مقاربات فنية وحضارية

جمالية الخط العربي في المشرق والمغرب

mohamad albandoriلقد شكل الخط العربي في المشرق والمغرب وسيلة هامة لتحقيق التواصل ونقل المعارف، وقد اتخذ مسارا جماليا من خلال أسلوبه الفني الذي يقوم على التحاور بين اللون والخط والرمز، الذي يحفظ للأشكال بنائيتها، ويطوع جوهر الشكل لديها، ويتجه إلى شحن المفردات بتعبيرات متنوعة ودلالات متعددة عن طريق تحوير الوحدات التشكيلية واستدماجها في نسق جمالي، انطباعي أحيانا وعلمي ومنطقي أحيانا أخرى في مدركاته البصرية، يستند إليه شكل الحرف لخدمة الشكل الجمالي، فهو يروم جماليا وبلاغيا مختلف القيم البصرية التي تعتمد جمالية الأشكال الخطية، استنادا إلى الحقيقة التواصلية للخط، والحقيقة الجمالية للأشكال الخطية التي تستبطن تفاعلات ضمنية بالاسترسالات والمقوسات والمنحنيات وغيرها، مما يعني أن التفاعلات الضمنية مع أشكال الحروف مفردة ومركبة ومع الأشكال الخطية هي السبيل القويم لفهم الحقائق الجمالية والتصورية وإدراكها، حتى تبزغ واضحة المعالم.

إن التراث العربي الإسلامي يزخر بالقيم الخطية التي تتحقق في مدار الدلالة، على المستوى الجمالي والمعرفي والبلاغي، عن طريق العناصر الخطية والمفردات الفنية التي تؤدي إلى جانب وظيفتها في البناء الخطي أدوارا أخرى أجدى وذات أهمية قصوى، في ارتباط وثيـق مع كل سياقات التفاعل بينها وبين القارئ في نطاق تواصلي صرف. والخط العربي في هذا المعنى أداة جمالية للوصل تروم وسيلة بلاغية لها دلالاتها في سياقـات مختلفة بحسب الأجناس الأدبية والفكرية والفنية المتعددة. وقد لعب النقاد العرب المشارقة القدامى دورا محوريا في كل تلك العمليات التي قامت بتوجيه جمالية الخط نحو التواصل والتطور وارتياد عوالم إبداعية جديدة. لقد خلفت جهود العلماء والمثقفين والنقاد أثرا كبيرا في سلك الخط العربي منحى جماليا وبلاغيا، وشكل نقطة إيجابية في مسيرته نحو ارتياد عوالم جديدة أصبح لها أثر على النصوص الشعرية والنثرية وعلى كل الوسائل العمرانية العربية الإسلامية.

لقد أحس النقاد بجمال الخط في النصوص، وأدركوا خصائص لغة الخط، وذلك نتيجة تفاعلهم مع فن الخط ورصد جمالياته. فجماليات الخط لها جهازها المفاهيمي الذي منه تتشكل الرؤية النقدية والبلاغية.

ولا شك أن التحول الحضاري والثقافي والاجتمـاعي والاقتصـادي للأمة الإسلامية قد ساهم في العملية الإبداعية وما رافقها من طموح لتغيير مسار الخط العربي والتفنن فيه وتنويعه، كمــا أن "اضطلاع العرب بالعلوم الرياضية والهندسيــــــة"  ساهم في صنع أنـــواع جديدة بآليات جديدة وتقنيات جديدة حيث تعددت الأقلام وتنوعت الخطوط والكيفيات والتصورات والأفكار، وتمهدت الطريق للإبداع والابتكار بالصورة التي توصل إلى الهدف من العمل الخطي بما يشتمل عليه من عناصر تؤثث لكل مناحي الجمال وإنتاج الدلالات؛ فكان من الضروري تشييد معلمات فنية لصناعة الخط، لتحديد القيم الجمالية في التشكيل؛ لتوصيل كلام الله عز وجل في أحلى صورة مكتوبة وأجمل حلة يكون فيها كتاب الله المقدس؛ ولوشم المعالم الحضارية بالطابع العربي الإسلامي، خصوصا مع التقدم الفني والحضاري. فظل تأثير القرآن الكريم في بلاغة الخط جليا، حيث يظهر أن الأساليب الخطية وما صاحبها من تشكيلات جمالية قد نشأت في أحضان الآيات القرآنية الكريمة، ومنها استمد المبدعون الأبعاد الجمالية للخط الذي ساهم فيما بعد في وجوده البلاغي.

فإذا كان تأثير القرآن الكريم بما اشتمل عليه من نسق فني جميل قد ملك سمع الناس وقلوبهم، اعتبارا للإحساس بالأثر النفسي للقرآن الكريم، فإن علماء الخط قد جعلوا من كتابة الآيات القرآنية – عن وعي أو عن غير وعي- سحرا بصريا يليق بالسحر البياني في نطاق إدراك العلاقة بين السحر البياني والسحر الخطي وما يخلفه من أثر نفسي.

ولذلك فقد اجتهد العلماء في بلورة بلاغة خطية من خلال حاضرة علماء الخط وحاضرة الخطاطين وحاضرة النساخين ووضع معالم التقعيد والتحديد والتركيب والترميز والتدليل في نطاق نسق خطي بلاغي.

 

د. محمد البندوري

 

 

في المثقف اليوم