مقاربات فنية وحضارية

علاقة الخط العربي بالشعر

mohamad albandoriلقد تميزت التجربة الشعرية العربية القديمة بخصائص حملت طبيعة إنشادية في المرحلة الشفوية واتسمت بمظاهر مختلفة في مرحلة الكتابة والتدوين، حيث لعب الخط العربي خلالها دورا فاعليا. لكن بالنظر إلى خصوصية التجربة الشعرية الحديثة في ارتباطها بالخـط العربي، فإن هناك مفـارقة كبيرة، حيث استجابت هذه الأخيرة لتحولات فكرية وثقافية وظهرية بصرية انعكست على الشعر الذي أصبح الشكل البصري أحد مقوماته. فقد تلاحم جمال الخط وأناقته وتشكيلاته بجمال الشعر وعذوبته ف:" للألفاظ دلالات صوتيـة.. ولا يقارب وضوح مـدلولاتها في الأدب إلا وضوح الشـكل والرسم."[1] يقول العمري حول النظرية البصرية:" وهي تتجلى في ثلاثة مظاهر: خطي ولوني وتشكيلي، فالمظهر الخطي، وهو أكثر ميلا إلى اللسـانيات يرى في الحروف صورة لمعاني الكلمات."[2]

وقد ترتب عن هذا المظهر ما اصطلح عليه بالتجربة الكاليغرافية خصوصا المغربية منها للشعراء المغاربة في فترة السبعينات من القرن العشرين مع كل من: بنسالم حميش ومحمد بنيس وعبد الله راجع واحمد بلبداوي ومحمد الماكري، مستغلين:" غنى الأشكال الفنية للحروف في دوراناتها واستقامتها وميلانها وبداياتـها ونهاياتها وايقاعاتها."[3] وهكذا تكون الخطـوط بجماليتها قد:" استرعت بحروفها المتعددة أنظار الشعراء."[4] حيث تم إبداع قصـيدة مغايرة بتوظيف البعد الجمالي للدليل الخطي ومخاطبة عين القارئ بدل سمعه. وهذا طبيعي بالنسبة لمجال الشعر باعتباره يستوعب كل الفنون يقول ميشال عاصي:" لأن الشعر بالإضافة إلى مادة الفن الأدبي، وهي ألفاظ اللغة، يشتمل على مواد سائر الفنون الجميلة الباقية.. ومع تزاوج الحروف والألفاظ.. والشعر بوجه مخصوص يستأثر بميزات الفنون الجميلة كلها."[5]

ومن هذا المنطلق تأتي أهمية الخط العربي في جمالية النص الشعري لدى النقاد المحدثين. فنظرا لغنى الخط العربي وتفوقه بأبعاده الرمزية والايحائية المتنوعة، وجد فيه الشعراء والفنانون مادة طيعة لنقل مشاعرهم وتوصيل معانيهم، وذلك لأن :" للحروف قيمة رمزية يؤدي اكتشافها إلى استجلاء جملة من الحقائق الأخرى."[6] مما عمق من صيغ الجـمال التي رافقت الخط العربي وألبسته اهتمام جميع الشرائح المثقفـة منذ بداياته الأولى وطيلة مسيرته الطويلة بين حقـول معرفية ومجالات فنية مختلفة، وقد أدرك الشعر المغربي المعاصر دور الخط العربي في إضفاء الجماليات[7] على بنياته، فاعتمد الشعراء على هذا الخـط اعتمادا كبيرا قياسا بانفتاحه ورمزيته. واعتماد الشعراء على أبعاده الجمالية والرمزيـة تغني من دلالات القصيدة فقد:" صار يثير انتباه الكتاب والشعـراء على السواء، وذلك علامة على أن الحـرف بدأ يحتل مكانة في البصـر الى جانب مكانة الصوت في السمع، وينحت له صورة في الخيال إلى جانب الصورة الصوتية للمسموع."[8]

إن فطنة البعض لأهمية الخط العربي والكتابة في جمالية النص الشعري كان نتيجة ما تتيحه من:" إمكانيات كبيرة قد لا تتيحها الشفوية."[9] فهي مثلا:" تقوي احتمالات اللعب بعناصر اللغة، اللعب بالحروف مثلا."[10]   ولا شك أن الوظيفة البصرية وبنية المكان كان لهما محل في البناء الخطي حيث ساهم الخطاطون العرب ببراعتهم في هذا المجال الى حد جعل كل دارسي الخط العربي من العرب والأجانب يجمعون على أن الفنان العربي قد جعل للكلمة وظيفة جمالية بصرية الى جانب وظيفتها السمعية. وتفاعل المثقفون والنقـاد العرب المحدثون مع جمالية الخط العربي وبنياته ومكوناته، فأولوا أهمية للحـرف العربي الذي هو حسب عمران القيسي:" إحدى أهم الظواهر الحضارية، وقد رافق في تطوره الجمالي تطور حضارة أمة بأكملها."[11]

فهو :" الفن الجميل الذي توج الحضارة العربية والحضارات الاسلامية الأخرى، وهو يختلف عن الخطوط الأخرى ويمتاز عنها في تجاوزه لمهمته الأولى وهي نقل المعنى، إلى مهمة جمالية أصبحت غاية بذاتها."[12] وبذلك فقد شكل عمودا أسـاسيا يتجاوز الصيغ المألوفة، بعد توظيفه جماليا وبشكل مغاير في القصائد الشعرية التي اصبحت تخاطب عين المتلقي أولا من خلال بسط التشكيلات الخطية ومزجها باللغة. في إطار ما يسمى بالشعر البصري أو الفضائي، وهذا النمط يتجلى واضحا وبالأساس في الشعر المغربي الحديث. ولعل محمد بنيس أول من أومأ إلى هذا الموضوع من خلال دعوته أولا الى الاهتمام ببنية المكان:" لم يتطرق النقاد لبنية المكان في المتن الشعـري المعاصر، وعدم احتفالهم بهذا المجال البصـري يعبر بوضوح عن تحكم التصور التقليدي في قراءة النص الشعري."[13] علما ان النقاد العرب القدامى خصوصا :" المتأخرين منهم قد انتبهوا لأهمية المكان في تشكيل النص الشعري، ونجد النقاد المغاربة والأندلسيين يفطنون لهذا المجال ويدخلونه ضمن أبواب البديع."[14] واحتل الخط العربي مكانة لائقة ونال أهمية في هذا المجال، فمن خلال :" الكتاب النقدي: الوافي في نظم القوافي للناقد الشاعر أبي الطيب صالح بن شريف الرندي[15] صاحب النونيـة الشهيرة الذي اشتهر بمثل هذا الاهتمام حيث أورد لنفسه قصـيدة على شكل خاتـم في الباب السابع والثلاثين من أبواب البديع."[16] يشكل فيها الخـط المغربي المبسوط والخط المغربي الأندلسي قاعدة التشكيل. يقول محمد بنيس :" فقد انتبه بعض النقـاد العرب القدمـاء وخاصة المتأخرين منهم لأهميـة المكان في تشكـيل النص الشعري، ونجد النقاد المغاربة والأندلسيين يفطنون لهذا المجال ويدخلونه ضمن أبواب البديـع من القرنين السادس والسابع."[17] وممن :" اشتهر من المغاربة والأندلسيـين الشاعر احمد بن محمد البلوي القضاعي الذي له أشعـار مكتوبة على شكـــل مربعات ."[18]

وبخصوص القرنين السادس والسابع فإن:" تشكيل المكان بالنسبة للقصيدة المتساوية الشطرين أو الموشح قد احتل عناية كبرى لدى النقاد والشعراء معا، ومن تم ظهرت ـبعض التشكيلات المكانية للنص الشعري."[19]

   وبخصوص الاهتمام بالجانب البصري في التراث الشعري العربي القديم يقول محمد بنيس إنه :" تجلى بوضوح لدى الخطاطـين الذين كانوا يفتنون في تخطـيط القصائد والدواوين، وبالأخص عند أولئك الذين لهم ولع بالخط كفن وكعنصر أساسي من عناصر التشكـيل العربي الاسلامي."[20] فأولئك :" الخالقـون لرافد من روافد التشكيل العربي الإسلامي هم الذين انتبهوا أكثر من غيرهم لخاصية المكان في النص الشعري."[21] يقول عفيف البهنسي:" فالخطاط العربي قد نجح منذ القديم في تحريك مساحات الأبيض والأسود، مستغلا شموخ الحرف العربي وقوته، ونجـد ليوناردو دافنتشي أحد رواد النهضة بأوربا يقدم نصائحه لتلاميذه والتي لازال معمولا بها حتى الآن يقول: إن الألوان تبدو أكثر وضوحا إذا وضعت أضدادها.. فاللون الأبيض يبدو أكثر ضياء من الأسود."[22] علما بأن:" الخـط واللون هما جوهر الفن."[23] ولتجاوز بنية الزمان المتحكمة في الشعرية العربية إلى بنية المكان، يرى محمد بنيس لزومية عنصرين أساسيين، يتمثل الأول في لعبة الأبيض والأسود حيث :" تعيش النصوص صراعا بين الخـط والفراغ أو بين الأسود والأبيض."[24] ويبقى :" الإيقاع في لعبة الفراغ من أهم ميزات فن الخـط العربي. ولأن العلاقة بين النص الخـطي والنص الخطابي علاقة عضوية، فإن موسيقى اللغة العربية تتجلى في صيغ الخط، مما يجعلنا نسمع هذه الموسيقى من خلال جمالية الشكل الخطي."[25] بينما يتمثل العنصر الثاني في دعوته الملحة إلى تجاوز الخط المطبعي[26] لأنه:" عادة ما يلغي النص كجسد، حروف باردة تسقط على الأوراق البياض، يتحكم فيها سفر من اليمين إلى اليسار يختزن النص في معنى والمعنى في كلام، يمحو نشوة القراءة[27] وتعدد الدلالة."[28]

