أقلام حرة

نحو نخبة جديدة (2-2): القادم أفضل

عبد السلام فاروقالثقافة.. سلعة مصر الأولى

لا أحد فى العالم لا يدرى عن أبى الهول والأهرامات ..

الحضارة الفرعونية رقم واحد بين جميع رموز وآثار التراث الإنسانى ..

فلا نحن فى حاجة لتسويق أنفسنا، ولا للدعاية عن تاريخنا الذى هو أقدم تاريخ على وجه الأرض!

فكيف يتأتَّى ألا نستغل المنتَج الأول المتوافر لدينا .. ثقافتنا؟!!

السينما المصرية كانت أولى السينمات فى المنطقة بعد أوروبا، وكنا الأقرب لصناعة "بوليود" من الهند، حتى أن القاهرة كانت تُلقَّب قديماً بهوليود الشرق. فلماذا تَقهقرنا إلى الصفوف الخلفية وسبقَتنا كافة السينمات الأخرى الأقصر عمراً والأقل خبرة؟

شوارعنا وحوارينا متاحف حية، ناهيك عن عشرات المتاحف والمعابد المنتشرة فى كل ربوع مصر .

اللهجة المصرية كانت هى الأكثر انتشاراً، وما زالت، بفضل سعة انتشار الإعلام المصرى وهيمنته –سابقاً- على السوق الإعلامى العربي . تغيَّر هذا الآن، وباتت اللهجات الخليجية والشامية وحتى المغاربية تنافس بعضها بعضاً لغزو السوق الإعلامى العربي، وهذا أمر بقدر ما يسعدنا حدوثه، بقدر ما يشير إلى تراجع الدور الريادى المصرى فى الإعلام والثقافة.

تلك اللهجة المصرية ليست وليدة الأمس، بل هى نتاج تراكم حضارات متعاقبة ومعارف متراكبة ولغات كثيرة متسربة إلى نسيج اللهجة المصرية الفريدة فى خصائصها .. والقاموس العامى المصري يضم بين طياته عشرات الكلمات التى تنتمى للغات الفرنسية والإيطالية واليونانية والتركية والإنجليزية والأرمينية بل وبعض اللغات القديمة الميتة كالقبطية والديموتية!

إذا قادتك قدماك إلى أحياء الغورية والحسين والقلعة ومصر القديمة وشارع المعز والجمالية تكاد تشعر أنك تنطلق مع الزمن عبر عصور عديدة مضت وتري إطلالات العصر الملكى والمملوكى والإسلامى والقبطى، تلك المشاهد التى ما زالت بصماتها باقية فى التحف الفنية المصنوعة بأيدى فنانين مصريين معاصرين .. فما زال فن الأرابيسك والمشغولات النحاسية والفضية والمنمنمات بارعة الجمال بالغة الدقة تُصاغ وتُباع بأبخس الأثمان فى بازارات وجاليريهات بالمئات فى كل محافظات مصر السياحية لا فى القاهرة وحدها.

هل يمكن أن يدَّعى أحد بعد ذلك أننا غير قادرين على غزو الأسواق العالمية بمنتجاتنا الثقافية؟

القضية الحقيقية هنا فى كيفية استغلال تلك القدرات الكامنة وتسويقها بشكل علمى وفاعل .

معاً.. نحو ثقافة إليكترونية.. ومثقف عصرى

المفارقة المضحكة فى ثنائية "النخبة والجمهور" المزعومة، أن الجمهور سبق الطليعة بمسافات هائلة .

فالمثقف القديم لم يكلف نفسه مشقة تطوير ذاته وأدواته ليساير العصر. وبدلاً من أن يعترف بهذا القصور والنقص كان الأسهل لديه أن ينكر فائدة أدوات التقنية ويهاجمها مدعياً أنها لا تناسب واقعنا الغارق فى الأمية. بينما المثقف ذاته يعانى من أمية تقنية.

لم ينتظر الجمهور نخبته ولم يقتنع بمزاعمهم، بل استطاع هو أن يساير العصر وينطلق فى الإبداع الإليكتروني ليبتدع بنفسه صحافةً بديلة وإعلاماً موازياً. وليس مطلوباً من الصحفى والمثقف والإعلامى اليوم سوى أن يساير جمهوره ويواكب سرعته الهائلة. 

