بأقلامهم (حول منجزه)

التسامح قيمة إنسانية ودينية عليا

من اشد ما واجهه الفلاسفة والمصلحون والمفكرون ومن قبلهم الانبياء والرسل، هو تغيير عادات وتقاليد المجتمعات وقيمها الموروثة واحلال قيم جديدة بدلا منها، خصوصا اذاكانت هذه العادات قد ترسخت عبر قرون من الزمن، فعسير جدا ان تنتزع الانسان من موروثه وما الفه من عادات وتقاليد وقيم تشكلت عبر الزمن ثم تستنبت قيما اخرى جديدة وتحلها محلها، ولهذا كان عمل المصلحين والمفكرين شاقا والعبء الذي تحملوه في سبيل ذلك كبيرا والتضحيات التىقدموها جساما، فقد لاقوا من مجتمعاتهم العنت والقسوة والحرمان والسجن بل والتنكيل بهم كما نرى ذلك جليا في تاريخ المجتمع البشري، لقد كانوا يتحاشون وضع اسمائهم على مؤلفاتهم في زمن حياتهم خوفا من بطش السلطة الدينية والسياسية آنذاك ؛

ومفهوم التسامح بما يحمل من معنى  قيمي هو جديد على ساحتنا العربية والاسلامية  التي تعج بالتعصب بكل ابعاده والعنف والاستبداد السياسي والديني واقصاء الاخر المختلف دينيا اومذهبيا او عرقيا بل محاولة الغائه تماما، وهو جديد على مجتمعاتنا  التي تسيطر عليها جماعات التطرف الديني نتيجة لتوظيفها للنصوص الدينية بما يخدم مصالحها، لان التسامح بمفهومه الجديد يعبر عن حق اصيل من حقوق الانسان، حقه في اختيار العقيدة والفكر والتعبير عن آرائه بكل حرية ويعني فيما يعني قبول الآخر المختلف دينيا او مذهبيا او عرقيا اوفكريا  وعدم اقصائه  او الغائه يعني التعايش السلمي بين  مختلف الديانات والملل والاعراق ، وبعبارة اخرى يعني نبذ التعصب بكل مظاهره وابعاده ولا يخفى على احد مدى الحاجة الماسة لمجتمعاتنا العربية والاسلامية للتسامح وخصوصا في ظل الظروف الراهنة  التي ادت فيها سيطرة الفكرالاحادي الالغائي على ساحتنا العربية والاسلامية الى ما نراه من  تقاتل وتطاحن طائفي مؤلم ومن ثم اشاعة  الثنائيات البغيضة عبر فضائيات الكراهية فهناك دار شرك ودار ايمان ودار كفر ودار اسلام فسطاط كفر وفسطاط ايمان الى ان اصبح القتل على الهوية وما يجري في العراق وافغانستان وباكستان دليل صارخ على سيادة منطق التعصب والعنف والاقصاء بل الاستئصال والالغاء.104 tasamoh2

من هنا تأتي اهمية كتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الاديان والثقافات"  لللباحث والكاتب القدير الاستاذ ماجد الغرباوي  كتاصيل لهذا المفهوم ومحاولة لتبيئته، اي نقله من بيئته التي ولد فيها  واستنباته في بيئة اخرى، وهي مسألة ليست هينة بل تحتاج الى تظافر جهود وعمل توعوي وثقافي متواصل لغرس هذه النبتة الجديدة  وتعاهدها  حتى تؤتي ثمارها، ونحن عندما نقول ان هذا المفهوم بما يحمل من مضامين حديثة تعتبر جديدة على  بيئتنا الفكرية العربية لا ننفي  وجوده بمعناه الاخر الذي يتضمن المنة والتفضل،لان التسامح كمفهوم يحمل قيمة اخلاقية تتناسب مع مضمون الكلمة لغة لان التسامح في اللغة هو التساهل  والجود يقال فلان سمح اي جواد فالتسامح كان يدل على  تنازل الشخص عن حقه تكرما ومنة،  لكن هذه الدلالة – كما يقول المؤلف- "تطورت بفعل التنظير الفلسفي لتتحول الى جزء من واجب تفرضه الحرية الشخصية التي يراد لها ان تكون متساوية بين الجميع، فلكل فرد حقه في الاعتقاد وحقه في التعبير عن رأيه، وليس هناك ما يبرر احتكار هذا الحق لجهة دون اخرى، فقبول الآخر وفقا لهذا الرأي ليس منة وانما واجب تفرضه الحرية الشخصية "

وقد ولد مفهوم التسامح في العالم الغربي نتيجة  حاجة ملحة كما هي حاجتنا في مجتمعاتنا الى اشاعة هذا المفهوم  وهي حاجة كان يفرضها الواقع المؤلم الذي كان يعيشه آنذاك ش من صراعات سياسية وحروب دينية وعرقية  وتعصب ديني وطائفية ،  وقد كتب الفيلسوف الانجليزي جون لوك في اواخر القرن السابع عشر عندما كان هاربا الى هولندا   "رسالة في التسامح"  ضمنها المعاني الجديدة لهذا المفهوم، والعجيب انه لم يجرؤ أن يضع اسمه على هذه الرسالة خوفا من بطش السلطة الدينية والسياسية الا قبل وفاته بمدة قصيرة  ؛ثم استمر التاصيل لهذا المفهوم الى ان أصبح قيمة مهمة كما نراها اليوم في المجتمعات الغربية ؛

واضافة للحديث عن التسامح بمعنا ه المعاصر من حيث دلالاته ومساحاته التي يشملها  تحدث المؤلف عن الاسباب التي تحول دون اشاعة هذا المفهوم في مجتمعاتنا الاسلامية وقد عبر عنها بمنابع اللا تسامح وهي سيادة منطق العنف والاحتكام اليه لا الى القانون فقد  اعتبر في كثير من مجتمعاتنا  قيمة اساسية فالقوي يهاب ويبجل ويحترم لقوته وهوقوة فاعلة ومؤثرة في وسطه الاجتماعي بل  تحول العنف الى منهج في تفسير التاريخ وقراءة الاحداث،ومن هذه المنابع الولاء القبلي وما يسببه من صراعات عشائرية واحتكام لقيم القبيلة،وعدم الولاء للقانون والدولة،ومنها سيطرة القيم الموروثة والعادات والتقاليدوما تلعبه من دور في تشكيل وعي الفرد ثم المجتمع؛ ومنها الاستبداد السياسي الذي يعتبرالخصم الرئيس للتسامح لان الاستبداد السياسي يعني رفض الاخر وتهميشه لذا لا يمكن التوفيق بينهما،ومنها التطرف الديني الذي يعده المؤلف اخطر منابع اللاتسامح على الاطلاق وذلك لانه يوظف فيه النص الديني  فهو يمارس تحت غطاء شرعي كالجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما من العناوين الشرعية ؛

وبالرغم من تاكيد الديانات والشرائع السماوية على المحبة والعفو والرفق والمواساة وما اليها من اخلاق، الا  ان اغلب الحروب  والصراعات عبر التاريخ كان طابعها دينيا،فلا نعدم ان نجد  نصوصا في الديانة اليهودية والمسيحية  والاسلام  تتحدث عن محبة الاخر واحترامه والمساواة بين الناس والعدل والرحمة  بل هذه النصوص ليست قليلة في الشريعة الاسلامية الا اننا نرى ان الحروب في الغالب قامت باسم الدين  وبحجة الدفاع عنه، وهذا يعني توظيفا سيئا للنص الديني وتغييبا متعمدا لنصوص العدل و الرحمة والمحبة والمساواة والصفح ومقابلة الاساءة بالاحسان وغيرها، وهذا ما اشار اليه المؤلف عند الحديث عن بعض النصوص الموضوعة كحديث الفرقة الناجية وكيف وظف توظيفا سيئا عبر التاريخ وهو من الاحاديث الضعيفة جدا، في المقابل تم تغييب كم هائل من نصوص التسامح والعدل والرحمة والعفو بحجة النسخ وهي حجة واهية لاتصمد امام النقد ؛

ان مفهوم التسامح بما يتضمن من حمولة دلالية جديدة ليس آبيا على التطبيق لاننا نعيش بين ظهراني مجتمع- المجتمع الاسترالي - بالرغم من تعدد الاديان فيه والثقافات والتجمعات الاثنية الا ان الجميع يعيشون في ظل هذا المفهوم فلا اقصاء للآخر ولا تمييز عنصري او ديني،الكل يستطيع ان يعبر عن رايه  ويعتنق العقيدة التي يقتنع بها بكل حرية ولا عبرة بالشاذ النادر .

***

عاشور البدري

.....................

* بمناسبة حفل توقيع كتابي التسامح ومنابع اللاتسامح وتحديات العنف لماجد الغرباوي، في سيدني – أستراليا.

30-9-2010