تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

بأقلامهم (حول منجزه)

أياد الزهيري: ماجد الغرباوي في مشروعه النقدي.. الى صاحب اليراع الذهبي

إنه لمن دواعي سروري، وصميم قلبي، كما يشرفني أن أتقدم الى الكاتب الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي بمناسبة بلوغه السبعين من عمره الحافل بالعطاء الزاخر، والمواقف النبيلة، داعياً الله أن يُطيل في عمره ويمده بالصحة ويحفظه بالسلامة. الكلمات قد تعجز بالتعبير عن ما قدمه الأستاذ الغرباوي من منجز فكري كبير، وهو صاحب اليراع الذهبي المعطاء، ولكن لابد من أن نسجل شهادتنا للتاريخ عن فارس الكلمة، والمفكر المبدع، والمجدد الألمعي الأستاذ الغرباوي، الذي قدم من خلال مشروعه الفكري، فكراً نيراً أغنى من خلاله مكتبتنا العربية والإسلامية، فقد كان ذو تجربة فريدة في نقد الموروث الديني، ذلك التراث الذي أثقل مسيرة الأمة في تقدمها للأمام، بل كان السبب في الكثير من تعثراتها، فكان الأستاذ الغرباوي من القلائل الذين شمروا عن سواعدهم للكشف عن ألغام هذا التراث، فقد أشر على الكثير من إشكالاته مفسراً وموضحاً ومحذراً عما يتضمنه من هنات ومخاطر .

لا يمكن لجهودك أستاذ ماجد أن تُنسى، فقد أوفيت بالغرض و وبذلت الكثير فأنرت لمتعطشي المعرفة طرق المعرفة بضياء معارفك الوفيرة التي سطرتها مؤلفاتك الكثيرة، والتي هي محل فخر واحترام كل المنصفين من العلماء والمثقفين في الساحة العربية والأسلامية. لك مني كل الثناء والتقدير بعدد حبات المطر، وألوان الزهر على جهودك الثمينة والقيمة والتي هي محل افتخارنا والتي فجرت ثورة فكرية في عالم نقد التراث، فقد كنت غاية في الجرئة والشجاعة، فقد اقتحمت ساحات أحجم عنها الكثيرون تردداً وخوفاً، فكنت فيها فارساً مغواراً مقتحماً ساحات الوغى الفكرية بعقل مفتوح، وروح مقدامة، وعزيمة راسخة، أنتج من خلالها قلمك أروع المؤلفات وأجمل الدراسات التي أثارت أعجاب كل من أطَلعَ عليها، وغرف من معين معارفها، واستنشق من شذى علومها، وتنسم من عبير نتاجها المعرفي. لقد كنت أنا شخصياً ولازلت من المتابعين لثراء كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي، فهي جزء لا يتجزء من مائدة زادي الفكري، التي لها الفضل في تشكيل خزيننا المعرفي، وبناء فضائنا الثقافي، وأنا كواحد من قراءه لا يسعني إلا أن أسجل وافر شكري وامتناني على ما قدم من جهد استثنائي في بناء هذا الصرح الفكري، فقد كان كريم في عطائه، وجميل في عرفانه، فشكري لن يوفيكم حقكم يأستاذ ماجد لما سعيتم من مساعي مشكورة، وأن جف حبري عن التعبير عن شكركم، فقلبي يبقى يحمل مشاعر الحب والتقدير لشخصكم الكريم، ولمزيد من التوفيق والنجاح لأكمال مشروعك الذي لم تدخر جهداً لإنجازه.

المشروع النقدي لماجد الغرباوي

لا شك إن الكتابة عن الأستاذ ماجد الغرباوي، ليس كتابة عن كاتب عادي، لأن الغرباوي عبارة عن مشروع ثقافي كبير. هذا المشروع ساحته التراث، والخوض في عالم التراث كالخائض في بحر مائج يتسم بالمدى البعيد، والأعماق السحيقة، وهذا يتطلب لمن يمخر به أن يجيد العوم، الذي يتمثل بدرجة عالية من الكفاءة والحرفية، وكثير من الصبر لكي يتجنب أمواجه العاتية التي لا ترحم من لايجيد فن أتقاء عواصفها المجونة .

الغرباوي يعتبر واحد من الباحثين القلائل الذين أقتحموا ساحة النقد العقلي للتراث، وهي ساحة تتطلب من مقتحمها الكثير من الجرأة والشجاعة المنقطعة النظير، لأنها ساحة غاية في الحساسية، وفيها من المصدات والعوائق والمصاعب ما لا يقتحمها الا ذوي البأس الشديد، والماشي بها كالماشي في أرض مزروعة بالألغام، ومن لا يحسن المسير بها، ويتقي عثراتها، يكون مصيره الفناء، كما حصل لفرج فودة، أو التسقيط  والتشويه، كما حصل للدكتور نصر حامد أبو زيد، ولكن الأستاذ الغرباوي بخبرته واتقاد ذكائه نجح في تجنب سقوطه في حقل ألغام ساحة التراث، وتمكن من نزع فتيل قنابله الموقوته، لأنه يعرف خرائطه ومتمكن بالمسير في ممراته الآمنه، وهذا لم يأتِ من فراغ بل نتيجة لباعه الطويل بتضاريس ساحة الموروث الفكري والديني، واشتغاله الطويل بين ثناياه، والعارف بمحتواه وأنساقه المعرفية.

