجئ إلى تشريح النص تفتيتاً وتفكيكاً، واستجلاء الأنظمة غير العقلية والأنساق الثقافية الإيديولوجية ضمن رؤية انتقادية وظيفية. وبتعبير آخر، يتعامل ليتش مع النص أو الخطاب، بالتركيز على الأنظمة العقلية واللا عقلية، وتفكيكها اختلافاً وتقويضاً وتضاداً على غرار التصور التفكيكي عند جاك دريدا. ويعمل ليتش أيضاً على نقد المؤسسة الأدبية التي توجه أذواق القراء بالطريقة التي ترتضيها هذه المؤسسة. ومن ثم، ينتقد ليتش المؤسسة الثقافية التي كان لها تأثير سلبي في طريقة التلقي والاستجابة لدى القراء(16).

وهكذا نجد أن النقد الثقافي يعني التوسع في مجالات الاهتمام والتحليل للأنساق، حتى غدا جزءً من كل الدراسات الثقافية، بما تعنيه الثقافة التي توجز بأنها " دائرة نشاط الإنسان المتحققة على الأرض فعلاً مستقراً، والراسخة فيمن يدب فوقها من البشر أثراً باقياً ". وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن ندخل النقد الأدبي مع النقد الثقافي، الذي بدوره يضم كماً من المعارف الإنسانية والفلسفية، والأدبية، ومن هنا، فلا خوف على الأدب من هجر الخصوصية التي يمثلها في طريقة التعامل معه، وبذلك تتم دراسة النص بكونه أدباً، وبكونه خطاباً ثقافياً (17).

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..................

* جاك دريدا Jacques Derrida (1930 - 2004) فيلسوف وناقد أدب. يعد دريدا أول من استخدم مفهوم التفكيك بمعناه الجديد في الفلسفة، وأول من وظفه فلسفياً بهذا الشكل وهو ما جعله من أهم الفلاسفة في القرن العشرين يتمثل هدف دريدا الأساس في نقد منهج الفلسفة الأوربية التقليدية، من خلال آليات التفكيك الذي قام بتطبيقها إجرائياً من أجل ذلك. بالنسبة لدريدا فإن للتفكيك تأثيراً إيجابياً من أجل الفهم الحقيقي لمكانة الإنسان في العالم فقد أزاحه عن موقعه المركزي بعيداً، كان دريدا بأفكاره الفلسفية مختلفاً تمام الاختلاف ومغايراً للسائد الفلسفي لذا كان يتلقى دائماً اتهامات في قضايا عدة فأحياناً كان يُتهم بالمبالغة في التحليل وأحياناً كان يُوصف بالظلامية والعبثية وتعمد الغموض، حاول دريدا الإجابة على أسئلة خصومه الذين كان من أشدهم وطأة عليه هابرماس .عالج دريدا مجموعة واسعة من القضايا والمشاكل المعرفية السائدة في التقاليد الفلسفية (المعرفة، الجوهر، الوجود، الزمن) فضلاً على معالجاته المستمرة حتى وفاته لمشاكل: اللغة، والأدب، وعلم الجمال، والتحليل النفسي، والدين، والسياسة والأخلاق. لكنه في فتراته الأخيرة ركز على القضايا السياسية والأخلاقية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

................

(1) جميل حمداوي: النقد الثقافي بين المطرقة والسندان، دار الريف للطبع والنشر الإلكتروني، المغرب (تطوان)، ط1، 2015، ص(5).

(2) قماري ديامنتة: النقد الثقافي عند الله الغذامي، رسالة ماجستير غير منشورة، قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب واللغات، جامعة قاصدي مرباح، الجزائر، 2012-2013، ص(8).

(3) ميجان الرويلي، سعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2002، ص(305).

* صلاح قنصوه (1936 - 2019)، مفكر وفيلسوف مصري، ولد في القاهرة، وهو أحد أشهر أساتذة الفلسفة في العالم العربي، حيث كان أستاذاً في فلسفة الفن، وفلسفة العلوم، وفلسفة العلوم الاجتماعية، والنقد الفني، وأستاذاً في مناهج البحث وعلم الجمال.

(4) صلاح قنصوه: تمارين في النقد الثقافي، دار ميريت، القاهرة ، ط1، 2002، ص(5).

(5) محمد عبيد الله: النقد الثقافي والدراسات الثقافية، مجلة أفكار، وزارة الثقافة الأردنية، عمان، العدد: 207، 2006، ص(88).

(6) عبد الله الغذامي: النقد الثقافي – قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2005، ص(83-84).

(7) ميجان الرويلي، سعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، مرجع سبق ذكره، ص(305-306).

* عبد الله بن محمد بن عبد الله الغذامي من مواليد عام 1946 في عنيزة. أكاديمي وناقد أدبي وثقافي سعودي، وأستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، بجامعة الملك سعود بالرياض. ومنح جائزة شخصية العام الثقافية من جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2022 تقديراً لجهوده المتميزة في ميدان النقد الثقافي ودراسات المرأة والشعر والفكر النقدي التي بدأت منذ منتصف الثمانينات وأحدثت  نقلة نوعية في الخطاب النقدي العربي.

(8) حمزة عبيس الجنابي: رؤية في النقد الثقافي، قسم الإعلام، جامعة المستقبل، العراق (بابل)، 05/03/ 2005. https://uomus.edu.iq/NewDep.aspx?depid=20&newid=10763

(9) المرجع السابق نفسه.

(10) محرر الصحيفة: من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، صحيفة الاتحاد، 19/ يوليو / 2019. https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/103020

(11) جميل حمداوي: النقد الثقافي بين المطرقة والسندان، مرجع سبق ذكره، ص(9).

(12) قماري ديامنتة: النقد الثقافي عند الله الغذامي، مرجع سبق ذكره، ص(11).

(13) جميل حمداوي: النقد الثقافي بين المطرقة والسندان، مرجع سبق ذكره، ص(9).

(14) طارق زياد: النقد الثقافي والدراسات الثقافية، صحيفة اللغة العربية،

https://arabiclanguageic.org/view_page.php?id=14352

(15) عبد الله الغذامي، عبد النبي اصطيف: نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2004، ص(37-38).

* Vincent Barry Leitch :Cultural Criticism, Literary Theory, Poststructuralism, Columbia University Press (New York, NY), 1992.

(16) جميل حمداوي: النقد الثقافي بين المطرقة والسندان، مرجع سبق ذكره، ص(13).

(17) ملحة بنت معلث بن رشاد السحيمي: نظرية النقد الثقافي ما لها وما عليها، مجلة بحوث كلية الآداب، جامعة المنوفية، مصر، المجلد: 31، العدد: 123، ج1، أكتوبر 2020، ص(9).

كوجيتو ديكارت (أنا أفكر، لذا أنا موجود)، هو ربما أشهر عبارة قيلت في الفلسفة. انها تلخص حجته بان وجود المرء هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن ابداً ان يخطئ فيه ذلك المرء. في رسالته (تأملات في الفلسفة الاولى،1641)، يجادل ديكارت بانه في كل الافتراضات الاخرى – حتى المتعلقة بالرياضيات الاساسية –  في كل مرة أفكر في تلك، هناك شيطان ذو قدرة هائلة يتدخل في ذهني ويخدعني، يقودني لأكون مخطئا. فمثلا، في كل مرة افكر في مجموع 2+3، هذا الشيطان يتدخل ليجعلني أعتقد ان المجموع الكلي هو 5، بينما في الحقيقة هو شيء آخر. في الحقيقة، انا خُدعت من جانب هذا الشيطان في كل شيء أظن اني أعرفه.

اعتقادي باني ذهبت للحانوت الاسبوع الماضي ربما كان مرتكزا على ذاكرة جرى فبركتها كليا من جانب الشيطان.

لكن الأمر مختلف بالنسبة لمقترح "انا موجود" . هذا بسبب اني لايمكن خداعي حول شيء مالم أكن موجودا – وبتحديد اكثر، مالم اكن موجودا كشيء يمكن ان ينخدع، بكلمة اخرى، شيء مفكر. لكن اذا كان يتحتم عليّ ان أكون موجودا لكي اُخدع في أي شيء، لابد لي ان أكون موجودا لكي اُخدع في الافتراض "أنا موجود" ايضا.

لكي اُخدع في هذا الافتراض ذلك يتطلب أمرين اثنين: اولاً ان اكون موجودا لكي اكون شيئا يمكن خداعه، وثانياً، ان لا اكون موجودا لكي يمكن للافتراض "انا موجود" ان يكون خادعا. وكما يجادل ديكارت، ان هذا التناقض يبيّن انه من المستحيل ان اُخدع في الافتراض "انا موجود". ولذلك، فأن أي شخص يعتقد "هو موجود"، يجب ان يكون صائبا. لذلك: انا افكر، اذاً انا موجود.

في هذه الحجة، إعتقد ديكارت انه وجد التصريح او البيان الذي يمكن معرفته بدون أي معرفة او افتراضات قبلية، والذي يمكن استعماله كـ أساس "مؤكد ولايتزعزع" لإفتراضات اخرى حول العالم، ولمعرفة الانسان عموما. غير ان محاولات ديكارت لإشتقاق أي شيء آخر من الكوجيتو فشلت بشكل واضح، وانحسرت بسرعة لتصبح معتمدة على خيرية الله، حيث أحاط الشك بحججه لهذه الفكرة فتزعزع اليقين بما نتج عنها من افتراضات. مع ذلك، نريد الآن باختصار التساؤل فيما اذا كان ديكارت حقق اليقين الذي سعى اليه حتى في اقتراحه الأول.

حجة "شيطان الشر" لديكارت تهدف للذهاب قدر الإمكان في التحقق من عقائدنا، تسمح بإمكانية ان يكون هذا الشيطان يخدعنا في معظم الحقائق الرياضية الأساسية. لكن فقط عبر إعتماد الشك الى حده المطلق يستطيع ديكارت شرعيا الادّعاء انه وجد شيئا وراء السؤال وبشكل مطلق. لكن ديكارت لم يذهب للحد المطلق. هذا بسبب ان حجة ديكارت لاتزال تعتمد على قوانين المنطق. بدون هذه القوانين، الكوجيتو ذاته سوف يتدهور فورا. لكي نُخدع في الافتراض "انا موجود" ذلك يتطلب تناقضا، ولكن ذلك لن يكون متاحا الاّ اذا تجاهلنا قانون عدم التناقض (هذا هو احد قوانين المنطق ويؤكد ان الشيء لايمكن ان يكون موجودا وغير موجود في وقت واحد). في الحقيقة، بدون قانون عدم التناقض، نحن يمكن ان نتفق مع حجة ديكارت على طول الطريق وصولا الى استنتاجه،ومع ذلك نفضل الإستنتاج المضاد.

هنا يجب الاشارة الى ان أي محاولة لإتباع خطة ديكارت-  لنكتشف ان ما نعرف هو مؤكد وخال من الافتراضات المسبقة – هي محكوم عليها اما بالفشل او انها تبيّن اننا لا نعرف شيئا. نحن لا يمكننا الذهاب على الاطلاق الى أي مكان في الحجة بدون قوانين المنطق. لكن هذه القوانين ذاتها لايمكن إثباتها، لأننا يجب ان نفترضها سلفا لكي نؤسس حجة لها. ولذلك لايمكن ان نعرف اطلاقا بشكل مستقل عن أي شيء.هذا الفشل مصيري لمشروع ديكارت لأن خوفه كان انه مالم تكن اسس تفكيره مؤكدة وبدون افتراضات مسبقة، فان كل شيء  بناه عليها "سيكون مشكوك فيه جدا" (ص13). لذا فان التحقق من كل شيء عدا قوانين المنطق يقوّض مشروعه ليس في الجزء الأخير وانما في الأول.

ربما لايزال هناك شيء ما نستطيع استخلاصه من حجته. حتى لو فشلت تأملاته في تحقيق هدفه المحدد في التشكيك بكل  شيء، قد يجادل احد ان ديكارت عمل سرا خطة اكثر تواضعا – تكون فيها مسائلة كل شيء ممكنة عمليا . لو هو استجوب بشكل مطلق أي شيء، بما فيه المنطق، فان تأملاته لا تفشل فقط  في كشف أي حقائق معينة، وانما تنتهي الى مجموعة من الثرثرة.  ذلك ربما قرره ديكارت او افترضه، ليفترض سلفا الحد الادنى من قوانين المنطق، لكي يكشف تلك الافتراضات الاكثر يقينية – التي هي يقينية كقوانين المنطق ذاتها.

لذلك، فان الكوجيتو، ليس الافتراض المؤكد اطلاقا، وانما هو الافتراض الآخر المؤكد مثل قوانين المنطق. هذا ربما يكون مفيدا في تحسين اسس افتراضاتنا مستقبلا. محاولات ديكارت تشير الى ان الكوجيتو وقوانين المنطق وحدهما ربما غير كافيين لاشتقاق أي افتراضات اخرى مؤكدة، ولكن كوننا قبلنا النقص في اليقينية المطلقة في افتراضاتنا، نكون على الاقل نتحرك الى الامام عبر ترتيب اليقينية لإفتراضات اخرى عبر النظر في ماهية الشيء الآخر الذي يجب افتراضه لكل واحدة من درجات اليقين ليكون صحيحا.

الكوجيتو يأخذ أعلى مرتبة، ويتطلب لصحته فقط قوانين المنطق . لا شك ان هذا الترتيب سيكون مهمة طويلة ومعقدة لكنه يحمل وعدا اكثر بكثير من محاولة اشتقاق مجموعة كاملة من المعرفة من مقدمة واحدة بأن أحدا موجود.

هدف ديكارت كان تطهير أذهاننا من كل شيء عدى المؤكد المطلق. هيكل تراتبي من العقائد hierarchy سوف لن يلبّي ذلك، وانما سيبيّن لنا خطوط التفكير وتأكيدات غير مباشرة تكمن خلف عقائدنا، وبالتالي تكون مهمته ابلاغية وليست ازالة لعملية القرار. هذا كما يبدو هو اكثر شيء نأخذه من كوجيتو ديكارت.

***

حاتم حميد محسن

..................

Descartes Ergoing Nowhere, Descartes failed to find absolute foundations for knowledge. philosophy Now, March/April 2023 

سُلوكُ الفردِ اليوميُّ لَيْسَ تجربةً ثقافيةً شخصيةً فَحَسْب، بَلْ هو أيضًا تيَّارٌ فِكري يَربط الواقعَ المادي بالخَيَالِ الإبداعي، ويُحدِّد معالمَ الوَعْي الحقيقي في تفاصيل الفِعْل الاجتماعي الذي يَكشِف تأثيراتِ العقل الجَمْعي في الدافعِ النَّفْسِي والإدراكِ الحِسِّي، ويُوضِّح طبيعةَ الجَوهرِ الوجودي في المعايير الأخلاقية، ويُسيطر على ماهيَّةِ التفاعلِ الرمزي في اللغةِ والبيئةِ،ويُعيد إنتاجَ هُوِيَّة الزَّمَكَان ( الزَّمَان_ المَكَان) في التاريخِ والحضارةِ. والفِعْلُ الاجتماعي لا يَستطيع تَجَاوُزَ العَقَبَاتِ الحياتية المُتَعَلِّقَة بمشاعرِ الأفراد المُتضاربة، ونُظُمِ المُجتمع الاستهلاكية، إلا بإعادةِ تأويل الأنماط الثقافية في جسد التاريخ بحيث تُصبح قُوَّةً دافعةً لإرادةِ المعرفة، وإعادةِ تشكيل أنساق المَاضِي بحيث يُصبح نَوَاةً مركزيةً لأنْسَنَةِ الحضارة. واندماجُ إرادةِ المعرفةِ معَ أنْسَنَةِ الحضارةِ يُفَكِّك آلِيَّاتِ الهَيمنة التي يُوَظِّفها أصحابُ المصالحِ الشخصية، للاستحواذِ على سُلطةِ التاريخِ والحضارةِ، وتحويلِ هذه السُّلطة إلى كِيَان قَمْعِي يُجرِّد العلاقاتِ الاجتماعية مِن حيويةِ الفِكْرِ وحُرِّيةِ التفكير، مِمَّا يُؤَدِّي إلى احتكارِ عناصر البيئة المُعَاشَة للخَيَال الإبداعي، واختزالِ الوَعْي الحقيقي في نُظُمِ المُجتمع الاستهلاكية، وهذا سبب غُربةِ الفرد في ذاته، واغترابِه عن حياته.

2

الوَعْيُ الحقيقيُّ في الفِعْل الاجتماعي، وإرادةُ المعرفةِ في التجربة الثقافية للفرد، يَكشِفان كيفيةَ تَحَوُّلِ الأنماطِ الثقافية إلى بُنى وظيفية عُضوية في كَينونة المُجتمع المُتَحَرِّرَة مِن أدلجةِ التاريخِ، التي تُسَاهِم في تَزييف الوَعْي، وتفتيتِ الجَوهر الوجودي، وإزالةِ اليقين مِن العلاقات الاجتماعية، مِمَّا يَجعل شرعيةَ المُجتمعِ قائمة على الشُّكُوكِ والشُّبَهَاتِ، فتنكسر شخصيةُ الفردِ الإنسانية، وتنهار المُنْجَزَاتُ الحضارية في المُجتمع، وينتقل العقلُ الجَمْعي مِن الحتمية إلى الاحتمالية، فَيَعْجِز الفردُ عن تحقيق ذاته، ويَعْجِز المُجتمعُ عن إيجاد هُوِيَّته. وهذا العَجْزُ على الصَّعِيدَيْن الفردي والجماعي يُؤَثِّر سلبًا على قُدرة اللغةِ على تفسيرِ الأحداث اليومية، وتأويلِ الوقائع التاريخية، لأنَّ كِيَانَ الفردِ وكَينونةَ المُجتمعِ مُرتبطان معَ اللغةِ واقعيًّا ورمزيًّا. وكُلُّ إشكاليةٍ وُجودية في البناء الاجتماعي تُمثِّل انقطاعًا معرفيًّا في بُنية اللغة. وكُلُّ انكسارٍ في الفِعْل الاجتماعي يُمثِّل صَدْعًا في فاعليَّة العقل الجَمْعِي، لذلك لا بُدَّ أن يتحرَّر الفردُ مِن صُورة الضَّحِيَّةِ كَي يُصبح وُجُودُه فلسفةَ بِنَاء لا هَدْم، ولا بُدَّ أن يتحرَّر المُجتمعُ مِن مَبدأ التمركز حول الذات كي يَنتقل إلى آفاق التَّنَوُّعِ الثقافي.

3

الجَوهرُ الوُجودي هو الفِكْرُ الاجتماعي الذي تَمَّ تَطْهِيرُه مِن صِرَاعِ المصالح الشخصية، وتَنْقِيَتُه مِن صِدَامِ الهُوِيَّاتِ المعرفية. وكما أنَّه لا يُوجد وُجود بلا جَوهر، كذلك لا يُوجد مُجتمع بلا فِكْر. وهذا الترابطُ يُوضِّح أهميةَ الفِكْرِ في حمايةِ الوُجودِ مِن الوَهْمِ، وحمايةِ المُجتمعِ مِن الغِيَاب، لأنَّ الفِكْرِ هو السُّلطة التي تَمنح الشرعيةَ للكِيَانَاتِ الحياتية والسِّيَاقاتِ اللغوية، فالفردُ يُفَكِّر كَي يَحْيَا، ويُفَكِّر كَي يَتَكَلَّمَ، وهذا يَعْني استحالةَ خُروجِ الحياةِ واللغةِ عن دائرة التفكير. لذلك، كُلُّ إقصاء لمركزية الحياة يُمثِّل تكريسًا للوَعْي الزائف، وكُلُّ استبعاد لرمزية اللغة يُمثِّل تجذيرًا للقطيعة في أنساق التاريخ. وإذا كانت شخصيةُ الفرد الإنسانية تُعيد إنتاجَ ذاتها اعتمادًا على فلسفة المَعْنَى في مَنظومة الخَيَالِ الإبداعي، فإنَّ دائرة التفكير تُوَسِّع نَفْسَها استنادًا إلى ثَورة اللغةِ في الحُقول المعرفية، وهذا يَعْني ضرورةَ زراعة الخَيَال الإبداعي في الحُقول المعرفية، لِكَيْلا يُصبح نَسَقًا هُلاميًّا سابحًا في الفراغ، بلا قاعدة اجتماعية فَعَّالة، ولا أرضية سُلوكية أخلاقية.

4

إرادةُ المعرفة تَدفع العلاقاتِ الاجتماعية إلى التعامل معَ الخَيَالِ الإبداعي كعمليةِ صَهْرٍ للمراحل الزمنية، حيث يتمُّ اكتشافُ الماضي كحركة فاعلة في الحاضر، وتحليلُ الحاضر كَبُنية وظيفية قائمة على التفكير النَّقْدي ضِمن تأويلِ اللغةِ وصَيرورةِ التاريخ. واللغةُ والتاريخُ يُكَوِّنان فلسفةَ الجَوهر الوجودي، ويُوَظِّفانه في الخَيَالِ الإبداعي، بِوَصْفِه تفاعُلًا معَ الأشواقِ الرُّوحيةِ للفردِ وعناصرِ الواقع المادي. وهذا التفاعلُ حَاكِمٌ على المَعنى، ومَحكومٌ بالقَصْدِيَّة. أي إنَّ له مسارًا ومصيرًا خَالِيَيْن مِن العبث والصُّدفة. ومُهِمَّةُ هذا التفاعل هي التنقيب عن الأنظمة المعرفية في إفرازات البيئة المُعَاشَة، باعتبارها مَوروثًا ثقافيًّا غَير مُكْتَمِل، وتاريخًا حاضرًا في الغِيَاب.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

التأثير الأيديولوجيّ للعقيدة الإسلاميّة على الفكر السياسيّ الحديث والمعاصر في العالم العربي والإسلامي

لقد شكلت الأيديولوجيا الدينيّة في تاريخ الخلافة العربيّة الإسلاميّة منذ قيامها حتى سقوطها على يد اتاتورك (1924)، أكثر أشكال الأيديولوجيا حضوراً، حيث أصبح الدين منظومة القانون التشريعي، والمذهب السياسي، والتعاليم الأخلاقيّة، هذا دون إنكار لدور القوانين الأخرى الوضعيّة، والمستمد أكثرها شرعيته من الدين نفسه التي فرضها التطور التاريخي للمجتمع عبر امتداد سيرورة وصيرورة حكم الخلافة الإسلاميّة، أو تلك القوانين التي فرضها الخارج على الخلافة العثمانيّة في نهايات حكمها كمضامين خط "كالخانة" وخط "همايون" على سبيل المثال لا الحصر. (1).

