مقاربات فنية وحضارية

ها نحن قد اضعناه! / مصدق الحبيب

الفنان المنسي محمود صبري ونحتضنه ونفخر بابداعه ونسترد ماأكل منه ومنا زمن التشرد والغربة والانعزال القسري قبل فوات الاوان ! وقد طوى النسيان والاهمال هذا النداء والرجل موضوع النداء مثلما هو شائع واعتيادي ومتوقع  لدينا جميعا. وهاهو الفنان الكبير محمود صبري قد رحل كمغترب لاكثر من خمسة عقود ولم تبد الجهات الثقافية العراقية اي اهتمام برعايته.

 

لاتضيــّـعوا الفنــان محمود صبـــري / مصدق الحبيب

 

-1-

لقد انجبت ارض العراق عبر الزمن الطويل كفاءات عملاقة غيرت وجه التأريخ واغدقت على الانسانية افضالا جمة تعيش في كنفها الشعوب لحد اللحظة. ولاتزال تلك التربة السحرية وذلك الماء المقدس ينتجان مئات الالوف من العباقرة والمبدعين رغم التسلط والظلم والجوع والحرمان . واذا لم يكن هناك شك في قابلية هذا الرحم المبارك ان ينجب المزيد والمزيد من الابناء البررة المتفوقين، فانه ليس ثمة شك ايضا بان نفس تلك الارض المعطاء لم تكن الا ضليعة في خذلان واذلال واهمال عمالقتها المبدعين! والامثلة على ذلك لاتعد ولاتحصى عبر التاريخ المرير.. فذاك هو المتنبي العظيم الذي قاسى شظف العيش وعاش كريما نظيف اليد لينتهي مقتولا بخنجر مأجورعقابا لكرامته وعزة نفسه.. وذاك عبقري الخط العربي ابن مقلة الذي اعطى عصارة علمه وفنه الى وطنه ليستلم عقاب السلطان بقطع اصابعه وفقأ عينيه لاخماد شعلة العبقرية المتفجرة في راسه كالبركان، حيث انتهى نهاية بشعة في سجن السلطان الرهيب ..وذاك الجواهري الكبير الذي امضى عقودا من الاهمال في الغربة ليحرم من ان يدفن في الارض التي انجبته . وذاك السياب العملاق الذي امضى حياته القصيرة الطافحة بالابداع في فاقة مذلة بثت السل في عظامه فاغترب عليلا معوزا امضى ايامه ولياليه بالالام والتمني بالعودة الى العراق لكنه لم يملك ثمن بطاقة الطائرة او السفينة وظل يحلم بكوخ في الحقول وقبر كئيب..لقد روى ابناء مدينته انه حين عاد جثمان الشاعر الى المدينة كان محمولا على سقف سيارة تاكسي ولم يرافقه اي احد وكان سائق التاكسي لايعلم بهوية المتوفي بل كان موكلا بتسليم الجثمان الى حيث تسكن عائلة المتوفي لكن السائق عاد خائبا بعد ان علم ان مديرية الموانئ العراقية كانت قد اصدرت امرا باخلاء الدار واسترجاعه وطرد العائلة منه لعدم تمكن زوجة الشاعر واطفاله الصغار من دفع الايجار، فظل السائق يجوب الشوارع في يوم ممطر ضبابي حزين لايدري اين يذهب بذلك الجثمان الذي غمرته مياه الامطار.. تلك هي الامطارالتي لم تكن نبوءة السياب بها بؤسا وذلا،  بل خيرا طافحا يغمر العراق!!

