بأقلامهم (حول منجزه)

ماجد الغرباوي في ثنائية المرأة والقرآن.. إشكاليّة القراءة والتأسيس

بقي عنوان النظر والتجديد في التراث الديني من أبرز العناوين التي تتحرك في فضائها مشاريع وأعمال عدد من الباحثين من دعاة الإصلاح والنهضة، ولا تزال قرأتهم قائمة في تكشيف المرجعيات الإسلاميَّة، بمقرراتها واداواتها، وفك التباساتها التاريخية مع معطيات الزمن الذي ولدت فيه وأثرت به وتأثرت، لتنمية وإرساء معطيات ونصوص ورؤى حضارية تنسجم مع تحديات الزمن الراهن، المتدفق بكل عناصر التغيّر والسرعة.

والموقف من المرأة كما يرى الدكتور عبد المجيد الشرفي يعد اليوم أفضل معيار يمكّننا من تصنيف المفكرين والمشتغلين بالمعرفة الدينية، ومعرفة مدى بقائهم عالة على بعض القدماء من الذين يكرّسون التمييز الذي كانت النساء ضحيته، أو انخراطهم في مقتضيات عصرهم بالنسبة إلى سائر القضايا. وهذا المعيار هو الدليل في الحكم على المصداقية التي يمكن أن يتمتع بها أي موقف، باعتبار أن حقوق الإنسان كل لا يتجزأ ولا يجوز اختزالها. فإذا وجد من ينبذ الأحكام الفقهية التفصيلية التي تفرق بين المسلمين على أساس الانتماء المذهبي –مثلًا- ثم وجدتهم يقرّون بفرض أحكام فقهية ولدت ضمن الاشتراطات التاريخية بتعللات واهية، فلا نستبعد أن ذلك النبذ منقوص ومعتل، يحمل في طيّاته تناقضًا داخليًا، وأنه غير مبني على أساس متين.(1)

وقد شهد المسار التاريخي لموضوع المرأة سجالات فكرية حادة في داخل الوسط الديني، في العصر الحديث من رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، والطاهر الحداد ومرتضى مطهري، ونصر ومحمد مهدي شمس الدين وو.  وقد تمخضت عنها اتجاهات معرفية متعددة، يمكن حصرها في ثلاثة، لنتلمس من خلالها مشروع الأستاذ ماجد الغرباوي في مقاربته لهذه القضية الحرجة، وأين يمكن أن يصنف؟ وما هي أبرز محدداته وأدواته؟

وبإيجاز، فان هذه الاتجاهات الثلاثة، هي:

أولا: الاتجاه التقليدي النصوصي (الأصولي):

ومن أبرز معالمه الحفاظ على أصالة المعارف والتعاليم الإلهية، ومواجهة جميع الأفكار التي تستعين بالمعارف والمنهجيات الحديثة في فهم وتفكيك التراث الديني. فؤلاء يقدسون الماضي. حتى ان بعض اتجاهاته المفرطة، تعتقد أن الله يريد حفظ الظروف الموضوعية والعلوم والفنون التي كانت موجودة في ذلك العصر، ويعدون كل التحولات اللاحقة بعيدة عن المجتمع الإسلامي المرجوّ. (2)

الاتجاه الثاني: الاتجاه الكلامي (العقلاني):

وهو اتجاه برزت فيه شخصيات كبيرة في القرن العشرين كالشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومحمد حسين الطباطبائي، ومرتضى مطهري، ومصطفى السباعي، وغيرهم، وقد ركز هذا الاتجاه نشاطه على صعيدين(3):

أحدهما: تقديم صياغة علمية داخلية لموضوعات المرأة غلبت عليها، سمة إعادة إنتاج من دون تغيير في النتائج غالبا، أي إعادة صياغة وتشكيل للنظم المفاهيمية مع الأخذ بعين الاعتبار ثبات النتائج.

ثانيهما: تقديم تفسيرات عقلية للنتائج المفروغ منها، يمكنها عقلنة معطيات النصوص، أي تقديم تفسيرات لقضايا الحجاب وعلاقته بالحرية، وتعدد الزوجات وعلاقته بالحقوق وو. وقد ساعدت التركيبة الذهنية – الاجتماعية في المجتمعات الإسلاميَّة، على نجاح هذه التفسيرات ومعقوليتها لدى الرأي العام، وهو ما قد ينذر بفشل الديمومة، نتيجة التغيرات التي حدثت في العقديين الأخيرين.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الفقهي الحضاري:

 وقد تبلور هذا الاتجاه في كتابات الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف صانعي، والشيخ مهدي مهريزي، والشيخ مجتهد الشبستري، غيرهم. ويحكي عن نمط من التفكير والتعاطي مع النص (القرآن والصحيح من السنة) المحتكم إليه في القراءة والتأويل، تمثل في أمرين(4):

الأمر الأول: آلية الحفر خلف الجانب الصدوري للنص، وهو أمر يتسنى في السنة الشريف، ويستحيل في القرآن الكريم. إن هذا الحفر الذي يهدف إلى تقويض النص من خلال نفي صدوره، وجد لنفسه في هذا الاتجاه فرصة ملائمة جدًا. والسبب في ذلك هو ان مجموعة تصورات اجتماعية عن المرأة لم يعمد الفقهاء والمتكلمون المسلمون السابقون إلى تحقيقها اتكالًا على الوضع العام في الوعي والعقل الجمعي المسبب عن بنية خاصة للمجتمع القديم.