آفاق واسعة رحبة يفتحها المجال التقنى أمام الصحافة.

هناك مثلاً فكرة نفذها الغرب ولم نستطع بعد أن نقلدهم فيها .. هى فكرة "غيمة الأفكار" أو "Document cloud"!

إنها كتلة رقمية محمَّلة ومثقلة بالبيانات والمعلومات الموثَّقة المصنَّفة والمتاحة لكل الصحفيين كمصدر دائم للمعلومات، وهى الغيمة المستعدة لإمطارك فى أى وقت بأى كمية تريدها من الأفكار الجاهزة. إنها أشبه ببنك رقمى للمعلومات والوثائق شارك فى إعداده نخبة من المتخصصين والصحفيين كمؤسسة نيويورك تايمز ومؤسسة "جيمس لى نايت" وعدد من الصحفيين اللامعين مثل (سكوت كلاين) و(أرون بيلهوفر) و(إريك أوماتسيكى) و(أماندا هيكمان) . وجميعهم من المتحمسين لدور الإعلام الرقمى فى تبادل الأفكار وإتاحة المعلومات وتطوير العمل الصحفى والإعلامى.

الصحافة قادرة على التعافى

دعونا نتفق أولاً أن الصحافة الورقية تمر بأزمة كبري وأن هذه الأزمة عالمية واسعة النطاق.

لا ينبغى أن ندفن رؤوسنا فى الرمال فندّعى أن الأزمة لا وجود لها، ولا أن نبالغ فنقول: أنها أزمة بلا حلّ!

لقد كانت الصحف قديماً هى الوسيلة الإعلامية الأولى محلياً وعالمياً مما أدى إلى انتعاشها وتشعب اتجاهاتها، حدث هذا قبل التليفزيون والراديو والسينما. أما اليوم وقد امتلأت السماوات بالبث الإعلامى الفضائى، وتكدّست الشاشات الرقمية وغصت بوسائل التواصل والصحافة الرقمية البديلة. فقد حوصرت الصحافة الورقية فى زاوية، وبات الأمر يتطلب حلولاً ناجعة قادرة على تجاوز الأزمة وإقناع الجمهور بالتخلى عن شاشته الرقمية المجانية ليقرأ صحيفة لا يستكثر ثمنها، ولا يستثقل قراءتها.

الصحف قادرة على أن تعود كسلعة ثقافية حيوية مطلوبة لجميع فئات وشرائح المجتمع.

الدليل على ذلك أن حاجة الجمهور للمعلومات تزداد يوماً بعد يوم.

عالم التسويق والإعلان يعتمد على المعلومات.. وهكذا الاقتصاد والفن والثقافة والتجارة والصناعة والمال والجريمة والقانون السياسة.. كلها معلومات. والمطلوب فقط أن تكون تلك المعلومات صحيحة وموثوقة ومثيرة من حيث طريقة تقديمها. هكذا هى لعبة الصحافة الأثيرة، أن تجعل القارئ مثاراً متحفزاً للمعلومة التى يفتقر إليها. فالصحافة هى عالم المعلومات المتجددة الشيقة.

إنها مفارقة كبيرة تحمل سؤالاً تعجبياً استنكارياً .. هذه المفارقة الاستفسارية تقول :

" كيف يمكن للصحافة بصفة عامة أن تفشل ولو جزئياً فى عصر يسمونه "عصر المعلومات" ؟

وهل هناك مصدر للمعلومات أفضل أو أقوى من الصحافة ؟!" .

الصحافة الإليكترونية.. والسياحة!

الإعلام الرقمى له مزية هائلة لم تُستغلّ بعد..

أنه قادر على اختراق الحدود إلى أبعد مدى ممكن.

وكالات الأنباء العالمية باتت شبيهة بآلة معلومات عملاقة تعمل على مدار الساعة. حجم معلومات ضخم، وحجم عَمالة هائل يتناسب مع شلال الأخبار المتدفق بلا انقطاع . وجميع الفضائيات تتناقل تلك الأخبار باستمرار. لاشك أن تأثير مثل تلك الصحافة العابرة للحدود قوى وممتد.

منصة اليوتيوب هى منصة أخرى من منصات الإعلام البديل. وربما كانت من أقوى المنصات العالمية.

بعض لقطات الفيديو الفنية أو الاجتماعية تستحوذ على نسب مشاهدات بالملايين وقد تتجاوز حاجز المليار خلال أسابيع قليلة. حتى أن جهات الإنتاج العربية تنبهت لمثل هذا الأمر، واستغلت اليوتيوب للدعاية لأحد الفنانين أو الفنانات، أو الدعاية المضادة ضد فنان أو فنانة أو عمل فنى!

والسؤال هنا: هل من الممكن استغلال منصات الإعلام الرقمى العالمية للترويج للسياحة؟

نعم ممكن .. لكن الأمر ليس سهلاً كما قد يبدو.

مجال الدعاية الرقمى مجال احترافى له مقومات وآليات أخرى مختلفة عن آليات الصحافة المطبوعة.

ومجال السياحة مجال متعدد الأوجه والأنشطة. والمنافسة العالمية على أشدها. ولكى تكون مؤثراً فى الذوق العالمى، لا بد أن يكون لك موطئ قدم فى الإعلام العالمى.

هناك أبعاد لامرئية فى العمل الإعلامى الرقمى؛ كعمليات الحماية الرقمية والتوجيه والتحكم والمتابعة والتقييم والتصنيف، كلها تستلزم مقومات مادية وموارد بشرية لإدارتها قد لا تمتلكها مؤسسة صحفية منفردة. لكن تجميع الجهود وتبادل الخبرات فى المجال الصحفى قد يسهم فى تكوين صحافة مصرية رقمية قادرة على اختراق الحدود والوصول للعالمية.

هكذا تستطيع الصحافة لا أن يكون لها دور فى الترويج السياحى من خلال المنتَج الثقافى فحسب. بل فى الترويج لأى سلعة أخرى من السلع المعنوية.

التقنيات الحديثة ومستقبل الإعلام

قيل،على سبيل التخيل، أن حجم المعلومات الرقمية دائمة التوارد والاتساع بلغ من الضخامة ما لو تم تحويله جميعاً إلى مطبوعات لغطى الأرض كلها وأكثر.

فالمحتوى الرقمى المعلوماتى، بكل ما فيه من غث وسمين، يفوق ما تم تسجيله فى الكتب منذ بدء الخلق حتى اليوم بثلاثة ملايين ضِعف! أمر عصِيّ على التصور.

نحن أمام إمكانات افتراضية غير محدودةـ .. فيض لا ينقطع من معلومات تنحدر من عشرات المنابع ومئات المصادر وآلاف المواقع كأنهار من الأفكار لا تنضب ولا تتوقف عن الدوران والتعاقب.

دور الصحافة مستقبلياً سوف ينحصر فى محاولة اصطياد ما هو ملائم للبث من بين شلال الأخبار اليومية الجامحة. لم يعد دور الصحافة هو السعى خلف الأخبار، فالأخبار الآن هى التى تسعى خلف الصحافة، إنما فقط انتخاب الأخبار وإعادة عرضها بطريقة مثيرة ملفتة.

لغة الصورة والمشهد سوف تسود هنا أكثر من اللغات المقروءة.. فالصورة تمثل لغة عالمية تتحدث دون حاجة إلى ترجمة، وهى لغة محبوبة تألفها العين وتستمتع بها أكثر من لغة الحروف والأرقام.

سوف يتغير الإعلام وتتغير اتجاهاته وأهدافه شاء أم أبَى..

فالتغيير قادم من الغرب فى صورة تقنيات جماهيرية غير قابلة للمنافسة. ولكى يستطيع الإعلام أن يواكب ذلك التغيير، لا بد له من أن يتغير ويتطور فى ذاته. أو يبقَى فى ذيل المنظومة الإعلامية العالمية كمتابع ومشاهد لا كمشارك.

المثقفون الجدد .. كرجال أعمال

مصطلح جديد غزا الساحة الثقافية العالمية مؤخراً هو مصطلح "الصناعات الإبداعية" أو "اقتصاديات الثقافة والمعرفة" . السينما والمسرح والفن التشكيلي والأدب والموسيقى والنحت لم تعد مجرد أدوات أو وسائل للترفيه والإمتاع والدعاية، إنها اليوم صناعات تنافس الصناعات الثقيلة . والأرقام تتحدث : فى 2001 أى منذ نحو عقدين من الزمان بلغت عائدات حقوق النشر " الورقى والرقمى والمرئى" فقط فى أمريكا حوالى 800 مليار دولار،! أى نحو 8% من إجمالى الناتج القومى! وبلغ إسهام صناعات الإبداع الأمريكية فى دورة المبيعات والصادرات السنوية نحو 90 مليون دولار أمريكي أى ما يفوق عائدات الصناعات الكيميائية والزراعية والسيارات والطائرات!

وفى بريطانيا قُدِّرت عائدات الاقتصاد الإبداعى حوالى 113 مليار جنيه استرلينى بما يبلغ حوالى 5% من إجمالى الناتج القومى! وصناعة الإبداع هناك تستوعب عمالة قوامها 1.5 مليون شخص!

تلك أرقام حقيقية جاءت فى كتاب "الصناعات الإبداعية" للإعلامى الأكاديمى (جون هارتلى).

لا يمكن الحديث بعد هذه الأرقام عن الثقافة باعتبارها رفاهية أو رقماً زائداً فى المعادلة القومية. ووزارة الثقافة لا ينبغى لها أن تظل وزارة خدمية تقدم خدمات ثقافية مستهلكة قديمة لا يريدها أحد. بل لا بد لها أن تتعلم كيف تتحول إلى وزارة إنتاجية عالمية التأثير، فهذا هو السبيل الوحيد أمامها للانتقال إلى خانة الإنتاج والعائدات، بدلاً من اكتفائها بالسحب من ميزانية الدولة دون مردود أو عائد.

العالم يتحدث اليوم بلغة المال والأعمال والإنتاج، والمثقف ينبغى أن يجيد التحدث بهذه اللغة . لا يحتاج المثقفون إلى استجداء التمويل للصرف على الإنتاج الفكرى والثقافى، بل هم قادرون-بعد تطوير أدواتهم الإنتاجية- للإنفاق على القطاع الثقافى بشقيه الحكومى والخاص، بل وتحقيق أرباح هائلة.

هذا ما تؤكده تجارب الآخرين.. ولسنا أقل منهم. وتاريخنا العريق هو الدليل الأكيد على ما أزعمه.

مسئوليات النخبة الثقافية الجديدة

أنا متفائل..

وتفاؤلى لا يأتى من فراغ..

الناس فى بلدى تثبت فى كل لحظة أنهم قادرون على استيعاب اللحظة والحدَث، وعلى مواكبة أى تطور.

إنهم يسبقون الجميع ويتفوقون على أنفسهم بقدرتهم على استغلال المتاح لصناعة إعلامهم البديل الذى تفوق على الإعلام النخبوى. الناس أنفسهم هم الخامة الأوفر والأفضل لإنقاذ الصحافة من واقعها المنهَك. هكذا أكدت التجربة الكورية..

ففى كوريا الجنوبية تم إنشاء منصة رقمية جماهيرية تحت اسم: "جريدة كوريا الجنوبية الإليكترونية" يتم تحريرها بالكامل بواسطة المواطنين. فالقراء هم محرروا الأخبار والموضوعات والتحقيقات، وهم المتفاعلون والفاعلون فى وقت واحد. هذه تجربة جديرة بالاستنساخ والتقليد.

لا ينبغى أن نبحث عن نخبة بديلة وسط شعب أثبت أنه هو النخبة بين شعوب العالم.

ما ينبغى فعله حقاً هو أن يطوِّر كل منا ذاته وأدواته ليصير أهلاً لأداء دوره الفاعل فى المجتمع.

هناك نخبة ثقافية جديدة تولد من رحم المجتمع نفسه.

تلك نخبة لديها مسئوليات جسيمة هائلة.

وأولى مسئولياتها.. الوصول للمنافسة العالمية.

فهل هى قادرة على ذلك؟

بشكل عام.. أنا متفائل.

 

عبد السلام فاروق

 

 

في المثقف اليوم