بأقلامهم (حول منجزه)

التسامح رؤية اسلامية تنويرية.. ماجد الغرباوي نموذجا

بحث مشارك في مؤتمر جامعة واسط.. مشاركة ثنائية:

- ايمان عامر، باحثة دكتوراه فلسفة تطبيقية، جامعة قالمة الجزائر

- دنيا مسعود خلوف، باحثة دكتوراه فلسفة غربية حديثة ومعاصرة، جامعة قالمة الجزائر

Tolerance is an enlightening Islamic vision –majed al-gharbawi is a model-

***

الملخص

مثل الحب والسلام، يعد التسامح فضيلة انسانية بالدرجة الأولى قبل ارتباطها بأي مؤسسة سواء كانت دينية أو اجتماعية وغيرها.. فهو ضرورة نقابل بها قيم التعصب والعنف والاستبداد التي أهلكت الانسانية وأدخلتها في دوامة من الحروب والصراعات على مر العصور، فقد كتب لوك وفولتير رسائلهم في التسامح لضرورة ملحة، أي انتشار كل أشكال العنف في ظل غياب التسامح منادون بضرورة تحطيم كل أشكال الخلاف والمناداة بالاختلاف الديني والثقافي وقبول الآخر، والعديد من الأصوات المنادية به في العالم سواء الغربي أم العربي، هذا الاخير الذي أنتج قلما من خيرة أقلام هذا العصر المنادية بضرورة فك دعائم اللاتسامح والدعوة الى فاعلية قيم التسامح لعلها تنتشل الفرد العربي من أزمته، وهو المفكر العراقي "ماجد الغرباوي" من خلال تقديمه لرؤية فلسفية وعقلانية محضة تنهل من منطق العقل ومن نهر الشريعة الاسلامية لتخلق نسق قيمي جديد قائم على قيم التسامح ومفككا لقيم اللاتسامح ومنابعها، انطلاقا من الواقع ومن البيئة الاسلامية التي شهدت تطرفا واستبدادا نظرا لعدم وعي الشعوب وعدم فهم النص القرآني فهما صحيحا، لهذا فمن الضروري أن تتظافر الجهود من ّأجل تفكيك النسق القيمي المتطرف وتبديله بقيم جديدة ايجابية لكي يعم التسامح والحب والتضامن كل أرجاء العالم الاسلامي في زمن انتشر فيه العنف باسم الدين.

الكلمات المفتاحية: التسامح، اللاتسامح، الاستبداد، العنف، الوعي، الشريعة الاسلامية.

Like love , peace, tolerance is a human virtue in the first place, before any religious or social instituation, it is a necessity with which we meet the values of intolerance, violence and preparedness that have destroyed humanity, locke and Voltaire wrote their letters in tolerance of the necessity and spread of all forms of violence in the absence of tolerance, calling for the acceptance of the other. Many have called for it, whether in the arab or western world, one of the most important advocates of the value of tolerance in the arab world is “majed al-gharbawi” who presented a purely rational and philosophical vision to create a new paradigm of tolerance that deconstructs intolerance, from the reality of the Islamic environment, which witnessed extremism and tyranny, given the lack of awareness among peoples and the lack of proper understanding of the quranic text, it is necessary to cooperate to dismantle the extremist system and replace it with positive values, so that tolerance,love and solidarity prevail throughout the Islamic world at a time when violence in the name of religion has spread.

Key words

Tolerance, intolerance ,tyranny, violence,awareness , Islamic law.

3980 الضد النوعي للاستبداد

مقدمة:

يعد التسامح فضيلة أخلاقية لها ملامح انسانية بالدرجة الأولى، اذ أنه من بين الفضائل التي سعى الانسان لبلوغها دوما، وشرع لمفهومه وآلياته الكثير من الفلاسفة على رأسهم جون لوك وفولتير ومونتيسكيو الذين ساهمو بشكل كبير في بداية تأسيس خطاب حقوق الانسان من خلال مشروعهم القائم على التسامح للتخلص من التعصب المتطرف الذي أغرق اوروبا في وحل النزاعات. ناهيك عن الخطاب الديني الذي يحمل في طياته رسالة وجيهة ألا وهي نشر قيمة التسامح والوئام والحب، لأنه من الضروري وجود رابطة متينة تعزز ثقافة السلم والتبادل الفكري الخلاق والداعم للحوار وبالتالي نشر قيمة التسامح في عالم تسوده هواجس الصراعات والمشاكل بين البشر، هذا التنافر سببه قيمة الاختلاف ليس هي في ذاتها، بل بالمشاكل المتعلقة برفضها، فالعالم الذي نعيش فيه اليوم يرفض الاختلاف وتقبل الآخر بالرغم من كونه سنة الكون والدعامة الأولى التي تميز البشر مهما كان نوعه ايديولوجي أو ديني او عقائدي أو سياسي، وبالتالي فالبشر لا يتقبلون من هو مختلف عنهم وبالتالي تسبب هذا الاعتقاد في وجود أزمة خانقة على مر التاريخ، على سبيل المثال ما شهدته أوروبا من حروب دينية بسبب التعصب الدوغمائي من قبل رجال الدين على بقية الشعب وممارستهم الوصاية باسم الدين وما نتج عن ذلك من استبداد ونهب وقتل وغيرها من منابع اللاتسامح التي عرفها العالم الاسلامي أيضا عبر مختلف الأحداث وساد الاعتقاد أن المنظومة القيمية الاسلامية هي المسؤولة عن تفشي هكذا أحداث، والكثير من الاتهامات التي وجهت لتلك القيم الدينية والتي نتجت عن مفهوم خاطئ والتي تستدعي قراءة جديدة للدين لفهمه فهما صحيحا، لذلك حاول المفكرون تجديد الخطاب الديني عبر محاولات نهضوية مختلفة، ومن أبرز مفكري العصر الذين اهتموا بهذا الموضوع بغزارة نجد المفكر العراقي "ماجد الغرباوي" في رؤية فكرية ذات توجهات اسلامية قائمة على نقد أسس العنف والاستبداد واللاتسامح وبيان تناقضها مع الشرع الاسلامي وفك الخطاب الديني الذي يبدو متطرفا وشرحه واعادة النظر في مفهومه واستبداله بالحقيقة الواعية البعيدة عن كل تطرف، وفهم الخصوصية الدينية والدعوة الصريحة لقيمة التسامح في وقت تفشى فيه العنف باسم الاسلام وبيان وجود مفهوم التسامح كمفهوم متجذر في الخطاب الاسلامي ودعوة صريحة له منذ نزول القرآن الكريم وبالتالي فالمطلوب هو البحث عن هذه القيمة في النصوص الشرعية ومحاولة نشرها بما يناسب واقع اليوم ..هذا ما حمله مشروع ماجد الغرباوي التجديدي والاصلاحي، ومنه نطرح التساؤل التالي: كيف يمكن للتسامح أن يحد من تفشي العنف والاقصاء؟ وكيف يمكن أن يكون وسيلة لتفكيك خطاب اللاتسامح الاستبداد ومنابعه؟

أولا-التعريف بالكاتب:

ماجد الغرباوي كاتب ومفكر عراقي مهتم بالفكر الديني، متخصص في الفلسفة والعلوم الاسلامية وعلوم الشريعة، كما يعتبر مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي بسيدني، شغل عدة مناصب من بينها رئيس تحرير مجلة توحيد، كما أصدر سلسلة رواد الاصلاح وكان رئيسا لتحريرها بالإضافة الى عضويته في الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، كما حاز على العديد من النقدية والتقديرية عن أعماله1. يسعى الغرباوي من خلال مشروعه الى تحرير العقل من بنيته الأسطورية التي لجم بها واعادة فهم الدين على أساس مركزية الانسان دون غيره ونشر الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وقراءة النص قراءة متجددة تقوم على النقد والمراجعة من أجل فهم الدين كشرط أساسي لترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والحرب ويعمه السلام الكوني2.

أشهر مؤلفاته:

كتب الغرباوي العديد من المنجزات والكتب التي تعبر عن غزارة انتاجه الفكري، نذكر منها:

-الضد النوعي للاستبداد (استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني)

-التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات)

-اشكاليات التجديد

-النص وسؤال الحقيقة (نقد مرجعيات التفكير الديني)

-الحركات الاسلامية (قراءة نقدية في تجليات الوعي)

- تحديات العنف

- موسوعة متاهات الحقيقة، التي صدر منها لحد الآن:

- الهوية والفعل الحضاري.

- مواربات النص.

- الفقيه والعقل التراثي.

- مضمرات العقل الفقهي.

- تحرير الوعي الديني.

- المرأة وأفاق النسوية.

 - تراجيدية العقل التراثي.3981 التسامح ماجد الغرباوي

ثانيا: مفهوم التسامح:

لغة:

لقد ورد مفهوم التسامح في لسان العرب لابن منظور "من السماح والسماحة: الجود. وسمح وسماحة وسموحة وسماحا: جاد.

ولغة يُقال: سمح وأسمح اذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء. وقيل: انما يقال في السخاء سمح، وأما أسمح، فإنما يقال في المتابعة والانقياد. ويقال أسمحت نفسه إذا انقادت.

والمسامحة: المساهلة، وتسامحوا: تساهلوا.

ومن ثم فالتسامح هو التغاضي عن أخطاء وزلات الغير أو التساهل في الحقوق أو الصبر على إساءة أو أذية ما3 .

- وفي النواحي الغربية الأوروبية فتتم الاستعانة بكلمتي Tolération وTolérance للدلالة على معنى التسامح. أين تحمل احداهما وهي Tolération معنى التخصيص فتشير بالضبط الى التسامح الديني سواء على مستوى الديانة الواحدة أو على مستوى ديانات متعددة.

في حين تحمل كلمة tolérance معنى العموم مشيرة بذلك الى تقبل الآخر بالروح السمحة مهما كان مختلفا عنا. ولعل الاستخدام المعاصر يميل الى كلمة Tolérance أكثر 4.

اصطلاحا:

أما من الناحية الاصطلاحية فالتسامح يشير الى جملة التصرفات والسلوكات الخاصة أو الجماعية التي على الأفراد ممارستها حتى يتقنوا فن العيش هم وغيرهم من الآخرين، دون أي انغلاق وتطرف، بل انفتاحاً على الاحترام المتبادل الذي يترك مجالا ومساحة للآخر المختلف خصوصاً عقائدياً 5.

 وبذلك فالتسامح مبدأ انساني يُؤصّل لفكرة التعايش وتقبّل الآخر مهما كان مختلفاً عنّا، بل تقويض طرق وسُبل الانقسام والشتات باسم الدم، الدين، الجنس... يقول في ذلك فولتير: "ان التسامح نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، لأننا جميعا من نتاج الضعف، فنحن ضعفاء ميّالون للخطأ، لذا دعونا يسامح بعضنا البعض ونتسامح مع بعضنا البعض بشكل متبادل وذلكم هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة والمبدأ الأول لحقوق الانسان كافة." 6.

ثالثا- التسامح عند الغرباوي:

لقد وجدت الحضارة الإسلامية نفسها بعد مضيّ زمن طويل في وضعية شتات وصدمة حضارية عميقة، وذلك نتيجة استفاقتها على حالة من الانحطاط والتخلف والزعزعة، بعد أن كانت مهد كل الحضارات، وذلك في أول لقاء حضاري مع قرينتها الغربية، الأمر الذي دفع بالشرق وبالأخصّ الإسلامي أمام هذه المساءلة النهضوية الى الانشطار لثلاث اتجاهات7:

أوّل إمّعة تزعمه المتغرّبون ممن مالوا الى الذوبان في ثقافة الغرب، فقطعوا الصلة مع تراثهم.

