بأقلامهم (حول منجزه)

محمد محفوظ: المفكر الغرباوي.. جهد التأسيس الثقافي والانتشار الاجتماعي

حينما نتحدث عن تجربة دينية أو فكرية أو سياسية، ونعمل على تظهير العناصر الايجابية ونقاط القوة فيها، هذا لا يعني خلو التجربة من مطبات أو عيوب أو نواقص، لأن هذه من طبائع الأمور. وفي إطار استفادة الأجيال اللاحقة من هذه التجارب، تتأكد الحاجة إلى تظهير عناصر القوة ومؤشرات التميز في هذه التجربة أو تلك. لأن هذا التظهير هو سبيل أخذ العبر والدروس من هذه التجارب في كل مراحلها وأطوارها. وهذا الكلام ينطبق على كل التجارب سواء كانت دينية أو ثقافية أو اجتماعية.وتنوع هذه التجارب لا يلغي حاجة المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة إلى الانفتاح والتواصل مع هذه التجارب بصرف النظر عن مآلاتها ونتائجها المباشرة. ففي كل الأحوال تتأكد حاجة الأمة الدائمة لفحص وقراءة تجارب علماء الأمة ولا سيما من خاض غمار التحدي وتصدى لشؤون الأمة المختلفة في ظروف وأوضاع حساسة ودقيقة على المستويات الثقافية والسياسية والأمنية.

وفي سياق ضرورة الاهتمام بمعرفة تجارب الإصلاح في الأمة جدير بنا أن نتوقف عند النقاط التالية :

1- الأمم الحية هي التي تحتضن عظماءها وفعالياتها وزعاماتها، وتعمل على الاستفادة منهم إلى أقصى حدود. أما الأمم الميتة والخاضعة لتأثير ثقافات الجمود والاجترار، فهي تعمل على عرقلة مسيرة الإصلاح ومحاربة المصلحين، وإطلاق حروب الأوراق الصفراء ضدها، كوسيلة فعالة لمنع إتساع تأثير هذا المصلح سواء على الصعيد الشخصي المباشر أو على صعيد خياراته العامة وأفكاره وأطروحاته الفكرية والحضارية.

وأحسب أن ما تتعرض إليه مشروعات الإصلاح وشخصياته من حروب متعددة وتشويه متعمد تشترك فيه لاعتبارات عديدة جهات متنوعة، ساهم في منع بعض شرائح الأمة من الاستفادة من هذه التجارب والاستزادة من فكر وتوجيهات ودروس هذه التجارب .

وهذا يحمل شرائح الأمة المختلفة مسؤولية صياغة رؤية حضارية في التعامل مع علماءها ومصلحيها، بحيث لا يتم الاشتراك في تعويق عجلة الإصلاح في الأمة، تحت يافطات وعناوين ليست دقيقة وتساهم في عملية التسقيط المادي والمعنوي لكل راية وتجربة تحمل مشعل النور والتنوير في الأمة..

وتعلمنا مختلف التجارب أن الأمة بكل فعالياتها تتحمل مسؤولية دينية واجتماعية وأخلاقية للوقوف في وجه كل الأطراف التي تشن حروبا ظالمة على المصلحين في الأمة. فلا يجوز الصمت والتواري عن الأنظار في المرحلة التي تتجه فيها بعض الإرادات لاستهداف تجارب الإصلاح في الأمة. وأدنى ما يمكن أن تقوم به شرائح وفئات الأمة المختلفة هو عدم الاشتراك في مشروع الاغتيال المعنوي لأي شخصية تحمل هم الإصلاح وتعمل من أجله...

2- تجارب الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في الأمة، ليست تجارب نهائية ومقفلة، وإنما هي تجارب مفتوحة على كل العطاءات التي تساهم في إدامة واستمرار هذه التجارب من جهة، ومن جهة أخرى مفتوحة على الإضافة ومشروع التراكم المعرفي والفكري. لذلك ثمة ضرورة معرفية وتاريخية لتزخيم التجارب الإصلاحية في الأمة بعطاءات نوعية، متميزة، ترفد الساحة بالمزيد من الرؤى والأفكار التي تستهدف تحرير الأمة من ربقة التخلف والاستقالة من المسؤولية. وكما يقول احد المصلحين [فعندما نكون أمة العقل، لا أمة الانفعال، وأمة الإرادة لا أمة الاسترخاء، وامة اقتحام المستقبل، لا امة النوم في انتظار المستقبل، فإننا نستطيع أن نتقدم]..

3- ثمة ضرورات عديدة ذاتية وموضوعية، تؤكد أهمية أن يلتقي أهل النور والتنوير والتجديد في الأمة مع بعضهم البعض، لتبادل الآراء والخبرات، وتطوير نسق التعاون والوصول بمشروع الإصلاح والتجديد إلى مديات واسعة.. فما يطمح إليه أهل التجديد والإصلاح في الأمة، لا يمكن لأي طرف بوحده أن يفي بحاجاته ومتطلباته، ولا خيار أمام الجميع إلا العمل على بناء كتلة واسعة من الإصلاحيين تنسق مع بعضها البعض وتدعم وتسند بعضها البعض وتدافع عن بعضها البعض وتعمل بشكل مشترك لبناء مشروعات مشتركة تعزز من خيار الإصلاح والتجديد في الأمة.

و ذلك [لأن الانسان في المفهوم الإسلامي يمثل المخلوق الذي يتصل العمل بكل موقع من مواقع وجوده بحيث يمثل العمل مسؤولية كل طاقة من طاقاته، بحيث إنك ستسأل عما عملت في عمرك، وعما عملت في شبابك، وعما عملت في عملك، وعما عملت في مالك، وعما عملت في كل ما يحيط بك ليكون العمل هو حركة المسؤولية في كل حياة وهذا ما نؤكده فيما نستوحيه من التأكيد في القرآن الكريم على العمل كأساس لسلامة المصير إذا كان العمل إيجابيا وعلى العمل كأساس لابتعاد المصير عن خط السلامة إذا كان سلبيا. (فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ، وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ)

ولابد أن نتذكر جميعا : إن أمة لا تدافع عن مصلحيها لا تبلغ الرفعة والتمكين، وان امة لا تقرأ تجارب مصلحيها، ستصاب بالضمور والتآكل الداخلي.

من التاريخ الفكري:

تشدني فكريا ومعرفيا كل الكتابات المتعلقة بالسير الفكرية والتجارب الثقافية.. لأنني أعتقد أن هذه الكتابات، تحتضن الكثير من العبر والدروس، الذي يستفيد منها الإنسان بعمق وصدق في آن..

فالإنسان من الناحية البيولوجية لا يستطيع أن يعيش حياة الجميع، ولكنه بإمكانه أن يستفيد من تجاربهم وأطوار حياتهم الفكرية والمعرفية..

ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون الإطلاع على سيرهم الفكرية وتجاربهم الثقافية.. ولقد اعتنى العديد من المفكرين والمثقفين بكتابة بعض سيرتهم الفكرية.. فطه حسين دوّن بعض سيرته في أيامه، والدكتور سمير أمين كتب سيرة ذاتية فكرية وجلال أمين وأيمن صايغ وحازم صاغية وزكي نجيب محمود في حصاد السنين وعلي حرب في خطاب الهوية – سيرة فكرية وغيرهم من المفكرين والمثقفين الذي كتبوا سيرتهم الثقافية.. وجميع هذه السير مليئة بالمضامين المعرفية والإنسانية التي تستحق التأمل العميق فيها والاستفادة منها على المستويين الخاص والعام..

ويحاول الدكتور علي حرب في كتابه الموسوم بخطاب الهوية..سيرة فكرية، أن يوضع لقرائه جملة الأطوار النفسية والفكرية والفلسفية، التي مر بها في حياته العامة والعلمية.. وكتابه المذكور أعلاه، عبارة عن مسيرة فكرية، نضجت وتطورت، واتخذت أبعادا عديدة، وخيارات مختلفة، وهي ما زالت سيرة مفتوحة على كل الخيارات والقناعات والأفكار الكبرى..

لذلك يقول (حرب) في سيرته: وأيقن أن هويته هي كل هذا الاختلاف والتعدد، وكل ذلك التعارض والانفصام، وإنها أضيق ما تكون من وجه وأوسع ما تكون من وجه آخر.. فهي تضيق في حدها الأقصى لتقتصر على ما يخصه وحده وينحاز به عما سواه..