نعم لقد مارس الإسلام عبر تاريخه تأثيراً عميقاً على الفكر السياسيّ في الشرق المسلم عموماً، وعالمنا العربيّ على وجه الخصوص، وذلك من خلال اضطلاع الإسلام منذ البداية بدور القاعدة الأيديولوجيّة للخلافة الإسلاميّة التي بدأت إرهاصاتها الأوليّة مع السقيفة.

أما بالنسبة للعقيدة الإسلاميّة والفكر الإسلامي المشتق أساساً من صلب هذه العقيدة، كالفقه وعلم الكلام بشكل عام، وتأثيرهما على وعي الشعوب المسلمة، فقد تضمنت القيم المعنويّة والأخلاقيّة ومعايير السلوك في الحياة العائليّة والمجتمع والاقتصاد. كما جرى استخدام الفكر الدينيّ والتقاليد الدينيّة لغايات سياسيّة مختلفة من قبل قادة الحركات التي قامت ضد استبداد القوى الحاكمة في هذه الخلافة، في العصور الوسطى، كحركة القرامطة والحركة الخرميّة والبابكيّة والزنج، وغيرها من الحركات التي اتخذت من الدين سلاحاً أيديولوجيّا لمقاومة السلطة الحاكمة، وخاصة الحركات التي دافعت عن آل البيت وأحقيتهم بالخلافة، كثورة "المختار الثقفي  والأشعث وزيد بن عليّ" وغيرها. مع تأكيدنا أن مسألة اعتماد المعارضة على الأيديولوجيا الدينيّة ظلت قائمة حتى تاريخنا الحديث والمعاصر، إن كان على مستوى مقاومة الاستعمار أو مقاومة الأنظمة الاستبداديّة الحاكمة في الدول العربيّة بعد نيلها الاستقلال. وهذه المسألة لها أسبابها وطابعها الاجتماعيّ والاقتصاديّ وخصوصياتها الثقافيّة، أو بشكل عام هي انعكاس للوجود الاجتماعيّ وأساليب الإنتاج السائدة إن كان تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة، أو تحت مظلة الأنظمة العربيّة المعاصرة في عالمنا العربي، كدول أو مجتمعات متعددة الأنماط  الإنتاجية.

إن سيادة الفكر الدينيّ وانتشاره وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع العربي، يعكس السمات الخاصة لأشكال الملكيّة وأنماط الإنتاج المتداخلة، كما يعكس خصوصيّة مزيج الأشكال المختلفة من التطور التاريخي. فتعايش وتركيب العناصر الاجتماعيّة لأنماط الإنتاج وتعددها ومختلف مستويات تطورها، لا يمكن لها إلا أن تترك بصماتها على الطريقة التي يؤثر فيها الدين على المجتمع وحركته.

إن تطور المؤسسات الدينيّة، والصلات السيكولوجيّة (النفسيّة) وقوالب الوعي الجماهيريّ الدينيّة التقليديّة، وتكوين الفكر السياسي، لا بد لها أن تتحدد وتتأثر في شكل الوجود الاجتماعيّ السائد، أي في درجة قوة أو ضعف قوى وعلاقات الإنتاج السائدة. لذلك فإن الفترة الانتقاليّة في المجتمع التقليدي ما قبل الرأسماليّ إلى المجتمع الحديث، ما تزال جاريّة في عالمنا العربيّ رغم عوامل عرقلتها الكثيرة من الداخل والخارج معاً، وهذا يعني أن العناصر الدينيّة والعلمانيّة في حركات الاحتجاج الاجتماعيّ والسياسيّ وكذلك في الوضعيّة الأيديولوجيّة ستظل متعايشة لفترات طويلة قادمة.

إن عمليّة إحلال الأفكار العلمانيّة محل الدينيّة، هي عمليّة موضوعيّة تماماً، وتجري على نحو متفاوت. إن ما حدث من تطور في العالم العربيّ بعد الاستقلال لم يؤدِ بعد إلى إقصاء التقاليد الدينيّة غير العقلانيّة كاملاً، بل سارت الأمور نحو تركيب خاص، يجمع تحت مظلته العوامل الدينيّة والعلمانيّة معاً. ومع ذلك فقد تعرض الدين ذاته إلى تغيرات باتجاهين: الأول ليبراليّ، والثاني أصولي في مجرى التطور العالمي للنظام الرأسماليّ وتأثيره على عالمنا العربي، في الوقت الذي ظلت فيه البرجوازيّة العربيّة الكومبرادوريّة وحتى الوطنيّة منها عاجزة عن تحقيق إعادة صياغة جديدة للدين تتفق وطموحاتها وحاجات العصر معاً. ويأتي في مقدمة هذا التغيير الطموح لفصل الدين عن الدولة.

لقد ظل الفكر السياسيّ مرتبطا في عالمنا العربيّ بالدين طوال فترة الخلافة الإسلاميّة كما أشرنا في موقع سابق، بل هو ارتبط أساساً بالدين منذ بدء الدعوة، فالدعوة في جوهرها وأهدافها هي فعل سياسيّ يرمي إلى تغيير البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة لمجتمع الجزيرة أولاً وللعالم ثانيّاً، تغييراً يتفق ومبادئ الدين الإسلاميّ الذي بشر به الرسول، لذلك اندمج الدين والسياسية لتحقيق هدف مشترك ذي طابع عقيدي هو (التوحيد الإلهي) و كذلك التوحيد (المجتمعي)، كما كان له طابع أخلاقيّ هو (نشر قيم العدالة والمساوة والمحبة والتسامح). ولكن علينا أن نميز هنا بين السياسة في مشروع (الدعوة الإسلاميّة)، وبين مفهوم (الدولة) كدولة لها أسسها ومؤسساتها وحاملها الاجتماعي في الدعوة ذاتها وخطابها السياسي، هذه الدولة التي لم تكن محسوبة على الخطاب الإسلامي برأيي طوال فترة الخلافة الاسلاميّة، وأن كل ما كان يتعلق بجانبها السياسي هو التركيز على "الخليفة" وشروط وآليّة تنصيبه وسماته وخصائصه، كما ذكرت كتب الأحكام السلطانيّة المتعلقة بالشأن السياسي للماوردي وغيره. دون أن نعدم بعض الاشارات هنا وهناك إلى ولاة الأمر وسماتهم وخصائصهم أيضاً.

إن الدولة في مفهومها وجوهرها، والانعطافه التاريخيّة الهامة في تمثل العرب لمفهوم الدولة الحديثة التي بشر بها الفكر الوضعيّ، يرجع إلى تاريخ عصر النهضة الأوربيّة وتأثر الشرق عموما بهذه النهضة ومنه عالمنا العربي، إي بتأثير الاستعمار الأوربي ومشروعه الرأسمالي والثقافي والسياسي الطامح إلى إعادة هيكلة العالم على صورته وتحقيقاً لمصالحه، فهذه العوامل  لعبت دوراً كبيراً في التأثير على بنيّة الخطاب السياسي في عالمنا العربي، هذا التأثير الذي تجلى عمليّاً مع قيام حركة "كمال أتاتورك" الذي الغى نظام الخلافة بكل عُجْرِهِ وَبُجْرِهِ، ليتبنى مفهوم الدولة الحديثة، التي جاء الاستعمار الأوربي المحتل لبلادنا ليؤسس لها في وطننا العربي شرقاً وغرباً.

نعم.. إن مركب السمات التقليديّة والحديثة في الأنموذج الرأسماليّ العربي الكومبرادوري في بنيته الهجينة والضعيفة والمرتبطة بالغرب، قد انعكس على عملية التطور الارتقائي للفكر السياسيّ العربيّ المعاصر. وذلك على اعتبار أن الفكر في عالمنا العربي الذي تأثر بالفكر الحداثي الغربي لم يلغ الفكر الديني، بل على العكس استمر هذا الفكر بشكل قوي وفاعل، وغالباً ما سيس من قبل الغرب ذاته خدمة لمصالحه كتشجيعه للفكر الصوفيّ الطرقيّ من جهة، مع سعة حضور هذا الفكر الديني أصلاً في وعي أفراد الشعب، بوصفه عاملاً محدداً لثقافة هذا الشعب ولم يزل من جهة ثانيّة. لذلك نقول من الناحية السياسيّة في هذا الاتجاه: إن اتخاذ الفكر الديني سابقاً كأيديولوجيا بيد المعارضة والسلطة معاً، ظل سائداً في العصر الحديث، فمثلما كان الوعاظ الدينيون أول الأيديولوجيين الذين اختلط في تفكيرهم الأيديولوجي هذا جملة النظرات الأخلاقيّة والفلسفيّة والسياسيّة، كذلك ظل يقوم بهذه المهمة القطاعات العلمانيّة، إن كانت داخل السلطة أو خارجها، فالدين ظل بالنسبة لها – أي القطاعات العلمانيّة - أداة استخدمته لهدفين هما: المتاجرة به لسحب البساط من تحت القوى السياسيّة الدينيّة الحاملة له أولاً، ثم للمتاجرة به من قبلها لكسب الشارع المتدين والوصل إلى السلطة أو الاستمرار بها ثانياً.  لذلك يمكننا القول: إن كلاً من الانفصال والترابط الجدلي بين الأيديولوجيا باتجاهيها الدينيّ والوضعيّ، وبين الوعيّ الجماهيريّ، يرجعان إلى فترة تشكل الوعي أو الفكر السياسيّ، ويميزان المراحل التاريخيّة اللاحقة لتطور هذا الفكر أيضاً، وهذا الترابط لمسناه بعمق في ما سمي بثورات الربيع العربيّ.

طبيعة الفكر السياسي الحديث والمعاصر:

على العموم تتكشف طبيعة الفكر السياسي الحديث والمعاصر في وجهات نظر أيديولوجيّة داخل عالمنا العربي، أنها تدور حول علاقات الفرد بالمجتمع، والموقف من التقاليد الدينيّة، ومن العلمنة، ومن النظرة إلى العالميّة الرأسماليّة أو الاشتراكيّة أو الطريق الثالث للتنمية، وإلى مسألة التحرر الوطني والثورات الاجتماعيّة... وغير ذلك. هذا ويتجلى مستوى التطور الثقافيّ في عالمنا العربي في السلوك السياسي الجماهيري، والمواقف الأيديولوجيّة التي تستخدمها مختلف القوى الاجتماعيّة في تعبئة الجماهير، هذه التعبئة التي تتوقف بالضرورة على الظروف الموضوعيّة، مثل مرحلة التطور التاريخي للمجتمع، ومستوى البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة  وعلى الخصائص الذاتيّة للقادة أو القوى الحاكمة. علماً أن خصوصيات الهويّة الثقافيّة يمكن لها أن تجعل فهم الجماهير للشعارات السياسيّة والأيديولوجيّة لهؤلاء القادة أكثر صعوبة أو أكثر يسراً. لذلك لا بد من أخذ التمايزات الحضاريّة بين مختلف المناطق والبلدان بعين الاعتبار.

لقد أشرنا في موقع سابق إلى عاملين أساسيين ساهما في استمراريّة قوة الخطاب الدينيّ في عالمنا العربيّ وهما: الاستعمار والقوى الحاكمة المستبدة أولاً، ثم المعارضة لها ثانياً، ويأتي لدينا هنا عامل آخر هو بطء وتيرة بناء المجتمع المدني من جهة ثالثة.

إن المجتمع المدني بطبقاته الحديثة وبناه السياسيّة الحديثة، لم يخرج إلى الوجود ببعض تجلياته إلا مؤخراً، أي بعد الاستقلال  من المستعمر. لذلك في مثل هذه الظروف ظلت الأشكال القروسطيّة من الاحتجاج الاجتماعيّ والساسيّ راسخة بثبات في عقول معظم أبناء المجتمع العربي. و(ثورات الربيع العربي) أنموذجا حياً لذلك. فالقادة التقليديون من مشايخ الدين أو من بعض شيوخ القبائل وبعض الرجالات الوطنين من أبناء الطبقة البرجوازيّة الوطنية هم من تزعم حركة التحرر الوطنيّة في بداية عهدها، وقد استطاع قسم كبير منهم أن يحافظ على وجوده بعد الاستقلال، وساهم في تشكيل أحزاب وطنيّة وصلت إلى السلطة وقادة شؤون البلاد. ولكن ظل للدين دوره المتميز في أشكال الصراع السياسي على السلطة بعد التحرر من المستعمر، مثلما ظل حملة خطابه الأيديولوجي ومن السياسيين بشكل خاص، يمارس نشاطه وبفعالية في حركة التحرر الوطني، وخاصة ضد القوى السياسيّة التي استلمت السلطة وهمشت الحامل الاجتماعيّ للخطاب الإسلامّي كـ (الاخوان المسلمون) أنموذجاً، الأمر الذي جعل من هذه القوى الدينيّة السياسيّة تشكل عقبة كأداء في وجه هذه القوى، الحاكمة لترفع في وجهها شعار (الحاكميّة لله) في كل مرة تجد فيها الفرصة سانحة، وهذا هو تاريخ الإخوان منذ تشكله، وموقف القوى الأصوليّة الجهاديّة التي راحت تتشكل مع انتهاء النظام الاشتراكيّ العالمي  بعد سقوط الاتحاد السوفيات، ومع قيام الثورة الإسلاميّة في إيران. وما يجري اليوم على الساحة العربيّة في تونس والجزائر ومصر وليبيا والعراق وسوريّة يؤكد ذلك. أي يؤكد الدور الفاعل للخطاب الإسلامي في تاريخنا الحديث والمعاصر. وهذا ما يدفعنا للوقوف قليلاً أمام الحركات الأصوليّة الجهاديّة ومشروعها الديني، حيث احتلت هذه الأصوليّة الدينيّة الإسلاميّة في بلدان كثيرة مواقع مؤثرة في الحياة الاجتماعيّة، وخاصة في تبني انصارها الدعوة إلى ضرورة العودة إلى القيم الإسلاميّة التي نادى بها الرسول والسلف الصالح بعده، وهي التي على أساسها قامت الخلافة الإسلاميّة وسيطرت على مساحات كبيرة من العالم، ولكن نسيان المسلمين كما يدعون لهذه القيم والابتعاد عن تطبيقها في حياتهم الخاصة والعامة هي التي أدت إلى انهيار هذه الخلافة والأمّة معاّ، وبالتالي تخلفها وتراجعها أمام شعوب ودول العالم، لذلك لا حل إلا بالإسلام، وخاصة بعد أن فشلت التجارب السياسيّة والرؤى الأيديولوجيّة للاشتراكيّة والقوميّة في تحقيق النهضة والتقدم.

هذا وقد تمثلت هذه الحركات فكريّاً، الخطاب الإسلامي في توجهاته الإخوانيةّ، والوهابيّة، والخمينيّة. وهي حركات يتجسد مثالها الاجتماعي والسياسي في دولة ثيوقراطيّة لا حدود لها، ينضوي تحت لوائها كل المسلمين الذين تجمعهم عقيدة الإسلام، وهم يريدونها دولة خالية من تأثير الغرب والشرق معاً كحضارات، ومن تأثيرات الرأسماليّة أو الاشتراكيّة أو الشيوعيّة كأنظمة. هذا وقد ظهر في هذه الحركات شخصيات كاريزميّة لعبت دوراً كبيراً في الترويج لمشروع هذه الحاكميّة والتأثير على وعي الجماهير المسلمة، كالغنوشي والترابي والبوطي والخميني وباقر الصدر والقرضاوي وسيد قطب وغيرهم الكثير ممن كان للغرب والقوى الحاكمة العربيّة الدور الكبير في السماح لبعضهم بنشر أفكار الحاكميّة عبر منابر الجوامع وقنوات التلفاز العربيّة والعالميّة. وهي في الحقيقة شخصيات تعادي العلمانيّة وتدعوا إلى الفرقة الناجية، واللعب على الورقة الطائفيّة والمذهبيّة، الأمر الذي جعل تأثيرها يمتد إلى ثورات الربيع العربي التي تحولت إلى ثورات طائفيّة ودينيّة، أكثر منها ثورات كانت تدعي المواطنة وتحقيق العدالة والمساوة.  والأهم الحرية.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث من سوريّة

....................

الهوامش:

1- (راجع كتابنا التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب دار المدى عام 2000،بحث الاصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر).

"لقد أسسوا المدارس، ليعلموننا كيف نقول نعم بلغتهم" (من رواية موسم الهجرة للشمال، للأديب السوداني، الطيب الصالح ).

"يا له من أب مغفل هذا الذي يرسل ابنه إلى المدرسة من أجل غاية واحدة هي أن يتعلم ما يفكر فيه المعلم" القديس أوغسطين.

***

انطلق أفلاطون Platon (427-348ق.م) في بناء نظريته التربوية من نموذج سياسي قوامه بناء مدينة عادلة وجمهورية فاضلة تحقيق العدالة والتوازن الاجتماعي وتعمل على بناء القيم الأخلاقية عند المواطن. اعتقد أفلاطون أن الشرور لن تتوقف أبدا، إلا إذا استطاع الفلاسفة والحكماء الوصول إلى سدة الحكم، حيث يمكنهم وحدهم استئصال الشرور وتحقيق العدالة الاجتماعية. فالفلسفة الحقّة كما يراها أفلاطون هي هذه التي تؤسس للعدالة الاجتماعية في مجال الحياة العامة كما هو الحال في مجال الحياة الخاصة. ولكن العدالة الاجتماعية تأخذ في منظور أفلاطون طابعا طبقيا، فالمدينة المثالية، التي يصفها بالجمهورية(1) La république تقوم على أساس تقسيم العمل، وهو تقسيم يعبر عن البنية الهرمية أو الطبقية للنفس الإنسانية التي تتمايز في تقاطعات ثلاثة: تقاطع الشهوة والغريزة والميل وفضيلتها العفة، وتقاطع الميول الانفعالية التي تتمثل في القلب بنزعاته وشطحاته وفضيلته الشجاعة، ثم في تقاطع العقل الذي يتفتق بالتفكير والتأمل والفهم وشميلته الحكمة. وتأسيسا على هذا التقسيم وعلى منواله تتموضع في المجتمع  ثلاث طبقات اجتماعية مماثلة لما في الجسد: طبقة المنتجين، وطبقة الحراس، ومن ثم طبقة الحكام الفلاسفة. ومن أجل التخلص من كل أشكال الفوضى والظلم يجب تحقيق التلاحم الوظيفي بين مكونات هذا التقسيم حيث تتكامل قوة القلب مع حكمة العقل واندفاعات الميول الحيوية وهذا يعني بالضرورة أن يأخذ العقل مكان الهيمنة والسيطرة. وإذا كان الفلاسفة يرمزون إلى الحكمة فوظيفتهم تحقيق العدالة عبر الهيمنة والسيطرة للقضاء على كل مفاسد الحياة ومظالمها.

فالتربية هنا تتحول إلى عملية اصطفائية تهدف تدريجيا إلى الفصل بين طبقة الجند، وطبقة الصناع، وطبقة الفلاسفة التي يجب أن تسود وتهيمن. والبرنامج التربوي عند أفلاطون يبدأ من السابعة بالرياضة من أجل الجسد، والموسيقى من أجل الروح، ومن ثم يضاف إلى ذلك الأدب ( ويستبعد الشعر من التربية، وذلك لأنه يحمل في طياته الخرافات والأساطير والتي من شأنها أن تدفع الإنسان بعيدا عن البحث العقلي والمعرفي)، و بالتالي فإن الرياضيات توظف لإيقاظ العقل، هذا وتلعب الرياضيات دورا كبيرا في اصطفاء الشباب من اجل متابعة الدراسات العليا وذلك بعد أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، ويتم في الثلاثين من العمر اصطفاء أخير يهدف إلى إيجاد فريق من الفلاسفة المنتجين الذين يمارسون أعمال الحكم في المدينة، وبعد أن يصل هؤلاء الفلاسفة إلى الخمسين ممن العمر فإنهم وبعد امتلاكهم للحكمة الفردية يمكنهم ممارسة شؤون الحكم.

بقي تفكير أفلاطون على مر العصور نوعا من الأيتوبيا، فالبرنامج الذي يرسمه يخرج عن إمكانية التحقق عند الأثينيين، وذلك لأن التعليم كان يهدف إلى تحقيق غايات فورية، فعلى سبيل المثال كان التعليم يهدف إلى إعداد كوادر سياسية، وكانت هذه الكوادر تمثل حاجة حقيقية بالنسبة للحياة الاجتماعية في أثينا (2).

واستطاع فريق آخر من الفلاسفة أن يحقق نجاحا أفضل في بناء نظرياتهم التربوية، أي بمعنى أن أفكارهم كانت أكثر واقعية وقابلية للتطبيق في المجال الاجتماعي. ويتجلى هذا النجاح في الآثار التي تركها كل من كارل ماركس  Marxوكونفشيوس Confucius (551 env.-479 env. av. J.-C.)، بوصفهما نموذجا تاريخيا تربويا بالغ الأهمية، حيث تحولت نظرياتهما التربوية، بعد موتهما طبعا، إلى أفكار ونظريات تربوية رسمية، وعندما نقارن بين أفكارهما وأفكار أفلاطون يمكننا أن نقول أن العقيدة الفلسفية أو الدينية تصبح عقيدة رسمية للدولة عندما تلبي هذه العقيدة حاجة السلطة أو الطبقة الاجتماعية التي تسود وتهيمن فـ كونفشيوس كان يبشر بإرادة سماوية مهيأة لتحقيق الأمن الاستقرار وسيادة النظام القائم، ولكنه كان يؤكد في الوقت نفسه عل أهمية التعليم المفتوح لجميع الطبقات الاجتماعية دون تمييز فلكل فرد في المجتمع (بالمعنى الضيق للكلمة، حيث لا يشمل ذلك النساء) كان له الحق في أن يصل إلى أعلى المراتب الاجتماعية ولكن بشرط أن يحصل على تربية وتعليم كافيين. وكانت هذه الفكرة ثورية جدا بالنسبة لعصر كونفشيوس حيث اقترحت هذه الفكرة أن يجري النظام السائد مسابقات أدبية عالية المستوى من أجل اختيار موظفيه(3).

هذه الفكرة البيروقراطية بدأت تجد صداها في النظام القائم، لقد وجدت السلطات الحاكمة في الكونفوشيوسية تعبيرا عن أيديولوجيتها الكاملة، وذلك لأن تصورات الكونفوشيوسية بدأت تعزز الامتيازات الخاصة للحاكم، وتعمل على إلغاء إمكانيات ثورة الفلاحين ونضمن صعود الطبقة التجارية. فالتاريخ بين لنا كيف تحدث( أو لا تحدث) عملية الانتقال من النظرية المعيارية إلى النظرية العيانية المجسدة في إطار الواقع، وذلك يعني كيفية تحول هذه النظريات إلى أدوات لعملية الإنتاج، وإعادة الإنتاج الاجتماعي.

انطلاقا من وجهة النظر هذه يمكن تطوير منهج معالجة إشكالية النظرية التربوية، فالنظرية التربوية تعزز وجودها من خلال التحليل الأمبيريقي وهذا لا يعني أنها لا تنطلق من فرضيات أو أن المعطيات محايدة، ومع ذلك فهي تسعى أيضا إلى الكشف.

لم تظهر حتى الآن نظرية شمولية بمعنى أن تكون صالحة لكل المجتمعات أو لأغلبها، وذلك في مجال الزمان والمكان. فالنظريات القائمة هي نظريات جزئية ومحلية، هي نظريات جزئية لأنها تتناول جانبا من الحقيقة، وهي محلية لأنها غالبا تقوم على أساس تجربة معاشة في مجتمع محدود (ولا سيما في المجتمعات الصناعية الغربية) ومثال ذلك نظريات إعادة الإنتاج التي طرحت في الساحة الفكرية من قبل الماركسيين. ومهما يكن أمر هذه النظريات فإنها تختلف في المستوى العقائدي حيث يركز بعضها على مبدأي التوازن والتكامل، بينما يركز بعضها الآخر على مبدأ الصراع والهيمنة. وبعض النظريات المعاصرة في التربية يستمد جوهره من ماكس فيبر M.weber فيما يتعلق بالسلطة والمركز، بينما تسعى بعض النظريات الأخرى لتحقيق -التوازن بين الماركسية والوظيفية، ولا يمكن لنا في هذا السياق، أن نستعرض الأدبيات المعاصرة، حول النظريات ويكفينا في هذا السياق أن نستعرض عرضا موجزا حول هذه القضية.

تشكل أعمال المفكر الفرنسي دوركهايم DURKHEIM (1917-1858) الإسهامات الوظيفية الأولى في مجال علم الاجتماع التربوي، ومن أهمها المحاضرات التي ألقاها في السوربون التي جمعت بعد موته من قبل أحد تلامذته والتي نشرت بعنوان التربية المجتمعEducation et sociologie (4) (5). ثم كتابه المعروف التربية الأخلاقيةL’éducation moral((6)، وأعماله المعنونة بالتطور التربوية في فرنساL’évolution pédagogique en France (7).

فالتربية بالنسبة لدوركهايم تمثل مبدأ الوحدة والتنوع في آن واحد، فالحد الأدنى من التجانس بين أفراد المجتمع ضروري لوجود المجتمع واستمراره، وبالتالي فإن التربية تعمل على بناء وتعزيز هذا التجانس بين أفراد المجتمع، وهي من أجل ذلك تغرس في نفوس الأطفال عناصر الوحدة والتجانس الضروري للحياة الاجتماعية، ولكن من جهة أخرى فإن التعاون والتكامل الاجتماعي، لا يمكنه أن يتم إلا من خلال وجود بعض التنوع داخل المجتمع، وهنا يأتي دور التربية التي تضمن وجود التنوع الضروري في المجتمع، وذلك عن طريق تنوعها هي بالذات وعن طريق تخصصها. وهذا يشير بالضرورة إلى ضرورة التقسيم الاجتماعي للعمل عبر التربية، فالفرد نفسه معني بالخضوع للمجتمع الذي يعيش فيه، والفعل الجماعي ينمي في كل واحد منا وعن طريق التربية أفضل ما يوجد لدينا ولا سيما الجوانب الإنسانية. ويبين دوركهايم في هذا الصدد أن الجوانب الجسدية والأخلاقية والعقلية التي تطورها التربية تتلون بطبيعة المجتمع، وهي تتغير عندما يتغير المجتمع عينه، ومع ذلك فإن دوركهايم لا يذهب بعيدا في تحليله، وذلك لأنه لا يطرح المسألة السياسية كما يجب ولا يحلل العلاقات الطبقية والصراع الطبقي في المجتمع بما ينطوي من عمليات وفعاليات تربوية. فالدولة تشكل وحدة مجردة كالمجتمع، ودورها هو ببساطة العمل على إبراز الجوانب الحضارية الجوهرية، ونقلها إلى الأجيال عن طريق المدرسة مثل: احترام العقل، والعلوم، الأفكار والعواطف التي توجد في أصل البنية الأخلاقية للمجتمع الديمقراطي، فصراع الطبقات له ينابيع ولا تكمن هذه الينابيع في تعارض المصالح فحسب بل في الفوضى التي تنجم عن تنظيم سيئ لطموحات الأفراد.

لقد كانت الميزة الأساسية لدوركهايم إضافة لملاحظاته التاريخية العامة هي أنه أبرز الطابع الاجتماعي للتربية وذلك على خلاف الرؤى الفردية التي كانت سائدة في عصره. وتكمن عبقريته أيضا في أنه أبرز بصورة تاريخية أن التعليم يتغير على إيقاع التغيرات الاجتماعية إذ يقول: "تكون التحولات التربوية دائما نتاجا ومؤشرا لتحولات اجتماعية قادرة على أن تفسر ما يجري في مجال التربية"، ومع ذلك فإنه لم يدرس الجوانب العكسية، أي دور التغير التربوي في حياة المجتمع.

وعلى هدى الخطوات الدوركهايمية يولي تالكوت بارسونو TALCOTT-PARSONS أهمية أكبر لمسألة التوازن: فالمجتمع كما يراه بارسونز أشبه ببني حية مركبة من مجموعات بنيوية أربعة هي: الأدوات التي تحدد نشاطات الأفراد (آباء معلمون..الخ)، ومن ثم الجماعات والمؤسسات مثل: العائلة والجامعة والمدرسة والمعايير، وأخيرا القيم. وهذه الوظائف الأربعة تسمح بتحقيق ديمومة التوازن الاجتماعي، وكل وظيفة من هذه الوظائف تتوافق مع العناصر الأربعة المذكورة، وهي وظيفة المحافظة على النماذج التي تتم من خلال قبول أحد أفراد المجتمع للقيم الاجتماعية السائدة، ووظيفة تكامل المعايير الاجتماعية ووظيفة العمل على تحقيق الأهداف والغايات بواسطة الهيئات الاجتماعية، وأخيرا وظيفة التكيف عن طريق ممارسة الأدوار. والمدرسة وفقا لهذه الرواية تقوم بعملية تحقيق الاندماج الاجتماعي والمحافظة على النماذج الثقافية، وهذا الاندماج يتم من خلال تأكيد عنصر الولاء للمجتمع وإعطاء البنية الاجتماعية المتناحرة (التقسيم الطبقي) الشرعية الضرورة لوجودها، ومن ثم المحافظة على النماذج الثقافية والقيم المحركة للأفراد. وقد يحدث في سياق ذلك ظهور نوع من الإكراهات الاجتماعية والضغوط الناجمة عن ضعف في عملية الدمج الاجتماعي ولكن ذلك سرعان ما يجد توازنه من جديد عبر عمليات تصويب قد تكون معلنة وخفية إلى حد ما(8). ففي مقالة له الصف المدرسي كنظام اجتماعي The school class as a social system عام 1959. يبين لنا بارسونز كيف يمكن للمدرسة أن تصبح وكالة رئيسية للتنشئة الاجتماعية، والاصطفاء الاجتماعي، وذلك في مجتمع تكنولوجي مثل الولايات المتحدة الأمريكية. فالمدرسة كما يعتقد بارسونز تغرس في الطلاب والتلاميذ قيم المجتمع والكفاءات والمواقف التي ترمز إلى الشروط الأولية والجوهرية التي تسمح لهؤلاء التلاميذ والطلاب بإنجاز أدوارهم المستقبلية. وهي في الوقت نفسه تعمل على توزيع القوى البشرية في مجال بنية الأدوار الاجتماعية، وبالتالي فإن عمليتي التنشئة الاجتماعية والاصطفاء الاجتماعي تبدأان من المرحلة الابتدائية، ومن ثم يأتي دور المدرسة الثانوية في إكمال الدور وتوزيع الشباب وفقا لأدائهم المدرسي في مجال الفروع العلمية الدراسية المختلفة والحياة العلمية، حيث يترتب على قسم من التلاميذ في هذه المرحلة وتحت تأثير الاصطفاء المدرسي أن ينوعوا في اختصاصاتهم ودراساتهم بينما يترتب على بعضهم الآخر أن يندمج في إطار الحياة المهنية في داخل المجتمع، وتحليل بارسونز يكاد يكون شاملا إلا أنه أهمل أهمية الأصل الاجتماعي وقدرته على تحديد مستويات النجاح المدرسي، كما لم يتطرق إلى دور الطبقات الاجتماعية في تحديد القيم الاجتماعية العامة.

وفي منتصف الطريق بين الماركسيين والوظيفيين يعلن كل من بورديو وباسرون Bourdieu Et Pasron (1970-1964)(9) أن المدرسة تعمل على إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الطبقية، فهي تعيد إنتاج اللامساواة في التوزيع الرأسمالي الثقافي بين الطبقات الاجتماعية، فالاصطفاء يجري تحت تأثير القيم والمعايير التي تحددها الطبقة السائدة في المجتمع، مع أن هذه المعايير اعتباطية إلا أنها مشروعة وشرعية بالفعل التربوي، وهذه الوظيفة الأيديولوجية الجوهرية –بناء مشروعية النظام الاجتماعي القائم –تكون أكثر فعالية كلما عملت المدرسة على نفي وجود علاقات القوة في نسقها، وكلما نجحت في أن يؤمن لهؤلاء الذين يمارسون أو يخضعون (لعنفها الرمزي) بشرعية عملها ووظيفتها(10).

وعلى خلاف الوظيفيين يعلن الماركسيون أن المدرسة مكان للصراع الطبقي بين طبقتي البرجوازية والعمال، ومع أن ماركس لم يعمل على بناء نظرية تربوية فإن اهتمامه كان باديا في أعماله المختلفة. لقد درس ماركس الجوانب الاقتصادية بوصفها عناصر لقوة العمل المستغلة من قبل راس المال، ففي كتابه الصراع الطبقي في فرنساLes Luttes des Classes en France(11). يبحث ماركس في دور المدرسة كقوة روحية للإكراه، وهو في سياق ذلك يشير إلى حدود التطبيع الأيديولوجي، وذلك لأن المعلمين كانوا يعانون من ملاحقة الحكام، وكان هؤلاء يلعبون دورا طبقيا يتعلق بطبقة الفلاحين.

لقد أهمل كل من ماركس Marx وأنجل Angels دراسة تأثير البناء الفوقي في البنية التحتية، ومن هذا المنطلق عمل غرامشي Antonio Gramsci (1891-1937) على بناء نظرية حول الفعالية الخاصة بالبنية الخاصة بالبنية الفوقية، فهو يولي الثقافة أهمية موازية لأهمية الاقتصاد والسياسة، هذا ويميز غرامشي(12) بين مستويين في البنية الفوقية حيث يشير إلى المجتمع المدني وإلى المجتمع السياسي أو الدولة، فالدولة تمارس هيمنتها في الوقت نفسه وفقا لمدخلين هما ممارسة الإكراه والقهر بصورة مباشرة من جهة، وتوظيف الفعل الثقافية من جهة أخرى، وذلك عن طريق المؤسسة البنيوية التي تشكل مكنونات المجتمع المدني مثل الكنيسة، النقابات، الأحزاب، المدرسة، إذ لا يمكن لطبقة اجتماعية أن تسيطر وتحافظ على أمنها من خلال الفعل السياسي والاقتصادي فحسب، بل يترتب عليها أن تنفذ إلى الشعب بأيديولوجية محكمة بالنموذج الذي تعتمده في عملية الإنتاج وإعادته، وأن تضمن موافقة الشعب بالنموذج الذي تعتمده في مجال الحياة الاجتماعية، وهنا في هذا المجال يشار إلى المدرسة بوصفها المؤسسة الأكثر أهمية في بناء هذه الأيديولوجية وتحقيق هيمنتها.

و في هذا المضمار يميز التوسر( Althusser 1918-1990) بين الجهاز الأيديولوجي وبين القسر والإكراه الذي يتم من خلاله اللجوء إلى العنف (الجيش، الشرطة، العدالة). فالجهاز الأيديولوجي يتمثل في (المدرسة، العائلة، الثقافة، والمعلوماتية..الخ. وهذه المؤسسات مهيأة لإعادة إنتاج شروط الإنتاج (علاقات الإنتاج، القوى المنتجة) وذلك في نسق من الصيغ التي تعزز وجود الأيديولوجيا السائدة وهيمنتها(13).

ويجد هذا التصور صداه عند بودلو واستابليه (14) (1971-1975) فالمدرسة ليست واحدة وليست موحدة فهي تنقسم إلى شبكتين: تضم الأولى أبناء الطبقات البرجوازية (التعليم الثانوي والجامعي) بينما تضم الثانية أبناء الطبقات الشعبية (المدارس المهنية)، وبالتالي فإن توزيع التلاميذ يبدأ من المرحلة الابتدائية حيث تعتمد لغة الطبقة البرجوازية اللغة السائدة في المدرسة، وبالتالي حيث يكون تعلم القراءة والكتابة لصالح أبناء الطبقة البرجوازية. وهنا يبين الكاتبان أن الأيديولوجيا البرجوازية توجه بطريقتين: إحداهما من أجل عمال المستقبل وهي تعتمد في هذا المستوى مفاهيم بسيطة في مجال الأخلاق. أما الأخرى فهي من أجل النخبة تقوم على أساس السيطرة على أفكار والتجريد.

وتنطوي نظرية إعادة الإنتاج جانبا كبيرا من الحقيقة، وإنه لمن المعروف أن اللحظة التربوية هي أداة المجتمع التي يعتمدها في تحقيق استمراريته، ولكن الآثار التربوية الحقيقية لا تكون دائما كما تريدها الطبقة السائدة، فهناك شريحة من المعلمين والمتعلمين تستطيع أن تنفلت من أسار التطبيع الأيديولوجي السائد وتعمل على بناء ما يسمى بالأيديولوجيا المضادة، فالاتفاق لا يكون كليا دائما، وهذا ينطبق على مسالة إعادة الإنتاج الرمزي والتقسيم الاجتماعي من خلال المدرسة والحياة. فهناك دائما تناقضات بين مختلف المؤسسات المدرسية بين المدارس الخاصة والعامة بين التربية الرسمية والتربية غير الرسمية التي تعمدها العائلة في مجال وسائل الإعلام والعمل والنشاط العام والاجتماعي. فالنظريات السابقة تبين أن المدرسة تسهم في إنتاج جماعات جديدة وقيم جديدة، فعلى سبيل المثال في القرن التاسع عشر، وفي أوروبا تحديدا كان يتشكل الوعي الطبقي للطبقة العالمة إطار المدرسة.

وفي هذا المجال يشار إلى أحد البحوث الحديثة التي قامت بدراسة الأطروحات الخاصة بالأجهزة الأيديولوجيا للدولة في مجال المدرسة، وقد انطلقت هذه الدراسة على أسس المنهجية التاريخية، لقد درست كلود لوليفر Claud Leliver تطور وظيفة التعليم ما بعد الابتدائي في إحدى المقاطعات الأمريكية في الفترة الواقعة ما بين عامي 1850و 1914، وكانت المنطقة التي تم اختيارها La Somme من أكثر المناطق تقدما في المستوى المدرسي، وتم اختيار هذه الفترة الزمنية لأهمية هذه المرحلة في إطار أحداث العلمانية التي شهدتها أوروبا في هذه المرحلة. لقد بينت هذه الدراسة أن المؤسسات المدرسية كانت تشكل مجالا حيويا للصراع الأيديولوجي والسياسي، ومع ذلك فإن حقيقة هذه المؤسسات لا يمكن أن تختزل إلى مجرد الأبعاد السياسية والأيديولوجيا. لقد بينت الدراسة تطور هذه المؤسسات وولادتها كانا مرتبطين بالبنى والظروف التقنية والاقتصادية ومع ذلك لا توجد قطيعة نهائية بين النشاطات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية. فالسيطرة تمارس من قبل الطبقة السائدة والدولة في مجال الدراسة بصورة آلية. وفي هذا المجال عمل كل من باولس Boueles وجنتس Gintis (المدرسة في إفريقيا الرأسمالية 1976) (School in Capitalist America 1976) على دراسة المدرسة في قلب المجتمع الرأسمالي وتبين لهما بالنتيجة أن التربية تلعب دورين متكاملين، فهي تمكن الأفراد من الحصول على الكفاءة والقدرات الخاصة، وعلى رفع مستوى الإنتاجية عند العمال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي تبرز اللامساواة بواسطة أوالية التعزيز المستخدمة، والتي تمارس على المتعلمين داخل المدرسة. وهي في هذا السياق تعزز عملية توزيع الأدوار الاجتماعية وتبررها اجتماعيا وسيكولوجيا. ويبين الباحثان أن وظيفة المدرسة لا تقف عند حدود إعداد التلاميذ مهنيا بل تسعى إلى تكوين وعي سياسي متطور عند الآباء والمعلمين والطلاب، لقد أسهمت الجامعة في بناء حركة قوية راديكالية وتقدمية في المجتمع الرأسمالي.

فالتعليم والتربية يتحركان على عجلات قوى متناقضة، وهذه القوى تلعب دورا بالغ الأهمية في الحياة الاجتماعية والسياسية. فهناك عدد كبير من المشكلات المدرسية التي تنبع من خارج المدرسة وليس من داخلها، وهذا بدوره يعود إلى وظيفة الاقتصاد الرأسمالي عينه وآليات فعله. هذا ويمكن تفسير الإصلاحات الجوهرية في التربية من خلال نضال الطبقات، وأغلبها جاء ليعزز البنى الاجتماعية القائمة والتي تعزز مصالح الفئات الاجتماعية التي توجد في أعلى السلم الاجتماعي. وذلك كله على حسب التغير الاجتماعي.

وباختصار يركز المنظرون الاجتماعيون على أهمية البعد الطبقي وأولويته في بناء نظرياتهم التربوية. فالتربية في هذا المستوى تتجلى بأبعادها الاجتماعية، فهي قضية اجتماعية ويترتب عليها أن تلعب دورا جوهريا في صيرورة الحياة الاجتماعية والثقافية. فالتربية هي نتاج للتفاعل الاجتماعي وهي في النهاية تجسيد لطابع الحياة الاجتماعية وهي في الوقت الذي تستمد فيه وجودها من نسغ الحياة الاجتماعية فإنها تنتج وتعيد إنتاج هذه الحياة الاجتماعية بصورة مستمرة وفقا لصيرورة طبقية لا تنقطع عن الحركة أبدا. ومن هذا المنطلق فإن عددا من المربين والنظريات التربوية تؤكد على أهمية إعداد الإنسان للحياة الاجتماعية.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

......................

مراجع المقالة:

(1) A. BLOOM, The «Republic» of Plato , New York, 1968

(2) A.-J. FESTUGIERE, Contemplation et vie contemplative selon Platon , Paris, 1936

(3) A. RYGALOFF, Confucius, Paris, 1946.

(4) تمت ترجمة هذا الكتاب من قبل الكاتب: إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم، دمشق، 1991.

(5) E.Durkheim, ُُُeducation et sociologie (1922), rééd. P.U.F., Paris, 1966

(6) - E DURKHEIM, L'éducation morale (1925), P.U.F., Paris, 1963.

(7) - E. DURKHEIM, L’evolution pédagogique en France , 2 vol., F. Alcan, Paris, 1938

(8) T. PARSONS,Eléments pour une sociologie de l’action (Working Papers in the Theory of Action , 1949), trad. F. Bourricaud, Plon, Paris, 1955.

(9). BOURDIEU & J.-C. PASSERON, Les Héritiers. Les étudiants et la culture , Paris, 1964, rééd. 1966.

(10) - P. BOURDIEU & J.-C. PASSERON, La Reproduction. Eléments pour une théorie du système d’enseignement , Minuit, 1970.

(11) K. MARX, Les Luttes de classes en France (Die Klassenkنmpfe in Frankreich , 1850), trad. P. Meier et P. Angrand, ibid. , rééd. 1967.

(12) A. GRAMSCI, Œuvres choisies , trad. et notes G. Moget et A. Monjo, Paris , 1959.

(13) - L. ALTHUSSER, «Idéologie et appareils idéologiques d'état», in La Pensée , Ed. sociales, 1970.

(14) - C. BAUDELOT, R. BENOLIEL, H. CUKROWICZ & R. ESTABLET, Les étudiants, l’emploi, la crise , Paris. , 1981

1. الخيال:

هل الخيال لاشعور خارج احكام العقل ام الخيال هو فعالية تجريدية ترتبط ببيولوجيا العقل؟ ام كليهما معا؟ اذا نحن قلنا اللاشعور الخيالي يتم خارج ادراك العقل له كموضوع فمعنى ذلك يصبح الخيال تهويم من التفكير اللغوي الذي لامعنى له ولا يفهمه العقل. واذا نحن ربطنا الخيال كجوهر فكري ببيولوجيا العقل فمعنى ذلك اننا جعلنا من الحدود الفاصلة بين الشعور واللاشعور غير موجودة. وهو خلط غير مقبول لا منطقيا ولا نفسيا تفكيريا.

الخيال الشعوري هو حلم اليقظة الذي يرتبط بتفكير العقل بيولوجيا. هذا لا يعني منطق العقل الواقعي ينفر ويستبعد عنه  خيال اللاشعور. كون خيال اللاشعور يفوق القدرات التخييلية للشعور. بالحقيقة خيال اللاشعور اكثر خصوبة فاعلية بالنفس والسلوك البشري من خيال الشعور الذي نحياه بحياتنا اليومية وعلاقاتنا مع الاخرين.

خيال اللاشعور آني مؤقت هو نوع من تداعيات ليست مستمدة من خزين الذاكرة. فالذاكرة اذا سلمنا على انها مركز تخزين لتداعيات الاستذكار الشعوري لوجدنا ان تداعيات تفكير اللاشعور لا يمكن تخزينها بالذاكرة لنعود لها عند الحاجة كاستذكارات واقعية حصلت في الماضي كتاريخ. الاستذكار الخيالي هو تاريخ لزمن ماض.

بينما يكون الخيال الشعوري حلم اليقضة هي تداعيات محكومة بالحاضر آنية وقتية وهي اختراع توليدي لعوالم واحداث وظواهر ليست جميعها واقعية قابلة للتطبيق بالحياة.

الخيال غير التفكير المنطقي للعقل. واعتبر ديفيد هيوم الخيال ليست افكارا بل هي تداعيات تهويمية متراخية مترهلة في عدم تماسكها المنطقي العقلي.

كما انكر ديفيد هيوم ايضا من جملة ما انكره  عدم وجود عقل ولا يحكم سيرة الحياة ولا التاريخ (سبب ونتيجة) وما لا يدركه العقل بالتجربة غير موجود وهكذا. كما قال ديفيد هيوم وكان بيركلي سبقه بنفس التعبير ان انطباعات الذهن المستمدة عن الاحساسات المنقولة عن العالم الخارجي هي تداعيات عشوائية مؤقتة زائلة ولا يختزنها الذهن في طريقها نحو الدماغ.

نجد من الخطا المساواة بين تفكير الذهن على انه ذاته تفكير الدماغ. بل الحقيقة البايولوجية المعرفية الفلسفية تذهب الى ان الذهن حلقة غير منفردة عن مجموعة المنظومة الادراكية في مرجعية الدماغ.

الوعي ليس ناتج تفكير الذهن. بل ناتج تفكير الدماغ. وانطباعات الذهن عن وعي العالم الخارجي هي تداعيات من الاحساسات المنقولة عن الحواس في طريقها الوصول عبر شبكة الاعصاب الى الدماغ للبت بها معرفيا نهائيا ويعيدها الدماغ على شكل وعي تجريدي في فهمنا موجودات العالم والوجود.

الوعي هو تعبير تجريد اللغة الاحاطة  بمعرفة وفهم وتفسير مدركات العقل للاشياء واعطائه – اي العقل- فكرة متكاملة عن تلك المدركات بالتناوب الزمني الواصل للدماغ حسب الاسبقية.

2. هيدجر و الوجود:

يتسم العرض الوجودي لتحقق الذات لدى هيدجر بالغموض في نحته مصطلحات جديدة غامضة في الفلسفة، وترتّب على هذا الاجتهاد الهيدجري ارباكا من سوء الفهم البعيد عن الوضوح المطلوب. من شطحات هيدجر قوله "الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده" واضح هنا هيدجر لايعتبر تحقيق الذات بمعيارية تعالقها الاختلافي مع ادراكها الموضوع الملازم لها ولا يحققها كبنية مستقلة قائمة متمّيزة.

بمعنى هيدجر يعتبر الانسان كائنا من غير وجود منفصل متمايز عن توزّع وجوده في مدركاته الذاتية كمواضيع تختلف معه بالمجانسة المغايرة وتتحد به في تحقيق ذاتيته الانسانية، هنا يمكننا القول بضوء الفهم الهيدجري أن الانسان هو وجود معطى متحقق غير محتاج إثبات كينونة ذاتية له لا بمعيارية ادراك العقل ولا بمعيارية الاختلاف مع ذوات الاخرين.

بنفس هذا المعنى وأشمل منه تأتي مقولة هيجل (الله هو الوجود) عبارة هيجل هذه لا تشي بتصور صوفي ميتافيزيقي، في تقطير وتكثيف عبارته الله هو الوجود. وأجد بهذا المعنى منتهى المادية وليس المثالية الابتذالية الميتافيزيقية، في موضعة الطبيعة والانسان في وجود الله، ولا توجد موجودات الوجود بذاتها مستقلة بل في ذات تدركها.

يمكننا التعبير بجملة إستنباطية بنفس المعنى حين نقول (العقل هو الوجود) وبذلك لا نكون متناقضين لا مع الله ولا مع الطبيعة المادية للانسان. فما لا يدركه العقل ليس غير موجود في استقلالية مادية، بل تصبح لاقيمة للعقل من غير وجود متعيّن يشتغل عليه العقل. في إحالة تحقق الوجود الى الله دلالة استدلالية في تعميق الموجودات المادية والطبيعة إستقلاليتها الاقتران المباشر وغير المباشر بالله. لا يمكن للذات الالهية أن تكون موزّعة الجوهر أو موزعة الصفات في موجودات وأشياء يدركها العقل في مرجعية وجود الله.. وإلا ترتّب على هذا إمكانية العقل البشري معرفة الخالق في وجوده الذاتي والكينونة.

اول ملاحظة على فهم هيدجر للوجود أن تذويت الموجودات وإنصهارها في الانسان كوجود وكينونة تعي ذاتها والموضوع لا يحتاج بعدها الى موضوع يغاير به توكيد وجوده. كون الانسان وجود يمتلك مقومات موجوديته الكاملة التي تدخله حسب تفسيرنا لمقولة هيدجر في انفصامية مرضية هي بحث الانسان عن توكيد وجوده خارج وجوده الحقيقي المعطى طبيعيا له، التطابق القائم بين الذات والكينونة، يعني علاقة الذات بالموضوع لا يلغي إنعدام الفروق غير المتجانسة بينهما رغم حاجة أحدهما الآخر، فالذات بلا موضوع يحقق وجودها لامعنى إفصاحي لها، وكذا المواضيع كموجودات إدراكية لا قيمة تكتسبها في وجودها المستقل سوى بإدراك الذات الانسانية لها.

عبارة هيدجر الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده. الوجود بمعنى الكينونة المتحققة ذاتيا تحتاج تحقيق وجودها الحقيقي بالمغايرة الموجودية (الموضوع). وحسب عبارة هيدجر تحقق الوجود الاصيل للانسان لا يكون إلا ضمن  وجود – في – عالم تؤكد هذه الحاجة ولا تنفي أهميتها.

الانسان لا يحتاج توكيد وجوده الذاتي في وعيه الادراكي بموجوديته الذاتية بمعزل عن معرفة أين يكون وجوده المتحّقق من وجود الآخرين. الاستنكار الذي واجهه كوجيتو ديكارت أنا أفكراذن انا موجود في تحقق الذات الانفرادية بسلبية منعزلة عن المجموع أو عن الكليّة الناسيّة إستنسخها هيدجر في تحقيق الوجود في إدراك الذات لذاتيتها.

وعي الوجود الضائع الذي يضعه الانسان في جيبه ولا يدركه عقليا، هو وعي الانسان بكينونة متكاملة وإلا يكون الوعي بلا معنى ولا قصدية لاقيمة حقيقية له ترفضه الوجودية ذاتها التي ينتسب لها فيلسوفنا هيدجر. الوجود الملازم للانسان كظله لا يجعله في غنى البحث عن تحقيق ذاتيته القيمية كانسان في بحثه عن مدركات تعطي وجوده معناه الحقيقي ضمن عالم يعيشه.

الانسان في كينونته الكليّة لا ينقسم الى وجود سايكولوجي منفرد، ولا الى وجود (قيمي) آخر انساني أو أخلاقي منفرد حتى لو جاء على صعيد تباين واختلاف السلوك بينهما. ورغم الإفصات السلوكية الانسانية المتباينة عن كلا المحتويين الوجوديين بالحياة. وفي حال تسليمنا أن الانسان ليس بحاجة توكيد وجوده لأنه هو هو وجوده، فبأي وسط يمكن للانسان إمتلاك وجوده الحقيقي غير التكويني الملازم له في محاولته إثبات وجوده المتمايز ضمن فعالية مجتمعية تحتويه هو وغيره.؟

توكيد الذات لنفسها في موجودية منفردة لا قيمة حقيقية لها بالحياة فألانسان موجود لا يحقق كل رغائبه الفردية بمعزل عن مجتمع يحتويه. فما فائدة عبارة هيدجر لايحتاج الانسان البحث عن وجوده لانه هو هو وجوده.؟ وجود الانسان المادي المستقل بالطبيعة هو معطى طبيعي وليس إكتسابا معرفيا يسعى الانسان تحقيقه لنفسه. ثم ان التحقق في اكتساب الذات لموجوديتها بمعزل عن عالم يحتويها لاقيمة حقيقية له.

الوجود الانساني الحقيقي الفاعل بالحياة لا يتم بغير إمتلاكه الفعاليات البيولوجية التالية: التعبير عن الحرية بمسؤولية عن حرية الاخرين، إرادة الفعل والحركة في السلوك، السعي نحو هدف قصدي يحتاجه الانسان تحقيقه له ولغيره. ويوجد أمور أخرى عديدة تمّثل خصائص الوجود الحقيقي للانسان. فالوجود الانساني لا يقاس إلا بمعيارية (الفعل) البراكسيس فقط. والوجود لا يعبّر عن أصالته الحقيقية إلا بالعمل وفق الوعي القصدي بالحياة. لا وفق الوعي النرجسي في توكيد انفراد الذات. رغم ان سعي الانسان تاكيد موجوديته النرجسية مشروعة كون حب الذات غريزة وليست طموحا يكتسبه الانسان في وعي وجوده.

الوجود الديناميكي للإنسان هو وعي قصدي مدرك أهمية الإمتلاك عندما يكون الانسان مشروع تنمية مستدامة من التطور الفاعل لوجوده. وبحسب سارتر تحقق الوجود المتمّيز الفاعل لا يكون إلا في حالة من التنمية المتصاعدة في تخليق الانسان نفسه بنفسه في إمتلاكه وعيه بالحرية الكاملة، فهي أساس كل إختيار حقيقي في الوجود، كما هي أيضا معيارية أصالة الوجود بالحياة. وممارسة الحرية بمسؤولية لا يكون حقيقيا صادقا بغير وعي الذات لأهميتها في تحقق الإرتباط المثمر بالوجود الانساني في صنع الحياة، لذا الحرية وعي وجودي مدرك بإمتلاء ذاتي ومسؤولية انسانية. وهذا لا يتوفر لكينونة لا تمتلك ذاتيتها الوجودية وتعي إرتباطها بعالم. بتعبير سارتر الانسان محكوم بالحرية.

تناقض الوجودية نفسها على لسان هيدجر قوله "الانسان ذاتية خالصة، وليس مظهرا أو تجسيدا لتيار حيوي أشمل منه هو التيار الكوني ". لا أعتقد ونحن نتحدث عن وجود أرضي أن تكون معياريته الحقيقية في ذاتيته الخالصة في تيار أشمل منه هو التيار الكوني. ولا أعتقد هيدجر صاحب مؤلف (الكينونة والزمان ) لا يعرف الزمن هو إدراك الانسان وجوده الديناميكي المتواتر، وهذا الإدراك الزمني كتحقيب أرضي هو معيار موجودية الانسان في تحقيق تنميته الانسانية كذات متمايزة غير منفصلة عن محيطها في حالتي المجانسة بالعيش نوعيا داخل مجتمع بشري، وبين عدم تجانسها الماهوي ولا الصفاتي مع موضوعات يدركها في الطبيعة يتقاطع معها.

الانسان كينونة مدركة في تعّين زماني- مكاني غير مفارق لها.، وإدراك كينونة الانسان أو بعض جوانبها الماهوية وخصائصها الصفاتية من خلال إفتراض تعطيل الزمن الإدراكي الذي يحكم قوانين الطبيعة شاملة، هو نفس الزمن الإدراكي الذي يحدسه الوجود الكوني من غير وجود انساني فيه.

3. الخيال والطبيعة في الفن:

تعتبر اراء الفيلسوف غارودي في الفن هي من الارهاصات  للمفاهيم التجريدية والنظرة الجمالية لمستقبل الفن . ففي كتابه واقعية بلا ضفاف الذي يعتبر الآن من كلاسيكيات فلسفة علم الجمال،  يشير غارودي فيه ان الابداع الفني الجمالي لايستمد مقوماته من الطبيعة فقط في البحث عن الجمال، والا كان اعظم الفنانين هو الذي يقدم لنا  فنا مماثلا للطبيعة .

صوابية وصحة هذه المنطلقات والتي كان يطالب بها على صعيد الفكر الماركسي كل من تروتسكي ومن بعده غرامشي، تذهب انه بخلاف المفهوم الفلسفي الافلاطوني التقليدي، بأن الفن هو (محاكاة ) المثال الاسمى في الطبيعة، اي بمعنى نقل واستنساخ الجمال من الطبيعة كمصدر وحيد للالهام الفني .

ثم جاءت الانعطافة الكبيرة في فلسفة الفن ومفاهيمه وتياراته المتعددة في رفض المنطلقات الافلاطونية في محاكاة المثال في الطبيعة . وتأكد هذا الفهم اكثر بعد اختراع كاميرا التصوير الفوتوغرافية . من حيث ان اروع نماذج محاكاة الطبيعة تنجزه وتوفره لنا كاميرا التصوير، اسود وابيض، وملون، وفيديو.

ما يقوم به  التصوير الفوتوغرافي – وان كان هذا ضربا من الفنون التشكيلية – انما يمثل المحاكاة  الجامدة في لقطة واحدة من سلسلة جريان الطبيعة والحياة . بمعنى ان التصوير الفوتوغرافي  الفني يستمد مقومات بنائه الفني من الطبيعة ولها ومن اجلها، فهو يستمد من الطبيعة خامات الحرفة الفنية بمعزل عن فاعلية خيال الانسان الابداعي وآلية تنفيذ تلك الاخيلة في الواقع الفني.

مدارس وتيارات   الفنون الكلاسيكية مثل الواقعية والانطباعية تعتبر محاكاة الواقع والطبيعة واعادة تخليقها مرات عديدة يجعل من الطبيعة والوجود الواقعي والمعيشي للانسان هو الفن.

في تطور لا حق في مدارس وتيارات فلسفة الفن والحداثة اتضح قصور تلك النظريات الفنية وتم تجاوزها فنيا منذ قرون طويلة في ضرورة اعتماد ( الخيال ) الانساني والمخيلة الفنية المخصّبة، استكمالا لما تعطيه وتمنحه الطبيعة من خامات تدخل في عملية المنجز الفني، وهذا ينطبق على الشعر وبعض الفنون التي لا تعتمد الالوان والمساحات والفراغات والكتل كما في لغة التواصل التشكيلي .

ان المواد الخام التي تمنحها الطبيعة للفنان ليست كافية لتخليق فن حقيقي دائم اصيل، فلا بد للفنان من اضافة نوعين من الاسلوبية في تخليق الفن وانتاج العملية الفنية، هما الخيال الفني الخصب في استقدام واكتشاف عوالم غير معروفة ولا مسبوقة ووضعها في مختبر الانتاجية الفنية، الشيء الآخر المكمّل لخامات الطبيعة وخيال الفنان هو الخبرة المهنية المكتسبة في كيفية توليف معطيات الطبيعة مع معطيات الخيال الفني في تنظيم حرفية انجاز اللوحة التشكيلية، و في توزيع الالوان والكتل والمساحات والفراغات في نسق هارموني منظّم .

الخيال اسمى خاصية يحتازها الانسان مع خاصية الذكاء في تطوير وجوده واغناء وتأثيث حاضره وانتقاله من مرحلة تطورية الى مرحلة اخرى اكثر تطورا .

من هنا نستطيع القول ان  معطيات الطبيعة كخامات اولية في الانتاجية الابداعية لا تخلق منفردة لوحدها فنا اصيلا خالدا يطاول البقاء، كذلك نجد ان جنوح الخيال الفني في مدارس التجريد وما بعد الحداثة ممثلا بالسريالية الغرائبية عند اندريه بريتون في الشعر، وسلفادور دالي في الفن التشكيلي، وكذلك التكعيبية عند بيكاسو والعودة للبدائية في الفن وفن المفهوم وغيرها من المدارس الحداثوية في الفنون التشكيلية انما تقوم جميع هذه التيارات والمدارس على استثمار الخيال الفني في نوع من الادهاش غير المتوقع بمعزل عن كل تأثيرات المحيط والطبيعة، وهذا هو الرسم بالافكار، وهناك دعوة اخذت حيز التنفيذ في الاوساط الادبية والفنية في امريكا واوربا والغرب تذهب الى ضرورة تخصيب الذاكرة التخييلية عند الفنان في تعاطيه المخدرات .

وفي قول هيجل : يبدو اننا محقون في افتراضنا ان جمال الفن هو اعلى من الطبيعة، فجمال الفن جمال مبدع،انه مولود جديد للعقل وبمقدار ما يبدو الروح ونتاجه اعلى من الطبيعة وظواهرها، كذلك يبدو جمال الفن اعلى من جمال الطبيعة. العملية الجمالية يقودها العقل المتخيل، اما العلمية فيقودها العقل المجرد.

وبحسب هيجل أيضا: ان الجمال الذي يخلقه الفن لهو دون مستوى الجمال الطبيعي بكثير، وان اعظم فضل للفن في هذه الحال هو الاقتراب في ابداعاته من الجمال الطبيعي . كما يعتبر هيجل ان الجمال الفني هو اسمى من الجمال الطبيعي لانه من نتاج الروح التي هي اسمى من الجمال الطبيعي وان سمو الروح ينتقل بالضرورة الى نتاجه الفني.

ان مايدعو الى عدم الاخذ بهذه الفرضية الهيجلية، هو ان روح الطبيعة الكلي المطلق ممتد غير محدود بالقياس الى الروح الفني للفنان الذي بدوره يستجلب من الطبيعة ويستمد من روحها الكلي سموه الفني، وهذا السمو الروحي لا يمتلك الاطلاق كما الطبيعة الذي يخلع هو قدرة اغناء الروح الطبيعي.كما نجد من الصحيح ان الفنان حالم يملؤه حلم الواقع الفعلي على حد تعبير سانتيانا، الا اننا نجد ان حلم الفنان وسيلة تنفيذه هو تكسير المألوف في بقاء مرجعيته تغيير الحياة.

اذن لولا المناداة بضرورة اعمال الخيال وتوظيفه في الفن للوصول الى عوالم غير مكتشفة ولا مسبوقة  .... لكان الفن التشكيلي توقف عند سيزان ورامبرانت وفان كوخ وغويا وماتيس في مدارس وتيارات الفن التي اصبحت كلاسيكية كالواقعية والانطباعية والرمزية في محاكاتهم رسم الطبيعة لها في ذاتها، ولكن متى وضعناها في نسق فكري له معنى، او انموذج اكتسبت معناها.

في التعبير الهيدجري المستمد من فلسفة علم الجمال انه يضعنا امام حقيقة موت الفن للأسباب التالية:

1. بوصف الفن يوتوبيا بعيدة عن التحقق والاستيعاب والاستهلاك الواسع.

2. ان الفن اصبح سلعة استهلاكية نخبوية يتداولها الارستقراطيين.

3. بوصف الفن صمتا امام حقيقة ان اساسيات الموروث الفني بالنسبة للفهم الجمالي الفلسفي للفن باتت في حكم الموت والزوال.

***

علي محمد اليوسف 

من المعروف أن أول محاولة في تاريخ الفكر الفلسفي لوضع مشكلة المعرفة الإنسانية موضع البحث المستقل المنظم، كانت في القرن السابع عشر مع الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" في كتابه "مقالة في العقل البشري"، الذي يعد بحق أول بحث علمي منظم تناول بالفحص والدراسة أصل المعرفة وماهيتها، وحدودها ودرجة اليقين فيها. ومع ذلك، فإن البحث في المعرفة قديم قدم التفلسف، إذ كان يمثل قسمًا مهمًا من التقسيم التقليدي لموضوعات البحث الفلسفي.

ومن الثنائيات التي يتناولها البحث في نظرية المعرفة يمكن تحديد الثنائية التي تتصل بالبحث عن الوسيلة أو الأداة أو المصدر الذي تتم عن طريقه المعرفة، فقد ظهر في تاريخ الفكر الفلسفي اتجاهان أساسيان: الأول، يذهب أصحابه إلى أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة وهؤلاء هم (العقليون). والثاني، يذهب أصحابه إلى أن التجربة وحدها هي مصدر المعرفة وهؤلاء هم (التجريبيون). وفيما يلي توضيح لذلك:

1- الاتجاه العقلي في المعرفة:

يقوم الاتجاه العقلي في المعرفة على أساس أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، ويذهب أصحابه إلى أنه لا يمكن استنباط الكلية والضرورة، وهما الصفتان الملازمتان المنطقيتان للمعرفة الحقة، من التجربة وتعميمها، إنما يمكن استنباطهما فقط من العقل نفسه، إما من مفهومات فطرية في العقل (نظرية الأفكار الفطرية عند ديكارت)، أو من مفهومات لا توجد إلا في شكل استعدادات مسبقة في العقل (1).

وهكذا يقوم موقف العقليين على التسليم بأن للعقل مبادئ جاهزة، أو طرائقاً فطرية هي التي تقوده إلى معرفة حقائق الأشياء، ولذلك فإن الصورة المثلى للمعرفة عند العقليين هي تلك التي تمثلها البراهين الرياضية؛ فمثل هذه البراهين تبدأ ببديهيات أو حقائق واضحة بذاتها، وتصل عن طريق سلسلة من الاستنباطات المتدرجة إلى نتائج منطقية ضرورية لا رجوع فيها (2).

وقد ظهر المذهب العقلاني كمحاولة لتعليل الخصائص المنطقية مثل: الصدق الرياضي والعلم الطبيعي الرياضي. وكان ممثلوه في القرن السابع عشر "ديكارت" و"سبينوزا" و"لاينبتز" وفي القرن الثالث عشر "كانط" و"فيخته" و"شلنغ" و "هيجل".

ومن الجدير بالذكر، أن فلاسفة المذهب العقلي في العصر الحديث ساروا على طريق "افلاطون" في اهتمامهم البالغ بالرياضيات، واستخدامهم للمنهج الرياضي، ويأتي على رأس هؤلاء أبو الفلسفة الحديثة، الفيلسوف الفرنسي "ديكارت"، فإلى جانب كونه فیلسوفًا، كان "ديكارت" عالمًا رياضيًا. وإذا كان الشك عند "ديكارت" هو مفتاح المنهج، فقد كان العلم الرياضي عنده هو مفتاح المذهب.

وإذا كان "ديكارت" قد أعلن في القاعدة الأولى من قواعد منهجه "ألا يتلقى على الإطلاق شيئًا على أنه حق ما لم يتبين بالبداهة أنه كذلك"، فإنه كان يقصد ذلك النوع من الوضوح الذاتي الضروري. يقول ديكارت: "حتى نتمكن من إضفاء يقين على أي علم يساوي يقين علم الحساب أو علم الهندسة، يجب ألا نشتغل إلا بالمعاني الواضحة المتميزة، وهي التي مضمونها بديهي تام البداهة" (3).

أما "سبينوزا"، فقد كان كثير الشبه من "ديكارت"، إذ يبدأ بأعم الحقائق ويعمل على استنباط كل ما تنطوي عليه من نتائج، ولكن الاختلاف بينه وبين "ديكارت" يتمثل في أن "ديكارت" كان حريصًا على أن يبدأ بقضية ذات وضوح تام، يؤدي إنكارها نفسه إلى تأكيدها، فكانت نقطة انطلاقه هي "أنا أفكر" في حين أن "سبينوزا" كان حريصًا على أن يبدأ بتأكيد الوحدة الشاملة للكل، مما جعله في غنى عن تلك الثنائية التي لا بد أن ينتهي إليها كل من يبدأ بحقيقة الفكر وحده (4).

والمعرفة عند " سبينوزا " حالة من صفاء الذهن يتم التوصل إليها بتصحيح الفهم تصحيحًا يعتمد على تخليصه من الأفكار الغامضة المبهمة التي تنشا عن الخيال والإدراك الحسي، وعندما يعمل العقل على توضيح أفكاره جيدًا ، وإدراك ما تنطوي عليه تلك الأفكار، فإنه عندئذ يحصل على الأفكار الصادقة وعلى اليقين (5).

أما "ليبنتز" فكان يرى أن فلسفة "ديكارت" هي الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة، وذهب إلى أن أفكارنا تكون أصلا في ذهننا، وتأتينا من أعماقنا، وأن أساس يقين الحقائق الكلية يكون في الأفكار نفسها مستقلة عن الحواس، ويُعدّ "ليبنتز" من أكثر العقليين تطرفًا، إذ زعم أن القضايا الصادقة كافة يمكن من حيث المبدأ معرفتها بوساطة الاستدلال العقلي الخالص (6).

يتضح مما سبق، أن أنصار المذهب العقلي يتخذون من العقل الخالص وحده مصدرًا للمعرفة دون اعتماد على الحواس، أو استنادا إلى التجربة في مقابل أنصار الاتجاه التجريبي الخصم المألوف للاتجاه العقلي.

2- الاتجاه التجريبي في المعرفة:

يرى أنصار هذا الاتجاه أن الحس باب المعرفة الوحيد، ويؤكدون على أنه لا يوجد شيء في العقل لم يمر بالحس أولاً، ومن هذا المنطلق ينكرون أن يولد العقل مزودًا بأفكار فطرية موروثة كما يدعي العقليون. ومن هنا يلتقي التجريبيون مع الحسيين، ولكنهم خالفوهم في أنهم جعلوا للعقل فاعلية تبدو في القدرة على التفكير فيما تنقله الحواس من صور ذهنية، وتأليف أفكار من العناصر التي استمدها من التجربة وهي أفكار لا وجود لها في العالم الخارجي. وقد نشأ المذهب التجريبي الحديث بوصفه رد فعل للمذهب العقلي، وقام بتنميته مجموعة متعاقبة من الفلاسفة الإنجليز، كان أبرزهم : "لوك" و "باركلي" و "هيوم". (7)

أما "جون لوك" فإنه يعرب صراحة عن إيمانه بأن معرفتنا بوجود الأشياء لا ينبغي أن ترد إلى الذهن، فالوسيلة الوحيدة لهذه المعرفة في رأيه هي الإحساس، ولا يمكن عن طريق الأفكار الذهنية وحدها إثبات وجود موضوع للفكرة، مثلما لا يمكن إثبات وجود الإنسان من صورته المرسومة.

ويشير "لوك" إلى أن أي فكرة تتولد في الذهن إنما ترتد إلى مصدر واحد فقط هو التجربة، فالعقل، من وجهة نظره، صفحة بيضاء ليس فيه أفكار فطرية أو معاني أولية، وإنما يستمد العقل كل خبراته وأفكاره من التجربة. فالتجربة الحسية هي التي تخط على هذه الصفحة البيضاء سطورها. ومن هذا المنطلق يرى "لوك" أن الإنسان لا يبدأ في التفكير إلا عندما يبدأ في الإحساس، فالإحساس سابق على التفكير، وليس هناك شيء في العقل ما لم يكن قبل ذلك في الحس. الذي به وحده يمكن تفسير المعرفة كلها عند "لوك" (8).

أما "جورج باركلي"، فقد قدم محاولة من أكثر المحاولات تطرفًا لإنكار الوجود المستقل والمتميز للعالم الخارجي مع الاعتراف بأن الأشياء من حيث حقيقتها وواقعيتها ستظل كما هي. ولم يعترف " باركلي إلا بما يظهر لنا من الأشياء من خلال إدراكنا الحسي لها. بعبارة أخرى، لا وجود للمادة المجردة، ولا وجود إلا لما ندركه بحواسنا من المادة. تطبيقًا لمبدأ المذهب الحسي الذي يرى أن المعرفة الحقة هي المقصورة على ما يبدو على الشعور بأعراض محسوسة، وإن ما لا يبدو محسوسًا وهم محض (9).

أما "ديفيد هيوم" فيسلم بكل سهولة باستحالة إدراكنا لأي شيء خلاف أفكارنا. ويقول: "إن أي قدر من الفلسفة يعرفنا عدم إمكان استحضار عقولنا لأي شيء خلاف الصور والمدركات، وإن الحواس هي المنافذ الوحيدة التي تدخل منها هذه الأفكار". ولذا يرى أنه بمقدورنا الحصول على أية معرفة بالمسائل التي تجاوز تجربتنا المباشرة، وتعلو على قدرات عقولنا (10).

يتضح مما تقدم، أن المعرفة عملية مركبة يساهم فيها العقل والحواس معًا، وأن الإنسان مهما كان عاقلًا فإن العقل وحده لا يكفي لوحده كمصدر للمعرفة، كما أن التجربة أيضًا تبقى قاصرة لوحدها، لهذا كانت المعرفة الإنسانية عملية تركيب بين ما هو عقلي وما هو تجريبي، لهذا قال كانط: "الحدوس الحسية من دون مفاهيم تظل عمياء، والمفاهيم من دون حدوس حسية جوفاء". إذًا المعرفة مصدرها العقل والتجربة معًا، ومن ثم فهي ليست فطرية وليست مكتسبة فقط، بل هي فطرية ومكتسبة في الوقت نفسه.

***

د. صابر جيدوري

......................

المراجع

1- يودين م. روزنتال . ب.: الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير کرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1981، ص 472.

2- هنترميد: "الفلسفة أنواعها ومشكلاتها"، ترجمة فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، 1999، ص 188.

3- مصطفى غالب: " ديكارت "، دار مكتبة الهلال، بیروت، 1982، ص ص 72-73.

4-  فؤاد زكريا: سبينوزا (ضمن معجم أعلام الفكر الإنساني)، تصدير إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الجزء الأول، 1989، ص 520.

5- الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية فؤاد کامل وآخرون، دار القلم، بیروت، د. ت، ص 251.

6- ليبنتز: "ابحاث جديدة في الفهم الإنساني"، ترجمة أحمد فؤاد کامل، دار الثقافة، القاهرة، 1983، ص 179.

7- مجمع اللغة العربية: "المعجم الفلسفي"، تصدير إبراهيم مدكور، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983، ص 145.

8- عزمي إسلام ، " جون لوك "، دار الثقافة، القاهرة، 1976، ص ص 52-53.

9- يحي هويدي: "باركلي" (ضمن معجم أعلام الفكر الإنساني)"، مرجع سابق ، ص 815.

10- ريتشارد شاخت: "رواد الفلسفة الحديثة "، ترجمة أحمد حمدي محمود ، الهئية المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1993، ص 219.

نظراً لأنَّ طبيعةَ الثقافةِ قد تغيرتْ دون رجعةٍ، فكانَ لابد أنْ تتغير وظيفةَ المثقفِ بالتبعية. وبخاصة أنَّ المثقف كان بمثابة الكائن الذي لا يخلُّو من التلون بحسب الوسط الموجود فيه. ولكن الآن: إذا لم يكن المثقفُ قادراً على الإبداع والتطور الخلاّق، فسيسقط من غربال عصرنا الراهن الذي لم يعُدْ هو الضمان للأوضاع الثقافية كما جرت. إنَّه عصر التعرية، أي عصرُ العراء المفتوح، عصر التحولات الجذرية بإمتياز تاريخي. ودائماً في عصر التحولات لا نتحسس رقابنا فقط، بل نتحسّس كلَّ شيءٍ آخر، ولو كان مُهملاً. والمثقفُ الفاعل يقعُ ضمن دائرة الكائنات المهملة (عن قصد)، ولاسيما في دهاليز بيئاتنا العربية. وهذا ما وَضعَ المثقفَ أمام خيارٍ وحيدٍ (أي ضرورة لا بد منها): أنْ يكون حُراً وخارج القوالب الجاهزة، وإلاَّ فسيكون كالعصف المأكول لا محالة، وسيقع في جوف أيديولوجيا حائرةٍ أو نزعة استبدادية قميئة.

كانت وظيفةُ المثقف سابقاً الترويج لما يراه ويمارسه، وأنْ يتكتل بجوار السلطة تحت عناوين مختلفة منافحاً وحارساً لظلالها. بينما الآن جاء دورُ المثقف باعتباره الكائن المبدع والكوني بالضرورة. أي أنَّ طبيعة الثقافة غدت كونيةً مفتوحةً دون إملاءٍ على فاعليها بالحدود القصوى لوجودهم المادي والروحي. أقول غدت عمليةً اختزلت القيم العُليا التي هي محط عناية البشر والتي تتجاوز الحدود المقيدة للإنسان، كما أنَّ وسائل التواصل أعطتها قدرةً مهُولةً على التداول والانتشار.

المُلاحظ أنَّ الثقافة باتت ذات طابع فلسفي- افتراضي أعمق من ذي قبل، ولم يعد ممكناً استيعابها في قوالب محليةٍ أو محدودةٍ جغرافياً ودلالياً. كما أنَّ التطورات المعرفية والتقنيات الديجيتال التي غذّت الخيال والعقول لم تترك الثقافةَ وشأنَّها، لكنها قد تركت بصمتها الكونية على كل شيءٍ، ولم تستطع الثقافةُ أنْ تقف بمنأى عن حركة المعارف والتقنيات. إنَّ الثقافة الراهنة غدت مرعبةً لكل النزعات والمذاهب الماضوية، وشكلت لُّجة غائرة الأعماق لمن يجيدون فقط السباحة على سطح العالم وأحداثه وحيواته. والتقنيات ليست مجرد أدوات، لكنها عوالم تسير في فلكها مفاهيمٌ وأفكارٌ تواكبُ ثوريتها وقدراتها المُذهلة.

وليس هذا فقط، بل اختلطت التقنيات ثقافياً بكل أبعادنا المكانية والزمانية والأنطولوجية والرمزية وجوانب الماوراء، لقد شكلت الثقافة الراهنة كوناً مذهلاً (داخل / بجانب) الكون الأصلي لحياتنا الإنسانية. وشئنا أم أبينا، سنكون نحن جزءاً من محيط عالمي يُلقي إلينا بموجاتٍ عاصفةٍ من المعارف والوسائط الجديدة. لقد فقدت الثقافة تباعاً وظيفتها الأساسية في كونها تشكل هويةَ الجماعات ورؤاها الحدية للحياة والتاريخ. بسبب أنَّ ماهية الثقافة تعدُّ وهماً خاصاً بـ" العقل الجمعي" المُغلق أكثر من اعتبارها شيئاً أصيلاً في غالبِ الأحيان. لقد تفكّك كلُّ ذلك، وبقي الإنسانُ كإنسانٍ وظلت الثقافةُ تُحلّق بعيداً نحو آفاق الحرية الإنسانية في شخصيتنا القريبة. ولم تعد ترضَ بديلاً عن إدماج الفردي والكوني، الخاص والكلي، المادي والمتخيل في آفاق واحدة.

المثقف المعنى:

إنّه إنسان مُتحرر بكل كيانه من وراء الكواليس المعقدة في المجتمعات الإنسانية. هو مثقف من نوع أصيل أصالة الفكر والحكمة، حيث يجمعُ التعدُد في شخصه الثري، تاركاً الأفكار تصلُّ إلى درجة الاختمار، واضعاً الواقع في إطار معانٍ تعيد الثقافةَ اكتشافها في الأشياء والموجودات والمجتمعات. إنَّ الثقافة – من تلك الزاوية - تغدوُ ثريةً بالنسبة إليه بقدر ما تُشكل جوهر الإنسان وحياته، لأنَّ الثقافة تجعلُّ لجميع الموضوعات والكائنات قيمةً. تُشعرنا بالإمتلاء الرمزي نفسياً وحياتياً طوال الوقت. والمثقف المعنى هو كذلك مثقف يلتزم بالعيش في إطار كهذا ويوسّع آفاقه كلما استطاع أنْ يُوجّه المعاني، ويعيد صياغتها وفقاً للرؤى القيمية والفكرية. وليس هناك مثل هذا النمط الإنساني من جهة تمثله لقدرات الأنبياء والحكماء والشخصيات الرمزية أمام الشعوب المتطلعة للخلاص.

كل الشخصيات المُلهمة في تاريخ الشعوب تنتمي إلى هذا الصنف من المثقفين، هي شخصيات ثقافية دالة بالمقام الأول. وليس هناك أكثر اختزالاً لأصالة البشر والحياة من هذه الشخصيات التي جاءت مصدراً للحماس الفكري والإرادة الحرة وإنطلاقة الحياة. على سبيل المثال: كونفوشيوس وبوذا وسقراط وغاندي ونيلسون ماندلا وشعراء الإنسانية والمتصوفة والأدباء الكبار، أي هؤلاء الذين وضعوا الإنسان في فوهة الحياة والأقدار منتصرين له تحديداً. حيث أعادوا إكتشاف فكرة الإنسانية من جديدٍ بعدما أُهيلت عليها تلالٌ من الغبار والرمال. هؤلاء كانوا ومازالوا يعيشون في المعنى بالنسبة لشعوبهم. فهم نماذج إنسانية حُرة اختاروا أنْ يكونوا معنى معبراً عن  حياتهم. وأنْ ينتجوا المعاني من خلال وجودهم في صور قشيبةٍ وعاليةِ المكانة، ورفيعة التأثير.

إنّهم عندئذ ليسوا أفراداً مشتتين، لكنهم يتمثلُون الجمع بلغة المفرد، يعبرون عن الحقائق الكلية بلغة الأشياء، وعن الأزمنة داخل اللحظات المختلفة، وعن وحدة الكون ضمن يما يتداعي ويزول، وعن قوانين المجتمعات فيما يمارسيه الناس من حماقات أو أحكام بسيطة. إنهم يتحركون بصحبة معاني الإنسانية جيئةً وذهاباً دون عناءٍ، يسيرون في حراسة المجهول الذي يعرفونة جيداً بين الأشياء والركام الحي من الحياة. ولهذا سنجدُ كلَّ إنسانٍ قد عثر لديهم على شيء يخصه، شيء يذهب إليه رأساً من غير إلتواء، أي العثور على معنى كان يبحث عنه أو يود أن يكونه ذات مرةٍ.

وجميع هؤلاء المثقفين بالمغزى السابق كانوا حريصين أنْ تكون حياتهم سرداً رمزياً وطقوسياً لدى الناس. والسرد شكل من أشكال الوعي الشعبي العميق بالحياة والعلاقات والمصير وأبرز الأحداث والأخطار التي تكتنف أوضاع البشر. وإذا كانت الأحداث قابلةً للتكرار لدى غالبية البشر، فقد أخذ المثقف معناه من المكانة ذاتها. إنه علامة تاريخية لا تقل دلالةً عن تلقائية الأحداث، ويبدو المثقف من فوره بمثابة حكمةِ الحياة وخلاصتها. إن ما يلفت انتباهنا فيما يمارس(المثقف - المعنى) هو خلاصةُ ما قام به إزاء الآخرين.

المثقف المؤدِي:

هو الشخص المؤدي واللاعب لمهام ثقافية وفكرية بعينها عكس النمط السابق، إنه الممثل البارع لما يقال له من سيناريوهات. وأحياناً هو(الفرد- الشكلي) الذي يهتم بصورته فقط خلال المواقف ويجيد خطف الأنظار. وهذا الصنف يظل تحت تأثير الأمر والطلب من حين لآخر. الأمر يعني وجودَ سلطةٍ أعلى مُقتنصاً فرص إرضائها والذود عن حياضها. ويبقى طوال مهامه في حالة إنتظار ليس أكثر، لأنَّ الأمر بالنسبة لمكانته نوعٌ من الانتظار النفسي والجسدي. والطلب يعني المهمةَ الموكولة إليه. ونحن وجدنا مثقفين في واقع العرب يبتكرون في تأديّة المهام، يصنعون هذه المهام صناعةً دون تراجع.

المثقف  intellectualعندئذ شخص مؤدٍ performator مثل الكومبارس، ألقته الأحداث في طريق السلطة أو في مسارات الأحداث، ثم اهتبل الفرصة تعبيراً عن سطوتها وقوتها في الواقع. ولذلك سيكون هذا المثقفُ شخصاً يعيش عبر الظلال القاتمة لكل سلطة ممكنةٍ، إنَّه بخلاف جوهر الثقافة يلتزم بأدوار التابع والخانع. والمؤدي دائماً لا يأتي بجديدٍ، لكنه يتقمص الأدوارَ دون نقصان، إنه يتحرك في هذا الإطار المحكُّوم بمركزية خارج فكره أو ذاته، وتجده موهوباً حين يُمارسها كأنَّ الأدوار قد خُلقت له خصيصاً. والموهبة أن يفكر المثقف السابق ويمثل بطريقة المؤدي المسرحي الذي ينهمك في السيناريو والحوار على خشبة المسرح.

الممثل المؤدي شخص لديه قدرة على التقمص، لكنه في الثقافة يتمثل ما يقال له بشكل حرفي، يتلقاه بكل سلبية ممكنةٍ وغير ممكنةٍ، ولعلَّ ذلك نتيجةُ دوره المرسوم منذ البداية وبفضل مكانته التي يعرفها أصحاب السلطة. وأغلب مثقفي العرب ينخرطون في هذا النوع من الأدوار، لأن المثقف في مجتمعاتنا مجرد وظيفة يلتصق بها، ولا يستطيع التحرر منها. وحتى أكثر المثقفين العرب تمرُداً إنما يمارسون هذا الأداء دون وعي. ولنتذكر أن الاتجاهات الفكرية والثقافية التي اهتم بها مثقفو العرب قد تحولت على أيديهم إلى قوالب فارغةٍ وإلى شعارات وعبارات دالة على التقديس والتبجيل.

الماركسيون العرب تمركسوا - إلى أشواطهم الأخيرة - من غير أصالةٍ، وكانوا حريصين على الماركسية حرفياً أكثر من حرص ماركس نفسه. بل ربما لو عاش كارل ماركس حتى يرى مثقفي العرب، لكان قد استنكر النسخةَ العربية من أفكاره وفلسفته. وهي نسخةٌ تحمل كل تشوهات (الأداء الباهت والتمثيل الثوري) في سياق عابر للثقافات. ورغم كون الماركسية في بيئتها الثقافية مبررةً وقادرة على تفجير الطاقات الثورية وتحريك صورة المجتمع بدرجةٍ أو أخرى، غير أنها في بيئتنا الإجتماعية كانت صورةً دون معالم، وربما كانت – لمن لديه رؤية – محل تندُر وسخرية!!

والمدهش أنَّ المثقف الماركسي المؤدي ينطبقُ عليه نقد الماركسية ذاتها لنوع من الوعي المزيف الذي يخادع الجماهير، ويثقب جدار عقولهم ويقودهم نحو آمال خائبةٍ وتجاه مستقبل يجتر القهر والهيمنة مرة ثانيةً. والأكثر إدهاشاً، أنَّ المثقفين الماركسيين العرب أنفسهم- بعد خُفوت بريق الماركسية- أخذوا يتجهون إلى الأصوليات الدينية والانغماس في الخطابات السياسية المؤدلجة أوالقومية الزاعقة بالتطرف والشوفينية. وبخاصة عندما يدركون أنَّ الماركسية قد فقدت صلاحيتها لتفسير التاريخ والأوضاع الإجتماعية المُركبة!!

وما حدث مع (ماركسيي العرب) ينطبق على وجوديي العرب أيضاً (أي متبني الفكر الوجودي)، إذ يبحث هؤلاء الوجوديون عن نسخة من الوجودية في أشعار العرب وفلاسفتهم القدماء أو بعض المفكرين المحدثين المتمردين على واقعهم الإجتماعي. ولذلك لم يُفلحوا في تقديم شيء وجودي حقيقي إلاَّ بعض المقولات القابلة للتوظيف في أي سياق، طالما تنادي بالتحرر وخلاص الإنسانية على حساب أية فكرة ميتافيزيقيةٍ أو نعرات ثقافيةٍ عرقيةٍ. إنَّ الوجوديين العرب هم أصداء عابرة للبحار والقارات بين الغرب والشرق، أصداء لم تجد أيَّ تواصل أو أيّة أصالةٍ في الطرح، لأنَّ تاريخ الوجودية  لا جذور له بمعناها الفلسفي في ثقافتنا التي تعبدُ العنتريات وتمجد أبطال الديكتاتوريات والغوغاء. إنه تحت الناس والجماهير تكمن حالات القهر وعبادة الأوثان بأسماء متواترة. إنَّ وجودية العرب إنْ جاز التعبير باعثة على الغثيان، وهي نتاج الحرمان من الحرية الأصيلة. هي رد فعل لضياع الوجود لا نتيجة الامتلاء بالحياة.

والفكرة ذاتها موجودةٌ عند من يسموا بمثقفي الإسلام السياسي، وهؤلاء يسلمون كيانهم لأدوار الترويج والتداول غير النقدي للأفكار والأقوال والنصوص الموروثة. حيث يعملون على نشر خطابهم المسيَّس، وهذا هو الهدف الأقصى مستغلين التعاطف الديني والمسكنة من الأتباع والجماهير على السواء. كل مثقفي الجماعات الدينية يسقطون حتى من دلالة مثقف بالمعنى الحداثي، لأنَّ المثقف معناه صاحب الرأي والعقل الحر الذي يقاوم مظاهر الإستلاب والإحتواء والتسلط. بينما يوجد ذلك في تلك الجماعات تحت مظلة الدعوة من ناحيةٍ والسمع والطاعة من ناحيةٍ أخرى. هذان هما وجها الرحي للثقافة(إنْ وجدت معناها الحديث) وليس يملك المثقف بهذا المضون سوى التمثيل والأداء.

وطبعاً أُصيب بعدوى فيروس (المثقف المؤدي) رجال الإعلام وحملة ألقاب الفكر والمعرفة والعلوم، فهؤلاء لم يفلحوا الخروج من قمقم الأدوار التي رُسمت لهم، حتى باتوا نهباً لكل من يستطيع توظيفهم لمآربه الخاصة. إن المثقف الراهن ليس شخصاً يرتاد بيوت ومؤسسات السلطة والأنظمة السياسية وحسب، لكنه ينادي- يصدر الأصوات تلو الأصوات- على بضاعته مثل بائعي البضائع في الحارات والشوارع والأزقة. هل من متبنٍ لما أقول؟ هل من صاحب سلطة يأخذ ما أطرحه؟ وكأنه يتحدث إلى الحاكم وصاحب الصولجان كي يوظفا أفكاره، ويستعملانه في أغراضهما الخاصة. هذا المثقف يعيش بلغة المنادي ومثل الندّاه طوال الوقت.

ولم يخرج المثقفُ السابقُ عن كونه صاحبَ حرفةٍ مثل باقي الحرفيين، كالحدادين والوراقين والسقايين والزراع والتجار والحرف اليدوية التي تعيش بهذا الحال والموروثة في مجتمعاتنا العربية. الفارق بين هذا المثقف وبين الآخرين أنه يضع عقله وكيانه تحت تصرف من يستغل ويستثمر. وفجأة بين يوم وليلة سنجده مثقفاً ملء السمع والبصر، ويدخل من فوره عجلة الثقافة اليومية والمعرفة السطحية الرائجة وأخبار السلطة والتداولات اليومية في بورصة الثقافة الشعبية. ويشار إليه بالبنان كأنه مثقف لا يشق له غبار ويتوارى تدريجياً خلف كمٍ مهولٍّ من المساحيق الثقافية وخلف الأخيلة السياسية والاجتماعية.

***

د. سامي عبد العال

يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788-1860) في كتابه (فن العيش الحكيم – تأملات في الحياة والناس) " إن الإنسان يجد في العزلة عزاءه الأخير بعد معاشرته الطويلة للناس، عامة الناس. فبقدر ما يمتلك الإنسان أشياء كثيرة بداخله، بقدر ما يشتد استغناؤه عن الناس وعن العالم الخارجي. على هذا النحو، يكون المتفوق فكرياً، حتماً إنساناً لا اجتماعياً. فلو كان الكم مساوياً للكيف في القيمة، لجاز تجشُّم عناء العيش مع الناس ومخالطتهم، لكن هيهات! فمئة مخبول لا تعادل ولن تعادل أبدا صاحب عقل راجح واحد. فذو العقل الصغير، ما أن يفرغ من إشباع حاجاته الأساسية، وينعم بقليل من الراحة حتى يندفع بحثاً عن تمضية الوقت كيفما اتفق ومخالطة الناس دون تمييز، فهو ينسجم مع الناس ولا يفر إلا من نفسه. فالغبي في عزلته يئن تحت وطأة بؤسه الشخصي، بينما الألمعي الموهوب يؤثث عالمه الخاص والصغير حتى ولو كان في أكثر الأماكن المقفرة لتدب الحيوية والنشاط فيها. ففي العزلة، يختزل كل واحد منا في ما عنده وفي ما يجده بداخله، أي في موارده الذاتية ولا شيء غيرها. وقد صدق "  لوكيوس أنايوس سينيكا " حين قال: الغباء يضجر حتى من نفسه " وعبّر اليسوع عن المعنى نفسه بقوله: " حياة الأحمق أسوأ من الموت".

ويذهب أيضاً الفيلسوف وعالم النفس الألماني – النقدي إريك فروم (1900-1980) في كتابه (المجتمع السوي) إلى أن " الشخص السوي يعاني من العزلة في المجتمع غير السوي، وقد يؤدي عجزه عن التواصل إلى إمراضه نفسياً، فالمجتمع المريض لا يتسامح مع الأصحاء ". ويحذر فروم المجتمعات بعامة بأنها المسؤولة عن اغتراب أفرادها، وقد يكون الشخص سليما معافى، إلا أن المجتمع نفسه إذا لم يكن صحياً بالقدر الكافي فإنه يصبح مجتمعاً مريضاً والطبيعي عندئذ أن يصبح أفراده مرضى، ولذلك ينصح بعلاج المجتمع أكثر من اهتمامه بعلاج الأفراد إذ المجتمع الصحي يفرز أفراد أصحاء.

في حقيقة الأمر، تطرح علينا فكرة هذا المقال العديد من التساؤلات... من أنا؟ ماذا أفعل في هذه الدنيا؟ ماذا أعرف عن نفسي؟ كيف أريد أسلوب حياتي، أهو بعيد عن الناس، أم وسط زحمة هذا العالم، أم في عِداد حاملي الرسالات؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير – التي تتفاوت من شخص لآخر – تحمل لنا العديد من الإجابات المريحة التي تضع النقاط على الحروف في نفوسنا.

يشير مفهوم الذات إلى ما يملكه الشخص من مشاعر وأفكار وإمكانات وقدرات، وتطويرها يعني استغلال ذلك كله الاستغلال الأمثل في تحقيق الأهداف والآمال، وهذه القدرات فيها ما هو موجود بداخلنا بالفعل، ومنها ما نحتاج أن تكتسبه بالممارسة والمران لفنون الكفاءة والفاعلية. فمرحلة اكتشاف الذات هي من أهم المراحل في حياة الإنسان لأنها ترسم مسار رحلته في الحياة الاجتماعية. هذه المرحلة تتطلب من الإنسان أن يوقظ نفسه أن يتوقف لفترة قد تطول أو تقصر عن مجاراة هذا العالم المضطرب. لحظات تطلب منه طرح أسئلة معينة على النفس وهذا لا يستقيم له إلا من خلال العزلة عن الناس لتقييم المرحلة الراهنة التي يحيا بها. لكن قبل أن نحوض في أهمية العزلة في اكتشاف ذواتنا سنحاول التوقف قليلاً عند مفهوم الذات الإنسانية بالتعريف والشرح.

بمعنى أدق، تعبّر ذات الفرد أو شخصيته عن مجموعة من الآليات التي تنظم حياته وعلاقاتهم بالآخر وبالطبيعة وبالله سبحانه وتعالى. وبناء الذات عند كل فرد يقوم على السمات الجوهرية الخاصة بثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه. وعلى هذا فالثقافة هي نظام القيم الأساسية الجوهرية في المجتمع. والذات أو الشخصية أو الأنا أو الهوية، هي صورة مصغرة عن هذه الثقافة أو هي مستودع لها. وثقافة الفرد، التي تشكل ذاته وشخصيته هي جزء من الثقافة الاجتماعية، وهي أيضاً ما نسميه بالهوية.

تركز الدراسات الاجتماعية المعاصرة على قدرة المجتمع على نقل ثقافته من جيل إلى آخر، وتعد ذلك مصدر صحة المجتمع، وضمان سلامة استمراره. وكل مجتمع يسعى دائماً إلى تشكيل بنية ثقافية أصيلة، يحرص على ألا يخرج عليها أحد من أفراده ضماناً للوحدة الاجتماعية الداخلية، فوظيفة الثقافة الاجتماعية إنما هي تحقيق التوازن والتناغم بين أفراد المجتمع، ولا يكون ذلك إلا عندما تتمكن، هي ذاتها، من تحقيق التناغم والتوازن بين عناصرها لتنتظم داخلياً في إطار مجموعة متوازنة من العناصر الثقافية التي يحيا فيها الفرد من جهة، وتشكل مرجعيته ومعياره في التعامل مع الأشياء والحكم عليها من جهة أخرى. وأي خلل في النظام الثقافي يؤدي بالضرورة إلى قلق في حياة الفرد، واضطراب في أحكامه، ينتج عنه فوضى في العلاقات وشلل في القدرات وضمور في الإبداع.

ولا شك، في أن تعدد الكليات في تفسير الذات، وهي جزء من كل، يؤدي إلى عدم انسجام بين الفرد والفرد في المجتمع خاصة، وبين الأفراد والمجتمع عامة، وهو ما ينتج عنه خلل في الأحكام وقلقلة في العلاقات وضبابية في الوعي وضمور في الإبداع.

إن عدم التناغم الوجداني بين الأفراد ينجم عنه التحرك بعيداً عن الآخرين، وإنه يتجنب الصراع، فتصبح العزلة أسلوب لمعالجة المواقف المؤلمة، وهي محاولة يبذلها الفرد لإعادة اتزان النفس، وتحدث فجأة كاستجابة من جانب الفرد كحرمان مفاجئ يطرأ في حياته من أفراد آخرين يعتبرهم ذوي أهمية لديه. مما يدفعنا إلى الحديث عن العزلة الإيجابية كخيار أو ربما ملاذ يقينا شر الخيبات، ويعيننا على ترتيب ذواتنا، وترميم ما أصبح آيلاً للسقوط من الأحلام، أو قد نحكي عنها على أنها العلاج الأجدى لتجديد سمات أرواحنا الحقيقية، مثل قدرتنا على الحب والعطاء والخير. وتُعرف العزلة بأنها قرار يتخذه الفرد بإرادته بعض النظر عن أسبابها. ونقصد بكلمة العزلة في هذا السياق العزلة الإيجابية وهي العزلة الطبيعية التي يحتاجها كل إنسان بين الفترة والأخرى، فهي بمثابة الخلوة مع النفس لفترة من الزمن يعيد من خلالها الفرد حساباته ويرتب أولوياته ويتأمل ويفكر في الأحداث الجارية حوله لمعرفة ما له وما عليه، وبالأخص قبل اتخاذ القرارات المصيرية في الحياة الاجتماعية والمهنية. ومعنى ذلك، أن العزلة بشكل عام تختلف عن الوحدة فهي غالباً ما تكون مفروضة عليه كأن يكون الإنسان وحيداً بسبب بُعد الآخرين عنه، مسافراً مثلاً في بلد غريب، أو أنه يعيش مع أهله وأصدقائه لكنهم لا يمنحونه الاهتمام والعاطفة.

نقصد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة إليك بها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس، وإلف العادات وترك الاقتصاد فيها والاقتصار على الذي تدعوه الحاجة إليه. كان جديراً ألا يحمد غبه، وأن تستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة، وأسقام متلفة، وليس من علم كمن جهل، ولا من جرب وامتحن كمن ماد وخاطر. ولينظر المرء لدينه ويحسن الارتياد لنفسه نسأل الله السلامة من شر هذا الزمان وأهله.

لذا نجد أن العزلة عند الفتنة سنة الأنبياء، وعصمة الأولياء، وسيرة الحكماء الألباء، فلا أعلم لمن عابها عذراً، لا سيما في هذا الزمان القليل خيره، البكيء دره (قليلة اللبن)، بالله نستعيذ من شره وريبه. وقد قال الراغب الأصبهاني في تعريفه للعزلة " العزلة توفر العرض، وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكافأة.  وقال ما احتنك أحد قط إلا أحب الخلوة ". ويذهب محمود درويش في نصه " لو كنتُ غيري " (ديوان أثر الفراشة) إلى أن العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه. مؤكداً أن قدرتك على أن تكون وحيداً " هو تربية ذاتية. العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي ... أو ما يشبه خلوك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلة نجاة... العزلة هي اختيار المترف بالممكنات... هي اختيار    الحر. فكيف تجف وتضيق بك نفسك ".

وفي ذات السياق يعبر الشاعر والأديب الكبير جبران خليل جبران (1883-1931) في كتابه " البدائع والطرائف " عن فلسفته فيما يخص ( الوحدة والانفراد) بقوله إن " الحياة جزيرة في بحر من الوحدة والانفراد. الحياة جزيرة صخورها الأماني، وأشجارها الأحلام، وأزهارها الوحشة، وينابيعها التعطش، وهي في وسط بحر من الوحدة والانفراد. حياتك، يا أخي، جزيرة منفصلة عن جميع الجزور والأقاليم، ومهما سَيَّريت من المراكب والزوارق إلى الشواطئ الأخرى، ومهما بلغ شواطئك من الأساطيل والعمارات فأنت أنت الجزيرة المنفردة بآلامها، المستوحدة بأفراحها، البعيدة بحنينها، المجهولة بأسرارها وخفاياها ".

إلا أن الإنسان عندما يفرح يبحث عمن يشاركه فرحته، ينجح فيتلهف لوجود الآخر للاعتراف بنجاحاته، فلكي يُسمى النجاح نجاحاً لابد من الاعتراف به. تنمو داخل رأسه فكرة ولا تثمر إلا حين يناقشها مع أحد آخر. يتأمل صوره، فيفتش عن صورة تجمعه بشخص ما. الآخر هنا: مرآة. لكن: ماذا عن مرايانا الداخلية؟

يقول العلامة ابن خلدون 1332-1406 في مقدمة كتابه " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ": إن الإنسان كائناً اجتماعياً بطبعه، والطبع الاجتماعي ليس اختياراً، بل جزءاً من هويتنا، وتطور الحس الاجتماعي كان من أهم عوامل تطور الحياة البدائية. يسعى الكثير من مدربي تطوير الذات إلى دفع الناس نحو تكوين شخصيات انبساطية. لكن الطبائع البشرية مختلفة بشكل جوهري، فدرجة اجتماعية البشر مثلاً تختلف من فرد لآخر. وأي نزعة تحاول وضع المختلفين في قالب واحد، هي نزعة سلطوية شمولية متطفلة على منطق الفردانية الإنسانية الخاص، لماذا يجب أن يكون الإنسان محاطاً بالآخرين طوال الوقت؟ وأن يكونوا شركاء معه في ذاته ومشاعره وأفكاره التي تخصّه وتؤثر على حياته هو في النهاية؟ إن من مظاهر الصحة النفسية، قدرة الإنسان على تحقيق التوافق بين تفاعله مع الآخرين والحفاظ على حيِّزه الخاص ومواجهة ذاته وتحمل مسؤوليتها بعقلانية.

اقترن مفهوم العزلة في الفهم الجمعي بالاكتئاب، بالمرض، بالضعف، وبالنبذ. ما أن تلوذ بعزلتك حتى يهرع الجميع لانتشالك منها باعتبارها انسحاباً أو انهزاماً أو نكوصاً ارتكاسياً نتيجة أزمة، لا موقفاً طبيعياً من العالم، ماذا لو انصهرنا في الآخرين؟ وأصبح اندماجنا معهم وسيلة للهروب من مواجهة ذواتنا؟ ماذا لو أصبحت سعادتنا متعلقة بمشاركتهم لها؟ ولا نتمكن من تحقيق الرضا عن أنفسنا إلا بوجودهم؟ ماذا لو أصبحت نظرتنا لأنفسنا هي نظرتهم لنا؟ وتصوراتنا عن الحياة هي تصوراتهم وحديثنا الداخلي هو حديثهم؟

الجواب إن العزلة هي أن تختار أن تكون أنت، أن تحرس مولد ذاتك، هي الحالة الأصلية أنطولوجياً للذات، وإن تقنا من حين لآخر لأن نصبح مرئيين. في العزلة ندرك ما الذي تعنيه الأنا، وكيف تكون حاضرة. نشعر بها في هذه التجربة تطفو بعد أن تخبو الضوضاء التي كانت تشغل حواسنا وتشتتنا.

وفي طريق التغيير الذي يمس أعماقنا السحيقة، تحضر العزلة كأهم المراحل، وشرطاً لولادة الذات الجديدة، فهي التي تتيح لحظات التأمل، التجربة الفردية الخالصة. نختلي بأنفسنا فنختبرها بمنأى عن ضغوط الآخرين ونعيد اكتشافها. بحرية العصامي نتدارك ما فاتنا، ونصحح مساراتنا الخاطئة، ونجنب ذواتنا سوء الاستخدام، كاستنزاف الطاقة واستهلاك العواطف واقتحام الحدود الشخصية.

وهل للإنسان أن يكون كاتباً إن لم يكن عالقاً مع ذاته الواعية التي لا تغيب ولا تتراجع؟ أليست العزلة للكُتَّاب قوت المخيلة، ومهبط الوحي، ومكمن المعرفة، والخلق والإبداع؟ هنا هي ليست اختياراً أو رفاهية، بل حالة اضطرارية تفرض نفسها. وفي هذا الصدد يقول الروائي النمساوي فرانز كافكا (1883-1924) من أبرز أدباء القرن العشرين ولاسيما في مجال الرواية النفسية: (من أجل الكتابة أحتاج إلى العزلة، ليس مثل زاهد، فهذا لا يكفي، وإنما مثل ميت... الكتابة نوم أعمق من الموت وكما لا يسحب المرء جثة من مرقدها لا يمكن أن يسحبني أحد من مكتبي بالليل). إن العزلة تضع الوجود تحت المجهر... وبمنطق كهذا: فإن عزلة الإنسان - الذي يولد وحيداً، ويموت وحيداً - هي الأصل.

ومعنى ذلك أننا نحتاج بين وقت وآخر لمثل هذه العزلة التي من خلالها نسمح للعقل بالهدوء والسكينة والتركيز، هذا الهدوء تحتاجه النفس في كل مرحلة وبعد كل عاصفة تمر بها. نحتاج العزلة الانتقائية الاختيارية بين وقت وآخر، لشحن النفس بالطاقة وتلمس المعرفة التي نحتاجها لنركز عليها، وللتأكد إن كنا على الطريق الصحيح.

إلا أن على الضفة الأخرى حقيقة لابد من الاعتراف بها....  بعيداً عن أهمية العلاقات الاجتماعية في حياتنا اليومية كداعم أساسي للوصول أو النجاح في كثير من الحالات. فإن دافع الانتماء وتقدير الذات – حسب هرم ماسلو - يعد من أهم الدوافع النفسية ذات الأثر في إنجاز الإنسان. فالإنسان الذي يسعى دائماً للشعور بالقبول والانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا يعني العمل بشكل أكبر، والسعي الحقيقي نحو النجاح، لتصير مرئياً اجتماعياً. كما أن التكوين النفسي والفيزيولوجي والاجتماعي، يخلق لدى الفرد هذا التلهف لوجود الآخر في حياته، الآخر الذي يحتاجه للاعتراف بنجاحاته، فحتى يُسمى النجاح نجاحاً لابد من الاعتراف به ومنحه جزاءه.

إذاً لا نجاح دون الآخر، دون اعتراف الآخر، وإن اقتصر الجزاء على هذا الاعتراف، فإنه في حالات كثيرة يكاد يكون كافياً. لذلك نجد أنفسنا في كثير من الأحيان بعد مضي بعض الوقت على اختيارنا للعزلة نبدأ نتألم، ونأسى لهذا الاختيار، حتى وإن حاولنا ستر هذه المشاعر تحت ألف غطاء، لكنها لا تلبث أن تنفضح بمجرد أن تعذل أحدهم على طول غيابه، أو على قلة اهتمامه وسؤاله. وهكذا، فإننا لا يمكننا أن نتوقف عن توقع قرع أحدهم لبابنا لا يمكننا أن نكف عن التوقع مهما تتالت الخيبات، ولا يمكننا أن نتوقف عن التوقع هذا الفعل الذي يبرهن لنا في كل مرة أننا بحاجة حقيقية للآخر حتى وإن كان " الآخر هو الجحيم " حسب الفيلسوف الوجودية المعاصرة جان بول سارتر. وبما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده لذا فهو بحاجة ماسة لأشخاص حوله ليتشارك معهم في العديد من الأمور والجوانب المهمة في الحياة، لهذا علينا أن نسعى وبشكلٍ دائم للبحث عن علاقات اجتماعية مبنية على قواعد مهمة وأساسية لتكون ناجحة وإيجابية.

خلاصة القول، إن العزلة الاجتماعية الإيجابية لفترة من الزمن نحتاجها جميعاً، وهي تخصيص بعض الوقت لنعتزل الآخرين ونجلس مع أنفسنا، محاسبتها والاسترخاء والتركيز مع الذات وتنميتها، وإعادة النظر في حياتنا وأعمالنا وأهدافنا، وتكون هذه المساحة فرصة للمراجعة الذاتية الشاملة، لكن مع الانتباه الواعي لعدم الوقوع في فخ العزلة الاجتماعية، فمهما كان ما يحدث لنا في الحياة، يجب ألا نقرر يوماً العزلة عن الناس والبقاء وحدنا بشكل مطلق، لأننا نكون قد دخلنا في متاهة غير منتهية من المشاكل النفسية والاجتماعية.  وفي الختام نقول إن العزلة بمعناها الواسع تصلح فقط للعلماء العقلاء، وأنها من أضر الأشياء للجهال، فمن أراد الاعتزال فعليه أن يتفقه بالدين والعلم والمعرفة، فقد قال إبراهيم النخعي: تفقه ثم اعتزل.

كما أن العزلة الحقيقية حالة من العيش بحاجة لأن تستثمر. فليس بالوسع الدخول فيها والخروج منها كما نريد. فالعزلة فن تحتاج لمران ذهني لصقلها واستقرارها في النفس. فعندما تتمرن على العزلة، فأنت تكرس ذاتك للاعتناء بروحك. ستيفان باتشيلور (1953-  ) من كتابه فن العزلة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.................

المراجع المعتمدة:

1- أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي: العزلة، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، دمشق وبيروت، ط2، 1990.

2- إيريش فروم: المجتمع السوي، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، دار الحوار، اللاذقية، ط2، 2015.

3- حسين الصديق: العودة إلى الذات – نكون أو لا نكون، دار استانبولي، حلب، ط1، 2012.

4- إيمان محمد الطائي: دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية، مراجعة: محمد السيد عبد الرحمن، دار الجنان، عمان، ط1، 2014.

5- حسام أبو حامد: فن العزلة.. أن تكون سعيداً وسط الحشود، العربي الجديد - ضفة ثالثة، 27 أبريل 2020.

6- سماح العيسى: ما بين جحيم الآخر وجَنّة العزلة، مجلة المحطة إلكترونية، 23 ديسمبر 2022.

7- هناء جابر: العزلة... فن الوجود مع ذواتنا، مجلة العربية، الدمام، الإثنين 30/01/2023.

8- حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، دار الأكاديمية الحديثة، إسطنبول، ط1، 2023.

9- أحمد عبد الصادق: التطوير الذاتي – الشخصية المتكاملة، مكتبة النافذة، الجيزة، ط1، 2008.

10- محمود درويش: أثر الفراشة – يوميات، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط2، 2009.

11- أرتور شوبنهاور: فن العيش الحكيم -  تأملات في الحياة والناس، ترجمة: عبد الله زارو، دار الأمان ومنشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، الرباط والجزائر وبيروت، ط1، 2018.

رد فعل الطبيعة:

شكلت الحياة البدائية نمطًا نَوْعِيًّا، إذا جاز وصفها، كما تسمى الحياة، ولكن في تفسيرها العام، يتقلص مؤشر التفسير بشكل كبير، ويرجع ذلك إلى ضياع هذه الحياة لصالح جميع المكونات. يتذكر واعتماده على الصدفة في الحصول على الأسس أو المكونات، وعدم وجود تصميم يعيدنا إلى المعنى التوضيحي لهذه الحياة. وسائل دراسة عصور ما قبل التاريخ بطريقة مقبولة. على العكس من ذلك، فقد اعتمدت أسس المنهج العلمي والأنثروبولوجيا الأسطورية على مؤشرات محددة لدراسة هذا العالم البدائي، ولم تتغلغل في أصول معناه وتفسيره الرمزي في معظم الجوانب، بل اقتنعت في التفسير في بطريقة أحادية الجانب، تم اعتماد منطق المنهج العلمي كأفق واحد في تفسير الشكل العام للعالم البدائي، والمنهج الشامل يبحث عن سياقات عامة وفقدانها كان السبب المباشر للانفصال عن العلمي. طريقة من أقدم حياة بشرية، أن الفرد عاش دون أدلة للغد ودون التفكير بطريقة تؤدي إلى المستقبل، فمن الطبيعي أن يبتعد هذا العالم الفقير عن خصائص أو أسس أو مقومات الحياة، ونقص الوضوح في حياة الفرد البدائي هو خسارة هذه الحياة لأي فائدة، وحتى الجانب القديم المنطق غير واضح بشكل واضح فهو مناسب فقط بعد تكوين مجموعات ذات أفق واحد، والتي يمكن للمرء أن يسميها المجتمعات الصغيرة، والتي هي صراحة النماذج الأولية للدراسة التي يسعى إليها المنهج العلمي، والتي يمكن أن تخرج مع قبول مقبول النتائج.

هنا، في تفسيراتنا المعرفية، لا نذهب مباشرة إلى أفق جغرافية الفرد البدائي، بل ننطلق من الفكر الإبداعي والفلسفة الموضوعية لشرح القضايا التي ترتبط بعصور ما قبل التاريخ، ونعتقد أنه لا يوجد إنسان يكون دون جغرافيا، ولكن يكون أكثر فائدة إذا ما تم المقارنة بين جغرافية بشرية وأخرى، حيث إن النموذج البشري البدائي كان دون بيئة جغرافية محددة بمصادر تاريخية، ولم يتحدد وجود البيئة الجغرافية إلا بعد تكوين المجتمعات، حيث يوجد كانت مجتمعات أو مجموعات صغيرة تمارس جميعها الصيد البحري أو النهري، وهناك وحدة جغرافية تمثل بُعدًا هيكليًا بين أعضاء المجموعة، وهناك مجموعات أخرى تمارس الزراعة بشكل مشترك، حيث تجمع هذه المجموعة أيضًا بيئة جغرافية، من أجل مثال، نموذج البيئة في جغرافيا ببلاد ما بين النهرين مدعومة بنهر التاريخ الجغرافي ودجلة والفرات، وهذا الدعم يعطي المعنى العملي والحياة أيضا صورة أخرى، وهنا نؤكد أن الإنسان الفطري يكتسب من بيئته الحس الجغرافي والطبيعة. ونوعية الأرض ومستويات المعيشة العامة لمست الأرض من النوع الذي يمكن وصفه بروح سهل عريض ومنبسط، مما يعني أنه لا يوجد رد فعل صعب للغاية، والدتك غائبة ويقاومها البدائيون. والفرد أو المجموعة المرتبطة به، والحياة الأولى البدائية ليست رائعة جغرافيًا كما هي حياة المجتمعات الحديثة وعالمنا اليوم، لذلك في هذه الحياة البدائية لا يوجد على الإطلاق أي جهد بشري لمقاومة غضب الجغرافيا ولا توجد إمكانات مناسبة للشكل البدائي لمواجهة غضب الجغرافيا العنيف.

انتقل مفهوم الجغرافيا من الغريزة الأصلية إلى جغرافية الأيديولوجيات المثيرة للجدل، فالعالم البدائي سهل جغرافيًا وليس متعددًا مثل العالم الحديث أو المعاصر، حيث يوجد تعقيد كبير، وهناك حدود منفصلة ومشتركة، والعالم البدائي ليس له فواصل، بينما العالم الحديث يجد أن هناك فواصل بين دولة وأخرى، ولكن هناك حدود تفصل بين عدة دول موحّدة بالدين واللغة والتاريخ المشترك. ففي العالم البدائي يمكنك ترك أي جزء من العالم بدون جواز سفر، في حين أن العالم المعاصر له تعقيد أخلاقي عملي. وحدود التفسير السياسي ليست فقط الفصل بين بلد وآخ، بل هي أهداف سياسية متعددة بالإضافة إلى الجانب التجاري، وإذا كانت الأهداف السياسية هي طمس حدود معينة، فلن يتأخروا عن ذلك، إذا كان يدعم المصالح السياسية الكبرى لمن يقف وراء هذه الأهداف، وهذا عكس الجغرافيا، وهو ليس نتاج الطبيعة، ولكن صناعة الاستثمار، والتي فيها التفكير الجغرافي يعني بتضييق الخيارات البشرية من جوانب معينة وخصوصا السياسية، وفي الواقع كان جدار برلين بهذا المعنى، لأن الخيارات البشرية ضد هذا الجدار الذي قسم الشعب الألماني إلى نصف غربي وآخر فقد النصف الشرقي لأكثر من خمس سنوات بعقود، وهذا ما يسمى غضب الجغرافيا، وخصوصا من السياسة، التي تريد ما بعد البشر ضحايا الطبيعة ايضا تكون ضحية للسياسة.

جغرافيا العالم القديم من حيث الغضب والألم، لا تختلف عن جغرافية العالم الجديد، وخاصة عالم الجغرافيا السياسية. تفتقر الحياة البدائية إلى مكونات ضد الجغرافيا وعنف التضاريس، وكانت الحياة البدائية للفرد عالية جِدًّا في التعرض العام تقريبًا، ولم تكن الحياة في تفسيرها الموضوعي محصنة ضد الخطر. أما التضاريس المعاكسة، فكان الفرد البدائي قبل عصر الزراعة يتجاهل بعض الشيء أهمية المطر، ولعبت طبيعة المناخ الدور الرئيسي. هناك فرق كبير في التضاريس التي تلعب دورها في حياة الأفراد من الحياة البدائية حتى اليوم. في العالم البدائي، كانت الجغرافيا، بتضاريسها، طبيعية إلى أقصى حد ممكن، بينما على العكس من ذلك، فإن الجغرافيا السياسية المعاصرة غامضة ومعقدة بسبب كثرة النوايا، وتختلف إلى حد كبير مع المعارضة وحتى المتوافقة النية السياسية.

كانت غريزة الطبيعة الأولى في عصور ما قبل التاريخ في ذهن خالٍ من كل تلوث، وبما أن الحياة اتسمت بطبيعة غير مخلوقة وجامحة، وكان كل شيء في الحياة الأولى غير مزخرف، وهذا يقودنا إلى فكرة من خلالها الحياة يتمتع بنقاء كبير يفتقر إلى التاريخ الحديث، حيث أصبح كل الوجود مصطنعًا وأصبح الأفراد بنسب متفاوتة من الاغتراب، ولكن كلا منهم لديهم هذا التأثير النفسي المغير للعقل للمعنى الجميل للحياة، ومشكلة العلاقات الممتدة مثل كما أن لشبكة العنكبوت تأثيرا على نفسية الأفراد والعائلات أيضًا، كما أن للجغرافيا وتضاريسها تأثيرا واسعا، حيث يختلف مستوى التفاعل والتفاعل مع المطر، فضلاً عن وجود فرق بين هطول الأمطار في المدينة في النسب وخلافا لهذه الفكرة، هناك من يكره المطر، وقد ينوي آخر تحديد رفضهم للمطر، وهناك نمط من الصراع النفسي بين الفرد والتضاريس يصعب تحديده. ووفقًا للمؤشرات المنهجية لعلم النفس، حيث يمكن لوحدة الوقت أن تقفز فوق النطاقات العامة وتصبح المسألة مشوشة، ويصبح الفرد خارج نطاق السيطرة، وها نحن في أفق المقارنة بين بداية الحياة والحياة المعاصرة مثل المطر في الحياة البدائية التي لم يتدخل فيها الإنسان بأي شكل، بينما المطر في عصر التكنولوجيا المعاصرة لم يتدخل فيه. وأصبح التحكم الإلكتروني أكثر عمومية وشمولية.

لقد طرحت أرض الغضب في الوجود المعاصر أكبر المعضلات والمشاكل أيضًا من خلال العنف السياسي الأساسي. على سبيل المثال جدار برلين، الذي قسم الشعب الألماني بين جهة غربية وجهة معاكسة لها، وقسم تقسيم المعارضة الأيديولوجية السياسية، هو أحد أنواع الغضب الجيوسياسية. وهذه الروح البشعة لا تستحق معنى الحياة الذي يحيي العامل البشري. وعلى العكس من ذلك فهو من عوامل قتل الإنسان في النفس البشرية بأبشع الطرق. لقد أتقن الملوك والسياسيون ابتكار أنواع مهينة من التعذيب النفسي، حيث يجد كل من يفحص أقسى أنواع التعذيب في كيان التاريخ أنه من نتاج سلاطين وملوك وأساقفة ورهبان، بينما تجد أن هناك الكثير من الضحايا من معذبي العبيد الذين هم بشر مسالمون أرادوا تأكيد حريتهم في مصاير الأيديولوجيات أو نشوة الملوك والسلاطين لم يستجيبوا لهم، ولا يهتمون بأن الجغرافيا لا تهتم برغباتهم، وهي لا تراعي ولا تهتم بالمعنى ولو ضحك عليهم القدر، لما امتنعوا عن حرق العالم بلا رحمة، والحرب العالمية الثانية هي أحد الأمثلة في التاريخ الحديث حيث ربما لم تنخفض مستويات الألم إلى أدنى النسب. حتى الآن الذي يخسر الرهان هو الإنسان الذي يموت فينا دون رحمة منا نحن البشر، وهو محاط بأيديولوجيات وأديان ومناطق غاضبة من كل جانب.

شكل الاختلاف في التضاريس الجغرافية بين حياة الفرد البدائي وحياة الفرد المتحضر في الفلسفة الموضوعية هذا الاختلاف النوعي، ويمكن وصف هذا الاختلاف في عدة أطر: الجغرافيا هي حالة تنجذب إليها الروح، حيث توجد فقط واقع واضح دون تشويه أو تغيير في معالمه، ولم تكن الحياة وسيطًا لنفس الأيديولوجيات التي تسيطر عليها وفقًا لاعتقادها، وإذا تجاوزنا البعد الأخلاقي، فهناك البعد النفسي، والذي فيه جغرافية كانت الطبيعة الأولى هادئة للغاية من الناحية النفسية، وكان لهذا أثر إيجابي على أفراد البيئة البدائية، ويجب أن نعترف بأن هناك انسجامًا بين الفرد والطبيعة والجغرافيا للتأثير البصري للسمة الجمالية للطبيعة، الذي تميت رؤيته مباشرة، ولا يوجد فصل بين الطبيعة الجغرافية والفرد البدائي لهؤلاء ص من صنع الأرواح الأيديولوجية، التي لا تهتم بها النفس البشرية بمدى السعي وراء الغايات الأيديولوجية، وما هو الفرق بين مشاهدة طبيعة نمت وترعرعت بالفطرة، وطبيعة تشوبها المباني وتحيط بها من جميع الجهات... أفق المشاهد فرض وطبيعي نفسيا، أفق المشاهد مختلف بشكل ملموس، والحياة السعيدة هي التي لا حدود لها، وخالية من العوائق وفي حرية كاملة، في حين أن أفق الحياة الذي يظهر عدم الرضا، وعدم الرضا يجب أن يكون نتاج القلق النفسي القلق. الموقف، وإذا نشأ القلق فيه يمكن أن يتسبب في حالة من الانهيار، ولا نريد أن نميز حالة بصرية عن أخرى، لكن الأدلة والأدلة الحسية تشير إلى وجود فرق نوعي بين المشهد الذي يظهره البدائي. الفرد والفرد المتحضر، وبصراحة لقد تحول مفهوم الحضارة من المعنى الإنساني الإبداعي إلى المعنى في السياقية.

شكلت طبيعة الحياة المبكرة في تضاريسها المختلفة فتحًا واضحًا ومتعددًا لآفاق طبيعية غير مسبوقة، بينما تختلف طبيعة الحياة المتحضرة اختلافًا كبيرًا، حيث تتسبب المشاهد الطبيعية في اختلاف البعد البصري بشكل كبير، حيث تكون الطبيعة مقيدة ولا تظهر الحرية الواقع وفق أطر الواقع المعاش، بل يعكس بعدًا نَفْسِيًّا يتجاوز حدود القناعات، وتفسيرًا لظهور الطبيعة المثير للشفقة والمقيّد في إطار الفلسفة الموضوعية، يتجه سهمه نحو الرفض الأخلاقي. ولا تهتم الروح بترويج الجمال، بل تهتم بكسب العامل الاقتصادي وتوجيهه نحو المصالح المادية الشخصية. هناك الكثير من الأدلة على نفس الجشع لاستغلال الطبيعة لرغبات مادية شخصية. إن مسألة الإيمان بجمال الطبيعة الروحي يحتاج إلى ذوق يتناسب مع المغزى الجمالي وأيضاً الإحساس به، ولا يمكن ربطه به، ومن أجل المصلحة الذاتية، وبصراحة أفيد أن الجغرافيا قد غضبت وذهبت. وخسر بعض المستثمرين نتيجة ظروف طارئة غيرت مسار الفائدة من الربح إلى الخسارة. في 18 أكتوبر من العام 2019، دعا نظام تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول وفي فقرات هذا البيان إلى إيجاد نهج سليم للتفاوض، لكنه كان منحازًا في معظم الفقرات للمستثمرين، وهنا لا بد من أن نفرق بين مستثمر حر وآخر سياسي، وهما يشتركان في غصب أو استثمار مادي إلى حد بلا بعد إنساني.

إن شكل الاستثمار في الطبيعة بروح مادية لا تهتم إلا بالربح هو أحد الأمثلة الجشعة والقبيحة. نحن هنا لا نعترض على صيغة الاستثمار نفسها، بل نعترض على روح الجشع وقبح الاستثمار في الطبيعة وهو أمر غير صحيح في الموقف. تحتاج الطبيعة إلى العناية وليس التخريب لأغراض مادية. صيغ الاستثمار، وهي بصراحة ما يمكن تسميته انتقام الجغرافيا، لأن هذه الجغرافيا كانت حرة إلى أقصى حد في ظروف الحياة البدائية، والفرد البدائي في بداية الحياة الأولى لم يتدخل في قلم لا. جزء من جسد الطبيعة، والطبيعة في ظل ظروف معينة هي التي جردت جزءًا من جسدها وفقًا للفعل الفطري للطبيعة نفسها، وهذا التآكل هو إعادة صياغة غير نمطية للاستثمار المادي، وأن الفرد البدائي لم يتدخل، ونشير إلى أن التدخل حدث بعد إنشاء مجتمعات كاملة، حيث كانت الزراعة نشطة وتحولت من طرق ثانوية إلى أراض خصبة، كما تم إنشاء مثل السدود، ولكن السدود في عالمنا المعاصر أصبحت تسيطر عليها التغذية. ونسمة الأيديولوجيات. وهناك حواجز تشير إلى أهداف سياسية بين شعب وآخر، وهناك العديد من الأمثلة على تلك الذات المتواضعة، والتي في السياق المعاكس تحتاج إلى رد فعل من الطبيعة نفسها للانتقام من صالح نفسه الذي يخضع قسرًا لنفس الأيديولوجيات في ذلك الوقت ضده. الحس الإنساني، وأن السلوك السياسي هو بمثابة دعوة غير معلن عنها لحرب المياه، والتي نراها هنا وهناك أثرا مخزيا، ونفضل حرب المياه كبديل نوعي للحرب الحالية التي تستخدم فيها قوات عسكرية، وهذا الشنيع. استغلال الطبيعة إذا استمر منسوب المياه أبعد من ذلك، وسيتحول العالم إلى كارثة مأساوية في المستقبل القريب بسبب استثمار مادي، وسيكون هناك هذا الأثر الجغرافي المرعب بعد أن تضرب الأراضي الشاسعة بالجفاف، وستموت الخصوبة والهدية هناك.

لقد غيرت الجغرافيا العديد من المعالم في عدة أماكن حيث لعبت التضاريس الجغرافية الدور الأساسي في زعزعة المناخ، وهذا في وجهه تسبب في تراجع أرواح الاستثمار بالاتجاه المعاكس، وخسر المستثمر المركز الذي كان يتخيله. لمصلحته، ولو كان لمنفعة الطبيعة، ولغضب الجغرافيا، فقد كان عادلاً جِدًّا بالمعنى الفطري للطبيعة، والمسألة لا تقتصر فقط على إطار الاستثمار، بل سعت بعض الأيديولوجيات إلى الهدف السياسي والنتائج جاءت بنتائج عكسية وبعيدة عن المتوقع، وأحيانًا تكون الجغرافيا لعنة، كما في أمريكا المكسيكية بدأت اللعنة تتلاشى شمال نهر الضوضاء قبل أكثر من 170 عامًا، عندما اندلعت الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك. وخارج واحتلت أمريكا العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي، وبموجب معاهدة غوادا، مُنحت أراضي كاليفورنيا ونيفادا ويوتاه ومعظم أريزونا ونيو مكسيكو وأجزاء من كولورادو ووايومنغ، والسبب الأساس نفس سياسي، وهذه خسارة فادحة وتغير جغرافي مرير، وأنتج مأساة كبيرة. فالناس في تلك المناطق الذين انتقلوا من المكسيك إلى أمريكا، اليوم لا يشعرون أن جذورهم مكسيكية، وهذا النوع من استغلال الطبيعة لا مبرر له، وهو تأكيد على الانحدار البشع للسياسة، والجريمة البشعة لاستغلال الطبيعة بالقوة، والتي لم تمس في المراحل الأولى من الحياة البدائية، عندما كانت الطبيعة حرة تمامًا، ولا يمكن وصف أي جزء منها بأنه خاضع للاستغلال البشري البشع.

تشكلت الطبيعة منذ بداية الوجود وحتى اليوم، بالنشاط الجغرافي في التضاريس بعد الجوانب، والبعد الرمزي الذي يرفع بصره ونفسيته، وهذا ما يسميه إما احترام الطبيعة، أو قد يعتقد أنها كذلك. الصمت المقدس الذي يسعى لمخاطبة البشر بهذه الصورة الرمزية، حيث يجب أن يكون الفرد البدائي رَمْزِيًّا قبل أن يتأثر بالمحفزات الرئيسية مثل الشمس أو القمر، ويكون انقسام أسياده بعد تطور العلاقة، ولكن الفرد البدائي هو المستفيد الأكبر من الطبيعة الجغرافية. الماء الذي يشربه يأتي من الأنهار، وقد جرب بالتأكيد فرقًا بين مياه الأنهار ومياه البحر، وهناك أيضًا أسماك تعيش في طبيعة الأنهار، وبما أن الأنهار هي مصدر الحياة، فمن الضروري وجودها بتأثير على نفسية الفرد، وتطور إحساسه بالله، لأن طبيعة الماء من العوامل الأساسية في تطور واستمرار حياة الإنسان، وكذلك دور الماء في استمرار ونمو الحياة الزراعية، ولكن التطور السريع للحياة غير وجه ومضمون العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ثم تحول الإنسان إلى أسد شرس باستغلال الطبيعة أو توجيهها لصالح النظام السياسي وليس الحياة البشرية. فقدت الطبيعة هيبتها تمامًا عن طريق توجيه شكلها التاريخي مرة أخرى إلى استثمار جشع تمامًا.

لقد رسمت لنا الجغرافيا التاريخية عدة أشكال من الرفض، حيث توجد مراحل تاريخية مر بها البشر بسلوك غير عادل بشكل عام، وعارضت الطبيعة رفضًا قَوِيًّا، ومعظمنا يعرف قصة الفيضان التي مثلت اعتراضًا على طبيعة الحياة البشرية، وهناك صور متعددة لرفض الطبيعة متعدد الأوجه. وهناك أناس في التاريخ قريبون من الحياة البدائية الأولى اقتلعت حياتهم من جذورها بفعل ريح قوية، وفي التاريخ الحديث هناك العديد من الأمثلة على غضب الجغرافيا وثورة التضاريس من خلال مواجهة الطبيعة التي هزمت جيش نابليون نفسياً ووضعتها في نوع من التفاقم النفسي الذي لم يتأثر في الإطار العام، ولكن من المؤكد أن هناك الكثير من الأفراد الذين مروا بهذا التأزم وعانوا منه، ولم تتم دراسة التأثير النفسي أو العثور على الاهتمام المناسب، وتهتم الأيديولوجيات فقط بأنشطتها السياسية وأفعالها التي تتفاخر بها، بينما لا يزال دور الطبيعة وأنشطتها التي يتجاهلها الإنسان غير معروف، والتي لم تحظ بالاهتمام المناسب من التاريخ. دراسات ولا من العقل العسكري وغضب الطبيعة ليس لصالح الأيديولوجيات أو لصالح جماعة معينة، لكن الطبيعة تهتم بتوازن الحياة وتفضل الحس الإنساني في أفقها العام على الحواس الشخصية الأخرى.

منذ العصور القديمة كان العالم أيضًا خاضعًا لتقلبات مناخية طبيعية وغير طبيعية، لذا فإن تغير الفصول يمثل مشكلة معروفة، ولم يعد الناس من التاريخ القديم أو الناس من التاريخ الحديث يختلفون معها، وفي حالات عديدة وقف البشر دون أي رغبة في الرفض أو المعارضة. وعلي العكس من ذلك، غالبًا ما زار البشر، ونبدأ من التاريخ الحديث، عندما قتل حوالي 480 مليونا من الثدييات، وكذلك أنواع معينة من الطيور، وأنواع الحيوانات الزاحفة، بسبب الحرائق التي اجتاحت غابات أستراليا، ومن المحتمل أن تكون العديد من الحوادث قد وقعت في تواريخ سابقة بسبب حرائق في مناطق مختلفة من العالم، ووفقًا للمؤشرات التي أشار إليها خبراء البيئة، وطبعًا لا ندرج ذلك في باب انتقام الطبيعة، بل من خلال الوجود في الغابات الكثيفة، والتي من الطبيعي أن تمر بالنار، وهذا يعيدنا إلى استثمار الفرد البدائي في النار، والاستفادة من خشب الأشجار، ونعتقد أنه كان نوع مقبولاً لروح الإنسان الفطرية، وكما لعب الضوء الناتج عن النار دورًا فاعلًا في إضاءة ليلة الفرد البدائي، وأعتقد أننا أبناء. ولقد مرت حياة الحضارة والتطور بظروف استثنائية ولعب السياسة في بعض الدول الدور المؤسف، وكان استثمار الطبيعة بالصورة البشعة، والهم هو الجانب المادي.

إن خصائص الطبيعة في عصر الاستغلال، وغياب التاريخ المسؤول، والأنظمة المشتركة عالمي، ووجود الحضارة والكياسة، والتي يُضاف إليها التزمت والمناورات الأيديولوجية، تختلف عن عالم وجود كل هذه المكونات، وإذا كانت موجودة، وإذا كان الماضي البعيد مختلفًا جَذْرِيًّا عن العالم المعاصر، فإن الحياة البدائية ليست وصفًا يسمى حياة الفرد، ولكن أيضًا من خلال استنتاجات علم الاجتماع والإثنولوجيا والعلاقات متعددة الأبعاد، حيث يكون الفرد وفقًا للتعبير الفلسفي للفلسفة الموضوعية الذي يتفق مع الفلسفة الماركسية، هو أن الفرد كيان متعدد ومشترك، مَادِّيًّا أو أَخْلَاقِيًّا، وهذا هو الفرق بين الفرد البدائي الذي لديه لا توجد عناصر وتفان في تلك الألوهية المشتركة بنيوياً للمكونات المشتركة الأخرى، وبصراحة فإن آخر ما يفكر فيه الفرد هو الله المعاصر هو رب الفرد العلماني على وجه الخصوص، وبنسب أقل بين أعضاء التدين المشترك في كلي أو جُزْئِيًّا، لأنه ينجذب إلى التأثير النفسي الذي تفرضه الصلات المتعددة الأوجه بينة وبين الآخرين.

تتقدم بنية العالم بسرعة غير طبيعية، بينما تدور بنية العالم حول نفسه، وتشكل بنية العالم كان في نشاطه الحركي، تأملًا نِسْبِيًّا للمستقبل، مهما كان بعيدًا، لكن الفرد لا يفكر العالم المعاصر في المستقبل، لأن بنية العالم المعاصر منفصلة تمامًا تقريبًا عن التاريخ وفقًا لمؤشرات فوكو يا ما ، فقد وصل المنهج العلمي إلى أقصى حدوده الممكنة، والتي لم تعد لها علاقة ب اللحظة الحالية، وفي التفسير الموضوعي، تم قطع العالم المعاصر، حيث تمتلئ الحياة العلمية بالوجوه، والمثير هو أن اللحظة العلمية أصبحت مرة أخرى استخدام الطبيعة، حيث يتم دعم عالم الطاقة الشمسية في وجود الحياة بشكل ملموس، وكما استُخدمت من قبل بواسطة طاقة الماء، والتناقض بين أفق المستقبل في العوالم البدائية والمتوسطة والنهائية، كعالم ما بعد الحداثة الذي أوقف المنهج العلمي في أفق الميتافيزيقيا الجديدة، حتى لا ينحدر إلى العدم، وأن أفق المستقبل كان غائبًا في الحياة، وهذا يقودنا إلى فكرة أن بمساره لقد أصبح المنهج العلمي يدور حول أفق التطور الإلكتروني، الذي لا يعيق السعي وراء مساره، لكنه بصراحة عالم فارغ خال من المعنى البشري في أقصى الحدود إلا في النظرة العامة للحياة، وتلعب السياسة المعاصرة الدور في هدم جمال الطبيعة، ففي الحرب العالمية الثانية استغلت الطبيعة بشكل بشع، واليوم أسوء الاستغلال، ونعتقد أن الحرب العالمية الثالثة هي حرب المياه حسب ظروف الواقع.

إذا كانت الطبيعة ذات وعي صامت، كان على الفرد البشري المعاصر أولاً أن يفوضها بحسه الإنساني، ولكن تشتت كيان الفرد وتوزيعه في اتجاهات عديدة، وهذا يمكن أن يكون في موضع أو سؤال محدد، وهذا التشتت وهذا التوزيع هو من عيوب الحياة المعاصرة، وتفسح الأزمنة الطريق تعبر الطبيعة عن صمتها، لكن هذا لا يصدم الفرد المعاصر ويجعله يشعر أن الحياة فيها تستغل أحيانًا في أبشع أشكالها وبأسوأ معانيها، وهدير البراكين للأسف يذهب سدى، أو يفسره فقط الجانب السلبي، والطبيعة لا تجده اليوم من دعم الإنسان، لكن الاستغلال الجشع لم يتوقف. ولا يوجد مستثمر ينسحب بعد إبعاد الإنسان عن وجوده، وأصبح الفكر الشخصي أساس وجود الحياة، وتغير موقع المعنى الإنساني في الفكر الإنساني، وانتقل الدين من تسييس الكنيسة إلى أخرى أكثر سياسات قاسية وقاسية، فالدين الجديد من خلال الإسلام يدعي الليبرالية، ونؤمن بأن ذلك داخل النظرية، وهذا الدين ليس بصلابة، وأما الإسلام البشري فهو نفسيا عصيبا جدا، ويتطور السلوك في أحيان يكون بقسوة مرعبة، ولا يختلف عن استغلال الطبيعة.

***

محمد يونس محمد 

اذا بحثنا عن ركن يجمع الدين والدولة، فلابد أن نعيد الدين الى اصوله النظرية، ويكون هناك في بنية الدولة الدين وجه الشريعة، لكن الدين هو هنا اصلا يراد له اعادة تفسير من جديد خارج حدوده المذهبية، والا سيكون في مواجهة الدولة شريعة متعارضة مع نفسها، لذلك بنية الدولة من حقها وضع القانون الوضعي امام الواقع الاجتماعي، ورفع قيمة تلك العقيدة الملتبسة الى اعلى لتكون من القيم الكبرى التي لا تمس، ومن خلال محافظة بنية الدولة عليها ستكون في مأمن، واذا اصاب بنية الدولة أي ضرر، فحتما سيصيب ذات الضرر تلك القيم الكبرى، واذا تعرضت بنية الدولة لهجمة من المعارضة ويصبها الضرر الفادح، واصعب ضرر هو اذا اقامت المعارضة السياسية بعد استيلائها على الحكم الى استبدال تلك الدولة بأخرى، وذلك سيسبب اضرارا فادحة، ويفقد مفهوم العدالة بشتى تنويعاته، وتشكل الحاجة الملحة   الى الدولة في كونها نظام شاقولي، والدولة (لا تعني الامتلاك الفعلي للسلطة العليا والحق في الحصول عليها فحسب، بل تعني الحق الطبيعي المصون في سلطة عليا لا تستمد علوها ممن يخضعون لها وهي في الوقت نفسه فوقهم)1، وتلك المعادلة في كون الدولة النظام الذي هو ارقى وفوق الجميع، هو لصالح الجميع سيكون وليس لصالح الدولة نفسها فقط، والرقي والتطور ينبثق من خلال نظام الدولة، وذلك من الممكن أن يشمل حتى القوانين الكبرى المرابطة بالدستور .

من الممكن أن تفسر الدولة بذلك الوعاء الذي يمتلك مقدرة عجيبة في حفظ القيم العليا، والدين دون الدولة عرضة للتجاذبات المتنوعة الإيقاعات، والتي تحتمل تعارضا حادا فيما بينها، ومن الطبيعي أن تجد هناك نفسا شاذا، ولا يتوافق مع الذائقة العامة، وهنا سينتج دين مشوه وبعدة أطر تفسير جديدة، وكل تفسير يسعى لفرض نفسه، حتى لو تطلبت القوة إلى ذلك، وفي واقع الإسلام السياسي لا تعني الدولة إلا ذلك المفهوم البغيض، ففي ما تشكل قوانين الدولة العضوية سيان كانت ليبرالية أو دكتاتورية الرفض على اعتبارها تتعارض ومبادئ الإسلام الحنيف، لذلك تجد الدولة مغلوبة على امرها عندما يسود الاسلام السياسي، والدولة في كيانها  الحقيقي تدرك تماما ما معنى العدل، وتهدف الى ترجمته بصورة عادلة لا تميز احدا على اخر، والدولة ليست سلطة في المظهر كما تفسر عند الاسلام السياسي، بل هي معنى القوة والعدالة والانصاف، فيما انصاف الاسلام السياسي يمر من خلال قناة الحلال والحرام المسيسة، وذلك بعيد كل البعد عن المنطق والصواب، واحالة الفكرة الى العقل السليم والحر، فمن الطبيعي سيكون شطب الاسلام السياسي وظيفيا هو امر اساس، وقضية ملحة لا يمكن التخلي عنها، والعقل يضع الدولة المدنية في نصابها الاساس وفوق الجميع، فهي المعنى الاجدر للعدالة، والذي يتفق تماما مع جوهر الاسلام الحنيف، وتلك الطبيعة الروحية الجديرة بالمعنى السلمي تماما .

لقد تجاوز الاسلام السياسي كل المسميات التاريخية التي سقف عليها ركن الدولة، ولم يجعل الدولة المدنية سوى ذلك الهامش البائس، وجعل سياسته الدينية هي المتن، الذي لابد أن تقف عنده جميع التطبيقات العضوية، لكن لا ننكر بأن هناك اعراف وشرايع تدعو بروح علمانية الى اكتسابها في التطبيق، وكما أن هناك مادة بشرية

مؤهلة للقبول والرفض، فالمسألة بطبيعتها المركبة ما بين العضوي والديني، فمن الطبيعي أن تنقسم المادة البشرية على نفسها، وذلك الانقسام  يؤشر وجود تعارض مسميات، والعالم البشري ليس هو عالم المفاهيم، والدعوة الى المزج بينهما تتم عند الاسلام السياسي، لكن لا تتم عند القانون المدني، فحكم قطع يد السارق فيه القانون المدني يتصل مباشرة بجوهر الدين، لكن مظهر الاسلام السياسي يهتم بقطع اليد وعتبرا بأن النص فيصل وهو يحكم بذلك، لكن مضمون النص لا يجعل السماء بلا عدالة ولا رأفة ولا حكمة، بل الحكمة هي المعيار، فقطع اليد يعني المنع وليس كما يجهر الاسلام السياسي يقطع عضو اليد كاملا معارضا الحكمة الربانية من جهة، وما كرم به البشرية بيد للعمل وتناول الطعام في الافق العضوي، واما العبادة حسب الدين السياسي ستفقد احد اركانها، ولا يحاسب الدين السياسي نفسه على هذه الجريمة التي قام بها ضد معنى الشريعة وجوهره من جهة، ومن جهة اخرى ضد  المعنى المدني والإنساني سوية، ومن جهة ثالثة وضعت احد افراد المجتمع في عوق عصيب، والغريب يلتقي الدين السياسي بإثم الحروب في قطع الاطراف بلا ادنى رحمة او شفقة .

شكلت الدولة المدنية طيلة تاريخها رسم جميع الامور بدقة متناهية، فهناك فرق دينية، وهناك ايضا ايديولوجيات، وهدفت الدولة المدنية الى جعل الجميع امامها من الادنى بالتساوي، فليس هناك تفاوت او تفاضل او تمييز ابدا، ومن الممكن أن يقوم بالتفاضل الفرق الدينية نفسها، او تسعى الايديولوجيات الى التمايز، لكن الدولة هي القيمة الفنية العليا، والتي من المستحيل أن تمس بسوء أي مذهب ديني او ايديولوجيا علمانية، والدولة هي الجهة التي تمكنت من جمع الدين والعلمانية على السواء دون ضرر او مثلبة، فيما الواقع لكل من العلمانية والدين السياسي يتعارض تماما، وهناك نسب من الاتهام تكال من الطرفين، فالإسلام السياسي يجد العلمانية  تجذب البشرية الى الحد الذي تتجاوز سقف الاخلاق العامة، بل تزيح حتى ورقة التوت، فيما العلمانية ذاتها ايضا تتهم الاسلام السياسي بالتعامل بطريقة لا تليق بالمعنى الديني والحكمة التي يتصف بها، وهذا الصراع ما بين جهة عمياء واخرى بلا بصيرة، في وجه الصراحة التامة، تلك الخصومة التاريخية اضعفت القانون الديني داخل بنية الدولة، وكذلك جردت المعنى الاخلاقي للقانون من معناه وافرغته منه، وهنا صار القانون لا ينظر ابدا بمعنى انساني للعدالة، بل هي حق لابد أن يقوم ويأخذ به، ولذلك اصبح القانون بلا روح، وقد اختلط القانون بالظلم، والعدل بالخطيئة، وتخلى القانون في جميع دول العالم عن الحكمة، واصبح عصا غليظة جدا اسمها القانون، وقد قدم لنا  في الرواية المهمة  - البؤساء – احد الامثلة المهمة، فاللص الذي يمتلك روح انسانية قادته الظروف الى أن يكون ذلك المحافظ النبيل الشهم والعادل، وقبالته ذلك الشرطي الذي حولته الظروف ايضا من شرطي في السجن ذاته ليكون يعمل عند ذلك المحافظ، لكن في النهاية يدرك الشرطي بأن القانون الحقيقي ليس في صفه فينتحر، ونحن في قصدنا هذا نتوخى وجود دولة الله وليس دولة البشر، فكيف يكون بشر يحكم بشر اخر ربما يكون اكثر عدلا منه، ومن الطبيعي الدين السياسي والايديولوجيات تسعى لفرض قانونها، فالدين السياسي يضعك امام وجود النص القرآني الخارجي، وتكون مجبرا على التسليم والاستسلام، واما العلمانية السياسية تصرح لك بأنك امام قانون الدولة، فيما هي تدير دفة القانون حسبما تريد ويرضيها .  

***

محمد يونس محمد

منهجُ التحليلِ الاجتماعي لَيْسَ أداةً للسيطرة على الإنسان، وإنَّما هو آلِيَّة فكرية لتحرير الإنسان مِن سَطْوَةِ الأحلام المَقموعة، والصِّراعاتِ الشُّعورية المَكبوتة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى الحِفَاظِ على حَيَوِيَّةِ الروابط الوجودية بين الإنسانِ والبيئةِ المُحيطةِ به، وتفعيلِ العلاقات المصيرية بين العقلِ الجَمْعِي والوَعْي القَصْدِي، بِوَصْفِهَا قواعدَ رافعةً للبناء الاجتماعي، وأنساقًا ثقافية تَحْمِي المُجتمعَ مِن الاغترابِ عن طبيعته الإنسانية، وهُويته الحضارية، وسُلطته المعرفية. ولا يُمكِن للإنسانِ أن يَبْنِيَ أبعادَ شخصيته على قواعد البناء الاجتماعي، إلا إذا عَقَدَ مُصالحةً بَين حُرِّيته الإبداعية وسُلطةِ المُجتمع المعرفية، وَصَنَعَ تاريخًا شخصيًّا لأحلامِه وشُعورِه ووَعْيِه، يَحفظ التوازنَ بين المعاييرِ الأخلاقية والأنساقِ الثقافية، لِكَيْلا يَحْدُثَ تآكُلٌ في شخصية الفرد الإنسانية، أو انحسارٌ في مصادر المعرفة التي تَتَحَكَّم بالترابطِ المادي بين مُكَوِّنَات الطبيعة، والتواصلِ الرُّوحي بين عناصر التاريخ.

2

تحريرُ الإنسانِ لا ينفصل عن حُرِّية المُجتمع. والإنسانُ والمُجتمعُ لا يستطيعان إدراكَ جَوْهَرِ الوُجود- واقعيًّا وذهنيًّا- إلا بتحويل الأشكال البدائية للوَعْي الإنساني إلى تيَّارات فكرية قادرة على طرحِ الأسئلة المصيرية، والجَمْعِ بين المَصلحةِ الشخصية والمَنفعةِ الجَمَاعِيَّة، ضِمْن فلسفة الفِعْل الاجتماعي الذي يُعيد الاعتبارَ لإنسانيةِ الإنسان، عن طريق تكريس الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية كإحساسٍ مُتَجَدِّد بقيمة الذات، وَلَيْسَ وسيلةً لخداع الذات. وهذا يَعْني أنَّ العلاقات الاجتماعية لا تُصبح أنظمةً حياتيةً فَعَّالَةً إلا إذا امتلكَ الإنسانُ القُدرةَ على صناعةِ الحَاضِرِ،وعدمِ الهُروبِ مِن الماضي،وامتلكَ المُجتمعُ السِّيَادَةَ على مَسَارِه- جَوهريًّا وشكليًّا-. وعمليةُ خِدَاعِ الذاتِ هي مُحاولة يائسة للإفلات مِن الحواجزِ الزمنية والحُدودِ المكانية،لأنَّ الإنسان لا يَتَحَرَّك في الفَرَاغ، ولا يُوَلِّد أفكارَه مِن العَدَم. إنَّ الإنسانَ كائنٌ خاضعٌ لأنماطِ الحياة التي يُفْرِزُها الزمنُ، وكَينونةٌ تابعةٌ للتَّنَوُّع الثقافي الذي يُفْرِزُه المَكَانُ. وبالتالي، مُوَاجَهَةُ الذاتِ أفضل مِن خِدَاعها، وإيجادُ أجوبة وجودية منطقية عن الأسئلة المصيرية أكثرُ جَدْوَى وأهميةً مِن الالتفافِ على الحقيقة، والتَّهَرُّبِ مِن التحديات.

3

الأساسُ الفلسفي لمنهج التحليل الاجتماعي يقوم على رُكْنَيْن : تحرير الإنسان وحُرِّية المُجتمع، وهذا يَضمن انتقالَ الأحلامِ الفرديةِ والطُّموحاتِ الجَمَاعية مِن قَبْضَةِ الزَّمَن إلى أُفُقِ التضامن الاجتماعي، ومِن حَيِّزِ المَكَانِ إلى فضاءِ التفاعل الرمزي بَين اللغةِ والفِعْلِ، ومِن دوافعِ الغريزة إلى سِيَادَةِ المعايير الأخلاقية. وعمليةُ الانتقالِ لا تَحْدُث بِمَعْزِل عن العقل الجَمْعِي، لأنَّه أساسُ التجانسِ الثقافي، ومَنْبَعُ التواصلِ اللغوي، ومَصْدَرُ الشُّعُورِ والوَعْيِ. والعَقْلُ الجَمْعِي يُمَارِسُ سُلطةَ المعرفة في العلاقات الاجتماعية لتخليصها مِن الهَيمنة والتَّبَعِيَّة، ويَضَعُ الشروطَ لتحقيق المُصلحة المشتركة بين الإنسانِ والمجتمعِ. وهذه الشروطُ مُترابطة معَ بُنيةِ الواقع المُعَاصِر، الذي يُقَدِّم فهمًا جذريًّا لمنظومةِ النَّقْدِ والنَّقْضِ الخَاصَّةِ بالسِّيَاق الزمني الذي نَشَأتْ فيه فلسفةُ الفِعْلِ الاجتماعي، التي تَحْمِي الأحداثَ اليوميةَ والوقائعَ التاريخيةَ مِن التَّحَوُّلِ إلى سِلَعٍ ثقافية للاستهلاك الأيديولوجي. وإذا كانَ الفِعْلُ الاجتماعي يُفَسِّر الواقعَ المُعَاصِرَ ويُغَيِّره، باعتباره كِيَانًا فكريًّا احتماليًّا، ولَيْسَ شيئًا حتميًّا، فإنَّ سُلطة المُجتمع المعرفية تُفَكِّك شخصيةَ الإنسانِ وتُرَكِّبها، باعتبارها مَاهِيَّةً وُجوديةً نِسْبِيَّةً، ولَيْسَتْ حقيقةً مُطْلَقَةً، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة بناء شخصية الإنسان مِن مَنظور واقعي، يتعامل معَ حيويةِ العقلِ الجَمْعِي كأداةٍ للإنقاذ، ولَيْسَ عِبئًا ثقيلًا يتمُّ التخطيط للتَّخَلُّص مِنه، ويُؤَدِّي - كذلك - إلى إعادة بناء التنظيم الاجتماعي مِن مُنْطَلَق عقلاني، يتعامل معَ انفجار الطاقة الرمزية اللغوية كآلِيَّة للخَلاصِ، ولَيْسَ شِعاراتٍ رَنَّانَة يتمُّ المُتاجرة بها لتحقيق مكاسب شخصية. واتِّحَادُ المَنظورِ الواقعي معَ المُنْطَلَقِ العقلاني يُسَاهِم في اكتشاف جُذورِ الحُلْمِ الإنساني الذي تعيش فيه الأنساقُ الثقافية، ويَعيش فِيها، كما يُسَاهِم في مَنْعِ المُجتمع مِن التَّحَوُّل إلى هِجْرَة وجودية مُستمرة مِن الأحلام الوردية إلى الكوابيس المُزْعِجَة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في المثقف اليوم