بأقلامهم (حول منجزه)

قراءة صالح الطائي لمشروع ماجد الغرباوي في ميزان النقد (2)

من الواضح جدا الجهد الفكري للدكتور صالح الطائي في كتابه: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي)، وقد تناول بالنقد مجموعة آراء لماجد الغرباوي، كما قارن بين رؤيتيهما حول جملة موضوعات. وسلط الضوء على أبعاد مجموعة ثالثة، إضافة لمقدمة وافية عن نقد الفكر الديني وتاريخيه وأهميته. ولا يخفي المؤلف مشاعره واحترامه وتقديره لجهد الغرباوي، يقول في ص19 من الكتاب: (أما من حيث العموم فيبدو أن الأستاذ الباحث ماجد الغرباوي يحمل مشروعا لا يتبناه سوى من يحمل صليبه على ظهره ويجول بين صحارى الفكر يبحث عمن يُعلقه عليه، وهو لا يملك سوى إيمانه بنفسه ومشروعه، فالرجل رفع شعار إسقاط الساتر الفاصل بين الأمة ووقائع التاريخ ونقوله، ودعا إلى تحطيم أسطورة المعبد ليكتشف الناس وجه الله ويهتدوا إلى طريق الصواب). لهذه الأسباب وغيرها، استحق الكتاب الإشادة والمراجعة والنقد. فالطائي كما تقدم باحث قدير في مجال تخصصه، وجاء كتابه بالمستوى المطلوب. ويمكن الإشارة لجهد الكتاب بمايلي:

- قدم المؤلف استعراضا لمساحة واسعة من أفكار ماجد الغرباوي، وهو أمر يتطلب جهدا ومتابعة، لكثرة كتاباته وتعدد موضوعاتها. وبات لدينا الآن كتاب يعرف بمشروع الغرباوي، ووجهات نظره، قد يكتف به القارئ. وهذه مهمة بحثية يشكر عليها المؤلف، أكيد كلفته جهدا كبيرا لمراجعة كتبه وحواراته ومن ثم استعراض آرائه ونقدها.

- قدم لنا الكتاب وجهتي نظر حول بعض الموضوعات، وباتت لدينا أكثر من زاوية نظر، نستطيع بهما تقييم الآراء المطروحة. وإذا كان كل من الطائي والغرباوي ينتمي للفكر الإسلامي فتزداد أهمية الكتاب. فقد يعتقد البعض أن الانتماء الواحد ينتهي إلى نتائج واحدة. لكن بعد مراجعة الكتاب يجد القارئ اختلافا حول بعض الموضوعات.

- سلط الدكتور صالح الطائي في كتابه: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي)، الضوء على قضايا مهمة في مشروع ماجد الغرباوي، وبين مدى عمقها وقوتها، ولولا هذا الجهد قد تفوتنا ونحن نتابع ما يطرحه الغرباوي من أفكار. فنجده يتوقف عندها ويتأملها.

- استطاع المؤلف المحترم لملمة جهد الغرباوي بعد اتساعه، وقد اتضح من الكتاب سعة مشروع الغرباوي على مستوى الاصلاح والتجديد والتسامح، إضافة لمشروعه الفكري العميق في موسوعة متاهات الحقيقية. وهذا بحد ذاته جهد مهم يشكر عليه، وعملية ليست سهلة لولا أنه باحث ممارس.

- فتح الدكتور صالح الطائي آفاقا واسعة لنقد المشروع الفكري لماجد الغرباوي من خلال تسليطه الضوء على آرائه. وباتت لدى الباحثين فرص جديدة لمتابعة النقد والقراءة. وهذا يدل لا على سعة الباحث فقط بل على قدراته في البحث والنقد.

أعود لمتابعة قراءتي للكتاب، وهو الأهم في هذه المقالات، والغاية منها التكامل والإثراء، وبيان أسباب الاختلاف والتباين بين الآراء، في ضوء خبرتي واطلاعي على المشروع الفكري لماجد الغرباوي، وما هي أهدافه. وكيف يمكن لنا مقاربتها من خلال متبنياته النظرية. فهو يسر وفق رؤية متكاملة، وإطار نظري يحكم آراءه.

ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضى بأن السلطة السياسية تلعب الدور الأساس في إطلاق أي مشروع نهضوي؛ إذ لم يسجل التاريخ الحديث ولمعاصر ولادة حركة تحديثة ناجحة في أي من المجتمعات البشرية لا تنسب إلى شخصيات سياسية متنورة شكلت مركز استقطاب للغالبية الساحقة من المثقفين المبدعين الذين وضعوا عصارة أبحاثهم؛ ولا تستقيم إشكالية الحرية والإبداع في علاقاتها المتشابكة والمعقدة بالدولة والمجتمع إلا عن طريق مؤسسات ثقافية عصرية أو مناخ ثقافي حر يساعد على الإبداع بمختلف أشكاله، ويقيم تواصلاً ما بين الثقافة والمثقفين المبدعين من جهة، ومع الدولة العصرية الديمقراطية والعادلة من جهة أخرى.

انطلاقاً من هذه الرؤية المنهجية يمكن القول بأن القراءة التي أقدمها لكتاب صالح الطائي (السالف الذكر) لا تدعي الشمولية، ولا الإحاطة، بل هي قراءة اجتزائية، وربما كانت أحياناً مبتسرة، لكن الغاية المتوخاة منها هي إثارة الفضول لدى قراءنا الأعزاء في الشرق والغرب، واقتراح أرضية للنقاش علي هامش هذا المؤلف الهام؛ شعارة "الاختلاف لا يفسد للود قضية" .

وهنا أستطيع أن أقول (كما تبين لي من قراءتي العميقة للكتاب) أن ما فعله "صالح الطائي" في كتابه، إضافة لما تقدم من نقاط مهمة، أنه دافع عن معتقداته من جهة، وهذا حق مشروع، ومكفول لكل شخص، وكان ينبغي له أن يفعل ذلك. وأكد في ذات الوقت أنه في ذات المسار الفكري للغرباوي، ولهما  نفس التطلعات، وهذا أيضا سيدلنا على نقاط الالتقاء والافتراق، يدلنا عليها نفس الكتاب.

بيد أن الحقيقة كما ذكرنا في المقال السابق بأن الدكتور صالح الطائي باحث إسلامي، كما هو مثبت في سيرته، وأكده في هذا الكتاب ص13. ولكل باحث متبنياته العقدية ومنهجه العلمي. ولا ريب أن اختلاف المنهج قد يفضي لاختلاف النتائج.. كما أن الأطر الفكرية، وأفق المعرفة، وطبيعة الوعي تفرض محدداتها. واعتقد أن قراءة الباحث الإسلامي، أياً كان،  منحازة بالضرورة، يقتصر فيها على اقتناص مداليل تجدد رؤيته وفهمه، والبحث عن مبررات كافية لمواجهة التحديات.

من هنا يصدق أن وعي الباحث الديني / الفقيه / المفكر وعي مغلق، دائري، يستفزه نقد المقدّس. ويرابط داخل مدارات النص، مهما كانت قصية، إلا أنه لا يخرج عليه، ولا يشك بصدقيته. فالمعرفة الدينية محدودة الخيارات، لا تخضع للتجربة ومحاكمات العقل. وهذه هي قوة المقدّس وقوة سلطته المعرفية، فهو مجموعة تابوهات، تحد من حرية القراءة. وعندما يعلن أي باحث اتجاهه الفكري، يمكننا فروا التعرف على منهجيته، بل وربما نتائج مقارباته، لأنه سيكون محكوما لانتمائه. وهذا لا يعني التشكيك، والكلام حول سعة الأفق ومددات القراءة، التي ستكون خارج محكومة لخلفياته، خاصة النص المقدس. فتارة رهاب القداسة يحول دون التعرف على تاريخ النص وفلسفته وشروط فعليته، مخافة المساس بقدسيته، فَيُؤثر الباحث التمادي بالتبرير على خدش حصانة النص. ويغفل أن النصوص جاءت لمعالجة الواقع، وفعليتها ترتبط بفعلية ظروفه، وليست أحكاماً مطلقة تتعالى على شروطها التاريخية وفلسفة تشريعها. (أنظر: كتاب النص وسؤال الحقيقة لماجد الغرباوي، ص33 – 34). لا يمكنه مغادرة منظومته العقدية فضلاً عن نقدها. وهذا ما أكده صالح الطائي: أن ما طرحه ماجد الغرباوي من أفكار جاء منسجماً مع منهجه ومتبنياته الفكرية والعقدية، التي أشار لها في أكثر من موضع، لكنه تحدث عن منهجه في كتاب الفقيه والعقل التراثي كثيراً، ولاسيما موضوع التأصيل العقلي. أو المنهج في تصحيح الروايات وتبني الفهم بدلاً من التفسير في فهم النص الديني، وتوظيف الفلسفة ومعطيات العلوم الإنسانية الحديثة كالتفكيك، الإركيولوجيا، الأنثربولويجا، السيسيولوجيا، وعلم النفس، والأهم الهرمنيوطيقيا، (كتاب: الإلهي والبشري والعقل التراثي للدكتور صالح الطائي: ص13. فثمة اختلاف جوهري في المنهج. وهذا يعني أن كل باحث أيديولوجي يبقى سجينا داخلها، إلا إذا تحلل من قيودها وسلطتها. فالباحث الديني محكوم لقدسية النص مثلا، ولعقيدته. وهذا حقه خاصة عنما يبنعي على عقيدته على الدليل والبرهان. وكلامنا عن الفارق بين الباحث المتحرر، بلا قيود، وكل شيء أمامه قابل للنقد والمراجعة دائما، وبين باحث ملتزم بيقينياته. فالمسألة في دائرة المعرفة، وحدودها وآفاقها.