وإذ ذاك ينفرد بوجوده الخاص، ويتماهى مع حقيقته الذاتية فيبرأ من كل نسبة، ويعرى عن كل إضافة، غير مدرك سوى أحديته، وإنه هو لا يشبهه شيء.

ولكن هويته قد تتسع في حدها الآخر إلى درجة الذوبان والتلاشي في هذا العالم.. ويدون الدكتور سمير أمين في سيرته الفكرية هذه الحقيقة (لم تكن اهتماماتي الفكرية على الإطلاق اهتمامات جامعية بالمعنى الضيق للكلمة، بل اعتبرت نفسي دائما، بالأحرى، مناضلا لتحرر الشعوب، واضعا بخدمتها كل المعرفة التي استطيع الحصول عليها من خلال تكويني الفكري.. وكانت التحليلات التي اعتقدها صائبة تستوجب بالنسبة لي مواقف وخيارات سياسية.. وما زلت إلى الآن أحمل وجهة النظر الجوهرية هذه ذاتها.. فهناك إذن علاقة وثيقة بين هذه التحليلات واللحظة التاريخية والسياسية التي تقع ضمنها والخيارات العملية التي سلكتها)..

وتظهر هذه السير الفكرية، بمختلف أطوارها وأنماطها، أن الانحباس في نمط فكري، بلا قناعة عقلية وعلمية ثابتة، يؤدي إلى ممارسة الأعمال النقيضة لها على مستوى السلوك، لأنه لم يتسرب إلى دواخل النفس والوجدان..

كما أن القناعات الفكرية، ليست خيارات نهائية، ليس بمقدور الإنسان تطويرها وتغييرها.. وإنما هي مشروع مفتوح على الإضافة والتطوير والتغيير..

وبهذا يكون المثقف أو المفكر المحتفى به الأستاذ ماجد الغرباوي، إمكانية فعلية ودائمة للمراجعة والمفاكرة، والبحث عن الأفكار الكبرى في فكره، والتعامل معها وفق منهج نقدي، ينضجها على مستوى الذات، ويحدد معانيها ونواقصها، ويؤهل ذات المفكر إلى الإضافة النوعية والتجاوز المعرفي..

من هنا تنبع ضرورة اهتمام المفكرين العرب، أولا بتكريم مفكريها والسعي لتدوين سيرهم الفكرية، وأطوار نموهم العلمي والثقافي، حتى يتسنى للقارئ العربي، معرفة منطق التفكير لدى كل مفكر، والتاريخ الفكري الذي مر به المفكر..

ومن الأهمية بمكان في هذا الإطار، أن نفرق بين المذكرات اليومية، التي غالبا ما توضع وكأنه بطل على الدوام، وإن آراءه الفريدة سبقت عصره، وإنها كانت ملازمة لشخصه منذ بداية تكوينه العلمي.. وبين السيرة الفكرية، التي تجعل المفكر كتابا مفتوحا بأطواره الفكرية وقلقه المعرفي، وأخطائه السياسية، وتنقلاته المعرفية..

لهذا فإن المطلوب، ليس أن يكتب كل مفكر مذكراته، وإنما أن يكتب سيرته الفكرية وأطوارها ومراحلها..

وما نطالب به ليس جديدا، فقد كتب عميد الأدب العربي (الأيام) كسيرة فكرية ويومية، والدكتور عبد الرحمن بدوي والدكتور حسن حنفي في (محاولة مبدئية لسيرة ذاتية) وهشام شرابي وأخيرا محمد عابد الجابري في (حفريات الذاكرة)، ولكن يؤخذ على بعض هذه الأعمال، أنها أقرب إلى المذكرات، منها إلى السير الفكرية..

وهناك جملة من المسوغات التي تدفع بهذا الاتجاه، وتجعل العناية بالسير الفكرية، ضرورة معرفية وثقافية أهمها ما يلي :

1-أن كتابة السيرة الفكرية، هو جزء من عملية توثيق المرحلة الزمنية، من زاوية فكرية – ثقافية.. ونحن في العالم العربي، أحوج ما نكون إلى عملية التوثيق الفكري والرؤية الثقافية، إلى جملة الأحداث الجسام التي مر بها عالمنا العربي..

وتتعمق هذه الحاجة، حينما تكون عملية التوثيق أو صناعة الرؤية الثقافية على منعطفات وأحداث تاريخنا القريب، من قبل المفكرين العرب، الذين يعتبرون جزءا أساسيا من قيادات الرأي في العالم العربي..

2-إن قناعات المفكر، وآراءه الثقافية والفكرية، ليست ثابتة أو جامدة، وإنما هي قابلة للتحول والتطور والتغيير، وإن كتابة السيرة الفكرية وبشكل موضوعي، تساهم بشكل كبير في تجديد قناعات المفكر الثقافية والفكرية.. ولا يجعل قراء هذا المفكر ومتابعيه ينظرون إلى آرائه وأفكاره، نظرة نمطية ثابتة..

وبهذا يكون التعامل مع المفكرين والمثقفين، تعاملا تفاعليا، يبتعد عن كل أشكال اليباس والنمطية، ويؤسس لنمط من العلاقات قائم على الحوار والمفاكرة والتفاعل..

3-إن هناك علاقة عميقة، تربط الإنتاج الفكري والثقافي لأي مفكر، والواقع الذي يعيشه محيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي.. لذلك من الصعب الفصل بين ما يكتبه المفكر، وما يتطلبه محيطه.. إلا أن النص الفكري الذي ينتجه المفكر، ليس صريحا في بيان خلفية المحيط وتداعياته وتأثيراته..

وكتابة السيرة الفكرية، تساهم بشكل قوي في بيان الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي أسهمت بشكل أو بآخر في القناعات التي بثها في نصوصه الثقافية والأدبية..

لهذا كله، نرى ضرورة أن يعتني المفكرون العرب، بتدوين وكتابة السيرة الفكرية، تساهم بشكل قوي في بيان الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي أسهمت بشكل أو بآخر في القناعات التي بثها في نصوصه الثقافية والأدبية.

لهذا كله، نرى ضرورة أن يعتني المفكرون العرب، بتدوين وكتابة مسيرتهم وسيرتهم الفكرية والثقافية بتحولاتها وانعطافاتها وصعوباتها وأسرارها، وعوامل التأثير الكبرى في مسارها.

لأن هذا التدوين، يساهم بشكل فعال، في إنضاج الحياة الثقافية، ويبعدها عن حالات الجفاء والتباعد، والقطيعة التي تعمل المنازعات والمنافسات السيئة.

إن السيرة الفكرية، لأي مفكر، هي عبارة عن تحولات عدة، وتفاعلات مختلفة، بحيث أنه نستطيع القول : أنه وليد التفاعل مع مختلف المدارس الثقافية والسياسية والفلسفية المتوفرة في الواقع العربي، وان كشف وبيان هذه المسألة يؤدي في تقديرنا إلى إغناء الحالة الحوارية في الحياة العربية.

وهذا مما يجعل سيرة المفكر ماجد الغرباوي الفكرية والثقافية، تكون رافدا من روافد تعزيز وإثراء الحياة الثقافية العربية..

بل تفتح سيرته الفكرية، مساحة للتفكير والتأمل، وحقلا من حقول البحث عن الخيارات المناسبة لفضائنا المعرفي والثقافي.

وصراحة المفكر في سيرته، ليست عيبا أو نقصا، وإنما هي إمكان وقوة.

أسوق كل الكلام أعلاه في سياق تكريم الأستاذ ماجد الغرباوي بمناسبة مرور سبعين سنة من عمره راجيا من العلي القدير أن يطيل عمره ويمتعه بصحة وعافية، ومتمنيا على الحالة الثقافية في العراق والعالم العربي أن يلتفتوا إلى عطاءات هذا المثقف ويتفاعلوا مع أطروحاته الثقافية والمعرفية الإستراتيجية في بناء الوعي السليم والمنهج الرصين.. كما أدعو الأستاذ ماجد الغرباوي الى كتابة سيرته الثقافية والمعرفية (الفكرية)، حتى تكون نبراسا صريحا على عطاءاته المتميزة لنا جميعا ولأجيال الأمة في المستقبل..

و الله من وراء القصد

***

محمد محفوظ - كاتب وباحث من السعودية

.....................

* مشاركة (32) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10