أقلام حرة

الزيارة التاريخية لبابا الفاتيكان

شاكر الساعديوصل بابا الفاتيكان – البابا فرنسيس – إلى بغداد، يوم الجمعة 5آذار 2021، في مستهل زيارة تاريخية للعراق تستغرق أربعة أيام، وهي أول زيارة بابوية للعراق على الإطلاق.

والتقى خلالها رئيس وزراء العراق، ورئيس الجمهورية، ورئيس إقليم كردستان، وبعض قادة البلاد الآخرين، والمرجع الديني السيد علي السيستاني في محافظة النجف الاشرف، وقال مكتب السيد السيستاني، إن "الحديث خلال اللقاء دار حول "التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر ودور الإيمان بالله تعالى وبرسالاته والالتزام بالقيم الأخلاقية السامية في التغلب عليها

وقال بابا الفاتيكان، في كلمة نقلها التلفزيون العراقي خلال لقاء الأديان من مدينة أور الأثرية في ثاني أيام زيارته إلى العراق، إن "الإرهاب عندما هاجم هذا البلد هاجم جزءا من التاريخ"، مشيرا إلى أن "الإرهاب والعنف لا يأتيان من الدين".

وأضاف البابا "لا يجب أن يعمل كل منا بمعزل عن الآخر فنحن من يجب أن يعمر الأرض"، مشددا "لن يكون هناك سلام دون التعايش السلمي". ولفت إلى أن "الصراعات تحول دون تحقيق الأحلام"، منوها بأن "هناك الكثير من الصعوبات ونحتاج إلى أن نصلي وأن نرى بعضنا بعضا".

تعد زيارة بابا الفاتيكان للعراق هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، وتشمل خمس محافظات عراقية، وشاركت في مراسم الاستقبال بمطار بغداد مجاميع من أبناء الطائفة المسيحية وفرقة التراث الشعبي العراقية التي قدمت أنشودة للترحيب بمقدم البابا فرنسيس فيما لوح آخرون بأعلام العراق ودولة الفاتيكان.

واصطحب رئيس الحكومة ضيف العراق (البابا فرنسيس)، إلى صالة التشريفات الكبرى بمطار بغداد الدولي وعقدا اجتماعا ثنائيا، تبادلا خلاله الأحاديث الترحيبية والجانبية، واصطفت مجاميع من العراقيين لاستقباله في طريق مطار بغداد الدولي خلال مرور موكبه الرسمي.

وشهدت الشوارع الرئيسية التي سلكها موكب بابا الفاتيكان فرنسيس وسط بغداد استعدادات غير مسبوقة، ونشرت السلطات العراقية آلافا من قوات الجيش والشرطة بجميع صنوفها في الشوارع وعلى طول الطريق الرابط بين مطار بغداد وتفرعاته التي سلكها موكب بابا الفاتيكان خلال زيارته التاريخية للعراق بلد الحضارات القديمة وبلد الأفكار والمدارس الفكرية .

المرجعية الدينية المسيحية:

بابا الفاتيكان الأرجنتيني المولد فرنسيس (خوري ماريا برغوليو)، والذي خَلَف البابا بنديكتوس السادس عشر عام 2013 في كرسي البابوية في روما، يقود اليوم ثورة إصلاحية دينية لا تَقِل أهميةً عن ثورة الراهب الألماني ومطلق عصر الإصلاح في أوربا (مارتن لوثر1483 - 1546)، ربما يمتد تأثيرها إلى بقية الأديان السماوية الأخرى كاليهودية والإسلام، لأنَّ الكثير من المعتقدات الجوهرية المشترَكة بين هذه الأديان هو مشمول بالإصلاح وإعادة البناء.

وبابا الفاتيكان هذا يعد مرجعاً دينياً لمئات الملايين من المؤمنين المسيحيين الكاثوليك، كما هو الحال في المرجعيات الإسلامية الشيعية التي يقلدها عشرات الملايين من الإتباع والمريدين ... وعلى العكس من الغالبية المسلمة، فـإن "القاعدة الشعبية" المسيحية لا تُجادِل، على وجه العموم، في صواب وصدق ما ينطق به، كما يفعل بعض المسلمين الذين تتعدد مرجعياتهم الدينية حسب مذاهبهم أو علماء الدين الذين يقلدون .

لقد نَسَفَ هذا الرجل منظومة كاملة من المعتقدات الراسخة في الديانة الكاثوليكية حين قال: (إنَّ جهنَّم لا وجود لها، وإنَّ قصة آدم وحواء أسطورة، وإنَّ الأديان جميعاً صحيحة، وإنَّ "الحقيقة الدينية" تتغيَّر وتتطوَّر، وإنَّ الرَّبَّ نفسه يتغيَّر ويتطوَّر، وإنَّ بعض أجزاء الإنجيل عفا عليها الزمن) .

من أين يستمد الحبر الأعظم "الشرعية الدينية؟

أجاب البابا بنفسه عن هذا السؤال قائلاً: (من طريق "البحث الروحي" و"التأمُّل" و"الصلاة".. توصَّلْنا إليها، واكتسبنا، "فَهْماً جديداً لبعض العقائد") ... فثمَّة مشكلة كبرى أراد البابا حلها؛ لانَ كثيراً من المؤمنين الكاثوليك تُرْغمهم (وتُكرههم) مصالحهم الدنيوية الواقعية على العيش بما يُناقِض كثيراً من المفاهيم الأخلاقية المسيحية، وبما يُناقِض، أيضاً، كثيراً من المعتقدات الراسخة في الديانة الكاثوليكية فتضيق بهم الكنيسة، أو يقوى لديهم الميل إلى هجرها، والنأي بأنفسهم عنها، كونهم منغمسون في نمط حياة خاصة يناقِض كثيراً من المعتقدات الدينية الكاثوليكية، فلمَّا باءت بالفشل كل جهود ومساعي المؤسسة الدينية (الفاتيكان) لإعادتهم إلى "الطريق القويم"، قرَّرت أنْ تتغيَّر هي فكرياً وعقائدياً بما يجعلها أكثر تصالحاً مع جماهيرها، الغاية منه استعادة تلك المؤسسة الدينية ما فقدته من "نفوذ شعبي روحي".

الحبر الأعظم يقول اليوم لذوي الميول الجنسية الشاذة، وللمثليين جنسياً، ولمؤيِّدي الإجهاض، وللمحافظين والليبراليين والشيوعيين والملحدين، ولغيرهم: (أبواب الكنيسة مفتوحة لكم على مصارعها، أنتم، وعلى الرغم مما أنتم عليه من أحوال فكرية ومعيشية وسلوكية، ما زلتم مؤمنين مسيحيين، وإيَّاكم أنْ تظنُّوا أنَّكم قد غدوتم مارقين من الدين، فالمعتقدات الدينية الجديدة والصحيحة تَتَّسِع لكم، وبما أنتم عليه؛ نحن اليوم (أي الفاتيكان) ما عُدْنا قضاة؛ نحن الأب المُحِب لأبنائه جميعاً، وهذا الأب لا يدين أبناءه، نحن اليوم قومٌ "حداثيون" و"عقلانيون"، "منفتحون" و"نكره التعصُّب") .

وعن بقية الأديان الأخرى غير المسيحية يجيب قائلاً: ( كلاَّ، ليس من دين باطل، أو غير صحيح، فكل الأديان "صحيحة وعلى حق، لأنَّها كذلك في قلوب الذين يؤمنون بها") .

وهذا يعني أنَّ الإسلام (مثلاً) هو، في المعتقد الجديد للبابا، دين صحيح؛ أمَّا السبب فيكمن، بحسب المعتقد ذاته، في كَوْن المسلمين يعتبرونه صحيحاً، فـفي "القلب" يستوطن "الرَّب"، ومعه تستوطن "الحقيقة"؛ فإذا آمن قوم بما تعتقد قلوبهم، فهذا الإيمان صحيح.

في عصرنا الحاضر اليهودي يقول: إنَّ اليهودية هي الدين القويم، و المسيحي يقول: إنَّ المسيحية هي الدين القويم، و المسلم يقول: إنَّ الإسلام هو الدين القويم؛ أمَّا بابا الفاتيكان، وعملاً بمبدأ "نسبية الحقيقة"، فيقول لهم: (إنَّكم جميعاً على صواب) .

وعند مجيء الإسلام في القرن السادس الميلادي كذب ادعاءات اليهود والمسيحيين بأنهم أبناء الله وأحباؤه على الرغم من تأكيده أفضلية بني إسرائيل (يعقوب) على الناس جميعا، إلا أنه سرعان ما فسر ذلك التفضيل بأنه تفضيل عطاء ونعمة ومنة قبل خيانتهم للعهد.

لقد أدى مفهوم خير الأمم إلى إشكاليات عديدة لدى متبنيه من الشعوب ولدى شركائهم في التاريخ والجغرافيا تجلت في صراعات وحروب غالبا ما استغلت أيديولوجياً وسياسياً، ويقر القران الكريم بذلك في قوله تعالى (كلما خلت امة لعنت أختها)()، في حين نجت بشكل عام الأمم التي لم تكن لتحاول شيطنة أو لعن أو ازدراء أو الحط من الشعوب الأخرى.

هل "الحقائق الدينية" ثابتة مُطْلَقة، لا تتغيَّر، ولا تتطوَّر؟

يجيب الحبر الأعظم على هذا السؤال قائلاً: إنَّها تتغيَّر وتتطوَّر في استمرار، وبعد أنْ يصف الإنجيل بأنَّه "كتاب مقدَّس جميل"، يُعْلِن البابا، وفي جرأة غير عادية، أنَّ بعض أجزاء هذا "الكتاب المقدَّس الجميل" قد عفا عليها الزمن (أي شاخَت، وتقادم عهدها).

وأخيراً، بلغت ثورة البابا فرانسوا منتهاها؛ فهو سرعان ما انتقل من عالم الفيزياء الالماني البرت آينشتاين (1879- 1955) إلى الفيلسوف الألماني فريد ريش هيجل (1770 -1831 )، قائلاً (إنَّ الرَّبَّ نفسه لا يشذ عن ناموس التغيُّر والتطوُّر؛ فهو في تغيُّرٍ وتطوُّرٍ مستمرين) .

وعلَّل البابا تطوُّر الرَّب قائلاً: (إنَّ الرَّب يسكن فينا، وفي قلوبنا؛ ونحن البشر في تطوُّر مستمر؛ ولا بدَّ للساكن فينا، وفي قلوبنا، من أنْ يتطوَّر بتطوُّرنا ).

 

شاكر عبد موسى/ كاتب وأعلامي

 

 

في المثقف اليوم