اتجاه ثاني محافظ وفيّ مخلص لثقافته وحضارته الإسلامية ورافض لأي اختلاف ومغايرة غربية.

واتجاه ثالث وسطي تأرجح بين الأصالة والمعاصرة، فحافظ من ناحية على قيم وتعاليم

الدين الإسلامي، وانفتح من ناحية ثانية على ما يناسبها (القيم) من الحضارات الأخرى، مؤصّلاُ بذلك لثقافة التسامح والعيش الواحد المشترك بما فيه من احترام الذات واعتراف متبادل بالآخر.

ولعل هذا الأمر هو المشروع الأساسي الذي أكد عليه مفكّرنا العربي ماجد الغرباوي، فالأمة الإسلامية حسب رأيه في حاجة ماسّة الى رقيّ ونهوض حضاري لتجاوز ركودها وتقهقرها السابق الأمر الذي لا يكون الّا من خلال الموازنة بين معطياتها من جهة ومعطيات نظيرتها الغربيّة من جهة أخرى.

إنّ الآخر من وجهة نظر الغرباوي ليس المغاير المناقض، بل هو المغاير الذي يستلزم التواصل ويقتضي الانفتاح والقبول، فلم تكن المغايرة أبداً تخلّي عن الذات وطمس لهويّتها، كما لم ولن تكن أبداً انغلاق على الذوات الأخرى ومحاربة لها. بل على العكس من الحالتين المغايرة تسير في سياق الرقي بالذات ضمن علاقة وجدلية إيجابية مع الآخر قوامها المعايشة الواحدة والاحترام المتبادل ضمن سياق قيمي تسامحي 8.  وفي الإشارة الى التسامح يقدم الغرباوي مفهومه الخاص له باعتباره مبدأ إيجابي يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة دينيًّا وسياسيًّا، ليس تكرّماً ومنّةً، وانما واجباً تفرضه الحرية الشخصية. فالتسامح كمشروع حضاري لا يطمس ويتجاوز الآخر المختلف وفق ثقافة النبذ والاقصاء وتحت شعار المجابهة والقتال، بل يسعى الى التواصل والتعايش، ورغم أنه لا يقتصر على الجانب الديني فحسب بل يتعداه الى جوانب أخرى، إلاّ أنه في الفترات المعاصرة يُطرح ضمن هذا السياق خصوصًا وأن حضارتنا الإسلامية في حاجة ماسة الى مراجعة جديدة وعمليّة تعرية وكشف لما هو مستور مضرّ يمسّ ويهدّد وجودها من خلال الانغلاق على ذاتها والتعصب لمعتقداتها.

فالبيئة الإسلامية على حد تعبير الغرباوي في حاجة الى قراءة جديدة لنصوصها، قراءة قوامها الكشف والمساءلة لا التستر والمدارات، لأنّ هذه القراءة وحدها التي تسمح بالرقي بها وبإعادة بنائها وفق قيم حقيقيّة أبرزها قيمة التسامح. فالضرورة هنا هي تحديث هذه الحضارة ليس بشكل خارجي شكلاني وانّما بقلب الموازين واحداث تغيير داخلي عميق 9.

ان التسامح عند الغرباوي هو تجاوز لأي تعصّب وانغلاق على الآخرين، الى التقبّل والسماح لهم بإبداء آرائهم والتعبير عنها وفق مبدأ الحرية سواء كانت موافقة أو مخالفة لآرائها الخاصة.

ولذلك فنحن في حاجة ملحّة ضمن سياق مشروعنا الترقيعي النهضوي الإسلامي حسب الغرباوي الى خطوتين العودة الى الماضي بأصالته، وممارسة النقد عليه وتعريته. فالعودة لا تعني الذوبان التام فيه خصوصا اذا كان يحمل في طياته بوادر ضعفه، والنقد من ناحية أخرى لا يعني التقويض والهدم، وانما في الحقيقة هو ملية قوامها استدعاء الماضي وإزالة ما فيه من عرقلة نهضوية، وفي نفس الوقت الانفتاح على المستقبل بما يتضمنه من معايشة للآخر، ذلك أن تحضّر ورقيّ أي مجتمع يعود الى قاعدة وركيزة واحدة هي التسامح بمعناه الحقيقي الفعّال الذي يقوم على تقبل المختلف مهما بلغت درجت اختلافه ومستويات أخطائه، والسير نحو رؤية ايجابياته ونقاط جماله والأهم التسامح معه 10.3982 تحديات العنف ماجد الغرباوي

رابعا- بين التسامح واللاتسامح:

كتب على بني البشر العيش في جماعات مجتمعة، فلا يمكن لبشر أن يعيش بمعزل عن الآخر ولهذا العيش ضوابط وخصائص اذ يتوجب على الأفراد احترام خصوصيات بعضهم البعض وقبول معتقدات الآخرين وأفكارهم وحرياتهم الشخصية واختلافاتهم سواء كانت في الدين أو العرق أو اللون او في المعتقدات، لقول الله تعالى ان في ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين سورة الروم الآية22...، فالبشر جميعهم مختلفون لهذا السبب لا بد من تقبل الآخر والنظر في الأشياء التي تجمع الانسانية بعيدا عن كل تطرف او انتماء قد يشق أو يخلخل شبكة العلاقات الانسانية ويفكك قيم التسامح، هذا فان لم يحدث تقبل للاختلاف ستتدهور حالة المجتمعات مثلما هو سائد الآن ونخص بالذكر المجتمعات الاسلامية التي فقدت بنسبة كبيرة قيمة التسامح في مقابل انتشار قيمة اللاتسامح والتعصب والعنف وغيرها من قيم سلبية أثرت على الفرد العربي بالدرجة الأولى وفي سلوكياته وانطباعاته تجاه الآخر ومن ثمة مجتمعه. حيث أن ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح الذي يعتبر في نظر الأوساط المتصارعة مجرد قيمة أّخلاقية تتحكم به المؤثرات الاجتماعية والسياسية والثقافية11. فالأطراف والأشخاص والأقوام المتصارعين لم ينتبهوا الى قيمة التسامح كونها الفاعل الأساسي في الحد من ذلك الصراع واعتبروها مجرد قيمة أخلاقية كغيرها من القيم كما أن غياب الوعي بمدى قدرة هذه القيمة في تغيير أحوال المجتمعات زاد الطين بلة وأدى الى نسيان الهدف الأسمى والصورة الغائية التي تندرج تحت هذه القيمة.

يرى الاستاذ ماجد الغرباوي أن الرهان على فاعلية قيم التسامح وقدرتها على خلق مناخات مؤاتية لاستنبات نسق قيمي جديد يتجاهل ما توارثه من محفوظات ونصوص ويؤسس لقيم جديدة ناظرة الى البعد الانساني12. بمعنى أن النهج الصحيح للوصول الى مجتمع متسامح هو اثارة الوعي حول هذه القيمة واعادة تشكيلها وفهمها من جديد بعيدا عن الموروث الديني المفهوم بشكل خاطئ وفهم الدين فهما صحيحا لأن المتطلع على الخصوصية الدينية يجدها تدعو الى كم وفير من القيم الايجابية كالتسامح والحب والأمانة وتقبل الآخر، وأن السبب في تفشي ظاهرة العنف واللاتسامح هو عدم فهم آيات الذكر الحكيم واعتبارها آيات تدعو للعنف وهذا نتاج القراءة السطحية والفهم المتداول عن العقل الجمعي الذي يتبع فقط الآراء السائدة، وعدم الوعي بقيم التسامح وثوابها ونتائجها المتواجدة في القرآن الكريم، وبالتالي انتشرت الكراهية ونبذ الآخر والتفرق والانحياز الى مذهب أو فرقة على حساب أخرى والتعصب لها وبالتالي انتشرت كل مظاهر اللاتسامح. اذن فمشروع مفكرنا مبني على "محاولة لتأسيس نسق قيمي جديد لمفهوم اسلامي عريق أكدته نصوص الكتاب وعضدته السير الصحيحة وارتكز اليه المسلمون وشخص النبي في علاقته مع الآخر المختلف دينيا"13.

 هذا المشروع يقوم على اعادة قراءة التراث قراءة صحيحة بعيدة عن الأحكام المسبقة والآراء المتطرفة لأنها هي السبب في نشر مشكلة اللاتسامح والقضاء عليها على الأقل نسبيا وبما أن البحث في جذور المشكلة هو نصف الحل اضافة الى تشخيص الأزمة فالبتأكيد سنتمكن من الحد من انتشار هذه الظاهرة خاصة وأن الانسان كائن مميز بالعقل، فبإمكانه ادراك وتحليل ما يخترقه من أزمات من خلال عقلنتها وعقلنة كل شيئ سائد لا سيما الدين، وهو ما ذهب اليه ايمانويل كانط في القرن الثامن عشر حينما أطلق العنان للعقل ورفض كل قيم التعصب والتشدد الديني التي تضفيها علينا الأحزاب الدينية وغيرها، فالعقل يستطيع الوصول الى الدين الصحيح دون املاء من تصورات مفارقة من خلال الاعتماد على نصوص الذكر الحكيم واستنباط منها قيم صحيحة عكس تلك السائدة كذلك اتباع قيم السيرة النبوية والتي رسمت لنا في بعض أحاديثها أروع رسوم التسامح كقصة النبي محمد (ص) مع الشخص اليهودي الذي تقبل اختلافه وتعامل معه بلين ورفق رغم أذية اليهودي لشخص الرسول لكنه تعامل معه بأبلغ قيم الانسانية، فالإسلام دين أخلاق عالمية كونية وانسانية يجهلها الشخص المتطرف. لأنه صار مألوفا حز الرؤوس وتقطيع الأوصال والتمثيل بجثث القتلى حتى مع المسلم البريء لمجرد اختلافه مذهبيا أو سياسيا، بل صار يعرف الاسلام بهكذا ممارسات لا انسانية فضلا عن لا اسلاميتها.

فالممارسات العنيفة من قتل واغتصاب واستبداد لا تمت للإسلام بصفة فهي أولا صفات دخيلة ربما ناتجة من جهل المجتمعات القبلية التي تتصرف بوحشية وفقا للنمط المنغلق المبني على العصبية..

و يرى مفكرنا أن الحل الوحيد لهذه الأزمة ليس بالأمر الهين لأنه مرتبط بصفات متجذرة في الشعب والمجتمع كما أنه مرهون للحد من صفات خانقة وكوارث اجتماعية متفشية تجتاح المجتمعات بلا هوادة وأثرت على المجتمع سلبيا، لذا فانه من الضروري "تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والاخوة والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف الى مساحة الحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر وهو عمل صعب يستدعي جهودا يتظافر فيها الخطاب الاعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي"15. لهذا فزرع قيم التسامح بدلا من اللاتسامح هو عمل جبار يتطلب تعاون متبادل بين جميع الّأطراف وكل بنى المجتمع من أجل نشر الوعي من خلال تبني قيم الدين وقراءتها بصورة جديدة وتقديم رؤية عصرية لمختلف قيمه بما فيها التسامح وشرح اهمية التسامح الديني من أجل ضحد كل المنابع المؤسسة للعنف باسم الدين واستنباط قيم جديدة من اجل استغلالها لصياغة نسق ديني خاص بالتسامح لكي يعم السلام والأمن كافة أرجاء الانسانية لأن الانسان هو خليفة الله في الأرض فلزام عليه أن يكون كائن مسالم متسامح مع كافة اخوانه.

