أقلام حرة

مُحمَّد سَعْد: اَلْمَوت اَلذِي تفرُّون مِنْه..؟!

نَحْن على مَتْن الحيَاة عابرون، وقطار الحيَاة يُعبِّر بِنَا كُلُّ فُصُول اَلسنَة لِندْخل مَحطَّة اَلخرِيف، تَتَساقَط عليْنَا أَورَاق اَلخرِيف لِندْخل فِي مبيت شَتوِي؛ لِتبْدأ الحيَاة الأبديَّة.. إِنَّ قِطَار اَلعُمر مسافاته قَصِيرَة لِلْمحَطَّة الأخيرة مَهمَا طال اَلعُمر، القطَار سريعًا والْمحطَّة الأخيرة سَوْف يَتَوقَّف بِنَا القطَار جميعًا، سيخْرج القطَار مِن على القضْبان، العاصفة والتَّضاريس والْأَرْض اَلوعِرة، سيتوَقَّف القطَار يوْمًا دُون عَودَة، كُلنَا عابرون لِلْحقيقة الحتْميَّة الموْتَ..!!

(قلَّ إِنَّ الموْتَ اَلذِي تفرُّون مِنْه فَإنَّه مُلاقيكم، ثُمَّ تردُّون إِلى عَالَم الغيْب والشَّهادة فينبِّئكم بِمَا كُنتُم تعْملون) نَستهْلِك الوقْتُ والزَّمن والْوَقْتُ فِي سَعْي دَائِب ونحْن نُخطِّط لِمصير قَادِم غَامِض لَا نَعلَم إِطْلاقًا إِنَّ كُنَّا سنشْهَده يوْمًا، نعيش صِراعًا دَاخلِيا مِن الأنانيَّة المفْرطة صِرَاع الرَّأْسماليَّة المتوحِّشة. اَلتِي أَصبَحت مِن سِمَات العصْر.. بَعْد إِعلَان رحيل عزيز عليْنَا نَتَقاسَم مَا تَركَه المرْحوم ويعيش الآخرون على مَارْكَة مِن صِرَاع مادِّيٍّ خاض صِراعًا مِن أَجلِه، ويعيش الورَثة صِراعًا آخر على الاسْتحْواذ.. وَننسِي المرْحوم ويعيش غُرَباء وأحْفَاد عَلِي مَارْكَة. لِيتمَتَّع آخرون بِمَا حرم نَفسَه مِنْه فِي حَياتِه أَنهَا الحيَاة الغريبة.. نَحْن عابرون يَا سَادَة تمامًا ومَا نَحْن إِلَّا" قَبضَة مِن تُرَاب "، فِي مَرْحَلة العيْش نَمِر (كالتَّائهين المشرَّدين)، نُعبِّر حَدِيقَة زُهُور فِي مَرْحَلة الشَّبَاب كمَا نُعبِّر صَحارِي وتلالا وَصخُورا فِي مَرْحَلة المرض والشَّيْخوخة، نَمِر بِالْمَوْتِ كُلَّ لَحظَة نَفقِد أعزَّاء كَانُوا مَعنَا بِالْأَمْس اَلقرِيب، ومَا حَقِيقَة الموْتِ إِلَّا مَعبَر فقط لِحياة أَبدِية أُخرَى.. كُلمَا ذَهبَت إِلى المقابر نُودِّع جُثْمانًا إِلى مُسَواة اَلأخِير أَتخَيل العالم الآخر.. نعيش فِي عَالَم أَنانِي جِدًّا بِمَا يَكفِي لِأن تملَّ السَّيْر فِيه عَالَم مُتَوحش.. حَتَّى العلاقات بَيْن البشر فِي هذَا العصْر، تَتَلاشَى تدْريجيًّا، وَإِن كَانَت رَوابِط اَلدَّم هِي الرَّائدة فقد تَقطعَت أَواصِر اَلوِد والرَّحْمة.. مَنْع جُثْمان مِن الدَّفْن فِي قُبُور عَائِلة بِحجَّة أَنَّه لَا يَربُطهم قَرابَة.. رَغْم أنَّ اَلقُبور حَفنَة مِن تُرَاب؛ بَعْد شُهُور ويتساوى اَلكُل غنيًّا وفقيرًا أَبيَض وأسْود، عَامِل وأمير.. اَلكُل تُرَاب.

وفِي ظِلِّ عَصْر مادِّيٍّ بَحْت. ساد الحوَار اَلعقِيم بيْننَا اَلذِي لِأنْفع ولَا لَيِّن يتخلَّله، نَجلِس فِي السُّرادق المقَام نَحتَفِل بِرحيل عزيز عليْنَا لَا نَسمَع آيات الذِّكْر اَلحكِيم مِن اَلقُرآن اَلكرِيم، فَرِح وَلكِن اَلعرِيس هُو الغائب. أَتُوق لِعالم آخر يَكُون فِيه مَفهُوم لِلْموْتِ مَوعِظة، وللْحبِّ مَفهُوم عظيم، اَلحُب بِأشْكاله المخْتلفة بِداياته رَهِيبَة تَخطِف فِيه الرُّوح لِأزْمَان مَدِيدَة، تظلّ فِيه المشاعر والْأحْداث. فِي أَعمَاق القلْب ذِكْرى وَذِكرَى وَإِن أَمضَت التَّضاريس قَرَار الفرَاق، هذَا الكوْن مُخيفٍ جِدًّا لَا أَمْن ولَا دَوَام لِهدوء حالٍ، لِلْأمانة، فَأنَا أَهرُب دائمًا مِن هذَا الكوْن، دَربُه مليء بِالْعثرات والْحَفْر اَلتِي يكيدَهَا ويحسِّن حَفرُها أَقرَب المقرَّبين، مَاذَا لَو أَصبَح دَرْب يسير سَهْل مُرتَّب بِالْورود الباسمة الملطِّفة لِأَلم اَلسنِين، أَوَان تَملَأ اَلبُيوت سُكيْنَة لَا تَزُول. قِبل أن نُغَادِر هذَا العالم.. فاخْتفاء الأرْواح وفقْدانهَا لَا يَعنِي أَنَّه مَوْت الرُّوح، لَن تَتَوقَّف الحيَاة ولن يَكُف الكوْن عن البقَاء، عِنْدمَا تَفقَّد كائنًا قد يَنطَفِئ قَلبُك بَعْض الشَّيْء وَلكِن سُرْعان مَا يَنبِض قَلبُه مَكانَة قَلبِك المنْطفئ لِرحيله.. مِن يَتَمسَّك بِالْحياة بِشَكل إِيجابيٍّ كَمَحطَّة عُبُور لَا خُلُود أَدرَك تمامًا المعْنى الحقيقيُّ" لِكيْنونته".. اَلتِي تَغيَّب عن اَلكثِير. وإنِّي أَعنِي مَا أَكتُب الآن وأصْدق مِن ذِي قَبْل، لِأقول مازلْزلْني حدث أشدُّ على رُوحيٍّ مِن فَقْد أَروَاح لَهُم ذِكْرى مَعنَا، إِنَّ فِقْدَان اَلأُم، والْأب والْأخ، والصَّديق؛ أَنَّه لِحَدث عظيم جِدًّا تَوقفَت حِينهَا الأحْلام والْمشاريع وانْقطعتْ اَلوُرود مِن الحدائق، وَتَغيرَت نَكهَة طَعْم الثِّمَار، كان طَعمُه مُخْتلِفًا جِدًّا جِدًّا عن الآن.. مَا جِئْتُ لِأسْرد تَفاصِيل الفقْد ومَا اِنْجر عَنْه وعن المنْعرج اَلكبِير اَلذِي سلكتْه، لَكنِّي أُفكِّر كثيرًا مَاذَا لَو لَم يَحدُث هذَا الفقْد، مَاذَا لَو بَقيَت أُمِّي وَأبِي.. أرى أُمَّهات وآباء كُثُر يتألَّمون بِآلام مُختلفَة مِن فَقْد أبْنائهم، مِن داءٍ يَسلُب نظَّارتهنَّ وَوجَع يُقسِّم ظُهورَهنَّ، مِن دَهْر عصيب يَقضِم شبابهنَّ.. أَتَساءَل لَو تَآكلَت أَعضَاء أُمِّي لَو أنْهكَهَا التَّعب والشَّقاء، أرى أُنَاسا يعيشون هذَا الألم وأشاركهم الأحاسيس مِن نظراتي فِي عُيونِهم الحزينة، أَجزِم أَنِّي لَن أَقوَى على التَّحَمُّل، لَن أَقوَى على اِتِّخاذ أيِّ قَرَار مَصيرِي فِي تَغيِير المكَان يَسمَح لِي أن أُغادرهَا، فَقْد غادرتْني.. أَتخَيل مَا يَشعُر بِه أيُّ شَخْص يَتَألَّم مِن ضَعْف سَندِه.. رُبمَا غِيابهمَا المفاجئ كان بِمثابة زِلْزَال وَعاصِفة هَوْجاء وبرْكَان مُدوِّي لَكنَّه هدأ، هدأ تدْريجيًّا، لَا يَعنِي هذَا أنَّ مُرُور اَلسنِين، تُسَاعِد على النِّسْيان، هِي تُعَالِج نِسْبيًّا لَا كُلِّيًّا فقط مُسكنَات وَقتِية.. مَا اِسْتنْتجتْه أنَّ كُلَّ شَخْص تَكمُن قُوتَه فِي صَبرِه اَلكبِير الأوَّل لِلْأشْياء المؤْلمة، الفجْأة الصَّادمة وللْمنْعرج اَلخطِير الأوَّل اَلذِي يَعبُره، إنَّ اَلمصِير اَلذِي كتب لَه هُو اَلذِي يَقوَى على حَملَة لَا غَيْر.. كُلنَا راحلون كُلنَا مُسافرون والطَّريق وَاحِد كَمَحطَّة عُبُور لَا خُلُود أَدرَك تمامًا المعْنى الحقيقيُّ لِكيْنونته..!!"

***

مُحمَّد سَعْد عَبْد اَللطِيف

كَاتِب وَباحِث مِصْرِي ومتخَصِّص فِي الجيوسياسيَّة

في المثقف اليوم