بأقلامهم (حول منجزه)

محمد جواد سنبه: ماجد الغرباوي وتجربة النقد السياسي البنّاء

لكي نستوعب حجم الجهد النقدي الذي يبذلة الباحث، في مجال الفكر السياسي والحركات السياسية، لابد لنا من الوقوف على امرين يشكلان معادلة فهم عملية النقد، والجهد الفكري المبذول لتحقيق دراسة نقدية هادفة في موضوع محدد. فالباحث الناقد يواجه امرين متضادين هما:

الأمر الأول: توفر الكم الكبير من المصادر في المكتبات، التي تتطرق في مجال بحث الشؤون الاجتماعية والسياسية المختلفة الجوانب، سواءً على مستوى النظريات أو على مستوى التطبيق.

الأمر الثاني: قلة المصادر المختصة بالنقد السياسي، مقارنة بحجم المؤلفات في هذا المجال. لأن عملية النقد، تقتضي التعرف على جميع الحيثيات، والاصول التي كُتبت في مجال سياسي محدد، ودراستها بامعان وفهما بعمق، ومن ثم اجراء عملية النقد، وفق اسلوب البحث العلمي الهادف.

والامر سيكون اكثر تعقيداً، إذا ما تناول الباحث نقد تجربة سياسية معينة، لها وجود عملي على ارض الواقع، بعدما استكملت تلك التجربة، دورها النظري واستطاعت ان تقنع مؤيديها، بان ينتقلوا من مرحلة التثقيف النظري، الى مرحلة خوض التجربة عملياً على أَرض الواقع، إذا ما تم نجاح التجربة السياسية ودخلت حيّز التطبيق العملي. ففي هذه المرحلة ستتكشف الكثير من الخفايا، التي كانت مبهمة إِبّان فترة النضال السلبي.

ان الكتابة عن تجربة سياسية معينة، اثناء ولادتها ونضجها وتبلورها كمشروع سياسي هادف، أَيسر بكثير من الكتابة النقدية التي تخصّ تلك التجربة، اثناء التطبيق العملي لها، والفرق بين الأَمرين كالفرق بين كلام خطيب يعتلي المنبر، ويتحدث عن مجموعة من القيم والمثل الانسانية الرفيعة، وبين شخص يقوم بعملية قوننة تلك الافكار، وتحويلها الى مواد دستورية وأَنظمة تشريعية تلزم مجتمع معيّن بتطبيقها والسير على نهجها.

فكلام الخطيب المنبري، لا يترتب عليه أَثر قانوني، إِذا ما خالفه أَحد أَو لم يلتزم به المتلقي، بينما في الحالة الثانية (الحالة التطبيقية للتجربة)، تترتب على الانسان المؤمن، بتلك القضية المطروحة، حالة من الالتزام الجاد، وفي حالة المخالفة، فسيكون القانون خصمه، ويكون للقانون دور في محاسبته واجباره على تطبيق الانظمة والقوانين، التي اقرتها تلك التجربة السياسية، في فضائها التطبيقي وإِطارها العملي.

والاستاذ العزيز ماجد الغرباوي، كان أَحد فرسان هذا المضمار، فقد وظّف تجربته الحزبية، في العمل السياسي الوطني، ليكون النقد البنّاء ميدانه الأَوّل، فأَصدر العديد من المؤلفات، في مجال الفكر الديني الناضج، والمتحرر من عُقَدّْ اللامعقول، التي أُلصِقتّ بالدين الاسلامي، نتيجة القصور في فهم الواقع، وسيطرة النمطية الكلاسيكية التقليدية، في بحث المشاكل التي يفرضها الواقع الاجتماعي، نتيجة لمتطلبات تطوّر الحياة الانسانية التي تتطلّب دائماً، طرح المستجدات من المسائل الحياتيّة، التي تستدعي وجود عقلية تشريعية مرنة، تُلبي كل تلك المستجدات الحياتيّة.

كما أَنَّ الاستاذ ماجد الغرباوي، لم يترك الخوض في المجال الأَصعب لعملية النقد البنّاء، وهو فضاء نقّد تجربة الاسلام السياسي في العراق بعد عام 2003م، ومتابعة ارهاصات انتقال التجربة، من مجال الدعوة السرية، الى مجال تجربة التطبيق العملي لتلك المسيرة، وهو مجال حكم المجتمع، والسير به نحو تحقيق اهداف الدعوة الحزبية، إِبّان فترة التنظيم السياسي السِرّي.

فالأَمر مختلف بين التجربتين، في المجالين النظري والعملي، فاصدر الاستاذ الغرباوي ثلاثة مؤلفات مهمة هي:

1. الحركات الاسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي 2015 .

2. جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق 2016 .

 3. رهانات السلطة في العراق.. حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي 2017.

وحتى يكون تقييمنا دقيقا، لجهد الاستاذ الغرباوي، لابد من استيعاب الفرق بين الكتابة الوصفية والكتابة النقدية، حيث يكون التمايز بينهما، مبنياً على مايلي:

أولاً: الكتابة الوصفية كتابة استعراضية، تقوم بوصف حالة معينة، أَو حتى حالات متنوعة، وقد يختلط في هذا النوع من الكتابات، المعقول واللامعقول، وفي هذا النوع من الكتابات، قدّ يدخل فيها ذوق الكاتب، وأَهوائه الفكرية والعاطفية، من حبّ للموضوع الذي تناوله أو كرهه له، وعدم قناعته به. كما أَنَّ التأثير العقائدي للكاتب، يترك بصماته على نتاج الكاتب، وخصوصاً في الكتابات المتّصلة بالجانب العقائدي أو الديني.

ثانياً: أما الكتابة النقدية، فمن مقتضياتها المطلبيّة، أَنَّها تكون ضمن إِطار صارم لعمليّة تحليل مشكلة البَحث، والتَّوصُل الى استكناه الحقائق الواقعيّة، وإِبراز كافّة ملابساتها، وربط القضية المبحوثة بقضايا أُخرى، لها صلة أَو علاقة بالموضوع المبحوث.

وهذا التشعب الشائك، يتطلب من الباحث عدة أُمور منها:

أ. سعة إِدراك الناقد بتشعبات الموضوع او القضية المبحوثة.

ب. أَنْ يكون الناقد ذا فَهم ثاقب بحيثات الموضوع المبحوث، وهذه النقطة تختلف عن النقطة السابقة، كونها تعني الدخول بكل التفاصيل الدقيقة للمشكلة المبحوثة، وقد يتطلب الأَمّر البحث عن الجوانب الشخصية والنفسية، لرموز وشخصيات الموضوع المبحوث، حتى تتكشّف كل الحقائق الخاصة بالموضوع قيّد الدراسة.

ج. يجب أَنّ يمتاز الباحث بملكة الاستنتاج الموضوعي، لربط الأَسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها، للوصول الى تقييم دقيق، وصائب للموضوع قيد البحث والاستقصاء.

د. تمتاز الكتابة النقدية عن كتابة النصّ السَّردي، بانها كتابة يسيطر عليها منهج البحث المقارن، من أَجل الوصول الى الحقائق بصورة كاملة.

هـ. الكتابة النقدية بنتيجتها كتابة تقييميّة للأَفكار المطروحة، أَو البرامج المقدمة على أَرض الواقع، لذا يتحمل الكاتب، تبعات آرائه النَّقديّة. فقد تجابه تلك الآراء بعملية هجوم مضادة، من مؤيدي وانصار القضية المبحوثة، بينما في الكتابات السَّرديّة، لا يتجشم الكاتب عناء ومتاعب وتبعات الموضوع الذي كتبه. 

إِنَّ المُنجز الثقافي النَّقدي، الذي حققه الاستاذ ماجد الغرباوي، في مجال البحث النقدي الاستقصائي لمواضيع اجتماعية، تتصل بعدة جوانب من حياة الانسان المعاصر، جعله يمتاز بعنصر المُصارحة، في مواجهة مشاكل المجتمع، وكفى بالاستاذ الغرباوي معروفاً، أَنْ قال كلمة الحقّ، وقدَّم الحقيقة للاخرين بكل صدق واخلاص.

***

محمد جواد سنبه  

......................

* مشاركة (12) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10