وفي اعتقادي أن ماجد الغرباوي (كما أعرفه شخصياً وعشته فكرياً) يشعر بحرية تامة بلا أي تحيز في قراءته للنص، والنص المقدس خاصة، لأن مفهوم القداسة عنده يختلف في معناها: القداسة تعني عنده، صدور النص عن مصدر متعالٍ محيط بكل شيء، فيشرّع ويهدي وفقا لملاكات ومصالح، يمكن للإنسان إدراكها لتحديد مدى فعلية النص المقدس. وقد ذكر تفاصيل، كيف يمكن تحديد الملاك من خلال مبادئ الجعل، والقضية تخصصية، والتفصيل في محله. فالقداسة عنده ثراء النص وتعاليه، وهذا يختلف عن معنى هدر القداسة (أنظر الحلقة 154 من الحوار المفتوح). وهذا يعني كما أفهم من منهجية الغرباوي في قراءة النص المقدس، حرية النقد والمراجعة، بمعنى فهم كل الظروف المحيطة بصدور النص، مهما كان مقدسا، وسياقاته الفكرية والثقافية والاجتماعية المحيطة به. فيكون الواقع شريكا في فهمه، لذا يختلف فهم النص باختلاف الواقع، وهذا ما أشار له مرات عدة، خلال كتاباته. فهو يشترط في استباط الحكم الشرعي دراسة تاريخ الحكم وفلسفة صدوره، كما في تعريفه لمفهوم الفقه: (هو إدراك فلسفة التشريع في ضوء فهم متجدد لدور الدين والإنسان في الحياة، وتحري مقاصد التشريع، وغايات الشريعة خلال عملية استنباط الحكم الشرعي). (كتاب: الفقيه والعقل التراثي: ص79) لتحديد مدى فعلية الحكم الشرعي، حينما يفقد الموضوع صدقيته أو بعض شروطه. لأنه يؤمن بقاعدة أصولية: أن فعلية الحكم الشرعي ترتهن لفعلية موضوعه، التي تتوقف على تمام شروطه وقيوده، ومع عدم فعليتها، فلا فعلية للحكم الشرعي. وهذا ليس خروجا على قدسية النص، قدر فهمه واستنباط رؤى جديدة. (وهذه القاعدة طالما ارتكز لها الباحث، أنظر على سبيل المثال، المصدر السابق، ص113). مما يعني، مهما كانت قداسة النص لا يمنع من مقاربتها بمناهج علمية حديثة، حينما اعتبر اشترط على الفقيه فهم تاريخ الحكم وفلسفة صدوره، وتاريخ الحكم يتطلب تقصي سياقاته التاريخية.

بينما القداسة في المفهوم المتداول، دوغمائية، وجمود على حرفية النص، تقتصر مهمة الباحث اتجاهها على الشرح والتبرير. فالمنهج النقدي بالنسبة للغرباوي منهج موضوعي يأخذ بالدليل والبرهان، ومناقشة الأفكار بعيداً عن قدسيتها، وطالما صرح الغرباوي أن العقل فوق النص. فكيف نفهم كلام صالح الطائي في الصفحة 13 من الكتاب: (وهذا لا يعني أننا نجتهد قبالة النص المقدس بقدر كوننا نريد لهذا النص أن يحافظ على قدسيته بعد أن تعرض للتشويش بسبب الآراء الجامدة والفهم الأسطوري التراثي)؟. شخصيا ومن خلال متابعتي لكتابات الغرباوي، لا يتفق مع هذا الكلام، كليا، رغم اتفاقهما حول قدسية النص، لكن كما تقدم يختلفان حول مفهوم القدسية، والغرباوي يذهب بعيدا، عندما يضع العقل فوق النص، ويظهر بنتائج مختلفة وفقا لما حدده من شروط استنباط الأحكام الشرعية، والتي بناها وفقا لمنطق الخلافة في مقابل منطق العبودية، والذي فصله كثيرا في كتاب الفقيه والعقل التراثي.

والنتيجة هل الغرباوي يجتهد قبال النص، الذي نفاه عنه الطائي؟. الاجابة ليست جاهزة، وصريحة، وتتطلب فهم منهج النقد واستنطاق الحقيقة عند الغرباوي، وقراءة كتاب الفقيه والعقل التراقي بإمعان وتدبر. فالنص عندما يفقد الموضوع فعليته، بناء على رأيه، ستنتفي فعلية الحكم الشرعي. فكم من حكم شرعي سيفقد فعليته وفقا لرأي الغرباوي؟ وهل هذا اجتهاد مقابل النص أم لا؟. الباحث أكد على نقطة مهمة. ان عدم فعلية الحكم لا تعني إلغاءه. وهي نقطة مهمة في نظري، لنفهم نحن أمام اجتهاد جديد، ورؤى عميقة تتطلب التاني والتأمل في قراءتها. فأتحفظ على التعميم في كلام الاستاذ صالح الطائي ليشمل رؤية الغرباوي حول قدسية النص للأسباب المتقدمة. لكن أيضا يجب التأكيد على موقفهما الموحد من النص المقدس.

لقد استطاع الغرباوي  التحرر من قبلياته وأحكامه المسبقة والتحرر من كل سلطة فوقية تتحكم بتفكيره، وهو يقارب النص الديني، وهو واضح للجميع، وهذا سر ما توصل له من نتائج خاصة على صعيد العقيدة، يشهد لذلك كتابه: "مدارات عقائدية ساخنة"، وكتابه "الفقيه والعقل التراثي"، وكتابه "مضمرات العقل الفقهي". حيث قارب قضايا تعد محرمة، واخترق مقولات على درجة عالية من القداسة، ليكشف لنا عن بشرية مجموعة مقدسات عقدية. بينما لا يمكن التحرر من النسق العقدي المتداول، ولا يمكن للباحث الإسلامي أن يخرج بذات النتائج. فالاختلاف في المنهج وزاوية النظر، وهذا يضع مسافة بين الرؤيتين.

المسألة ليست صوابا وخطأ بقدر ما هو اختلاف في المنهج والمتبنيات العقدية والفكرية. وعندما ينقد صالح الطائي آراء  ماجد الغرباوي وفقا لمتبنياته، فهو يعرض وجهة نظر مقابل وجهة نظر أخرى، ولا يصدق حينئذ مفهوم النقد. وهو حق مكفول له. النقد أن يشترط مناقشة الكاتب وفقا لمتبنياته، واثبات خطئها أو خطأ الاستنتاجات وفقها. وأما استعراض الأفكار فهو مقارنة بين رؤيتين حول موضوع واحد من زاويتين ومنهجين مختلفين. للأسف لم أجد في كتاب صالح الطائي أية مقاربة نقدية بهذه المواصفات؛ فأغلب الكتاب هي دفاعاً عن متبيناته العقدية والفكرية والإيمانية، وهذا حقه، ومقارنته بين فكرين.. إن ما يوجه عقيدة الغرباوي تمثل موقف الباحث المتأمل لمعرفة الحقيقية، بينما صالح الطائي ينبري لا شعورياً للدفاع عن عقيدته ومتبنياته فلا يصدق النقد، ويبقى محكوما لمنهجة وزاوية نظره.

ثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي تتعلق بما ذكره صالح الطائي في كتابه (ص 16) من أنه تابع أحد المواضيع التي نشرها ماجد الغرباوي حول مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي، فوجد أنه يبيح له ولغيره من الباحثين مهمة دراسة وتفكيك ونقد فكره؛ خاصة عندما رأى الغرباوي أن النص الديني ليس بريئاً، واتهمه بالمراوغة، وأنه يخفي أكثر مما يُظهر، ويضمر أكثر. كما استشهد صالح الطائي بمقطع من المقال: "القراءات التأويلية تطورت مستفيدة من التراكم الدلالي للنصوص خلال تفكيكها وفقاً لمنهج التفكيك الذي يحفر داخل طبقات النص ومخاتلاته في رحلة لاستكشاف أنساقه التي تتداخل تارة وتتعارض تارة أخري أو تتكامل وقد تشكل دوائر داخلية فنتنج معرفة جديدة حتي باتت المعرفة التأويلية واستنطاق النصوص أهم حينما تكشف مرجعياتها وطريقة أدائها داخل النص".