الأمر الثاني: إلية تكوين قراءة جديدة للنص تدخل في الحساب التاريخي، والمكسب الذي سيتحقق حينئذ يقوم على محاولة عزل النص عن الواقع الاجتماعي الحالي من خلال وصله ببنى وهيكليات اجتماعية – سياسية سابقة لم يعد بالإمكان تحققها اليوم.

هذه هي أبرز الاتجاهات الدينية التي عاشت السجالات الفكرية لوضع المرأة الحقوقي والحضاري، وقدمت تصورتها وقناعاته فيه، ولكل منها كما شاهدنا أدواته المعرفية وسماته وتجربته.

ومن ثَّم، نعود ونسأل أين يمكن أن نصنف مجهود وعمل ماجد الغرباوي من هذه الاتجاهات من خلال كتاب (المرأة والقرآن) ؟ علمًا ان كتابه عبارة عن حوار أجرته معه الدكتورة ماجدة غضبان، وكان الحديث في عمق التشريع وفلسفته ومرجعياته وأصوله، والواقع ودلالاته في النص وفهم النص. مع النظر في المنهج البحثي والعقل الاجتهادي الإسلاميَّ في محاولات التأصيل والتعميق.

ويبدو لنا من خلال المطالعة انّه ينتمي إلى الاتجاه الحقوقي الحضاري، الذي يسعى إلى قراءة مضامين الأدلة الشرعية من جديد، وفك النصوص من اشتراطاته الزمانية. ويمكن تلمس أبرز أدواته في الفهم والتفكيك والمعالجة بالاتي:

أولًا: التفريق بين النص وفهم النص وتفسيره، فهو يرى ان القداسة أو الحجة الشرعية-كما يسميها- لا تتجاوز القرآن والصحيح من السنة، وحتى هذا السنة فبعضها تدبيري (أو ولائي، تقتضيه المصلحة العامة)، والآخر مطلق يحمل على نحو القضية الحقيقية. فهو يقول: (اذاً الحجة الشرعية هي الكتاب المبين والحديث الصحيح الذي يفسّر النص "في تفصيلاته التشريعية وبعض جوانبه". وما عدا ذلك يقبل النص الديني أي تفسير ضمن ظرفه وشروطه. ولا شك ان النفوس الذكورية والاعراف والتقاليد، لعبت دورا في تفسير النص لصالح الذكر ضد الانثى، وهي تفسيرات وليدة عاداتها وتقاليدها وفهمها، وليست بحجة علينا. ويجب ان يكون لنا تفسيرنا ضمن ظرفنا التاريخي. وهذا الكلام لا يعني الشمول ابدا، فهناك كثير من التفاسير الموضوعية، لكن قد نراها تجافي المرأة على خلفية فهم المفسّر، ومبناه في توثيق الروايات، ومدى قبوله لها. او مدى تأثّره بالتراث او بواقعه. او بسبب خلفيتنا نحن، واختلاف الزمان، ورؤية الرجل مطلقا للمرأة ودورها في المجتمع. فالقياس هو القرآن وليس قول المفسر او الفقيه، ومتى ما انتابنا الشك في اقوالهم نعود للقرآن نستنطقه كي نتعرّف على الحقيقة.."(5) وعلى ذلك فهو يرفض النصوص والتفسيرات التي تصف النساء بناقصات العقول، أو ما ينسب  للإمام علي(ع) من : " كن من خيرهن على حذر"

ويعتقد انها نشأت في ظروف سياسية خاصة، كحرب الجمل وخروج السيدة عائشة على الإمام علي (ع) وتزعمها لجماعة من المسلمين. (6) ووفقًا لذلك لا يمكن أن يشكل ذلك مدركًا للأحكام الشرعية أو لرسم صورة عن المرأة. نعم هي رأيٌ سياسيٌ شخصيٌ، لا رأيٌ اجتماعي عام تبنى عليه الأحكام.

ثانيًا: ان حصر مقاصد الله بالدلالة الحرفية للنص، وعدم مراعاة الدلالات الأخرى كالدلالة العقلية أو الدلالة المقاصدية، أو الدلالة الواقعية (التاريخية) قد أثر سلبا في تفسيرها، وجرد النصوص من قرائن مهمة قد تقلب العام إلى خاص، أو المطلق إلى مقيد والعكس صحيح. وعليه، فان الحل يكمن في تتبع المجتهد واستقرائه لجميع الدلالات الداخلية والخارجية لخلق وعي أعمق وأشمل للنص.

ثالثًا: من خلال إيمانه بلزوم فهم الأسبقيات والقبليات التي ينطلق منها المجتهد في معالجاته فانه يرى ان الفرضيات المعرفية المسبقة عن هوية المرأة وقدراتها هي من أثرت بشكل كبير في استنباط العديد من الأحكام المتعلقة بالرجل والمرأة. فيقول في ذلك: "لا إشكال في ان الحس الذكوري هو بوصلة الفهم والتفسير لدى بعضهم.. فكانت الذكورية حائلًا بينهم وبين التفسير والقراءة الصحيحة، حتى ان بعض الآراء الفقهية ما زالت قاصرة وقد تصنف جائرة بحق المرأة، وسببها كما تقدم النظرة الذكورية." (7)

رابعًا: فحصه للنصوص وإعادة قراءة مضامين الأدلة لا تمنعه من قبول مسوغات فكرية قدمها علماء الإسلام بخصوص تعدد الزوجات- مثلًا-، وصلته بالحقوق من أجل مجتمع نظيف، عفيف، ما دامت هذه المسوغات أو العلل لا تصطدم مع الواقع الضاغط بضرورياته ، مثل: كون الرجل لا يكتفي جنسيًا بزوجته، أو أن زوجته لا تطيقه جنسيًا، أو ان التعدد قد يساعد في القضاء على مشاكل العوانس، وقلة الرجال بسبب الحروب، أو الأرامل في ريعان الشباب، ونحو ذلك. والتعدد عنده من حقوق المرأة وليس الرجل فقط.

خامسًا: من الأدوات المنهجية عنده هو معيارية الفهم القرآني، وحاكميته على مجمل النصوص الأخرى، ولا يتأتى ذلك إلَّا من خلال النظر إلى القرآن ككل لا إلى جزء منه فقط.

وتشير الدراسات القرآنية الحديثة إلى ما يقارب من مئتي آية تتناول المرأة وعلاقتها بالرجل. ومن هذه النقطة في ينطلق إلى رفض الآراء التي تجيز زواح البنت بتسع سنوات!! معتمدًا على علامات البلوغ التي ذكرته النصوص كـ " بلوغ الحلم "، أو " بلوغ الرشد " فلا يمكن استفادة إطلاق الحكم بتسع سنوات من دون أن تكون حائضًا وبمستوى الرشد.

سادسًا: تحت عنوان "الإسلام والرق" يكشف ماجد الغرباوي عن أبرز أدواته المعرفية وهي التمييز بين الأحكام التدبيرية الزمنية التي تصدر من النبي (ص)، وبين الأحكام التبليغية التعبدية، فكما ان النبي يمارس أحكام التبليغ فانّه يمارس أحكام الولاية العامة في إدارة شؤون المسلمين، وهذه الأخيرة توقيتية لا تلزم المجتمعات اللاحقة. وعليه، فان أحكام الرق ومشروعيته إذا كان لها ما يبررها في ظروف وقواعد الصراع التاريخي، فان هذه القواعد قد تبدلت بعد أن اتفقت جميع المجتمعات على نبذ الرق بإشكاله المختلفة.

وأخيرًا، من حقي أن أسجل ملاحظة نقدية يمكن أضعها بصفه سؤال أمام منهج وتعاطي الأستاذ ماجد الغرباوي في تفريقه بين النص وفهم النص، وقد ذكرتها في كتابي:" مسألتان شائكتان في قضايا المرأة " وهي: ان معالجة القرآن لقضايا المرأة هل قائم على أساس تكويني في طبيعة المرأة بحيث يتصف بالثبات، أم قائم على أسس وحيثيات اجتماعية متبدلة ؟ وبالتالي يخضع النص القرآني للتبدل في معالجاته؟.

 

سُميَّة إبراهيم الجنابي/ باحثة إسلاميَّة.

الحلة/ العراق.

.............................

(1) ينظر: عبد المجيد الشرفي، عبثية الصراع المذهبي، كتاب: الصراع المذهبي فصول في المفهوم والتاريخ، الناشر: جامعة الكوفة، الطبعة الأولى- بيروت-2018م، 65.

(2) ينظر: الشيخ محمد تقي سبحاني، شخصية المرأة – دراسة في النّموذج الحضاري الإسلامي، ترجمة: علي بيضون- شاكر كسرائي، الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي- الطبعة الثانية - 2013م، 29-33.

(3) الشيخ حيدر حب الله، المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر، الناشر: دار الهادي- بيروت، 2008م، 14.

(4) الشيخ حيدر حب الله، المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر،12.

(5) المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، الناشر: العارف للمطبوعات، الطبعة الأولى- 2015م، 16.

(6) ينظر: المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، 24.

(7) ماجد الغرباوي، المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، 25-26.