الأستاذ الغرباوي تابعته منذ بداياته في مشروعه النقدي، وكدت أتحسس خطواته وكأن الرجل أحسبه يسير بطريق الانتحار المعنوي، وكمن وَطنَ نفسه للشهادة على مذبح تحرير الوعي النقدي، ويذكرني ببعض رجال المعتزلة الذين اشتغلوا على مشروع حركة الوعي النقد ي فتعرضوا الى محنة قاسية قادت بعضهم للقتل الجسدي وآخرين للقتل المعنوي، وآخرين أنزوا في بيوتهم آثرين السلامة، وقد ذكر أبن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ ان أحد رؤساء المعتزلة لزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج من بيته خوفا من عامة الناس، ولكن الأستاذ ماجد الغرباوي بحنكته وحذاقته الفكرية وتمكنه الأداتي العقلي تجاوز ما وقع به غيره، وتعثر آخرون .

أن المهمة الكبيرة التي أضطلع بها الأستاذ ماجد الغرباوي كانت مهمة صعبة، ولكنها عظيمة النتائج، وأهم حصاد هذه المهمة، هو الفصل مابين النص المقدس، وبين تفسير النص وتأويله، الذي هو نتاج بشري، وهذا في حد ذاته انجاز في غاية الأهمية، حيث رفع وشاح القداسة من الفكر الديني المتمثل بالتفسيرات والتأويلات للنص المقدس، ففصل بينهما، ورسم برزخاً بينهما لكي لا يتحول كل ما أنتجه الإنسان من نتاج فقهي إنساني الى موروث مقدس عابر للزمن. إن رفع الغرباوي للغطاء المقدس للفكر الديني و جعل منه مادة قابلة للحوار والمناقشة والنقد فتح عظيم في عالم النقد والاصلاح الديني. فالغرباوي قد حرث أرض الموروث الفكري والفقهي مُخَلصاً أياها من كل مايُصَحرِها، ويجعل منها أرض بوار لا تصلح لأنبات كل ما يخضرر أرض الفكر، ويعالج قضايا الإنسان . فقد أدخل الغرباوي أدوات النقد العقلي كأداة ينخل بها هذا التراث ليفصل منه الغث من السمين، ويحوله من مادة كابحة لحركة التاريخ الى مادة دافعة للأمام في صيرورة تصاعدية. ومن تجليات مشروع الغرباوي، هو إزالة مشاعر الخوف والتردد في اقتحام هذا الحقل، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، حتى أصبح ذلك الجدار الذي صد كل محاولات النهضة لهذه الأمة، فمشروع الغرباوي، هو بالحقيقة مشروع نهضوي لأنه حرك المياه الراكة في حركة النقد، وتحرير العقل من أوهام وأساطير تسللت الى سرديات النص الديني، وهي سرديات منها ما هو دخيل، ومنها ما هو نتاج ظروفه وبيئته الزمكانية. الأستاذ ماجد الغرباوي بالحقيقة حمل على عاتقه تحقيق منجز فكري كبير، تمخض عن رؤية نقدية جعلت من العقل دوراً فاعلاً في الحكم على الموروث المعرفي، كما جعل من الفكر التراثي فكراً تاريخياً مؤطر بظرفه الزمني، ومنوطاً بأدواته المعرفية، ومعطياته البيئية، ولايمكن أن يكون خارج حدود الزمن، وأنه محكوم بنسبيته المعرفية البعيدة عن أطلاقية النص المقدس.

بخلاصة القول أن الغرباوي قد ساهم بتأسيس مشروع نهضوي غايته تحرير العقل، والتأصيل لفهم يكون للعقل فيه الدور الأكبر بعيداً عن الأوهام والأسطرة، كما دعا للتسامح في تحليل ونقد التراث، وهو ما يذكرني بنظرية العنبري المعتزلي المعرفية التي تدعو الى التسامح في عدم تكفير أحد من المتأولين لأنه يرى أن كل مجتهد مصيب . إن مشروع الغرباوي يدعو للتسامح في تقيم الأفكار بعيداً عن الإطلاقية المتزمته في الحكم على الأفكار باعتبار أن المعرفة تبقى نسبية ومتعلقة بظروفها ومعطياتها التاريخانية وأن معرفة الإنسان معرفة تراكمية لا يمكن أن تتطابق مع الحقيقة الكلية والمطلقة. إن الغرباوي بلغته السهلة وبيانه الواضح، وابتعاده عن الغموض في شروحاته جعل من منتوجه الثقافي يتسرب الى أكبر عدد من القراء، حتى يمكن القول بأن مؤلفاته أصبحت في متناول أكبر عدد من الجمهور، حتى دخلت ضمن الثقافة الشعبية، وهذا بحد ذاته انجاز كبير، بعد ماكان هذا اللون من المعرفة محصوراً على النخبة من القراء.

***

أياد الزهيري – كاتب وباحث

.............................................

* مشاركة (41) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10