ومن جانب آخر فلا يمكن للتسامح أن يتواجد في مجتمع تسوده قيم سلبية وشعوب متناحرة ومتنافرة وعادات تعبر عن سوء التأقلم والتعايش بين البشر، فلا يمكن للمجتمعات التي تعاني الاقصاء والتمييز والعنف أن تتبنى التسامح وتتقبل نمط معيشي جديد يسوده الهدوء بعيدا عن كل عصبية، اذن فانه من الضروري تفكيك كل منابع اللاتسامح أو المحددات المؤسسة لها ووضع قيم جديدة وتبني أشكال جديدة من القيم تصب كلها في منبع التسامح، لكن قبل ذلك يجب معرفة منابع اللاتسامح والقيم التي تؤسس لهذا الفعل وتحليلها من أجل تفكيكها والتمكن من تجاوزها في النهاية. أي "محاولة لتجريد التعصب من الشحنات السلبية ليصار الى قيم جديدة يتعصب فيها الفرد لصالح القانون واحترام النظام وتبني قيم التسامح والمحبة والوئام" 16. لأن الدولة المدنية هي التي تحمي الفرد بالقانون ولا تسمح بالتعدي على الآخر كما هو سائد في العقلية الرجعية للشعوب، وتختلف منابع اللاتسامح حسب مفكرنا نذكر بعضا منها

1- منابع اللاتسامح:

العنف:

لعل العنف من أبرز الظواهر السائدة في المجتمعات الحديثة ولا سيما القديمة، أي أنه مفهوم متجدر وتكون هذا المفهوم منذ القدم فقد لجأ الانسان الى العنف من أجل الدفاع عن نفسه بمختلف أنواعه سواء كان معنوي أو مادي بالضرب أو القتل او من خلال السب والشتم وغيرها من وسائل العنف المختلفة، كما ساد العنف بكثرة في الحروب وفي الخلافات العائلية وبين القبائل أي في المجتمعات التي لا تتحكم الى قوانين وضوابط مدنية وتلجأ الى العنف بحيث "أصبح الأسلوب الوحيد في انتزاع الحقوق وفرض الآراء هو اللجوء للقوة، التي هي جزء كبير منها ممارسة غير مشروعة للعنف، بل ومحرمة بميزان الدين والأخلاق" 17.

 فهناك من يلجأ الى بسط نفوذه والوصول الى مبتغاه بالعنف من خلال منطق القوة، كما اصبحت هذه الأخيرة وسيلة لانتزاع الحقوق بدلا من اللجوء الى القضاء والقوانين العادلة وبالتالي سيكون هناك ظلم خاصة أن القوي سيأكل حق الضعيف بأي صورة من صور العنف سواء بالضرب المبرح أو القتل العمدي وهي أفعال محرمة شرعا ومحظورة انسانيا، اذن فالأهم هنا هو القضاء على العنف وافراغ محتواه لتحل محله القيم الانسانية، لكن المسألة لا تقتصر على مظاهر العنف والممارسات اللامشروعة للقوة فهذه الأخيرة يمكن القضاء عليها بعنف مضاد، لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه، كيف نتجت ثقافة العنف وكيف نقضي على منابعها ومنابع التعصب بصفة عامة 18.

 اذن فمن الضروري تقديم قراءة جديدة للدين واستنتاج قيم جديدة قائمة على فعل التسامح لتحل محل العنف وتوعية الشعب وتثقيفه للابتعاد عن هذه الظاهرة المستبدة وتنقية عقله من الأوهام والسرديات الكبرى أو السرديات الفائقة بلغة ليوتار والتي ترسم لنا مظاهر العنف عبر أشهر محطات التاريخ التي لجأ فيها الانسان للقوة ليخرج منتصرا، فالشعوب دوما تتذكر القصص التي فيها عنف والتي غيرت التاريخ في نظرهم عن طريق انتهاج هذا النهج، فمن الضروري تقويم المخيال الجمعي وتوعيته والمساهمة في يقظته لكي يحل محل العنف قيم السلام والاخوة والليونة.

الولاء القبلي:

قبل الولوج في مفهوم الولاء القبلي وجب أولا الحديث عن القبيلة أو العشيرة باعتبارها مجموعة من الأشخاص يستوطنون مكانا ما، لهم قوانين ونظم خاصة بهم ويترأسهم شيخ يكنى بشيخ القبيلة، فهو يسن القوانين وهو الشارع المنظم يمارس الحكم على الجميع ويصدر القرارات التي ينبغي على الجميع احترامها والانقياد بها، هذا ما يسمى الولاء أي الطاعة واحترام قوانين العشيرة وجلب كل ما له مصلحة لها على حساب كل القبائل الأخرى، لأن وجود الفرد من وجود قبيلته ووجوده مرهون بها فهي من تصنع له مكانته، وبالرغم من دخول الفرد مرحلة الدولة الحديثة او دولة القانون الا ان النظام العشائري مزال يفرض نفسه ومسؤول عن انتشار اللاتسامح في بعض الدول من خلال تعارض المصالح خاصة عندما يكون الحديث عن معتقدات وقيم القبيلة.

لقيم العشيرة تداعيات خطير خاصة في المجتمع الذي يضم عدد كبير من العشائر ويكمن الخطر حينما تتصادم قيم القبائل فيما بينها أو تتصادم مع قوانين الدولة أي ما يسمى بتقاطع الولاءات هنا يكون الفرد مخيرا بين الولاء لقبيلته أو لدولته والقانون أو عندما يكون الامر مرتبط بالولاء للدين ايضا، فتكمن المشكلة الى من سينحاز الفرد في الولاء أكيد سيختار قبيلته وينحاز لها ضد الدولة فهو لا يستطيع التخلي عن عشيرته التي ترعرع في كنفها وعلى مبادئها وبما أن مكانته الاجتماعية تعطى له على أساس قبيلته 19.

كما أنه من المعروف أن القبيلة تقف بالمرصاد لأي أمر يتعارض مع مصالحها.. هكذا اذن تتقاطع الولاءات في معادلة الولاء للدولة أو للقبيلة وبالتالي تحدث فوضى عارمة في المجتمع ولاتسامح بين الأفراد لذلك كان لزاما تفكيك كل القيم المنوطة بالولاء العشيري واعادة تشكيلها وفقا لقيم جديدة اكثر انسانية ولا يسود فيها العنف والتصادم، أي أن يحول الولاء الى دولة القانون التي تضمن للإنسان حقوقه ومتطلباته الاساسية التي تطبق على الجميع سواسية، وتكون هذه القيم الجديدة قائمة على اساس الدين والنص القرآني الذي يدعو للبر والتقوى والتعاون، من هنا ستتوحد الشعوب على أساس انساني، كما أن الأمر يحتاج الى اعادة تفكيك قيم القبيلة لا القضاء عليها أو تعطيل فاعليتها لأن هذا الامر مستحيل وانما يعاد تركيبها بشكل يخدم المجتمع ويفعل القانون ويضمن ولاء الفرد للدولة القانونية بعيدا عن التعصب القبلي الذي كثيرا ما يتعارض مع المصالح العامة للشعب، هذا الأمر الذي عبر عنه الكاتب على أنه مصادرة للفرد وقيمته الانسانية وارادته التي أراد لها الله أن تكون متحررة وتسامح في بناء مجتمع متسامح20.

اذن فتفكيك النسق القيمي وليس الاجتماعي للقبيلة واعادة تشكيل العقل العشائري له الأولوية في عملية التغيير وتأسيس مجتمع يقبل كل التحولات بنظرة متسامحة تنشد كل قيم التسامح 21.

سلطة القيم:

تعتبر القيم الأساس الضابط لسلوك الفرد في تعاملاته وهي مكتسبة من المجتمع، بحيث "يلقن الفرد بمفاهيم قيمية يراد له الالتزام بها كي يكتسب احترام المجتمع، الذي لا يحترم الا من دأب على احترام قيمه والتزم بأعرافه وتقاليده"22.

اذ أن الاحترام يتبين من خلال تمسك الفرد بقيمه فهو بالتالي شخص محترم له مكانة اجتماعية مرموقة وكل شخص متمرد وساخط عن قيمه فبالتالي هو شخص فاقد لمكانته الاجتماعية خاصة تلك التي أعطته اياه القبيلة، فالقبيلة تشرع لصفات صارمة من قبيل العنف والولاء كما سبق شرحه وكذلك قيمة العصبية، فان لم يستخدم الفرد هكذا صفات في تعاملاته مع العشائر الأخرى أو في الدفاع عن قبيلته فسيوصف بالجبان وغيرها من صفات الضعف، فمعيار القوة في العشيرة هو مقدرة الشخص على التعامل بصلابة وبقوة وبكل عصبية والا فقد مكانته الاجتماعية في القبيلة، وبما أن هم الاشخاص نيل رضا شيخ القبيلة فبالتأكيد سيكون رد فعلهم صارم ولا متسامح ابان كل ردة فعل الى درجة التطرف.

كذلك في سلطة القيم يشير مفكرنا الى انتشار السلطة الأبوية وسيادة الذكورية، لأن المجتمع الذكوري لعب دورا كبيرا في تكريس سلطة النظام الأبوي، اذ يحتل الذكر مكانة أعلى من مكانة الأنثى، ومكانة مركزية الكون يتلاشى معها الوجود الاجتماعي للمرأة حتى تفقد قيمتها ومكانتها من خلال عدم تدخلها في القرارات خاصة المصيرية والحاسمة وبالتالي اختفى وجودها الحقيقي، وبذلك عطل المجتمع الأبوي نصفه الآخر بإرادته بعد أن هيمن العنصر الأبوي على جميع المستويات 23.

وبالتالي فان غياب مكانة المرأة في المجتمع يكون عبئا على تطور المجتمعات ويستحيل وصفها بالمجتمعات المتسامحة لأن هذه الأخيرة لا يمكنها اقصاء أي عنصر فعال في المجتمع ومهم كأهمية المرأة طبعا. هكذا اذن فان سيادة القيم المستبدة واللاسوية في المجتمع، تؤثر سلبا عليه وهذا بانتشار اللاتسامح والاضطهاد والعنف والاقصاء باسم القيم ومن الضروري فك النظام القيمي المتجذر في الشعوب ومحاولة وضع قيم جديدة أكثر عدلا وتنساق في المجتمع ليعمه السلام.

كما أشار الأستاذ الغرباوي الى منبعين آخرين لللاتسامح، وهما الاستبداد السياسي اضافة الى التطرف الديني واللذان تربطهما علاقة ببعضهما، فالمنبع الأول المتمثل في الاستبداد السياسي الذي يعني ممارسة السلطة العليا الاضطهاد والعنف باسم النظام والاحتكار والرشوة والظلم والكثير من أساليب الاستبداد، لذلك يتنافى الاستبداد السياسي مع التسامح ولا يمكن لهذا الأخير أن يحل في جو يسوده الاستبداد والعنف ويمارس ضمنه أساليب قمعية مختلفة هذا وتختلف انواع الاستبداد وتتعدد مجالاته وتتباين في الخطورة ولعل أخطرها الاستبداد الديني الذي يستمد شرعيته من الدين ويمارس عرابوه كافة طرق الاستبداد تحت شرع الدين بكل حرية وبالتالي يطغون ويصعب ردعهم، كذلك انظمة الحكم التي شهدها الانسان قد أسست للاستبداد والديكتاتورية بشكل كبير مما منع ظهور التسامح وقبول الآخر وحتى الاعتراف به، لهذا وجب دحض أسسه ومناهجه وأساليبه، كون أن "الاستبداد عقدة يجب تجنبها في كل صيغة لأي مشروع حضاري مستقبلي. كما ينبغي الارتقاء بوعي الأمة الى مستوى ادراك مساوئ الاستبداد، أيا كان مصدره سياسيا أو دينيا أو اجتماعيا" 24.

أما عن التطرف الديني الذي يشبه عامة وفي سياقات خاصة الاستبداد الديني فهو أيضا أساس آخر مشكل للاتسامح، من حيث أنه يتخفى تحت ثوب الشرع والدين، لهذا فالتطرف الديني لا يعدو كونه قراءة متحيزة للدين ومجتزئة للنصوص نظرا لاختلاف القراءات وتعددها رغم وحدة القرآن وتعدد الآراء واختلاف الفتاوى وعلى هذا الأساس يكون هناك خلاف ولا تقبل وبالتالي ينتشر التطرف ويختفي التسامح من الساحة 25. لذلك فان تفكيك الخطاب الديني القائم على التطرف ونشر قبول الآراء وتبادل الافكار وحل مساحة للحوار هو الحل لأي طرف ناشد للتسامح ورافض للخلاف والاستبداد.

خامسا- أسس التسامح:

بما أن التسامح مبدأ انساني وشرط حضاري نهضوي، فلابد له لامحالة من دعائم يقوم عليها حتى يتسنّى للأفراد والأمم افشاء التعايش وتقويض التناحر، ولعل أبرز هذه الأسس 26.

حقوق المواطنة:

تتحدد المواطنة انطلاقا من الاعتراف بالآخر كذات مغايرة ومخالفة لنا، والاعتراف بأن له جملة من الحقوق وان كانت تخالف حقوقنا وتصوراتنا، ذلك أن هناك فارق كبير بين قبول الآخر وبين الاعتراف به رغم أن كلاهنا يؤصّل للانتماء الوطني، لكن يبقى قبول الآخر هو حالة خارجية مفروضة على الفرد تبعا لمصالح وحياة مشتركة واحدة. في حين الاعتراف به ينطلق وينبع من الذات الواعية التي لا تكون أنانية في تصرفاتها وانّما تسبّق الولاء وبالأخص الوطني على أي ولاء آخر دون أي الغاء لا للذات ولا للغير27.

ان حقوق المواطنة تتطلب المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين سواء كانوا مسلمين أو غيرهم ضمن اطار الوطن الواحد، خصوصا وأن الإسلام أكّد في نصوصه العديدة على حفظ حقوق أهل الكتاب قولا وعملا، قولا في الآيات العديدة:" ولا تجادلوا أهل الكتاب الاّ بالتي هي أحسن" (العنكبوت الأية 46 ) وعملا من خلال ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام في ميثاق المدينة الذي جعله دستور للناس مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية فهم أمة واحدة لهم نفس الحقوق والواجبات 28.

 لعل التعايش والاعتراف بالحقوق بين المسلمين وحتى مع غيرهم هو أبرز ولاء للوطن اذ يقوم على أساس التسامح، وينبذ أي شتات وخلاف مهما كان نوعه (طائفي، قومي، عرقي، مذهبي...) ولذلك فالحقوق هنا واحدة والخصوصيات ليست ملغاة وانما معترف بها تحت لواء المساواة بين الجميع دون أي تفضّل أو منّة، هنا فقط ينفتح الأفراد على حريات عديدة.

سيادة القانون:

بعد حقوق المواطنة، لابد للتسامح أن لا يسير بشكل عشوائي عرفي غير مقنّن، وانما لابد له من عملية تقنين فالقانون يلعب دور كبير في حماية التسامح والعمل على تطبيقه محابهةً لأي نوازع ذاتية وذلك حتى لا تنشأ هُوة بين الحقوق والواجبات ويحصل تصدّع بين الأفراد.

ان القانون يمثّل قوة عليا رادعة لأي تمرّد ولأي محاولة للثورة على الجماعة، وفي نفس الوقت مُحلّة ومُرسية لثقافة الحوار والتعايش وتقبّل الآخر المختلف.

غير أنه تجدر الاشارة الى أن هذا القانون لابد أن يبقى صامد مجابه لأي تصدّع ولأي مناداة بالانهيار والتراجع خصوصًا في ظل وجود مرجعيات أخرى منافسة له أو جهات ثانية يحتكم الها المواطن غيره، فهذا وحده يقوض الولاء للوطن باسم ولاءات ثانية متعددة، ذلك أن أساس استقرار أي مجتمع يكون من خلال إحلال التسامح والسلام والتعايش والحوار بين أفراده مهما حمل في طياته اختلافات (قومية، دينية، سياسية...) هنا فقط تبرز وتتجلى قيمة التسامح كمبدأ يحقق وحدة المجتمع في ظل التعدّد والاختلاف 29.

إعادة تشكيل قيم التفاضل:

تلعب القيم دور كبير في بناء أو تهديم أي مجتمع، فمن ناحية يمكن أن تغرس في أفراده سلوكات التواصل وثقافة الولاء للوطن وللآخرين، ومن ناحية ثانية يكن لها خصوصا اذا ما يتم تشكيلها وترتيبها بالشكل الجيد أن تُحدث فجوة وتُفشي في المجتمع الشتات وعوامل التفكك والخلاف، ولذلك لابد نقل هذه القيم من المستوى الخاص الأناني المنغلق الى مستوى عام انساني تعايشي منفتح.

ولعل الإسلام أبرز من أصّل لهذه القيم السمحة من خلال فكرة التفاضل التي تقوم علة جملة أسس أبرزها:

التقوى: تتمثل في وضع الانسان لله عز وجل في قلبه وعلى رأس تصرفاته أثناء معاملة الناس، أي الخشية منه، ومن ثم لا يمارس ولا يسلُك الاّ وفقًا لما هو أخلاقي، دون أن يستغل الدين في أعمال لا أخلاقية (سفك دماء، ظلم، تعدّي على الحقوق...)

الجهاد: ذلك أن الله عز وجل خصّ المجاهدين في سبيله بمنزلة ومكانة مع الأنبياء والأبرار والصالحين ووعدهم بأجر عظيم، ولذلك هناك فرق كبير بين من يجاهد في سبيل دينه ووطنه وبين من لا يحرك ساكنًا ازاءهما.

العلم: فالعلم له مكانة مرموقة خاصة في الدين الإسلامي خاصة باعتباره غاية مطلقة على كل الناس بلوغها، وذلك لما له من فائدة وقيمة عليا 30.

اطلاق الحريات العامة:

 ان المجتمعات التي تعايش الكبت والتستر تحت لواء قيود عدة لا يسودها الّا العنف والاستبداد واللاتسامح، في حين المجتمعات التي تنفتح على الحريات تترسخ فيها قيم التسامح والاحترام، فالحيرة مطلب ومسعى انساني رغم عديد المحاولات الساعية لطمسه، والمعنيّ بالحريات العامة حرية العقيدة والفكر والتعبير عن الرأي والحرية الدينية والسياسية والثقافية، لذا تبقى الحرية أهم ذريعة لتثبيت قيمة التسامح والاعتراف ونبذ كل عنف وتفرقة وكراهية.

الخاتمة:

ختاما نستنتج أن مشروع ماجد الغرباوي النهضوي المتمثل في اعادة تفكيك الخطاب الديني وتأسيس منظومة قيمية جديدة قائمة على الفهم الصحيح للدين من خلال ما ورد في النص القرآني والسيرة النبوية وبلورته بما يناسب مجتمعاتنا الاسلامية اليوم التي تعاني العنف والاستبداد والاضطهاد والاقصاء فيما بينها، فقد وجد مفكرنا في التسامح المبني على الحوار والانفتاح العقلاني على الأفكار واحترام الحريات والاعتراف بالآخر مساحة كافية للتقليل من الأخطار التي قدفت بالإنسانية نحو الهاوية وألقتها في ظلال اللاتسامح الشائكة والتي تتعارض مع الطبيعة الانسانية والفطرة السوية التي فطر الانسان عليها ككائن متسامح، متعاون، مسالم، لهذا وجب تفكيك النسق القيمي السائد وتشكيل نسق جديد قائم على الحب والحوار وتأسيس التسامح القائم على الاعتراف بالآخر، فأن تكون متسامح مع غيرك عليك أن تعترف به بذاته بوجوده وبكينونته، وهذا أمر شائك يستدعي جهودا كبيرة تتشارك فيها جميع الجهات من أجل نشر أكبر مقدار من الوعي، وهي محاولة أصيلة من مفكرنا تستدعي التطبيق الفعلي على أرض الواقع، من أجل مشروع سلام دائم بلغة ايمانويل كانط.

***

طالبتا الدكتوراه، الأستاذتان:

ايمان عامر ودنيا مسعود

الهوامش

1- صحيفة المثقف، السيرة الذاتية لماجد الغرباوي، صفحة الكاتب في باب المؤسسة:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majedalgharbawi-2

2- المصدر نفسه.

3- ابن منظور،لسان العرب.

4-  عصفور، جابر، ثقافتنا بين التعصب والتسامح، ص80.

5- ستيفن ديلو، التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني، 2003، ص700.

6- مجلة قضايا إسلامية معاصرة، 83، الصفحتان: 12 و13.

7- الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، ص124.

8- الغرباوي، ماجد، الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ص 111.

9- الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، ص 22.

10- الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، ص 125.

11- التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 11.

12- المصدر نفسه، ص 13.

13- المصدر نفسه، ص 14.

14- المصدر نفسه.

15- المصدر نفسه، ص 15.

16- المصدر نفسه، ص 27.

17- المصدر نفسه، ص28 .

18 - المصدر نفسه، ص 30.

19- المصدر نفسه، ص 34.

20- المصدر نفسه، ص 37 و38.

21- المصدر نفسه، ص 38.

22- المصدر نفسه، ص42 .

23- المصدر نفسه، ص 48.

24- المصدر نفسه، ص 28.

25- المصدر نفسه، ص 57.

26- المصدر نفسه، ص 75.

27- المصدر نفسه، ص 76.

28- المصدر نفسه، ص 82-97.

29- المصدر نفسه، ص104 و105.

30- المصدر نفسه، ص 108 و109.

قائمة المراجع والمصادر:

- ابن منظور. (1990). لسان العرب. بيروت: دار صادر.

- الغرباوي ماجد. (2008). التسامح ومنابع اللاتسامح. العراق: الناشر الحضارية للطباعة والنشر.

- الغرباوي ماجد. (2009). تحديات العنف. لبنان: دار العارف للمطبوعات.

- الغرباوي ماجد. (2019). متاهات الحقيقة الهوية والفعل الحضاري. استراليا، مؤسسة المثف وسوريا: دار أمل جديدة.

- الغرباوي ماجد. (2010). الضد النوعي للاستبداد. لبنان: العارف للمطبوعات.

- جابر عصفور. (فيفري، 2006). ثقافتنا بين التعصب والتسامح. مجلة العربي.

- ستيفن ديلو. (2003). التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

- مجلة. (دون سنة). التسامح ومنابع اللاتسامح. مجلة قضايا اسلامية.

www.almothaqaf.com

Iben mandor,1990, tongue of the Arabs, Beirut, sader publishing house

harbawi majed,2008, tolerance and founders, irak, annasher cultural publisher

Gharbawi majed,2009, challenges of violence, Lebanon, el aref publishing house

Gharbawi majed,2009, the labyrinth of truth identity and civilizational, Syria, amal publishing house

Gharbawi majed,2010, the specific antithesis of tyranny, Lebanon, el aref publishing house

Jabber assfour, febrary2006, our culture between intolerance and tolerance, al arabi magazine

Steven delow, 2003,politic thinking, political theory, civil society, cairo, superme council, of culture

Magazine, don a year, tolerance and founders, journal of Islamic issues

البحث منشور في مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية/الجزء الثالث من العدد السادس والاربعون /مؤتمر التنوع الثقافي أساس التكامل الوطني كلية الآداب/جامعة واسط ٢٠٢٢

https://lark.uowasit.edu.iq/index.php/lark/issue/view/63