وأظن أن هذه حقيقة يعتقد بها الغرباوي، وبالضرورة ستشمل نصوصه.  وهي خاصية النصوص (ونحن خبراء بذلك تماما)؛ لكن ينبغي بيان نقطة مهمة وهي: أن تحيز الباحث لقبلياته تارة تحيز تفرضه قوانين المعرفة البشرية، وقوانين اللغة، وهذا لا جدال حوله، مادام يتوقف عليه ذات الفهم- (أقصد فهم النص)؛ أي نص كان يتوقف على قبليات المتلقي والقارئ. بل لولا هذه القبليات لا يمكن التفاهم بين بني البشر، فهذه قبليات تفرضه ضرورة الفهم.

وأما الانحياز المفروض أو الذي يقلب البحث إلى بحث أيديولوجي ممالئ، فهو الانحياز لقبلياته العقدية والفكرية التي يعتبرها نهائيات لا يطالها النقد والمراجعة؛ وقد ذكر ماجد الغرباوي في حواراته: "ثمة تأويل متاح شريطة أن يكون تأويلاً موضوعياً، غير متحيز، رغم استحالة عدم التحيز، وهي قضية مرتبطة بنظام اللغة، وكيفية إنتاج المعرفة، وكل إنسان يتأثر بقبلياته وثقافته. وما قصدته بالموضوعية هنا هو التأويل الناتج عن تدبّر وتأمل في أعماق النص، وتحري أنساقه وامتداداته ومضمراته، بعيداً عن أي اسقاطات عقدية أو فكرية. فيكون الفرق بين التأويل الموضوعي والأيديولوجي" (أنظر الحوار المفتوح للغرباوي الحلقة: 156).

وأنتقل إلي نقطة أخرى ذكرها صالح الطائي في كتابه (ص 19)، وهي أنه من خلال تفكيكه لمشروع ماجد الغرباوي أكتشف أن هذا المشروع يتحرش بالممنوع الحقيقي والأسطوري بشكل لا يصدق، ويقتحم الخطوط الحمراء دون سابق انذار، ولا تخشي لومة لائم، (خاصة) حينما يحمل سيفين واحد باليمين وآخر بالشمال، فيطلب من أهل السنة أن يعيدوا النظر بنظرية عدالة الصحابة، ويطلب من الشيعة كذلك أن يعيدوا النظر في عصمة الأئمة!

وهنا أقول عندما يمارس "ماجد الغرباوي" النقد على النص، فهو لا يتوقف عند حدود المقدس، بناء على مفهومه الذي تقدم بيانه، ويغور عميقا في أعمقه.. هو يدرس تاريخه ومبررات صدوره، وما يظهر ويخفي، وما هي مضمراته بالتحليل، والتفكيك، والحفر الإركيولوجي، والفهم الهرمنيوطيي.. ولا شك أنه عرف بكثرة استفزازاته للمتلقي؛ خاصة حينما يتوغل في أعماق المقولات العقدية، لاكتشاف بشريتها، مهما كانت مقدسة.. ولديه قناعة تامة ذكرها الغرباوي في موارد عدة من كتاباته وحواراته، بأنه :" لا تجديد ولا اصلاح ما لم نخرج من النسق العقدي المألوف، وذلك من خلال نقد مقولاته، وبيان بشريتها وحقيقتها ومدى قدسيتها".. وهذا أحد أسباب تخلفنا (كما يقول الغرباوي)، فهو يريد "النهوض حضارياً دون المساس بيقينياتنا ومقدساتنا، بينما ثمة تخلف خفي سببته تلك اليقينيات؛ فمثلا عدالة الصحابة عند السنة، وعصمة الائمة عند الشيعة كم أرهقت المسلمين ومازالت"، وحينما ينقد (الغرباوي) مقولاتهما فإنه يكتشف بشريتها، ومن ثم فإنه ( كثيراً ما يقول) بأنه "سيقوم بمراجعة شاملة لكل المقولات والآراء والأفكار والعقائد القائمة على هاتين المقدمتين. فالنقد العقائدي يوفر رؤية جديدة، تستمد شرعيتها من الأدلة والبراهين العقلية" ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط