بأقلامهم (حول منجزه)

غواص في كتاب الفقه والعقل التراثي لماجد الغرباوي (1)

في عصر جديد وايقاع التجديد فيه سريع، وفي زماناً مختلفاً عن زمن الفقهاء الأوائل الذين كتبوا وأبدعوا مدونات فقهية بلغة عصرهم وأولوياتهم . في زمناً مختلفاً في المأكل والمشرب، والملبس، وفي علاقات الإنتاج، وفي نمط التعليم، والخدمات الصحية، والعلاقات الاجتماعية، في السفر والمواصلات، حيث إيقاع الزمان اختلف، فهل اختلف فهمنا للزمان وأحواله؟، وهل نحن بحاجة إلي فقه جديد غير ما كُتب وُدون في القرون الماضية؟، وإذا اعتمدنا علي ذلك وحده فكيف، نجيب عن أسئلة زماننا التي لم يعرفها راود تلك العصور ولم يشهدوها؟ .

إن سؤال الفقه الجديد سؤال قديم جديد كلما مر الزمان ظهرت أسئلة جديد، وأحوال جديدة وتحديات جديدة، وليس أكثر من زماننا اختلافاً عن أزمنة القدماء، وليس أكثر من إجاباتنا على هذه الاختلافات تنوعاً واختلافاً قد يصل إلى حد التضاد .

في هذا المقال نحاول أن نعرض إجابة الأستاذ المبدع "ماجد الغرباوي" من خلال كتابه الذي صدر خلال الأيام القليلة الماضية وهو بعنوان " الفقه والعقل التراثي"، وفي هذا الكتاب أراد ماجد الغرباوي أن يجيب عن إجابة أبناء الفقه القديم على أسئلة العصر الجديد لنرى مدى استجابة ذلك الفقه لتحديات العصر والمتمثلة في : هل التجديد يكون في القوالب والأساليب والأمثلة ؟، أم أنه تجديد في مناهج النظر والاستنباط ؟

في هذا الكتاب وجدنا الغرباوي يحاول أن يقيم فرضية مهمة كما اعتقد، تعول على أن الفقه هو الفهم، ومنذ لحظة الوحي الأولى بدأ الفقه ومعه الخلاف . بيان النبي صلوات الله وسلامه عليه واجتهاده، وفقه أصحابه وتابعيه وتابعيهم، أجيال من العظام، تركوا لنا ميراثاً ضخماً من الفهم والوعي، ثروة من التجارب، وتفاعل فريد بين النص والواقع، حيث تغير الزمان، وتغيرت لغته ومفرداته، فماذا نفعل بميراثنا، هل نجدده أم نبدده؟!، نتجاوزه أم نتجاوز به؟! .

في القرن التاسع عشر كان أول لقاء بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، حيث الصدمة الأولى عندما اكتشف العرب أنهم بعيدون عن زمانهم، غارقون في ماضيهم، كانت البداية عند الشيخ "حسن العطار"- ( شيخ الأزهر الشريف وشيخ المجددين ورائدهم )، أول من نادى بتجديد الخطاب الديني، وأول من نادى بتجديد العلوم الإسلامية، كما ساهمت علاقته الوطيدة بمحمد علي باشا، في أن يكون أول صحفي في تاريخ مصر، والمؤسس الأول لتاريخ أول جريدة رسمية؛ وهي جريدة "الوقائع المصرية"، والدافع الرئيس لمحمد علي لتبني حركة التحديث والترجمة عن الغرب في كل العلوم ؛ يقول حسن العطار :" إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ومن سمت همته به، إلى الامتناع عن غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة، من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم .

أودع العطار ثورته في تلاميذه، وكان أشهرهم وأقربهم إليه " رفاعة الطهطاوي"، الذي سافر بدوره إلى فرنسا، وألف عنها، واهتم بتجديد منظومة التعليم، ثم تلاه آخرون في شتى أرجاء الأمة العربية والإسلامية من أمثال : جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، وإبراهيم بيوض، والعربي التبسي، وأبي اليقظان .. وغيرهم كُثر؛ جميعهم تركوا سؤال التجديد والتحديث، وحاولوا فهم دينهم بدنياهم، وإصلاح دنياهم بديهم، سواء بسواء .

والآن فالقرن الحادي والعشرين ما زال السؤال مطروحاً، فقهاً جديداً لعالم جديد ولكن كيف؟!

البعض يرى قراءة توفيقية بين زماننا وأزمنة القدماء، يعتمد أصولهم، ويجدد في فروعهم ( يوسف القرضاوي ومحمد عمارة )؛ وآخرون ينتقلون مباشرة من النص إلى الواقع بلغته وتحدياته ومناهجه العديدة (حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد)، وفريق ثالث يحاول التوسط بين هؤلاء وهؤلاء والإجابة أيضاً في ضوء مستجدات واقعنا المعاصر (ماجد الغرباوي) .

89 majed 600

حاول ماجد الغرباوي في كتابه الذي بين أيدينا، وهو كما قلت كتابه الأخير الذي صدر منذ أيام قليلة وهو كتاب " الفقيه والعقل التراثي"، الذي صدر في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، 2020م، حيث يقع الكتاب في 408 صفحة من الحجم الكبير، وقد تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: الفقيه ومنطق العبودية، فلسفة التشريع، منهج التأصيل العقلي، الذي طرحه الكاتب بديلا للاتجاهات الاصلاحية الخمسة المعروفة، والتي لم تحقق شيئاً ملموساً. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي، وهي رؤية للباحث لمعرفة ملاكات الأحكام ومدى فعليتها للخلاص من جمود المدونات الفقهية. علاقة الواقع بالتشريع، والأهم دور مضمرات العقيدة، والنسق العقدي المألوف في استنباط الأحكام الشرعية، حيث ركز البحث على مجموعة مقولات كالعصمة، والولاية، وغيرها للخروج من متاهات العقل الفقهي وتداعياته الخطيرة، إلى رحاب العقل، واشراقة الدين بآفاقه الإنسانية والرحمانية.

وقد جاءت إجابة ماجد الغرباوي في هذا الكتاب ليؤكد أنه ما كان للفقيه أن يحقق مركزيته، ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، والمقدّس بغير المقدس، والإلهي بالبشري، فالتبس على الناس التمييز بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه، التي هي اجتهادات ووجهات نظر، وفهم للنصوص المقدسة، وقراءة تتأثر بقبلياته ومرجعياته وثقافته وبيئته ومصالحه. فتسبب انعدام الفواصل بين المتعالي والمحايث في تعميق مركزية الفقيه وفرض سلطته، باعتبارها تجلٍ لسلطة الدين أو سلطة الشريعة التي هي سلطة إلهية، فترى المكلّف هلعا يخشى مخالفة الفقيه حتى وهو يستهزئ بعقله، ويسلب إنسانيته. فهيمنة الفقيه التفصيلية تركت تداعيات خطيرة، نشير لها لاحقا. تداعيات لا يمكن تداركها ما لم نتحرَ أولاً مدى صدقيته وحدود شرعيته. وما لم نتقصَ جميع العوامل التاريخية والسياسية والطائفية التي ساعدت على تعضيد مركزيته وفرض سلطته .

وهنا يتساءل ماجد الغرباوي : هل الفقيه ضرورة؟، وهل يتوقف على وجوده شيء من الدين ومصير الإنسان؟، ومن أين استمد شرعيته وشرعية سلطته وولايته؟، ومن أضفى صفة القداسة على فتاواه وآرائه؟، وأساسا هل من حقه أن يصف الشيء بالحلية والحرمة أو الجواز وعدم الجواز، ونحن نعلم أن الأحكام توقيفية. أي تتوقف على وجود دليل صريح من الله تعالى؟. وهل صدر ما يؤكد سلطة الفقيه، واحتكاره للحقيقة الفقهية؟. وأسئلة جديرة تمس واقعه، ضمن سياقاته التاريخية والمعرفية. فنبدأ بتفكيك العقل الفقهي لتقصي جذوره، ويقينياته، ومدى تأثره بنظام القيم، ومنظومة الأخلاق التي كانت سائدة قبل وبعد البعثة. فثمة سياق تاريخي مهّد لدوره الخطير يجب مقاربته لفهم الحقيقة.

لم يكتف الغرباوي بذلك، بل أخذ يلح في السؤال فيقول فمن هو الفقيه إذن؟

وهنا يجيبنا فيقول الفقيه، بدأ من الصحابة، سليل نظام اجتماعي، يكرّس روح التبعية والانقياد لشيخ القبيلة، ويمنحه سلطات مفتوحة، فهو نظام طبقي بامتياز، يصادر حرية الفرد ويختزل وعيه إلى طاعة مطلقة للقبيلة وشيخها. فهو يلغي خصوصية الفرد، ويمنح الأب / الشيخ ولاية وقيمومة، يعتبره الجميع ضرورة لضمان وجود القبيلة ككيان يخضع الجميع لقوانينه وأعرافه وتقاليده. فثمة تماهٍ تام بين الفرد ومنظومة القيم القبلية، وهناك أخلاق تستبد بوعي الفرد وتلازم سيرورته، تمهّد لقبوله، مهما اختلفت تمظهراته. فالنظام القبلي ساعد لا شعوريا، على قبول النظام الديني، المتمثل بالنبوة آنذاك، حيث فرض الكتاب الكريم للرسول سلطات، أعادت لمنظومة القيم الجاثمة في أعماق الفرد العربي توازنه واستقراره. فثمة ولاية مطلقة للنبي هي ذات ولاية شيخ العشيرة وفقا لنظامها، وكرست روح التبعية والانقياد في نفوس المسلمين، وهو جوهر النظام القبلي. لذا حسمت رواية الأئمة من قريش الموقف السياسي لصالح قريش نهائيا وإلى الأبد بمساعدة قيم النظام القبلي، وقد مرّ بنا مفصلا بيان هذا النظام ودوره الخطير في مصادرة القيم الإنسانية والأخلاقية التي تجلت بإقصاء الأنصار من السلطة رغم مكانتهم في الإسلام وعند رسول الله. ولا ميزة للشيعة عن السنة فكلاهما ينشدان نظاما قبليا قائما على قدسية شيخ العشيرة. ويؤمنان بالوراثة نظاما للسلطة والحكم، هذه هي الحقيقة التي يتستر عليها الجميع بواسطة مصفوفة روايات لا يمكنه الاستدلال على صحة صدورها، أو يلزم منها الدور، فتفقد قيمتها الاستدلالية .

ثم يستطرد الغرباوي فيقول : فالفقيه يحمل في أعماقه نواة النظام القبلي، ويقوم بتعزيزه لا شعوريا بعد اكتسابه صفة دينية وقدسية. وطبيعة النظام القبلي نظام عبودي، سيّد يخطط ويأمر، وعبد يتلقى وينفّذ. وكلاهما لا يحقق وجوده إلا من خلال الآخر، فيكون بالنسبة له ضرورة يتوقف عليها وجوده وتحققه خارجا، بمعنى رسم حدوده من خلال وعيه ومشاعره. لا من خلال كينونته. فلا يوجد صراع طبقي، ولا توجد إمكانية للثورة على أساسه، لتوقف تحقق وجوده على الآخر / السيد / الشيخ. فأغلب قادة الانتفاضات عبر التاريخ الإسلامي شخصيات قبلية قوية، لا تنتمي لطبقة العبيد. ولا أقصد بالعبيد العبودية الظاهرة أو الرق، وإنما أقصد به روحا ووعيا ونظاما أخلاقيا جاثما في أعماق الفرد، ومهيمنا على العقل الجمعي. فلا وجود لقاعدة (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) فعلا، بل الأحكام محدودة، غير أن متطلبات النظام القبلي يستدعي الاستغراق في التشريع، لضبط سلوك الفرد، والإمساك بوعيه، مع تعزيز مكانة الشيخ / الخليفة / الإمام / السلطان / الفقيه. وبالتالي فدراسة جذور الوعي لدى الفقيه، وتحديد منحدراته يساعد على فهم سيرورة سلطته. فالدين الجديد استبدل الاسماء من شيخ القبيلة إلى نبي / خليفة / إمام / فقيه. وهذا قد لا يكون واقعا بالنسبة للنبي، لكنه استقر في وعي الناس، أن سلطة النبي هي سلطة شيخ القبيلة زائدا قدسية إلهية وأسطورية. لأن معنى الشيخ في الوعي الجمعي، هو صاحب السلطة، المتسلط، الذي يحتكر الامتيازات بفعل خصائصه العنصرية، فهو من طينة أخرى، ومن أقوام وسلالات بشرية خلقوا ليكونوا أسيادا على العالمين، وبهذا المنطق خضعت جميع القبائل لسلطة قريش، وتسيد رجالها على مقدرات المسلمين، بذات السلطة هيمنة الخلافة الراشدة ومن بعدها سلطة الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية، ولما وصلت النوبة للسلطة العثمانية استعانت بالفقيه ومنصب مشيخة الإسلام. ولعل هدف الآية الآتية تذكير الشخص العربي بقيمه التي على أساسها منح شيخ قبيلته ولاء مطلقا، فأرادت أن تقول له أن الأنبياء أحق بالولاء إذا كنت تنظر لنقاء العنصر البشري: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط