بأقلامهم (حول منجزه)

صالح البياتي: ماجد الغرباوي.. باحث في التراث الإسلامي بوعي معاصر

مقدمة: من نافل القول ان نعرّف الأستاذ ماجد الغرباوي لقارئ المقال، فهو غني عن التعريف لمن قرأ له كتابا من كتبه العديدة، سواء المطبوعة أو المتاحة على الإنترنيت. ولكن للضرورة التي يقتضيها موضوع المقال أبحنا لأنفسنا ذلك.

الأستاذ ماجد الغرباوي؛ باحث مثابر دأب الحفر في طبقات التراث الإسلامي، التي ران عليها التحجر والجمود، في عملية شاقة، بحثا عن حقيقتها ومدى صدقيتها، وفق منطق العقل والعقلانية، وهي عملية نقدية تتطلب خبرة في التراث وطرق تناوله. لهذا يقول وهو يستعرض صعوبة تحدي التراث الفقهي باعتباره جزءا من التراث بشكل عام، لقوة رسوخه وتداخله مع إشكاليات أخرى: "... التراث الفقهي جزء من إشكالية أوسع، تخص الموقف من التراث بشكل عام، وهي أشكالية ملتبسة جداً، وقد دار حولها جدل واسع، واختلف الموقف منها. فالتراث يمثل جزءاً اساسيا من هوية الامة، لا يمكنها التخلي عنه، بل ولا إتخاذ موقف محايد منه، لأننا أمة تراثية، لا تعيش خارج التراث"[1]. وهو هنا يقصد التراث الفقهي على وجه خاص، وليس عمومه. ولا شك أنه جهد كبير، فالتراث الفقهي تراث واسع ومتشعب يحتاج الى كفاءة لنقده وتمحيصه. التراث له أدواته القوية التي يستخدمها، لكبح حركة المجتمع وتعطيل طاقته وقدرته وشلّ وعيه، فيتطلب نقده أدوات أقوى وأقدر على بيان حقيقته. لهذا يخلص للقول بجرأة وشجاعة، خالية من التحدي الكبير، بل كما عرفناه باحثا عقلانيا في رؤيته للواقع، يقول "فنحن بحاجة إذاً إلى إعادة تنظيم علاقتنا بالتراث واتخاذ موقف واضح منه، يحررنا من سلطته واستبداده وسطوته، ويحفظ له مكانته التاريخية"[2].

يثير هذا الطرح سؤالين، الأول: هل هناك تداخل بين التراثين، الفقهي، والثقافي والإجتماعي، بحيث من الصعب الفصل بينهما؟ أم هناك ما يميز كل واحد من هذه الأقسام؟.

والسؤال الثاني: كيف يمكننا الحد من استبداد التراث مع الحفاظ على مكانته التاريخية في آن واحد؟ (سواء كان التراث الفقهي أو الثقافي الإجتماعي)؟. وأسئلة كثيرة تفترع على هذين السؤالين.

يذكرني وضعنا في هذه الإشكالية، بكهف إفلاطون، حيث يختبئ أناس في ظلام الكهف، وعندما يرون الشمس خارج الكهف، يحسبونها ناراً متقدة تحرقهم، إذا حاولوا الخروج والإقتراب. ولذلك قلنا ان الأستاذ الغرباوي باحث في التراث بوعي معاصر، تدور كتاباته حول الوعي، يؤكد ويراهن عليه دائما.

ظهرت كلمة الوعي في تعريفها البسيط عند جون لوك: "بأنه الإحساس بما يمر بعقل الإنسان". وأما الوعي في نظر ماجد الغرباوي الذي يعول عليه في آرائه التنويرية فهو يعني: (إدراك الحقيقة، وتشخيص الواقع، وتحديد الأولويات، وتمييز الالتباس واكتشاف التزوير. فالشعوب الواعية شعوب يقظة متبصرة.. والإنسان الواعي لا يتهيب الممنوع، وإنما يتوغل في الشك حتى يفهم الواقع ولا تضلله الشعارات، ولا يستغل، وإنما هو إنسان مرهف الحس، قلق، متوثب، يصغي ليدرك ويناقش ليفهم، ولايتحرك إلا عن قناعة ورؤية واضحة[3]. ويقول في موضع آخر: (والوعي يعني إدراك الواقع وفقه ملابساته وتشخيص أخطائه بعد تفكيك مكوناته ومحاكمة أنساقه. والشخص الواعي مرهف الحس، شديد الحساسية أزاء التزوير والمغالطات، فلا يتكيف مع الواقع المزوّر، بل يعيش في حالة من الغليان والثورة الداخلية ضد القيم المصطنعة، ويتطلع باستمرار إلى التجديد والإصلاح. أو يعيش حالة إغتراب داخلي، تعيق حركته)[4]. بل أنه يرتهن النهضة بالوعي، حينما يقول: (عندما ننقب في ماضي الحضارات المتطورة بحثا عن عومل نهوضها سيتمثل أمامنا الوعي في صناعة نهضتها، كما سيتضح أن التطور الحضاري يبدأ دائما من أول بوادر الوعي، بل إن صدقية التطور على أرض الواقع، إنما يتحقق إذا أتيح للوعي أن يسود المفاصل الحياتية في المجتمع)[5].

من جانب آخر، ينظر الفلاسفة، وعلماء النفس، وعلماء الأحياء، أو علماء الإجتماع الى الوعي بطرائق متمايزة، وكذلك تفعل العامة الذين يسمعون ليلاً ونهاراً أن بعض المسائل فشلت أو أنها تفشل في دخول "وعيهم"، ولابد من أنهم يتساءلون فيما إذا كان الوعي هي التسمية النخوبة المثقفة، التي تدل على حالة "اليقضة " أو الإنتباه أو ببساطة على وجود عقل"[6].

إخفاقات الوعي

في كتاب (إخفاق الوعي الديني، حوار تداعيات النكوص الحضاري)[7]، الذي هو كتاب حواري، يتكلم عن الوعي ودوره في النهضة المرتقبة، وينسب للوعي تقدم ونكوص الأمة بالدرجة الأولى ثم تأتي العوامل الأخرى. بدءا هناك ملاحظة هامة جدا، وأنا أتناول في هذه الفقرة طريقته في الحوار، حيث يسمي أسئلة المناقشة الحوارية بـ (بَوصلة المتحدث) وهذا التعريف العلمي يحسب له. فأسئلة المحاور تعتبر بوصلة تكشف عن مستواه العلمي والثقافي، وقدرته على الحوار وطرح الأسئلة. يقول وهو يرد على أحد الأسئلة: (تبقى الأسئلة بوصلة المتحدث)[8]. فالغرباوي بامكانه اكتشاف محاوره من خلال اسئلته التي تكشف عن مدى وعيه للسؤال.

في القسم الأول من كتاب إخفاقات الوعي الديني، طرح الأستاذ سلام البهية السماوي، اسئلة في غاية الأهمية، غطت جوانب فكرية متنوعة، مثل: التفاعل الحضاري، الفلسفة الأسلامية، العلاقة مع الغرب (صراع أم حوار)، التطرف الديني، القرآن والتطور الحضاري، التخلف الحضاري واسبابه، النهوض الحضاري، إشكالية الفكر التكفيري، اليقين السلبي، التجديد ضرورة حضارية، من أين يبدأ التجديد، وغير ذلك. ومن كل سؤال تفرعت اسئلة، ذات صلة به لإغناء الحوار. وهنا استشهد ببعض الأسئلة، ورد الغرباوي عليها، لعلاقتها بموضوع الوعي، عنوان هذا المقال:

- لنأخذ موضوع الفوارق الحضارية بين الغرب والعالم الإسلامي: يسأل السائل: في رأيك، هل تعتبر الحضارة الإسلامية نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها؟ ولماذا؟. فجاء جواب الغرباوي واقعيا وموضوعيا، حينما قال: (النديّة تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين. أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما. فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟)[9]. والجواب يكفي شاهدا على وعي المتحدث للفارق الحضاري بيننا وبين الغرب، ويدرك جيدا هناك شروط للتكافؤ غير متوفرا حاليا في حضارتنا، لذا يقول: (لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم)[10].

- وللنتقل الى سؤال آخر، يطلب السائل فيه تعريف مفهوم (اليقين السلبي)، الذي طرحه الباحث الغرباوي في كتابه إشكاليات التجديد وأشار له في هذا الكتاب. نرى الغرباوي يبدأ أولا بتعريف مفردة اليقين فيقول هو نوع من الإيمان، ثم يتوسع في الجواب، ويضرب أمثلة لتوضيحه، فيقول في تعريفه: (اليقين السلبي، هو حزمة جزميات وقناعات راسخة ؛ توجه وعي الإنسان وتضبط سلوكه وحركاته ومشاعره)[11]. ويضرب أمثلة على ذلك كايمان الفرد بقوى خارقة، يستعين بها لتحقيق مآربه، دون سلوك الطرق العلمية والطبيعية، كتسخير الجن وتحضير الأرواح[12]. فتكون النتيجة أن "الفرد يتقاعس عن العمل وطلب الرزق؛ بانتظار أن تقوم الجن بعمل خارق تلبي من خلاله جميع طلباته. أو إيمان الشخص بقدرة الأولياء والصالحين على معالجة المرض، وقضاء الحاجات، فيكتفي بأعمال تقربه لهم بدلا من مراجعة الأطباء. وسلسلة اليقينيات، كما يقول تتناسل في ثقافتنا، لا تنتهي، ولا تقف عند حد، (ولعل أخطرها مجال العقيدة والفكر، حينما يعتقد الإنسان انه على حق مطلقا وغيره على باطل مطلقا. وتارة الباطل يعني الكفر، مما يسمح بتكفير الآخر، وربما استباحة دمه كما يفعل المتطرفون الاسلاميون، من اتباع الحركات التكفيرية)[13].

وبعد أن عرّف الأستاذ ماجد الغرباوي اليقين السلبي؛ راح يبين ضده، أي اليقين الإيجابي، فيقول: (اقصد باليقين السلبي: "ما يعيق الفعل الحضاري من جزميات وقناعات راسخة". ويقع على الضد من اليقين الإيجابي. فايمان الفرد بوجود خالق ويوم حساب بعد الموت يعد يقينا ايجابيا لانه يعزز التقوى ويعضّد وازع الخوف، ويحول دون ارتكاب المحرمات والموبقات)[14].

ودائما تجد الوعي حاضرا في ردوده وأجوبته فهو عندما يفسر ظاهرة اليقين السلبي ومخاطرها يربط ذلك بالوعي الذي هو محور كتاب إخفاقات الوعي الديني، فالمهم لديه عدم تضرر وعي الإنسان كي لا ينزلق الى متاهات الظلام الطقوسي، يقول: (لقد افرز لنا اليقين السلبي نمطا من السلوك، ارهق وعي الفرد والمجتمع، وصادر حريته وارادته، وسخر كل امكانياته، من أجل طقوس وتقاليد ما انزل الله بها من سلطان. بل تمادى الخطاب الطقوسي القائم على اليقين السلبي، ففضل الطقوس على العمل الصالح)[15]. ويضيف: (ولعل من اسباب هذه اليقينيات... سذاجة الوعي)[16].

وهنا نقطة جديرة بالانتباه أن الأستاذ الغرباوي لا يفرق بين شخص وآخر في حوارته، سواء من اتفق مع رأيه أو خالفه. كلاهما على قدم المساواة، بغض النظر عن علمه او مستواه الثقافي، وهذه صفة العالم المتواضع. اضرب أمثلة على ذلك من حواراته على منصة التواصل الإجتماعي (الفيس بوك) والتي دارت بينه وبين المعلقين على منشوراته. أقتبس مقتطفات منها بدون ذكر الأسماء كشاهد على جديته وتواضعه، ومدى اهتمامه بمسألة الوعي بالذات. المنشور: (قداسة الرموز الدينية، تدفع بإتجاه أسطرتهم والإرتفاع بهم فوق البشر ودون الإله). بتاريخ 6-9-23.

فكتب أحد المعلقين: التقديس يتناسب طرديا مع الجهل.

- رد عليه الغرباوي: معادلة صحيحة ولكن ليس مطلقا، وأحيانا لا فرق بين الإنسان الجاهل العادي مع غيره من ذوي الألقاب العلمية والفلسفية الكبيرة، المسألة مسألة وعي ومسألة تحرر داخلي. فهو يدور حول الوعي دائما.

- فيرد المعلق: نعم أستاذي.. لم أقصد الجهل وعكسه صاحب الشهادة، القصد الجاهل الذي لا يملك وعيا ويسير مع الراي الجمعي بغض النظر عن مدى تعليمه.

- يرد عليه: " نعم يا صديقي أوافقك الرأي "

لاحظ كيف أوصل الأستاذ ماجد الغرباوي فكرته للمعلق وأقنعه ان الوعي هو المعوّل عليه في الفهم الصحيح والتحرر من الجهل.

- ومعلق آخر كتب: أعتقد أن رجال الدين هم السبب المباشر في التقديس الذي يصل حد المغالاة.

- ورد عليه: نعم يتحملون القسط الأكبر، لكن تعطيل العقل بحجة القداسة سبب رئيس هنا.

هنا ركز الأستاذ ماجد الغرباوي بشكل اساسي على تعطيل العقل، وللإمام علي عليه السلام، قول في هذا الموضوع مذكور في نهج البلاغة: "أعوذ بالله من سبات العقل" فتعطيل العقل او استقالته هو سبات، يفقد معه العقل قدرته وفاعليته.

وأطرف تعليق قرأته يأتي في بدايته على شكل عتاب مازح:

- استاذ أبو حيدر على كيفك ويانه.. ثم يسترسل في نص أدبي طويل، عن الجذر الإنساني في الحالة الحسينية.

فيرد عليه الاستاذ الغرباوي بادب وكياسة، فيقول:

- لم يشر المنشور الى اي مصداق، لماذا افتهمت هذا منه، لا أدري.

وعندما يستمر المعلق بإسلوب إنشائي عاطفي.. لا يرد عليه، حرصا ألا يخرج الحوار عن صلب الموضوع، ويتحول الى سجال أدبي، أو جدل سوفسطائي عقيم، وهذا ما لا يريده الأستاذ الغرباوي.

أو مثلا يطرح أحد المعلقين سؤالا على الأستاذ الغرباوي، ليس له صلة بموضوع المنشور ويطلب منه جوابا عليه، فيقول:

- لو طُلِبَ منك أن تصف الحسين بن علي عليهما السلام، كيف تُقدمه لقرائِك الذين ينعتونك بالتنويري.

يجيبه بأدب جم، ولا يلتفت لكلمة ينعتونك.

- أجيبُك لو كنتُ ذكرته بالمنشور، تحياتي.

التسامح والوعي

قرأت (رسالة في التسامح) لـ جون لوك، ترجمها عن اللاتينية الدكتور عبد الرحمن بدوي، مركز دراسات فلسفة الدين. وللأستاذ ماجد الغرباوي قرأت كتاب (التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات). والكتابان يبحثان في نفس الموضوع، مع اختلاف الفترة الزمنية، فبينما يقتصر التسامح لدى لوك على الديني، نرى الغرباوي يوسع دائرته لتشمل السياسي والاجتماعي والقومي، والإتني. ليكون بذلك تسامحا انسانياً. وقد استشهد بحديث نبوي شريف "كلكم من آدم وآدم من تراب" وآيات قرآنية ليؤكد وحدة العنصر البشري في الخلق[17].

الحديث عن جون لوك وتحوله من اللاتسامح الى مبدأ التسامح، كان هو الدافع الذي حدا بي لكتابة هذه الفقرة. إذ نجد لوك يتحول من النقيض الى النقيض في هذه المسألة، ذلك أنه كتب في عامي 1661 -1662 رسالتين عن التسامح اكتشفتا ضمن مجموع مخطوطاته، وخلاصة رأي لوك في هاتين الرسالتين هي أن كل الأفعال المستوية، مهما كان نوعها، تقع تحت سلطة من وُكِّل اليه التصرف في حرية وحياة كل فرد من أفراد الرعية، اي الحاكم المدني فله سلطة مطلقة على كل أفعال الناس في المجتمع، وعليهم ان يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى ولو كانت خاطئة. يرى لوك في هاتين الرسالتين ان التسامح هو مجرد اسم آخر للعصيان والفوضى. وهنا يعطي لوك الحق المطلق للحاكم على الرعية، ربما كان ذلك بسبب الصراع بين السطلتين الدينة المتمثلة بالبابا، والسلطة الدنيوية المتملثة بالملك. لكن جون لوك لم يستمر على هذا الموقف طويلا، بل نجده في سنة 1667 يكتب (بحثاً في التسامح) لم ينشره في حياته، ونُشر البحث في مجلدين سنة 1876 بدأ يميل الى التسامح، فيقول "ينبغي للحاكم المدني ان يتدخل في ما يؤمن السلام المدني وممتلكات رعيته" ثم يخطو خطوة أبعد انه ليس للحاكم المدني اي سلطة على الرعية فيما يتصل بالدين، لأن أمور الدين تخص الفرد والله فقط[18]. وبهذه الفقرة عن مبدأ التسامح عند جون لوك، في كتابه (رسالة في التسامح)، نكتفي لنتابع موضوع التسامح مع ماجد الغرباوي في كتابه: التسامح ومنابع اللاتسامح.

يعتقد الغرباوي أن روح التسامح تتضمنها جوهر الأديان، وإنْ لم تنص على المفهوم، لكن روحه تؤكده نصوص الكتب المقدسة، فـ(اننا امام مفاهيم "كالتسامح والتعددية" ليست غريبة في روحها عن اصول ديننا وعقيدتنا، وانما اقصتها القراءات الاحادية والفهم المتحيز للدين)[19]. إما اللاتسامح فإنه بعيد عن روح الأديان المتسامحة، باستثناء بعض الحالات التي لها تفسيرها الموضوعي، غير المخل بقيم التسامح التي تدعو لها الاديان بصيغ مختلفة، لكن من أين جاءت قيم اللاتسامح؟ ما هي مناشؤها؟. وهذا ما قام به الأستاذ الغرباوي؛ حيث تقصى منابع اللاتسامح، ودعا الى تجنيها ومكافحتها تمهيدا لقيم التسامح: منطق العنف، الولاء القبلي (العصبية)، سلطة القيم، الأستبداد السياسي والتطرف الديني.

منظومة القيم تتقاسمها العشيرة والدين والموروثات الشعبية، وكل قيمة أخلاقية تنتمي في مرجعيتها الى واحدة أو أكثر من المصادر المذكورة، فهي اما ذات مرجعية دينية أو وضعية سياسية أو اجتماعية معينة أو موروثات شعبية متراكمة، وهذه تنتج مقاسات للتفاضل وأسس التعامل مع الآخرين، كالتسامح والتعصب، ورفض الآخر وتهميشه هو جوهر الأستبداد السياسي. يقول الباحث في هذا الصدد: (التسامح نسق قيمي واخلاقي يراد احلاله محل النسق القيمي والاخلاقي الذي ما زال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، وهو نسق وليد منظومة قيم موروثة تشكلت عبر ماض سحيق، ظل الشعب يتوارثها ويتعهدها ويلتزم بها ويحافظ عليها. وطبيعة هذه القيم انها تتقاطع مع قيم التسامح، لانها تكرس صفة العصبية والرفض والاقصاء. فلا يمكن للتسامح ان يكون فاعلا مؤثرا في مجتمع ما زال يتعهد تلك القيم الموروثة ويلتزم بها. أي ما زال يتمثلها قيما اخلاقية يستمد منها وجوده ومكانته داخل الوسط الذي يعيش فيه. ولا يمكنه التخلي عنها او التنكر لها، لان في ذلك – كما يعتقد - مصادرة لموقعه وقيمته التي هي رأس ماله الاجتماعي، وعلى اساسها يقيم علاقاته ويتخذ مواقفه من جميع القضايا، بل ويعتقد انها اساس وجوده)[20]. ويضيف: (وتتعدد منابع اللاتسامح تبعا لطبيعة المجتمع ثقافيا وفكريا وعقيديا، وايضا تبعا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية. لكن ثمة منابع تعد الاهم بينها، وهي المنابع التي تفضي الى التعصب الديني والقبلي والسياسي، وما ينتج عنها وما يعمق وجودها ويركز فاعليتها من مفاهيم وقيم)[21].

وقد استشهد الأستاذ الغرباوي بآيات كثيرة من القرآن الكريم، لتأصيل مبدأ التسامح، بعد أن تكلم تفصيلا عن منابع اللاتسامح واحدة بعد أخرى، كشف عن جذورها، وبيّن أبعادها ومخاطرها وتداعياته. أما قيم التسامح فهي قيم انسانية، نابعة من الرحمة الإلهية. وأما ما يُنعت به الاسلام من تطرف وإرهاب فهي آراء شابها الكثير من التحامل، على الاسلام وطمس مقاصده الإنسانية، نتيجة لتاريخه الذي طغى عليه العنف وسفك الدماء، وهو تاريخ السلطة التي تمادت في سفك الدماء باسم الدين لكن للاسف الشديد حُسبت على الاسلام. وإلا فآيات التسامح التي أدرجها في الكتاب أكثر من 60 آية، غيبها النسخ، وعطل فاعليتها. جميعا آيات رحمة وتود ومغفرة وتسامح مع الآخر، كما يقول الباحث الغرباوي في كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح[22].

السياسة والوعي

ظل الباحث ماجد الغرباوي، يتابع مسألة الوعي، تارة يراهن على الوعي وأخرى ينسب المظاهر السلبية والنكسات الحضارية الى رثاثة الوعي، فهو يتوجس كثيرا من الوعي السلبي، ففي كتابه: (جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق)[23]، راح يستعرض مشاهد السلطة في العراق، من خلال تتبع وعي الشعب عبر مواقفه من المواطنة، الاستعمار، المليشات، القيادة، الاحزاب السياسية، المرجعية الدينية وغير ذلك. وقد عقد المحور الثالث لموضوع: أزمة الوعي السياسي، كما خصص المحور السابع إلى: الوعي الحضاري. فالكتاب يدور حول الوعي السياسي بالدرجة الأولى.

ولنأخذ مشكلة المحاصصة الطائفية، التي نختتم بها المقال، وتلك ابرز مشكلة ما يزال يعاني منها الشعب العراقي، ترقى للمعضلة او المرض العضال، يتعمق الأستاذ ماجد الغرباوي في الحفر ليصل لجذورها الضاربة في عمق التاريخ، فهو لا يعتقد أنها حدثا وقتيا طارئاً، أوأنها ستزول بمجرد اتفاق بين الكتل السياسية، التي تتصارع على الحكم، وعلى اساس هذا التحليل العلمي لا يصدر حلولا استهلاكية جاهزة للتطبيق، لا تلامس الواقع المتأزم في العراق، والتحولات السياسية التي ساهمت في خلقه في مرحلة من أصعب واخطر المراحل التي يمر بها العراق، منذ عام 2003 وحتى الآن، وإنما يرى (أن ظهور الطائفية في زمن الحرية يفضح عمقها وتجذرها، ويكشف عن وجود عوامل خفية كانت تعمل على تغذيتها وكبتها في آن واحد، وما لم نقف على تلك الأسباب لا نستطيع فهم الظاهرة وكيفية معالجتها والتخلص منها)[24]. وهذا ليس مجرد رأي شخصي، وإنما استقراء واستنتاج، طريقة علمية، هي أحد طرق البحث في علم الإجتماع، عند دراسة مشكلة اجتماعية ما.

ويستنتج الباحث "أن العراق برع في قدرته على التعايش السلمي بين المذاهب والأديان المختلفة، إلا ان ألإستبداد السياسي كان السبب الأساس في تسرب شحنات سالبة الى الشخصية العراقية، وكان المصدر في تغذية الحس الطائفي"[25].

بينما يجعل الوردي من البداوة المؤثر الأهم في إزدواج الشخصية العراقية[26]، يقول "ان العصبية المحلية تنمو في نفس الطفل، فيتعصب لأبناء محلته، وقد تتحول هذه العصبية المحلية الى عصبية عشائرية او طائفية او دينية، أو ما اشبه، وهكذا ينشأ العراقي وهو شديد التعصب لدينه وطائفته، بينما هو لا يعرف من واجبات الدين شيئاً"[27].

وبعد كل هذا التحليل والاستنتاج العلمي يقترح الغرباوي؛ الحل المناسب لمشكلة الطائفية، التي انتجت الفساد المالي والإداري، وبددت ثروات طائلة كان العراق بأمس الحاجة اليها للإعمار، يقول الأستاذ الغرباوي في معرض اقتراحه لحل عملي واقعي ما يلي:

(.... ليس في الكلام تحريض، او تكريس للخطاب الطائفي وإنما هي قراءة موضوية للمسألة الطائفية وفهم لها في ضوء خلفيتها التاريخية، واسباب تبلورها وتشكلها، من أجل الوصول الى تسوية ناجحة، مادامت لم تخرج عن السيطرة، وما زالت تتحرك على مستوى حقوق تاريخية مهضومة)[28]. ويضيف:  يمكن التخلص من الطائفية كمعوق من خلال الإستجابة لها وإشباعها (تحليل نفسي) وأول خطوة على الطريق الصحيح هو وعي الواقع. والقبول بالحققية، (لم يقل قبول الواقع) والإستجابة للتنوع الموجود على الساحة العراقية، كي يشارك الجميع في رسم مستقبل بلادهم[29].

هذا ملخص مبتسر لا يغني عن قراءة الكتاب، للتوسع في الوقوف على طروحات الأستاذ الغرباوي التي اشاد العديد من الكتاب الأكاديميين في هذا الحقل المعرفي، أعني دراسة التراث وتداعيات تأثيره على تاريخنا المعاصر.

وبذلك قدم لنا تحليلا سياسيا تاريخيا، وليس براغماتيا نفعيا، يصب في مصلحة جهة معينة. الغرباوي ينأى بنفسه ان يحابي أو يصطف مع جهة معينه.

عن الإمام علي بن ابي طالب (ع):

"لا يقيم أمر الله سبحانه وتعالى إلا من لا يصانع؛ ولا يضارع؛ ولا يتبع المطامع"

***

صالح البياتي – أديب وكاتب / أستراليا

......................

[1] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بغداد – العراق، 2008م، ص 25.

[2] - المصدر نفسه.

[3]- - الغرباوي، ماجد: إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، ط3، 2017م، ص 35.

[4] - الغرباوي، ماجد، الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص 89.

[5]- المصدر نفسه.

[6] - الإحساس والمعرفة والوعي، كيف تصبح العقول واعية ص 107 - 108، أنطونيو داماسيو ، ترجمة د. عامر شيخوني ، الدار العربية للعلوم ناشرون ط / الأولى 2022.

[7] - إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري، حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2016م.

[8] - المصدر نفسه، ص 78.

[9] - المصدر نفسه، ص 18.

[10] - المصدر نفسه.

[11] - المصدر نفسه، ص 59.

[12] - المصدر نفسه.

[13] - المصدر نفسه، ص 60.

[14] - المصدر نفسه، ص59.

[15] - المصدر نفسه، ص 61.

[16] - المصدر نفسه.

[17] - التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 119.

[18] - جول لوك، رسالة في التسامح، ترجمها عن اللاتينية الدكتور عبد الرحمن بدوي، اصدار مركز دراسات فلسفة الدين، ص 41-44 .

[19] - أنظر كتاب: الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 22.

[20] - المصدر نفسه، ص 25.

[21] - المصدر نفسه.

[22] - المصدر نفسه، ص 143-149.

[23] - صدر عام 2016م، عن المركز العلمي العراق – بغداد.

[24] - المصدر نفسه، ص 163.

[25] - المصدر نفسه.

[26] - مقاربة في تحليل الشخصية العراقية بين الغرباوي وأستاذي الدكتور علي الوردي، والفرق بينهما ان الوردي يركز على الموثر القبلي في الصراع بين البداوة والتحضر، في كتابه (شخصية الفرد العراقي، بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الإجتماع الحديث)، بينما يرى الغرباوي للمؤثر السياسي التأثير الأكثر.

منشورات دار ليلى – لندن، الطبعة الثانية 2001

[27] - المصدر نفسه، ص 50.

[28] - المصدر نفسه، ص 166.

[29] - المصدر نفسه، ص 164- 166.

........................

* مشاركة (50) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10