 

د. محمد البندوري

.......................

[1] الفن والأدب ميشال عاصي مؤسسة نوفل بيروت الطبعة الثالثة 1980م

[2] تحليل الخطاب الشعري العمري ص 223

[3] الحرف العربي د عبد الغني النبوي الشال مجلة الفن التشكيلي العدد الأول محرم 1418هـ ص 24

[4] الحرف العربي عبد الغني النبوي الشال مجلة الفن التشكيلي ص24

[5] الفن والأدب ميشال عاصي مؤسسة نوفل بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1980 ص47

[6] الحروف العربية من التصوف الى التشكيل عمران القيسي مجلة الفكر العربي العدد 15 يونيو 1980 ص 173

[7] يقول ميشال عاصي: ينبغي اعتبار الأعمال الجمالية في دائرة السمع والبصر( الفن والأدب ميشال عاصي ص 49)

[8] تحليل الخطاب الشعري العمري ص 207

[9] نفسه، 204

[10] نفسه، 204

الحروفية العربية من التصوف الى التشكيل ص 184 [11]

[12] علم الخط والرسوم عفيف البهنسي دار الشرق للنشر مطبعة العجلوني دمشق الطبعة الاولى 1425هـ 2004م ص24

[13] ظاهرة الشعر العربي المعاصر في المغرب محمد بنيس ص95

[14] ظاهرة الشعر العربي المعاصر ص 95

15هو صالح بن أبي الحسن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم علي بن شريف يكنى بأبي الطيب وأبي البقاء، كان فقيها حافظا متفننا في النظم والنثر وله مقامات ومختصر في الفرائض وكتاب الوافي في نظم القوافي (الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي المجلد الرابع القسم الثاني تحقيق إحسان عباس دار الثقافة بيروت ص 136 .

[16] ظاهرة الشعر العربي المعاصر ص 96

[17] ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب محمد بنيس ص95

   [18] نفسه، ص 95

[19] نفسه، ص 98

[20] نفسه، ص 98

[21] نفسه، ص98

[22] علم الجمال عند أبي حيان التوحيدي عفيف البهنسي بغداد 1980 ص 175

23 عصر الصورة السلبيات والايجابيات شاكر عبد الحميد عالم المعرفة سلسلة كتب ثقافية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت يناير 2004 ص 252

[24] ظاهرة الشعر العربي ص101

[25] علم الخط والرسوم عفيف البهنسي دار الشرق للنشر مطبعة العجلوني دمشق الطبعة الاولى 1425هـ 2004م ص30

26 يقول محمد بنيس: إن القصيدة التي نقرأها على صفحة جريدة أو مجلة أو كتاب عادة ما تتعرض لتحريف خارج عن إرادة الشاعر، يتمثل في حذف أو زيادة أو تغيير حرف من الحروف (ظاهرة الشعر المعاصر ص 194)

27 أورد محمد بنيس نماذج من الخطأ المطبعي الذي يغير دلالة النص ويصعب قراءته مما يحد من نشوة القراءة: فقد أورد على سبيل المثال نموذج احمد صبري: عريت في سد الجمارك اللصوص – الباحثين عن الحقيقة في العيون وفي الجيوب- عريت (البياض) لسد العريض- (بياض) اشتريت الريح عانقت الهواء- لما (بياض) بادر في النهار. يقول محمد بنيس فالبياض يتكرر أكثر من مرة. وفي النموذج الثاني لمحمد الخمار الكنوني: أثمرت من حدود المحيط إلى النهر كالحقول – فارتفعت لعة ولعات تزول – حينما أزهرت لم تكن لغة البيع والغين قد بدأت – لم تكن كلمات السماسرة ارتفعت- انما عبرت لغة هي بين الغناء وبين الهذهول. يقول محمد بنيس: نجد حذف نقط الحروف بالإضافة إلى زيادة الهاء بين اللام والذال ( ظاهرة الشعر المعاصر محمد بنيس ص 195)

[28] بيان الكتابة ص 46 و47

 

 

في المثقف اليوم