 165-musadaq

-2-

 كان الاخ الدكتور عدنان الظاهر والاخ الفنان ساطع هاشم قد كتبا قبل مدة عن الفنان صبري وريادته الفنية، وكنت قد شاركتهم الرأي شاكرا ومنوها الى ضرورة الالتفات الى ابداع الفنان محمود صبري والتعريف بعطائه العلمي-الفني في نظرية الكم التشكيلية التي اثقل ورقاتها زمن الاهمال وانهك الوانها غبار النسيان. اجدني الان عائدا لنفس الموضوع اثر قرائتي مقالة الاخ ساطع التي اعاد بها الكرة واعلن عن الموقع الجديد الخاص بالفنان صبري. ان اطلاق موقعا خاصا بابداعات الفنان صبري هو الخطوة الاساسية الاولى في الطريق الصحيح لرد اعتبار الفنان وتهيئة الفرصة للتعريف بعطائه خدمة للاجيال التي فاتتها تلك الفرصة والاجيال القادمة. ولاادري اذا جاءت هذه الخطوة الموفقة ببادرة خيرية عراقية ام انكليزية ولكن الاهم هو تحقيقها والعمل على اتخاذ خطوات اوسع واكثر في هذا المجال. ففي الوقت الذي اعلن فيه سروري المنقطع النظير واقدم فيه شكري الجزيل وامتناني الوافر لكل العاملين على تحقيق هذه الخطوة، آمل ان تتسع صدورهم الى المقترحات التالية كمساهمة مخلصة في تقويم وتطوير هذه البادرة الضرورية الجميلة:

-آمل ان يصار الى اصدار النسخة العربية للموقع الى جانب النسخة الانكليزية الحالية.كما آمل ان تعهد ترجمتها الى مترجمين كفوئين يتقنون لغة العلم والفن لتجنب الوقوع في التراجم الحرفية التي لاتجود بمعان معقولة ومفهومة خاصة في مثل هذه المواضيع المكتوبة بلغة تكنيكية فنية.

-     آمل ان يكون الموقع شاملا فيضم معلومات اضافية عن الفنان صبري تضم سيرة حياته ومعارضه وغربته وتحوي ارشيفا كاملا لاعماله الفنية عبر حياته المهنية الطويلة. وصورا اخرى عن حياته الفنية وزمالته للفن والفنانين العراقيين والدوليين.

-     آمل ان يضم الموقع كل ماكتب عن الفنان ونظريته ويتسع ايضا لما قد يكتب الان وفي المستقبل من مقالات ومداخلات مؤيدة او رافضة.

-     آمل ان يضم الموقع مساحة لتعليقات الزوار واسئلتهم وامكانية الاجابة عن استفساراتهم. ان موضوعا كهذا من المتوقع ان يكون مثيرا للجدل والمناقشة. وان افضل اثراء لعطاء الفنان وانصافا له هو اتاحة الفرصة للمساجلات والمناقشات واتساع القلوب لاستيعاب الاختلافات عبر الحوار الهادف البناء.

-     اقترح ان يتقدم العاملون على هذا الموقع بطلب منحة فنية من منظمات دولية مدنية محايدة تعنى بتراث وابداعات الشعوب ليتمكنوا من الاضطلاع بمهام تطوير الموقع وتوسيعه وجعله لائقا بمكانة الفنان كرائد مبدع في تأريخ الفن التشكيلي العراقي والاقليمي والعالمي. فهناك امكانيات محتملة ان يتوسع الموقع الالكتروني الى معهد او مركز دراسات يضم مختبرات فيزيائية وستوديوهات تشكيلية ويؤمه طلاب الفن و دارسوه جنبا الى جنب مع باحثو العلم من كل مكان، ولا يمكن لهذا التحول ان يحدث الا بامكانات مالية وفنية ومعنوية كبيرة لايستطيع الفريق الحالي الاضطلاع بها الا بمساعدة منحة دولية او صندوق نقدي خاص ينشأ لهذا الغرض.

وكلي امل ان نساهم جميعا لنعطي الفنان المبدع محمود صبري وكل المبدعين العراقيين في كافة المجالات حقوقهم التي اضاعها الزمن المر. فالامة التي لاتقدر مبدعيها سيغمرها الجهل والظلام ويمحو معالمها الظلم والطغيان.

 

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم الفنان التشكيلي الراحل محمود صبري اعتبارا من 20 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم