حوارات عامة

حوارات عامة

بقلم:  إميلي تمبل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في أكتوبر الماضي، حصل الروائي والكاتب المسرحي النرويجي جون فوسه على جائزة نوبل في الأدب لعام 2023، "لمسرحياته ونثره المبتكرة، التي تعطي صوتًا لما لا يمكن قوله". لم يتفاجأ أحد أكثر من اللازم - فقد اعتُبر فوس منذ فترة طويلة منافسًا جديرًا بالجائزة، وكثيرًا ما تم الإشادة بعمله في موطنه النرويج وعلى المستوى الدولي. في العام الماضي، عندما وصل كتاب فوس بعنوان A New Name: Septology VI-VII (ترجمة داميون سيرلز) إلى المرحلة النهائية لجائزة الكتاب الوطني للأدب المترجم، طلبت منه مجلة Literary Hub أن يخبرنا عن أفضل أو أسوأ نصيحة كتابية تلقاها على الإطلاق. وهنا ما قاله: أعتقد أن أفضل نصيحة تعلمتها في الحياة هي الاستماع إلى نفسك، وليس إلى الآخرين. التزم بما لديك، وليس بما تريد أن تمتلكه أو تتمنى أن تمتلكه. ابق قريبًا من نفسك، ومن صوتك الداخلي ورؤيتك، وما تريد أن تكون عليه كتابتك. عندما نُشرت روايتي الأولى، نالت الكثير من التقييمات السيئة، وكانت تطاردني، ولو استمعت إليها لكنت توقفت عن الكتابة. قررت أن أستمع إلى نفسي بدلاً من ذلك، إلى ما أعرفه. منذ ذلك الحين أصبح هذا بمثابة قاعدة بالنسبة لي.

بالطبع هذا يسير في كلا الاتجاهين. منذ عدة سنوات، حظيت كتاباتي باستقبال جيد، وحصلت على العديد من الجوائز وما إلى ذلك، لكنني أحاول ألا أدع ذلك يؤثر على كتابتي بأي شكل من الأشكال. رد فعل جيد أو رد فعل سيئ: لا يهم، فأنا أتمسك بما أعرفه، وما أشعر أنني بحاجة إلى كتابته، وما يمكنني فعله، وليس ما أريد القيام به. على سبيل المثال، حققت مسرحياتي نجاحا كبيرا ولكني قررت التوقف عن كتابة المسرحيات وتركتها لسنوات عديدة. وبدلاً من ذلك، عدت إلى حيث بدأت، وأكتب نوعي  المفضلين  من القصص والشعر.

الأدب المترجم

جون فوس، مؤلف، وداميون سيرلز، مترجم: اسم جديد: السباعية ، الكتابان السادس والسابع

في أي وقت من اليوم تعمل؟

-كنت أفضّل دائمًا أن أبدأ الكتابة فور استيقاظي حتى أنتقل إلى الكتابة مباشرة من النوم بأحلامها وكوابيسها. الكتابة هي حلم واع  إلى حد ما، وهذه هي الطريقة التي أحاول الكتابة بها. لكن الوقت تغير: اعتدت أن أبدأ في حوالي الساعة الثامنة صباحًا وأكتب حتى الساعة الواحدة أو الثانية؛ على مدى السنوات العشر أو الخمسة عشر الماضية، كنت أستيقظ مبكرًا، وأبدأ في الخامسة أو نحو ذلك عندما لا يزال الليل قائمًا، وأكتب حتى التاسعة أو العاشرة صباحًا. أكتب أحيانًا في فترة ما بعد الظهر، لكن في الغالب أكتب تصحيحات طفيفة؛ يمكنني أيضًا الترجمة جيدًا في فترة ما بعد الظهر.

كيف تتعامل مع حصار الكاتب؟

-لقد كنت كاتبًا محترفًا منذ أربعين عامًا ولم أواجه قط حالة من الجمود الكتابي. روايتي الأولى «أحمر، أسود» نُشرت عندما كان عمري 23 عامًا، وعمري الآن 63 عامًا، وقد نشرت أكثر من خمسين كتابًا. فكرتي هي أنه يجب علي أن أكتب نصوصي الخاصة في فترات معينة، ثم أخذ قسطًا من الراحة، وفي تلك الفترات الفاصلة يمكنني القيام بأشياء أخرى. كنت أعمل كثيرًا كقارئ لناشري؛ كما كتبت مقدمات للكتب، ومقالات للصحف والمجلات، وما إلى ذلك. في السنوات الأخيرة، قمت بالترجمة غالبًا خلال فترات الراحة هذه، أو أعددت نسخًا من المسرحيات، خاصة المآسي اليونانية، لهذا المسرح أو ذاك.

وربما أستطيع أن أذكر أيضاً أنني بدأت الكتابة باليد في السنوات القليلة الماضية، بقلم حبر جيد في دفتر مع ورق جيد. في الواقع أقوم بالتبديل بين الأقلام المختلفة وألوان الحبر المختلفة. الكتابة بهذه الطريقة، بدلًا من الكمبيوتر، أستطيع الكتابة في أي وقت وفي أي مكان. إنه تغيير أكبر بكثير مما كنت أتوقع.

ما هي أفضل أو أسوأ نصيحة كتابية تلقيتها على الإطلاق؟

-أعتقد أن أفضل نصيحة تعلمتها من الحياة هي الاستماع إلى نفسك، وليس إلى الآخرين. التزم بما لديك، وليس بما تريد أن تمتلكه أو تتمنى أن تمتلكه. ابق قريبًا من نفسك، ومن صوتك الداخلي ورؤيتك، وما تريد أن تكون عليه كتابتك.

عندما نُشرت روايتي الأولى، نالت الكثير من التقييمات السيئة، وكانت تطاردني، ولو استمعت إليها لكنت توقفت عن الكتابة. قررت أن أستمع إلى نفسي بدلاً من ذلك، إلى ما أعرفه. منذ ذلك الحين أصبح هذا بمثابة قاعدة بالنسبة لي.

بالطبع هذا يسير في كلا الاتجاهين. منذ عدة سنوات، حظيت كتاباتي باستقبال جيد، وحصلت على العديد من الجوائز وما إلى ذلك، لكنني أحاول ألا أدع ذلك يؤثر على كتابتي بأي شكل من الأشكال. رد فعل جيد أو رد فعل سيئ: لا يهم، فأنا أتمسك بما أعرفه، وما أشعر أنني بحاجة إلى كتابته، وما يمكنني فعله، وليس ما أريد القيام به. على سبيل المثال، حققت مسرحياتي نجاحا كبيرا ولكني قررت التوقف عن كتابة المسرحيات وتركتها لسنوات عديدة. وبدلاً من ذلك، عدت إلى حيث بدأت، وأكتب نوعي  المفضلين  من القصص والشعر.

داميون سيرلز

ما الذى فى ترجمتك تعتقد أنه سيفاجئ قراءك؟

أعتقد أن الناس يتفاجأون بمعرفة أنني أحاول ألا أقرأ كتابًا قبل ترجمته؛ أحاول حفظ القراءة الأولى أثناء الترجمة. (أقول "أحاول" لأنني، في بعض المشاريع، أقوم بنفسي بالترويج للناشر بعد أن أقرأ كتابًا، أو يجب أن أكتب تقريرًا عن الكتاب أو شيء ما قبل أن يتولى الناشر ذلك.) كل من يقرأ الترجمة هو سأقرأ الكتاب للمرة الأولى أيضًا، وأريد أن تمنح الترجمة تلك التجربة للقراء.

لو لم تكن مترجماً، ماذا كنت ستفعل بدلاً من ذلك؟

لقد اعتدت دائمًا أن أقول إنني سأكون، أو أتمنى أن أكون، محرر أفلام. لا أعرف إذا كان الأمر نفسه الآن مع كل التكنولوجيا الرقمية المستخدمة في هذه العملية، ولكن عندما كنت أصغر سنًا، كنت دائمًا أحب هذه الفكرة. ربما لأنه نفس النوع من الإبداع التفاعلي أو سريع الاستجابة، كما أنه شيء ملموس ومادى يمكن لمسه والنظر إليه.

***

..........................

جون فوسه / Jon Fosse. ولد جون فوس عام 1959 على الساحل الغربي للنرويج، وقد كتب أكثر من ثلاثين كتابًا وثمانية وعشرين مسرحية تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة. إنه أحد أكثر الكتاب المسرحيين الأحياء إنتاجًا في العالم. وفي عام 2007، حصل على وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي كفارس، كما حصل على جائزة إبسن الدولية في عام 2010. ثم توج بجائزة نوبل فى الآداب لهذا العام 2023 م.

داميون سيرلز / Damion Searls كاتب ومترجم أمريكي. نشأ وترعرع في نيويورك، ودرس في جامعة هارفارد، وجامعة كاليفورنيا، بيركلي. وهو متخصص في ترجمة الأعمال الأدبية من لغات أوروبا الغربية مثل الألمانية والنرويجية والفرنسية والهولندية. ومن بين المؤلفين الذين ترجمهم مارسيل بروست، وتوماس مان، وراينر ماريا ريلكه، وروبرت فالسر، وإنجبورج باخمان، وتوماس بيرنهارد، وكورت شويترز، وبيتر هاندكه، وجون فوس، وهيكي بي جورتميكر، ونيسيو. حصل على العديد من المنح والزمالات لترجماته.

المحاورة:  إميلي تمبل/   Emily Temple. ولدت إميلي تمبل في سيراكيوز، نيويورك. حصلت على درجة البكالوريوس من كلية ميدلبري ودرجة الماجستير في الخيال من جامعة فيرجينيا، حيث حصلت على جائزة هينفيلد. ظهرت رواياتها القصيرة في مجلة كولورادو ريفيو، والأدب الكهربائي. تعيش في بروكلين، حيث تشغل منصب مدير التحرير في Literary Hub.

https://lithub.com/meet-the-2022-national-book-award-finalists/

أجرت الحوار: سيسيلي سينيس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

" كنت خائفًا من الموت قبل الانتهاء من Septology . كان لدي شيء أريد أن أقوله، وشعرت أنه من واجبي أن أقول ذلك " جون فوس.

***

منذ زمن طويل، كان هناك صبي صغير يسير بصعوبة على طول الطريق الريفي راكبا دراجة نسائية زرقاء، وكان شعره الداكن الطويل يرفرف خلفه في مهب الريح. كان كل من في القرية يعرف أن "الطفل ذو الشعر" هو جون أولاف فوس. ربما كان متوجهاً إلى تدريب الفرقة الموسيقية وفي يده حقيبة جيتار. أو ربما كان في طريقه إلى منزله في أرض العائلة الصغيرة، التي ليست بعيدة جدًا عن المضيق البحري والأمواج. ربما كان هناك رذاذ خفيف في الهواء. في ستراندبارم، يمكن للمرء إما الدخول أو الخروج بالدراجة على طول المضيق البحري، على طريق يمر عبر الأراضي الزراعية، ويمر كذلك عبر الشوارع الصغيرة، وكنيسة، ونادي للشباب، ومحطة للحافلات. نشأ جون فوس في فوس، ستراندبارم، خلال الستينيات والنصف الأول من السبعينيات. كان لديه دراجة، وجيتار، وكان يشعر وكأنه روح فنية تسير فوق الرض، مع أطول شعر لم يشاهده أي شخص في ستراندبارم على الإطلاق.

كان هذا كله منذ فترة من الآن. مرت السنون. لقد تغير كل شيء تقريبا. سيتجاوز جون فوس الستين عاما قريبًا.(كان الحوار فى عام 2019 وجون فوس من مواليد 1959) في السنوات الأربعين الأخيرة من حياته، كتب على نطاق واسع: الروايات والقصائد والمسرحيات وكتب الأطفال والمقالات والمقالات الصحافية؛ وقام بالإعداد وترجمة أعمال أدبية من اللغة النرويجية. تُرجمت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة، كما ورد ذكرها فيما بين المرشحة لجائزة نوبل للآداب. سيكون هذا الخريف القادم خاصًا بالنسبة لجون فوس. حيث سيتم الاحتفال به، من بين أمور أخرى، في مهرجان فوس/ Fosse الدولي في Festival at Det Norske Teatret (المسرح الوطنى في أوسلو)، وسيتم نشر The Other Name⁠ / الاسم الآخر- أول كتاب في سلسلة Septology - في النرويج وعلى المستوى الدولي، بما في ذلك في المملكة المتحدة بواسطة/ Fitzcarraldo Editions، اثناء معرض فرانكفورت للكتاب .

التقيت بجون فوس في مقهى داجني في نهاية شارع سانت أولاف في أوسلو. وقبل أن نواصل، يجب أن أشرح من أنا - لقد كنت محررة كتب جون فوس في ديت نورسك ساملاجيت، وهي دار نشر نرويجية، منذ عام 2012. وعندما بلغ فوس الخمسين في عام 2009، نشرت كتابي عنه بعنوان: on Fosse. Poet på Guds Jord  (جون فوس: شاعر على أرض الله)⁠—. وهكذا فأنا أعمل بشكل وثيق مع جون فوس وأعرفه جيدًا.

من مقهى داجنى، يمكن للمرء أن يتطلع إلى كنيسة القديس أولاف الكاثوليكية. هناك يذهب فوس الكاثوليكي إلى القداس عندما يقيم في جروتن في أوسلو، وهو مقر إقامة فخري للفنانين على أرض القصر الملكي. على مدى السنوات السبع الماضية، قسم فوس وقته بين أوسلو، وفريخوج، وكوخه في دينججا، وهاينبورج آن دير دوناو، وهي قرية صغيرة بالقرب من العاصمة النمساوية فيينا. يميل فوس إلى النمسا - بلد يتمتع بتقاليد ثقافية عميقة وثابتة، وهو المكان الذي تظل فيه الموسيقى الكلاسيكية والمسرح والعقيدة الكاثوليكية قوية. لكن، كما يشير فوس، فإن الأدب في النرويج لا يقل أهمية عن أهميته في النمسا. لقد مر الوقت منذ أن ركب الدراجة على طول الطرق في ستراندبارم، وفي رسالة بريد إلكتروني حديثة كتب: "يبدو أنني أصبحت عجوزًا وأشعر بالبرد بسهولة، وأنا أتطلع إلى وصول الربيع والنور!" ولكن بقي شيء واحد على حاله: شعر جون فوس لا يزال طويلاً جدا كما هوً ورمادياً، ومجمعاً على شكل ذيل حصان .

"سيسيلي سينيس"3399 سيسيلي سينيس

سيسيلي سينيس: الوقت يمر. هل ستبلغ الستين قريبًا؟

جون فوس: إنه ليس بالأمر الجيد. لكنني شعرت بأنني بخير عندما بلغت الأربعين، فقد حدث الكثير في حياتي، وكنت على ما يرام عندما بلغت الخمسين أيضًا. أود أن أقول إن بعض الأشياء حدثت بعد الخمسين أيضًا.[ضحكة مكتومة] نعم، لقد حدث الكثير.

- لكن لماذا لا تحب أن تبلغ الستين؟

- لا أعرف. في الماضي، كانت الستين تعتبر قديمة. لقد تغير هذا النوع من الأشياء قليلاً. ما كان في السابق سبعين عامًا أصبح اليوم ثمانين عامًا، وربما لم يعد الرجل البالغ من العمر ستين عامًا رجلاً عجوزًا بعد الآن. في الواقع، لا أمانع أن أصبح كبيرًا في السن، ولكن كان لدي بعض الأصدقاء الجيدين الذين عانوا من مشاكل صحية خطيرة ومن المروع أن أشهد ذلك. لكن من الجميل أن تتمتع ببعض الهدوء، وأن تعيش فترة طويلة وتقوم بأشياء كثيرة. لم يسبق لي أن حصلت على ما هو جيد كما أفعل الآن.

- أنت في الستين من عمرك ولديك ستة أطفال، أصغرهم طفل رضيع!

- نعم، إنه أفضل شيء يمكن أن يحدث لي. أجد أن إنجاب طفل الآن يختلف عن إنجاب طفل في وقت سابق من الحياة. لكن من الأفضل بالطبع أن يكون الأب صغيراً. كان صديقي الراحل لارس رور لانجسليت أيضًا أبًا عجوزًا، ولكي يريحني عندما كنت أشعر بالقلق من أن أكون واحدًا، قال: "لقد أصبحت إنسانًا فعالًا أيضًا، أليس كذلك؟!" على أية حال، هناك آباء أكبر مني بكثير. لقد اشتكيت أيضًا إلى ممثل سويدي. ثم تلقيت ردًا سريعًا: كان في الخامسة والسبعين من عمره وهو في نفس الوضع، ولم يكن لدي ما يدعو للقلق بالمقارنة.

- ربما المزيد من الأطفال في خمسة عشر عاما بعد ذلك؟

- [يضحك] عش ودع غيرك يعيش، وليكن ما يكون  .

- أن تكبر، بغض النظر عن الطريقة التي ينظر بها المرء إلى الأمر، هو أن تكون أقرب إلى الموت.

- لم أقلق قط بشأن الموت. بعض الناس يعانون من هذا القلق، ولكن ليس الجميع بالتأكيد .

- هل يمكنك التفكير في الموت بهدوء؟

- نعم، لكن أن تصبح أبًا مرة أخرى يعقد الأمور. هذا هو العيب في أن يصبح المرء أبًا عندما يكبر، لكن وجهة نظري هي أن ندع الحياة تحدث، وندع الأطفال يولدون، ويعيشون، ويدعون يعيشون. أنا لا أقلق بشأن الموت. هناك الكثير من الألم في الحياة. وفي داخلي الكثير من الحزن. وكما قال إبسن: "لقد تلقيت هدية الحزن، وبعد ذلك أصبحت شاعراً". الألم والحزن والكآبة والاكتئاب هي هدية أيضًا. يمكنك أن تصنع شيئًا جيدًا منهم.

*

إن قصة حياة جون فوس فريدة من نوعها، ولا سيما مسيرته المهنية ككاتب مسرحي، وهي المهنة التي مارسها ضد إرادته تقريبًا. بالنسبة للشاب فوس، بدا المسرح وكأنه يتعلق بالتكلف أكثر من الفن ولم يكن لديه أي اهتمام بدخول عالم المسرح. حاول المخرج كاي جونسن عدة مرات إقناع فوس بكتابة مسرحية. لقد قرأ روايات فوس وكان متأكدًا من أن فوس كاتب مسرحي، لكن فوس رفض بشدة. ومع ذلك، في عام 1993، بعد حوالي عشر سنوات من نشر فوسيه لأول مرة، كتب مسرحية لأول مرة. ما الذي جعله يستسلم؟ كان فوس بحاجة إلى المال: لقد كان مفلساً. كتب الحوار لأول مرة، " بداية شخص ما سوف يأتي "، ووجده سهلاً بشكل ملحوظ. وصف فوس كتابة مسرحية لأول مرة بأنها "أعظم اكتشاف في مسيرتي الكتابية".

عرضت إحدى مسرحيات فوس لأول مرة في النرويج على مسرح: Den Nationale Scene ، المسرح الوطني في بيرجن عام 1994. وتم عرض مسرحيته الأولى في الخارج عام 1997. وكان جون فوس البالغ من العمر أربعين عامًا على أعتاب انطلاقته العالمية الكبيرة. في عام 1999، أصبحت شركة Fosse راسخة في النرويج وبدأت تُعرف في بلدان أخرى. في 28 سبتمبر 1999، تم عرض فيلم "شخص ما سيأتي" لأول مرة في نانتير، على مشارف باريس. كان المخرج هو كلود ريجي الأسطوري وذو الشهرة العالمية، وقد وضع الإنتاج الأساس لإنجاز فوس الكبير في أوروبا. لقد كان أداءً غريبًا ومثيرًا للدهشة، واستيقظ جون فوس في غرفة فندق في باريس في اليوم التالي للعرض الأول. كان عيد ميلاده الأربعين، وأدرك أن إنتاج ريجي كان بمثابة بداية مسيرته الدولية ككاتب مسرحي.

بوصول فوس إلى سن الخمسين، كان مرهقًا. لقد كتب المسرحيات بسرعة مذهلة لسنوات. مسرحية وراءأخرى. فكان يمكنه أن يكتب مسرحيتين في صيف واحد. مع اقتراب عيد ميلاده الخمسين، أعلن أن الإبداع المستمر للمسرحيات قد وصل إلى نهايته. بعد أن اختار التركيز على الكتابة وحدها، وجد فوس نفسه في مركز الاهتمام. يمكنه الآن أن يعيش حياة مترفة على مدار السنة، لكنه كان لديه ما يكفي. كرهًا للأضواء، اتخذ فوس قرارًا بالانسحاب منها. لم يكن يريد السفر أو كتابة المسرحيات. لفترة على الاقل. ثلاثون مسرحية، وثماني مسرحيات قصيرة—هذا يكفي.

*

بعد أن كتبت مسرحية "أنا الريح" اتجهت مباشرة إلى كتابة النثر. كتبت الأرق، وبدأت الثلاثية. وهنا يكمن الانتقال من المسرح إلى النثر. بعد "أنا الريح"، كان علي أن أكتب مسرحية "هذه العيون". لقد كانت مسرحية طُلب مني كتابتها وقد وافقت عليها بالفعل. لقد كان الأمر صعبًا للغاية.

- هل انتهيت من العمل ككاتب مسرحي إذن؟

- نعم، لم أعد أرغب في القيام بذلك بعد الآن وكان القرار قد طال انتظاره. عندما تكون كاتبًا مسرحيًا لسنوات عديدة، مسرحية واحدة مشابهة للتي تليها. وهذا جيد! بالنسبة لرواة القصص المتميزين، يتشابك عمل واحد مع آخر. انظر فقط إلى الشاعر جورج تراكل، الذي قمت بترجمته مؤخرًا إلى اللغة النرويجية. في حالتي، يمكن للمرء أن يتخيل أن بعض المسرحيات عبارة عن فصول مختلفة في نفس المسرحية: يمكن أن يكون الاسم هو الفصل الأول، وأغاني الليل هو الفصل الثاني، على سبيل المثال؛ الشتاء هو الفصل الأول، شخص ما قادم، هو الفصل الثاني وهكذا.

*

ليس سراً أن جون فوس كان يشرب الخمر بكثرة لبعض الوقت. ولكن لم يحدث أبدًا عندما كتب، لأنه كان بحاجة إلى أن يكون رصينًا. لسنوات عديدة، ظل فوس يشرب كوسيلة للتخلص من قلقه، الذي أثر على جميع جوانب حياته باستثناء كتابته. ولكن بعد فترة سيطر الكحول. لم يكن مخمورًا أبدًا، ولكن كان عليه أن يشرب ليكون طبيعيًا، على حد وصفه. كان فوس يشرب الخمر على مدار الساعة لمدة شهرين، وفي ربيع عام 2012، انهار. وفي رسالة بالبريد الإلكتروني من ذلك الوقت كتب: "لقد اتخذت قرارًا مفاجئًا بالتوقف عن الشرب (الكحول، مثل أشياء كثيرة، مفيد وسيئ على حد سواء)، لذلك ربما يمكننا أن نلتقي في المرة القادمة في كافيستوفا [مقهى في وسط المدينة". أوسلو]؟!

*

كنت أعاني من الهذيان الشديد والتسمم بالكحول. لقد قرأت أن ثلاثين بالمائة من الناس يموتون بسببه إذا لم يتلقوا العلاج. وثلاثون بالمائة يموتون مع العلاج أيضا.

- كان عام 2012 نقطة تحول. لقد توقفت عن الشرب في شهر مارس وتحولت إلى الكاثوليكية في ذلك الصيف.

- نعم، كان ذلك تغييرا. توليت المسؤولية وغيرت مسار السفينة.

*

توقف فوس عن الذهاب إلى الحانات. لقد توقف تمامًا تقريبًا عن مشاهدة إنتاجات مسرحياته، وتوقف عن القراءة والتواجد على المسرح. اختار حياة أخرى أقل اجتماعية. لم يشرب منذ سبع سنوات.

قد يتساءل المرء عن نوع إدمان الكحول الذي كنت أعانيه.لقد شربت كثيرًا، لكن لم يكن من الصعب الامتناع عن الشرب بمجرد توقفي.الآن لا أذهب إلى الحانات، بل أذهب إلى المقهى بدلاً من ذلك. في البداية، اعتقدت أنني سأظل رصينًا لمدة خمس سنوات،وبعد ذلك ربما أستطيع الحصول على بضعة كؤوس أخرى. لكنني لم أرغب في القيام بذلك. ومع ذلك، فإن الفكرة لا تزال تتمثل في تناول كوب أو اثنين من حين لآخر. لا يزال بإمكان الكثيرين أداء وظائفهم أثناء استهلاك كميات كبيرة من الكحول بانتظام،لكنني تجاوزت هذا الخط. قال بير أولوف إنكويست إن شرب زجاجة من النبيذ يوميًا يعني إدمان الكحول. وفى رأيى أن زجاجة من النبيذ كل مساء يمكن أن تكون جيدة بالنسبة للبعض.ولكن لا ينبغي للمرء أن يضيف زجاجة من الويسكي! يعتبر الكحول متعة عظيمة للكثيرين. فقط بالنسبة لعدد قليل نسبيا فهي مشكلة كبيرة. ليس لدي أي مشكلة في أن أكون بين الآخرين الذين يستمتعون بالمشروب، على الرغم من أنني لا أشرب الخمر بنفسي. ولكن من نافلة القول أنه لن يكون هناك المزيد من الحفلات في منزلي. لقد مر ذلك الوقت.

- وشيء آخر حدث في هذا الوقت، حوالي عام 2012؟

- نعم، اجتمعت أشياء كثيرة. التقيت أيضًا بآنا وتزوجنا. كان لدينا ابنتنا الأولى، إيرلي. وبعد ذلك حصلت على جروتن. لقد عشنا هناك في الغالب نصف العام، ولكن في العام الماضي قضينا كل وقتنا هناك، ومن الخريف سنعيش هناك بشكل دائم.

*

حصل فوس، الذي ينحدر من غرب النرويج، على جائزة جروتن عام 2011. ماذا سيحدث لنتاجه الأدبي عندما يكون على مسافة من غرب النرويج، بعيدا عن الأمطار المستمرة ومنظر الجبال والمضايق؟ ومن المؤكد أن فوس لم يكن مقتنعا عندما تلقى العرض لأول مرة. لقد كتب هذا في رسالة بالبريد الإلكتروني في أبريل 2011: "هذا ليس رسميًا، وهو سر، لكنني ذهبت لإلقاء نظرة على جروتن بالأمس. لقد تلقيت عرضًا للعيش هناك. أنا أتساءل حقًا عن كيفية الرد." شعر فوس بعد فترة من الوقت بأنها فكرة جيدة، مع الأخذ في الاعتبار ما يمثله، وهو نينورسك - نينورسك، أو النرويجية الجديدة، كونه أحد نوعين مكتوبين متميزين من اللغة النرويجية ويستخدم في الغالب في غرب النرويج. النوع المكتوب الآخر هو بوكمال ويستخدم على نطاق واسع في بقية أنحاء النرويج.

*

نعم، لقد حدث الكثير في السنوات العشر الماضية. كان هناك الكثير مما يحدث لدرجة أنني اضطررت إلى أخذ استراحة من الكتابة. أختبر أشياءً في الحياة وأختبر أشياءً عندما أكتب. إن ما أختبره عندما أكتب له تأثير كبير، إن لم يكن أكثر، من ما أختبره في الحياة. الكتابة هي بمثابة أحلام اليقظة، أن تضع نفسك في حالة تشبه الحلم حيث تتقدم للأمام أثناء الاستماع. لذلك لم أرغب في الكتابة في فترة هشة، حيث توقفت عن الشرب وتحولت مؤخرًا. يجب أن أعود أولاً إلى واقعي المعتاد.

- هل كنت تخشى الكتابة في ذلك الوقت؟

- لا، ولكنني كنت أخاف ذلك. لم أكن أريد أن أترك نفسي أذهب. والكتابة هي تعريض الذات للمجهول. كان هناك بالفعل ما يكفي من عدم اليقين.

*

شعر فوس بأنه كتب كل ما يرغب في التعبير عنه ككاتب مسرحي، وعاد إلى النثر، إلى أصوله ككاتب. وأصبحت رواية "الأرق وأحلام أولاف والضجر" ثلاثية، وهو العمل الذي حصل جون فوس عنه على جائزة مجلس الشمال للأدب في عام 2015. وكان سعيدا بالترشيح، ولكن تجنب المناسبات العامة، ولم يكن لديه أي خطط لحضور حفل توزيع الجوائز في ريكيافيك. تمكن المنظمون في النهاية من إقناع فوس بالقدوم. كان لديه شك قوي في أنه سيحصل على الجائزة. وصل فوس مباشرة قبل الحفل الذي أقيم في قاعة هاربا للحفلات الموسيقية، وقبل الجائزة. لقد كان سعيدًا وممتنًا، ولكن عندما هنأته [ رئيسة الوزراء النرويجية] إرنا سولبرج وادعت مداعبة أنها كانت أيضًا جائزة لبيرجن، فارقه الشعور بالسعادة. لم يقبل فوس ذلك: كانت الجائزة لغرب النرويج ونينورسك، وليس لبيرجن، حيث يهيمن ريكسمول وبوكمول. قام فوس بتوبيخ سولبرغ، وأجرى مقابلات مع الصحفيين، وهرع إلى الفندق. لقد كان في السرير قبل فترة طويلة من بدء الحفلة بالفعل. لكن في صباح اليوم التالي، تناول إفطاره مبكرًا، وهو يشعر بالرضا عن الجائزة وحياته الجديدة.

كان لجائزة مجلس الشمال للأدب تأثير إيجابي، وأعلن فوس في خطاب قبوله أنها جاءت في وقت محظوظ لأنه كان ينوي التركيز على كتابة النثر فقط في المستقبل المنظور. لعدة سنوات، كان فوس مترددًا في الكتابة، ولكن بحلول صيف عام 2015، قرر البدء من جديد. لقد تلقى مساعدة غير متوقعة من موجة حارة: "سيكون القليل من المطر أمرًا رائعًا!"، كان رد فوسى المعتاد على أولئك الذين يستمتعون بشمس الصيف. ليست فوسى مناسبة للسراويل القصيرة أو الذهاب لقضاء عطلات على الشاطئ. في صيف عام 2015، ذهب فوس للإقامة في شاتو دي برانجيه في فرنسا، قلعة الشاعر الفرنسي بول كلوديل. وقد تمت دعوته من قبل أحد نسله؛ كان أحد مترجمي فوس قد تزوج من أحد أفراد العائلة. كان لديه خطة للبدء من جديد بالنثر، وكانت القلعة فرصة لأخذ قسط من الراحة من الحياة اليومية.

*

كانت هناك موجة حارة بينما كنا هناك. كان الجو حارًا جدًا عندما خرجت، ويبدو أنك تواجه جدارًا من الحرارة.

- أليست الحرارة شيئا تستمتع به؟

- لا، لا، أنا أتعامل مع الحرارة بشكل سيء. لقد تم طرد الناس، ولم أكن على ما يرام على الإطلاق. لحسن الحظ، حصلنا على غرفة على الجانب البارد من القلعة. في وقت مبكر من المساء خرجت. خلال النهار كتبت افتتاحية Septology لقد بدأت للتو مع جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي على بطني في السرير. أنا أكتب بسهولة. شيء ما يأتي لي عندما أجلس للكتابة. لم يكن لدي قط عقدة الكاتب.

*

كانت لديه البداية، لكنه لم يفكر في كتابة رواية؛ ومع ذلك استمر في الكتابة. وبعد فترة، أصبح النص سبعة أجزاء وحصل العمل على عنوان: Septology . الشخصية الرئيسية والراوي يسمى أسلى. إنه رسام وأرمل يعيش بمفرده في ديلجا شمال بيورجفين. أصدقائه الوحيدون هم جاره، أسليك، وباير، صاحب معرض يعيش في المدينة . يعيش أسى آخر في بيورجفين/ Bjørgvin . وهو أيضًا رسام، الراويان أسلى يقومان بتمثيل نسختين من نفس الحياة، حن نتابع حياة كل منهما، ونكتشف ماضيهما من خلال ذكريات الماضي. كلاهما شخص واحد .

*

لقد بدأت بشخصية رئيسية واحدة، ولكن انفصلت الشخصيتان أثناء كتابتي. إنهم متماثلتان، وليستاا متماثلتين. هذا هو المفهوم الأساسي للرواية. يمكنك القول إنها رواية شبه كلاسيكية.

كتب فوس غالبية النص في هاينبورغ، حيث كان لديه مكتب يطل على الشارع ومبنى سكني،، ولكن إذا انحنى قليلاً على النافذة يمكنه رؤية أطلال قلعة المدينة التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى.

*

إحدى مزايا العيش في هاينبورغ هي أنه، على سبيل المبالغة قليلاً، أثناء وجودي هناك لا أتصل إلا بأقرب أفراد عائلتي. أذهب إلى القداس مرة واحدة في الأسبوع، ونعم، أقوم بالتسوق مرة واحدة في الأسبوع. إنها هادئة وسلمية. أذهب إلى الفراش في التاسعة وأستيقظ في الرابعة أو الخامسة. تمت كتابة كتاب Septology بأكمله بين الساعة الخامسة والتاسعة صباحًا.

- لماذا تكتب في ذلك الوقت من اليوم؟

- تغيرت عاداتي في الكتابة عندما توقفت عن الشرب. اعتدت أن أكون بومة الليل. لقد استمتعت بكأس في المساء. لقد كانت طريقة جميلة للعيش. ولكن عندما توقفت عن الشرب، بدأت أذهب إلى الفراش مبكرًا وأخذ قيلولة بعد الظهر. Septology هو نتيجة العمل في الصباح الباكر في بلدة صغيرة قريبة من فيينا.

- هل للكتابة وأنت بعيد عن المنزل تأثير على سردك للقصص؟

- نعم، في هاينبورغ أنا مرتبط بأشياء كثيرة ليست موجودة هناك بشكل مباشر. وهذا يوفر إحساسًا بالحرية والمساحة لا أشعر به في منزلي في النرويج. والآن بعد أن مررت بالعمل بأكمله، والأمر البائس برمته، أتساءل: "كيف تمكنت من إدارة ذلك؟!" كانت المخطوطة في البداية 1750 صفحة، والآن حوالي 1500 صفحة.

شعر فوسيه بالحاجة إلى ترك الكتابة تتدفق وفق سرعتها الخاصة، وتخيل كتابة ما وصفه بـ "النثر البطيء"، أي الرواية التي تأخذ وقتها، وهي متعرجة ومنومة قليلاً، ولا تتعجل. من شيء إلى آخر: نثر يتحول ببطء أو يميل إلى الأمام، مع « توالى السرد»، و«الأوصاف»، و«التأملات».

*

لسنوات عديدة عملت بشكل مكثف على المسرحيات. طريقتي في كتابة المسرحيات تدور حول التقييد لتحقيق التركيز والكثافة. لا تحتاج المسرحية بالضرورة إلى الكثير من الدراما الخارجية، لكنها تحتاج إلى توتر داخلي قوي حتى يتم شحنها. النثر البطيء هو نفي اللعب السريع. يستغرق النثر وقتا أطول في الكتابة من الدراما، ويتطلب المزيد من الهدوء والسكينة بداخلي وفي حياتي اليومية.

*

احتاج جون فوس إلى شخصية رئيسية لروايته Septology، لكنه لم يرده أن يصبح كاتبًا. وبدلا من ذلك اختار رساما. كان دائمًا مهتمًا بالفنون، وخاصة الرسم الزيتي. كما أنه مارس الرسم في سن المراهقة، وعندما كان في أوائل الثلاثينيات من عمره كان يرسم ويرسم كثيرًا.

*

لكنني دمرت اللوحات وكان يجب أن أتوقف عن الرسم قبل ذلك بوقت طويل. لقد مارست الرسم، نعم، وكثيرًا ما زرت صالات العرض والمتاحف. لدي أيضًا العديد من الأصدقاء الذين يعملون في مجال الرسم.

*

لقد فهم فوس الجوانب العملية لكونه رسامًا من خلال المحادثات مع أصدقائه الفنانين هافارد فيخاغن، وأودفار تورشيم، وكاميلا ويرنسكجولد. لقد طرح أسئلة متعمقة حول كل جانب عملي للموضوع: الاستوديو الخاص به، والمعارض، وكيفية مزج الألوان، وكيفية استخدام القماش.

*

ربما كان محاوري الأكثر أهمية هو هافارد. العملية الإبداعية هي نفسها عملية إبداعية سواء كان الشخص رسامًا أو كاتبًا أو موسيقيًا.

*

وصف فوس نفسه في عدة مناسبات بأنه شاعر القلب. فهو شاعر في كل ما يكتب. بالنسبة لفوس، فإن إيقاع الجملة له أهمية قصوى؛ الشكل والمضمون ليسا منفصلين، بل إنهما متشابكان ويجب أن يكون لهما نفس التأثير على القارئ. المحتوى هو في الأساس جزء من النموذج. إنها منهجية الشعر. وقد لاحظ فوس في كثير من الأحيان أن هذا الأسلوب في الكتابة يختلف عن أسلوب العديد من كتاب الخيال الآخرين: فهم يقومون بالبحث. لكن بالنسبة لرواية Septology، عمل فوس مثل العديد من زملائه.

*

لأول مرة في كتابتي هناك مكونات مقالية، وأشير أيضًا إلى أشخاص حقيقيين، ولكن ليس كثيرًا. صامويل بيكيت، جورج تراكل، لارس هيرترفيج - جميع الشخصيات التي كانت مهمة جدًا بالنسبة لي - يظهرون، وأشير إلى بعض اللوحات مثل موكب الزفاف على مضيق هاردانجيرفيورد لأدولف تيديماند وهانس جود. كما تم تضمين مايستر إيكهارت، المفكر الذي ربما كان الأكثر أهمية بالنسبة لي.

- هل يبدو من المهم الإشارة إلى العالم الحقيقي في كتاباتك؟

- نعم، يبدو من المهم تقريبًا تضمين مثل هذه المراجع الحقيقية. ربما يمكن تسمية كل ما كتبته بنوع من الواقعية الغامضة - ليست "سحرية"، بل صوفية - وهذا هو السبب جزئيًا وراء تجنبي على الأرجح المراجع المباشرة والإضافات المقالية. لكن علم السبعينات، على وجه التحديد، هو واقعية صوفية بشكل واضح لدرجة أنه يبدو صحيحًا نوعًا ما مع المراجع الحقيقية، وكذلك المكونات المقالية، والتي في رأيي مرتبطة تمامًا بالطريقة التي يفكر بها الراوي في الرواية. لكي أكون واضحًا، أفكاره ليست بالضرورة أفكاري.

- أحد الموضوعات الرئيسية في Septology هي طبيعة الفن، ولكنه يدور أيضًا حول الله وإدمان الكحول. هل توافق؟

- نعم، لكن الأمر يتعلق بالموت بنفس القدر. في الرواية يرتبط الكحول بالموت. يتعلق الأمر أيضًا بالتدمير الذاتي. ويأتي بعد ذلك الانتحار. إنه المحيط والموت والحب.

- مرة أخرى؟

- نعم من جديد. [يضحك] ربما تكون هذه كلها مجرد لحظة، لحظة محملة، لحظة موت. عندما يموت الإنسان يقال أنه يرى الحياة تتكرر. فى (Septology )ربما يمكن قراءة مثل هذه اللحظة. كما فى( Septology ) أستخدم تجارب مختلفة من الكتب التي قرأتها، من الأشياء التي أعرف شيئًا عنها، لكن الكتابة هي في النهاية تجربة خاصة بها. في الكتابة، هناك تحول في كل الأشياء التي قرأتها، أو تعلمتها، أو سمعتها من الآخرين، أو كنت جزءًا منها. إن هذا التحول ووعده هو الذي يشكل رواية القصص ويجعل النضال يستحق العناء

- لقد كتبت عن فنان يفكر كثيرًا في الله ويعاني من الكحول. ما مدى قرب هذا من حياتك الخاصة؟

- الجوانب الرئيسية قريبة من حياتي الخاصة، ولكن بالطبع أعيد بناؤها بالكامل. لكني أتغزل بها! الشخصية الرئيسية لديها شعر رمادي على شكل ذيل حصان، مثلي. لديه سترتين مخمليتين باللون الأسود. لدي الآن زوج أيضًا. في البداية، كتبت عن هذه السترات المخملية ثم اشتريتها بنفسي! الحياة التي أصورها هي نسخ محتملة من حياتي. كان من الممكن أن أكون أسلي الرسام أو صديق طفولته سيجف، الذي يعمل في مصنع للأثاث.

- هناك الكثير من القيادة في Septology أنت أيضًا تحب القيادة والحديث السيارات وركوب السيارات. هل هذا موازٍ آخر لحياتك؟

- نعم، أستمتع بالرحلات الطويلة بالسيارة، لكني أكره القيادة في المدن. أوسلو مدينة من المستحيل القيادة فيها. لقد تعلمت كيفية القيادة ذهابًا وإيابًا إلى جروتن، هذا كل شيء. إذا كان لي أن أحصل على وظيفة أكثر تقليدية، فيمكنني أن أتخيل أن أكون سائق شاحنة وأقود لمسافات بعيدة عبر أوروبا. ولكن كان من المفترض أن يكون ذلك عندما كنت أصغر سناً. الآن لن يكون لدي الطاقة للقيام بذلك .

- هل كنت ستستمع إلى الكتب الصوتية حينها؟

- نعم، من بين جميع الكتب الصوتية كنت أفضل [تارجي] الطيورلفيساس. انها جميلة. يسعدني الاستماع إلى الكتب الصوتية عندما أقود لمسافات طويلة، مثل المسافة بين أوسلو وبيرجن.

- هل تشعر بالارتياح الآن بعد الانتهاء من رواية Septology ؟

- نعم، كان من المهم جدًا بالنسبة لي ألا أموت قبل انتهاء هذا العمل. قد يبدو ذلك جنونًا، لكنني كنت خائفًا من عدم الوصول إلى خط النهاية. سنختفي جميعًا، وكنت أخشى ألا تصمد صحتي وقوتي. لقد مررت، بعد كل شيء، بما مررت به. لكنني كنت هكذا إلى الأبد. أستطيع حتى أن أتذكر عندما كنت أكتب كتبي الأولى أنني كنت قلقا من الموت قبل أن أنتهي من كتابتها.

- لكن لماذا تفكر هكذا؟

- ربما لأنه من المهم للغاية أن نقول ما يجب أن يقال. ومن واجبي أن أقول ذلك.

- كان عليك أن تكتب Septology لأنك شعرت أن لديك شيئاً يجب أن تقوله؟

- نعم، الأمر يتعلق بالشكل، ولكن أيضًا يتعلق بوجود شيء يجب قوله، ولا يمكن قوله بأي طريقة أخرى إلا من خلال رواية القصص وخصائصها من حيث الشكل والمضمون. الكتابة الجيدة فريدة من نوعها مثل الوجه. كل عمل جديد هو وجه جديد، دعينا نضع الأمر على هذا النحو.

أنهى فوس البالغ من العمر ستين عامًا عملاً نثريًا ضخمًا. وعندما بلغ الخمسين، كان قد انتهى تقريبًا من كتابة المسرحيات. كان الشاب البالغ من العمر أربعين عامًا حاضرًا في انطلاقته في باريس. لكن ماذا عن الشاب الثلاثين؟ ماذا عنه؟ ماذا حدث عام 1989؟ ومن الغريب أن هذا الإنجاز كان بمثابة نقطة تحول أخرى. كان فوس كاتبًا معروفًا في ذلك الوقت. ظهر لأول مرة عام 1983 برواية Raudt, svart (أحمر، أسود) التي تدور أحداثها حول طالب في المدرسة الثانوية في قرية تقع على الساحل الغربي للنرويج. وتابع عدة روايات، وفي عام 1986 نشر قصائد لأول مر.ولكن في خريف عام 1989 حقق فوس إنجازه الحقيقي في النرويج. جاء ذلك مع رواية "المرفأ" التي تحتوي على هذه الافتتاحية المميزة: "لم أعد أخرج، لقد سيطر علي القلق، ولا أخرج". مع رواية مرفأ، تم ترشيح فوس لجائزة النقاد النرويجيين للأدب وحصل على اشادة من النقاد. لقد كان جزءًا من النخبة، من الداخل. وفي ذلك الوقت، كان أيضًا مدرسًا. لم يكن يريد أن يصبح مدرسًا، لكنه أصبح مدرسًا في Skrivekunstakademiet i Bergen [أكاديمية فن الخط في هوردالاند]. هناك قام بالتدريس، من بين أمور أخرى، كارل أوفي كناوسجارد. يظهر مدرس الكتابة لفترة وجيزة في كفاحي.

كان فوس في العشرين من عمره عام 1979. وفي ربيع ذلك العام، تخرج من المدرسة الثانوية في أويستيسي. كان يعيش في مسكن هناك، وفي خريف عام 1979 انتقل إلى بيرجن. ولم تكن لديه خطة ثابتة لدراسته عندما انتقل إلى هناك، لكنه انتهى به الأمر إلى الحصول على درجة الماجستير في الآداب، بعد أن درس علم الاجتماع والفلسفة والأدب. في الخريف الأول في بيرجن، حصلت فوس أيضًا على وظيفة في صحيفة جولا تيديند. لقد كان مستقلاً ويعاني من عائق شديد: لم يكن يحب التحدث إلى الناس حقًا، لكنه كان يحب الكتابة. كان يحب الجلوس أمام جهاز الكمبيوتر الضخم، ومنذ ذلك الحين كرّس نفسه للكتابة.

على الرغم من أن فوس قال إن أيام كتابته المسرحية قد انتهت، إلا أنه كتب مسرحية أخرى تسمى ستيرك فيند (الريح القوية). سيتم عرضه في Det Norske Teatret (المسرح النرويجى) في عام 2020 أو 2021.

*

كتابتها كانت سهلة للغاية! مثل النسم، وكان من دواعي سروري أن أعود إلى الكتابة الدرامية بعد انقطاع طويل وأنجزها. إن تشكيل المسرحية يختلف تمامًا عن إنشاء النثر البطيء. أقضي بضعة أسابيع أو أشهر فقط في كتابة مسرحية . إنها أشبه بالكتابة دفعة واحدة. شيء أقرب غلى كتابة قصيدة. عادةً ما يتم تجميع كل شيء تقريبًا في المسودة الأولى. لكن المسرحيات أيضًا... نعم، واقعية صوفية، كما خطر لي فجأة أن أسميها. لكنني أشعر بالأسف بالفعل لاستخدام هذا التعبير.

- هل ستكتب أكثر للمسرح من الآن فصاعدا؟

- أعتقد أنه سيكون هناك المزيد من المسرحيات، لكن الأمر ليس مؤكدًا. أنا أنظر إلى الكتابة كهدية، ولا يمكن للمرء أن يكون متأكدا إذا كان سيحصل على المزيد من الهدايا. لكن مع ذلك، فمن الواضح أنني أريد أخذ قسط من الراحة بين المسرحيات، ولا أريد أن أكتب بنفس السرعة التي كنت أفعلها من قبل

- ماذا عن التوقف عن الكتابة في مرحلة ما؟

- لا، هذا لن ينجح. يتوقف البعض عن الكتابة، والبعض الآخر يكتب لأطول فترة ممكنة. أحتاج إلى مشروع، بدونه أشعر بالقلق وعدم السعادة.

*

في عام 1969، كان جون فوس في العاشرة من عمره. كان ذلك قبل أن يطول شعره، وقبل أن يكون متمرداً، وقبل أن يبدأ في كره المدرسة، وقبل أن يتعلم الكتابة وهو في الثانية عشرة من عمره. في ذلك الوقت، كان يعيش في فوسى، أي مباشرة قبل وصول المرء إلى ستراندبارم إذا كان المرء يقود سيارته على طول مضيق Hardangerfjord نشأ جون أولاف، كما يُسمى بالفعل، في قطعة أرض صغيرة بجوار المضيق البحري والأمواج. عاش أجداده في أحد منازل المزرعة، بينما عاش جون أولاف ووالديه وشقيقتيه في المنزل الآخر. كان والده مديرًا لشركة سراندبارم التعاونية، وكانت والدته ربة منزل. أمضى جون أولاف بعض الوقت في التعاونية مع والده، لكنه لم يكن قارئًا وحيدًا ولا نهمًا. كان هناك أطفال في كل منزل في فوسى، وكان الأطفال أحرارًا في التجول في الماطق الريفية الطبيعية، وفي عالمهم الخيالي وفي المضيق البحري. كانت خالية من الهموم والمغامرة، طفولة لطيفة وآمنة بين بيت الصلاة ونادي الشباب.

- كثيرون في عمرك يتوقون إلى عالم طفولتهم. هل وصلت إلى هذه النقطة؟

- والدي سيبلغ التسعين من العمر هذا الخريف. أشعر وكأنني أعتبر وجود والدي هناك أمرًا مفروغًا منه. وهذا بالطبع فكر غبي! أنا لا أطيل العودة. أنا لست مرتبطًا بـ ستراندبارم، بل على العكس تمامًا. أنا متعلق بما أشار إليه إنجفار مو بـ "الساحل الغربي بداخلي". لكن بالنسبة لي، فهو شيء جيد، وليس مزعجًا بالطريقة التي قصدها إنجفار.

- لماذا لا ترتبط بستراندبارم؟

- الأمر له علاقة بشخصيتي. لقد تمت معاملتي بشكل جيد هناك، لكنه كان وقتًا صعبًا بالنسبة لي وللآخرين. ربما في الغالب بالنسبة لي.

- لكن المضيق البحري والجبال والمطر والماء؟

- الشخصية الرئيسية في Septology تجلس وتنظر إلى الأمواج. أنظر إلى موجاتي الداخلية في قلب أوروبا.

- لكنك تصر؟

- نعم نعم نعم. لقد كنت دائمًا شخصًا قابلاً للتكيف. ليس من الضروري أن أعيش في مكان معين. لقد عشت على الطريق منذ أن كنت في الثلاثين من عمري بسبب المسرح. لقد كان لدي العديد من المنازل المختلفة.

- ولديك أيضًا كوخك الخاص في دينججا، ومن هناك يمكنك رؤية المحيط.

- نعم، من الجميل أن أكون هناك. الضوء هناك، لطيف وأزرق بشكل مدهش. وأن يكون على البحر والهضاب والمرج. لا أعرف لماذا، لكنه شعور جيد.

***

........................

* ترجمه من النرويجية سيري هايجكفيست

جون فوس / Jon Fosse .ولد جون فوس عام 1959 على الساحل الغربي للنرويج، وقد كتب أكثر من ثلاثين كتابًا وثمانية وعشرين مسرحية تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة. إنه أحد أكثر الكتاب المسرحيين الأحياء إنتاجًا في العالم. وفي عام 2007، حصل على وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي كفارس، كما حصل على جائزة إبسن الدولية في عام 2010. ثم توج بجائزة نوبل فى الآداب لهذا العام 2023 م.والحوار المترجم هنا، أجرته مع المؤلف المحررة الخاصة له: سيسيلي سينيس فى أكتوبر 2019، ونشر فى مجلة جرانتا/ Granta المشهورة، بتاريخ: 1أبريل 2020 م وهذا رابط الحوار: https://granta.com/interview-jon-fosse

المحاورة: سيسيلي نيبورج سينيس / Cecilie Nyborg Seiness (من مواليد 18 يناير 1972) هي محررة وصحفية ومؤلفة نرويجية، وتعمل حاليا محررة للنشر والوثائق والأفلام الوثائقية، كما عملت صحفية لعدة سنوات في صحيفة Dag og Tid. لقد كتبت كتابا مهما للغاية (جون فوس: شاعر على أرض الله)⁠ وهو عبارة عن سيرة ذاتية لجون فوس، حيث عملت كمحررة لكتب جون فوس في ديت نورسك ساملاجيت، وهي دار نشر نرويجية، منذ عام 2012.

" نعم، لقد حدث الكثير في السنوات العشر الماضية. كان هناك الكثير مما يحدث لدرجة أنني اضطررت إلى أخذ استراحة من الكتابة. أختبر أشياءً في الحياة وأختبر أشياءً عندما أكتب. إن ما أختبره عندما أكتب له تأثير كبير، إن لم يكن أكثر، من ما أختبره في الحياة. الكتابة هي بمثابة أحلام اليقظة، أن تضع نفسك في حالة تشبه الحلم حيث تتقدم للأمام أثناء الاستماع. لذلك لم أرغب في الكتابة في فترة هشة، حيث توقفت عن الشرب وحيث تحولت مؤخرًا. يجب أن أعود أولاً إلى واقعي المعتاد " . (جون فوس)

كانت برفقتي صديقتي "نور الهدى" عند انقطاع التيار الكهربائي فقالت لي: ما رأيك في أن نقضي فترة انقطاع التيار الكهربي في رحلة مع الدكتور مصطفى محمود. وبعد ثوان معدودة أصبحنا في إحدى الحدائق بالقاهرة حيث يجلس د. "مصطفى محمود" برفقة شاب تظهر عليه علامات الاكتئاب مستظلا بشجرة وقد وصلنا إليهما.

- السلام عليكم د. مصطفى محمود.

- د. مصطفى محمود: السلام عليكم يا ابنة الشرق ومرحبا بصديقتك، جئتِ في الوقت المناسب؛ فقد كنت في محادثة مع الأستاذ" محسن" ونود أن تشاركينا الحديث.

- يبدو لي أن الحديث يدور حول إيزيس وأوزوريس.

- د. مصطفى محمود: نعم فقد استمعت إلى الأستاذ محسن، وأود أن يردد لكما ما قاله لي وأستأذن لبضع دقائق.

- الأستاذ محسن: مرحبًا بكما كنت أتحدث مع د. مصطفى عما كنت أحلم به دائماً هو أن أتزوج من مثقفة جامعية.. تفهمني وأفهمها، وتشاركني كفاحي، وتقف إلى جواري في معركة الحياة..وقد تحقق هذا الحلم للأســف.. وشعرت ببؤسه وتسلل الحزن والوحدة إلى ضفاف روحه.

- نور الهدى: يبدو أن الحلم تحول إلى رحلة من الألم.

- الأستاذ محسن: نعم أستاذة "نور" وجدت إلى جواري امرأة من نوع غريب.. امرأة قضت أربع سنوات في كلية الآداب لتتعلم فناً واحداً.. وهو فن الانتصار على الرجل.إنها تتكلم في لباقة.. وتلبس شيـك.. وتلعب الجولف.. وتعزف على البيانو.. و تقرأ الكتب.. ولا يعجبها شيء في الدنيا.. إذا سألتها أين تذهب ومتى تعود.. مطت شفتيها وعاتبتني لأني لا أثق بها.(1)

- نور الهدي: أشعر من كلامك بأنها تتقن فنون الندية مع الرجل، فاستغلت لباقتها في هزيمتك، يبدو أن الأمر يعبر عن ابتعادها عن النهج الإلهي؛ لأنه من حقوق الزوج على زوجته أن يعرف إلى أين ستذهب وواجب على الزوجة الالتزام بالشريعة الإسلامية.

- الأستاذ محسن: لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد كنا في الصعيد ، وظلت تشكو حتى انتقلنا إلى القاهرة.. وهي الآن تشكو.. لأنها تريد السفر إلى أمريكا.. إنها تعسة دائماً.. طموحة لدرجة المرض. (2)

- نور الهدى: إن الطموح أستاذ محسن شعاع أمل ينير لك دربك فيما تصبو إليه، ولكن يبدو لي أنها تحيى بلا هدف ولا تعرف في أي اتجاه تسير.

- الأستاذ محسن: أخذت تطلب منى كل شيء لمجرد أنها تحمل دبلوم قسم إنجليزي من كلية الآداب ، وتعمل نصف يوم كما يعمل الرجل..ومع هذا فهي أول كل شهر تتحول فجأة إلى ست بيت وتنتظر الإنفاق عليها.

- نور الهدي: أستاذ "محسن" مصروفات البيت واجبة على الزوج بحكم مسؤوليته قال النبي صلّ الله عليه وسلم:" والرجل راع على أهل بيته ومسئول عنهم" وأن أعظم أبواب النفقة أجرًا هو الإنفاق على الأهل بالمعروف وعلى قدر حاجاتهم. وعلى الزوج أن يعتمد على نفسه في القيام بأعباء أسرته المعيشية كلها، فلا ينبغي له أن يضع أموال زوجته في خطة إنفاقه، سواء كانت أموالها معها وقت زواجها أو حصلت عليها بعد الزواج من عمل أو أرث أو هدايا، إلا إذا شاركت هي عن طيب نفس منها ورضا في تحمل بعض الأعباء وتخفيفها عن كاهل زوجها.(2)

هذا من حيث الشرع فالزوجة الخلوق هي من تعين زوجها وتشاركه تحمل جزء من أعباء الحياة خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وبذلك تقوى أواصر المودة بينهما.

- وفي أثناء حديث "نور" مع الأستاذ محسن جاء "د. مصطفى محمود" جلس على المنضدة مستمعاً لحديث الأستاذ محسن.

- الأستاذ محسن: لم أرغب في الحصول على راتبها؛ ولكن أردت أن أوضح جانباً من شخصيتها؛ خاصة وأن عملها ترتب عليه أن أصبح بيتنا فوضى برغم من وجود طباخ وخادمة، بالإضافة إلى أمي التي تعمل كخادمة ودادة للأطفال.. وأمي الآن عجوز بلغت السن التي يجب فيها أن تستريح. ومع هذا أجد أحياناً مناظر أتألم لها من قلبي.. أجد أمي و على حجرها طفلان.. والمدام ممددة على الفراش بعد عودتها من العمل، وفي يدها جريدة فرنسية. لقد بدأت أعتقد أن زوجتي شقيَّة معذَبة.إنها لا تعرف ماذا تفعل بنفسها أو بثقافتها أو.. بي. وهي أيضاً لا تعرف معنى الثقافة. ولكن ما ذنبي أنــا؟ وما الحــل..؟(1)

- نظرت إلى دكتور مصطفى محمود وعيني متسائلة ما الحل؟

- د. مصطفى محمود: إن ذنبك هو ذنب الملايين من الرجال و النساء.. وذنب الجيل التعس الذي يتغير بسرعة ويتلقى الهزة العنيفة التي تتلقاها عربات الترام حينما تندفع القاطرة فجأة دون تدرج إلى الأمام..المرأة العصرية أمام وهج الثقافة والحرية الفجائية.. أصبحت مهزوزة موزعة الرغبة لا تعرف ماذا تريد.. ولهذا تندفع في عدة طرق في وقت واحد.. إنها تريد السفر و التجول حول العالم.... وتريد المغامرة.. مجرد المغامرة.. و تَكفُر بالقديم لمجرد أنه قديم.. و تهلل للجديد لمجرد أنه جديد.. وتطلب ألف شيء ولا تقدم في مقابله شيئاً واحداً.. إن إحساسها بحقوقها أكثر من إحساسها بواجباتها. إحساسها بحريتها أكثر من إحساسها بمسئوليتها. لأنها تمر بتجربة جديدة.. إنها تخرج لأول مرة من القفص.. فلا تفكر في شيء إلا في التصفيق بجناحيها والطيران في الجهات الأربع..والحل هو الصدام..ليس هناك مفر من الصدام بينكما.. عامل زوجتك المثقفة على أنها غير مثقفة.. وعلمها بالشدة و الحزم إن معنى الثقافة هو المسئولية. نظر إليَّ "د. مصطفى محمود" قائلًا: أريد سماع موقف ابنة الشرق حول مشكلة الأستاذ "محسن". (1)

- وأتوقع ما يزعجك من زوجتك أستاذ "محسن" كونها مشاكسة وليست مستنيرة. مهملة لا تتحمل المسئولية ضالة الطريق لا تعلم أهمية ترتيب الأولويات، وأنه من المهم أن تضع نصب أعينها رعاية أسرتها. لذلك أتفق مع "د. مصطفى محمود" في أن مثل حالة زوجتك تحتاج المرأة أن تعلمها بالشدة والحزم وتعرفها أن معنى الثقافة يكمن في تحمل المسئولية، إلا أنه يؤخذ عليك أنك لم توضح لها منذ بدء الارتباط بضرورة الالتزام بواجباتها تجاهك وتجاه أسرتها؛ بسبب فرحتك بكونها مثقفة ولم تدرك أن نجاح أية علاقة قائمة على الوضوح وتحديد المسئوليات بمعرفة كلا الزوجين ما عليه من واجبات وما له من حقوق.

ولكنني "د. مصطفى" أرفض وصفك للمرأة العصرية بأنها لا تعرف ماذا تريد...، هذا الوصف به تعميم على المرأة العصرية عامة، وهو يعد من أكثر أخطاء التفكير شيوعا؛ فليس لكون زوجة الأستاذ "محسن" لا تقدر الحياة الزوجية أن كافة النساء العصريات كذلك، فليس لكون زوج خان زوجته أن كل الرجال خائنون، وليس لكون رجل يذل زوجته ويقهرها أن كل الرجال ظالمون، وحتى يصبح الكلام واقعياً من الأفضل تخصيص القول: بأن أغلب أو بعض النساء العصريات لا تعرف ماذا تريد وفقًا لأطروحتك.

وبالتالي فإن قولك إن المرأة تخرج لأول مرة من القفص.. فلا تفكر في شيء إلا في التصفيق بجناحيها والطيران في الجهات الأربع، لا ينطبق على كافة النساء، وإنما يرجع إلى طبيعية الشخصية والتنشئة الاجتماعية، فهناك نماذج مشرقة من المرأة العصرية المثقفة قادرة على تحقيق التوازن بين الحياة العملية في المجال العام والحياة الأسرية في المجال الخاص، بل والتوفيق بين مختلف جوانب حياتها؛ لأنها تملك مهارات التخطيط والتنظيم. كما أن وعيها بمجريات الحياة سينعكس بشكل إيجابي على تربية أبنائها تربية صالحة؛ فتستطيع أن تستثمر ثقافتها في البحث عن تعلم أساليب التربية الحديثة لتربيتهم وفقًا للتعاليم الدينية الصحيح وقيمنا وعاداتنا الشرقية في ظل الانفتاح على الثقافة الغربية، مع توجيهم إلى ضرورة اكتساب مهارات العصر الحديث، وهذا يستلزم أن يرافقها ويشاركها زوجها في تحمل المسئولية العائلية. وفي حال شعور المرأة العصرية المثقفة أن عملها خارج أسوار مملكتها يهدد بضياع أسرتها؛ حينها ستختار أسرتها أو العمل جزءًا من الوقت.

- د. مصطفى محمود: وإن كنت أرى أن الله قد اختار المرأة للبيت والرجل للشارع؛ لأنه عهد إلى الرجل أمانة التعمير والبناء والإنشاء، بينما عهد إلى المرأة أمانة أكبر وأعظم هي تنشئة الإنسان نفسه.. وإنه من الأعظم لشأن المرأة أن تؤتمن على هذه الأمانة.. فهل ظلم الإسلام النساء يا ابنة الشرق؟ وفجأة عاد التيار الكهربي.

- فهمست نور قائلةً: بعد رحلتنا اليوم مع د. مصطفى محمود سأذهب لإعداد فنجانين من الشاي وظل التساؤل يتردد صداه على مسامعي هل ظلم الإسلام النساء؟!.

***

د. آمال طرزان متخصص في الحركة النسوية

...................

(1) مصطفى محمود: 55 مشكلة حب، ط7 ، دار المعارف، القاهرة، ص7- 8- 9.

(2) دار الإفتاء المصرية: دليل الأسرة من أجل حياة مستقرة، تقديم عمر مروان، 2022 ،ص73- 75.

 

- اليوتوبيا عنده هي أن يتخيل الكاتب من خلالها المدينة الفاضلة

- الوحدة العربية هي حلم كل مواطن عربي شريف

- هناك مخطط أمريكي لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ

***

العلاقات بين الجزائر وسورية متجذرة في التاريخ منذ الحضور السوري في باندونغ لدعم القضية الجزائرية وكان لسوريا إلى جانب الدول العربية دور دعائي ودبلوماسي في تحريك ملف الجزائر أمام هيئة الأمم المتحدة، وظلت هذه العلاقة المتينة قائمة الى اليوم، ولسوريا موقف تاريخي من كفاح الشعب الجزائري، في هذا الإطار، كان لنا قاء مع الشاعر السوري علي الحمود الذي التقينا به عبر الفضاء الأزرق فكان لنا معه هذا الحوار الشيق، تطرق فيه الى جملة من القضايا التاريخية، الثقافية والتي تلقى اهتمام الرأي العام الدولي والعربي بالخصوص بالإضافة إلى موقفه كمثقف وعربي حر من القضية الفلسطينية، والحديث مع علي الحمود نلمس فيه روح الشاعر الثائر.

1- يريد القارئ العربي أن يعرف من هو الشاعر السوري علي الحمود؟

- علي الحمود مدرّسٌ، وهو قبل كل شيئ إنسان مثل أي إنسان آخر أكتب الشعر من الطفولة وقد شجعني على ذلك بعض الأصدقاء أنا من سوريا من مدينة الرشيد التي تقع على نهر الفرات شمال شرق سورية، من مواليد مدينة الرشيد عام 1966

2- ممكن أن تحدثنا عن تجربتك الشعرية؟ وهل تأثر علي الحمود ببعض الشعراء العرب؟

- تجربتي الشعرية كانت ثمارها في بداية الثمانينات وقد تأثرت بالشاعر نزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم والشاعر الشعبي محمود الذخيرة وشلاش الحسن وعمر الفرا الشعر الشعبي أجد نفسي أقرب إلى جمهوري وموقعي بين الشعراء هذا أتركه للجمهور هو الذي يعطي الحكم الصحيح وهو الذي ينصفني

3- يتابع العالم ما يحدث في غزة، هل يهتم علي الحمود بأدب الثورة؟

- أتابع ما يحدث في غزة وقد أذهلني ما يحدث فيها من قتل وتدمير فللثورة نصيب في شعري حيث قلت في الثورة : وماذا أقول وفي جسدي في شفاهي حكايا تطول فلسطين أرضي ودربي وشمسي وكل الفصول كما قلت أيضاً في أدب الثورة : لم يعد يراودني شوقي بأن أغفو على صدر صبية إن شوقي وعمري بل كل عمري صار من الآن للقدس هدية، أما عن الشعر الثوري كانت لي تجربة وكتبت قصيدة أثناء انتفاضة أهلنا في فلسطين وكان ذلك في أواخر التسعينات من القرن الماضي حيث قلت : أنا ثائر... أنا ثائر... أنا ثائر...أنا ثائر في الأرض ثائر وفي السماء طائر وعلى درب الشهادة سائر أنا ثائر...أنا ثائر.. أنا ثائر أنا من بلد الثورة من سوريا الحرَّة من جنوب الجنوب من لبنان من غزة.. من صفد من بيسان من سيناء.. من تونس من قلب الجزائر أنا ثائر... أنا ثائر... أنا ثائر

4- كيف يقيم علي الحمود العلاقات الجزائرية السورية؟ وكيف هو الواقع العربي اليوم في سوريا فلسطين؟

- العلاقات السورية الجزائرية متجذرة في التاريخ بلاد المغرب وبينها الجزائر اتصلت بسوريا منذ زمن بعيد، وقد برز دور المغاربة في مساندة أهل الشام في مقاومة الغزو الصليبي، فدمشق حاضرة الشام تحولت إلى موطن للأمير عبد القادر الجزائري، ومحورًا لتأثيرات الفكر الباديسي، وهذا يدل على أن هناك تقاربا روحيا بين الجزائر وسوريا، فالمخزون التاريخي، والتقارب الروحي الذين تشكلا سببه وجود مؤثرات زادت الموقف السوري قوة في دعم ومناصرة كفاح الشعب الجزائري ضد المستعمِر الفرنسي في خمسينات القرن العشرين، ما جعل العلاقة بين البلدين أكثر قوة وعمقا، حيث وقفت الجزائر موقفاً مشرفاً إلى جانب سوريا في قضاياها العادلة وخاصة قضية الجولان، أما الواقع السوري اليوم فهو واقع مؤلم حيث تقع سوريا اليوم تحت الإحتلال التركي والإحتلال الأمريكي من جهة والعصابات المسلحة التي تطلق على نفسها بالجيش الحر من جهة أخرى، حيث هناك مخطط أمريكي بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، لكن هذا المخطط باء بالفشل نتيجة تصدي شعبنا وجيشنا البطل لهذه المخططات.

ماذا عن فلسطين؟

- ما يحدث الآن في فلسطين، هو عبارة عن كره الغرب للعرب والمسلمين وعلى رأسهم اسرائيل، فالقضية الفلسطينية لها جذور سورية والسوريون آمنوا بفلسطين وقاتلوا لأجلها بين فلسطين وسوريا يوجد تاريخ مشترك وبعد جغرافي وقاسم مشتركة وهو الدين واللغة، والجراح المتجددة ساهمت إلى حد كبير في بناء علاقات متينة ومتماسكة بين الجانبين، أما ما يحدث في سوريا هو عبارة عن تآمر الغرب مع بعض الدول العربية على سوريا، لأنها قلعة الصمود والتصدي لكافة المخططات الإمبريالية والصهيونية وتقف حجرة عثرة في تحقيق مخططهم الذي يسمى بالشرق الأوسط الجديد.

5- من خلال تجربتكم، كيف تساهم الأكاديميات في الفضاء الأزرق في تفعيل الإبداع وترقيته؟

- الأكاديميات تساهم مساهمة فعالة في تفعيل الإبداع والنهوض به إلى أعلى المراتب بشرط إذا وضعت لجنة مراقبة تقوم بانتقاء المواضيع القيمة والهامة وتجري مسابقات مثل مسابقة للشعر والمقالة بكافة أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقصة القصيرة حيث تكون هناك لجنة تحكيم خاصة ومختصة وعادلة تنصف الجميع دون تحيز لأحد مهما كانت جنسه وصفته ويكون للقراء دور في ذلك التقييم بهذا نصل إلى الابداع الحقيقي في أدبنا .

6- هل يؤمن علي الحمود بأدب الجائزة؟

- تعطى الجائزة أحياناً لمن يستحق وأحياناً تعطى لمن لا يستحق وأحياناً يفوز النص بجائزة وهذا يعني صاحب النص ليس أفضل من غيره.

7- الهوية، القومية، الإيديولوجية، اليوتوبيا، الوحدة العربية، ماذا تمثل لكم هذه المفاهيم؟

- الهوية: هي مجمل السمات التي تميز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيره، فالهوية تعني ماهية الشخص أو الشيء مما يتسم به من مجموعة من الصفات التي تميزه عن الآخرين وتجعله منفرداً بها، والقومية تعني بالنسبة لي عبارة عن نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يتميز بتعزيزه مصالح أمة معينة والإيديولوجية هي علم الأفكار وأصبحت تطلق الآن على علم الإجتماع السياسي، أما اليوتوبيا يتخيل الكاتب من خلالها المدينة الفاضلة ويتخيل فيها أيضاً الحياة في مجتمع مثالي لا وجود له في الواقع، هذا الواقع الذي كنا ولا زلنا ننشد فيه الوحدة العربية، والوحدة العربية هي حلم كل مواطن عربي شريف حيث تزول الحدود بين الدول العربية وإقامة دولة قوية اقتصاديا وبشرياً وعسكرياً.

8- ماذا عن مشاريعكم المستقبلية؟

- ما زلت أكتب ومستمر في الكتابة وعندي مشروع إصدار ديوان في الوقت القريب إن شاء الله .

***

حاورته علجية عيش

العقيد الركن المتقاعد ناصيف عبيد منسق عام تجمع الولاء للوطن، أهلا وسهلا بك.

***

* ماذا ينتظر لبنان بعد حرب غزة؟

- قبل أن أجيب على هذا السؤال، ينبغي أن نحدد ماهية الصراع الجاري. هناك صراع ظاهره حرب اسرائيلية فلسطينية، بحيث تدعم الولايات المتحدة إسرائيل، ومحور الممانعة بقيادة إيران تدعم حركة حماس الفلسطينية، وباطنه صراع بين روسيا والغرب.

إستراتيجية إيران التي تدير محور الممانعة من خلال التنظيمات التي تسلحها في غزة ولبنان والعراق وسوريا واليمن هي الضغط على حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط دون الوصول إلى صدام مباشر معها، بغية إجبارها على مفاوضتها من أجل الإعتراف بدورها في أي نظام سيتشكل في الشرق الأوسط، وأداة الضغط الرئيسية هي على إسرائيل من خلال وحدة الساحات التي سبق أن أعلنت من لبنان. وحدة الساحات تعني تحرك كل ساحة وفقا للدور الذي يخدم الإستراتيجية الإيرانية.

على ضؤ نجاح عملية طوفان الاقصى بما يفوق أي توقعات، نرى إيران حريصة على عدم الإنزلاق لأي مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة مع إستمرارها بإدارة الصراع  لإستثمار نجاح حركة حماس التي أظهرت من خلال سير المعارك داخل قطاع غزة أن نجاح عملية طوفان الأقصى لم يكن ضربة حظ، بل هو نتيجة جهوزية عسكرية متكاملة لمواجهة كل ردات الفعل الإسرائيلية.

وخلاصة المواجهة في غزة أن حماس رابحة أياً تكن نتيجة الحرب، بينما إسرائيل خاسرة أياً كانت النتيجة، وهذا الإستنتاج مرتكز على تحولات الرأي العام العالمي من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وبالعودة لسؤالك عما ينتظر لبنان بعد حرب غزة، أرى أن الإسرائيلي الغارق في وحول حرب الشوراع في غزة لن يغامر في الدخول في حرب على لبنان، وفي المقابل إيران وبالرغم من تحريكها جبهة الجنوب اللبناني بهدف مساندة غزة، هي لا ترغب بأن يدخل حزب الله في حرب مفتوحة مع إسرائيل لأنها لا تريد خسارة ذراعها الاقوى الذي يؤرق اسرائيل.

لكن وبالرغم من ذلك فالإسرائيلي وحلفاؤه لن يسمحوا باستمرار تهديد حزب الله لإسرائيل من جنوب لبنان، ولهذا تمارس الدول الغربية ضغوطاً كبيرة لتنفيذ القرار 1701. وما ينتظرنا في لبنان متعلق بتحقيق هذا الأمر، وقد يكون مزيجاً من الضغوطات الديبلوماسية والعسكرية المحدودة الإتساع.

 * هل تجد أن الحرب الدائرة بين حزب الله واسرائيل من مشاغلات على الحدود اللبنانية الاسرائيلية، هي حربنا ام حرب الاخرين؟

- على ضوء ما سبق وذكرته فإن الحرب المحدودة الإتساع على حدودنا الجنوبية، هي حرب فصيل لبناني مرتبط بمصالح إيران وبالتالي هي حرب بإرادة خارجية وبتعاطف لبناني غير متوافق عليه من كل اللبنانيين، وهذا جزء من إشكالية الهوية اللبنانية غير المستقرة لخلافات حول الهوية والدور.

* ما هو التحول الاستراتيجي الذي قام به حزب الله من عمليات عسكرية هجومية وما أهميتها ودورها؟

- إن العمليات الجارية في جنوب لبنان بين حزب الله وإسرائيل لا يمكن وصفه بعمليات هجومية، بل هو اشتباك من مواقع ثابتة لم يبادر أي طرف للدخول إلى مواقع الآخر. اما من ناحية تقييم ما حققه حزب الله في المناوشات العسكرية، فأنا أرى أن الحزب قد نجح في إبراز تكافؤ الردود ضمن قواعد الإشتباك.

وأبرز ما حققه حزب الله لليوم، هو تهجير سكان المستوطنات الإسرائيلية وإرعابهم لدرجة عدم رغبتهم بالعودة إلى مستوطناتهم إلا بعد زوال تهديد حزب الله لهم.

ومن جهة أخرى حافظ على مصداقية خطابه تجاه مؤيديه، بالرغم من تخوف كل اللبنانيين من إنزلاق لبنان لحرب تدميرية لا طاقة للبنان على تحملها.

* ما الفرق بين حرب تموز واليوم؟

- لا مجال للمقارنة بين ما يجري اليوم وبين حرب 2006، حيث دخلت اسرائيل مباشرة لتدمير الساحة اللبنانية، فالذي يحصل اليوم لا يرق إلى مستوى الحرب المفتوحة التي جرت عام 2006.

* هل تعتقد أن حزب الله سوف يلتزم بقرار ١٧٠١؟

- إن التزام حزب الله بالقرار ١٧٠١ ، يعتمد على طبيعة وحجم التفاوض الامريكي- الايراني . هناك مصلحة إيرانية بالتفاوض مع الأميركيين على أي ملف، وهي مستعدة للمبادلات في كل المواضيع.  والتفاوض قد يتخذ كل الأشكال من مباحثات غير مباشرة إلى ضغوط عسكرية على الأرض، فالواقع الميداني وميزان القوى جزء أساسي من أي عملية تفاوض.

* إذا لم يلتزم حزب الله بهذا القرار ما هي التداعيات على لبنان بشكل خاص؟

- على ضؤ التجارب في تعامل حزب الله مع القرارات الدولية، أرى أن حزب الله سيلتزم عند الضرورة مرتكزاً إلى قدرته على الإلتفاف عليه لاحقاً. أما إذا إفترضنا أن حزب الله رفض الإلتزام عندها قد يتعرض لبنان لعمليات تدميرية كبيرة.

* برأيكم لماذا يتم التمديد لقائد الجيش؟ واين المشكلة؟

- موضوع التمديد لقائد الجيش لا يتعلق بشخص القائد إنما يتعلق بالحفاظ على مؤسسة الجيش لأهمية الدور المطلوب منها في المرحلة المقبلة. إن الجنرال جوزيف عون نجح في جعل المؤسسة متماسكة في ظل ظروف صعبة وغير مستقرة. فلا يجوز تغيير القيادة في الظروف الخطيرة التي نعيشها اليوم، لان القائد الجديد في حال تعيينه سيحتاج من ستة أشهر إلى عام، لتثبيت قيادته.

المشكلة اليوم سياسية بين رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل وقائد الجيش جوزيف عون. وأنا بصفتي ضابط متقاعد، أحزن عندما تحاول السياسة الإضرار بالؤسسة العسكرية التي هي الحصن الأخير للدفاع عن وحدة الوطن أرضاً وشعباً ومؤسسات.

* هل تجد لبنان في منأى عن حرب انتقامية محتملة؟ كيف ولماذا؟

- بعيداً عن إحتمالات قيام إسرائيل بحرب تدميرية على لبنان قد يصعب علينا النهوض من آثارها، أرى أن الصراعات الداخلية بين مختلف الأفرقاء السياسيين أكثر خطورة على لبنان ومستقبله، فهي قد دمرت المؤسسات والدور الذي تميز به لبنان على مدى قرن، وفي هذا خدمة لكل أعداء لبنان وعلى رأسهم إسرائيل التي تسعى لأخذ دور لبنان في المنطقة.

***

حاورته: أورنيلا سكر

 

حاورته: ليلي معلوف*

ترجمة : أ. مراد غريبي

***

أكسبته سلسلة أفلامه المثيرة عن المؤرخ وعالم التشفير توماس نورونها (Tomás Noronh) ، والتي بيعت منها ملايين النسخ في جميع أنحاء العالم، لقب بـ دان براون (Dan Brown ) البرتغالي. مع عنوانه الأخير، المرأة التنين الأحمر (The Red Dragon Woman La femme au dragon rouge/)، يكشف عن فظائع معسكرات إعادة التثقيف الصينية المستوحاة من أحداث حقيقية. التقينا خوسيه رودريغز دوس سانتوس (José Rodrigues dos Santos ) خلال زيارته لصالون الكتاب في مونتريال.

* بالإضافة إلى كتابة أفلام الإثارة منذ ما يقرب من 20 عاما، كنت مراسلا حربيا وكنت تقدم الأخبار المسائية على القناة العامة الأولى الرائدة في البرتغال لمدة 32 عاما. كيف وصلت إلى هنا؟

- ما زلت مراسلا حربيا. بالمناسبة، كان من المفترض أن أكون في إسرائيل هذا الأسبوع، لكنني أجلت [رحلتي]. بدأت مسيرتي المهنية في سن 17 في ماكاو (Macao) . في عام 1991 كنت أعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن وتم إطلاق العنان لحرب الخليج. كنت أعيش ذلك طوال الليل، وبعد ذلك، تحولت إلى الأخبار المسائية. أنا لست الأكبر سنا، لكنني أقدم مذيع أخبار مسائي في أوروبا. [الكتابة] لم تكن أبدا في آفاقي. كنت أقوم بأول أطروحة دكتوراه حول تغطية الحرب، وقرأ رئيس جمعية الكتاب البرتغاليين الكتاب. قال: "أعتقد أنك روائي". كان يدير مجلة وطلب مني أن أكتب قصة قصيرة. لم أكن أريد ذلك، لكنني لم أستطع أن أقول لا. لذلك بدأت في كتابة قصة صغيرة عن تيمور الشرقية، بناء على بحثي للأطروحة. أخيرا، دخلت، وفجأة كان لدي 200 صفحة. بعد ذلك، كنت مدمنا على الكتابة الروائية الخيالية.2052 Book1

* لكتابة "المرأة التنين الأحمر"، استشرت - كما تفعل دائما مع رواياتك - ببليوغرافيا شاملة (وصفت بأنك "ملك الإثارة المطلع"). ما هي نقطة البداية لهذه القصة؟

- كنت قد عملت بالفعل على الصين مع الخالد. لكن هذه المرة، ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير للإبلاغ عن وضع الأقليات، وعودة معسكرات الاعتقال، مع حبس ملايين الأشخاص، وخطط التوسع. إنها ليست رواية عن الصين، إنها عن الحزب الشيوعي الصيني - ومن المهم دائما التأكيد على ذلك، لأن الصينيين هم أول ضحايا هذا النظام. وبما أن الصين شريك تجاري مهم، فنحن بحاجة إلى فهم ما يحدث هناك.

* هل كنت تنوي الكتابة للإنذار منذ البداية؟

- نحن لا نعرف الكثير عن لاوغاي في الصين [إعادة التثقيف من خلال معسكرات العمل] لأنها تخفي كل شيء وتنسى كل شيء. ولكن كما قال سولجينتسين (Soljénitsyne ) ، عندما ننسى الماضي، فإننا محكوم علينا بتكراره. وهذا بالفعل ما يحدث في الصين. لقد فعل ماو ذلك بالفعل - بطريقة مختلفة، نعم، لكنه في الأساس نفس الوضع. نحن بحاجة إلى وضع حد لما يسمى ب "جمهورية فقدان الذاكرة الشعبية". [...] الحزب الشيوعي الصيني هو أعظم إبادة جماعية في التاريخ. استغرق الأمر ما بين 30 مليون و 65 مليون شخص. لا يوجد شخص، ولا منظمة قتلت عددا كبيرا من الناس مثل الحزب، الذي لا يزال هناك وتربطنا به علاقات طبيعية. هل ستكون لنا أي علاقة مع النازيين؟ من المهم أن نفهم ما هو على المحك.

* لماذا الخيال هو أفضل مركبة نقل؟

- بالنسبة لي، كل الأعمال الأدبية العظيمة تمس الحقيقة. في مدام بوفاري (Madame Bovary)، ذكر فلوبير (Flaubert) حقيقة مخبأة في القرن التاسع عشر، ولهذا السبب أصبح عملا عالميا. في عام 1984 لجورج أورويل (George Orwell)، كانت هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها شخص ما هو النظام الشيوعي السوفيتي. وكانت صدمة – حتى أنه تعرض للعزل والانتقاد. [...] الخيال هو أيضا قوي جدا. هناك أكثر من مائة معسكر اعتقال في الصين مع ملايين الأشخاص المحبوسين لأسباب إثنية وعرقية. إنه شيء آخر أن نرى ما يحدث مع شخص ما. قال ستالين: "موت شخص مأساة. وفاة مليون شخص هي إحصائية". والرواية تعيدنا إلى الشخص، إلى المأساة. عندما نروي قصة مدينة في المرأة التنين الأحمر، نبدأ في التعرف عليها وفهم الأشياء بطريقة أكثر قوة.2053 Book2

* لماذا كان من المهم بالنسبة لك أن تحدد في حاشية ختامية مفصلة للغاية جميع الأحداث الحقيقية التي ألهمتك الرواية ومصادرك المرجعية؟

- أنا أكاديمي. لقد قمت بالتدريس لمدة 25 عاما في جامعة لشبونة، ولدي شهادتا دكتوراه، لذلك لا يزال هذا الجانب الأكاديمي موجودا. أعتقد أنه من المهم أن نشرح للقراء ما هو غير خيالي. إنه يساعد على الفهم بشكل أفضل وهو طريقة لإغلاق الرواية.

* ما هي القضايا التي يتناولها عنوانك الجديد سبينوزا – الرجل الذي قتل الله؟

- كان سبينوزا (Spinoza) هو الذي خلق، بتنازلاته، الديمقراطيات الليبرالية. يقال أن والد الليبرالية هو جون لوك. لكن ما حدث هو أن جون لوك (John Locke ) ذهب من إنجلترا إلى أمستردام بعد وفاة سبينوزا. قرأ كل أعماله، ثم عاد وكتب أفكاره. لكنه لم يستطع الاقتباس منه لأنه كان مؤلفا ملعونا، لأنه قال –سبينوزا- "الله هو الطبيعة، والكتاب المقدس هو خلق بشري". يمكن العثور على الكثير مما يحدث اليوم في حياة سبينوزا: أسئلة الدين، أسئلة الهوية التي كان يتحدث عنها في القرن السابع عشر. لذلك هناك صلة، لأن رواية" المرأة التنين الأحمر" تظهر لنا ما يحدث اليوم، و عملي "سبينوزا - الرجل الذي قتل الله" يوضح لنا كيف تم إنشاء مجتمعاتنا الليبرالية وتتعرض للهجوم اليوم.

***

بتاريخ 24/11/2023

.....................

الرابط:

https://www.lapresse.ca/arts/litterature/2023- 11- 24/jose- rodrigues- dos- santos/l- ecriture- de- fiction- pour- mettre- en- garde.php

 

- صلاح زنگنه.. قضيتي هي الإنسان (الكائن الوجودي) بكل أبعاده وبكل مشاغله وهمومه.

- صلاح زنگنه.. المرأة هي رئة كلماتي وشهيق هواجسي ولوعة تجلياتي.

- صلاح زنگنه.. العمل النقابي والإداري متعب ومقرف وممل، وهو لا يليق بالمبدعين أبداً إلا باستثناءات قليلة.

- صلاح زنگنه.. العشاق لا يشيخون والعاشق إنسان يلهو بالحياة كما يلهو الطفل بأرجوحته.

***

صلاح زنگنه قاص وشاعر وناقد وكاتب إشكالي متمرد جريء يعبر عن مواقفه بصراحة لا يرى حرجاً في انتقاد أي سلطة، من مواليد 1959 بمدينة (جلولاء)، بدأت عليه ملامح التأصيل الثقافي مبكراً إذ عرف بقراءته الأدب مع انطلاق قطار الدراسة الثانوية قبل أن تتعاظم موهبته وتتفاعل مع الواقع وتنحت اسمه كواحد من أهم السراد في العراق. ابتزغ الشعر عليه في الصبا وأفل قبل انغماسه في المسرح كتابة وتمثيلاً ضمن النشاطات المدرسية حتى انضمامه لفرقة مسرح بعقوبة للتمثيل 1978. ينتمي صلاح زنگنة إلى التيار الليبرالي العلماني المدافع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان، ويعد محنة الإنسان النفسية والفكرية والوجودية قضيته. وكقاص يحسب الزنگنه على الجيل الثمانيني الذي برز وتمرس في ظروف الحرب والمحنة، دخل دائرة السرد القصصي بالمجموعة القصصية " كائنات صغيرة" 1996، وقد عدها النقاد حينها رسائل إدانة لبشاعة ووحشية الحروب المتكررة، ومدونة لقصة الوطن والمآسي والانكسارات الإنسانية فيه، ثم تلاها بستة مجاميع قصصية أخرى (صوب سماء الاحلام2000، هذا الجندي أنا2000، ثمة حلم ثمة حمى 2002، كائنات الأحلام 2002، الصمت والصدى 2002، عائلة الحرب 2014، الجنة موحشة أقاصيص، حكايات حميمة 2020)، اختط فيها لنفسه نزعة جمالية رومانتيكية تكسر قيود العقل وتتمرد على الواقع وتطلق عنان الخيال مستجيبة لأهواء النفس ورغباتها دون قيود. يزاوج القاص في تجربته بين الرمز والواقع بطريقة احترافية يرسمها بمسار فنطازي ونفس غرائبي وبلغة إبداعية منغمة بعيدة عن الترف ملتزماً بأهم تقاليد الكتابة الكلاسيكية.

أشرقت شمس تجربته الشعرية بعد تدشين العقد الخامس من العمر بإنجازه أربع مجاميع شعرية منها مطبوعة وأخرى في طريقها للطبع (هذا الولد مولع بالنساء2017، سأدل العصافير عليك2021، بلاد موحشة قصائد، وجع القلب ) تتسم فلسفته الشعرية بعبقها بالأنوثة التي وجد فيها اجمل وارق وسائل التعبير، فضلاً عن انغماسها بالحياة والجمال والتمرد على كل التابوات والعقائد. وبالإضافة إلى الحضور القصصي والشعري سجل حضوره الفكري والنقدي المتميز عبر كتاباته الصحفية والنقدية الموضوعية والجريئة، كما عمل محررا للصفحة الثقافية لجريدة الأنباء ومراسلا لقناة البغدادية ومديرا لمكتب قناة دجلة في ديالى. وتناولت تجربته القصصية مئات المقالات والدراسات النقدية فضلا عن الأطاريح الأكاديمية كما اختيرت احدى قصصه (الواقعة) كمادة في تحليل النصوص الأدبية لطلبة الدراسات العليا في جامعة تكريت وترجمت بعض القصص إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية والصربية والكردية، وفاز بجائزة الصدى للقصة القصيرة 2002 في دبي عن مجموعته ثمة حلم ثمة حمى، علاوة إلى فوزه بجائزة افضل كاتب قصة لعام 2013 في استفتاء مجلة عيون العراق.

معظم من عاصر صلاح زنگنة شهد مشاكساته للنظام السابق ورفضه لسياساته التي دفعته إلى الاعتقال اكثر من مرة في مديريات الأمن وما زال هو كاتب غاضب مشاكس متفاعل مع الواقع ومتحمس في إبداء الرأي يمارس طقوس ثورته بين آونة وأخرى.

***

الحوار:      

* كيف أثرت البيئة التي ولدت فيها ونشأت في شكلنة كينونتك الشخصية والأدبية، وما أبرز الشخصيات التي تـأثرت بها في سنوات اليفاعة والفتوة؟

- الإنسان، كل إنسان أبن بيئته التي تكونه وتصيره، وأنا أبن بيئات عديدة، جلولاء، وكركوك، حيث طفولتي وصباي، ثم بعقوبة حيث مرحلة الشباب والنضوج والكينونة، ولقرب بعقوبة إلى بغداد كنت أصول وأجول فيها، وهي أقرب المدن إلى روحي ووجداني، وفي مرحلة المتوسطة كان لشاكر نوري تأثيراً كبيراً عليّ، إذ كان يدرسنا اللغة الإنكليزية، ثم جلال زنگابادي الذي تعلمت منه الكثير، وفي بعقوبة كان صباح الأنباري معلمي الرصين الذي دلني على كنوز الثقافة والمعرفة ولن أنسى تأثير محي الدين زنگنه الذي كان يدرسنا اللغة العربية.

* هناك العديد من الأدباء والشعراء الذين انتهجوا المذهب الإيروتيكي، من استهواك من الأدباء الغربين والشرقين؟ وهل كان لهم من تأثير على مستوى التقنية الكتابية أو طريقة التخيل في نتاجاتك الأدبية؟

- لا أعتقد ثمة تأثير مباشر، هم خليط غير متجانس ممن قرأت لهم آنذاك مثل البرتو مورافيا ونزار قباني وحسين مردان وغيرهم. ولو رجعت لنصوصي القصصية، ستجد هذا الهاجس يشغل حيوات الكثير من شخصياتي السردية التي تؤرقها حالات الكبت الجنسي وتطمح بواقع لأكثر نقاءً وصفاءً وبهاءً، وترفض وتتمرد على قدرها المرسوم وفق تقاليد المجتمع الذي ألزمها المشي جنب الحيطان. وهكذا وجدت في انثيالاتي الايروسية فسحة واسعة للانطلاق إلى براري الحب والجمال وتلمس متع الحياة والانغماس في العشق الايروسي، وتبجيل الأنثى كونها مانحة حياة وصانعة كينونة وباذخة جمال. أدرك أن الجسد أيقونة الحياة، ومنطقة محرمة، والمحافظون والخوافون لا يجرئون المساس بالمحرمات والمقدسات، إنهم مجرد كهنة يرتلون أناشيد الأجداد الأفذاذ ويلوكون ما هو بائر ومباح ومستهلك.

شخصياً أبغي إشاعة ثقافة الحب والحرية والجمال، ثقافة الحياة في ظل حضارة الإنسان، الإنسان العالمي الكوني العابر للأديان والطوائف والقوميات والمناطقيات.

 * ما بين القصة والشعر وباقي الأجناس الأخرى مناطق إبداع شخصية تتسع بها قدرة الأديب الإبداعية وتضيق في أي منها وجدت نفسك اخصب خيالاً؟

- الشعر والقصة والرواية والمسرحية والمقالة أجناس أدبية متقاربة ومتداخلة ومتواشجة أيضا، ليس المهم أن تكتب تحت يافطة ما الأهم أن تكتب بشكل جيد خارج المسميات. اكتب فوق ما افكر.. حين تأتيني فكرة ما وتؤرقني أبدأ بالكتابة، وهذه الكتابة قد تكون على شكل قصة أو مقالة، وعادة تكون القصة أكثر فسحة ووسعا للخيال، كون الخيال يسمو ويتدفق عبر الحكي والحكاية أم الخيال وبودقتها.

* طيب وبعد هذه العقود من الاحتراف السردي لماذا لم تلتحق بموكب الرواية؟

- من السهل أن تكتب رواية وروايتين، لكن من الصعب جداً أن تترك أثراً مهماً، عندنا مئات الروايات ونفتقد لروائيين متميزين، اطلعت على عشرات بل مئات الروايات العراقية حصراً، ونادراً من لفت انتباهي، معظمهم يكتبون سيرهم الذاتية المملة ويحشون الفصول حشوا، ويعتقدون أنهم قد أنجزوا منجزاً بديعاً، لكن الحصيلة مجرد لغو فارغ، شخصياً لم تستهويني كتابة الرواية لسبب بسيط جداً، هل بمقدوري كتابة رواية مهمة تجاري الروايات العظيمة التي قرأتها؟ أعتقد هذا السؤال الإشكالي الشائك وقف حائلاً أمام رغبتي في كتابة الرواية.

* ماهي القضايا المحورية التي تستحوذ على اهتمامات صلاح زنگنة وتقوده باتجاه تجسيدها إلى عمل أدبي؟

- باختصار شديد قضيتي هي الإنسان، الإنسان (الكائن الوجودي) بكل أبعاده وبكل مشاغله وهمومه.

* في مقالك النقدي الموسم ما لم يقلهُ النقاد في (ما لم يقلهُ الرواة) تناولت المجموعة القصصية للمبدعة لطفية الدليمي بجرأة وموضوعية توخت التقويم الصحيح للنصوص، إلى أي حد ممكن أن يسهم اعتبار موضوعية النقد أولية وأهم من العلاقة الشخصية بين الناقد والأديب في تطوير وتنمية الساحة الإبداعية والنقدية في ظل غياب الجرأة النقدية وطغيان المدارس النقدية الإخوانية؟

- الأخوانيات والمجاملات مشكلة النقاد وأشباه النقاد، وما زال هؤلاء يصولون ويجولون ويكتبون الفذلكات والخزعبلات تحت يافطة النقد، الناقد الحقيقي هو ناقد موضوعي لا يأبه بكل ما هو خارج النص. النقد بمفهومه الشمولي يعتمد البحث والدراسة والتقصي والاستدلال والاستنتاج، يكاد يكون معدوماً أو نادراً في الثقافة العراقية الراهنة، كون معظم الذين يشتغلون في هذا الحقل الحيوي المهم، هم من الأدباء والكتاب والشعراء والصحفيين والهواة وغالباً ما تتسم كتاباتهم بالنفخة الإخوانية المنافقة، فضلاً عن التكسب والتقرب وإرضاء المتنفذين وكسب ودهم، وبالنتيجة تجيئ نقودهم على هذه الشاكلة الغوغائية المجانية، والتي لا تغني ولا تسمن، كونها تفتقر إلى الحس النقدي السليم. أما الناقد الأكاديمي الذي يكتب دراسات نقدية فاحشة البذخ الفكري والأبهة المعرفية والثراء الاصطلاحي المستل من النقد العربي القديم والمناهج الحداثوية الغربية التي تتجلى بهالات من التزويق النظري الهلامي والفلكات الأدبية والإنشائية، في الوقت الذي يدعي المنهجية الصارمة والبحث العلمي الموضوعي، واستبطان الآفاق والأبعاد الاستراتيجية في ما وراء النص الأدبي، حتى يسقط من حيث لا يدري صريع هيمنة الأطروحة النقدية المفخخة والمدججة بالتهويمات والترميمات المعدة سلفاً، جراء سوء الاستقبال والاستعمال، وبالتالي أسقاط مفاهيم ونظريات إجرائية لا تتواءم وبنية النص، ليدور في فلك من الدوامة التحليلية المقننة والمفبركة وفضاء من الخواء والهراء والثرثرة.

* وهل العلاقة الجدلية ما بين جرأة ونرجسية الناقد ونرجسية وحساسية المبدع أوقعتك في صراعات وخصومة؟

- بلا شك.. وأنا شخصياً عندي خصومات شتى خصوصاً مع الأقزام الذين يتقافزون هنا وهناك.

* تمثل المرأة بكل ما تحمل من أسرار وجمال شخصية محورية في أغلب نتاجاتك، كما يعد الشبق واستمراء الجنس محوراً يتمركز حوله النص؛ فهل هذه ترجمة لفضاء إيديولوجي وثقافي تموضع بداخل صلاح زنكنة وجمهوره؟ أم هي محاولة قصدية لتعرية السلطة الذكورية التي تسلع قيمة المرأة وتحصرها بإثارة الشهوة وتلبية الشبق الجنسي؟

- سبق وأن أجبت على هذا السؤال وإليك ما قلت نصاً " المرأة هي رئة كلماتي وشهيق هواجسي ولوعة تجلياتي كون الكتابة عندي فعل كينونة ووسيلة لديمومة الحياة فأنا أكتب القصة وكأني أكتب قصيدة عن امرأة هجرتني وأبغي وصالها، وأكتب القصيدة كأني أسرد حكاية امرأة أعشقها وأخشى هجرانه، لهذا أتشبثُ بأطيافها وأغور في محيطاتها وأدور حول أفلاكها عبر كل نص أنجزه أو أحاول إنجازه".

* يحمل الرمز والإيحاء في معظم مجاميعك القصصية بعدا يحيل المتلقي إلى معاني ودلالات واسعة داخل النص بالإضافة إلى إيحاءات لقضايا خارج النص غالبا ما تتعلق بالظروف السياسية والاجتماعية. هل لك أن تضعنا في المعاني الكامنة وراء الرموز في (قصة القيد1985، متوالية التماثيل1994، لعنة الحمام 1996) والظروف التي كتبت بها؟

- مهمة القاص أن يوحي لا أن يسمي ويقرر، كون الإيحاء سمت الفن، ولكل قصة ظرفها ومناخها، والقصص التي أشرت لها هي نصوص فنطازية بامتياز حاولت من خلالها وعبرها أن أقدم إدانة صارخة للدكتاتورية القامعة التي جثمت على صدورنا وقطعت أنفاسنا وسرقت أحلامنا وسحقت أعمارنا.

* اللغة الشعرية سلاح ذو حدين فإما أن تجر القاص إلى آليات قصيدة النثر وتلفظه خارج الدائرة القصصية أو أن ترتقي إلى دائرة الإبداع القصصي بجدارة. هل أنت مع إضفاء الشعرية كسمة من سمات كتابة القصة؟ وماهي المعايير التي تلتزم بها؟

- ما من معاير ثابتة أو قارة، المعيار المهم والأهم هو الوضوح والسلاسة والإحاطة والإيجاز، الشعرية مفهوم ومصطلح نقدي يتجاوز الشعر ويتأصل في الكثير من النصوص السردية، المشكلة أن بعض الساردين يتشاعرون ويشعرنون ما هو غير شعري فيقعون في مطبات اللغو والتشاعر الساذج، معظم قصصي قريبة من قصيدة النثر أي مختزلة ومكثفة وموحية من دون أطناب وإسهاب بشهادة نقاد وشعراء.

* ما رأيك بما ذهب إليه الدكتور وليد إبراهيم قصاب في ورقته النقدية الموسومة" النثر من الشعرية إلى الشعر" بأن قصيدة النثر ترتبط بخطاب أيديولوجي يقوم على مفهوم متطرف للحداثة، وهي قصيدة انقطعت عن الحياة وغرقت في رؤية شخصية وذاتية مفرطة وهي نصوص بلا قضية وبعيدة عن الالتزام والاهتمام بقضايا الأمة؟

- لا أتفق مع القسم الأول من كلامه بصدد الخطاب الأيديولوجي، وقد أتفق معه جزئياً في إن الكثير من قصائد النثر لا علاقة لها بالحياة وهي عبارة عن تهويمات وفذلكات لغوية، أما الالتزام والاهتمام بقضايا الأمة فهو من الأوهام والأكاذيب التي صدعوا بها رؤوسنا.

* في مجموعتك الشعرية(سأدل العصافير عليك) تشكل تقنية التكرار في البنيات اللغوية مهيمناً أسلوبياً لافتاً في بناء النص، فما هي أسباب ومبررات توظيفك لهذه الظاهرة الأسلوبية؟

- التكرار نظام بلاغي عربي قديم الغاية منه تأكيد ما هو مؤكد بصيغة جمالية، لم أتعمد استخدامه بل جاء عفوياً وفق سياق النص الذي يتطلب هذا الأسلوب أو ذاك، من دون إقحام أو زوائد بلاغية بليدة.

* (كحمامة مهاجرة.. حطت على قلبي.. بعد طواف طويل.. واتخذت من أضلاعي عشا وبيتا.. وراحت تشدو بالهديل).

يقيناً يجمع القارئ أو الناقد على أن الصورة الشعرية المتناغمة مع الموسيقى الداخلية سمة بارزة من سمات هذا النص ماهي المصادر والمنابع التي تستقي منها في تشكيل صورك الشعرية؟

- يقيناً لا أدري فأنا أكتب وفق مزاجي الروحي الخاص، ومصدري الأكبر هو الحياة بكل تموجاتها، ومنبعي الأهم هو ذائقتي الشعرية بكل عفويتها وبساطتها وطراوتها.

* مارست الفعل الإداري والثقافي كرئيس لاتحاد أدباء وكتاب ديالى وعضو في المجلس المركزي لاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لدورات عديدة، إلى أي حد ممكن أن يؤثر العمل النقابي على الرصيد الإبداعي للأديب؟

- يؤثر تأثيراً سلبياً.. يجعلك أن تتفرغ للآخرين، والآخرون في حل مما تفعله وتعمله وتقدمه لهم، العمل الإداري متعب ومقرف وممل، وهو لا يليق بالمبدعين أبداً إلا باستثناءات قليلة، بعض الأدباء والكتاب يستثمرون العمل الإداري لغايات شخصية، وهذا ما حصل ويحصل لهؤلاء النفر الذين يعتاشون على العمل الإداري النقابي والمهني ويحصلون على مكاسب شتى من لدن ذوي الأمر ويتسنمون مناصب حكومية وحزبية ومعظمهم بلا إرث ثقافي أصيل كونهم يجيدون أكل الأكتاف وهز الأرداف.

* دائماً ما تذكر أن العاشق لا يشيخ وأن لا نهاية لمصل الحب والجمال والحياة؛ فهل لمصل النرجسية والمشاكسات والتمرد الساخط الكافر بالمحيط من نهاية؟

أجل يا صديقي العشاق لا يشيخون كونهم ينهلون من نهر الحياة الجاري المتدفق، والعاشق الحقيقي نرجسي بطبعه وهو كائن مشاكس لما هو جاهز، ومتمرد على الثوابت، وساخط على محيطه البليد، وكافر بكل ما يمس أناه (الإنساني) ويخدش كرامته من تباوات ومحرمات ومقدسات كاذبة، العاشق إنسان يلهو بالحياة كما يلهو الطفل بأرجوحته.

***

اصدر المجاميع القصصية التالية:

1- كائنات صغيرة،1996 منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

2- صوب سماء الاحلام،2000 دار الشؤون الثقافية بغداد.

3- هذا الجندي هو أنا،2000 دار الشؤون الثقافية بغداد.

4- ثمة حلم ثمة حمى، 2002 مكتبة الإنسان بغداد.

5- كائنات الأحلام (مختارات) 2002 اتحاد كتاب العرب دمشق.

6- الصمت والصدى(مختارات)، 2002 دائرة الشؤون الثقافية بغداد.

7- عائلة الحرب، 2014 دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع.

8- حكايات حميمة، 2020 الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

صدر له المجاميع الشعرية:

1- هذا الولد مولع بالنساء،2017 دارميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع.

2- سأدل العصافير عليك 2021 القاهرة دار الفؤاد للتوزيع والنشر.

إصدارات شعرية قيد الطبع:

1- وجع القلب .

2- بلاد موحشة .

إصدارات نقدية قيد الطبع:

1- تتبع الأثر،

2- الثقافة ومحنة المثقف.

3- تجليات الإسلام وثقافة العوام.

***

حاوره: صفاء الصالحي

صدرت له خمس كتب بالنقد ..

يكتب وفق أسس نظريته الخاصة التي يطلق عليها "المُفَرَغة" (تبسيط النص النقدي)

- سعد الدغمان: لا أحبذ الكتابة بطريقة المدارس القديمة للنقد

-النقد يتعالى على القراء، والحداثة لا تقف عند الشعر بل تتعداه إلى كل الفنون ومنها "النقد"

***

حين نخوض بالحديث عن النقد تترائ لنا أسماءً لامعة في سماء هذا الجنس الأدبي، استحوذت على الساحة النقدية طيلة العقود الماضية، لكن سمة الحياة التجدد، ولابد من ظهور اسماء وقواعد جديدة تطور و تجدد من أساليب العمل النقدي وتتماشى والواقع الجديد ومايفرضه من رتم سريع على مجمل الحياة وليس النقد وحده.

نحن نعيش اليوم عصر الحدث المتسارع في كل التفاصيل، وقد دخل التحديث كل مفاصل الحياة، فما الذي يمنع الآداب والفنون وصناعها من أن يعيشوا ويعايشوا هذا التحول في الكلمة والشكل والقالب والتوصيف.

وفق تلك التصورات، يدعو الناقد "سعد الدغمان" إلى اتباع نهج الحداثة الحقيقية الفعلية وتطبيقها على النتاج الأدبي عامة، ومنها النقد، لذلك دعى إلى نظريته المستحدثة في النقد والتي أطلق عليها "المُفَرَغة" (نظرية تبسيط النص النقدي)، وكتب فيها ما يقرب من خمسة اصدارات نقدية حول كبار الشعراء المجددين من رواد الحركة الستينة والسبعينية الشعرية من أمثال الأستاذ الشاعر حميد سعيد والشاعرة القديرة ساجدة الموسوي (نخلة العراق) و الشاعر القدير جواد الحطاب، والشاعرالمبدع مؤيد عبد القادر بالإضافة إلى الكثير من الشعراء الشباب والمجددين.

في حوارنا هذا سلطنا الضوء على اشتغالاته النقدية وموقفه من الحداثة، ورأيه في النقد عامة، وكتبه التي صدرت، ومشاريعه المستقبلية.. حوار شيق ذو شجون نقرأ تفاصليه في الآتي:3991 سعد الدغمان

* أولا أنت صحفي، ما الذي دعاك لتخوض في النقد وبحوره المتلاطمة؟

-ا لصحافي شاعر وأديب وكاتب وناقد وذو خيال متسع خصب، والصحافي ناقد وناقم في نفس الوقت على كل ما هو مغاير للحقيقة مثقل على الناس متعب لهم يسرق منهم وقتهم دون مبرر ولايوفر لهم مساحة من الفهم السريع والتفاعل المباشر مع النص. وتلك هي الميزة التي دفعتني للثورة على ما متوفر من نقد أدبي أخذ فسحة الوقت والزمان من القارئ ليسيطر على المشهد الثقافي بموازين وقواعد أثقلت وما أفهمت، وخلقت تكتلات اختصت بها، ولم تعطي انطباعاً واسعاً لدى عموم القراء.

* كيف اثقلت وما أفهمت؟ ماذا قصدت بها؟

- قصدت أثقلت على القارئ، وما افهمت إلا طيفاً من شرائح القراء.

* وماذا ذنب طرائق النقد ومدارسه؟ وماذنب الناقد إن كان القارئ محدود الثقافة؟

- هو ليس بإتهام أو مأخذ على أحد، إنما هي رؤى تطرح وكل له رؤاه التي يعتقد بها ويرلا إنها الأصوب في المرحلة التي يطرحها. لذلك أكرر هو ليس اتهام لأحد أو جيل أو منهج أو مدرسة، إنما على كل ما ذكرت جيل ومدرسة ومنهج ......إلخ) أن يتماشى والمستوى الثقافي السائد وقت طرح المنتج الثقافي سواء أكان قصة، رواية، قصيدة، فلم، مسرحية، خاطرة، قصة قصيرة، وحتى الرسائل والملاحم، الأدب بصورة عامة لابد وأن يتماشى مع زمانه ومكانه، فالمنتج الثقافي يطرح لجمهور القراء بقصد التفاعل عبر ما يصل القارئ من نتاج مكتوب أو مسموع أو مرئي، فإن لم يتفاعل فذلك حكم الجمهور عليه بالموت.

والجمهور متنوع كل حسب رغباته، ولاحكم على الجمهور ولا على تفاعلاته، لذلك فالكاتب الذكي لابد له أن يحسن الاختيار فيما يكتب، ويحسن أختيار جمهوره، ولابد له أن ينزل لمستوى الجمهور الذي يكتب له، أو يصعد حيث يكون المستوى الثقافي لجمهوره. (فلا توجد من منطقة وسطى ما بين الجنة والنار) كما قال الراحل المبدع نزار قباني.

وهنا أجيبك سيدي على طرائق النقد ومدارسه باختصار شديد بالقول إنها كانت تنظر للنخبة من القراء، أو للأدباء فقط.وكلنا يذكر الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات، أو المجلات الثقافية المتخصصة، كان لها جمهورها الخاص، حتى البرامج التي يعرضها التلفزيون لكل برنامج جمهوره الخاص، وهذا ليس بعيب يلحق بالنقد أبداً على العكس من هذا المفهوم، وإنما هو عملية انتقاء للجمهور من قبل معدي ومنتجي تلك البرامج والصفحات، لذلك نرى تكرار الأسماء وثباتها على تلك الصفحات دون عن غيرها. 3992 سعد الدغمان

* لماذا "تبسيط النص "، ولماذ (النقدي)؟

- مساحة النقد واسعة، وانعطافته كثيرة، وقواعده متعددة، إلا أن من يكتبونه قلائل، وهذه القلة من أساتذتنا النقاد ملكوا السطوة على الساحة النقدية لعقود طويلة، وفرضوا أرائهم واساليبهم في الكتابة على المشهد النقدي بطريقة يصعب على النقاد الشباب اقتحام ذلك الهيكل الذي بنوه ورسموا مساراته وفق أصول المدارس النقدية القديمة، ولم يجددوا في تلك الأصول، وبقي ذلك المنحنى مغلق على تلك القواعد بمصطلحاتها المخيفة المغلقة محدودة التداول مابين جيل النقاد من الأساتذة، الذين نكن لهم كل التقدير والاحترام لما قدموه من منجز نقدي طيلة العقود المنصرمة.

اليوم يطال التجديد كل مفاصل الحياة، فلما لايصل ذلك التجديد للحركة النقدية، سيما وأننا نعيش عصر التجديد الفكري والعقلي وحتى السلوكي والانفعالي، فهل يقف الموضوع على حركة تجديد النقد.وأرى أن النقد يتعالى على القراء، والحداثة لاتقف عند الشعر بل تتعداه إلى كل الفنون ومنها "النقد".

لذلك ارتأيت أن أختط أصول نظريتي "المُفَرَغة" (تبسيط النص النقدي) وأعمل عليها منفرداً لحد الآن، إلا من مناصرين قلائل من جيلنا (جيل الشياب المؤمل)، وربما الأيام القادمة ستتنشر دعوة التبسبط في النقد لتحدث "ثورة" على الساحة النقدية، فمن يدري.. ( قيل طريق الميل يبدأ بخطوة).

* ما هي أخر اصداراتك؟

- صدر لي مؤخراً عن دار الخليج للنشر والتوزيع (جماليات الصورة في شعر حميد سعيد) وهو عبارة عن دراسة نقدية في نتاج الرائد الشاعر القدير الأستاذ حميد سعيد والذي يعد وريثاً للشعر الحر ورواده الكبار، وكان اصداراً رائعاً جداً، ليس بما احتواه الكتاب مادة تعنى بالنقد لا طبعاً فمنهج النقد لايقوى على سبر أغوار قصيدة الكبير "حميد سعيد"، بل رائعاً لأنه أحتوى نصوص حميد سعيد. .

* وقبل ذلك الكتاب؟

- أول كتاب أصدرته وفق (نظرية تبسيط النص) كان خفايا النص ..قراءة في نصوص عراقية، كتاب احتوى العديد من النصوص النقدية لشعراء وكتاب كبار وأيضا شعراء شباب، تناولت سيرتهم وقصائدهم بالتحليل والدراسة.

لانقول أن الكتاب أخذ صداه، بل أحدث شرارة صغيرة في الوسط بين منتقد ومؤيد (لنظريتي)، (المُفَرَغْة)، (تبسيط النص)، يقول (نيتشة) الفيلسوف الألماني "ما لا يقتُلنا يجعلُنا أقوى".

 أخر عمل تحت الطبع الآن حمل عنوان (النص والتشكيل الصوري ..قراءة نقدية في شعر جواد الحطاب)، وفي الطريق عمل أخر حول شاعرة عراقية من شعراء القمة... نتركها مفاجأة.

* لماذا (المفرغة)؟

- هي مفرغة من كل المصطلحات النقدية التي تشكل صعوبة على الفهم سواء، للقارئ العادي أو حتى العاملين في النقد بشكل العام، أي بأسلوب مغاير لما في الساحة من النقد، النقد غير الفلسفي، فالذي نقرأه اليوم على الساحة الثقافية يصنف في عداد اللامفهوم.

لذلك أطلقت علبها (المُفَرَغْة)، وهي علامة من علامات التبسيط في تناول النص، ويكفينا تعقيد في حياتنا، هذا ممنوع، وذاك مقدس، وهذا معالي... والمواطن الذي يريد العيش ببساطة فقط غير مقدس وليس له معالي، حتى في فهم النص بات تحزب وعصابات وفئات ونحل، لا والله لنبسط اانصوص والتعامل، ولا معالي إلا لمن يستحق المعالي المواطن والقارئ البسيط.

* ماذا تتوقع مساحة انتشار نظريتك (المُفَرَغْة)، وهل ستنجح ويعمل بها في النقد مستقبلاً؟

- أنا لا أعمل بالتوقعات، ولا بتخت الرمل (الودع) عند أهلنا في مصر وفلسطين، أنا طرحت فكراً تنويرياً مبسطاً يتناسب ومستوى المشهد الثقافي عامة، يتقبله المثقف البسيط ويتسامى مع فكر ذو الثقافة التي تفوق ثقافتي والمجتمع ربما، فكر لايتعالى على المتلقي بل يكون في متناول الجميع يفهمه حتى طالب المدرسة والعامل والفلاح وحتى ربات البيوت.

أما موضوع الإنتشار من عدمه لايعنيني أبداً، فأنا لست مطرب مواويل أو منلوج، أنا ناقد مبتدأ من الدرجة ما قبل الصفر، متواضع جداً وبسيط جداً مثل مفهوم نظريتي التي تتناول تبسيط النص النقدي، ولايهمني ما يقال أو ما يكون بعد ذلك.

شكر لك سيدي أتحت لي فرصة توضيح وجهة نظري، وتعريف القراء بما يجول بخاطري بخصوص نظريتي النقدية الجديدة، وشكراً للقراء الذين يتحملون أرائي التي هي في صالحهم أولاً وصالح المجتمع وتطور أساليب النقد والنقاش واتساع رقعته بدلاً مما هو من انحسار وسيطرة، شكراً للجميع.

***

حاوره : أحمد العراقي

 

حاورها: صوفي ألاري [2]

20 نوفمبر2023

ترجمة: مراد غريبي

***

رغم وجود العديد من الفنانين والكتاب الفلسطينيين حول العالم، إلا أننا لا نسمع عنهم إلا القليل في الصحافة حول الحرب الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لذلك أجرينا مقابلة مع عالمة الأنثروبولوجيا والكاتبة يارا الغضبان، المولودة في دبي لعائلة فلسطينية لاجئة، والتي تعيش في كندا منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وهي تشرح علاقتها بفلسطين المفقودة، ولكن أيضًا الصدى العالمي لدى الشباب المعاصر الذي يثيره التخلي عن الفلسطينيين ومسألة الاستعمار.[3]3962 يارا الغضبان

* ما الذي يوحد المجتمع الفلسطيني، أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية أو غزة، وأولئك الذين يعيشون في المنفى في جميع أنحاء العالم؟

يارا الغضبان: ما يوحدنا هو تاريخ شعبنا، "النكبة" [النفي القسري للسكان العرب في فلسطين الانتدابية بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948]، جيلا بعد جيل. لقد تشكلت حياتي كلها من خلال هذه التجربة التاريخية التي مزقت أسلافي من أرضهم.

مع المنفى، كان علي أن أعيش في بلدان مختلفة، دون وضع قانوني، حتى وصلت إلى كندا - وينطبق الشيء نفسه على ملايين الفلسطينيين. الرابطة التي توحدنا ليست خيالية. إنه ملموس، حي إلى حد كبير، يمكن إثباته أنثروبولوجيا. لقد شكلتنا هويتنا الفلسطينية: حتى لو اختلفت مسارات المنفى، فإن شبكات التضامن قوية للغاية.

أتذكر مناقشة قبل بضع سنوات مع زميلة كندية من أصل يهودي. لم تستطع أن تفهم لماذا لم أضع القضية الفلسطينية جانبا عندما كان لدي حياة أخرى لأعيشها هنا في كندا. أجبت بشكل عفوي أنه طالما لم تكن هناك عدالة وتعويض عما عاشه أجدادي ووالدي، فلن أتمكن من النسيان وأنني سأظل مرتبطة بتاريخهم. في وقت لاحق، عندما كانت تقوم بحملة إلى جانب حركات السلام والتضامن مع القضية الفلسطينية، أخبرتني كم دفعتها مناقشتنا إلى التفكير.

* في كتابك ("أنا أرييل شارون" مذكرة محبرة "Mémoire d’encrier"، 2018)[4]، لديك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يتحدث وهو في غيبوبة. أنت تجعلينه يدرك التوازي بين الصدمة التي عاشها مجتمعه في المنفى وتلك التي عاشها و يعيشوها الفلسطينيون. لماذا يبدو من الصعب اليوم تحديد مصير مشترك؟

يارا الغضبان: أنا أميز بوضوح شديد بين الطبقات المؤسسية والحكومات من جهة، والشعوب من جهة أخرى. لطالما تميز تاريخ هذه الأرض بالتعددية. نحن موجودون بين ثلاث قارات من العالم القديم، مرت الهجرات البشرية الأولى عبر فلسطين، وأنا فخور بهذا التعقيد الذي يميزنا. أعتقد أن الأيديولوجية الصهيونية سعت إلى بناء هوية فريدة، ليس فقط تجاه الفلسطينيين، ولكن أيضا تجاه الإسرائيليين. لممارسة ذلك، كان من الضروري بناء الجدران ونقاط التفتيش والعيش في الحرب وجنون العظمة. لكن هذه الهوية الفريدة مختزلة للغاية: فهي ليست تجربة الشعب اليهودي ولا تجربة الشعب الفلسطيني. لقد كنا دائما معا، علينا أن نبدأ من ذلك. الاستمرار في العيش معا هو الحل الوحيد الممكن. وأرى جيلا جديدا من الشباب الذين يهتمون بالنضال من أجل العدالة ويؤكدون أن هويتهم اليهودية لا تختزل في دولة إسرائيل. إنه أمر صعب وشجاع، لكنه المستقبل. كما تتحمل المؤسسات الغربية نصيبها من المسؤولية عما يحدث اليوم، وعن الانتهاكات العديدة للقوانين الدولية التي صاغتها هي نفسها والتي هي أول من يتغاضى عنها. إذا كان العالم كله يحشد من أجل القضية الفلسطينية، فذلك لأن جميع أولئك الذين عاشوا سياقات الاستعمار يدركون الآليات السياسية ويقولون لحكوماتهم "ليس باسمنا يمكنكم القيام  بذلك". هذا ما يشجعني اليوم. ويجب على الحكومات أن تكون منتبهة جدا لجميع الشباب الذين يرفضون توريثهم و توريطهم في الإرث العنيف الذي يعيشون فيه وأن يعيدوا إنتاجه. نحن نعيش في نقطة تحول.

* كيف تصفين المجتمع المدني في فلسطين؟ ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه في المستقبل؟

يارا الغضبان: منذ فترة طويلة، هناك انفجار للفن الفلسطيني يعكس تنوع التجارب، بين أولئك الذين عاشوا الحصار والاعتداءات على الأرض، وأولئك الذين عاشوا في الخارج. هذه التعبيرات الفنية أساسية لتخيل مستقبل مختلف، وأنا حريصة جدا عليها. في الحركات الثورية التي أعقبت تاريخ الاستعمار، كانت الثقافة دائما في خدمة الثورة. قبل سنوات، أخبرتني الموسيقية، كاميليا جبران، أنها تعرضت أحيانا لانتقادات بسبب عزفها موسيقى لم تكن سياسية بما فيه الكفاية عندما كانت تعيش تحت الاحتلال في الضفة الغربية. أجابت أنه من الصعب تخيل كيف ستكون فلسطين إذا تم تحريرها يوما ما دون الاعتناء بتراثها الثقافي - لأنه بخلاف ذلك، كيف ستكون إعادة بناء بلد جديد؟ الثقافة هي الخيال. إذا افتقرنا إلى الخيال، فإننا نعيد إنتاج نفس السياقات.3963 يارا الغضبان

* هل نرى حقا أن الحلين، حل الدولة ثنائية القومية وحل الدولتين جنبا إلى جنب، يتحركان بعيدا عن بعضهما البعض؟

يارا الغضبان: لا أعرف ما هو الحل السياسي للغد، لكنني أعتقد أننا يجب أن نبقى منفتحين وألا نضع العربة أمام الحصان. قبل أن نتمكن من بناء حل سياسي، يجب علينا تعزيز سلسلة التضامن، وإجبار حكوماتنا على تغيير خطابها لأن خطابها لم يعد يعمل. ربما يكون من دواعي فخري ككاتبة أن أبقى منفتحة. على نطاق أوسع، نحتاج إلى توسيع خيالنا وقبول أننا نتجه نحو شيء جديد. المهمة الأولى التي يجب القيام بها هي إعادة بناء العلاقات، وتغيير نظام العالم - وإلا فإننا نخاطر بإعادة إنتاج غزة في جميع أنحاء هذا الكوكب. من المغري جدا أن نقول إن معاناتنا استثنائية، لكن لا، إنها جزء من تاريخ طويل من المعاناة الإنسانية والصراعات المشتركة، التي يجب أن نكون قادرين على توحيدها. قد يبدو الأمر طوباويا، لكن جيلا كاملا نشأ دون أن يعيش اليوتوبيا في القرن العشرين. أنا ولدت بعد اغتيال جميع الشخصيات الثورية العظيمة. يبدو الأمر كما لو أننا مقتنعون بأن اليوتوبيا لم تعد ممكنة، وأننا بحاجة إلى التركيز على قدرتنا الفردية على البقاء على قيد الحياة في النظام. إذا كنا حيث نحن، فذلك لأن جيلا كاملا عاش بدون أحلام، في عالم ساخر للغاية. عليك أن تفكر في شيء آخر.

* هل هذا دورك ككاتبة: تخيل بناء مشترك جديد في مواجهة الأزمة الحالية في غزة؟

يارا الغضبان: أثناء العمل على رواية "أنا أرييل شارون"، أدركت أن هذا الرجل ولد في فلسطين، عندما لم تكن دولة إسرائيل موجودة بعد، وأنه بالتالي فلسطيني. تساءلت عما كان سيكون مصيره لو اختار أن يبقى كذلك وأن يبني فلسطين بتاريخه، بهويته اليهودية. وينظر إليه الآن على أنه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، ولكن كان من الممكن أن يكون شيئا آخر. يجب أن يفسح الأدب المجال لهذا النوع من الممارسة. لا يمكنك أن تسأل عن الأطفال المصابين بصدمات نفسية في غزة، ولا يمكنك أن تسأل عن الأشخاص الذين فقدوا عائلاتهم بأكملها، والذين لا يستطيعون العثور على الطعام أو الماء، لذا فإن الأمر متروك لي، أنا التي تعيش في مكان آمن، للقيام بذلك. أعتقد أنه يمكننا إدخال مفردات جديدة في مجال الكلمات المنطقية. أعمل حاليا على رواية جديدة تتعارض مع تيار الخطاب المتوقع من الفلسطينيين، من أمر التخلي، والاستسلام، كما لو كان علينا الخضوع بعد خسارة المعركة. في هذه الرواية، أجرؤ على عكس الخطاب وتخيل سياق تكون فيه فلسطين هي المكان الوحيد الذي لا يزال بإمكان المرء العيش فيه على هذا الكوكب. أردت أن أخلق عالما موازيا لإظهار أن عالما آخر ممكن إذا كانت لديك الشجاعة لتخيله. كثيرا ما يسألني الناس كيف لا يزال بإمكاني الحفاظ على الأمل، لكن الأمر بسيط للغاية، هذا كل ما لدي! وإلى جانب ذلك، أصبح الأمل مشروعا سياسيا للغاية في العالم الذي نعيش فيه. أعتقد أنه في مرحلة ما ستكون هناك كتلة حرجة من الأشخاص الذين يأملون والذين سيكونون قادرين على التصرف وفقًا لذلك.

* لماذا، على الرغم من الانتقادات الإسرائيلية العديدة وبينما الوضع يتدهور، لا توجد دول عربية (مصر والأردن وغيرها) تعرض استقبال اللاجئين الفلسطينيين؟

يارا الغضبان: الوضع ليس جديدا، والدول العربية تستضيف الفلسطينيين منذ 75 عاما. أرفض الدخول في منطق الجدل الذي يرى سلسلة كاملة من الردود والردود المضادة تتكشف. لماذا في المقام الأول لا تحترم الدول الغربية مئات قرارات الأمم المتحدة لحماية المدنيين؟ ولو تم احترامها، لما طرح السؤال حتى. لماذا تطلب منا أن ننسى من أين أتينا؟ بدلا من ذلك، دعونا نفكر في كيفية العيش معا. القادة يواجهون الآن الجدار، وهم غير قادرين حتى على طلب وقف إطلاق النار، إنهم يواجهون مفارقاتهم. لا أريد أن أكون جزءا من هذا الإطار، الذي  يؤدي إلى  لا شيء.

***

انتهى

ترجمة: أ. مراد غريبي

 ..............................

[1]  ولدت عام 1976 في دبي لعائلة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا) هي عالمة أنثروبولوجيا فلسطينية كندية وعالمة  موسيقى عرقية وروائية ومترجمة وكاتبة مقالات.

[2]  صحفية، خريجة المدرسة الفرنسية  للدراسات العليا في علوم الإعلام و الاتصال، مع خبرة دولية في مناطق النزاع والأزمات الإنسانية.

[3]  https://www.philomag.com/articles/yara-el-ghadban-ma-vie-ete-modelee-par-lexperience-historique-de-la-nakba-qui-arrache

[4]  حاصلة على جائزة التنوع- bleu  Métropolis- ميتروبوليس بلوو عن مجلس فنون مونتريال سنة 2019

أطلقت مكتبة الكوكبة (La Pléiade) طبعة جديدة من أعمال سبينوزا الكاملة. تم تقديمها وإخراجها من قبل السبينوزي البارز برنارد بوترات[1] Bernard Pautrat، وهي موجهة إلى كل من المطلعين والأشخاص المبتدئين. دعونا نلقي نظرة على الفيلسوف الرمزي الذي تألق فكره بشكل مشرق من خلال هذا الحوار الذي نشرته مجلة المَبْسَط الفرنسية (LE COMPTOIR) مع السبينوزي الفرنسي برنارد بوترات يوم 10/11/2023 [2] حول هذا الإصدار الجديد الخاص بأعمال الفيلسوف باروخ سبينوزا:3922 Visue

Le Comptoir : بادئ ذي بدء، كلمة عن نشأة هذا المجلد. تحتوي مجموعة La Pléiade، بالفعل على مجلد من أعمال سبينوزا الكاملة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقراء الوصول إلى عدد لا يحصى من طبعات أعماله. إذن كيف خطرت لك فكرة تقديم طبعة جديدة من عمله الكامل؟

برنارد بوترات: لم أكن أنا من جاء بالفكرة، ولكن مدير مجموعة Pléiade، هيج براديي Hugues Pradier. واعتبر أن حجم ما يسمى بالأعمال الكاملة التي نشرت في عام 1954 قد بلغ منتهاه، وهو حكم كان مشتركا على نطاق واسع إلى حد ما في المجتمع السبينوزي الناطق بالفرنسية. في الواقع، تقدمت طبعة نصوص سبينوزا بشكل كبير للغاية، وتم إثراء رؤيتنا للسيرة الذاتية والعمل بشكل كبير، وكانت الترجمات قد تقدمت في العمر إلى حد كبير.

لذلك اتصل بي هيج براديي Hugues Pradier لإبلاغي بنيته نشر طبعة جديدة، هذه المرة كاملة حقا (بما في ذلك: ملخص قواعد اللغة العبرية Précis de grammaire de la langue hébraïque)، حيث تحتوي على بعض الترجمات التي نشرتها بالفعل (الأمر متروك لي لمراجعتها)، وأيضا على ترجمات جديدة عهد بها إلى المتعاونين وأنا معهم (مثل المراسلات). وطلب مني أن أتولى إدارة هذا المشروع.

Le Comptoir : يجذب أعمال سبينوزا الآن اهتماما يتجاوز دوائر المدارس والجامعات (مقالات ومقاطع فيديو على الشبكات الاجتماعية، وأحيانا بين الناشطين السياسيين في الحركات الاجتماعية). علامة ماذا في رأيك هذا الجنون؟

برنارد بوترات: سيكون عالم الاجتماع أكثر قدرة على الإجابة على هذا السؤال، لأن هذا الجنون متنوع للغاية. إن الاهتمام الذي يبديه المشتغلون (الأساتذة والطلاب والباحثون) ليس هو نفسه اهتمام عامة الناس، الذين تقدم لهم العديد من الكتب والمجلات نسخا مبسطة من "السبينوزية " التي تشترك في أنها "تبيع". سبينوزا، رسول الفرح والرغبة والجسد، مدرب التنمية الشخصية، ولكن أيضا سبينوزا متمرد ضد القوى، ضد أديان الكتاب، ضد الله، كل شيء جيد لتغيير فكر سبينوزا إلى سلعة مرغوبة. ثم يا لها من علامة تميز، أن تكون قادرا على التحدث عن سبينوزا والأخلاق كما لو كان المرء قد قرأها: "أنا أحب سبينوزا!"، لاشك سوف تمر هذه الموضة.

يبقى أولئك، الذين غالبا ما يكونون "أفرادا" بسطاء، ينبع حماسهم مما اكتشفوه، أثناء قراءة سبينوزا، وهي أداة يمكن أن تكون مفيدة لهم في الحياة، ولكنها ليست جنونا، إنها متعة العيش والعمل في شراكة ممتازة.

Le Comptoir : إن تاريخ استقبال سبينوزا جعله أحيانا فيلسوفا محافظا وأحيانا فيلسوفا للثورة (ماركس Marx الشاب، لويس ألتوسير, Louis Althusser، ومؤخرا توني نيغري[3] Toni Negri). كيف تعرف سبينوزا سياسيا؟

برنارد بوترات: هذه المعارضة البسيطة (محافظة/ ثورية) لا تكاد تكون فعالة. إن أطروحته السياسية هي الإجابة الوحيدة الموثوقة على سؤالك. لا يسعى سبينوزا إلى الحفاظ على أي شيء فيه، ولكن لبناء أفضل دستور ممكن لكل دولة، سواء كانت ملكية أو أرستقراطية أو ديمقراطية. لذلك فهو يتطلع إلى المستقبل، وإلى مستقبل الحرية، لأن الكمال سيحكم عليه بدرجة الحرية التي يتمتع بها المواطنون. في الطريق، يعلن أن تفضيله الشخصي سيكون للنوع الثاني من النظام الأرستقراطي الذي شكله للتو. ولكن، بما أن الأغنياء هم على ما هم عليه، فإنهم لن يفشلوا في إفساد هذا النظام، بحيث يقع تفضيله في نهاية المطاف على النظام الديمقراطي. لسوء الحظ، توفي سبينوزا قبل أن يتمكن من كتابة الدستور. لا يهم: على أي حال، يملي العقل أنه يجب تغيير الوضع وإدخال الدستور الجديد.

Le Comptoir : يربط البعض بين سبينوزا وتيار الفلسفة المادية. ما رأيك في هذا التوصيف؟ هل يمكن أن نقول إن سبينوزا فيلسوف مادي، على الرغم من أن أنطولوجيته تتسم بسمتين: الامتداد، الذي يمكن بالتأكيد تشبيهه بالمادية، ولكن أيضًا بالفكر؟

برنارد بوترات: أولئك الذين يلتزمون بهذا الطرح عمومًا يتمتعون بنوايا حسنة، لكنني أجده لا يمكن الدفاع عنه. سبينوزا ليس ماديا أكثر مما هو مثالي (لاستخدام الزوجية المفضلة حسب التقليد الماركسي). إن القول المادي يفترض مسبقا أولا وقبل كل شيء أننا نحدد "الامتداد" و"المادة"، وهو أمر غير بديهي، وثانيا أن سبينوزا هو بطريقة ما بطل التمديد، بإختزال الفكر والروح، إلى مرتبة ثانوية لتأثير الامتداد. هذا ليس هو الحال. لقد تدرب على الديكارتية، وانفصل عنها من حيث الجوهر: ليس هناك مادتان، بل مادة واحدة فقط. وهذا الجوهر الفريد اللامتناهي (وهو الله) يتجلى لنا بصفتين، الفكر والامتداد، وهما طريقتان فقط لإدراكه. وهكذا فإن الشيء يعطي نفسه لنا كجسد، كشيء ممتد، وكفكرة عن هذا الجسد، لكن هذين الاثنين في الحقيقة واحد: أنا أدرك نفسي كجسد تحت صفة الامتداد، وعقلي ليس سوى هذا الجسد نفسه المدرك تحت صفة الفكر، فكرة جسدي. وبما أن هذين الشيئين هما واحد، فلا يمكن أن يكون هناك أفضلية لأحدهما على الآخر، ولا سببية لأحدهما على الآخر.

Le Comptoir : يزعم المعلق البارع على سبينوزا، ألكسندر ماثرون[4] Alexandre Matheron، أن سبينوزا، في نهاية المطاف، يدعو إلى شيوعية العقول التي “ستعني شيوعية الممتلكات”. ماذا كان يقصد بذلك؟ فهل نجد إيحاءات شيوعية، على الأقل «شيوعية»، في تفكيره؟

برنارد بوترات: ليس هناك شك في أن سبينوزا يريد تأسيس ما يسميه ماثرون "شيوعية العقول"، من الضروري التأكد من أن المواطنين لم يعودوا يشكلون - إذا جاز التعبير- عقلأ واحدًا فقط، وبالتالي جسدًا واحدًا أيضًا. لكنني لست مقتنعا على الإطلاق بأن هذا يعني أي ملكية مشتركة، كما أن لجوء ماثرون إلى الرسالة رقم 44 لدعم بيانه يبدو غير مقنع على الإطلاق بالنسبة لي. ربما كان سبينوزا قد جاء ليدافع عن شيوعية الملكية هذه في دستوره الديمقراطي، لكن هذا مجرد افتراض. وهو يحرص في كل القضايا التي يعالجها على الحفاظ على مبدأ العدالة الذي يتلخص في عبارة: كل واحد لنفسه.

Le Comptoir : لا يزال كتاب الأخلاق، وهو عمل سبينوزا الرئيسي، نصا مخيفا وصعبا، سواء بسبب صرامته التلمودية ودقته أو بسبب بنيته التي تستعير شكلها من مقتضيات الهندسة والذي يتم تقسيمه إلى عروض وتوضيحات ومقترحات وبديهيات، إلخ. كيف يمكن التعامل معه؟

برنارد بوترات: تماما كما تتعامل مع كتاب الرياضيات، لأنه واحد: عن طريق فتحه في الصفحة الأولى والقراءة. إنه كتاب صعب، بالتأكيد، ولكن بدون غموض، لأنه يحتوي على جميع العناصر اللازمة لفهمه.

الشيء الأكثر أهمية، في نهاية المطاف، هو حالة هذا النهج: يجب أن ترغب في قراءته، والرغبة الكافية في التمسك بمجرد أن تبدأ. لا يمكن اختراع هذه الرغبة، لكنها تقدم نفسها في بعض الأحيان.

Le Comptoir : في مقدمتك، تذكر أن بعض اللاهوتيين اعتقدوا أن "الأخلاق ليست سوى كتاب مقدس آخر، بدون سلطة ". قالوا: "كتاب ضد كتاب"؟ ماذا كانوا يقصدون بالضبط؟

برنارد بوترات: هذا ليس بالضبط ما أعنيه. سرعان ما فهم اللاهوتيون، وخاصة الكالفينيون في هولندا، ولكن أيضا اللاهوتيون الكاثوليك في فرنسا وأماكن أخرى، أن اللاهوت المذكور كما هو موضح في الجزء الأول من الأخلاق قدم فكرة وجود إله لا يتوافق تماما مع إلههم، وأن بقية العمل اقترح طريقة أخرى للخلاص غير طريقتهم، الخلاص ليس بالإيمان بل بالفهم. كان هذا يعرض للخطر الشديد السلطة التي انتحلوها لأنفسهم باسم إله الكتاب المقدس. ومن هنا جاءت الهجمات التي شنوها على الأخلاق، حتى قبل نشرها، والإدانات التي أعقبت وفاة سبينوزا.

Le Comptoir : يلقي كتاب الأخلاق بظلاله على بقية أعمال سبينوزا. ما هي الكتب الأخرى التي لا تزال تتحدث إلينا اليوم؟

برنارد بوترات: أود أن أضع الرسالة اللاهوتية السياسية في المقام الأول. يكفي بيان العنوان لشرح السبب: اللاهوتي والسياسي متشابكان. أنشأ سبينوزا آلة حرب قوية لا يزال من الممكن استخدامها. إن حرية الفكر التي يطالب بها هناك هي نفسها التي يمارسها هناك: ضد الدين بشكل عام، ضد الكتاب المقدس، ضد الاضطهاد الذي يمارس باسم إله غير موجود (إله الكتاب). تقدم لنا الأحداث الجارية أمثلة كثيرة جدا على هذه التركيبات اللاهوتية السياسية التي تستعبد الشعوب. وهذا ما يفسر، بالطبع، الندرة الشديدة لترجمات هذا العمل أينما كان اللاهوتيون في السلطة.

Le Comptoir : يتضمن هذا المجلد بعض نصوص سبينوزا غير المعروفة أو المنسية، مثل كتابه "ملخص قواعد اللغة العبرية". إلى أي مدى تكمل هذه النصوص، والأخيرة على وجه الخصوص، الجزء الأكثر شهرة من أعمال سبينوزا؟

برنارد بوترات: الجديد الوحيد في هذه الطبعة، فيما يتعلق بالنصوص نفسها، هو في الواقع إدراج (ملخص قواعد اللغة العبرية) اختار المترجم والمعلق، بيتر ناهون Peter Nahon، هذه الصيغة للعنوان). لم يكن هناك سبب لعدم القيام بذلك. في الآونة الأخيرة، حاولت العديد من الأعمال التأكيد على أهمية هذا النص في فكر سبينوزا، أشارك الرأي الذي دافع عنه بيتر ناهون في ملاحظته: بناء على طلب بعض أصدقائه الذين يرغبون في تعلم اللغة العبرية، كتب لهم قواعد لا تكاد تتميز بأصالتها في كتلة القواعد التي تم إنتاجها قبله، على سبيل المثال، من قبل علماء العبرية المسيحيين.

Le Comptoir : يتضمن هذا المجلد أيضا مراسلات سبينوزا. إلى أي مدى هو جزء من العمل؟

برنارد بوترات: إنه جزء أساسي منه. تحتوي المراسلات المنشورة في عام 1677 من قبل المحررين والأصدقاء على رسائل ذات محتوى فلسفي فقط، وينطبق الشيء نفسه على الرسائل التي تم العثور عليها لاحقا، لكن سبينوزا لا يقل تفكيره في هذا عن النصوص النهائية.. في كثير من الحالات، المراسلات هي المختبر الذي يرتب فيه التفكير الذي سيجد مكانه في الأخلاق أو في أي مكان آخر. بعد أن عهد إلي بترجمة المراسلات، اخترت نشرها ليس بترتيب زمني، ولكن مصنفة بحسب المراسلين، مما يسمح لنا بأن نرى بشكل أفضل إلى أي مدى الجدل، في التبادل بينه وبين مراسليه (ولا سيما بلاينبارغ[5] Blyenbergh)، ضيق وغني وغالبا ما يلقي الضوء على بعض النقاط الصعبة في الأعمال المحررة.

وبعد ذلك، بالطبع، تتم كتابة الرسالة بنبرة مختلفة عن الأطروحة، وأكثر حيوية، وأحيانا حتى في السخرية، مما تعطينا نظرة أخرى على ما يعنيه حقا التفلسف، عندما نكون سبينوزا.

Le Comptoir : تتضمن هذه المراسلات التبادل الشهير والتعليقات بين سبينوزا وغيوم دي بلاينبارغ حول الشر. يجادل سبينوزا، في الجوهر، أنه لا يوجد شيء اسمه الشر. ماذا كان يقصد بهذه الأطروحة الاستفزازية؟

برنارد بوترات: إذا كنا نعني بالشر المعاناة، الجسدية أو العقلية، فهو لا ينكر وجودها، بالطبع، نحن نختبرها عادة، وكذلك نقيضها، الخير، في شكل متعة. إنه يتعلق بشيء آخر، الخير والشر ككيانات ميتافيزيقية خاصة تعمل في الإرادة. يبدأ كل شيء بالملاحظة التي أدلى بها بلينبيرغ، تاجر الحبوب، عند قراءته ملحق عمل سبينوزا عن ديكارت: إذا كان الله هو سبب كل شيء، وإذا كانت الإرادة الحرة، كما تدعي، غير موجودة، فعندئذ، كتب إلى سبينوزا، إما أن الله هو سبب الشر، وإلا فإن الشر غير موجود. الحل الثاني هو الحل الصحيح: في الواقع، الشر، "فيما يتعلق بالله" أما بالنسبة لنا نحن البشر، غير موجود.

هذه فرصة لسبينوزا لتعزيز مفاهيمه عن النفي والحرمان والكمال، وتحليل حالة الإنسان الأول آدم في ضوئها. عندما يقرر آدم أن يتذوق الفاكهة المحرمة ("الإرادة الشريرة")، فهو مصمم على القيام بذلك وفق أمر الحرية الممنوحة من الإله، حيث لا يستطيع أن يخطئ. حتى أن ما يفعله، فهو شرير في المظهر، ليس في الحقيقة. من المستحيل بالنسبة لي إعادة إنتاج الحجة في حدود هذه الإجابة، والطريقة الوحيدة لسماعها حقا هي (مرة أخرى) قراءة هذا التبادل، وهو مثال رائع على كرة الطاولة الفلسفية.

انتهى

***

مختارات (خاص بالمثقف)

ترجمة: أ. مراد غريبي

...........................

[1] صنع برنارد بوترات اسما لنفسه لأول مرة من خلال عمله على نيتشه، والذي تعود أصوله إلى ندوة حول الاستعارة التي عقدها دريدا في المدرسة الوطنية للعلوم (ENS) في نهاية ستينيات القرن العشرين، لكن بوترات اشتهر اليوم بترجمته كتاب الأخلاق لسبينوزا، كما ترجم رسالة حول إصلاح الفهم تحت العنوان الأكثر حرفية إصلاح العقل.

[2] https://comptoir.org/2023/11/10/bernard-pautrat-spinoza-voulait-instaurer-un-communisme-des-esprits/

[3] أنطونيو نيغري فيلسوف ورجل سياسي إيطالي

[4] فيلسوف فرنسي متخصص في فلسفة سبينوزا

[5] تاجر حبوب ولاهوتي هولندي عاصر زمن سبينوزا

في صباح شديد البرودة والذي ينذر بجو قارس يستوطن الأمكنة. اتجهت مع صديقتي "نور الهدي" لإحدى الأندية المغلقة بمدينتنا لاستقبال رواد الحركة النسوية. أعلم عزيزي القاري عزيزتي القارئة أنك تنتظر معرفة الشخصين اللذين قدما في نهاية لقائنا الأول، سأخبركم بهما أنهما العالم الجليل "رفاعة رافع الطهطاوي" وزوجته المصون. وهما الآن معنا أثناء الإعداد للحفل حيث دار حوار ممتع بين الطهطاوي وأستاذي الجليلين:

- دكتور "حليم عثمان": إن جهودكم المبذولة لإصلاح وضع المجتمع والإعلاء من منزلة المرأة وتحسين أوضاعها من خلال التأكيد على أهمية تعليمها وتثقيف عقلها بالمعارف واضحة للعيان، ولقد كان "د. نجيب راشد" أول من طرح على الجميع ضرورة مناقشة قضايا الحركة النسوية بما يتناسب مع مستجدات العصر وذلك عام 2019م.

-" ودكتور "نجيب راشد" للطهطاوي: إنه لمن بالغ السرور أن ترافقنا في بدء تدشين حركة نسوية شرقية دولية. نعم دكتور حليم، وإن كنت أفضل استخدام لفظ حركات نسوية؛ لأن النسوية هي مجموعة من الموجات ومجموعة من التيارات ذات الآراء المتباينة، لذلك لابد أن يكون لنا أطروحة شرقية تتناسب مع قضايا ومشكلات المرأة الشرقية. وفي الأجواء المليئة بالألفة والبهجة والنقاش الممتع؛ وإذا بالسيدة أمينة تتحدث مع الطهطاوي.

 - السيدة أمينة: ترى ما السبيل عالمنا الجليل لتحريري من قهر واستبداد سي "السيد" ؟

- رفاعة الطهطاوي: في بدء الأمر أرحب بكِ سيدة "أمينة" لقد كنتِ أنت وكل امرأة شعرت بالقهر والمذلة من قبل زوجها أو المجتمع من أهم القضايا التي تناولتها في كتابي "المرشد الأمين"، فقد كنت أول من يناقش أصول التربية، وضرورة تعليم الأولاد والبنات وطرق إرشادهم، حيث أؤمن أن تعليم الفتاة القراءة والكتابة والحساب سيزيدها أدبا وعقلا وتحسن معاشرة زوجها، وكذلك اكتساب المرأة للمعارف سيمكنها من أن تحصل على عمل يتناسب مع طاقاتها، وأؤكد دوما أنه إذا كانت البطالة مذمومة للرجل فهي أشد خطورة على المرأة.

- ولكن قوبلت بالنقد من قبل المجتمع آنذاك، حينما ناديت بتعليم الفتاة أسوة بالصبي، فهناك من رأى أن ذلك بدعة أو أمر يخالف تعاليم الدين.

- الطهطاوي: نعم ابنتي "آمال" من أجل ذلك استندت للرد على المخالفين بالرجوع إلى الأحاديث النبوية التي تؤكد الدعوة لتعليم النساء في زمن الرسول صلّ الله عليه وسلم فقد ورد عنه أنه قال "للشفاء أم سليمان: "علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتاب، أي الخط والهجاء"، وهذا الحديث دليل على أن تعلم النساء الكتابة جائز، وأن اشتراكهن مع الرجال لا بأس به؛ حيث اشتركن معهم في أصل الطبائع والغرائز. -كانت في جميع حوارات عالمنا الجليل تنظر إليه زوجته ووجهها مشرق بابتسامة تضئ الكون تغمرها سعادة لا متناهية لكونها تقف بجواره، أنني ألمح في عينيها الشعور بالدفء والأمان في كون ذلك الرجل رفيق دربها، شتان بينها ويبن السيدة "أمينة" فقسوة زوجها أماتت زهور الفرحة من قلبها لتنبت بدلا منها أشواك الحزن والوحدة لتبقي في حالة من الانكسار والتشتت المستوطن بداخلها وها هي تستمر السيدة أمينة في طرح المزيد من الأسئلة على عالمنا الجليل.

- السيدة أمينة: ماذا عن اشتغال المرأة بالمناصب السياسية العليا عالمنا الجليل؟

- الطهطاوي: موقفي من عمل المرأة بالمناصب السياسية العليا أستند فيه إلى الموقف الشرعي الذي يمنع من ذلك، حيث قضت شرعية سيدنا محمد صلّ الله عليه وسلم إلى قصر السلطنة على الرجال واستبعاد النساء، وأما القضاء فليس لهن فيه حظ ولا نصيب.!

- السيدة أمينة: لماذا وقفت الشريعة المحمدية هذا الموقف من المرأة؟

- الطهطاوي: سأذكر لكِ الأسباب ولجميع الحضور الكريم، أن النساء تتسم بالنقص في الأمور الحسية مقارنة بالرجال؛ فلا يستطعن تحمل مشقة المملكة الثقيلة.

- ولكن عالمنا الجليل لقد تقلدت كثير من النساء اليوم أعلى المناصب السياسية وأثبتت فيها الجدارة ومازالت تثبت النجاح والتفوق مع مراعاتها لشئون منزلها.

- الطهطاوي: لا أنكر أنه في استطاعة النساء أن تحصل على أسباب القوة فتزاحم الرجال، ولكنه يتوقع ألا يكون ذلك في صالحها، ولا في صالح صيانتها الواجبة على الرجال. وعلى أية حال في هذه الأطروحة ستتباين الآراء بين مؤيد ومعارض وهذا متوقع.

-وفي أثناء الحوار نجد السيدة أمينة شديدة الإنصات والاستماع لآراء الجميع، فقد كانت تسارع في طرح الأسئلة على عالمنا الجليل لعلها تجد الإجابة والحل في التحرر من عزلتها ووحدتها بعد أن سجنها سي السيد في قفص من الاستبداد والمذلة.

- السيدة أمينة: هل تؤمن بالدعوة للمساواة بين الجنسين؟

- الطهطاوي: قد خلق الله المرأة للرجل ليبلغ كل منهما من الأخر أمله، ويقتسم معه عمله، وجعل المرأة تشارك زوجها أفراحه، وقرينة في الخلقة، تعمل على رعاية أبنائه، والمسلية له في أيام حياته، فالمرأة وإن كانت مخلوقة لملاذ الرجل ففيما عدا هذه الملاذ مثله سواء بسواء، في الأعضاء والحواس الظاهرة والباطنة والصفات، وهيئتهما مستوفي الترتيب والتنظيم وتناسب الحركات والأعضاء ومشابهتهما في الشكل معلومة، فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق في هيئة كل من الرجل والمرأة لم يجد إلا فرقا يسيرا يظهر في الذكورة والأنوثة فهما موضع التباين والتضاد. حيث أن الأنوثة ربما نشأ عنها ضعف في بنية المرأة، إلا أن هذا الضعف عند النساء يعوضه قوة في القدرات والإمكانيات مثل القوة في الصفات العقلية، وحدة الإحساس والإدراك على وجه قوي قويم، وذلك ناشئ عن نسيج بنيتها الضعيفة، فترى قوة إحساس المرأة وزيادة إدراكها وليس ذكاؤها مقصورا على أمور المحبة والوداد، وأعيد وأؤكد أنه لا يوجد قوى ولا فضائل قد انفرد وامتاز بها جنس الرجال عن النساء، فالفضائل إنسانية، ولكن على وجه مختلف في طباعهن. وهذه الصفات مثل الشجاعة والسخاء، والعفو.. الخ) عامة في جميع أمم الدنيا وقبائلها وأحيائها، وذكورها وإناثها. بل إن "ضعف البنية" لدى المرأة ليس أمرا "طبيعيا" ملازما لجنس النساء في كل زمان ومكان، بل أراه ثمرة الأوضاع البيئية والاجتماعية والتربوية، من الممكن عند الاقتضاء، تغييرها، ومن ثم إحلال القوة والشجاعة البدنية محل هذا "الضعف البدني.

- وأخذت تراودني الأفكار بداخلي عن حديث عالمنا الجليل أن ضعف البنية لدى النساء نتاج الأوضاع البيئة والاجتماعية والتربوية، تجسد صدق قوله اليوم فقد شاركت السيدات في  مجالات متعددة من خلال تدربيهن،  واستطعن أن يحققن النجاح. وإذا بالسيدة أمينة تطرح سؤال على عالمنا.  

- السيدة أمينة: وماذا عن تعدد الزوجات خاصة ونحن في مجتمعنا الشرقي ينظر الرجال إلى تعدد الزوجات باعتباره حقاً شرعياً لهم، دون الحديث عن كيفية تحقيق العدل المرتبط بالتعدد؟ يبدو على ملامح السيدة أمينة الخوف والقلق من الإجابة عن موضوع التعدد.

- الطهطاوي: إن قضية تعدد الزوجات من القضايا التي تثير جدل إلى يومك هذا، وإنني رفضت فكرة تعدد الزوجات، وهذا لا يعني أنني احرم التعددية؛ ولكن أؤكد أنه أمر مشروع ولكنه مشروط ومحدد في الشريعة الإسلامية؛ لأن الأصل في الزواج بواحدة وكذلك لما يترتب على التعدد من آثار سلبية على الأسرة والأبناء. وهنا تشاركنا الحديث زوجة الطهطاوي .

- زوجة الطهطاوي: أود أن أساند السيدة "أمينة" وكل امرأة عانت من ظلم ووحشيه النموذج المتحكم من الذكور، وخاصة حينما يتزوج الرجل على المرأة تشعر مع زواجه بأخرى بنوع من الحكم عليها بالإعدام مع فقدان الشعور بالأمان معه. لقد كان زوجي من أشد المدافعين عن حقوق المرأة، ففي وثيقة عقد الزواج التزم فيها بعدم الزواج عليا؛ فإذا تزوَّج بزوجة غيري بمجرد العقد أصبح خالصة بالثلاثة كما أنني أحيا معه داخل أسرتنا على المحبَّة والمودة والأمانة والحفظ له ولبيتي وللأولاد.

- السيدة أمينة: أتوقع أن مثل ذلك الأمر سيعد قانوناً يحميني ويحمي غيري من النساء من ظلم سي السيد وأشباهه من الذكور، الذين يظنون أن التعدد حقٌ مكفول لهم بنص القرآن من أجل خدمة رغباتهم الدنيئة. والنظر للمرأة باعتبارها أداة لمتعتهم دون النظر إليها بكونها رفيقة دربه. - نور الهدي: الحق أن وثيقة عالمنا لابد أن تكون سند يعتمد عليه جميع أنصار حرية المرأة.

- هل هذا الشرط في وثيقة عقد الزواج سيحقق بالفعل المودة والرحمة والتفاهم بين الزوجين داخل كيان الأسرة؟ مع ملاحظة أنه يجب علينا عدم إغفال أن العقد ينص بعدم الزواج بامرأة أخرى مع ضرورة التزام الطرف الآخر أي الزوجة برعاية الزوج والأبناء؛ وكذلك لا يمكن أن ننكر وجود بعض النماذج من النساء يكن سبب للمشكلات الزوجية فما السبيل لاستقرار الأسرة. - د. حليم: صدقتِ يا تلميذتي، فوثيقة عقد الزواج لعالمنا الجليل تؤكد على رعاية كلا الطرفين للآخر، فحق المرأة الشعور بالأمان وحق الزوج في رعاية أسرته.

- د. نجيب: نعم كل ذلك صحيح، كما أنه لا ينبغي أن نتجاهل أن بعض النساء نموذج من زوجة سقراط في التسلط على زوجها، وهنا تحدث الجميع عن مواقفها المتسلطة مع سقراط.

- وهنا تذكرك صورة زوجة سقراط ،وهي جالسه بجواري بثوبها الأسود وعلامات الحزن تكسو وجهها وتتمتم لا يوجد فائدة؛ لحديث سقراط عنها ووصفها بالنكدية . وفي جو من البهجة وتبادل الحديث مع الضحكات في مناقشة ممتعة مع عالمنا الجليل وزوجته، قد قاطع متعة الحديث فاطمة ابنة دكتور حليم  من أجل كنزي، فهي تريد محادثة جدها، فكما يقول ذلك المثل الشعبي "أعز الولد ولد الولد". ويبدو لي أن علاقة الآباء والأجداد ببناتهن تهدم خرافة الأسطورة النسوية عن استبداد النظام الأبوي.

***

د. آمال طرزان

..........................

تم الرجوع للمراجع: 

- رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين للبنات والبنين،ط1، تقديم منى أحمد أبوزيد، دار الكتاب المصري، القاهرة،٢٠١٢م.

- محمد عمارة: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، ط٣، دار الشروق، القاهرة،٢٠٠٧م.

فاطمة مراد شاعرة وباحثة لبنانية مقيمة في إيران. تكتب قصيدة النثر والومضة والهايكو. نالت مؤخرا 2023 شهادة الماجستير عن رسالتها الموسومة:  شعر الهايكو ومرتكزاته البوذية، دراسة تحليلية في فكر هايدجر. كان لنا هذا الحوار معها لتسليط الضوء عن الكثير من القضايا منها ما علاقة الهايكو والفلسفة البوذية بالفيلسوف الألماني مارتن هايدجر وآفاق قصيدة الهايكو ومعايير كتابتها والكثير من الاسئلة الأخرى:

س١: من هي فاطمة مراد؟

ج: فاطمة مراد من لبنان، مقيمة في إيران. مجازة في الأدب الفارسي، وماجستير -حديثاً- في فلسفة الدين، من جامعة الأديان/ إيران. لدي محاولات لكتابة الهايكو، أكتب في الشذرات، لدي ديوان منجز، نشر دار الدراويش/ بلغاريا، وديوان لقصائد نثرية، لم يُنشر بعد، بعنوان 'بهار هندي'.

س٢: مامدى تأثر هايدغر بالفلسفة الشرقية؟

ج: هناك رأي للشاعر، والمترجم، الفلسطيني، الراحل محمد الأسعد، يقول فيه:

- فوجئت في قراءاتي لفلسفة هايدغر، ونيتشه، بأن أفكارهما تكمن في الفلسفة الشرقية. ذلك من خلال الوجود الصادق، والزائف، كما لدى هايدغر، وفكرة نيتشه عن الإنسان القوي، والذي هو الحكيم الطاوي في"علوه على الخير والشر". تأثر هايدغر بالفلسفة الشرقية يؤكده "ديفيد تشاي" أستاذ الفلسفة في جامعة تورنتو/ كندا، لا سيما بالطاوية، من خلال مفهوم المنفتح، حيث تظهر حقيقة الوجود، فالمنفتح هو الإنارة لديه، الفضاء المستقل، الخالي من الموانع، الذي يسمح بالتجلي، والإنكشاف، لمُنجلٍ حر، ينجلي ويستر نفسه، كصدى للطاوية حول الحرية. إن مقاربة هايدغر للمطلق، عبر القلق الأصلي، الذي تنكشف من خلاله الدازاين على نفسها في التعالي، تشبه إلى حد كبير الصحوة في بوذية الزن، من خلال التأمل الصارم، الذي تزول من خلاله ثنائية التفكير كلياً، وإرادياً، في ذهن السالك.

يقول هايدغر: يوجد تفكير أكثر دقة من التفكير النظري.

يقول لاوتسو: الطاو بعيد، وليس بعيداً، كيف أعرف؟ أنظر في داخلي.3851 فاطمة مراد

س٣: ما علاقة الشعر بالفلسفة وما علاقة الهايكو بفلسفة هايدغر موضوعة رسالتك في الماستر؟

ج: ارتكز الفكر في الفلسفة الغربية على الأسطورة -مع الإغريق القدماء- فكانت العلاقة ما بين الشعر والفلسفة علاقة تماه، عادت وتوترت مع سقراط، وأفلاطون، بقيام مفهوم العقل، لسيطرة الفلسفة على قول الحقيقة. ظهرت الرومانسية في أوروبا، في القرن الثامن عشر، كرد فعل على التيار الكلاسيكي السائد، المنطلق من سلطة العقل، بإيحاء من الحضارتين اليونانية، والرومانية.

اعتُبر الشعر في النظرة الإغريقية بأنه إلهام، واعتبره أفلاطون محاكاة للواقع، أما أرسطو فقد بدّل مفهوم المحاكاة، وحوّله من التقليد لمظاهر الحقيقة، إلى خلق يُعيد تمثيل الواقع. يعتبر هايدغر بأن الشعر يقول المقدس، والذي لا يشير لأية دلالة دينية، وإنما ما تمت تسميته من طرف الشعراء، والمفكرين، الممتنع عن القول العلمي، والمنحصر.

أما العلاقة ما بين الهايكو، وفلسفة هايدغر، فتتجلى من خلال ما يربط الشعر بالفكر، من منطلق النظرة الوجودية، والبوذية، بمعنى الفكر المتأمل، المنصت الذي يقيم توحداً ما بين الواقعي، والعقلي، فيقول الشعر الوجود بلسان الشاعر، الناظر في الكليات على كنهها. هي في الكيفية لإدراك الذات الداخلية، واتحادها مع الكون، للوصول إلى حقيقة الطبيعة، عبر القول الشعري.

 س٤: كيف تنظرين إلى التحولات الحاصلة في الساحة الشعرية العربية نحو كتابة الهايكو؟

ج: أستطيع القول بأن كتابة الهايكو ليست السهل الممتنع، الهايكو يحتاج إلى عمق فلسفي، ثقافي، يحتاج إلى المهارة في الأسلوب، يحتاج إلى التجربة، والخبرة، باشو -أحد مؤسسي الهايكو- بأن قصيدة الهايكو المدرَكة جيداً نادرة. هناك أسماء عربية، أقرأ لها في فن الهايكو، منها الأستاذ محمود الرجبي، المعجبة أيضاً بقصصه القصيرة، أيّما إعجاب!

س٥: ما هي معايير قصيدة الهايكو الجيدة بنظرك؟

ج: أظن هنا أننا نستطيع أن نوضح الإلتقاء، والإختلاف، على ضوء آراء علماء الجمال، الذين حددوا فنية، وجمالية الهايكو، ومراعاتها جميعاً يكفل نجاح الهايكو، من خلال بنيته الحدسية، والنهج الذي يهيء للتجربة، والتحرر من سطوة الزمكان، والمعاناة للتعبير عن الإستبصار... الهايكو يحتاج إلى الإرتباط بالذات الداخلية، لحيازة التجربة المستعادة على الدوام.

س٦: ما هي نقاط الالتقاء والإختلاف بين الهايكو العربي والفارسي؟

ج: إنطلاقاً من التراث، إذ يمتاز الشعر العربي بأنه الكلام الموزون، الدال، ويمتاز الشعر الفارسي بميزتي الشعر القصصي، والشعر الصوفي، والشهنامة، والمثنوي، خير ما نستدل بهما، في هذا المجال، ما يُقرّب الشعر الفارسي إلى روح الهايكو، بنفاذه صوفياً إلى باطن الشيء.

س٧: يربط الكثيرون الأدب النسوي بحركة تحرير المرأة من سطوة الذكورية برأيك لماذا نجد ندرة نصوص الهايكو العربية النسوية حول هذا الموضوع؟

ج: يعبّرون عن الهايكو بأنه 'البيان العاري' لهذا يحتاج في معالجته للمسائل الإجتماعية، إلى قوة العاطفة في الكلمة، حيث أحد مزايا هذا النهج، كما لاحظ هيوز " أن هناك نوع من القوة يتحصل من التعبير عن العاطفة، مرة بعد أخرى، عبر الصورة المناسبة وحدها"

إذن لطرح المواضيع الإجتماعية هايكوياً، لا بد من اتخاذها للوحات تصويرية، تضاهي لوحات 'فان غوغ' في تصوير ليس الشيء، وإنما ماهية الشيء، والموضوع. . . فهل يفلح الهايكو في نقل هذا؟3852 فاطمة مراد

س٨:  ماهي أبرز النتائج التي توصلت إليها في رسالتك الأكاديمية (الماجستير)؟

ج: ما استنتجه، هو المواءمة ما بين الإنصات، والتأمل، وكأن الهايكو هو الكيفية التي تحمل السر، والحقيقة، بعد أن يصل إليها الإنصات الهايدغري. هدف التأمل لدى شعراء الهايكو، والإنصات لدى هايدغر، هو من أجل المشاركة الكونية، من دون وسائط، ومن أجل استخدام المحتوى الشعري كموقف عملي.

س٩:  نصوص هايكو تعتزين بها من إبداعك؟

ج: بعض من نصوصي:

حتى الماء

يصخب أمام خيبتي

كم أنا وحيد!

*

يرمي شلالاته

كم هو غني!

وأفقد نبع عيني

*

أكان يجب أن يمر عليها

زارع الضباب

ويرمي لها وردة؟!

*

نقطة

نقطة

الشمعة تُبكي الريح

*

الرمل، من عيون الرمل

يغربل المجنون الرمل

باحثاً عن ليلى

***

وشكراً لكم

فاطمة مراد

***

حاورها:  عباس محمد عمارة

بغداد 2023/10/18 

من اقوال الدكتور كريم الوائلي:

- التصوف تجليات مجتمع ينزع نحو الاتصال بالمطلق….

- التعميد على ضفاف الأنهار، والسير على الأقدام ضمن طوفان بشري لزيارة أضرحة الأئمة تهدف الى الانفلات من أسر العجز إلى حرية المعجز.

- الصوفـي يتوحد مع اللاهوت.. والسياب وأدونيس والبياتي يتوحدون عبر التقنع مع المطلق.

- ان الخليفة المتوكل لا يزال يحكم العالم الاسلامي وهو في قبره.. إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في المجتمع حتى الآن!!

- بين المفكر والدولة تعارض دائم، وبين المثقف والسلطة تعارض مستمر.

- ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون.

نعيم عبد مهلهل: يشتغل الدكتور كريم الوائلي في مسافة معرفية، تنساق الى دهشة من الجدية والتنوع وابتكار الرؤى في المساحة الروحية لثقافة الاشتغال لديه، حتى أنك تحسه يضع العبارة في اشتياق المعنى المجسد في صورة ما يقصدها قائلها، ويرمي اليها. لهذ انَّ كريم الوائلي باحث وناثر يمثل جهدا فكريا ولغويا استثنائيا في عصامية المبدع، لجعل حياته نقطة التحول في مسيرة الكيان المعرفي لدينه ولامته ووطنه، وعبر محطات هذا الاستقصاء الجغرافي في ذاكرة الوائلي ومحطاته المتعددة نجد أنه يمتلك صيرورة الجد والاجتهاد والخلق بمستوى التنظير والتأليف والمحاكاة لهذا فأنه يطور بالفعل والتحليل والمحاكاة داخل النص المحقق أو المؤلف أو الذي يسير فيه، على وفق منظور الرؤية بدلالة العلم أو التخيل، وتلك الرؤية محددة الاتجاه في نمط الاشتغال، ولكن تأثيرها يتسع بين مذاهب الادب ومنابع الفكر وتشخيصات العلم في المحتوى الاخلاقي والفلسفي والفقهي اتجاه الكثير من الظواهر الحضارية التي لمعت في مسيرة التاريخ العربي ومنها الصوفية ونباهة المعتزلة ورؤيا القصة ومسيرة القصيدة وصناعها الماهرين.

جسد صورة المتشابهات الحسية التي تسكنه منذ بواكير وعييه مع حدس التقصي والقراءة المبكرة التي سكنته وأعطى لهاجسه البعد الزمني والهدف المنشود عندما قرر ان يكون اكاديميا وباحثا مرموقا ثم صانعا لمهارة تخيل النص والابداع في ماهية كشوفاته وهي في حسابات القراءة المتأملة والمتأنية لنتاجه صورة للأبداع اللوني لما تختزله الذاكرة المتحمسة والواعية في جسد هذا الكيان الادبي اللامع.

من يقرأ بحوث يسكنه نوع من التجلي والانبهار في مساحة الدقة النافذة التي يسكن اليها الباحث في تفسير المعنى ودلالته، ويقينا سيعجب تماما بذلك الغور المتأني في خفايا النص ودلالته وحتما سيجد القارئ انه امام نمط جديد من الحداثة النقدية حتى عندما تركن الى الاسلوب الكلاسيكي في البحث والتحليل والاستقصاء غير انَّ المميز في هاجس الوائلي قدرته على تفتيت العبارة وتسليط الفهم والرؤى على محتوى العبارة بما تحمله من تحفيز وقصد وضوء والنية المفترضة والمشار اليها في قصد كاتب النص.

اما في رؤاه الاخرى المتسعة في اشتغالات مثيرة للجدل في مستوى الفقه والادب والمناظرة كما في دراساته عن المعتزلة والمتصوفة فأن كريم الوائلي يركن الى سعي مبتكر في خلط الرؤية وسعة الحلم فيها مع نظرة العلم في طبيعته الكونية. ولكنه ايضا يبقى ممسكا بالرؤيا الاستقرائية بجانبها الروحي والجدلي لهذا نراه يحلل وفق المنظور الاجتهادي فيما يتوفر لديه من مناخات التاريخ وبراهينه.

د. كريم الوائلي، باحثا وناقدا وتدريسيا ورجل ادارة مؤسساتي. نلتقيه اليوم في هذا الحوار الفكري الذي لا يهم د. كريم الوائلي في تتبع ما ابدع وما انجز به جعلناه حوارا فكريا موسوعيا بمرادفة الاستعانة بمنجزه:

سؤال: هل للمتصوفة اليوم مكان في هذا العالم. خذنا اليهم في قرين الحياة الحالية. عالم الانترنيت وفوضى الربيع العربي والفضائيات ….والبحث عن فسحة لسماع السياب أو مشاهدة هاملت؟

د. كريم الوائلي: لا أحسب انَّ التصوف مجرد طقوس يؤديها أفراد في عزلة عن الواقع.. بل إنها تجليات مجتمع ينزع نحو الاتصال بالمطلق، أما بنزول اللاهوت إلى الناسوت.. أو باتحاد الناسوت باللاهوت والحلول به ومعه..

إن فهما ً خاطئاً يجعل التصوف مجرد ظاهرة عابرة في التراث العربي الإسلامي وعلى يد مجموعة من المتصوفة، كالحلاج المصلوب والسهرودي المقتول.. واضرابهما، وليس الأمر كذلك فالتصوف ليس حكرا ً على حضارة أو دين أو مذهب.. بل تنتشر أنساقه في العالم كله.. انَّ التصوف ضرورة في المجتمع وتجلياته تمتد عمقا ً في حفريات المعرفة تمتد من بكائيات العراقيات على عودة تموز من العالم السفلي إلى الحياة كي تدب الحياة من جديد ومرورا ً ببكائيات معاصرة تمتد جذورها إلى قرون في انتظار المنقذ والمخلص..

إننا دون شك نلتقي بنزوعات صوفية نجدها في حضارات أخرى.. وديانات متعددة.. ونأخذ هذه النزوعات ملامح تأدية الطقوس الجمعية.. بمعنى إنها ليست مجرد طقوس فردية

لاحظ معي طقوس التعميد على ضفاف الأنهار.. ترمز لحركة صوفية تمتد في جذورها إلى أعماق التاريخ.. وكذلك السير على الأقدام ضمن طوفان بشري لزيارة أضرحة الأئمة

وشكل من أشكال اتحاد الجموع للتوحد بالمنقذ والمخلص كما أشرت.. وكل هذا يتدفق ويتلفع بروح إنسانية مشبعة بوجع الخلق وتمتد آثاره نحو الآتي.

جماعات تريد الانفلات من أسر العجز إلى حرية المعجز.. تتوحد بالمطلق عبر فك أسر القيد الذي تصنعه معيقات الحياة.. والتماهي مع الذات المطلقة.

إن الديانات السماوية كلها تمتح من روح التصوف بطرائق مختلفة وتعبر عنها بطقوس حسية ظاهرة ليست هي المقصودة

وإنما المقصود الباطن العميق، خذ مثلا ً طقوس التعميد تبدو في الظاهر طقوسا ً شكلية ولكنها ذات أبعاد باطنية ورمزية عميقة.. ومن الغريب انَّ المتصوف يحاول أن يعبر عن اللاهوت بأدوات الناسوت.. وهذا مشكل.. ومن المؤكد أن يعجز لأن اللغة محدودة لا تستطيع حمل عبء التعبير عن المطلق.. وبذلك فإن المتصوف أمام أحد أمرين: أما الصمت وهو الغالب.. ومن ثم يحافظ

على حياته، وأما الشطح.. بمعنى (الفعل) الذي يقوده إلى النبذ أو التكفير.. أو القتل!!

وإني لأعجب كيف لا يكون السياب متصوفا ً من الطراز الأول من حيث حياته المحزنة وعذاباته المتكررة وانعتاقه عبر الموت نحو آفاق المطلق.. وبذلك كان السياب والصوفـي يمتحان من معين واحد لا ينضب من الأعماق.. ويحفران معا ً تذوقا ً في حد الموت، السياب (يشعر) كما (يشعر) الصوفـي، ويتحول شعورهما وجدا ً عبر الكلمة العاجزة، فيستعين الصوفـي بالشطحات وبتعالي الناسوت نحو اللاهوت، ويستعين السياب هو والبياتي و أدونيس بالتقنع للتعويض عن شطحات الصوفـي..

الصوفـي يتوحد مع اللاهوت.. والسياب وأدونيس والبياتي يتوحدون عبر التقنع مع المطلق عبر فتح من أعماق الداخل، وكذلك كانت اللغة عاجزة من الإبانة عن هذه الأعماق لديهم حميما ً.. بوطنهم متصوفة كبار.

إن حركة الجموع على ضفاف الأنهار للتعميد.. أو المشي على الأقدام نحو أضرحة الأولياء تشبه تماما ً انساق وجدان أدونيس.. توحد الجموع مع الآتي.. الكائن في رحم الماضي.. وتوحد أدونيس مع (علي) في ديوانه مفرد بصيغة الجمع.. الآتي من عمق التاريخ (علي) هو الإمام.. الولي.. الفرد / بصيغة الجمع، يتماهى مع الشاعر أدونيس، وأسمه (علي).. فكأن (علي الإمام) الماضي / المستقبل، هو علي / أدونيس المستقبل المضمخ بعبق الماضي، وقد جمع أدونيس بين الصوفية والسريالية إذ إن كليهما يتوجه نحو الخلاص دينياً عن الصوفية وتجاوز الإبحار عند السريالية.. فالجذور واحدة وإن كانت الوسائل والنتائج متباينة.

سؤال: ما الجديد الذي يمكنك أن تجده في قصيدة كتبها البحتري قبل مئات السنين.. أقصد ضد تفاسير وأنت تبحث في القديم من أجل الجديد؟.

د. كريم الوائلي: ليست هنالك حداثة واحدة، وانما هناك حداثات بحسب اختلاف المكان والزمان والانسان، فحداثة باريس غير حداثة موسكو، وهكذا.. وهناك حداثة معاصرة نعيشها.. وهناك حداثات في أزمان سابقة.

وفي القرنين الثاني والثالث الهجريين كانت هناك حداثة، وشعراء محدثون ونقاد كذلك.. فكر ومؤسسات اجتماعية، ويعارضها اللاحداثيون.. سلطة وطبقات اجتماعية وفكر وشعراء.

ونلتقي بمرجعيتين معرفيتين في القرون الثلاثة الأولى.. المرجعية المعرفية العقلية والمرجعية المعرفية النقلية.. ولكل مرجعية أدواتها وأنصارها.

ولم يكن البحتري من أهل الحداثة، ولكنه من خصومها.. وجاء مع الزمن المعارض للحداثة مع مجيء جعفر المتوكل (الخليفة العباسي) الذي أحدث تغيرا ً على المستوى الفكري بإقصاء لاعتزال وأهل العقل والمنطق وأحل محلهم أهل الأثر، وعلى المستوى الفني تبنى مصطلح (الطبع) الذي يعبر عن اللاحداثة!! في معارضة لمصطلح (الصنعة) المعبر عن الحداثة.

ان المتوكل – في تصوري – لا يزال يحكم العالم الاسلامي وهو في قبره.. إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في لمجتمع حتى الآن!!

ولقد شغلتني حقيقة بنية القصيدة في كلا الاتجاهين.. وعلى الرغم من انحيازي للحداثة في التراث وانحيازي لمنجزاتها كان لا بد لي أن أتأمل منهجيا ً البنية العميقة التي تحكم بنية القصيدة عند اللاحداثيين، وهي عادة تتكون من وحدتين، أو ثلاث وحدت، يكون الغزل أو التشبيب أولها.. ثم يكون المرح الهدف الذي تسعى اليه.

ولم أكن مقتنعا ً بالتفسيرات الكثيرة التي قدمها النقاد، قدامى كابن قتيبة، ومعاصرون غربيون مثل: فالتر براونه ومعاصرون عرب مثل: عز الدين اسماعيل – مثلا ً – وكان لابد من الكشف عن البنية العميقة..

ويتبدى امكان دراسة قصائد البحتري في ضوء محورين، أحدهما يحاول الكشف عن التجليات المتعددة التي تشتمل عليها قصيدة المدح، يحاول الآخر إرجاع تلك التجليات المتعددة إلى بنية عميقة تحكمها، ولما كانت الأغلبية الساحقة من قصائد المدح عند البحتري تنقسم إلى مقطعين: مقطع المحبوبة، ومقطع الممدوح، فإن البحث سيركز على هذا المنحى بشكل عام، والتطبيق على بعض نماذجه.

إن البنية العميقة التي تحكم تجليات قصيدة المدح تتمثل في التعارض بين السلب والإيجاب بين مقطعي المحبوبة والممدوح، ويمثل هذا التعارض إطارا عاما تقع تحت شموليته أنماط متعددة من تجليات متعارضة عديدة

إن مقطع المحبوبة يمثل الموجة السالبة في القصيدة، في حين يمثل مقطع الممدوح الموجة الموجبة، فإذا كانت المحبوبة تبعث على السقم والهزال والجدب، وأنها حسناء سيئة الصنيع، فإن الخليفة يتميز بحسن المحيا من ناحية، وحسن الفعل من ناحية أخرى، ولذلك جعل الشمس والقمر دالين على جماله وبهائه، ويرتبط هذا في اغلب الأحوال بملامح دينية ترجع إلى الرسول صلى الله عليه و اله وسلم، لأن الممدوح ـ الخليفة ـ هو امتداد للنبي، كما أن أفعاله تحيي الإسلام، وتدافع عن الرعية

أن هنا تعارضا من نوع آخر بين المحبوبة والممدوح، إذ تمثل المحبوبة مفردا مؤنثا تحدث عنه الشاعر بصيغة المذكر، وأن فعلها لا يتجاوزها ولا يتجاوز الشاعر، أما الممدوح فإنه يمثل المفرد المذكر الخارق، الذي يتميز بخصائص تقترب من الملامح القدسية بفعل الصفات الدينية التي خلعها عليه الشاعر وتقابله الجماعة، ويتجلى في فعل الممدوح تعارض من نوع آخر، حيث يكون الممدوح سببا في بعث الخصب في الحياة والحيوية في الجماعة المناصرة له، والموت الدمار في الجماعة المعارضة له، فعلى مستوى الجماعة المناصرة له

دلالات التعارض المكاني والزماني:

المحبوبة:

امرأة: انوثة ـ ضعف ولين

امرأة: ظاهرها جميل، وباطنها قبيح

امرأة: محدودة الخصائص، لا علاقة لها بالمطلق

امرأة: تتسم بالعقم

امرأة: تبعث السقم والهزال في الشاعر

امرأة: لا تحقق التواصل

امرأة: عالمها تخيلي متوهم

الممدوح (الخليفة غالبا)

رجل: ذكورة ـ قوة وخصب

رجل: ظاهره حسن، وباطنه حسن

رجل: جزء من حركة المطلق، هو امتداد للنبي، ومن ثم مرتبط بالمطلق.

رجل: ولود

رجل: يبعث الخصب والنماء في الشاعر

عالم الممدوح: حقيقي واقعي

مكان المحبوبة وزمانها:

المكان: مكان مجدب لا حياة فيه « طلل »

الزمن: زمن ماض وحركته بطيئة

الحالة: التلاشي والهشاشة

المستوى الحضاري: البداوة

مكان الممدوح وزمانه:

المكان: مكان خصب، قصور وحدائق ومياه.

الزمن: زمن الحاضر والمستقبل، وحركته متسارعة

الحالة: الخصب والنماء

المستوى الحضاري: المدينة

ويسعى البحتري إلى التنقل والتحرك من الطلل إلى القصر، والحركة هذه تعني نفيا للمكان وخصوصيته الثبوتية، ورمزا لانعتاق الإنسان وتحرره، ولذلك فإنه يفر من الأولى إلى الثانية، فلا يعطي المقطع الأول مساحة اكبر، ثم ينتقل إلى المقطع الثاني الذي يتوقف عنده طويلا، مساحة وحضورا، بمعنى: إلغاء للطل، وتثبيت للقصر، وانحراف عن البداوة وانحياز إلى المدنية.

سؤال: من يضع المنهج المفكر أو الدولة. هل سكنت مثل هذا الشعور وانت الذي كلفت لوضع مناهج لكتب دراسية عديدة؟

د. كريم الوائلي: بين المفكر والدولة تعارض دائم، وبين المثقف والسلطة تعارض مستمر.. ترى من يضع المنهج!!.

أعتقد إن خللا ً مفاده إن الدولة لا تمتلك رؤية بالمعنى الصوفـي لوضع المنهج، وليس المثقف بقادر على إستلهام رؤاه.. ولذلك كان العجز لا المعجزة..

ويختلف منزعا المثقف والسياسي من حيث طبيعة عمليهما ووظائف تفكيرهما، بين من يمارس الفعل في الواقـع (السياسي) وبين من يتعالى عليه (المثقف)، وهذا يعني ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون، وتتحكم في سلوكية السياسي نزعة برغماتية تجنح في كثير من الاحيان نحو ميكانيكية تبريرية، في حين يميل المثقف الى نزعة ترقى الى المثالية التي تهدف الى صياغة الواقع على وفق معطيات معرفية جديدة، بمعنى الإنتقال من الثابت الذي يصر السيــاسي على وجوده، الى المتغير الذي ينشـــده المثقف، لأن الثابت (المعروف) يبقي السياسي الحاكم في سلطتـــه أما المتغيــر (المجهول) فإنه يحدث خلخلة في الواقع وتغيرا يخشاه السياسي ويفر منه.

ويبلغ التعارض الضدي اقصى مدياته بين المثقف والسياسي في أحد أبرز المتون الثقافية (الف ليلة وليلة)، إذ يتجلى بوضوح بين شهرزاد المثقفة العارفة المطلعة على الكتب والمصنفات والتي حفظت الأخبار، واطلعت على الفنون، فضلا عن امتلاكها القدرة على التأثير في القص والأداء، ويقابلها السياسي / الحاكم شهريار الذي جعل الشك وسوء الظن وتعميم الأحكام غايته ووسيلته على السواء، واستخدم البطش ببشاعة فائقة، وليس من قبيل المصادفة أن يكون التعارض قائما بين السياسي والمثقف بل أنه اشتمل على تعارض ضدي آخر يقوم على أساس الجنس بين الرجل والمرأة، وكأنه يشير ضمنا الى تعارض ثقافي ذكوري وانثوي.

وإذا كانت شهرزاد قد تمكنت من ترويض الحاكم وشفته من عقده المرضية النفسية المركبة، وتمكنت من إعادته الى حالته الطبيعية، فأن عبداللّه بن المقفع قدم حياته ثمنا لنصائحه الرمزية للحاكم في كتابه (كليــلة ودمنة)، ويتبدى التعارض بين الحاكم والفيلسوف (بيدبا ودبشليــم) إذ يمثل الأول كما يقول أستاذنا الدكتور جابر عصفور تمثيلا رمزيا لنموذج الحكيم العاقل ويمثل الثاني الحاكم الباطش، وتبدو كليلة ودمنة أقنعة للمرامي على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم، في تلك العلاقة المتوترة التي دفعت عبداللّه بن المقفع الى القول صراحة (إن الملوك أحوج الى الكتاب من الكتاب الى الملوك) وكما قال ابن المقفع: (إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال (!!.

إن المنهج ليس تأليف كتاب.. إنما هو يشبه عمل الرسالة والنبوة مع فارق المثل، طريقة وآليات وتدريب وأدوات.. إن الدولة لا تتدخل ما دام السطح الذي تطالعه لا يتعارض مع التوجهات العامة.. لكنها مهما بلغت تبقى تجهل البنى العميقة التي ارتكزت عليها طبيعة النصوص..

في تعاملي مع تأليف كتب المطالعة من الصف الأول المتوسط إلى السادس الثانوي.. كنت أدرك جيدا ً النصوص التي يتم اختيارها من الماضي أو من الآخر، لها سياقاتها التاريخية والاجتماعية والمعرفية ولذلك فإن الجزء الحقيقي هو الذي يختفي تحت الماء من جبل الثلج.. وما تراه هو الجانب المرئي.!!

قد لا أكون مبالغا ً إن لكل نص ظاهرا ً وباطنا ً، الدولة لا ترى إلا الظاهر وربما السطحي، أما المؤلف المثقف صاحب الرؤية بالمعنى الصوفـي يمتلك انساقا ً عميقة لبنيات تحتية وثيرة.. إنها المسكوت عنه.. ولو عدنا إلى التراث لأدركنا إن هناك الكثير ممن كتبوا.. وجعلوا المسكوت عنه يبحر بين السطور وإلا.. لو أدرك الآخرون طبيعة المسكوت عنه لنحروا من قاله نحرا!!

اشترك معي – أساسا ً – في التأليف شخصان انتقلا إلى رحمة الله – زاهد في حياته بروح الصوفـي الدمث –(تركي الراوي) وآخر مثقف مستقبلي قتلته أياد خبيثة بعد أن اختطفته.. (علي عبد الحسين مخيف) تماما ً مثل الحلاج والسهروردي.

كنا نضع نصب أعيننا أن تكون كتب المطالعة تشكل رؤية التلميذ بحيث يكون قادرا ً على تذوق وتأمل النصوص وأن تفتح أمامه آفاقا ً معرفية عديدة، كان لابد أن يطلع على جوانب ثرية من التراث.. وبخاصة في الجوانب التنويرية.. هذا فضلا ً عن نصوص قرآنية وأحاديث نبوية.

ففي تعاملنا مع النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة اعتمدنا منهجا ً يقوم على شرح وتفسير وتحليل هذه النصوص في الصفوف الأولى والثانية والثالثة المتوسطة، ولكننا في الصفوف الرابعة والخامسة والسادسة الإعدادية اعتمدنا طريقة أخرى بحيث نزود الطالب بتأملات التراثيين للقرآن الكريم.. ولذلك اخترنا الرماني والباقلاني والشريف المرتضى يتعاملون مع النصوص القرآنية وهم من مدارس فكرية مختلفة.

وكان جل اهتمامنا أن يطلع التلميذ على جرعات مختلفة ومتنوعة من الأدب والفكر والثقافة، وجعلنا الأولوية للأدب والفكر والثقافة العراقية، ثم تليها الثقافة العربية والعالمية ولقد زودنا التلميذ بنصوص عربية مختلفة ونصوص أجنبية من الأدب الإنكليزي والروسي والفرنسي وحتى الصيني!!

وتنوعت النصوص بين شعرية ونثرية ومعرفية يمتح جزء منها من التراث، وكلها يهدف إلى الارتقاء بالذائقة الأدبية والمعرفية واستجلاء جوانب جديدة ذات طوابع تنويرية.

وكنت أدرك تماما ً إن الثقافة العراقية المعاصرة تتميز بالتنوع والتعدد والتباين وكنت أدرك أيضا ً إن هذه الثقافة ليست كتلة مصمتة ومعلقة في الفراغ وإنما هي عجينة لدنة قابلة للتشكيل والتحوير والتغيير.. فهي تماما ً كالواقع لا تعرف الثبات والاستقرار بل هي في صيرورة دائمة.

سؤال: في رؤاك عن الصوفية في منهجها الرومانسي طورت كثيرا من حداثة الفهم فيها عندما عصرنتها والبستها رؤى الفلسفي المعاصر في مقال لك الرومانسية الصوفية في قصيدة صلاح عبد الصبور. أما كان السياب اقرب الى هذا الفهم أو البياتي؟

د. كريم الوائلي: ليس بالإمكان تلخيص التصوف أو الرومانسية بكلمة واحدة أو تعريف محدد، إذ ان لكل منهما خصائصه الذاتية والعامة بحسب كل متصوف أو رومانسي، ولذلك فان تصوف الحلاج يختلف عن تصوف ابن عربي، ويختلف تصوف ابن الفارض عن تصوف السهروردي المقتول.. كما أن الرومانسية نفسها يصدق عليها ما يصدق على التصوف.. فرومانسية كيتس تختلف عن رومانسية كولردج وان رومانسية جبران خليل جبران تختلف عن رومانسية أبي القاسم الشابي..

ويمكن التحدث عن سمات مشتركة بين التصوف والرومانسية تلك التي تتصل بــ:

1. التذوق الفردي / الخاص للعالم والمجتمع والانسان، لدى كل من المتصوف والرومانسي.

2. خصوصية الخيال والتخيل الذي يصل الى درجة النبوة عند المتصوف، والخيال الابداعي لدى كولردج مثلا ً..

3. التجربة الذاتية لكل من المتصوف الرومانسي.

وحين تأملت ابداع (صلاح عبد الصبور) الشعري ألفيته يعيش في أجواء الرومانسية / الصوفية..، بمعنى أنه يتماهى رومانسيا ً بالتصوف..

ومن الجدير بالذكر ان صلاح عبد الصبور كان متأثرا ً بـجبران خليل جبران، الذي كان هو الآخر يعيش رومانسية مثالية متلفعة بكثير من ملامح الصوفية.. وقد أكد صلاح عبد الصبور تأثره به لدرجة العبادة قال (استعبدني جبران طوال سنوات المراهقة الأولى وكان هو قائد رحلتي بشكل ما..)

ولذلك كانت مسرحية (مأساة الحلاج) واحدة من أبرز تماهياته مع التصوف، والتي تمثل على المستوى السياسي صراعا ً بين (المثقف / الصوفي) ضد السلطة القمعية، في زمن حكمت فيه الأيديولوجيا القومية في مصر..

ان الحلاج قناع يتكئ عليه صلاح عبد الصبور ليعبر من خلاله عن تجربته الانسانية والسياسية.. ولا ننسى ان عبد الصبور كان يعيش قدرا ً من تجارب الصوفية منذ نعومة أظفاره.. يقول: (كنت في صباي الأول متدينا ً أعمق التدين حتى أنني أذكر ذات مرة أنني أخذت أصلي ليلة كاملة، طمعا ً في أن أصل الى المرتبة التي تحدث عنها بعض الصالحين حين تخلو قلوبهم من كل شيء إلا بذكر الله.. وما زلت أصلي حتى كدت أتهالك اعياء ودفع بي الاعياء والتركيز الى حالة من الوجد حتى أنني زعمت لنفسي أنني رأيت الله.. وأذكر ان بعض أهلي أدركوني حتى لا يصيبني الجنون (.

ولا ريب ان استعباد الرومانسية وتجلي العبادة وخوف الجنون كلها تنتج من تجربة واحدة ذاتية تتداخل فيها العناصر والمكونات لتخلق هذه التجربة المزدوجة التي يفيض بها الشاعر نحو الكون والوجود.. وتتحول لغته الى أداة يشعر بعجزها عما يختلج في داخل الانسان.

ولذلك يخاطب عبد الصبور الآخر وهو يتقنع بشخصية الصوفي بشر الحافي.

ولأنك لا تدري معنى الألفاظ

فأنت تناجزني بالألفاظ

اللفظ حـَجــَرْ

اللفظ منيـه ْ

فاذا ركبت كلاما ً فوق كلام..

لرأيت الدنيا مولودا ً بشعا ً

وتمنيته المـوت ْ..

أرجوك..

الصمت َ

الصمت..

عجز اللغة (الحجر / المنية) وان تركيب الحجر بالمنية يولد كلاما ً يقود الى الموت.. فالمنقذ أن تصمت

هكذا هم المتصوفة!! وهذه هي تجربة صلاح عبد الصبور الذي يستذكر بشر الحافي.. ويكتب عن مذكراته أو بالأحرى هي ليست مذكرات بشر الحافي وانما هي مذكرات صلاح عبد الصبور..

قال عبد الصبور عن بشر الحافي:

(كان قد طلب العلم.. ثم مال الى التصوف، ومشى يوما ً في السوق فأفزعه الناس، فخلع نعليه، ووضعهما تحت أبطيه، وانطلق يجري في الرمضاء، فلم يدركه أحد)..

وهذا يتضمن دلالات رمزية كثيرة. والأمر نفسه مع (مأساة الحلاج) إذ يتخذ صلاح عبد الصبور من الحلاج قناعا ً يعبر من خلاله عن تجربته.. فيحضر الماضي الذي يقع (هناك) يحضره الى الحاضر (هنا) ويتماهى الشاعر / المعاصر (عبد الصبور) مع الشاعر / الماضي المتصوف (الحلاج) وأكثر من هذا يتماهى

الواقعان (العباسي والحديث) …

هناك قمع في الواقع العباسي حيث كان يعيش الحلاج، وهناك قمع في خمسينيات وستينيات القرن العشرين قمع في الزمن الحاضر.. واقع سيء في كلتا الحالتين. ومثقف متمرد في كلا الأمرين. ذلك صُلِب في الماضي (الحلاج) وهذا ينتظر من يصلبه الآن (عبد الصبور) ومن الجدير بالإشارة ان هذا يمثل هما ً مشتركا ً بين الأدباء ففي الوقت الذي كتب فيه صلاح عبد الصبور مسرحيته (مأساة الحلاج) سنة 1964 كتب عبد الوهاب البياتي قصيدته (عذاب الحلاج) في السنة نفسها. وفي ضوء هذا ان هناك تداخلا ً واضحا ً بين الرومانسية والتصوف، لأن الرومانسية في الفن تعني وحدة الوجود في اللاهوت بحسب (فيرشيلد).. فالرومانسيون ينكرون الوصول الى الحقيقة عن طريق الخيال وليس عن طريق العقل.. وكذا المتصوفة فلقد كان للخيال أهمية كبرى في الاتصال والاتحاد والحلول بين الناسوت واللاهوت.

ولذلك يجمع صلاح عبد الصبور في جوانحه بين الرومانسية والتصوف على حد سواء ويضع الذات محور الابداع، ويجعل (الفرد) مركز الكون والمجتمع، اذ يرى عبد الصبور: (إذ يرى أن « معرفة النفس » تحولا في مسار الإنسانية، ومن ثم فإن الإنسان الفرد هو المعبر هذه الذات، ولذلك تحددت في ضوئها طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وماهية الفن، لأنه حين تتناغم آحاد الإنسان يتكون المجتمع وتتشكل حركة التاريخ من حراكه، ويتولد الفن من لحظات نشوته.

ولم يكن الإنسان أساسا لتحديد طبيعة المجتمع والتاريخ والفن فحسب، بل انه مركز الكون أيضا، لأن الكون « قوة عمياء … والإنسان هو عقله ووعيه، وعظمة ذلك العقل انه يستطيع ان يعقل ذاته »، ويتميز الإنسان ـ هنا ـ بقدرته الفائقة على وعي ذاته ووعي العالم الذي يعيش فيه، أو على حد تعبير عبد الصبور « انه يجعل من نفسه ذاتا وموضوعا في نفس الآونة، ناظرا ومنظورا إليه، ومرآة ينقسم ويلتئم في لحظة واحدة »

إن الإدراك لا يتحدد بانعكاس صور الأشياء في الذهن، أو تجادلهما معا، بمعنى أنه ليس تأملا فيما يقع خارج الذات الإنسانية، بل على العكس من ذلك، إن الإدراك لديه ينشأ من خلال النظر إلى الذات ومهما يتحقق الوعي، ولذلك فإن « نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر في الإدراك البشري لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز »، وليس الإدراك هنا مجرد انكباب على النفس وانطواء عليها، ولكن الذات تصبح مركز للكون ومحورا لصوره وأشيائه، ويتحدد الإدراك في ضوء ثلاثية أخرى ولعلها تمثل الوجه الآخر لثلاثية الإنسان التي حددت حركة المجتمع والتاريخ والفن، وتنحصر هذه الثلاثية ـ هذه المرة ـ في ثلاثة أركان تمثل الذات ركنيها الأساسيين، وتمثل الأشياء الركن الثالث، فالمعرفة والوعي يتحددان عند عبد الصبور في نوع من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة، وذاته المنظورة، والأشياء، بمعنى أنه يجعل من ذاته ذاتا وموضوعا في آن، ويتبادلان المواقع، إضافة إلى الموضوع المحدد في الأشياء الكائنة خارج الذات المدركة.

ويتحدد تخليق القصيدة في المرحلة اللاواعية عبر خطوتين، تمثل الخطوة الأولى ما أيطلق عليه « الوارد » الذي حدده مرة « بخاطرة » « هابطة من منبع متعال عن البشر » وكونها « تفد إلى الذهن » أو « تبزغ فجأة مثل لوامع البرق »،

ـ توصيفات طبيعية أو ذاتية، فهي « تهبط » كالإلهام، أو وحي من «منبع » متعال عن البشر، وفي كل الأحوال لا وجود للجهد الإنساني في تشكيل القصيدة، أو تخليقها، لأنها متأتية من مكان آخر إلهامي، وتنحدر في هبوطها من أعلى غامض إلى أدنى في الذات الإنسانية، أو انها متدفقة من منبع، وهو توصيف يذكرنا بالنبع الذي يتدفق من داخل الأرض، ويحمل كل سمات الداخل، ويستكمل عبد الصبور توصيفها بحدوثه فجأة، ويستخدم توصيفا طبيعيا وذلك لم بحدوثها فجأة، فالوارد ـ هنا ـ خاطرة تبزغ فجأة مثل لوامع البرق والبزوغ المفاجئ، وكونها لامعا يؤكد المعنى السابق في أن عملية الإبداع لا تتأتى بفعل الجهد الإنساني قدر ما هي هبة تقد من مكان آخر، وتلد فجأة ومضا أو برقا تأكيدا لمثالية الإبداع ووجدانيته المطلقة

اما الشاعر جودت القزويني فان نزوعه الصوفي يأخذ منحى اخر ففي قصيدته فناء في سجون الغربة يستوحي من التراث تجربة فريدة لثائر وشاعر، وهو لا يحافظ على خصائص هذا الثائر الشاعر، وإنما يجرد شخصيته من بعض ملامحها المعروفة ليضفي عليها ملامح جديدة، فهو من هذه الناحية يحكم تجربة الثائر القديم ويحكم شاعريته أيضاً في سياق تجربته المعاصرة الخاصة.. ومن ثم يحاول إعادة الماضي في ضوء الحاضر، أو إعادة الثائر والشاعر القديم الذي تمرد على القيم والتقاليد ويحاول إعادة في تجربته الخاصة ثائراً على قيم وتقاليد أخرى.

وكان جودت القزويني يعي أن الحلاج ثائر ومتمرد ضد ضبابية الوعي والسعي نحو نور اليقين، ويعي أيضاً تمرده ضد السجون: سجون الغربة، وسجون الضياع، ولذلك اتخذ من الحلاج قناعاً يتحدث فيه عن تجربته الخاصة ومعاناته في واقع مليء بالمآسي، وقد اسعفه الحلاج في تأدية وظيفته هذه لثراء في شخصيته ومواقفه وشاعريته. إن هناك تماثلاً بين الشاعر والحلاج، كلاهما متمرد، وكلاهما شاعر، هذا يفنى في سجون غربة الحاضر، وذاك قد عانى من سجون الغربة فأفنى ذاته في انعتاق من الجسد، فالحلاج لدى جودت القزويني ـ لو استعرنا لغة إليوت ومصطلحاته ـ « المعادل الموضوعي ». اذن فهو يعيد تجربة الحلاج بوصفه « قناعاً » يعبر عن تجربة حديثة.

إن تجربة الشاعر تتكئ على مفردات الضياع، سواء أكانت ضياعاً في سجن، أم ضياعاً في ضبابية الوعي، ولكنها على كل حال ترجع الحلاج القديم في صورة الشاعر الحديث لتزج به من جديد بالسجن، وكأن الثائر المتمرد نمط متكرر يعيد التاريخ إحداثه، ولابد أن تكبل يداه بالحديد، وكأن هذه سنة تاريخية يتحتم حدوثها في كل مكان وزمان:

السجون.. الضباب.. السجون

وحفنة من التراب في العيون

وتستهوي الشاعر حالة التوحد والانفصام بقناعه، فهو يوهم المتلقي أنه يتحدث عن (القناع) أي عن الأخر، ولكنه يوظف الأخر تعبيراً عن الأنا، وتتجلى صور التوحد والانفصام في تضمين الشاعر لبيت الحلاج لتعبر عن حالة التوحد المطلقة بـ «الحلاج ـ القناع » فيتكئ على الموروث الصوفي في بعض مفرداته وغموض تجربته، فتشف تجربة الشاعر، وتتعالى في غموض المفردات والتراكيب، ويسبق هذا سؤال عن ماهية الأنا، مرتين، ـ أي سؤال عن وعي الذات ـ ماهية: « الأنا ـ الشاعر » وماهية « الأنا ـ القناع » في اطار الحديث عن الأنا والآخر، فبعد أن عرفنا أن الحلاج الاستاذ قد علّم تلميذه الوعي والمعرفة وأن التلميذ قد وعى الدرس وطبقه، يثور التلميذ على القناع ويرجع فيتحد به، يسأله عن ماهيته بوصفه « أنا » ويسأله عن ماهيته بوصفه « الآخر »، وتتدفق المفردات تحت تأثير تجربة شعرية صوفية، ويتحول السجن الى واحدة من هذه المفردات التي تتجلى فيها الثنائيات الضدية: الزمان والمكان قيدان يحيقان بالإنسان ووعيه وتجربته، ثم التطرق لأخر التجارب الصوفية « الفناء »:

يا حلاج من تكون؟

من اكون..

سؤال: من يجيد كتابة القصة القصيرة اليوم بمستواها التاريخي كرسالة وكمتحدثة حقيقية للحياة الارضية على مستواها الحكائي.. القاص أم متغير الواقع.. ام الحدث ومبرراته المجتمعية.؟

د. كريم الوائلي: كنت شغفاً بالنقد الأدبي وبجذوره الفلسفية ولذلك أسست قراءة نقد القصة على ثنائية: الذات / الموضوع، وهي ثنائية كان لها حضورها الفلسفي بقوة لقرون، وأسهمت في النقد العربي الحديث بشكل جلي.

ومن الغريب ان باحثا ً عراقيا ً ينفي أن تكون هناك مدارس نقدية واضحة الملامح والحدود في العراق.. وإنما كان هناك أدباء يكتبون انطباعاتهم النقدية.. غير إن هذا التصور لا يصمد أمام النقاش وأمام النصوص الكثيرة التي تدحضه وتقدم نقيضه..

لم تكن قراءتي للقصة القصيرة في العراق ولنقدها نابعة من أفكار ومناهج مفروضة عليها وإنما كانت نابعة من النصوص نفسها.

ولذلك كنت اعتقد أنَّ الأديب والناقد يصدران عن تصورات سابقة تحكم رؤيتهما للعالم والإنسان، ومن الطبيعي أنْ تتغاير هذه التصورات فردية وعامة، ومن الطبيعي أيضاً أنْ تنعكس آثارها على النصوص الأدبية من حيث تحديد وظائفها، وماهياتها، وبنائها، وأداتها، فالناقد الذي يرى في الأدب صورة حرفية للواقع، بمعنى مراقبة الواقع وتسجيل أحداثه، يضاد الناقد الذي يرى فيه تعبيراً عن الانفعال أو تصويراً له، ففي حين يركز الأول جهده على العالم الخارجي، يركزه الثاني على العالم الداخلي، ويختلف عنهما ناقد آخر يوفق بين العالمين بطريقة ما، في أثناء تحليله، وهذا يعني أنَّ هناك بنية تختفي وراء هذه التصورات، وكان ينبغي أن يتجه الدرس النقدي ليكشف عنها، ويحدد عناصرها، ما دام النقد عملاً ذهنياً واعياً.

وفـي ضوء هذا تجلت المدارس النقدية على أساس ثنائية الذات والموضوع فهناك رؤية تغلب الموضوع على الذات، وتجعل العقل متحكماً في إبداع النص وفي كيفية نقده، أطلقت عليها «الرؤية التقليدية«، وتضادها رؤية تغلب الذات على الموضوع، وتجعل الذات مصدرها في الوعيين الفني والمعرفي على السواء، وتنعكس آثارها ـ بالضرورة ـ على إبداع النص ونقده، أطلقت عليها « الرؤية الرومانسية »، وهناك مجموعة من الرؤى حاولت الانفلات من الرومانسية من ناحية، وسعت إلى التوفيق بين الذات والموضوع، مع تغاير كيفي في طبيعة هذا التوفيق من ناحية أخرى، كما أنها تزامنت في مرحلة تاريخية معينة، وتنحصر هذه الرؤى: بالوجودية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية.

سؤال: من لك في هذا العالم غير الوطن وبيتك والكتاب الذي تنوي تأليفه ـ، وهل الوطنية أن تكون منتجا …وتكتب وتؤلف وتحاضر وتقول تلك هي مهمتي وكفى؟

د. كريم الوائلي: الوطنية: كلمة فضفاضة.. تعني كل شيء حينا ً ولا شيء أحيانا ً أخرى، يمتطيها كثير من الناس المتسلقون والمنافقون.. واستخدمها الطواغيت في كل العصور شعارا ً وأداة للفتك بالمعارضين، وسبيلا ً للتنكيل بالمخلصين.

أحسب.. إن للوطنية دلالة من السماء ودلالة من الأرض

أما دلالتها من السماء فتوحي بها الآية الكريمة (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم)

إذ جعلت الآية القرآنية الكريمة التمايز بين الناس لا على أساس العرق أو الدين أو الطائفة، وإنما جعلت التمايز يقوم على أساس العمل (” إن أكرمكم عند الله اتقاكم ”) والتقوى عمل!!

اما الدلالة الأرضية، أن يكون عملك من أجل الوطن كالعبادة!!.. وربما تراني هنا فقيها ً أو عرفانيا ً ولكن أعتقد إن الوطنية هكذا، تعمل بإخلاص.. في كل شيء.. حين نكتب / حين نحاضر /.. حين نؤلف، .. مؤكدا ً إن الكتابة هنا.. جهد إنساني، وربما يكون سؤالك إن الكتابة في جانبها البرج عاجي لا تعني الالتصاق بالواقع، أقول لك أمرا ً ً منذ نعومة أظفاري وأنا أعمل لا من أجل فهم الواقع فهذا جزء من المشكلة ولكن أعمل من أجل تغيير الواقع ودفعت بسبب ذلك ضريبة غالية في غربتي ومعاناتي..

كان المعيار الأساسي هو كيف تحقق كرامة الإنسان الفرد.. بغض النظر عن كل الاعتبارات.. وأسعى لتحقيق قدر من التوازن الاجتماعي بين طبقات المجتمع وأنا طبعا ً دائما ً ومطلقا ً مع الطبقات الفقيرة المسحوقة.

المثقف يحلم.. ويسعى لتحقيق حلمه..

إن مهمتي الأساسية هي إحداث التحول والتغيير في الواقع الاجتماعي.. ولذلك أحسب إنني كنت وما زلت أمارس دوري في معارضة إيجابية.. تعتمد الحوار والتعايش من أجل إعادة صياغة العقل العراقي على أسس سليمة.. وأن يحصل كل مواطن على حقوقه كاملة. بغض النظر عن كل الاعتبارات.. العدل.. هو الغاية والمعيار في آن!!

سؤال: وأنت تدرس المعتزلة في جانب المقياس الشعري، ماذا تشعرك رهبة الولوج اليهم من هذه البوابة الحرجة والخطرة. وهل صفا فيك الذهن كما عندهم تشتغل في الجدل الذي اقاموه ولم يقعدوه حتى اللحظة في تحريك الذهب بمستوى السؤال واجابته …هل شاركت الرؤى الصوفية في جدل قراءة المعتزلة للشعر. وهل شعرت بتعامل وضعي أو سماوي مميز في رؤاهم عن القصيدة؟

د. كريم الوائلي: قراءة الذات، وقراءة الواقع، وجهان لعملة واحدة، ففي الوقت الذي تعمد فيه الى قراءة النص انما تستجلي في الوقت نفسه قراءة الواقع، إذ لا ريب ان هناك أسئلة ملحة يطرحها علينا الواقع ولا نجد لها اجابات مقنعه، نتوجه بفزعنا الى التراث المخزون الذهني والوجداني لعله يسعفنا في الاجابة عن مشكلات الحاضر واستشرافات المستقبل.

ولا ريب اننا حين ننطلق لتوجيه أسئلتنا للتراث لا ننطلق ونحن صفحة بيضاء.. بل نعبر عن مواقف فكرية محددة.. وفي ضوء هذا لا وجود لموضوعية مطلقة أبدا ً لقراءة التراث، وليست هنالك قراءة بريئة أو محايدة إذ كل قراءة انما هي منحازة على نحو من الأنحاء.

وأحسب من زاوية أخرى ان هنالك تقابلا ً واضحا ً بين النص والواقع، ونحن في حقيقة الأمر لسنا سوى تناصات مختلفة ومتعددة للنصوص المقروءة الحاضرة والماضية، وفي الوقت نفسه تناصات لأحداث في الواقع، صحيح ان هذه التناصات للواقع وللنصوص ليست متماهية معها تماما ً، بمعنى ان الذات القارئة لا تستقبل النصوص والواقع استقبالا ً سلبيا ً بحيث تستسلم لهما دون فرز أو مناقشة رفض أو حوار تقبل وترفض.. وفي مجمل هذه العملية.. يتكون الانسان.

ولذلك فالإنسان العربي يتم تشكيله بكيفية تختلف تمام الاختلاف عن الانسان الياباني عن الأوروبي بسبب اختلاف النصوص واختلاف الواقع..

وفي الوقت الذي كنت أقرأ فيه المعتزلة لم أكن أقرأها منفصلة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية. نعم ان للمعتزلة وجودا حقيقيا هناك في التاريخ والواقع الاجتماعي العباسي، وأنا أحاول احضارهم من ذلك الوجود لا تحاور معهم وانا هنا في تاريخ آخر و واقع اجتماعي مختلف. وأطرح عليهم أسئلة ملحة ومحرجة في الوقت نفسه.

وليس من المخاتلة انك حين تقرأ المعتزلة لا تستدعي الوجود الفكري المصاحب مؤيدا ً أو معارضا ً الأمر الذي كان يستحضر معه الشيعة، والأشاعرة والفلاسفة.. الخ، وتستحضر في الوقت نفسه مؤسسات دينية واجتماعية سياسية كثيرة..،

واستحضر المحن التي تعرض لها المفكرون.. محنة خلق القرآن.. وما عانى منها الناس، ومن ثم محنة التخلف التي أرساها المتوكل… والتي لا تزال تعصف حتى الآن.. بكل محاولات التطور والتقدم.. لدرجة أنني أقول ان المتوكل لا يزال يحكم العالم الإسلامي وهو في قبره.

ولقد كنت في حالة انفصال عن الذات واتصال..،

انفصال عنه كونه يبتعد عنى وجودا ً (بالمعنى الاجتماعي والتاريخي) واتصال به كون النص له وجود مادي اتفاعل معه،

ويحدث حوار ونقاش وجدل.. وكنت أجد في التراث الاعتزالي قيما ً تجاوزت عصرنا من حيث العمق والأصالة والابتكار.. بل أنني استطيع القول أننا متأخرون قرونا ً عن الفكر الاعتزالي على كافة المستويات المعرفية والفكرية والاجتماعية..

ولذلك كنت أؤكد ان القراءة مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم والنص، ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء، فكأن المقروء ـ عالما أو نصا ـ موجودا، ويصبح بعد القراءة موجودا آخر، لأن القراءة ليست نقلا للمقروء، أو إحضارا له، وإنما يضفي القارئ على المقروء رؤيته، وذاته، وخصوصيته، ويتولد من العلاقة بينهما مركب جديد، ليس هو المقروء تماما، وليس هو القارئ بما هو عليه، وإنما هو مركب منهما معا بكيفية خاصة، ولذلك تتفاوت القراءات لاختلاف القراء، وكأن المقروء ثابت قبل القراءة، وتتغير صورته ومعانيه ودلالاته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته.

ويمكن القول تجاوزا أن النص قبل القراءة يعرف استقرارا نسبيا في دلالته ومعانيه، ولكنه ـ في الحقيقة ـ استقرار متوهم، إذ لا وجود حقيقي للنص إلا في أثناء قراءته، نعم هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات الإنسانية ـ متمثلا في الكتب ـ التي أنتجته، أو تقرأه، ولكنه وجود هامد، ولكن وجودها الفعلي يتحقق عبر قراءته.

وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص دلالاتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خلالها، وهناك قراءة غير ممكنة، لعدم احتمال النص دلالتها، وبخاصة القراءة الإسقاطية.

وكنت أتبنى القراءة الفاعلة التي تؤكد أهمية تاريخية المقروء، بمعنى أنها تنفي المعايير والأحكام المسبقة القائمة على أساس ديني، أو مذهبي، ومحاولة تأمل أي ظاهرة في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي، أي قراءة النص بوصفه موجودا هناك في الماضي، وأن وجوده محكوم بسياقات معرفية وتاريخية واجتماعية، وان اجتزاءه عن سياقه تعني قراءة ناقصة ومشوهة له..

إن التراث جزء من بناء معرفي أشمل، وجزء من منظومة، وينبغي فهمه في إطار منظومته، وإن إخراجه عن منظومته يعني فهما مخلا لطبيعته وماهيته.

إن فهم التراث بوصفه موجودا هناك في إطار سياقه التاريخي لا يعني بالضرورة أنه منفصل عن القارئ إذ يمكن تأمله وفهمه وإدراك دلالاته.

نفي القراءة الانطباعية الانفعالية التي تصدر أحكاما مسبقة على الأشياء وتقيم قراءة تتأسس على عقلانية منهجية تؤكد أهمية النظر، وتعلي من شأن التحليل والتعليل.

وليست هناك أسئلة تلح علي فحسب وانما كانت هناك طموحات ورؤى وأماني كنت أتمنى حدوثها أو تحقيقها.. لعل أبرزها كيف يمكن ان تستثمر هذا التراث العقلاني في حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية على المستوى الأمثل..

وكيف ننتقل من الأحكام المسبقة القائمة على نفي الآخر ذهنيا ً وجسديا ً، الى أحكام عقلية منهجية تقبل الآخر وتتحاور معه.. تماما ً كما كانت في الماضي.. حيث يتعايش ويتحاور أصحاب الملل والأفكار.. حتى الملاحدة كان لهم حضور في المشهد الثقافي، ولذلك ألف ابن الخياط المعتزلي كتابا ً في الرد على ابن الراوندي الملحد!!

ولعل مفهوم الصرفة الذي أرساه ابراهيم بن سيار النظام المعتزلي هو واحد من أكثر الأفكار جرأة وجسارة في كيفية النظر لإعجاز القرآن!! سواء اتفقنا معه أم اختلفنا وإياه.

وأخيرا ً كيف يمكن استبدال المعايير الانطباعية التي تحكم الحركة النقدية الى أحكام منضبطة يمكن الاتفاق عليها..

صحيح ان هذا يمثل حلما ً.. لا يمكن له أن يتحقق أبدا ً حتى لدى الأسلوبية الاحصائية.. كون الخصائص الفردية تؤثر في تحديد المعايير وكيفية توظيفها فضلا ً عن الاختلاف الحضاري.. حتى ولو أصبح العالم قرية.. وهو كذلك الآن.

سؤال: يقال أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الرواية بامتياز. انا وانت قرأنا رواية موسم الهجرة الى الشمال جيدا. وانت بحثت فيها وجعلت من المتغير الحضاري والبيئي بين شخصياتها سبرا بأغوار بطلها (مصطفى سعيد) في مواسمه المتعددة. هل ترى ان صراع الحضارات وتباين المفاهيم المجتمعية والثقافية سببا لجعل الرواية المتصدي والمؤثر في المشهد الادبي الاممي؟

د. كريم الوائلي: عشت شكلا ً من كراهية الآخر الغربي منذ نعومة أظفاري، في أسرة تنظر للأجنبي (الغربي) بنظرة من الريبة والشك.. وتتحدث عن أمجاد من حاربوه كونه كافرا ً، وناصروا العثماني (التركي) كونه مسلما ً.. ولم أكن أدرك في حينها إن القضية أكبر من ذلك وأكثر شمولا ً.. قبل معرفتي نهاية العالم لــ فوكوياما، وصدام الحضارات لــ هنتغتون.

وتأملت طرفا ً، ولكن من زاوية أخرى، هذا الجانب من الصراع حين درستنا أستاذتنا الجليلة المرحومة الدكتورة سهير القلماوي (نظرية الرواية) في أثناء السنة التمهيدية للماجستير عام 1978 وكانت التطبيقات على رواية الصراع الحضاري من المنظور العربي.

ولم أكن أدري، أول الأمر وإن الصراع يمكن أن يتلفع بأساليب وطرائق متعددة.. ربما يصل إلى حد العنف، وينطوي على قدر كبير من الكراهية.. على مستوى الفكر والفن والأدب.

تفاوتت وجهتا نظر الصراع وبحسب الزاوية التي تصدر عنها كل حضارة.. بمعنى إن هناك صراعا ً حضاريا ً غربيا ً ضد الحضارة العربية الإسلامية، وصراع الحضارة العربية ضد الحضارة الغربية.. فعلى سبيل المثال في (الكوميديا الإلهية) يضع الأديب الإيطالي دانتي رموزا ً إسلامية كبيرة الأهمية والقيمة في جحيمه.. الأمر الذي يؤكد حدة الكراهية ومدى قساوتها.. دون الأخذ بعين الاعتبار إن هذه الشخصيات الرسول محمد (ص) والإمام علي (ع) من الرموز التي لا يمكن التقليل من قيمتها إنسانيا ً فضلا ً عن التقليل

منها إسلاميا ً.

ويتجلى الصراع جليا ً في رواية (الغريب) الروائي الفرنسي.. البير كامو الأديب الوجودي.. والوجودية كما هو معروف تدعو إلى تحرر الإنسان.. ولكن اللاوعي يتحكم – هنا – إلى حد كبير في سلوك الإنسان.. وإذا كان دانتي قد عبر عن كراهيته بقدر كبير من الوعي بمعنى إنه كان قاصدا ً لذلك ومخططا ً له..

فإن البير كامو عبر عن كراهيته بالوعي واللاوعي معا ً عن كراهيته على طريقة الإقصاء الحضاري التي تذكرنا بصدام الحضارات كما أرساها لاحقا ً المفكر الأمريكي هنتغتون.

إن (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لكامو يقتل المواطن العربي الجزائري لأن الأخير يحمل سكينا ً، وبمجرد أن تلمع السكين في الشمس وتنعكس على عيني (ميرسو) يبادر فورا ً إلى مسدسه ويقتل الجزائري!! لأن السكين والشمس يرمزان للسيف العربي والحضارة العربية.. هنا.. تكمن المشكلة.. اللاوعي هو الذي حرك كوامن الإقصاء والكراهية الحادة.. إلى درجة العنف.. القتل..

وفي الأدب العربي الحديث تعرضت روايات عديدة للصراع الحضاري بين الشرق والغرب، لعل أقدمها (أديب) لــ طه حسين، ثم (عصفور من الشرق) لــ توفيق الحكيم، و(قنديل أم هاشم) لــ يحيى حقي، و (الحي اللاتيني) لــ سهيل إدريس ورائعة الطيب الصالح (موسم الهجرة إلى الشمال).. ومن ثم ثلاثية

أحمد الفقيه التي كتبت بلغة شعرية ساحرة.

كان في رواية الطيب الصالح دوال عديدة.. كانت ولادته

سنة 1898 الوقت الذي بدأت فيه القوات البريطانية تجتاح السودان.. وحين ذهب الى لندن كانت لندن خارجة من الحرب.. ولذلك تم تقسيم الأجيال من وجهة نظري بحسب هذه الحرب..، وتبين أن الأجيال السابقة للحرب واللاحقة لها لم تكن تعرف أو تفكر إلا بالسلام وتنشد التصالح.. هكذا تبدو في أوربيين يعيشون في بلاد العرب أو عرب يذهبون الى أوروبا.. وحتى رواية الطيب الصالح لأنها نتاج ما بعد الحرب فان رؤية كاتبها التصالح مع الآخر وليس الاصطدام معه.. في حين كان بطل روايته (مصطفى سعيد) وهو من جيل الحرب جيل صِدامي لا يعرف الا تصفية الآخر والانتقام منه.. وكذا جين مورس الأوروبية التي ترى في هذا العربي (عطيل) لابد من تصفيته!!

ونظرا ً لظني واعتقادي ان المجتمع السوداني مجتمع يتنفس الصوفية والتصوف وكأني بالطيب الصالح يستبطن الآية القرآنية (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر ٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) بمعنى أن (التعارف) هو البؤرة المركزية التي تحدد طبيعة العلاقة بين الحضارات، وليس صِدام الحضارات كما يذهب الى ذلك هنتغتون..

وكان مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال يحمل في أعماقه جرثومة الصِدام الكبرى.. كان العالم الغربي – بريطانيا – قد غزت السودان..

وذهب هو ليغزو العالم الغربي بطريقته الخاصة.. ومن الطريف في هذا السياق ان مصطفى سعيد يمثل الحضارة العربية وهو ذكر وكانت جين مورس تمثل الحضارة الغربية وهي أنثى!!

ومن المعروف ان جميع ممثلي الصراع الحضاري في الرواية العربية هم ذكور ذهبوا للدراسة في أوروبا وكان يقابلهم في الصراع أنثى!!

ومن الطريف أنني لاحظت جانبا ً صوفيا ً في رواية موسم الهجرة للشمال ينجلي في شخصيته (جد الراوي) الذي كان يحمل رائحة فريدة هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع!!.. وان الجد يعرف السر

كما ان رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم تنحوا المنحى نفسه، فلقد أهدى روايته الى السيدة زينب هكذا الى حاميتي الطاهرة السيدة زينب..

ولكن بعد سنوات عديدة تأملت (قنديل أم هاشم) فوجدتها غارقة في الصوفية، حتى كان عنوان الدراسة: الولي طبيب والمقام عيادة!! وقد نشرت في مجلة الناقد اللندنية.

وتحكي فكرة الولي ان هناك انسانا ً تجد فكرة «الولي » وكراماته الخارقة ذيوعاً وانتشاراً في المجتمعات الزراعية، وفي الشرائح الاجتماعية المنحدرة منها الى المدن. ويكشف الإيمان بالولي وبكراماته عن تصور فكري واجتماعي يحكم علاقة الانسان بالمطلق من ناحية، وبالواقع من ناحية أخرى، وبكيفية إحداث التغير في الواقع الاجتماعي من ناحية ثالثة. وتحكي فكرة «الولي » أنَّ هناك انساناً ما رجلاً أو امرأة امتلك بفعل تقواه قدرات خارقة وكرامات متعددة، تتناقلها الأجيال، وتتضخم صفاتها في الوجدان الشعبي، وتصبح للولي عادة قيمة كبرى بعد وفاته، ويتحول قبره الى ضريح يؤمه الزائرون، يتبركون بالمكان، وينتظرون منه تحقيق المعجزة في تلبية دعواتهم، ويتحول المكان أي قبر الولي الى مركز له قيمة و قدسية، ويصبح مركزاً لجذب اجتماعي وفكري وثقافي.

وترافق فكرة الايمان بالولي تقاليد وطقوس ذات ملامح دينية، يقدسها المجتمع، ويتباهى الكبار والصغار في تقديسها وحمايتها، لدرجة يعد من يخرج عليها مارقاً على الدين وقيمه، وهذا يعني أنّ «الولي» سواء أكان انساناً حياً، أو مكاناً تؤمه الناس بالزيارة والتقديس، انما يشتمل على فكرة خلعها المجتمع عليه لأنَّ المجتمع يجد فيه منقذاً ومخلصاً، يساعده على تحقيق أحلامه التي عجز عن تأديتها في الواقع.

إنّ «الولاية» فكرة تتجسد في الانسان الفرد، ومن ثم يتحول قبره الى مكان تتجسد فيه روح الفكرة التي يؤمها الناس، وفكرة «الولاية» بحد ذاتها من صنع المجتمعات التي تبحث عن المطلق القادر على صنع المعجزات الخارقة، ولما كانت المجتمعات الزراعية متدينة بطبعها، فقد خلعت على بعض الأفراد المتميزين بالتقوى والإيمان، فكرة الولاية، وأضفت عليه كرامات أخذت تنمو وتتبلور وتتطور بفعل شوق الوجدان الاجتماعي إلى المعجزة.

إن «الولاية» فكرةً، وانساناً، ومكاناً، تنبئ عن تصورات اجتماعية معينة، يمثل فيها المجتمع كتلة ذات طبيعة واحدة متماسكة، وتخضع لقوانين صارمة غير قابلة للتغير والتفاوت. وتتولد فكرة «الولاية» من حالات القهر الاجتماعي التي تعيشها المجتمعات الزراعية بخاصة، إذ تجد في انسان ما فكرتها، حين يكون حياً، وتخلع على قبره قدسية ما حين يكون ميتاً. وبهذا يكون المجتمع كله في ناحية، والولي في ناحية أخرى، جماعة يقابلها فرد، أو جماعة عاجزة يقابلها فرد اسطوري خارق قادر على خلق الفعل وإحداث التغير. وهي صفة، أو كرامة، تخلعها الجماعة عليه. ومن ثم فإنَّ الاتصال بالمطلق قد يهب الفرد في المجتمع شيئا من كرامته فتحل به البركة، ولذا كانت زيادة الأولياء أحياء من الأمور النادرة، اما الى القبور فهي الغالبة من أجل أن تحل البركة بالإنسان. أما فعل الولي فهو لا يخضع لقانون اجتماعي، وانما هو مطلق قدري اسطوري، خارق للعادة، وللناموس أيضاً.

إنّ المجتمع الذي يؤمن بفكرة الولي مجتمع تحكمه قوانين صارمة، وهو غير قابل للتغير والتطور بسهولة، وفيه درجة عالية من التماسك والثبات. وتعطل في هذا المجتمع قدرات الانسان الفرد، ويعلى من شأن حركة الجماعة. فلا بد من الرضوخ لقيم الجماعة وتقاليدها. ولا بد من التسليم بطقوس الجماعة التي تؤدي بشكل جماعي، ولذا فإنَّ على الانسان الفرد أن يسلم بأفكار الجماعة ومعطياتها. اما محاولة التغير في الواقع، وهو حلم يطمح اليه الانسان المقهور، فهي لا تتم بوعي قوانين الواقع الاجتماعي، وإحداث التغير فيها بفعل الانسان، وانما يتم ذلك بالتوسل بالولي، انساناً، وفكرةً، وضريحاً، لأحداث هذا التغير. وهو يتم بقوة خفية غامضة. وتفسر أحداث المجتمع سلباً وايجاباً في ضوء هذا الفهم. ولئن لم تؤت الدعوات التي ينثرها زائرو الأولياء والنذور التي يقدمونها أكلها، فلأنَّ خللاً ما في الانسان يحول دون تحقيق معجزة الولي فيه.

ونخلص من هذا الى أن «الولاية» مفهوم تخلعه الجماعة على الانسان الفرد الذي يتميز بخصائص فردية معينة. فوجود الولي قرين بعدين: أحدهما: فردي تضخمه الجماعة بمرور الزمن بسمات اسطورية خارقة. وثانيهما: الجماعة التي تجد في الولي محط أحلامها وطموحها وأمانيها، إذ تجد فيه الانسان الكامل الخارق، فهو المنقذ والمخلص الذي تخلقه الجماعة بسبب احباطها في حركة الواقع القاسية..

ويمثل ضريح السيدة زينب لأسرة بطل القصة مركز الحياة، فالأسرة كلها تعيش في رحاب السيدة زينب وفي حماها، وان أعياد السيدة زينب ومواسمها إنما هي أعياد الأسرة ومواسمها، وأن حركة الحياة في البيت تابعة للضريح والمسجد، فمؤذن المسجد ساعة الأسرة.

وتمثل السيدة زينب لأسرة بطل القصة المنقذ الروحي الذي تلوذ به. وانّ كراماتها تعم المكان، وتوسع الرزق، وتحرس الأبناء، فاتساع متجر جد البطل من كراماتها، وان «اسماعيل» بطل القصة نشأ في «حراسة الله ثم أم هاشم» وإن ضريح السيدة خير كله، يزوره التقي والآثم

إنّ اسماعيل فرد واحد تصنعه الجماعة وتسهر وتشقى وتفنى من أجل صنعه وخلقه. إنّ المنقذ لا ينأى بعيداً عن الجماعة، فهي التي تدور في فلكه، تصنعه، ثم تقدسه. فهو فرد بإزاء الجماعة. والجماعة تسقط أحلامها عليه. والبطل «خبير بكل ركن وشبر وجحر، لا يفاجئه نداء بائع ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صورة متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد في روحة أقل مجاوبه. لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب، إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبينه عينه »

إنّ الأسرة التي كانت تهيء «أسماعيل» ليؤدي دوره منقذاً ومخلصا، كانت ترى أن العلم هو الطريق الجديد للتقدم. واذا كان هناك منقذ ومخلص قديم يتنفس في أجواء التراث وينهل من روح التصوف، فإن المنقذ الجديد تصنعه الجماعة أيضاً، وتمهد الطريق له للاغتراف من العلم، وبخاصة في رحلة الى عالم العلم الحديث في الغرب، وكان لا بد من التضحية باللقمة والمال، كي يرحل «اسماعيل» لتلقي العلم في الغرب، ولكل رحلة مخاوفها ومخاطرها، تماما كرحلات السندباد، تكتنفها العجائب والغموض والأهوال. وكانت فاطمة النبوية ابنة عم اسماعيل أول من استشعر الخطر، فهي تخشى من هذه الرحلة لأنها تسمع « انّ نساء أوروبا يسرن شبه عاريات، وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء، فاذا سافر اسماعيل فلا تدري كيف يعود إن عاد

سؤال: من يستطيع أن يحلم ليكتشف. الجائع أم العالم أم الكاهن؟ في الجانب المهني بحياتك …كيف ترى الحياة تربوية في العراق من خلال نمط الاشتغال المؤسساتي في رسالتها الجديد. كم نحتاج من الوقت لنقترب من الحضارة الحديثة تربويا ولو بالقدر الذي يجعلنا مطمئنين على اجيالنا؟

د. كريم الوائلي: تتم الإجابة عن هذا السؤال بطريقتين: الأولى: طريقة الموظف المرتبط بوزارته، وهذا إجابته جاهزة معروفة، لا ضرورة لذكرها أو التعرض إليها، لأنها محاطة بالمكاره!!

والطريقة الثانية: إجابة مثقف، والمثقف بحسب جان بول سارتر معارض ومزعج للسلطة..، وعندها سيكون الحديث مختلفا ً.

ويمكن للمثقف أن يجيب عن هذا السؤال بالمقارنة بين المنجز التربوي في العراق، والمنطقة والعالم.. ولا أريد أن أتحدث عن استراتيجيات التربية والتعليم في بريطانيا وألمانيا واليابان فإن بيننا بونا ً شاسعا ً، ولكن يمكن تأمل الاستراتيجية التربوية في دول عربية، وعلى سبيل المثال الاستراتيجية المصرية للتربية التي تعنى بثلاث مراحل 1 – مرحلة الوصف 2 – مرحلة التخطيط 3 – مرحلة التنفيذ.

أي بين ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون.. وتأسس الاستراتيجية على معايير علمية ومهنية وأكاديمية.

وفي تقديري الشخصي إن النظام التربوي لا يزال يراوح بين آليات وأفكار واستراتيجيات أنظمة تربوية سابقة، ويراوح بين محاولات للتغيير فيها قدر من الجدة، ولكن لا ينتظمها سلك!! وتعاني من نواقص يتصل بعضها بحداثية التطوير ونقص في الأموال والأنفس.

اعتقد اننا في ظروف تفرض علينا استشراق الحديث والحداثة.. ولكننا ما زلنا نعاني من تكرار القديم والمألوف لكونه قديما ً ومألوفا ً.. ولعلنا نكرر قول

الشاعر: (ما أرانا نقول إلا معارا ً أو معادا ً من قولنا مكرورا ً)

أحسب أن الحديث والحداثة وجهان لعملة واحدة سواء أكان ذلك في التربية أم في الصناعة أم في الآداب..

ويبدو أننا نعيش قدرا ً من التعارض والتناقض بين واقع سلفي تقليدي وأفكار حداثية، انني أكرر ما سبق أن قلته في كتابي تناقضات الحداثة العربية.. ان الحداثة العربية لما تأت ِ بعد

***

حاوره: نعيم عبد مهلهل

.................................. 

* الصورة للدكتور كريم الوائلي

حاورها: محمد حسين الداغستاني

كولاله نوري: الشاعرة العراقية الكردية المغتربة ولدت في كركوك ونشأت فيها، ثم انتقلت إلى الموصل لإكمال دارستها ثم الى بغداد. سكنت فترة في عمان وبعدها تنقلت بين اكثر من دولة، وهي مستقرة الان في الولايات المتحدة الامريكية. نالت شهادة الماجستير بدرجة امتياز عن رسالتها (رؤية الشعر الأمريكي والعراقي الحديث حول حرب العراق) وهي تحليل سيكولوجي ومقارنة أدبية بين الشعراء الأمريكيين والعراقيين الذين كتبوا عن حرب العراق.

وكولاله عضو في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ومجلس وسام هوميروس الاوربي للشعر والفنون، في بروكسل منذ 2016. تحمل دبلوما في اللغة الروسية ونالت الدكتوراه في الترجمة الإنكليزية، لها مجموعات شعرية عديدة بدأتها بمجموعتها الشعرية الأولى (لحظة ينام الدولفين - 1999) ثم (لن يخصكِ هذا الضجيج 2001) و(تقاويم الوحشة 2005) و(حطب2010) و(قبعات مكسورة 2016).

عن كولاله نوري الانسانة والشاعرة وعن نظرتها للحياة والشعر والحب والمهجر أجريت معها هذه المحاورة لتسليط الضوء على مبدعة أثارت نصوصها وشخصيتها وقناعاتها جدلا في أوساطنا الادبية وما زالت مستمرة في رفد المشهد الشعري بنتاجها الابداعي.

* يقول كافكا (راح عصفور يبحث عن قفص): هل أسس حلمك لمغادرة كركوك بل العراق كله وانت في بداية مرحلة النضوج لمديات صراعٍ بين التوق للحرية بعيدا عن أسر المكان وبين معاناة الغربة واشكاليات التكيف؟ وهل كانت مدينتك معك في حقيبة سفرك الدائم؟

- كولالة نوري: مقولة كافكا لا تنطبق على بدايات تلمسي الحياة والشعر والوجود، ولم تكن لدي اشكاليات التكيف مع عوالم جديدة من ناحية المكان او الثقافات لا نني اتوق لكل ما هو غير متكرر. استلهم من البيئات والحضارات والثقافات الجديدة روح اضافية للكتابة، والتأمل وفكرة الوجود، ومعرفة لسايكولوجية النفس البشرية من ضمنها واولا نفسي. وليست لدي معاناة الغربة المكانية، الغربة المكانية عشتها في الحقيقة وانا صغيرة في كركوك بسبب النظام العنصري الفاشي لحزب البعث وعمليات ترحيل الاكراد والاستيلاء على بيوتهم، ثم الاصدقاء وصديقات المدرسة الذين كانوا يختفون فجأة مع عوائلهم كان ذلك يسبب لي حزنا، وشعورا باللااستقرار، لذا ليست لدي ذكريات جميلة في كركوك سوى مكتبتها العامة التي كانت تاخذني لعوالم اخرى من كتب وادباء وعلوم وفلسفة وأديان، كنت مدمنة مطالعة واقضي الكثير من ايام العطلة المدرسية هناك. حين غادرت كركوك اصبحت لدي مدن كثيرة في حقيبة السفر وحقيبة الذاكرة والقلب. احتاج عمرا آخراً كي اتصفح فقط تلك الحقائب. لدي حالة دفاعية ضد الاحزان والخيبات، ان اضعها على درج بعيد عن اليد والعين والاحساس، قد تقع بين فترة واخرى بترابها امامي لكنني احاول قدر الامكان ان اكبت فضولي لمسح الغبارعنها اوفتحها واحيانا قليلة افشل في المقاومة.

* ابتداءَ كيف وجدت نفسك على درب الشعر؟ وهل تكتبين نصك الشعري دفعةََ واحدة أم تكررين العمل فيه مرات عديدة؟

كولالة نوري: الشعر كان موجوداً في بيتنا وفي مكتبتنا الصغيرة.عائلتي كانت تحترم المبدعين في مجال الشعر هذا كأساس وكذلك اثناء قراءاتي الكثيرة منذ الصغر، ومن ثم دور مجلتا الأطفال واليافعين (مجلتي) و(المزمار) في تأكيد انحيازي للشعر والأدب بمواضيعها الجميلة والمهمة القريبة من اعمارنا حينذاك. وأيضاً دور مدرستي للغة العربية في المدرسة في كركوك حين كانت تسأل من لديها رغبة او هواية لكتابة الشعر فشجعتني كثيرا وكانت تصحح لي أخطائي، أما عن كتابتي لنصوصي فإني اكتبها دفعة واحدة وكانني انقلها من مِرآة أمامي وما يبقى لاحقا يخضع للمراجعة البسيطة.

تجديد المفردة الشعرية

* الإرتقاء بمخزون الذاكرة عبر إحداث تغيير جوهري في اللغة الشعرية للابتعاد عن التكرار في محتوى وشكل النص يتطلب جهدا مضافا يقترن بالوعي لأهمية وظيفة الشعر وديمومة تأثيره. كيف تتصدين لهذا التحدي، بمعنى كيف تتعاملين مع فكرة تجديد المفردة الشعرية في نصك؟

كولاله نوري: الذاكرة لا تحدث تغييرا جوهريا في اللغة الشعرية ـ الزمن الحاضر او لحظة كتابة القصيدة والمكان والحدث والفكرة ومدى توفر حرية التعبير في زمن ومكان الكتابة ـ وطبعا المطالعة المستمرة والثقافات الجديدة التي تكتسبها بحكم حياتك المختلفة، كل تلك المعطيات تساهم في تغيير اللغة الشعرية، والمحتوى يتغير أيضا حسب الاحداث والاشخاص التي تدهشك او تستفزك للكتابة، لست مقتنعة ان للشعر وظيفة مؤثرة او فعّالة، انا اكتب لأتنفس وكي اقول لهواجسي " لست وحدكِ، انا هنا معك " لذا ارى الآن ان الشعر والشعراء يعملون في دائرة مغلقة.

لم اتعامل مع كتابة الشعر ومفرداته هكذا، اترك المفردات تخرج مني على راحتها بشوق لتتحرر، قد ترقص او تبكي او تنعس او تركض وقد تخفف الوطء. استطيع القول انني اهتم بالصورة الشعرية أكثر من المفردة فانا لست فقيهة ولا بقاموس، والصورة الشعرية تكون متكاملة تقريبا حين اكتبها، انا لا اجيد الصناعة اجيد إلتقاط الصورة الشعرية في نظرةٍ واحدة.

* وقفة مع قصيدتك (وصيتي الى مْغسًلة الموتى) رأيتها جريئة جدا تكشف عن دواخلك بوضوح صادم وهي مثقلة بالدلالات الصورية التي تختصر نظرتك للحياة والموت، إنها متتالية المعاني ترمز للرفض والتمرد والتحرر من اسر العقائد وتلغي قيم الاسرة والمجتمع الذي ولدت فيه وكأنها ولدت في رحم أزمة نفسية.. هل أنها نضح الواقع الراهن أم انها جاءت تعبيرا عن قناعاتك الفكرية الثابتة في الحياة؟

- كولاله نوري: ذكرت في جوابي السابق انا لا أجيد الصناعة والتصنع وأترك الصورة الشعرية تقدم نفسها بالإطار المناسب لها، لذلك فهي ليست لها علاقة بقصدية التمرد على قيم الأسرة والمجتمع، قصديتي بالذات في تلك القصيدة هي كتابة وصية شعرية، مع تمردي فعلا على معظم العادات والتقاليد المضرة لصحة العقل، والعمل للعيش بروح انسان متحرر فكريا ونفسيا من أذرع أخطبوط المجتمعات المحبطة للعطاء الإبداعي والفكري. بالنسبة لولادتي، فليست لدي ولادة واحدة ولكوني ولدت في أحد المجتمعات بالصدفة فهذا لا يعني ان اصبح عبدا لذلك المجتمع. اضافة الى ذلك من قال لك انني ولدت مرة واحدة؟ أنا ولدت حقا عشرات المرات في مسيرة حياتي وعشت طرق حياتية مختلفة، أصبحت لدي قيمي الخاصة لاسرتي الصغيرة التي تناسب جميع أفرادها وبموافقتهم معي طبعا. الاسرة التي يولد الفرد فيها تتوزع أفرادها مع الوقت في أسر مستقلة، لهم قوانينهم واتفاقياتهم بينهم للعيش معا، وهي في معظم الاحيان تختلف عن الاسرة الجذر. اما العقائد فهي بالنسبة لي نظريات من المطلوب برهانها، والطرق التقليدية للعقائد تخنقني.

* تتكلمين بعدة لغات غير لغتك الاصلية وتستقرين في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات، لكنك في النهاية اخترت الكتابة باللغة العربية ولك عدة مجموعات شعرية بها، ألا تسبب الكتابة بغير لغة الأم لك إشكالاً ذهنياً؟

- كولالة نوري: في بدايات كتاباتي كنت أكتب باللغتين الكوردية والعربية، لكن مطالعاتي كانت كثيرة جدا باللغة العربية اضافة الى ان الدراسة خلال مراحل المدرسة كانت بالعربية. درست الكوردية في المدرسة لسنة واحدة ثم منعت اللغة الكوردية في المدارس في كركوك، وبما أن الشعراء والكتاب الكورد كانوا معظمهم معارضين وكتبهم ممنوعة في كركوك. لذا كنا نتعرض لدهم المنازل من قبل قوات الأمن ايام النظام السابق واذا حدث وان وجدوا كتابا لهؤلاء المعارضين فستكون مشكلة كبيرة وقد ندخل السجن من أجل كتاب، لذلك ركزت وانفردت بالمطالعة باللغة العربية وبالتالي الكتابة بها بطبيعة الحال ومكتبة البيت كانت مليئة بالكتب العربية من قصص وشعر. اللغة العربية لغة ساحرة تأخذك بعيدا عن القوميات والسياسات والتفرقة. مطالعاتي بالانكليزية او دراستي للغة الروسية اضافت الكثير للغتي الشعرية في الحقيقة ولم أجد أية إشكالية ذهنية نتيجة ذلك، وقد نصحني الكاتب الكبير القاص جليل القيسي في بداياتي ان استمتع باللغات التي أعرفها لأنها تخلق خلطة ذهنية وحسية دافعة للإبداع ولا يجب ان تسبب لي الحالة التشتت وقد عملت بنصيحته.

* في نصك الشعري وربما في الحياة الواقعية كيف تتناولين الحب، أهو قيمة رومانسية عليا أم أنه مجرد نزوة عاطفية تعالجيها بالمنطق والعقل بعيدا عن القلب؟

- كولاله نوري: لم أنظر للحب او العاطفة ابدا كنزوة، النزوة تسقط من قيمة الحب والعاطفة. الكلمتان نزوة وحب لا يمكن أن تجتمعان او تصفان حالة واحدة بعينها، النزوة انت تضحك على نفسك وعلى الآخر اذا اسميتها حبا. الحب قيمة حياتية عليا وليس قيمة رومانسية فقط.

* أين تجدين نفسك في خضم الشعر؟ وهل حققت خلال مسيرتك الطويلة ما كنت تطمحين إليه؟

- كولالة نوري: أجد نفسي غارقة في قصائد الحياة، نعم حققت معظم ما كنت أطمح إليه ولدي تصالح مع ذاتي واسلوب حياتي وتاريخي الانساني والشعري.

* في جملة مختصرة قولي للقراء من هي كولالة نوري الآن؟

- كولالة نوري: محاربة منتصرة رغم الخسارات. الانتصار يحول الخسارات لأوسمة!

وطن

من أبواب موصدة

تسكنه روائح

من تعب

وشهداء

صلاح حمه امين فنان تشكيلي وشاعر وصحفي وناقد يكتب باللغتين العربية والكردية. ترأس مركز كركوك لأتحاد فناني كوردستان مابين 2003 الى 2006. متعدد المواهب وعاشق لمدينته وانسانه المعذب. التقيت به ليحدثنا عن سفره في عالم الفن التشكيلي والادب وعالم الصحافة ذو المتاعب.

ـ سألته عن بيئة المدينة أي كركوك متعددة الثقافة والعقائد كيف تمكنتم من عكس واقع المدينة في انتاجكم الابداعي؟

* لايخفى على أحد، إن مدينة كركوك تعيش فيها أطيافٌ متجانسة من شرائح المجتمع العراقي من قوميات وأديان ومذاهب وعقائد وطوائف مختلفة، لقد أضاف هذا التجانس بشكل ملحوظ سماتٍ جميلة للمسيرة الأدبية والفنية والثقافية في هذه المدينة العريقة.لكنني مع ذلك أختلف مع وجهة النظر التي تدعي وتطرح بأن مدينة كركوك متعددة الثقافات، ذلك لأن الأهالي والمثقفين الكركوكيين الأصلاء، شأنهم شأن مثقفي سائر المحافظات العراقية إضافة لمثقفي إقليم كوردستان قد ترعرعوا على الثقافة العراقية (مع إحتفاظ كل قومية من قومياتها وكل طيف من أطيافها بسماتها القومية والتراثية والبيئية من خلال الكتابة والتعبير بلغتها) إذ يتضح لنا من خلال هذه الرؤيا بأن الثقافة الكركوكية ثقافة موحدة، ولكن كما أسلفنا مع إختلاف بعض السمات القومية والتراثية والبيئية بين قومية وأخرى وعقيدة وعقيدة، وفي هذا السياق نرى وحدة الثقافة الكركوكية متجسدة في(جماعة كركوك الأدبية – جيل الستينيات) والتي كانت تضم خيرة أدباء كركوك من (عرب وكورد و تركمان وكلدو أشوريين) والتي كان لها تأثير واضح ومباشرعلى المسيرة الأدبية والثقافية في العراق والوطن العربي، حيث ظهرت باكورة أعمالها الأدبية في بدايات وأواسط ستينيات القرن المنصرم، وكان لهم دور وحضور فعال في إصدار(بيان شعر 69)وكذلك في إصدارالأعداد الثلاثة من مجلة (شعر 69). لقد كان لظهور (جماعة كركوك الأدبية) وكذلك بعض الأحداث العالمية التي حدثت في أواسط الستينيات من القرن المنصرم، وكذلك المدارس والمذاهب الأدبية والفنية العالمية التي ظهرت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية التأثيرالمباشرعلى نخبة من الأدباء الكورد في مدن كركوك والسليمانية وأربيل، حيث تمخضت عنها ظهور جماعة (روانگە) الأدبية، وقد قابلها في نفس الفترة ظهور (جماعة كفري) بين الأدباء الكورد في مدينة كركوك وتوابعها، والتي كانت لها رؤيا مختلفة عن رؤيا جماعة (روانگە) للأدب الحديث. يتمتع الأدب والنتاج الأبداعي برؤيا ذاتية وموضوعية للقضايا العامة والشخصية بمنظور يواكب التطورات التي شهدتها مسيرة الأدب والثقافة العالمية من خلال رؤيتها للهموم والمعاناة البشرية التي واكبت الحربين العالميتين وما تمخضت عنهما من حروب معلنة وحروب باردة والتي عانى وتعاني منها البشرية الى يومنا هذا، وإنعكاسها على النخبة المثقفة. إن الأدب والنتاج الإبداعي ليس أبواق وشعارات طنانة، أو محض رؤيا يفسرها السياسيين ودعاة الأدب، من الذين يتركون الحصان خلف العربة، فالكاتب يتناول مايراه من الواقع، ولكن برؤيا ومنظور مختلف، إنها تجزئة لصورٍلاترى بالعين المجردة، تجري زعزعتها عن أماكنها وإعادة بناءها من جديد من خلال خيالٍ خصب ورؤيا شمولية واسعة، خيالٌ يفتح فضاءاتٍ ومساحاتٍ شاسعة للتحليق، إنها إستفحال الخيال بطرق مختلفة، والنزول الى البحر بمركبة فقدت بوصلتها وتمزق شراعها.

- لغة النص أهميتها تاتي بكونها للتواصل كما نرى في استخدام المليار من البشر للانكليزية او الاسبانية في أمريكا ألاتينية والتي تعتبر بحد ذاتها لغة المحتل الاسباني.الكتابة بالعربية لمن لا ينتمي الى العرب يعطي الكاتب مساحة واسعة من القراء عكس الكتابة بالكوردية السورانية او البادينانية. هل تعتقدون بان اللغة مهمة في الكتابة ام ان التواصل مع القارئ اهم حيثما تواجد لان النص المكتوب في واقع الامر بيئته، شخصياته و روحه كوردستانية؟

* إن اللغة هي إحدى أدوات التعبير التي يعبّر من خلالها الإنسان بشكل عام والأديب بشكل خاص عن أحاسيسه ومكنوناته الداخلية وكذلك عن كل مايحيط به من أحداث ومآسي عامة وخاصة.. فالكتابة بغير لغة الأم إنتشرت منذ النصف الأول من القرن الماضي بشكل ملحوظ في العالم.. فـ(الأدب الأقلوي) يسعى الى (اللاحدودية) أو(مقاومة الحدود) حيث توظف أقلية إثنية أو لغوية لغة الأكثرية لكسر الهيمنة المحيطة بها. حيث ظهرت هذه الظاهرة من خلال الهجرة الى الدول الغربية أوالتنقل فيما بينها، وكذلك عقب الحرب العالميتين الأولى والثانية، وأيضاً بسبب مرحلة الإستعمار لبعض الدول العربية والأفريقية. نذكر هنا للتشبيه لاللحصر الكاتبان الإيرلنديان الذان كتبا أعمالهما الأدبية بغير لغة الأم، وهما (صموئيل بيكيت) الذي كتب أعماله الأدبية باللغة الفرنسية، وكذلك الكاتب والروائي (جيمس جويس) الذي كتب أعماله الأدبية باللغة الإنكليزية.. أضف الى ذلك وجود عدد كبير من الكتّاب (الفرانكفونيين) من المغرب العربي ولبنان ومصر الذين أكتشفوا في اللغة الفرنسية ما لاتستطيع أن تقوله أوتعبرعنه اللغة العربية، حيث فرضوا وجودهم وأعمالهم الأدبية على الأدب والثقافة الفرنسية، نذكر منهم كل من (مالك حداد/كاتب ياسين/مولود فرعون/محمد ديب/محمود أصلان/جورج حنين/جويس منصور/جورج شحادة/ الطاهر بن جلود)وآخرين. لاشك إن الكتابة بغير لغة الأم لم تقتصرعلى الكتّاب الإيرلنديين والعرب فقط، فقد كان للكورد أيضاً مكانة كبيرة بين أدباء الدول التي إحتلت كوردستان من (أتراك وفرس وعرب) نذكر هنا بعض الأدباء الكورد الذين كتبوا باللغة العربية للتشبيه لاللحصر (أحمد شوقي الذي وصف بأميرالشعراء العرب) ومن جيل الستينيات نذكر كل من (الشاعر الكبير بلند الحيدري/الكاتب المسرحي محي الدين زنكنة/ الروائي الكبير زهدي الداودي/القاص والروائي أحمد محمد أمين) إضافة لهذه الأسماء فقد كان للأدباء الكورد السوريين حضور ملفت وكبير في الساحة الأدبية العربية نذكر منهم كل من (الشاعروالروائي الكبير سليم بركات الذي وصفه الشاعر الكبير محمود درويش بأنه أفضل من كتب باللغة العربية منذ العقود الثلاثة الماضية.وكذلك نذكر كل من الروائي جان دوست والقاصة والروائية نجاح إبراهيم والقاص والروائي إبراهيم اليوسف و الشاعر لقمان محمود والشاعر كيفهات أسعد والشاعر والكاتب محمد عفيف الحسيني) وغيرهم.

- لكم علاقات مع مختلف أطياف النسيج السكاني لمدينة كركوك هل هناك عوائق بين المثقفين فيما يخص التحاور والنقاشات الأدبية؟

* كما أسلفنا سابقاً، إن النسيج السكاني والثقافي لمدينة كركوك نسيج متجانس، مع إحتفاظ كل قومية وكل طيف من أطيافها بسماتها القومية والعرقية والتراثية، وخيردليل على ذلك تلك الوحدة التي تميزت بها (جماعة كركوك الأدبية) والتي ضمت نسيجاً من المجتمع الكركوكي، والتي وضعت اللبنة الأساسية للثقافة الكركوكية الموحدة. فالتأريخ الثقافي لمدينة كركوك تأريخ موحد لايقبل ولايرضى بالتجزئة، حيث هناك أدباء كورد كتبوا باللغة العربية والتركمانية، وكذلك هناك بعض الأدباء التركمان الذين كتبوا باللغة العربية، من هنا نرى نسيج التجانس والوحدة واضحة الملامح والنوايا عند غالبية النخبة الكركوكية المثقفة، التي تحاول جاهدة تطهير السياسة والنظرة والرؤيا الدونية من خلال الأدب والفن. ومع ذلك للأسف الشديد كما قيل (ليس كل مايتمناه المرء يدركه).

- الشعر البوابة الكبيرة للإبداع الأدبي وأسلوب حياة والنص الشعري يعتبر كذلك زبدة الكلام واجمل ما فيه الصورة الشعرية. المدينة واهلها وخلال فترة الدكتاتورية البعثية التي امتدت الى35 عاما شاهد العديد من التغيرات السكانية والثقافية. كيف ترون تاثير تلك الحقبة على الحركة الثقافية في المدينة؟

* الشعر هو بقايا حلم يسعى للتحليق في فضاءٍ أوسع، إبتسامةٌ تتعثر بين شفتين وبقايا كأس وسكائرممزوجة بالحبروالدماء، وقوعٌ في أحضان شيطان ومومس، وفي حب عذري، إقامةٌ في منازل وأكواخ ذي أبواب وشبابيك مفتوحة، سباحة وطيران في فضاء يتوسع كلما إتسعت رؤيا الشاعر أوأفقه، إمساكٌ بغيوم جافة وتحويلها الى نبع وفيضان، إنشاء مساحة من الورق والحبر بين الواقع والخيال وحافة الجحيم وأبواب الفراديس، تأويلات لزمنٍ من عواصف ورعود، ولإنكسارالحلم، إنتقالٌ للضفة الأخرى غرقاً، والخروج من العاصفة الى المعنى والترحال بين ضفافه، رؤيا لشلال الزمن المتهالك، وإنشاء جسورٍ وممراتٍ في حقولٍ للألغام...

لا يخفى على المتابعين والمطلعين على تأريخ وجغرافية مدينة كركوك قبل أكثرمن خمسة عقود وتزيد، بأن المساحة الجغرافية لهذه المدينة كانت أضعاف ماهي عليه الأن، حيث كانت تضم مدن (جم جمال وتكية وأغجلر وعسكر) إضافة لـ مدن (كفري و وكلارو طوزخورماتو) التي كانت تضم مئات القرى الكوردية التي بترت عنها بعد تنصل النظام البعثي المقبورعن تطبيق بنود إتفاقية بيان (11) أذار التأريخي وتجدد الثورة في كوردستان، إذ تسببت تلك الإستقطاعات والبتر العنصري من الناحية الجغرافية والسكانية الى تغييرٍ (ديموغرافي) في الهيكلية الإدارية لمدينة كركوك والتي تعاني منها حتى يومنا هذا على الرغم من تغيير النظام البعثي منذ أكثرمن عقدين من الزمن.أضف الى ذلك مؤامرة (إتفاقية جزائر) المشؤومة التي تسببت في إنهيار الثورة الكوردية التحررية في عام (1975)والتي كان السبب الرئيسي في تهجير وإبعاد المئات من أبناء هذه المدينة الأصلاء من القومية الكوردية الى جنوب العراق ومدن إقليم كوردستان، والتي ضمت عدد كبير من خيرة الأدباء والفنانين الكورد، وإفساح المجال لمئات العوائل العربية من مدن جنوب العراق ووسطها للقدوم والسكن في مدينة كركوك، وقد تسببت تلك السياسة العنصرية من إرباك وشل الحركة الثقافية فيها، أضف الى ذلك إغلاق ومنع المدارس التي كانت تدرس باللغتين الكوردية والتركمانية، وكذلك تم منع إقامة النشاطات الأدبية باللغتين الكوردية والتركمانية، حيث تسببت تلك الحالتين أي(تهجير وإبعاد الأدباء الكورد ومنع إقامة النشاطات الأدبية بغير اللغة العربية) في جمود واضح في المشهد الثقافي الكركوكي، بأستثناء بعض النشاطات الأدبية القليلة التي كانت تقام باللغة العربية.والملفت للنظر ذلك الإزدهارالكبيرالذي تميزت بها النشاطات التشكيلية في تلك الفترة العصيبة من تأريخ هذه المدينة، حيث كان فيها الفن التشكيلي المنفذ الوحيد للثقافة الكركوكية الموحدة، والمتنفس الوحيد للنخبة المثقفة والواعية في مدينة كركوك.3768 صلاح حمه امين

- بتصوري ان الإقليم قد فشل خلال 20 عاما الأخيرة من خلق مناخ حواري بين مكونات المدينة القومية والعقائدية لا بل زاد الفكر القومي الأحادي الهوة بين تلك القوميات. مثلا الطرح أصبح باسم القومية وليس باسم الكوردستانية أي الارض والوطن. كنتم بنفسكم تقودون خلال سنوات منظمة ثقافية ذو قطب واحد ولم يتم استخدام كلمة الكوردستانية بشكلها الصحيح أي الدلالة على الوطن وليس القوم. هذا التقوقع القومي من انعكاساته تباعد النخبة المثقفة وتقوقعها. ماذا قدمتم للتعددية الفكرية في المدينة؟

* عذراً أرغب هنا أن ابدأ بالرد على الشطر الثاني من سؤالكم، والتي هي أقرب وأحب إليّ من الخوض في الأمور السياسية. إن جميع المنظمات الكوردستانية بأستثناء (إتحاد أدباء الكورد) والذي تأسس عام (1970) بعد صدور بيان (11)آذارالتأريخي تحمل الصفة الكوردستانية، أي الأرض والشعب الذي يعيش فوق أرض كوردستان منذ مئات السنين.إننا منذ الأيام الأولى من تحرير مدينة كركوك من بين أنياب النظام البعثي المقبورعام 2003 قمنا بفتح (مركز كركوك لإتحاد فناني كوردستان)، وقد سبقت خطوتنا تلك إجتماعاً موسعاً لجميع فناني كركوك من (كورد وتركمان وعرب وكلد وأشوريين) في بناية (فندق قصر كركوك) حضرها عدد كبير من فناني المدينة، حيث ناقشنا خلالها فتح (مركز كركوك لإتحاد فناني كوردستان) وكذلك سبل توحيد فناني مدينة كركوك تحت خيمة واحدة، والعوائق التي تعيقها وسبل معالجتها. وبعد ذلك بفترة قصيرة وتلبية لدعوة كريمة من مجموعة من الفنانين الرواد التركمان حضرنا إجماعاً لمجموعة من فناني مدينة كركوك والتي حضرها مشكوراً ممثلين عن النقابات والمنظمات الفنية في مدينة كركوك، إضافة لحضور بعض الوجوه والشخصيات الفنية المعروفة في المدينة، حيث ناقشنا برحابة صدر الواقع الفني في كركوك والمساعي للملمة شمل الفنانين الكركوكيين تحت خيمة فنية واحدة، ولكن للأسف الشديد باءت تلك المساعي بالفشل لعدة أسباب، من ضمنها عدم وجود نية حقيقية في الإستمرار بالأجتماعات، عدم التوصل لأيجاد آلية للتوحيد وكذلك عدم وجود دعم مادي ومعنوي لها، فرض هيمنة الأحزاب على قرارات تلك المنظمات، وعدم إستقلاليتها في إتخاذ القرارات والخطوات الإيجابية لتحقيق ذلك السبيل. أضف الى ذلك الصراع السياسي والأحتقان القومي بين الأحزاب والقوميات الكركوكية من أجل بسط هيمنتها على أرض وشعب مدينة كركوك لإسترداد مكانتها وحقوقها القومية التي أغتصبت منها في ظل فترة حكم (حزب البعث). وللعلم لم تقتصر وجود منظمات وفنية وأدبية تحمل السمة القومية على المكون الكوردي فقط، فقد كان للتركمان والعرب أيضاً منظمات فنية وأدبية، وهذا للأسف الشديد مازاد الهوة بين أدباء وفناني مكونات كركوك. وهنا أرغب أن أوضح لك وللسادة القراء حقيقة تلمسها وعاشها فناني هذه المدينة، في فترة ترأسي لـ(مركز كركوك لإتحاد فناني كوردستان) حيث إنضم إليها مجموعة من الفنانين (التركمان والعرب والكلد والأشوريين) إضافة الى ذلك فإننا في تلك الفترة إستطعنا الحصول على قرار شمولهم بمنحة (التكريم الشهرية) للفنانين والأدباء الكوردستانيين، والتي أصدرتها مشكورة (حكومة إقليم كوردستان - السليمانية) في عهد رئاسة فخامة الدكتور (برهم أحمد صالح) الرئيس العراقي السابق و رئيس (حكومة إقليم كوردستان - السليمانية) في عام 2004. وأما بالنسبة للرد على الشطر الأول من سؤالكم، فقد تطرقت من خلال ردي على الشطر الثاني من السؤال الى بعض الحقائق حول الهوة الكبيرة بين مكونات مدينة كركوك. بكل تأكيد إن فشل أي مساعي لردم تلك الهوة ليست أحادية الجانب، وكما يقول الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي (عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ · وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ). إن التنصل من تأريخ وجغرافية مدينة كركوك والتي تناولناها في ردودنا السابقة والتي تتمثل في (سياسات التعريب والتهجير والإبعاد القسري) للكورد من هذه المدينة إضافة لإستقطاع مساحات شاسعة من أراضيها والتي تتضمن أقضية ونواحي وقرى كوردية كانت تابعة لهذه المدينة ضمن سياسات التعريب التي طالتها إضافة لهدم أكثر من (4000) الأف من القرى الكوردية، وكذلك إحصاء عام (1957) الذي أثبت بشكل لا لبس فيه إن الكورد يمثلون وما زالوا أكثرية سكان مدينة كركوك، وكذلك أثبتت جميع الإنتخابات التي أجريت بعد عام (2003) تلك الحقيقة وهي إن غالبية سكان مدينة كركوك هم من القومية الكوردية. وللأسف الشديد أفزعت هذه الحقيقة القوميات الأخرى الذين يعتبرون أنفسهم دون أي مسوغ تأريخي ومنطقي بأنهم يمثلون أكثرية هذه المدينة، على عكس ما أثبتتها إحصاء عام (1957) وكذلك الواقع السكاني لمدينة كركوك، وكذلك ما أثبتته جميع الإنتخابات التي كما أسلفنا سابقاً بأن الكورد يشكلون الغالبية في هذه المدينة. ومع كل ذلك فقد شهدت الساحة السياسية في مدينة كركوك بعد سقوط (النظام البعثي) سلسلة من الإجتماعات والحوارات المتبادلة بين مكوناتها لردم الهوة بينها وتقريب وجهات النظر للوصول الى صيغة مقبولة لدى جميع الأطراف، إنني هنا لا أدافع عن بعض السياسات الخاطئة التي إنتهجها للأسف الشديد (إقليم كوردستان) متمثلة بأحزابها الرئيسية، ولكن مع ذلك للأسف الشديد تم إنكار وتغاضي النظرعما تعرض له الشعب الكوردي من (سياسات التعريب والتهجير والإبعاد القسري) في هذه المدينة وكذلك عدم الإعتراف بالحدود الجغرافية لمدينة كركوك قبل عام (1974) والتي كما أسلفنا سابقاً تسببت في إستأصال مساحات واسعة من مدينة كركوك وإلحاقها بمدن السليمانية وصلاح الدين وديالى كسياسات عنصرية لتقليل نسبة القومية الكوردية فيها، ناهيك عن هدم مئات القرى الكوردية وتهجير أبنائها الى المجمعات والقصبات القصرية... أضف الى ذلك التدخلات الأقليمية والتي كانت السبب الرئيسي في إزدياد الهوة بين مكونات هذه المدينة الكوردستانية الأصيلة. فها هي تلك السياسات الخاطئة تتحول الى الرهان على قدرٍ ومصيرٍ شائك، والى طلب معجزة مضى زمنها وولى...3769 صلاح حمه امين

- الفن التشكيلي في المدينة ذو جذور قديمة ويمكن اعتبار الحركة التشكيلية في كركوك رائدة بالقياس الى مدن ك مدينة السليمانية واربيل ودهوك. كيف ترون مستقبل الحركة الفنية في المدينة؟

* لمدينة كركوك تأيخ عريق في مجال الفنون التشكيلية، حيث تعود لمئات السنين، والتي لم تأفل رغم تعاقب أزمان القسوة عليها، بل بالعكس فقد زادتها الأزمنة القلقة رسوخاً وبهاء، ذلك التأريخ والشواهد الفنية تحتضنها قلعة كركوك و(قرى نوزلي وجرمو) الواقعتين بالقرب من مدينة (جم جمال) خير دليل على قدم الفنون التشكيلية في هذه المدينة العريقة. أما بالنسبة للتأريخ المعاصر للفن التشكيلي في كركوك والذي يعود على الأرجح الى نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن المنصرم، وكان أوجها في بداية خمسينيات القرن المنصرم، والتي شهدت ولادة أول تجمع فني بأسم (أصدقاء الفن) والتي إستمدت إسمها من (أصدقاء الفن) التي ظهرت قبلها في مدينة بغداد، وقد سميت فيما بعد بأسم (فناني لواء كركوك) أو (جماعة فناني كركوك) التي تأسست على يد ثلاثة من الفنانين الكركوكيين وهم كل من الفنانين (محمود العبيدي/ صديق أحمد عاشور/ سنان سعيد). إمتازت مدينة كركوك بكثرة النشاطات التشكيلية، وذلك بسبب وجود(شركة نفط الشمال)فيها، حيث كان يعمل فيها خبراء ومهندسين وكذلك عمال وموظفين بريطانيين في مجال النفط، وقد أقامت السيدة البريطانية (ساووت بي) معرضاً تشكيلياً في أواسط الخمسينيات في مدينة كركوك. تشير بعض المصادر الى أن الفنان الكوردي المعروف (عزيز سليم) أقام معرضاً شخصياً في مقهى (يد الله) بـ(منطقة الشورجة) في كركوك عام (1934) والتي ضمت (6) لوحات من أعماله التشكيلية، مع تحفظنا على ماورد في تلك المصادر فأنها بعيدة كل البعد عن الحقيقة. ومن ناحية أخرى، تطرق الفنان الكوردي المعروف (أزاد شوقي) في عدد من اللقاءات التلفزيونية والصحفية عن فترة تواجده وعائلته في مدينة كركوك وعلاقاته مع التشكيليين الكركوكيين ونشاطاته معهم حيث أقام معرضين مشتركين ومنفصلتين مع كل من الفنانين (محمود العبيدي وسنان سعيد)، وقد تطرق الفنان الراحل (محمود العبيدي) إليها.

وكذلك أقام الفنان التشكيلي الكوردي (خالد سعيد) والمعروف بـ (فريشتة) عام 1950معرضاً تشكيلياً في قاعة (المكتبة العامة) القديمة بمدينة كركوك. يتضح لنا من خلال بعض المصادروالنشاطات التي أوردناها هنا تهافت ورغبة فناني محافظة السليمانية في إقامة المعارض الفنية في هذه المدينة في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، وذلك بسبب النشاطات التشكيلية التي كانت تقام فيها. والجدير بالذكر يعتبر الفنان التشكيلي الكوردي الكركوكي (بديع باباجان) أول فنان يلتحق للدراسة بـ(معهد الفنون الجميلة – في بغداد) من مدينة كركوك ومدن إقليم كوردستان. كما أسلفنا سابقاً لقد تميزت ثمانينيات القرن المنصرم في مدينة كركوك بكثرة النشاطات التشكيلية المميزة كماً ونوعاً، إذ شهدت تطوراً ملفت للنظر من ناحية المستوى والإبداع الفني الذي واكب التطور الفني والمذاهب والمدارس الفنية التي إنتشرت في العراق والعالم. أما بالنسبة لحاضر ومستقبل الفن التشكيلي في مدينة كركوك فإنني(أرى بصيص ضوءٍ في نهاية النفق) إذ ظهرت في العقدين الأخيرين طاقات شبابية مبدعة وواعدة، والتي تواكب لوحاتهم وتجاربهم الفنية تجارب التجديد والحداثة التي شهدتها الفن التشكيلي في العالم.

- اليوم نعيش حالة يشبه ما كنا عليه عشية ايام مجازر 1959 حيث الماسي التي حصلت لابناء المدينة عشية الاحتفال بمرور عام على تغير النظام الملكي عن طريق ثورة او انقلاب عسكري وما رافقه من ماسي في السنوات التالية من إعدامات لخيرة أبناء المدينة. هذا الاحتقان الشديد في العلاقات الإنسانية في المدينة تتجدد كنتيجة لفشل جميع القوى السياسية في إعطاء شعور الأمان للمواطن والابتعاد من التميز القومي بين مكوناتها السكانية. هل نرى بصيص نور أمل في المستقبل ام نحن بحاجة الى مؤتمر وطني لابناء كركوك للحوار وحل الخصومات وانهاء حالة الخصام في المجتمع بعيدا عن الأجندات الحزبية؟

*عذراً لقد تطرقت لبعض جوانب هذا الإحتقان في ردودي السابقة، مع ذلك أضيف هنا.. إنها ليست شرب نخب الإنتصار، أو جرع سموم وألام الخيبات والهزائم، ولاحالة من نبش جراح الماضي وأخطاءها، إنها ليست فقط مساحة جغرافية في وطن في مهب الريح، إنها النشوء والترعرع بين أحياء مدينة من فسيفساء أطيافٍ إنتمت إليها منذ مئات السنين، إنها بكل تأكيد ليست فوران عقول وغرائز السياسيين ومنظري أسواق الشعوب. بل على العكس إنني أرى السياسة هي تلك التي تولد من رحم الأدب والفن العظيم التي تنادي بالتغيير ونبذ كل أنواع الإحتقان، والتي هي بكل تأكيد صرخة شعب مظلوم ومسحوق يطالب فقط بفسح الطريق لوصول (صخرة سيزيف) للقمة والخروج من عبثية (في إنتظارغودو)، وكذلك الخروج عن كونه فقط جثة يتلهى بها الأخرين من ذئاب مفترسة لاترى منها لحمها الهزيل الذي يغطي عضاماً أصابها الكساح.... فها نحن نحاول منذ عقود نزع الحذاء الذي بات يلازمنا ونرتديه حتى في أحلامنا ومناماتنا التي قلما نصحوا منها دون فزع أو خوف.

في الختام نشكر وسعة صدركم للإجابة على أسئلتنا سالين المولى عز وجل حفظ أبناء المدينة ونشر الأمان في قلوبهم.

***

اجرى اللقاء: توفيق رفيق التونجي

صناعة التأريخ عبر المنجز الابداعي

ليس جديدا على الفنان تناول الرموزالحضارية في اللوحات التشكيلية والأعمال الفنية الأخرى، لكن ما هو صائب وأكيد، أن توظيف المعلم الحضاري وتناول المدلولات الحضارية لتأكيد حقائق تلامس واقعنا الحالي والتعريف بمدى حاجتنا الجمّة لإستلهام تلك المدلولات في تعميق الوعي الشعبي ووضعه أمام الواقع الصادم الذي يقطر شجنا وأسى لما تعرض له الوطن من هجمات شرسة إستهدفت إفراغه من تراثه التأريخي العريق في مشاهد محزنة ومؤلمة، هو المهمة الأكثر إلحاحاً التي على الفنان التشكيلي العراقي أن ينهض بها بأسلوب إبداعي قادر على النفاذ الى الذاكرة الوجدانية والعقلية للمتلقي عبر مختلف الأنشطة والفعاليات، وحثه على المشاركة الواعية لإيقاف هذا النزيف الموجع.3720 ندى عسكر

ندى عسكر نجف فنانة كركوك التشكيلية المبدعة تصدّت بشجاعة لمتواليات الحزن العراقي، وعبرت عن رفضها القاطع لما آلت اليه ثروتنا الحضارية الوطنية فنظمت معرضاً مميزا في مساحة خاصة في المكتبة العامة بمدينة كركوك تحدثت فيه عبر لوحاتها عما يجري في الخفاء والعلن من تجاوز وإجحاف وسرقة‏ للبصمات التأريخية والحضارية لعراق الحضارات العريقة.

لقد إستقطبت لوحات ذلك  المعرض التشكيلي على إهتمام العديد من النقاد والمعنيين بشؤون الفن التشكيلي، فالمعرض ضم عدداً من اللوحات ألتي تناولت مظاهر ورموزاً للحضارات التي شهدتها بلاد الرافدين عبر تأريخها الموغل في العمق. فعن هذا الخيار الفريد للفنانة ندى أجريت معها هذا الحوار في محاولة  لتفسير أبعاده ومدلولاته الفكرية الوطنية والحضارية.

س١:  في مفهومك الشخصي ما الرسالة التي تودين إيصالها الى متلقي لوحاتك؟

ندى عسكر: هناك كثير من العراقيين قد لا يعرفون قيمة الآثار لبلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) فالآثار التي تذكرنا باعرق وأولى حضارات الدنيا التي سنت أقدم القوانين المؤسسة لمقومات الحياة الاجتماعية  ونسج الصلة الحية بين حضارة وأخرى كانت ولا تزال تضع وطننا العراق بأن يكون من أرقى بلدان العالم لأننا نملك الجينات الوراثية لأقدم حضارة في العالم، ولا شك في أنني أتألم لما نحن عليه الآن من تخلف وتراجع الى الوراء في كل مناحي الحياة وأتساءل: كيف كنا وكيف أصبحنا؟ ولماذا  العالم  يسبقنا في جميع مفردات حياتنا برغم ماعندنا من خيرات لا تُعد ولا تحصى حتى الشمس هي احدى اكبر خيراتنا، هذه هي رسالتي التي أود إيصالها من خلال لوحاتي.

س٢: في معرضك الأخير كان هناك تركيز رئيسي على الشواهد الحضارية الوطنية.. هل يعني هذا إنك تحاولين الإنفراد بهذا المضمون في كل لوحاتك القادمة ام تميلين للتنويع في مواضيع لوحاتك؟

ندى عسكر: نعم سانفرد بطرح حاجتنا الى تعميق الوعي الشعبي نحو حماية إرثنا الحضاري،  وأركز على الشواهد الحضارية الوطنية لأنها تمثل مسؤوليتي تجاه وطني ودوري كفنانة تحمل رسالة في المطالبة الملحة بإعادة كل ما فقد وسرق ونهب من أثار خالدة وعظيمة ذهبت الى بلاد غريبة عنها فمن المؤسف حقا أن تزهو متاحف العالم بمعالم حضارتنا سواءً في متحف اللوفر في فرنسا أو في متحف برلين في المانيا أو في متاحف تركيا وإيران وامريكا وغيرها. إني أتساءل كثيراً كيف وصلت اثار وطني الى هذه الدول؟ ويدهشني فعلاً عندما يعارضني احدهم في رأيي ويقول لي: (خليها في بلدانهم هم على الاقل يحافظون عليها) لكن هل من المعقول أن الدول التي سرقت آثار وطني تظل هي المستفيدة الوحيدة من قيمة هذه الثروات التي لا تقدر، ومن الموارد المالية اليومية التي تحصل عليها من خلال هذه التحف الثمينة؟  فلماذا لا تكون هذه الخيرات موجودة في بلدي لينعم بها شعبنا الفقير المظلوم الذي يتجرع شتى أشكال الجوع والحرمان ؟.ولماذا الدولة صامتة على هذه الجريمة؟  أجل ساتفرد بمطالباتي في كل معرض أقيمه أو حين أقابل المسؤولين في معارضي لعلي أُسمع صوتي وأشعر الآخرين بحرقة دمي لما فقده العراق من خيرات.3721 ندى عسكر

س٣: لا شك في ضرورة توظيف  احد الاساليب التي تجدينه الأكثر قدرة على ترجمة  افكارك. ما المدرسة الفنية الأقرب إليك في الرسم؟

ندى عسكر: المدرسة التي اتبعها في الرسم هي الرمزية الواقعية وفيها شئ من ملامح السريالية وأعتقد إنها الوسيلة الأكثر تعبيرآ عن رؤيتي في إيصال أفكاري وما أحمله من هموم للمتلقي، وهو لا شك سيفهم مضامين لوحاتي حسب ثقافته وتطلعه وإدراكه.

إنني أرى أن الفن التشكيلي يمتلك لغة عالمية لها عمومية الإنتماء العالمي وخصوصية الموطن المحلي،  فهو بهذا المفهوم وسيلة اتصال بين الشعوب وبين العصور،  وهو حلقة الوصل بين الفنون كلها، كما أنه المضمون الآسر والأداة والوسيلة، وهو الإنتاج الأكبر في الموروث الحضاري. ودوره يتجاوزالواقع وكذلك يرتقي على مهمة ابراز المظاهر الحضارية  فحسب إلى إغنائها بل وإغناء المنتج الحضاري نفسه كما َونوعاً.  تأسيساً على هذا المنطق فإن الفن ألتشكيلي هو الإنتماء الى العصور التاريخية القديمة  عندما كان الرسم وسيلة التعبيرعن الهواجس والوقائع والاحزان والأفراح.

س٤: لاحظت ميلك الى توظيف الألوان الداكنة في بعض لوحاتك، لابد لهذا الخيار من تفسير منطقي؟

ندى عسكر: الحقيقة أن الألوان الداكنة كانت مهيمنة على  لوحة كلكامش وقد رسمتها بالوان داكنة لأن موضوعها مؤلم وأفترض فيها عودة كلكامش ليرى نكسة الحضارات وهي تسقط في متتالية مؤلمة، الواحدة تلو الأخرى نتيجة الحروب والخراب الذى تعرضت لهما بلاد مابين النهرين..

س٥: تتنوع نتاجك الابداعي، وكما أعرف أنت مميزة  ايضاً في عالم النحت والخزف؟

ندى عسكر: الرسم هو اساس كل الفنون، فن النحت

والخزف والتصميم وكل الصناعات في الحياة يعتمد التصميم والرسم.. انا مثلاً نشطة في مجال رسم وتصميم  الأزياء والعباءات النسائية  ثم اخيطها بنفسي.. لكني لم أتخذه مصدراً للرزق رغم حث وتشجيع الكثيرمن الأهل والأصدقاء لاقناعي باحترف تصميم الازياء في دور الازياء، كذلك درست فن الخزف والنحت الفخاري في كلية الفنون الجميلة وهواختصاصي لاني أعشق الطين وتطويعه للتعبير عن أفكاري.

س٦: إذا أتتفقين مع من يرى ان للخزف والنحت رسالة فكرية مماثلة للوحة التشكيلية؟

ندى عسكر: طبعا، أكيد لهما رسالة فكرية ونتاج بصري جمالي بنفس الوقت. ففي الخزف والنحت الفخاري جداريات تحكي ملاحم تاريخية ذات مضامين فريدة،.. الخزف والنحت مدرجان في سجل تاريخ اجدادنا في كل مرحلة من المراحل الزمنية، لقد تعرفنا من خلال الخزف والنحت على طبيعة أزيائهم وعاداتهم وتقاليدهم واحتفالاتهم الدبنية ومعتقداتهم وقد ثبت ذلك خلال إكتشاف الألواح  الطينية المنحوتة.  نحن أيضاً من منطلق المسؤولية الوطنية التأريخية نقتفي آثار اولئك العظام  ونتطلع من خلال إعمالنا الفنية كلها ومنها الخزف والنحت أن  نؤرخ في كتاب اليوم  ونصنع تأريخا لحاضرنا  ليقرأه الجيل القادم من بعدنا ومن خلاله سيتعرف المستقبل على إنجازاتنا لخير البشرية.

***

حاورها: محمد حسين الداغستاني

غزاي درع الطائي:

- تاريخنا تاريخ حروب، فما انطفأت نار حرب في مكان إلا وشبَّت في مكان آخر

- الشاعر هو أول المتأثرين سلبا أو ايجابا بتبدل السلطة

- اختلطت الأوراق وكتب ما يُسمّى بالشعر من لا يعرف الفرق بين الفاعل والمفعول

***

في حرب رمضان ١٩٧٣ كنا نتابع الأخبار من خلال الصحف الصادرة في حينها وكان الإعلام الحكومي العربي يرسم انتصارات أسطورية للجيوش العربية على جيش إسرائيل حتى تخيلنا أن الجيوش العربية ستحتفل بالنصر في تل أبيب والقدس لكن الإعلام نفسه عاد وأخبرنا أن اليهود تمكنوا من إحداث ثغرة الدفرسوار وتطويق الجيش الثالث المصري وغطت سمعة الجنرال صاحب الثغرة على ما صنع الإعلام من بطولات لقادة عسكريين مثل الشاذلي والجمسي وضاع كل هذا في محادثات الكيلو (101) لكن ما علق في الذاكرة مما نشرته الصحف وقتذاك هو قصيدة حماسية لشاعر شاب اسمه غزاي درع الطائي لفت بها أنظار كل متابعي الأدب متوقعين ولادة شاعر سيكون ذا شأن في سوح الشعر وبمرور الزمن كانت قصائده تتوالد واسمه يكبر وبعد أن ارتدى البزة العسكرية وتعالت نبرة الشموخ في شعره عده بعض النقاد في مصاف الشعراء الفرسان وبعد خمسين عاما بالتمام والكمال ها نحن ندنو من حصون غزاي درع الطائي محاورين عن منجزه على مدار هذه السنين

- هل خلقت محاربا؟.

* لا، أنا أعشق الهندسة، ودرستها في كلية الهندسة التكنولوجية بجامعة بغداد (الجامعة التكنولوجية حاليا)، وكانت مدة الدراسة فيها خمس سنوات، والسنوات الخمس كانت (1970  1975)، تلك كانت رغبتي، أما رغبة والدي (رحمة الله تعالى عليه) فكانت أن أكون ضابطا، وتحقيقا لرغبة والدي ورغبتي معا أخترت أن أكون ضابطا مهندسا في القوة الجوية والدفاع الجوي.

* اشتهرت طي بالكرم لكن اسمك يدل على إعلان حرب -هل هناك سر؟.

* الكرم بوصفه صفة حميدة لا ينفرد وحده، بل يظل محتاجا إلى الشجاعة، والكرم والشجاعة يلتقيان ظهرا لظهر في عملة واحدة، إنهما وجها عُملة واحدة، والجود بالنفس أعلى غاية الجود، أفلا ترى أن تاريخنا تاريخ حروب، فما انطفأت نار حرب في مكان وزمان معينين إلا وشبَّت في مكان آخر وزمان آخر، ودواليب الحرب دائرة بشكل مستمر للأسف، هنا وهناك وفي أماكن متعددة، واليوم  على سبيل المثال لا الحصر  تشتعل حرب دولية بين روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من عام، وفي الوقت ذاته يشتعل نزاع داخلي في السودان منذ أشهر عدة، وهناك نزاعات في أماكن أخرى وتهديدات في أماكن أخرى.

- ماذا أسررت نهر (خريسان) في صباك وهل استرجعت سرك منه في كهولتك؟.

* ليس (خريسان) نهرا، لا، إنه صديق صدوق، وجليس أنيس، وهو مستودع الأسرار التي لا يمكن تهريبها أو تسريبها، بل هو المؤتمن على الأسرار، وما أودعت مجراه من أسرار حرصت على أن تبقى كما هي، من غير تحريف أو تزييف، ومن غير استعادة، وإذا قرأت نصي الشعري (الفتاة الخريسانية)، فستعرف الكثير، فاقرأ:

(لم يكنِ ارتفاعُ الماءِ في نهرِ خريسانَ

يزيدُ على الخمسينَ سنتيمتراً حين غرقتُ ،

نَعَمْ غرقتُ

كنتُ يومئذٍ واقفاً على ضفةِ النَّهرِ

في انتظارِ صديقٍ

وكانت عيناي تتابعانِ سبعَ بطّاتٍ وديعاتٍ

يسبحنَ في النَّهرِ بمتعةٍ وارتياحٍ

نَعَمْ ...

غرقتُ في حبِّ فتاةٍ خريسانيةٍ

كانتْ تسيرُ بمحاذاةِ النَّهرِ

بصحبةِ سبعٍ مِنْ صديقاتِها

في أمسيةٍ ربيعيةٍ فريدةٍ،

كانتْ ترتدي قميصاً أخضرَ

وتحملُ في يدِها وردةً حمراءْ

وتُعلِّقُ على كتفِها حقيبةً صفراءْ

قلتُ لها:

ليس في الدُّنيا أجملُ مِنْ بعقوبةْ

قالتْ: أدري

فليقلِ الشُّعراءُ في وصفِ جَمالِها

ما يعبِّرُ عن افتِتانِهِمْ

*

بعدَها

أخذ النّاسُ يشاهدونني كلَّ مساءٍ

هناكَ على ضفةِ خريسانْ

معلِّلاً نفسي برؤيةِ تلكَ الخريسانيَّةِ الفاتنةْ

*

بعدَ سبعِ سنواتٍ

صارتْ تلكَ الفتاةُ الخريستانيةُ

زوجتي) .

 لماذا تخاف الخريف؟.

* لا أخاف الخريف، وقبولي به أمر محتوم، فهو فصل متكرر كل عام، ولا يمكن محوه، ولكنني أعلل النفس بأن الخريف ممر إلى الربيع، والربيع حبيب الجميع.

* مرة هي لوعة الفقد.. كيف وصفتها وانت تفقد فلذة كبدك؟

* استُشهد ولدي الشَّهيدِ معد (رحمَهُ اللهُ) برصاصِ القوّاتِ الأميركيةِ في بعقوبة في 7/4/2004 وكان طالباً في المرحلةِ الرّابعةِ  كلية طب الكندي / جامعة بغداد، وقد كتبت عنه شعرا كثيرا، وصورته حاضرة في روحي أبدا، ومما كتبته عنه:

فارغٌ قلبي كعودٍ مِنْ قصبْ

منذُ أنْ ودَّعَ (مَعْدٌ) وذهبْ

*

فارغٌ نهري ووقتي عبثٌ

لم يعدْ يلمعُ في عيني الذَّهبْ

*

عَجَبٌ موتُكَ يا (مَعْدُ) عَجَبْ

وبقائي دونما موتٍ عَجَبْ

*

نُوَبُ الأيّامِ لم أذهبْ لها

فلماذا عبرتْ نحوي النُّوَبْ

*

موتُكَ الفاجعُ أحنى قامتي

غيرَ أنَّ النخلَ في جسمي انتصَبْ

*

لكَ ربٌّ أنتَ في جنَّتِهِ

ولهذا البلدِ المطعونِ ربْ

- متى يكون الشاعر فارسا؟ وكيف يكتب الفارس؟

* يكون الشاعر فارسا عندما يمتلك صفات الفرسان المعروفة عند العرب من شرف ونُبُل وشجاعة وكرم وأمانة وصدق وخُلُق ومروءة وحفظ العهد والوفاء وغيرها من القيم الأصيلة، ويعبر عن هذه الصفات في شعره، ويحث عليها ويدعو إليها ويشيعها، ويعدُّها رسالة يتحمل مسؤولية نقلها من السلف إلى الخلف.

 متى سمعت صوت الشاعر بين جوانحك؟.

* ولدت في عام 1951م في قرية العكر التي تبعد بمسافة عشرين كيلومترا عن بعقوبة، حيث الأشجار والأنهار والأزهار والعصافير والحمام والدُّرّاج، وحيث المضائف والأعمام والأخوال والضيوف المتعاقبون.

القادم إلى العكر لا بد أن يمر بتلول الكريستال، وهي تلول يعود تاريخها إلى عصر دويلات المدن، فيها آثار الغابرين وعلاماتهم الفارقة، وفيها قطع من الذهب تلمع تحت الشمس بعد نزول المطر وانقشاع الغيوم.

أنهيت دراستي الابتدائية في مدرسة القرية واسمها (مدرسة المجد الابتدائية للبنين)، وكنت الأول على المدرسة في امتحانات البكالوريا للصف السادس الابتدائي، أما دراستي الثانوية فقضيتها في بعقوبة (1964  1970)، وفي عام 1970 انتقلت (دراسيا) إلى بغداد، إذ جرى قبولي في كلية الهندسة التكنولوجية بجامعة بغداد.

بدأت بالاهتمام بالقراءة والكتابة وبالأدب بشكل عام وبالشعر بشكل خاص منذ فترة الدراسة المتوسطة، ففي تلك الفترة كنت غاويا لقراءة الكتب والصحف والمجلات، وقد كان لمدرسي في مرحلة الدراسة الإعدادية الدكتور (حاليا) السيد عبد الحليم المدني الفضل في توجيهي وفي الأخذ بيدي في دروب القراءة والكتابة، وفي مرحلة الدراسة الجامعية كنت أشارك بشكل مستمر في المهرجانات الشعرية التي كانت تقام في الكلية وفي الجامعة، وكانت تلك الفترة عاجة بالشعراء الموهوبين من أمثال خزعل الماجدي ورعد عبدالقادر ومرشد الزبيدي وساجدة الموسوي وصاحب الشاهر وريسان الخزعلي وفاضل عزيز فرمان وغيرهم.

- هل كتبت الغزل ولمن كتبت؟.

* لا شك في هذا، بل كتبت الكثير من الغزل، والغزل غرض قديم وأصيل في الشعر العربي منذ نشأته، والقلوب خُلقت للحب في الأساس كما أرى، والحياة من دون الحب أرض جرداء قاحلة، وشعر الغزل مطلوب من الجميع، وهذا بعض من شعري الذي قلته في غرض الغزل:

قولي لأهلِكِ: مجنونٌ ويتبعُني

ونحو هاويةٍ للحبِّ يدفعُني

*

قولي لهم: يسرِقُ التُّفّاحَ مِنْ طبقي

ويقطفُ التّينَ والرُّمّانَ مِنْ فَنَنِي

*

ويُشعلُ النّارَ في مائي وفي حطبي

ويزرعُ الآسَ والرَّيحانَ في زمني

*

ومثلما يقرأُ الأشعارَ يقرؤني

ومثلَ ألفِيَّةٍ في النَّحوِ يشرحُني

*

وحيثما كانَ أرآهُ وأسمعُهُ

وحيثما كنتُ يرآني ويسمعُني

*

يضرُّني كلُّ ما في الأرضِ مِنْ بَشَرٍ

ووحدّهُ بين كلِّ الخلقِ ينفعُني

*

نفسي إلى نفسِهِ تمشي موَلَّهةً

كأنَّهُ وهو في مسرى دمي وطني

- ماذا تعني لك الأنثى في الشعر؟.

* أنا لا أقول: الأنثى، بل أقول: المرأة، والمرأة، هي:

هِيَ الحياةُ وليستْ نِصْفَ ما فيها

في كفِّها خابِطُ الدُّنيا وصافيها

*

منفيَّةً كانتِ الدُّنيا وضائعةً

وهيَ التي أخرَجَتْها مِنْ منافيها

*

يسّاقطُ التِّينُ والزَّيتونُ إنْ رَضِيَتْ

وإنْ جَفَتْنا فويلٌ مِنْ تجافيها

* ماذا تعني لك العروبة.. أهي إرث أم انتماء؟.

* العروبة: إرث وانتماء معا، بل هي أكثر من الإرث ومن الإنتماء، إنها الروح.

- هل مجدت أحدا في شعرك؟.

* نعم، مجَّدت العراق الحبيب وأهله الكرام وبطولاتهم وشهامتهم وجودهم وفاعليتهم الراقية، قديما وحديثا.

- قرأنا في الأدب أن الشاعر لا يعلق على صليب جهة ما أو سلطة لكننا شاهدنا شعراء بارزين صلبوا على غير شاعريتهم فهل عانيت من هذا؟.

* لم أكتب إلا ما يشرِّفني ويشرِّف العراق وأهله الأماجد، وهذا عهد التزمت به منذ أول نص كتبته ونشرته، أنا حر في كتابتي ولم أخضع لريح شرقية ولا غربية.

 أيهما وقعت في حبها أولا.. المرأة أم القصيدة؟.

* المرأة سبقت القصيدة وفي الوقت نفسه فإن القصيدة سبقت المرأة، والتأويل لك.

- أين يجد غزاي نفسه أكثر.. في الشعر المقفى أم في الشعر الحر؟.

* ما يهمني دائما هو الشعر وليس شكل الشعر، ولقد كتبت القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وكانت للتجربة الشعرية وللباعث على القول الشعري الأثر الكبير في تحديد الشكل الشعري للنص، ولقد كان كتابي الشعري (خبز عراقي ساخن) خاصا بشعري العمودي وقد ضم 1500 بيت عمودي، وفي كل الأحوال: أنا أبحث عن الشعر، لا عن شكل الشعر، ولا أحكم على الشعر باعتباره شكلا أو استنادا إلى شكله، فالشعر ليس عنوانا فقط أو هيكلا وحسب أو قامة لا غير، الشعر أكبر من شكله وأوسع من مضمونه وأعمق من موسيقاه، وأكثر ارتفاعا من أي مكوِّن مفترض من مكوِّناته، الشعر لا يمكن تقطيعه مثل ذبيحة، أو فصل أجزائه مثل محرك سيارة، أو تقسيمه إلى رأس وجذع وأطراف مثل جسم الإنسان، الشعر كلٌّ متكامل ومتآلف ومجموع ومشترك ومشتبك ومتداخل ومتمازج، ولا مجال فيه للتقطيع أو الفصل أو التقسيم، ولنا في الماء مثل، فالماء متكون من الأوكسجين والهيدروجين، ولكننا لا نرى الأوكسجين ولا نرى الهيدروجين بل نرى الماء، والماء هو غير الأوكسجين وغير الهيدروجين.

- تبدل الأنظمة هل يضير الشاعر؟.

* الشاعر هو أول المتأثرين سلبا أو ايجابا بتبدل السلطة، ولكن التاريخ يُعلمنا أن السلطات تريد أن يكون الشاعر (عاملا) عندها، يكتب ما يناسبها، فيما يريد الشاعر أن يتمتع بحرية القول الشعري، والصراع بين الشاعر والسلطة قديم ومستمر وسيستمر، وكم من الشعراء قد دخلوا السجون بسبب مواقفهم التي عبروا عنها شعرا، الشعر ليس عبدا للسلطة ولا خادما لها، الشعر سيد ولا يمكن أن يكون عبدا أو خادما لأحد، وإذا كان وأن اصبح الشعر عبدا أو خادما للسياسة في هذا الظرف أو ذاك، وفي هذا الزمن أو ذاك، وتحت تلك الذريعة أو تلك الحجة، فان ذلك إنما كان خطأ ارتكبه السياسيون بحق الشعر والشعراء وحماقة ارتكبها الشعراء بحق الشعر.

- لمن كتبت أول قصيدة؟.

* كانت أول قصيدة منشورة لي هي قصيدة (مطالعات في عودة سعيد بن جبير) وقد نشرتها جريدة الثورة التي كانت تصدر في ذلك الوقت في شباط 1973.

 هل ترى أن من واجب المرأة أن تكون ملهمة فقط؟ أم أنك تقبلها شاعرة أيضا؟.

* المرأة ملهمة كبيرة للشاعر، وكم من شاعر كبير وقفت خلف شعره امرأة أحبها، هذا شأن متفق عليه، وكتابة الشعر لا تقتصر على الرجال دون النساء، لأنه أحاسيس وعواطف وهموم وتطلعات وآلام وآمال يشترك فيها الشاعر والشاعرة، ويشهد تاريخ الشعر العربي قديمه ووسيطه وحديثه على بروز شواعر عربيات على أعلى المستويات الإبداعية، مثلما يشهد على بروز شعراء عرب كبار.

- كان أبوك سيد قومه فهل شغلت مكانه أو تخليت عن إرثك العشائري؟.

* كان أبي رحمه الله تعالى شيخ الصوالح النعيرية الطائية، وأنا كنت من الذين تربوا في المضائف، وفي هذا أقول:

بَيْنَ الدِّلالِ كَبُرنا والفناجينِ

وَكَمْ أخذْنا دروساً في الدَّواوينِ

*

باللِّينِ نمضي إلى غاياتِنا أبداً

فأهلُنا علَّمونا الأخذَ باللِّينِ

*

الطِّينُ أصلُ جميعِ النّاسِ فاتَّعظوا

سبحانَ مَنْ خلقَ الإنسانَ مِنْ طينِ

- هل تقدم الشعر في العراق في هذه المرحلة أم تراجع؟.

* الشعر في العراق، بالرغم مما يحيط به، متألق، وضاجٌّ بالإبداع الراقي، ومتجدد، وفي العراق أكبر عدد من الشعراء الكبار، وهناك نقطة مهمة جدا لا يفوتني أن أذكرها هنا هي أن (الزبد الشعري) كثير كثير، ولكن هذا لا يمكث في الأرض، بل يذهب جفاءً.

في السنوات العشرين الماضية، اختلطت الأوراق وكتب ما يُسمّى بالشعر من لا يعرف الفرق بين الفاعل والمفعول ومن لا يعرف الفرق بين البحر والتفعيلة، ومن لا يملك أدنى مستوى من مستويات الموهبة والوعي الشعري، وأرى أن من أسباب هذه (الموجة الصاخبة) قصور النقد عن القيام بواجبه وسهولة النشر ورخص طبع الكتب وتعدد منافذ النشر والطبع التي كان من المفروض استغلالها لتحقيق نهضة شعرية وأدبية شاملة، وفي مقابل كل ذلك، هناك الشعراء المبدعون الذين قدموا وما زالوا يقدمون القصائد ذات الجودة العالية والجمال الأخّاذ .

- ما رأيك بنقاد اليوم؟ وكيف تقيم منجزهم؟.

* تتميز الحركة النقدية العراقية بأنها واسعة وأنها ذات مستويات متعددة، ومازال النقاد الكبار الذين عرفناهم وتعلمنا منهم يحتلون أماكنهم بجدارة، ولم يشاركهم في الجلوس على دكَّتهم المعتادة إلا نقاد جدد قليلون تميزوا بالمثابرة والفاعلية والجدة، وهناك النقد المُجامل الذي يمنح الألقاب الكبيرة من دون استحقاق، وهو مع الأسف كثير، أما النقد الأكاديمي فإنه اليوم حاضر بقوة، ويسعى إلى أن تكون أنواره قادرة على إضاءة عتمة النصوص والكتب، وإلى أن يكون مؤثرا وفاعلا ومتناغما مع كل جديد.

- هل يطربك صهيل الجياد؟.

* لصهيل الجياد معان عميقة تاريخيا وحاضرا، وهو رمز كبير وخالد، إنه يأخذني من يومي إلى ساحات التأمل والتفكر وليس إلى ساحات الطرب.

- ما رأيك بتعاقب الفصول؟ وهل تبغض خلاعة الخريف؟.

* تتعاقب الفصول لتعلن أن الزمان ماض كعادته من دون توقف، والأعمار تتقدم، والفصول تتقلب، والفصول عوالم مختلفة ولا يستحي فصل من فصل آخر، فلكلٍّ خصائصه، ولقد قلت عن الخريف:

(يبدو أنَّ الخريفَ لا يستحي

وإلا فكيفَ يُعرّي الأشجارْ؟

إذا كانَ الليلُ ستراً

فماذا عنِ النَّهارْ؟)).

- الموت ماذا يعني في شعر وشعور غزاي درع الطائي؟.

* أغلب مقالاتك التي قرأتها أقرب لقصيدة النثر.. هل الدربة أم أنك لا تجيد الكتابة في الشأن السياسي؟.

* لست كاتبا سياسيا، ولست معنيا بالكتابة في الشؤون السياسية، ولكني أكتب مقالات في شؤون حياتية متعددة، فيها آراء وتأملات للواقع المعاش وفيها شيء من الشعرية والتأمل الفكري، ومنذ سنتين وأنا أكتب المقالات في جريدة (الزمان) الغراء بطبعتَيها: بغداد ولندن، وأنا أتمتع بهذه الكتابة الخاصة، وهناك من القراء من تعجبهم هذه المقالات وهذا من دواعي سروري.

- هل كتبت شعرا عن الحسين وثورته؟.

* كتبت الكثير، وأنا حريص على أن تكون ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) حاضرة بقوة في شعري، ويمكنك أن تقرأ كتبي الشعرية: (خبز عراقي ساخن) و(وقت من رمل) و(ملح العراق أمانة في زادي)، لتجد قصائدي التي كتبتها وأهديتها إلى جدي الإمام الحسين (عليه السلام)، والكتابة الشعرية عن الإمام واجب وشرف، وآخر ما كتبته في هذا الصدد نشرته جريدة (الزمان) الغراء على صفحتها الأولى وذلك في 30 تموز الماضي، ومما كتبته عن الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الأبيات:

نورٌ دماؤكَ يا حسينُ ونارُ

وجراحُكَ النِّسرينُ والنُّوّارُ

*

المجدُ حولَكَ حيثُ كنتَ وأينما

ويلفُّ دارةَ قاتليكَ غُبارُ

*

والضَّوءُ ثوبُكَ حيثُ لُحْتَ لناظرٍ

وثيابُ كلِّ الشّانئينَ القارُ

*

الأرضُ عاريةٌ وأنتَ إزارُها

أفعندَها غيرُ الحسينِ إزارُ

*

الأرضُ عاريةٌ وظلَّتْ هكذا

حتّى قُتلتَ وسالَ مِنْكَ دِثارُ

*

إنْ تَطْلُبِ الدُّنيا عِياراً ثابتاً

فدماكَ فوق فمِ الفراتِ عِيارُ

*

لا تلتفتْ للغادرينَ وغدرِهِمْ

هُمْ دورةٌ دارتْ وأنتَ مَدارُ

*

شتّانَ بين حسينِنا ويزيدِهِمْ

أفيستوي الأبرارُ والأشرارُ

*

شتّانَ بين حسينِنا ويزيدِهِمْ

هذا الفنارُ وذاك عارٌ .. عارُ

وإضافة إلى القصائد كتبت دراسة عن شعر الإمام الحسين (عليه السلام)، وكتبت مقالات متعددة تتحدث عن معاني استشهاد الإمام والدروس التي تطرحها للعرب وللمسلمين وللعالم كله.

- ماذا يعني لك العراق منذ التكوين وحتى اليوم؟.

* العراق نفَسي الذي يصعد وينزل وروحي وحياتي وأملي وألمي، والجاذبية التي تشدني، إنه:

أنا والرِّياحُ أهزُّها وتهزُّني

وأَغشُّها في اللَّعبِ حين تغشُّني

*

وأمدُّ طوقَ الصّابرينَ لغايتي

فلعلَّني أَجدُ النَّجاةَ وليتني

*

لا ينحني رأسي وحقِّيَ مشرقٌ

لا ينحني في الحقِّ رأسُ المؤمنِ

*

أَمّا العراقُ فنبضُهُ في خافقي

والجاذبيَّةُ كم إليهِ تشدُّني

*

قلبي عليهِ وضوءُ إخلاصي لهُ

ولهُ كياسةُ حالتي وتجنُّني

*

ليس المهمُّ سلامتي بل أنْ أرى

سِلماً يشعُّ على سلامةِ موطني

*

لا فرقَ عندي والعراقُ على فمي

إنْ قلتُ يوماً إنَّهُ أو إنَّني

*

فجميعُ ما قد خصَّهُ ويخصُّهُ

في كلِّ أبوابِ الحياةِ يخصُّني

*

بالحبِّ والعرقِ الشَّريفِ أَمدُّهُ

وبكلِّ أسبابِ الحضورِ يمدُّني

*

أّذللتُ نفسي في هواهُ تقرُّباً

وتحبُّباً وتعزُّزاً فأعزَّني

*

كم غلَّلوهُ وكسَّرَ الأغلالَ لم

يرضخْ ولم يكُ للعداةِ بمُذعنِ

*

أهلوهُ عاشوا إخوةً فتراهُمُ

أبداً معاً وترى الفقيرَ مع الغني

*

المُرجِفونَ جَنَوا عليهِ وردُّهُ:

ما عادَ صوتُ المُرجِفينَ يهمُّني

*

يا وَيْحَهُمْ هذا عراقٌ واحدٌ

رغمَ المكائدِ ظلَّ ملءَ الأعْيُنِ

*

الحبُّ ليس بهيِّنٍ وأقولُها:

حبُّ البلادِ المرُّ ليس بهيِّنِ

*

أرضُ العراقِ المستحيلةُ مَسكني

إمّا سكنتُ وإنْ دُفنتُ فمَدفني

*

أنا ما نسيتُكَ موطني يوماً فإنْ

دَنَتِ المنيَّةُ موطني لا تَنْسَني

*

الحبُّ ينشرُني وأنتَ تلمُّني

والشِّعرُ يخذلُني وأنتَ تُعزُّني

*

في مقلتيكَ تألُّقي وتحرُّقي

وعلى يديكَ تحطُّمي وتكوُّني

*

نحوَ اخضرارٍ مذهلٍ أرسلتني

ومع الكرامةِ والنَّقاءِ وَلدتني

*

أنتَ الضِّياءُ إذا ادلهمَّ الملتقى

والنُّورُ في المَخفيِّ أو في المُعلَنِ

*

أرجوكَ دعني في هواكَ مسافراً

أرجوكَ مكِّنّي على المُتَمَكِّنِ

*

دعني أَكُنْ جسراً على نهرِ الضَّنى

لأقولَ : اعبُرْ نحوَ خيرٍ بَيِّنِ

*

لا تحزَنَنْ أبداً فشمسُكَ أشرقتْ

لا تحزَنَنْ فخطاكً بينَ السَّوسنِ

*

ولسوف يجعلُكَ الحفيظُ المُرتجى

عن كلِّ سيفٍ غادرٍ في مَأْمَنِ

 هل مازالت ديالى مدينة البرتقال؟.

* ديالى تعني الحب والسلام والكرم والجود وكل المعاني العالية، والبرتقال رمز لها ولأرضها المعطاء، ولكن مما يؤسف له أن بساتين البرتقال تعرضت إلى ما هو غير محمود، فقد جرى تجريف الكثير منها وتحولت إلى أحياء سكنية، لأسباب مختلفة، منها الجفاف وقلة المياه، ولكن الأمل كبير بعودة هذه البساتين إلى سابق عهدها حال انتظام جريان الماء في نهرَي ديالى وخريسان وفروعهما، فالأرض لا تنتج البرتقال من دون الماء.

- متى يبكي غزاي درع الطائي؟.

* أنا أبكي مع نفسي، ولا أحب أن يرى دموعي الآخرون، خاصة من يثقون بقدرتي على التحمُّل، وينظرون إليَّ بعين المحبة والود، أما ما يحملني على البكاء فهو العراق وأحواله وشهداؤه.

 لمن ولاء الشاعر؟.

* للعراق الحبيب أولا، ولأهل العراق الكرام، وللقيم والمبادئ العالية التي تربيت عليها وربَّيت أبنائي وبناتي عليها، ونشرتها في أشعاري.

- وأخيرا ماذا بقي مما لم تبح لي به؟.

* لم يبق سوى أن أتوجه بالشكر لك أيها العزيز الأستاذ راضي المترفي، وأنا سعيد بإطلالتك الحوارية هذه معي، مع خالص المودة والتقدير.

- كانت رحلة ممتعة امتدت علي مسار خمسين عام على ضفاف القوافي وبين بيوت الشعر والذكريات الحلوة والمرة وكان الرجل ذا ادب جم وخلق جميل وسعة صدر تريح الجليس وقبول بما طرحت عليه من اسئلة .. امتناني وتقديري للشاعر الكبير غزاي درع الطائي .

***

حوار: راضي المترفي

*في البرازيل عثرْت على هويّتي العربية والإسلامية

* اللغة البرتغاليّة هي التي سمحت لي برؤية الثراء الهائل للّغة العربية الأُمّ

* التّمييز ضدّ العرب ورهاب الإسلام هما أمران غير موجودين تقريبًا في البرازيل

* المواطن اللّبناني العادي لا يشعر بالانتماء إلى الوطن وإنّما إلى الطّائفة والمنطقة والعشيرة والقبيلة

* هناك أمثلة ناصعة مشرّفة لأطباء تولّوا الحكم في أكثر من مكان في البلدان العربيّة والأجنبيّة

* المال لا يفسد الطبّ والدّين والسياسة والثقافة فحسب، بل يفسد البيئة والرياضة وكلّ ما استطاع إليه سبيلًا من ميادين

***

الاندماج والهويّة ثنائيّة شائكة زلّت فيه أقدام الكثير من المهاجرين حين ذابت الهوية لصالح الاندماج، ولكننا هنا بصدد نموذج سامق بلغ في الاندماج حدًّا بات فيه مرجعا لقضايا برازيلية مفصلية كالسياسة والبيئة والصحة وعنها يُستفتَى على شاشات الفضائيات العربية والعالمية، وفي الوقت ذاته ظل متمسّكا بهويّته كأنه بيننا يعيش وبهمومنا ينفعل. وُلد الطبيب والكاتب بلال رامز بكري عام ١٩٨٢م بمحافظة البقاع/لبنان. وفي عام ١٩٩٧ انتقل مع العائلة للعيش في البرازيل التي استكمل بها دراسته الثانوية قبل الالتحاق بكلية طب ماريليا بريف ساو باولو وتخرّجه فيه عام ٢٠٠٧م، ثمّ التخصص في علم الأمراض. نشر مقالات وقصص قصيرة وقصائد تنشد الوعي السياسي والاجتماعي والأدبي في عدّة مواقع عربية، أبرزها مدوّنات الجزيرة التي نشرت له ما يَقرب من ٧٠ مدونة. كما كتب عشرات المقالات والقصائد باللغة البرتغالية. وعلى قلمه تغلب النزعة الوجدانية والصوفية المعبّرة بصدق وواقعية عن القضايا الإنسانية والروح العربية الإسلامية. وعبر وسيط الإنترنت الذي نقلني في غمضة عيْن إلى غابات الأمازون، كان هذا الحوار الجميل كلبنان والوَدود كالبرازيل..

***

1) برأيكم، لماذا لم تتكرّر التّجربة الفريدة للرّابطة القلميّة الّتي أسّسها أدباء المهجر عام ١٩٢٢ في أمريكا؟

- بموازاة "الرابطة القلمية" الّتي تأسّست في أمريكا الشّماليّة، في نيويورك تحديدا، تأسّست في أمريكا الجنوبيّة، في مدينة ساو باولو، "عصبة الأندلس"، وهي رابطة أدباء عرب تحذو حذو الأدباء العرب في شمال القارة الأمريكيّة. التّجربتان شكّلتا علامة فارقة في الأدب العربيّ ونشأتا في مرحلة تاريخيّة كانت تتّسم بالنّهضة القوميّة العربيّة وبمحاولات حثيثة لإحياء وتجديد التّراث العربيّ. وممّا يميّز "الرّابطة القلميّة" و"عصبة الأندلس" أنّ الرّابطتين الأمريكيّتين كانتا مؤلّفتين من العنصر النّصراني الشّامي بشكل كلّي، ممّا يُعرف اليوم بلبنان وسوريا، الدولتين اللتين لم تكونا قد نالتا استقلالهما بعد في ظلّ اتفاقيّة سايكس بيكو.

منذ ذلك الزمن وحتّى اليوم، تغيّرت الظّروف التّاريخيّة كثيرًا في الوطن العربي، ممّا انعكس على الجاليات العربيّة في المهجر. وانعكس ذلك على النّشاط العربي ثقافة وأدبًا في بلدان المهجر الأمريكيّة. وقد انتقلنا من زمن كان فيه العرب يعتزّون بقوميّتهم ويحملونها إلى المهجر إلى زمن صار فيه العرب يتعرّضون لغزو ثقافيّ في عقر دارهم، وصارت اللّغة العربيّة غريبة بين أهلها في موطنهم، فكيف تحيا في بلدان المهجر؟

ما يحصل في الجاليات العربيّة في بلدان المهجر هو انعكاس لتردّي الأوضاع في البلدان الأمّ. ولا ننسى أنّ اندماج الجاليات العربيّة في أوطانها الجديدة له مساهمة كبيرة في هذا المجال.

2) كيف تحرّرت البرازيل من الديكتاتوريّة ونهضت بعد إفلاس؟

- تحرّرت البرازيل من الديكتاتوريّة العسكريّة التي حكمتْها من العام ١٩٦٤ وحتى العام ١٩٨٥ كنتيجة للنضال الكبير الذي قامت به فئات واسعة من الشعب، ممثَّلة بأحزاب ونقابات وجمعيّات، تصدّت للنّظام الديكتاتوري العسكريّ، فتكلّلت جهودها بالنّجاح وبدحْر النّظام الاستبدادي. وقد كانت الديكتاتوريّة في البرازيل منضوية تحت لواء الإمبرياليّة الأميركيّة أثناء حقبة "الحرب الباردة".

وقد أتاح زوال الدّيكتاتوريّة العسكريّة وصول النّظام الديمقراطي للحكم، وهذا تكلّل بوصول اليسار إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة في العام ٢٠٠٢، عبر انتخابات ديمقراطيّة، حين انتُخب الرّئيس لويز إيفاسيو لولا دا سيلفا لأوّل مرّة رئيسًا للجمهوريّة. وكانت نتيجة هذا الصّعود انتهاج سياسات وطنيّة واتّخاذ قرارات سياديّة حرّرت البرازيل من سطوة صندوق النّقد الدّوليّ ومن أسْر السّلطة المركزيّة للولايات المتّحدة. وهذا سمح بانتشال البلاد من الإفلاس المحقَّق إلى تحقيق فائض كبير في رصيد الدّولة وفي احتياط العملة الصّعبة، فانتقلت البرازيل من طور الدولة الواقعة تحت الديون إلى الدولة الدائنة والمتمتّعة بفائض مالي. وكلّ هذا بفضل سياسات وطنيّة أخذت بعين الاعتبار مصالح الفئات المهمَّشة والمسحوقة ورفعت من مستوى معيشتها. ففي أوّل عقد من الألفيّة تخلّصت البرازيل من براثن الإفلاس والمديونيّة.

3) ما التّحدّيات الكبرى الّتي يواجهها المهاجرون العرب في البرازيل؟

- لعلّ أبرز التّحدّيات الّتي يواجهها المهاجرون العربي في البرازيل هي وجود هيئة موحَّدة تمثّلهم وتناضل من أجل حقوقهم. فالتّشرذم الحاصل في الأوطان ينتقل إلى البرازيل. وفي حين أنّ الغالبيّة من المهاجرين العرب هم من الشّاميين، من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، فإنّ العقود الأخيرة شهدت وفود مهاجرين من مصر والمغرب بشكل خاصّ، وبشكل أقلّ من باقي الأقطار العربيّة. ولا تزال الجاليتين السوريّة واللّبنانيّة هما عماد الجاليات العربيّة في البرازيل. يعجز المهاجرون العرب عن توحيد كلمتهم وإيصال ممثّلين يناضلون من أجلهم في محافل مؤسّسات الدّولة، من برلمان فيدرالي وبرلمانات الولاية، بالإضافة إلى مجالس البلديّات.

ولعلّ التّحدّي الآخَر هو اندماج الأجيال الثّانية والثّالثة والرّابعة في المجتمع البرازيليّ بشكل نهائيّ يفقدها الانتماء العربيّ ويضيع هويّتها. فالنّقص فادح في المدارس العربيّة والجامعات العربيّة وحتّى اليوم لا وجود لها على الأراضي البرازيليّة، والنّشاط الثّقافيّ العربيّ بشكل عام في حالة يُرثى لها. المهاجرون العرب في البرازيل شأنهم شأن إخوانهم العرب في الأوطان: منهمكون في السّعي وراء لقمة العيش ووراء المصالح الخاصّة، والشّأن العام انحسر انحسارًا مخيفًا.

4) من منظور الأدب الّذي تكتبه بلغة ثنائيّة، كيف وجدتُم الفرق بين اللّغتين العربيّة والبرتغالية التي هي لسان البرازيل؟

- اللّغة العربيّة، بالنّسبة لي، هي اللّغة الأمّ الّتي نشأت عليها وتعلّمت عشقها منذ نعومة أظافري في لبنان. اللغة البرتغاليّة هي لغة وطني الثّاني، البرازيل، الّذي أتيت إليه منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزّمن.

كان التّعلّق باللّغة العربيّة في المهجر، في بداية سنين هجرتي، نوعًا من التّمسّك اللاواعي بالهويّة وبالوطن المفقود الّذي عزّ عليّ فقده. وكانت قراءة ما يقع بين يدي من أعمال أدبيّة وتاريخيّة وسياسيّة باللّغة العربيّة غذاءً للعقل والرّوح وإيقادًا لجذوة التّمسّك بأرض الوطن.

جاء تعلّقي باللّغة العربيّة في سنين مراهقتي بالبرازيل أيضًا كردّة فعل على ظاهرة أثارت عندي الشّعور بالغيرة. وجدت أنّنا في لبنان وفي الوطن العربي عمومًا كنا نعوّل كثيرًا على اللّغات الأجنبيّة (وقد تفاقم الأمر في هذا الزّمن عن تسعينات القرن الماضي)، في حين أنّ البرازيل تستخدم البرتغاليّة كلغة حياة علميّة وعمليّة ولا يكاد المرء يشعر على الأراضي البرازيليّة بأيّ حاجة للغة دخيلة. هذا الشّعور بالغيرة حيال اللّغة العربيّة جعلني أغوص فيها طيلة سنوات مهجري.

عندما أعبّر عن نفسي وجدانيًّا وكيانيًّا، فإنّ اللّغة العربيّة هي الوسيلة الطّبيعيّة لهذا التّعبير. اللغة البرتغاليّة أيضًا أضحت جزءًا من كياني، لكنني في مجال الأدب والثّقافة عمومًا أكثر اطّلاعًا باللّغة العربيّة، رغم أنّني حريص أيضًا على المطالعة باللّغة البرتغاليّة.

اللغة البرتغاليّة تجد مجالها في العلوم كافّة وفي التكنولوجيا، أمّا اللغة العربيّة فتعاني من جحود أبنائها وإهمالهم لها وانكبابهم على لغات مستعمريهم وناهبي ثرواتهم. اللغة البرتغاليّة هي التي سمحت لي برؤية الثراء الهائل للغة الأمّ.

5) كيف ينظر البرازيليّون إلى عالمنا العربيّ؟

- عامة الشّعب البرازيلي يتغذّى من تلك النظرة النمطية ومن الأفكار المسبَقة الّتي تغذّيها وسائل الإعلام، من أنّ العالم العربيّ هو موطن الحروب والأزمات.

أمّا المثقّفون والنّخبة فلديهم أدوات للحكم بشكل أفضل على واقع الحال في عالمنا العربيّ. هناك مراكز دراسات بقضايانا وهناك مثقّفون برازيليّون على درجة من الإطّلاع على كلّ ما يخصّ العرب والمسلمين.

العرب حاضرون في أعمال الأدباء البرازيليّين في العصر الحديث والمعاصر. على سبيل المثال الرّوائي جورج أمادو عنده رواية تتناول المهاجرين العرب في ولاية باهيا في البرازيل، بالإضافة إلى حضور شخصيّات عربيّة في أعمال روائيّة أخرى له. بولو كويليو، الكاتب البرازيلي الأكثر مبيعًا في الخارج، تناول الحضارة العربية في غير عمل من أعماله. هذا على سبيل المثال لا الحصر.

الشعب البرازيلي، بعامته وبخاصته، هو شعب غير عنصري بشكل عام. وتغلب عليه صفة قبول الآخر أيًّا كان انتماؤه العرقي والديني. لذلك، رغم وجود استثناءات، فإنّ التّمييز ضدّ العرب ورهاب الإسلام هما أمران غير موجودين تقريبًا في البرازيل.

6) ما الأمراض الّتي تعانيها لبنان الدّولة، وكيف السّبيل للعلاج؟

- سؤال تعجز عن إيفائه حقّه بضعة أسطر وربّما مجلّدات. لعلّ بيت الدّاء يكمن في إنشاء هذه الدّولة بشكل سقيم وبنائها على أسس غير سليمة مثل الطّائفيّة والزّبائنيّة والإقطاعيّة. هكذا، فإنّ المواطن اللّبناني العادي لا يشعر بالانتماء إلى الوطن وإنّما إلى الطّائفة والمنطقة والعشيرة والقبيلة. وهذا جعل لبنان مرتعًا للتّدخلات الاقليميّة والاجنبيّة منذ إنشائه.

لبنان كيان هشّ منذ نشوئه. السبيل إلى العلاج هو إلغاء أصول الفساد والإفساد وهي الطّائفيّة والمناطقيّة والعشائريّة. لكن هذا أمر عجزت عن محاربته حرب أهليّة طائفيّة دامت خمسة عشر عامًا، فكيف لنا أنّ ندّعي امتلاك علاجه في بضعة كلمات وسطور.

7) من واقع اهتماماتك السياسية، كيف تقيم تجربة الأطبّاء في سدّة الحكم الّذي تولّوه في أكثر من دولة عربيّة وأجنبيّة؟

- هناك أمثلة ناصعة مشرّفة لأطباء تولّوا الحكم في أكثر من مكان في البلدان العربيّة والأجنبيّة. وهناك أمثلة كارثيّة يَندى لها الجبين.

عندنا في أمريكا اللاتينية أمثلة مشرّفة: الرئيس التشيلي، سلفادور اليندي، طبيب الأطفال. الزعيم البرازيلي التاريخي ومؤسس برازيليا، الرّئيس جوسيلينو كوبيتشيك، جرّاح المسالك البوليّة. الثّائر والمثقّف الأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا.

في البلدان العربيّة والإسلاميّة نذكر الأمثلة المشرّفة الآتية: القائد الشّهيد عبد العزيز الرّنتسيي، القيادي في حماس، والذي اغتاله الكيان الصهيوني. مؤسس الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين الدكتور جورج حبش. الزعيم الماليزي التاريخي: مهاتير محمد.

وأعتقد أنّ النزعة الإنسانيّة لدى الأطبّاء والواقعيّة الّتي تقتضيها المهنة، مع الدّرجة العالية من التّفاني، تجعل من الأطبّاء سياسيّين ناجحين مهتمّين اهتمامًا صادقًا بالشّأن العام وبصالح المجتمع.

8) كيف حال المسلمين في أمريكا اللاتينيّة عامة، وفي البرازيل خاصّة؟

- لعلّ البرازيل اليوم هي الدّولة الّتي تتمتّع فيها الجاليات المسلمة بأكبر قدر من الحيويّة في أمريكا اللّاتينيّة. ومع ذلك، فإنّ الأحوال العامّة للمسلمين ليست على ما يرام. فالمسلم يعاني من صراع الهويّة كونه ينتمي إلى أقليّة دينيّة، والجاليات المسلمة تفتقر إلى قيادات صاحبة كفاءة واقتدار لتمثيلها لدى الهيئات الرّسميّة وفي المحافل الدّوليّة.

هناك نقص كبير في المرافق العامّة لدى الجاليات الإسلاميّة. فالمدارس الإسلاميّة لا تفي بالحاجة. والجامعات الإسلاميّة غير موجودة بتاتًا. أمّا المستشفيات والمراكز الصّحيّة الإسلاميّة فهي مفقودة كليًّا أيضًا.

لو كانت أحوال الأمّة الإسلاميّة بما يَسرّ ويُرضي، لانتفى انتفاءً تامًّا وجود مصطلح "أقليّات إسلاميّة" ولَاستوْعبَت البلدان الإسلاميّة كافّة أبنائها ولم تتركهم نهباً للتّهجير والاغتراب.

9) كيف ترى الاتجاه نحو دراسة الطب في كليّات طب خاصّة، هل يسهم في منظومة طبيّة أفضل، أم أنّ المال يفسد الطّبّ كما يفسد الدّين والسياسة والثقافة؟

-على سؤالك يا دكتور منير أضيف: إن المال لا يفسد الطب والدين والسياسة والثقافة فحسب، بل هو يفسد البيئة والرياضة وكل ما استطاع إليه سبيلًا من ميادين.

المشكلة في اقتحام منطق الربح السريع للمنظومة التعليمية الطبية، هي إنشاء كليات طبية تفتقر إلى الحد الأدنى من المطلوب لتخريج أطباء أصحاب كفاءة وضمير لمزاولة مهنة الطّبّ. لكن يبدو أنّ سياسات الكثير من الدّول عاجزة عن التّصّدي لهذه المسألة بشكل جديّ، ذلك لأنّ صراع المصالح يتغلّب على الصّالح العام في كثير من الأحيان.

10) هل من اتجاه إلى الضّرب بسهم في مجال التّرجمة من وإلى البرتغاليّة؟

- أحيانًا أقوم بترجمة بعض النّصوص الّتي تروقني من وإلى البرتغاليّة. وهذا يحصل حين أشعر أن الترجمة ميسورة. في كثير من الأحيان أجد صعوبة في الترجمة بين اللغتين، وأرى أنّ الأمر يتطلّب مجهودًا كبيرًا. حاليًّا لا مشاريع في هذا المجال.

11) في ضوء مقولة باولو كويلو: "يتعيّن عليك أحيانًا السّفر بعيدًا للعثور على ما هو قريب". ما القريب الّذي عثرت عليه بعد سفرك إلى البرازيل؟

- في البرازيل عثرْت على هويّتي العربية والإسلامية. في البرازيل تَسنّى لي أن أرى الدنيا والنّاس بعيون مختلفة. في البرازيل عثرْت على ما هو أهمّ من كلّ ما سلف: عثرْت على نفسي.

12) كيف وجدت القاهرة في زيارتك الأولى لها قبل أيّام؟

- ذهبْت إلى القاهرة لزيارة واحدة من عجائب الدّنيا السبع، فإذا بي أجد ما هو أعجب من كل عجائب الآثار المصريّة القديمة، وما هو أعجب من كلّ المعالم التّاريخيّة العربيّة والاسلاميّة..وجدت الإنسان المصريّ الطّيب الكادح المظلوم، المستند على آلاف السنين من الحضارة. وجدت الإنسان المصريّ المحروم من العيش الكريم والرّازح تحت وطأة أزمة اقتصاديّة خانقة. ووجدت الإنسان المصريّ الّذي يصارع من أجل البقاء ومن أجل هويّته العربيّة والإسلاميّة.

***

أُجري الحوار د. منير لطفي

في أغسطس 2023

شوقي كريم حسن:

- ما من عراقي، لايعرف اين يكثر ويتكاثر السيبندية

- اكتشفت صدفة ان هناك شط قريب منها يحاذي قصور الباشوات

- كان مجرد حلم بان اكون ممثلا لكني عرفت فيما بعد احبة

- حولوا النقد العراقي الى سوق ارتزاق يكتبون عمن يدفع

- ماتراه عدواً لدودا اليوم يصبح في يومك الثاني صديقا مخلصاً

- الشعر هذه الايام اختلط اخضره بيابسة

- اجعل من عناوين رواياتي بابا تسويقياً اولا

- لست نبياً كي ادعو للفضيلة

***

شوقي كريم مثل كائن اسطوري واضح العالم لكنه بحدود غير معلومة إذ يمكنك التقاطه فوق موجات أثير الاذاعات ورؤيته من على الشاشات وفوق رفوف المكتبات وعلى صفحات المطبوعات وتسمعه فاعلا يتردد في المناقشات بين ادباء واديبات وقراء ومستمعات.. له في كل مجلس وسادة وفي كل وليمة سهما وفي كل مشكلة قول.. نعم انه شوقي كريم ذلك الفتى الجنوبي الخارج من بين صرائف الشاكرية ممتشقا يراعا لايصمد أمامه اخر ولسانا له حد السيف كتب للإذاعة والتلفزيون ومارس الصحافة والادب واصدر الرواية والقصة القصيرة والمسرح وحفر لاسمه مكانا في تاريخ الادب والفن العراقي.

* من هو شوقي كريم؟.

- كائن القى به الزمن من بلاد سومر ليعيش في بلد مليء بالحكايات الغريبة والقصص ويتأمل بروح متحدية ماصنعته الحروب اراه مرة يتسربل الجنون بكل مافيه من مخاطر وفي مرات يتصرف بحكمة وترو وصدق قد يكون مبالغ فيه شوقي كريم عاش منذ عرف الحرف تحديات وصراعات سياسية واجتماعية وفكرية ادت به الى السجون والمعتقلات كانت الحروب عدوه الاول لهذا فهو خليط غير متجانس

* اين يتكاثر السيبندية؟.

- ما من عراقي لا يعرف اين يكثر ويتكاثر السيبندية انهم اساس بلاء هذه البلاد منذ جاء الاحتلال اصحاب الورقات الثلاث الذين تراهم كل يوم بشكل وفعل مختلفين نعم اعظم بلد في صناعة السيبندية ويحق لنا التفاخر بذلك بعد ان انعدمت الصناعات الوطنية الاخرى،،سيبندية البلاد صناع قرارها الاقتصادي والسياسي ولهذا استحقوا التمجيد

* ماذا تعني لك الشاكرية وماهي ذكرياتك عنها؟.

- الشاكرية مختصر الجنوب مجتمعاً والذي انتقل مع زيادات في المواطنة الى مدينة الثورة الشاكرية مجمع الوعي المعرفي الاول لولائك الذين جيء بهم عنوة من ضفاف الشطآن والاهوار ليسكنوا بيوت طين عجيبة التكوين،،اتذكر يوم اكتشفت صدفة ان هناك شط قريب منها يحاذي قصور الباشوات فرفحت روحي فرحت وصحبي باول غزوة لدجلة قريباً من بيت حامد قاسم شقيق الزعيم عبد الكريم قاسم كان احتفالاً بهيجاً بعده اتممت الاحتفال في مدرسة الاخلاص وسط القصور وكانت معرفتي باول ممثل كنت اعتبره كائنا غريبا هو ابراهيم الهنداوي. كانت الشاكرية اول خطوات الفقر باتجاه الوعي واكتشاف الاسئلة الحادة والمخيفة معا.3625 شوقي كريم

* من دلك على طريق الادب؟.

- لم اك بعد قد عرفت طريق الكتاب والادب كان مجرد حلم بان اكون ممثلا لكني عرفت فيما بعد احبة كثر عباس لطيف عبدالله صخي حميد قاسم وغيرهم ممن كون فيما بعد ذاكرة مدينة الثورة٥

* هل انت متحامل على النقاد ولماذا؟.

- لا اتحامل الا على اولئك الذين حولوا النقد العراقي الى سوق ارتزاق يكتبون عمن يدفع اكثر دون النظر الى اهمية ما يكتبون عنه واهمية اولئك اصحاب القوالب الجاهزة هم من يتوجب طردهم من المشهد الثقافي اما النقدية العراقية فهي محترمة ومتابعة بشكل جيد وانتجت اسماء مهمة ينظر اليها بعين الاحترام والتبجيل خوفي على المنجز المعرفي الكبير الضياع من خلال منافع تافهة

* لمن يكتب شوقي كريم في القصة والرواية؟.

- الكتابة رغبة نفسية في التعبير عن جوانيات الارث الذي نشعره ثقيلا ونحتاج الى تدوينه واشهاره ومن هنا تنطلق المهمة السردية التي تحولت عندي الى تدوين تاريخي يحتاج التعريف فيه والحفاظ عليه نحن شعب ارثي لهذا يجب ان تنحول السرديات لتحل محل المورخ المؤدلج والمرتبط بالدولة وافكارها بشكل او اخر لهذا اكتب من أجل الحفاظ على ازمنة أهلي التي اخاف عليها من الضياع والتلاشي

وفي الاذاعة والتلفزيون المهمة تختلف فلقد دونت عبر ما كتبت تاريخ العراق منذ جلجامش حتى أخر الحروب سياسيا واجتماعيا محاولا الاسهام في اعلان المعرفية العامة التي يحتاجها المواطن العراقي،

* يقال انك لاعدو في العلانية ولا صديق في السر

- تعلمت منذ كنت صبياً ان هذه المسميات تتشابه الى حد التطابق في احايين كثيرة ماتراه عدواً لدودا اليوم يصبح في يومك الثاني صديقا مخلصاً بموجب المصالح هذا الكون بكل مافيه تحركه المصالح ولاشيء سواها.

* هل لك ذكريات في الجنوب؟.

- ولدت ذات ليل على ضفاف نهر الغراف لهذا ارتبطت ذكريات بالماء والقصب والنايات وحناجر المغنين، الجنوب السومري تشكيلة معرفيه مهمة تمتد من زقورة اور حتى خشابة البصرة، علمني الجنوب الحكايات وكيفيات خزن ماتقوله الكوانين قبل مدارس الدولة كانت مدارس الاباء والامهات والمضائف كل هذا يسكن اعماقي

* كيف تختار عناوين سردياتك؟.

- انا بائع افكار وجمال ومعارف لهذا يجب ان يكون المدخل النصي متفقاً ولعبة الاغواء لهذا عمدت الى ان اجعل من عناوين رواياتي بابا تسويقياً اولا ومن ثم تأتي التفرعات الاخرى دع المتلقي يدخل ثم لقنه بما تريد

* قبل ايام طرحت قائمة باسعار النقاد هل كنت جادا؟.

- كل الوسط الثقافي يعرف ممارسات بعض النقاد الطارئين على المشهد الثقافي ولكنه صامت ولايجيد الادانه او المقاطعة الامر سهل بالنسبة لهؤلاء يعرفون اي الابواب تطرق وفي الزمن المختار اما معرفتي فتلك مهمة سهله صار عمري داخل هذا الوسط نصف قرن ونيف وكنت حتى السنة الماضية حزءا من تشكيلته القيادية لهذا اعرف كل صغيرة وكبيرة بل وتجرا احدهم امام الاعيان في سوق المتنبي ان ادفع له ما استطيع لقاء ان يكتب عن اعمالي كاملة فكان يومه اسود

* عندما تكثر الطماطة في السوق تتراجع اسعار البصل هل الشعر مشمول بهذه القاعدة؟.

- الشعر هذه الايام اختلط اخضره بيابسة واصبح امره سهلاً مادامت وسائل التواصل الاجتماعي قد سهلت مهمة النشر مع تعدد الوانه وغايات ولكن لنكن منصفين هناك من يحق لنا ان نمجد مايكتبون وهم صناع الجمال والرفعة الشعرية

* الدراما في الاذاعة والتلفزيون هل شملتها المقرضة؟.

- لا اخفي سرا اذا ماقلت بعلو الصوت. إن الدراما بكامل تواصيفها تعيش وضعاً صعباً وهي على فراش الانعاش الدراما الاذاعية يتيمة لاتنتج غير اليسير واصبح يسير ضمن اتجاه واحد ولم يعد المستمع يكترث للاذاعة مثلما كان سابقا اما الدامت التلفازية فصارت تشتغل لمقاصد سياسية اكثر مما هي مقاصد جمالية تعليمية ترفيهية ثمة الكثير من العثرات التي يتوجب معالجتها سريعا والا انتهى كل شيء

* من هم رواد المسرح الحالي؟.

- انتهت الريادة منذ زمن طويل وانتهى معهم المسرح المهموم والموجه للناس غدت ايام المسرح هذه الايام مجموعة صور ترافقها جواز سفر وعودة مع شهادة تقدير وقول يشير الى ان ذاك العرض المسرحي رفع رأس العراق وكأن رأس العراق منكساً مكسورا لاسامح الله ما اعرفه وتعلمته ان المسرح مهمته المتلقي المحلي فاين هو الان من الناس الذين ينتظرونه بشغف؟.

* ماهي خطيئة شوقي كريم؟.

- أنا الجنوبي الفقير لست نبياً كي ادعو للفضيلة ولا ضالاً كي ادعو للضلال ولكني انسان ادعو لحمل وسام الانسانية هذا ما قلته ايام كتابتي الاولى ابقيت نفسي مبتعدة عن الخطايا الاماهو بسيط منها لااعرف الكراهية ولا الحقد ماتهمني مسيرتي وما التفت لاحد احب اعدائي واحزن لاجلهم واتمنى ان نغسل قلوبنا جميعاً من الصغائن والاحقاد تلك هي مسيرتي التي اعتز بها

* ماذا قال النقاد عنك هل انت متفائل؟.

- النقدية العراقية منذ كنت صبياً يحبو في ساحة الادب انتبهت اليَّ كثيراً ورأت في ما اكتب منفذا لكتابات تجديدية برفقة الاصدقاء حميد المختار وعبد الرضا الحميد والراحل اسماعيل عيسى بكر وعبد الستار البيضاني كانت منطلقاتنا سليمة لهذا توجب على النقد متابعتي وانا اليوم ضمن دائرة الاهتمام الكبرى كتب صدرت عن تجربتي واطاريح ورسائل ماجستير ودكتوراه والكثير من الدراسات اليومية المهمة التي تنشر في المجلات والجرائد اقول بكل محبة لم يبق ناقد او مهتم بالنقد الا وتناوش اعمالي بالمتابعة والدراسة من الدكتور علي جواد الطاهر وفاضل ثامر و حتى النقاد الشباب اليوم تجربتي ثرة مما دفع النقد الى متابعتها وانا فخور جدا بذلك،٠

* هل انت القائل (من لم ينل في القول رتبة شاعر.. تقنع بقول بصفة ناقد)؟.

- لالا لم اقتنع بهذا القول ابدا النقد علم ومعرفة ودراية ودربة ثقافية وله خصوصية وان حدثت بعض الاستثناءات فهذا ليس عيباً ابدا وجود الناقد واقصد الناقد المختص مهمة يحتاجها المتلقي والكاتب معا اما اولئك الذي يشتغلون في القوالب والعروض الكتبية البسيطة فتلك قضية موجودة في كل العالم وخصصت لها مجلات وجرائد لانها تقدم جهدا تعريفياً بالكتب الصادرة بشتى مواضيعهاً

* هل هناك اكاذيب مقدسة؟.

- الرب يقول في كتابه المقدس نحن نقص عليك احسن القصص وتلك اشارة واضحة ان هناك قصص ارضية مليئة بالخيال والخيال حزمة من الاكاذيب التي تصنع جمالا لهذا فهي مقدسة تقول العرب ان احسن الشعر اكذبه لهذا فهو كذب مقدس لانجد شاعرا وساردا على طول هذا الكون لايمتهن الكذب المقدس العارف بمقاصده الروحية واول كتبنا الروحية العظيمة المقدسة الف ليلة وليلة وهم اهم مدرسة انسانية لصناعة الاكاذيب المقدسة التي علمتنا الحكمة ومنحتنا مخيلة لاثة تحاول فك طلاسم تلك الاكاذيب التي لايمكن ان تنتهي.3626 شوقي كريم

* هل توقفت ايام البغل على السته؟.

- مادامت الحروب معلنة ايام البغل الستة باقية البغال الشريك الموثر في حروبنا برغم ما يقدمه من عون انتهكنا وجوده الاليف وهو كائن متفرد جدا لاشبيه له في هذا الكون شخصيا اراه صادقاً مع نفسه لهذا ينتحر دون تردد ما ان يشعر بالظلم والاضطهاد والضحر مؤمنا ان خاتمة حياة قاسية احسن الف مرة من حياة قاسية ليتك لتعرف المغزى رأيت دموع بغل وهو يستعد للانتحار احتجاجاً على ظلم الانسان وجبروته.

* من هو جدك السومري الاول؟.

- أجدادي في اور واوروك وكيش ولكش وبابل واشور كثر كتبت ازمنتهم وتواريخهم بدراية معرفية اشرف على توجيهها وادارتها كبار الاثاريين علمني اسرارها الملهم المقدس طه باقر حين كتبت جلجامش الذي جسده سامي عبد الحميد وكشفت سراً ان الملحمة البابلية تختلف عن تلك السومرية بالكثير من التفاصيل ثم جاء فؤاد سفر وبهنام ابو الصوف لاقدم لهم قراءات اذاعية مهمة عن ملوك وعوائل حكمت البلاد منذ اور نمو الفاعل الاول والموحد المجيد حتى بلاد الحضر وماحدث بها اولئك حزمة اجدادي الذين اباهي حتى نفسي بهم واقف مع من قال اولئك اجدادي فجئني بمثلهم،،ملوك بلاد الشروكية التي قدسها الارباب وانشدت من اجلها اهم الاناشيد واحلاها،

* ماهي لاوزان المستخدمة في النقد وماعلاقة البطيخ بالوزن؟.

- ارى اليوم عند بعض النقاد قاعدة او قواعد غريبة تعتمد مبدأ البطيخ الذي في الشاحنة تلك القاعدة تقول كلما اخذت من الشاحنة ما اريد رايت في ما اكتب عنه مهما ومبدعا وموثرا تلك القاعدة موجودة بوضوح للاسف الشديد ولكن البعض ايضا يحاول التغاضي عنها رغم وجودها الغريب والوقح ايضا لا ادري متى تخلص شاحنة البطيخ ولكنها ستخلص ذات يوم،

* هل ترفص وجود المرأة الاديبة والناقدة باعتبارك ترى الادب ذكورياً؟.

- ما انا الذي يرى بل الانسانية كلها يقال ان الاناث بارواحهن الجذابة العميقة التاثير نصف الانسانية او اكثر فلماذا لم يظهر هذا النصف كل طاقاته الابداعية وظل ملتصقا بالذكورة بشكل او اخر لابد ان هناك ثمة اسباب كثيرة الاعتراف فضيلة ان الادب مهمة ذكورية وان وجدت بعض الاستثناءات فهذا يأتي نتيجة طفرات وراثية كل مليون اديب وكاتب وشاعر في هذا العالم نجد ثمان او عشر او مئة وكلهن توابع لذوات الذكوره ولك ان ترى من هي سيمون دبفوار لولا سارتر ومن هي جاك لندن واخناتوفا وهكذا اما عندنا فدعنا نحسب اين هو نصف مجتمعنا الفاعل في الادب منذ الخنساء التي صارت شاعرة من اجل اخوتها حتى اللواتي كتبن ادباً من اجل الحب واماني اللقاء بمحب

جميل يشبه نزار قباني ،،محنة المرأة الاديبة مخيفة لانها بقيت تسعى لتكون اديبة وهي تحت ظلال الذكورة ان انكسرت الذكورة اضاعت المرأة بوصلة اتجاهها

* ماهي قصة الخبر والكتب؟!!

- واهم ذاك الذي قال ليس بالخبز وحده يحيا الانسان،،الخير مكون حياتي فاعل جربت يوما في مدينة نصف سكانها تحت خط الفقر بان اضع خبزا والى جانبه اكوام من الكتب في شتى المجالات للاسف لم ينتبه احداً للكتاب واخذت الارغفة في ومضة عين السؤال الذي لابد منه كيف يستطيع جائع القراءة دلوني على من فعلها او بفعلها الان؟.

* ماذا يعني لك الوطن؟.

- سؤال اراه غريباً يحب ان يكون ماذا اعني للوطن لان الاوطان تعيش بنا هو ليست الارض التي تؤكد وجودنا بل مجموعة متناهية في القدم تعيش في اعماقنا وهي المحرك الاساس لذواتنا مافائدة ارض دون تلك الاحاسيس الانتمائية،،الوطن بالنسبة لي مجموعة مكوناتي الروحية الشديدة التاثير،

* هل تمارس بيع الاكاذيب وسط هذا الحر اللاهب؟.

- طبعا مهنتي تجميل الواقع المليء بالاكاذيب واعادة تكوينه ومن ثم تسويقة ليكون زاداً روحياً جمالياً لمن يرغب بان يكون قريباً من الحياة او في خضمها دلني على اديب واحد لايكذب حين يكتب ادباً يريد به رقي الانسان ورفعته!!

* هل تحفظ أرقام ما انجزت من جميع ضروب الادب المروي والمسموع والمقروء؟.

- نعم لن انسى ازمنتي وجهدي الكتابي الذي تعريت وجعت وسجنت وقاومت من اجل ديمومته انتجث مالم ينتجه غيري في الاذاعة٢٥٠ مسلسلا اذاعيا نلت عن بعضهن جوائز عراقية وعربية وكتبت برامج ظلت لسنوات تبث وكتبت للمسرح٢٠ مسرحية نلت عنها جوائز عراقية وعربية وكتبت٢٠ رواية وثمان مجاميع قصصية ولدي في جعبتي الكثير يمكن ان اقول اني موظف كتابة لا اغادرها ولا تغادرني وان فكرت ضجرا ان احيل نفسي الى التقاعد ولكن كيف ذاك سؤال لاجد له اجابة!!

* ماهي طريقتك في كتابة التاريخ؟.

- ما من كاتب على اتساع هذه الخليقة استطاع الخروج عن مؤثرات التاريخ ومكوناته سوى كانت بعيدة او غادرتنا قبل هنيهات التاريخ بوعية الجمعي هو الحقيقة حتى وان كانت مبالغ فيها الباقية اكبر الاكاذيب الانسانية تلك التي تقول ان هناك حاضراً ومستقبلا كلا الصفتين عبيدا للتاريخ خطوة واحدة ويغدو كل منهما تاريخاً يبقيه حياً ولاني ابن ارض تقدس التاريخ وتراه قاعدة تفاخرها العليا والتي لاتملك سواه انتميت الى التاريخ وجعلت منه اهم مصادر كتاباتي التي اثارت جدلاً ربما اكون الاول الى مهمة ان نجعل من السرد موثقاً تاريخيا،

* يقال اهل الغراف يهبهم الله خامات صوتية جميلة فهل تجيد الغناء واي الاطوار أحب اليك؟.

- مالذي تريده من طفل فتح عينية ليجد نفسه محاطاً بالقصب والبردي والنايات والحناجر الذائبة باحزانها اهاتنا ترتبط بتواريخ الجوع والقهر وادمان الفجيعة لهذا خرج في مدينتي طور غنائي يسمى الشطراوي فيه من الاسى والاحزان جبل انا اعشق النواح خاصة نواح سيدات السواد الامهات اللواتي علمننا معنى الدليلول واساها اعشق هيامات داخل حسن وخضير مقطورة وجبار ونيسة وسيد محمد وسلمان المنكوب ونسيم عوده وسواهم!!

* مانوع علاقة شوقي كريم بالشعر؟. وهل كتبت شعراً فصيحاً او محكيا يوماً؟.

- لا يمكن تصور هذا الكون دونما شعر فكيف الامر مع بلدٍ مثل العراق نهريه وسواقيه تقولان شعراً انا قاريء نهم وبشكل يومي لكل انواع الشعر وبكل تفاصيله المكتوبة بالعربية او باللغة العراقية المحكية تبهرني في المحكي قدرات كاظم اسماعيل الگاطع واراه اهم من النواب لانه شاعراصيل فيما دخل النواب الشعر الجنوبي من باب التعلم والصنعة مع مهارة لاانكرها واتمنى لو ان عريان السيد خلف تخلص من بعض غموض اللغة ومفرداتها القاموسية الخاصة باهلها واهيم طرباً مع بلند الحيدري وقيس لفته مراد ولا احب السياب كثيراً

كتبت داخل مسروداتي قصائد نثرية عن عمد حتى ان الاستاذ فاضل ثامر والشاعرة رسمية محيبس زاير اشارا بدراساتهما عني الى هذه الخصيصة الشعر مجاز جمالي يحتاج الى فهم تفسيري ويجب ان يكتب دون تسرع وانا كائن اخاف الوقت ولا اريد له الانتظار!!

* من هو الشاعر الذي تهتز اريحيتك له؟.

- اشرت في اجابتي عن سؤالك الاسبق عن مجموعة اسماء تفاعلت معهم ورايت فيهم ارواحاً جمالية مهمة في ايام فتوتي رأيت في سعدي يوسف مثل كل ابناء جيلي نموذجا جماليا يحتذى ويتابع لكني وبعد ان اضاع المشيتين هجرته مرغماً لاتابع خطوات حسب الشيخ جعفر الذي قرأته منذ عبر الحائط في المراة بشغف لانه روح باذخة لينة!!

* هل رقص قلبك عشقا؟.

- وآه واحزني على القلوب التي لاتعشق،،الدنيا مبنية على الحب والذي لايحب كائن خارج عن معاني انسانيته عشقت منذ صباي حتى قبل ان اعرف ما اصابني واستمر عشقي حتى اليوم امرأة واحدة ماغادرني عشقها ولا يريد ان يغادر هي امي فطيم وحيلي التي غادرتني مبكرا فبقيت انتظر عودتها كلما انصت الى صوت ماكنة خياطة او رايتها

النصيحة ان على الذي لايعرف العشق ان يرمي بقلبه بعيداً

* هل بياض الشعر يتناسب عكسيا مع عدد المعجبات؟.

- البياض منحني وقاراً وزادني حكمة وتاملاً معجبات اليوم يعجبن بشوقي كريم الكاتب الانسان ونصف متابعي صفحاتي من الاناث اللواتي اكن لهن احتراماً خاصاً واحاول قدر ما استطيع ان اكون قريباً منهن في كل مايكتبن ويقولن ويفعلن الاناث حبيبات الالهة السومرية لهذا بوصفي السومري اجلهن!!

* ماهي قصة الحب الاول؟.

- الحب الاول بالنسبة لي فكرة ساخرة تعجلت بها كثيرا نتيجة نزوات بسيطة ساذجة غير مدروسة كان لامي الدور الاهم بها وقد كتبتها قصة احببت قريبة لي وذهب امي لخطبتها لكن اهلها رفضوا بشدة لاننا فقراء وانا ولد مشاكس لايؤتمن على شيء،،عادت امي منكسرة وظل وجع تلك اللحظة قائماً حتى الان بعد سنوات طويلة التقيتها عند باب سوق مركزي عرفتها وعرفتني ولكننا التقينا لقاء الغرباء!!

* هل لامست قلبك باسئلتي؟.

- لا اجاملك هي المرة الاولى التي اشعر اني اعيش حوارا مغايرا مختلفاً انت نباش جميل ومشاكس ايضا وانا احب المشاكسة بطبعي!!

* انا تعب من طرح الاسئلة ولم اتمكن من الاحاطة بشوقي كريم هل لديك شيئا تضيفه؟.

- نعم اشعر بأني تحولت الى كائن دخل الفراغ من كثر ما اجاب عن الاسئلة شكرا لك فتحت امامي ابواب التذكر.

* واخيرا ايقنت ان رحلتي في قطار شوقي كريم وصلت محطتها الاخيرة مع وجود الاسئلة الكثيرة التي لم تطرح بعد فرضخت للترجل مجبرا على ان يسمح الزمن بسفرة مشابهة في هذا القطار الممتع

***

حاوره: راضي المترفي

حاورته: هدى فخر الدين

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

أدونيس هو الاسم المستعار الذي اعتمده علي أحمد سعيد إسبر. ولد علي عام 1930 في قرية قصابين السورية، وعرف علي البالغ من العمر 13 عاما أنه مقدر له أن يكون شاعرا. عندما سمع أن الرئيس شكري القوتلي كان قادما للزيارة، سافر سيرا على الأقدام إلى البلدة المجاورة لإلقاء قصيدة. بأعجوبة، انتهى به الأمر بقراءة قصيدته أمام الرئيس الذي وعده في المقابل بالتعليم. المستحيل دائما في متناول اليد في قصة حياة أدونيس. اقرأ مقدمة هدى فخر الدين الكاملة في الجزء الأول.

***

هدى فخر الدين: متى ولماذا تم القبض عليك؟

أدونيس: في عام 1955، تم اعتقالي بسبب صلتي بالحزب السوري القومي الاجتماعي. اغتيل عدنان المالكي السياسي والضابط في الجيش في دمشق واتهم الحزب بقتله. وهكذا، قام النظام الحاكم بقمع جميع أعضاء الحزب. كنت في حلب لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية عندما تم اعتقالي.

هدى فخر الدين: ماذا تتذكر من تجربتك في السجن؟

أدونيس: لقد كانت تجربة مريرة للغاية. قضيت سنة في السجن ثم سنة أكملت فيها خدمتي العسكرية. كان السجن من أكثر التجارب المحورية في حياتي. لا أحب الحديث عنها. سيكون السجن محور تركيز رئيسي في السيرة الذاتية التي أكتبها.

فيما بعد، تركت الحزب لأن التجربة علمتني أن بناء مؤسسات فاعلة في المجتمع العربي يكاد يكون مستحيلا ما لم يتم بناؤها وإعادة بنائها مرارا وتكرارا، وإذا لم تتوفر إرادة مستقلة ودرجة عالية من الالتزام الأخلاقي، فإن المؤسسات محكوم عليها بالفشل، خاصة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا حيث النقاط المرجعية الأساسية هي الدين والطائفية والعرق. دائما ما يبتلع الوحش الذي يتمردون عليه من الأحزاب السياسية في النهاية.

هدى فخر الدين: دعنا نسأل عن اللقاء بزوجتك خالدة سعيد. ربما تكون أهم قارئ وناقدة لك.

أدونيس: لا أنشر أي شيء أبدا دون أن تنظر إليه. إن تعقيد علاقتي مع خالدة تجاوزته الصداقة الموجودة بيننا التي لا تتزعزع. اكتشفنا أن الحب لا يمكن أن ينمو إذا لم يتم احتضانه من خلال الصداقة، بغض النظر عن مدى قوة أو شراسة هذا الحب. وما أنقذ علاقتنا، على الرغم من كل الصعوبات والاضطرابات طوال حياتنا، هو الصداقة الفكرية العميقة التي كانت قائمة بيننا وما زالت قائمة حتى اليوم. الصديق قادر على التحدث إليك، وأنت تتحدث معه، دون قيد أو شرط وتحت أي ظرف من الظروف. قال أبو حيان التوحيدي ذات مرة: "الصديق هو أنت آخر ".

هدى فخر الدين: متى قابلت خالدة؟

أدونيس: التقينا عام 1952 في دمشق. كانت في كلية المعلمين. التقينا لأول مرة في منزل الصديقة عبلة الخوري كانت شخصية إذاعية معروفة وشخصية بارزة في المشهد الثقافي. كانت مرتبطة بالحزب. كان شقيقها عضوا بارزا.

هدى فخر الدين: هل كانت خالدة عضوة في الحزب السوري القومي الاجتماعي؟

أدونيس: ليس في ذلك الوقت. لكنها انضمت لاحقا إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وأصبحت أكثر انخراطا مما كنت عليه. لقد سُجنت أيضا بسبب علاقتها بالحزب. كان هذا عندما غادرت إلى بيروت - ثم انضمت إلي بعد ستة أشهر.

هدى فخر الدين: هل سبق لك أن اختلفت جوهريا مع أي من قراءاتها لعملك؟

أدونيس: لا ننشر أبدا أي شيء دون استشارة الآخر أولا. أخبرها أن تكون ناقدة، وأن تقرأني بموضوعية، وإذا كان هناك أي شيء لا تحبه، فتقوم بتأكيده بقلم أحمر.

هدى فخر الدين: كيف تصف علاقتكما بابنتيك أرواد ونينار؟

أدونيس: ربما يمكنني أن أفعل ذلك بشكل أفضل من خلال قصة. عندما تخرجت أرواد من المدرسة الثانوية، التحقت بكلية الآداب الحرة لدراسة الأدب الفرنسي. كان العديد من أقرانها نشيطين في الأوساط اليسارية. ذات يوم أخبرتني أرواد أنها تريد الانضمام للحزب الشيوعي. أخبرتها بالضبط ما قاله لي والدي: لن أقول لا، لكنني لن أقول نعم أيضًا. سألتها عن رأيها في ذلك. أخبرتها أن تصادقهم وأن تطرح الأسئلة، وأن تنتبه إلى مدى انعكاس أفكارهم بشكل وثيق في ممارساتهم. إذا عاشوا ما يزعمون أنهم يؤمنون به شيء، وشيء آخر تماما إذا لم يفعلوا ذلك. أتركها تتخذ القرار بنفسها - فهذه دائما أفضل طريقة. ادرسي الأشياء بعناية، جربيها، ثم قرري. لقد اتخذت قرارها بنفسها. بعد شهرين أو ثلاثة، أتت إلي وهي تبدو مستاءة. سألتها ما هو الخطأ. قالت إنها انهت العلاقة مع الحزب الشيوعي!

هدى فخر الدين: هل كنت قريبا من بناتك عندما كن يكبرن؟

أدونيس: لم أجد الوقت الذي أقضيه معهما. كنت دائما خارج المنزل، سواء للعمل أو السفر أو الكتابة. لقد عهدت بحياتهما بالكامل إلى والدتهما. كانت والدتهما متعلمة ومطلعة وناقدة. عرفت كيف تربي أطفالها وتعتني بهم بالطريقة الصحيحة. أشعر بالأسف وأحيانا بالحزن لأن الصداقة لم تنمو بيننا أبدا.

هدى فخر الدين: حتى الآن؟

أدونيس: الآن صداقتنا فكرية، بينما كنت أتمنى دائما أن تكون أكثر حميمية. بهذه الطريقة، إذا حدث أي شيء لهما، فإنهما ستأتيان وتتحدثان معي. سيكون هناك نوع من التعاطف يتجاوز المنطق والعقل - علاقة مبنية على حياة العواطف. لم نحصل على ذلك أبدا، ربما، لأنني كنت مشغولا بنفسي.

هدى فخر الدين: ما هي الظروف الأولى التي أوصلتك إلى لبنان؟ كيف كان الشعور بالانتقال إلى هناك؟

أدونيس: كان لي موعد مع يوسف الخال في بيروت. كان في نيويورك مع الوفد اللبناني في الأمم المتحدة برئاسة تشارلز مالك عندما نشرت قصيدة بعنوان "الفراغ" عام 1954. قرأها وكتب إليّ قائلا إنه ذاهب إلى بيروت ليطلق مجلة جديدة بعنوان "شعر". كان يعتقد أن قصيدتي مهمة لأنه وجد فيها تحولا حقيقيا من الشعر التقليدي إلى الشعر الحر الذي كان يحلم به، وهو الشعر الذي أطلقنا عليه لاحقا اسم شعر التفعيلة.

هدى فخر الدين: وهل كتبت تلك القصيدة الحديثة بمفردك دون أي تأثيرات؟

أدونيس: بمفردي.

هدى فخر الدين: هذا كان عام 1954، لم تقرأ الشعراء العرب الآخرين الذين كانوا يجربون نفس الشكل في العراق مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة؟

أدونيس: من حيث التركيب، كانت قصيدتي مختلفة. كان استخدامي للتفعيلة الشعرية (التفعيلة) مختلفا.

هدى فخر الدين: هل كنت على علم بكتاباتهم بعد ذلك؟

أدونيس: ليس بعد. قابلت نازك الملائكة بعد عام 1960 فقط.

هدى فخر الدين: إذن كان لدى يوسف الخال مشروع واتصل بك للانضمام إليه.

أدونيس: نعم. لم ألتق به من قبل واتفقنا على اللقاء لأول مرة في بيروت. التقينا في مقهى نصر على البحر في بيروت. التقطنا صورة معا هناك وتم نشرها لاحقا عدة مرات. كنا اثنان. توصلنا إلى خطة مفصلة للمجلة، وهكذا بدأت مجلة شعر.

أعددنا العدد الأول، هو وأنا. ليس من المبالغة القول بأنني كتبت معظم العدد الأول بنفسي. افتحنا العدد بقصيدة لبدوي الجبل.

هدى فخر الدين: ومقدمة قصيرة من قبل أرشيبالد ماكليش.

أدونيس: نعم. كان صديق يوسف.

هدى فخر الدين: من قام بتمويل مجلة "شعر"؟

أدونيس: لا أحد. لقد عملنا مجانا وقمنا بتمويلها بأنفسنا. لم ندفع لأي من كتابنا. قمنا بتغطية جميع نفقات الإنتاج وكان لدينا عدد قليل من المتبرعين من بين أصدقائنا. كان من السهل القيام بالعمل، ولم يكلف الكثير. لم يكن لدينا موظفين أو مكاتب. نشرنا في وقت لاحق بعض الإعلانات.

هدى فخر الدين: هل كانت مجلة "شعر" تستجيب لحركة أم تؤس لها؟

أدونيس: لم نهتم على الإطلاق بما كان هناك. كنا حركة جديدة. كان هناك العديد من المجلات والدوريات، وكان أولها الآداب في بيروت. كنا واثقين من نجاح مشروعنا الجديد ولم نكن مقتنعين بالشعر السائد.

هدى فخر الدين: كيف كان شعورك عندما تصدر مثل هذه المجلة المؤثرة؟ ماذا أنجزت؟

أدونيس: تجربة مجلة "شعر" ساعدتني في الوصول إلى الاستنتاجين التاليين. أولا، لكتابة شعر عربي جديد حقا، يجب أن يكون لدى الشاعر معرفة وثيقة بالتقاليد العربية وتقدير صادق لجمال اللغة العربية. لا يمكنك إنشاء شيء جديد أو جميل بلغة لا تعرفها ولا تعرف تراثها وذاكرتها. إن القصيدة الحديثة حقا هي في نفس الوقت شريحة من ثقافتها، وأسر لتاريخها وليست مجرد بيان للآراء والمشاعر الشخصية. ثانيا، لا يستطيع الشعر وحده تحديث ثقافة أو مجتمع. تتطلب القصيدة الحديثة مجتمعا حديثا ومؤسسات حديثة لتتبعها. الحداثة المنفردة في الشعر مثل جزيرة بلا جذور، مشروع عبثي.

وهنا ابتعدت عن المجموعة. كانوا مقتنعين بأن المشروع الجديد لم يستخدم التقليد. اختلفت معهم واضطررت إلى المغادرة. اعتقدت أنهم يجب أن يكونوا على دراية بالسياق الأكبر، السياق العربي، وأن يستثمروا فيه. ما هو لبنان بعد كل شيء؟ إذا كان للبنان صفة قابلة للحياة من حيث الشعر، فهل هو ارتباطه باللغة العربية والتقاليد العربية؟ ما فائدة بودلير بالنسبة لك، قلت ليوسف، إذا كنت لا تفهم أبو نواس أولا؟ إذا كنت لا تعرف المعري فكيف تقرأ دانتي أو إليوت؟ لسوء الحظ، كان لدى يوسف الخال ومعظم المجموعة رأي مختلف. لهذا غادرت.

هدى فخر الدين: إذا كنت قادرا على مراجعة بعض مقترحاتك النظرية التي قدمتها في السنوات الأولى لمجلة شعر، فهل هناك أي شيء ترغب في تغييره؟

أدونيس: سأراجع علاقتنا مع التقليد الأدبي العربي ووجهات نظرنا فيه. كثير من شعراء المجموعة، وخاصة الشعراء اللبنانيين، لم يعرفوا كيف يقرؤون الشعر العربي. كان أنسي الحاج مولعا جدا بالعديد من الشعراء العرب، لكنه لم يستطع قراءتهم. تخيل أنك لا تقرأ أبو نواس. ابتكر اللغة العربية الحضرية، ولا يزال شخصية هامشية. من المسلم به أن هناك مواهب عظيمة بين شعراء الحداثة العربية، ولكن بشكل عام، يجب إعادة النظر في علاقتهم بالتقاليد العربية وكذلك علاقتهم مع الأجانب. المواقف التي عبرت عنها مجلة شعر تجاه القديم من جهة والأجنبي من جهة أخرى كانت صريحة وغير ناضجة.

هدى فخر الدين: وهذا هو سبب قيامك بتأسيس "مواقف"؟

أدونيس: أعتقد أن "مواقف" كانت أكثر نضجا وتوازنا من مجلة "شعر". فشل مشروع مجلة "شعر" في النهاية، وسرعان ما توقفت الصحيفة عن الصدور بعد ذلك. بينما لا أحب أن أنتقد مجلة "شعر"، أعتقد أن الأعداد اللاحقة التي نُشرت بعد مغادرتي كانت ضعيفة وخيانة للمبادئ التي أسست عليها مجلة " شعر" في الأصل.

كنا في "مواقف" ملتزمون بتربية قارئ وناقد حديث، جيل متعلم حديث حقا. كانت هناك مجموعة كبيرة من الأصدقاء المخلصين الذين جعلوا مواقف على ما هي عليه. كان محمود درويش عضوا في هيئة التحرير في مرحلة ما بالإضافة إلى صادق العظم. أشخاص من جميع أنحاء العالم العربي والعالم. انتشرت "مواقف" على نطاق واسع. والدك جودت فخر الدين كان مرتبطا أيضا في "مواقف" لفترة من الزمن.

هدى فخر الدين: هل شكلت تجربتك في الترجمة لغتك الشعرية؟

أدونيس: في شعري، حاولت أن أجعل من لغتي العربية تأثيرا غير عربي. عند الترجمة لم أستسلم للغة الشاعر الأجنبي. عملت جاهدا لكتابة قصيدة باللغة العربية. ينتقد الكثيرون ترجمتي ويشيرون إلى أخطاء في الترجمة. لم تكن هذه أخطاء - لقد سمحت لنفسي بترخيص مهنة التعريب. أبحث عن الكلمات العربية التي تناسب سياق الجملة في نصي العربي حتى لو لم تكن أفضل الكلمات المكافئة للنص الأجنبي. أخطاء ترجمة الكتب المدرسية التي أشير إليها غالبا في ترجماتي هي قرارات شعرية اتخذتها بوعي. بشكل عام، فإن الترجمات إلى اللغة العربية غير مقروءة ومليئة بالأخطاء الشعرية حتى لو كانت صحيحة بالمعنى الكتابي.

هدى فخر الدين: حدثني عن تصميم وترتيب أغاني مهيار الدمشقي.

أدونيس: موضوع واحد مع العديد من الاختلافات.

هدى فخر الدين: شخصية القصيدة هي مهيار - وهي مقتبسة جزئيا عن الشاعر مهيار الديلمي. لكنه أنت أيضا يا أدونيس.

أدونيس: مهيار هي رؤيتي للشخص العربي المثالي في المستقبل. أولا، إنه حر. ليس فقط هو حر، ولكن حريته مجانية. مثلما قال رامبو أن الحرية وحدها لا تكفي لتعني الحرية. يجب أن تكون حريتنا أيضا حرة، مما يعني أنه يجب أن نكون قادرين على ممارستها. هذا نموذج للمستقبل: الشخص العربي المستقبلي الذي يمتلك الحرية. ثم، هو بيان بأن كل الأشياء هي من أجل البشرية أو في خدمتها. كل شيء: الله، الكون، العالم، الحب ... لأن الشخص أو الإنسان هو العالم. بدون الإنسان لن يكون هناك عالم. سيكون هناك شيء آخر: مادة، كواكب، ملائكة، إلخ. العالم البشري هو الوجود الحقيقي الوحيد الذي يخصنا. لذلك يجب أن يكون كل شيء من أجل الإنسان في خدمة الإنسان، بما في ذلك الدين والشعر. ولكن لكي نستحق كل هذه الأشياء، يجب أن تكون البشرية حرة أولا.

هدى فخر الدين: لماذا اخترت تسمية كل قسم من أقسام النثر بـ "مزمور" - بنشيد؟

أدونيس: لاستحضار التعبيرات القديمة. لخلط الأشياء معا وإعادتها إلى الحياة. كما أن أصل كلمة مزمور هو السريانية، لذا كان موطنها سوريا.

هدى فخر الدين: هل كنت تفكر في الأفكار التي خرجت بها مجلة " شعر" عن قصيدة النثر وقد كتبت مهيار؟

أدونيس: نعم. لكننا لم نبدأ كما ينبغي. قدمنا في مجلة "شعر" قصيدة النثر كشكل جديد من أشكال التعبير الشعري لم يسبق له مثيل في الذاكرة الشعرية العربية. لكن الابتكار يتطلب الموهبة والتعليم. تحتاج الموهبة إلى التحدي والصقل حتى تتمكن من المشاركة في العالم وليس الانعكاس الداخلي فقط. كان مهيار بيانا شخصيا مختلفا عن البيان الموجود في مجلة شعر.

هدى فخر الدين: بين أقسام النثر، أو المزامير، والقصائد المكونة بشعر التفعيلة، هناك قسم يجعلني أتوقف دائما. القصيدة بعنوان "أسلمت أيامي". إذا كنت تريد إعادة ترتيب الأسطر على الصفحة، فيمكن أن تكون قصيدة كلاسيكية، أليس كذلك؟ إنه بالمقياس الكلاسيكي (الكامل). لكنك فككته وخربته.

أدونيس: هي شعر مؤلف من تفعيلة متراصة بطريقة الشعر الحر (قصيدة التفعيلة). وهي تختلف في الاعدادات الكلاسيكية أو تعيد ترتيبها، إلا أن هذا لا يجعلها تقليدية. عندما تقرأها، عندما تستمع إليها، لا تشعر أنها تتناسب مع الترتيب التقليدي، فهي تبدو جديدة.

هدى فخر الدين: ما هي الظروف التي أوصلتك إلى باريس؟ لماذا قررت مغادرة بيروت؟

أدونيس: كنت أتلقى دعوات كثيرة من الخارج. قضيت عامين في برينستون ثم عامين في ألمانيا. كان لدي العديد من الفرص للمغادرة. اخترت فرنسا بسبب انتمائي الشخصي للغة الفرنسية وبسبب الأصدقاء الكثيرين هنا في باريس.

هدى فخر الدين: هل ساعد الانتقال إلى باريس والعيش فيها على تطوير أفكارك حول العلمانية وموقفك من الدين؟

أدونيس: لا. لقد تم تطويرها وتأسيسها خلال فترة وجودي في بيروت وخاصة خلال فترة عملي في "مواقف". كانت "مواقف" مجلة ممولة ذاتيا أسسها شعراء وكتاب شباب متحمسون. كما كانت أول مجلة في العالم العربي تقرر وقف النشر. لقد اتخذت هذا القرار بعد أن نشرنا عددا خاصا عن المرأة في المجتمع العربي الإسلامي بشكل عام وخاصة من منظور حقوقي. طلبنا من المتخصصين، الذين ربما كانوا مترددين في تقديم الانتقادات، أن يصفوا مكانة المرأة في هذا المجتمع. سألنا أساتذة القانون والمحامين والأكاديميين. كانت الاستجابة مخيبة للآمال. قالوا جميعا لا نستطيع. سيتضمن الوصف بالضرورة انتقادا للدين وهذا أمر خطير للغاية. لقد نشرنا عددا واحدا ولكننا لم نتابع مع الآخرين كما خططنا لأن معظم الأشخاص الذين قمنا بدعوتهم للمساهمة لكنهم اعتذروا جميعا.

دعوت إلى اجتماع لمجلة "مواقف" وقلت للفريق: إذا لم نتمكن من القيام بذلك، فلماذا نستمر في المجلة؟ اكتشفنا أننا نعيش في مجتمع لا يستطيع التعامل ولا يسمح باستكشاف القضايا الحاسمة التي تؤثر بشكل مباشر على حياتنا. لم أستطع أن أرى فائدة لعملنا في الصحافة، لعملنا الثقافي في مثل هذه الظروف. إذا لم نتمكن من التحدث بجدية وبحرية عن الأمور التي تحدد مصيرنا.

هدى فخر الدين: هل كانت هذه التجربة من الأسباب التي شجعتك على مغادرة بيروت؟

أدونيس: بالضبط. شعرت أنني فعلت كل ما بوسعي في بيروت، وقد حان الوقت لكي أجرب مكانا آخر.

هدى فخر الدين: أين كنت عندما حدثت الثورة الإيرانية؟ ماذا كان رد فعلك عليها بعد ذلك؟

أدونيس: كنت ما زلت في بيروت. لقد سررت ورحبت بها كما فعل كتاب وشعراء العالم.

هدى فخر الدين: هل أثرت عليك وعلى كتاباتك؟

أدونيس: لا، لم يكن لها تأثير علي. كنت سعيدا للشعب الإيراني. في "مواقف" كنا نكتب ضد الظلم والاستعمار والديكتاتوريات وما إلى ذلك. كانت حقيقة أن شعبا ما ثار على فكرة الإمبراطورية، ضد القمع والتدخل الأجنبي أمرا عظيما. علاوة على ذلك، كانت ثورة مثالية لا مثيل لها في التاريخ. لم تكن منظمة من قبل الطبقة العاملة وحدها. لم تكن انقلابا عسكريا. لم يتم تنظيمها من قبل فئة أو فصيل واحد. بدلا من ذلك، تم تنفيذها بالكامل من قبل الشعب الإيراني. من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. هذا أولا. لقد كانت ظاهرة تاريخية غير مسبوقة جذبتنا. كان هذا أول شيء مذهل حقا. هذا ما جذبني وما كتبته في مقالي الأول عن الثورة.

كتبت ثلاث مقالات عن الثورة الإيرانية. أعيد نشر المقالات الثلاثة في الثابت والمتحول. لكن قلة قليلة قد طالعوها. أنا متأكد من أن الذين ينتقدونني ويهاجمونني لم يطالعونها.

في المقال الثاني، صرحت بوضوح أنني ضد ثورة تؤسس مشروعها على الدين. نشر هذا في الملحق العربي والعالمي لصحيفة النهار حيث كتبت عمودا عاديا. كان هذا هو نفس العمود والصحيفة نفسها حيث كان لدي مقالتي الأولى لدعم الثورة الإيرانية عندما حدثت لأول مرة. في المقطع الثاني حذرت من قيام دولة على أساس الدين في إيران.

ثم كتبت مقالا ثالثا بعنوان "الفقيه العسكري" حذرت فيه من تدخل الدين في السياسة ورجال الدين في الحكم ووصولهم إلى السلطة. لكن لم يقرأ أحد المادتين الأخريين. قرأوا المقال الأول لكنهم أدلوا بكل أنواع التصريحات الكاذبة عنه. ليس لدي أي علاقة عاطفية بالثورة الإيرانية. لقد علقت عليها فقط كظاهرة ثم انتقدتها على هذا النحو. لا أعرف أي شخص منخرط فيها. في الحقيقة، أنا أعرف منتقديها أكثر من مؤيديها. لم تتم دعوتي لزيارة إيران عندما زارها معظم الكتاب اللبنانيين.

هدى فخر الدين: رأيك في الأحداث في سوريا معروف. لقد شجبت الثورة لأنها خرجت كما قلت من المساجد. أثار هذا الموقف غضب وخيبة أمل الكثيرين الذين توقعوا منك، بصفتك ثوريا، أن تتخذ موقفا ضد النظام.

أدونيس: أولا، تراجع الكثير منهم عما قالوه. اتصلوا بي واعترفوا بأنهم مخطئون، وكنت على حق. انتقدني آخرون دون قراءة أي شيء كتبته حول هذه المسألة. على سبيل المثال، كتبت كتابا بعنوان "غبار المدن وبؤس التاريخ"، طبع باللغتين العربية والفرنسية، أنتقد فيه النظام وأقول إنني أؤيد المعارضة الداخلية. ومع ذلك، ما زلت أعتقد أنه من الخطأ، إن لم يكن من المستحيل تصوره، لأي ثورة تدعي أنها ضد النظام الحاكم ألا تطالب علانية بتحرير المرأة والمساواة في الحقوق. من غير المعقول أن تعتمد الثورة على نظام سياسي آخر قضى على السكان الأصليين بالكامل، أي الولايات المتحدة. من غير المعقول أن تتعاون مع إسرائيل، دولة إرهابية تقتل شعبك، الفلسطينيين، كل يوم. هناك مبرر أخلاقي لذلك بغض النظر عن عمق فساد النظام وهو فاسد. علاوة على ذلك، لا يمكنك التماهي بين النظام والشعب. فقط لأنك دمرت مدينة تدمر فهذا لا يعني أنك أسقطت النظام.

هدى فخر الدين: لماذا قررت التخلي عن الشعر لبعض الوقت؟ ماذا كنت تفعل بدلا من ذلك؟

أدونيس: ظننت أنني قلت كل ما يجب أن أقوله، لكن الشعر أعادني.

هدى فخر الدين: لكنك كتبت "كونشرتو القدس" بدلا من ذلك.

أدونيس: همست في أذن الشعر، لكنه لم يستمع. رد عليّ وقال: "لن أتركك تنتهي من الشعر".

هدى فخر الدين: حدثني عن "كونشيرتو القدس". كيف نشأت هذه القصيدة؟

أدونيس: لقد جاء ذلك من علاقتي المعقدة مع فلسطين، سياسيا وفكريا. أستطيع أن أدافع عن حماس وحقوقهم كجزء من الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال، لكنني ضدهم عندما يصبحون دولة. لا يمكنني قبول دولة فلسطينية مبنية على أساس الدين. لا يمكنني قبول أي موقف يكون فيه دين في حالة حرب مع دين آخر. إذا اعترفت المسيحية واليهودية والإسلام ببعض الحقائق المشتركة، فعندئذٍ يجب أن يظهر أي رابط بين هذه الأديان، على أقل تقدير، في المدينة التي نطلق عليها القدس، القدس. كان يجب أن تكون القدس أجمل مدينة على وجه الأرض بموضوعية. لماذا هذا؟ لأن القدس هي المكان الذي تتقاطع فيه الديانات التوحيدية التي تحكم هذا العالم، مما يشكل مثالاً للتعايش والثقافة المشتركة والتعبير. لذلك، إذا كان هناك صدق في هذه الممارسات الدينية، فيجب أن يتبع ذلك أن القدس ستكون أعظم وأجمل مدينة على وجه الأرض. ومع ذلك، من الناحية العملية هناك ما هو أبشع. يحدد "كونشيرتو القدس" هذا بالضبط.

هدى فخر الدين: لنتحدث عن "الكتاب" الذي لم يترجم إلى الإنجليزية بعد: الكتاب. في هذا العمل، تجعل الشعر هو النص الأساسي وتدفع التاريخ إلى الهوامش. حدثنا عن العلاقة بين الشعر والتاريخ. تنشغل مرارا وتكرارا بالتاريخ وتعيد كتابة التاريخ وتخربه وتهمشه ...

أدونيس: إنه مثل "الأرض اليباب" لتوماس إس إليوت أو "الأناشيد" لعزرا باوند. لكني أعتقد أن "الكتاب" يخترق السطح بعمق أكثر مما فعلوه.

هدى فخر الدين: لماذا أطلقت عليه "الكتاب" - الكتاب؟ عادة، يشير الاسم إلى القرآن، أو ربما إلى كتاب قواعد اللغة العربية لسيبويه.

أدونيس: يشير مصطلح "الكتاب" إلى شيء أساسي وشامل. الكتاب توسعي وتأسيسي على حد سواء. إنه يمهد الطريق لمرحلة أخرى.

هدى فخر الدين: في "الكتاب"، جربت المقياس واللغة. ما الذي كنت تحاول تحقيقه من حيث الشكل أو الموسيقى في "الكتاب"؟

أدونيس: أعتقد أن الشيء الجديد فيه هو جودته الدرامية، مثل المسرح. لو أردت، كان بإمكاني تحويله إلى قصيدة بأسلوب السرد، مثل هوميروس، جلجامش، أو دانتي. لكنني فضلت أن أضع التاريخ كله على صفحة تواجه نفسها وتتشابك مع نفسها، وكأن الثقافة العربية مسرحية يتم عرضها على خشبة المسرح. هذا هو الجديد في ذلك.

هدى فخر الدين: هل كنت تفكر عمدا في الوسائط المرئية والمسموعة عندما كنت تصمم الصفحة في "الكتاب"، مثل شاشة التلفزيون.

أدونيس: نعم، خطرت لي الفكرة من فيلم إنغمار بيرغمان. لا أتذكر الآن أيهما كان. كنت أشاهد أحد أفلامه. اللقطة تجعل الشخص يستمع إلى الموسيقى ولوحة على الحائط. كل شيء على الشاشة، على متن طائرة واحدة. قررت أن الصفحة يجب أن تبدو مثل هذه الشاشة. كنت أبحث عن نموذج لمدة عام تقريبا. ثم وجدته أخيرا. لهذا بدأت في كتابة "الكتاب".

هدى فخر الدين: لقد وصفت اللغة العربية ذات مرة بأنها لغة ميتة، لكنك تصر أيضا على أنها مكان إقامتك ووطنك. ما هو مستقبل اللغة العربية؟

أدونيس: أتفق هنا مع يوسف الخال الذي قال إن مستقبل اللغة هو عربي بدون علامات التشكيل. هذه العربية التي نتحدثها أنا وأنت الآن. هذا رأي منطقي. لماذا لا نكتب بنفس الطريقة التي نتكلم بها؟

هدى فخر الدين: هل ترى نفسك تكتب بالعربية المنطوقة؟

أدونيس: لا. هذا يتطلب إتقانا ووقتا وتقليدا. لا أستطيع الكتابة بلغة لا أتحكم فيها. سأكتب دائما بالفصحى حتى لو علمت أنها ستموت غدا. أنا غير قادر على الكتابة في أي شيء آخر. من المهم أن يعرف المرء حدوده. لا أستطيع الكتابة في أي شيء سوى الفصحى.

هدى فخر الدين: هل تقرأ الشعر باللغة العربية المنطوقة؟

أدونيس: نعم. بالطبع افعل. وأشجع على ترجمة الشعر من اللغة العربية المنطوقة إلى لغات أخرى. البعض منه شعر عظيم. ما الذي يمنع هذه اللغة التي نتحدث بها من أن تصبح لغة الكتابة؟ سيقول البعض قضية القرآن. ماذا عن القرآن؟ يمكن أن يكون له لغته الخاصة. وعلى كل حال، فإن القرآن قد مات. لا أحد يقرأه حقا. المسلمون لا يقرؤون القرآن رغم أنهم يطبعون ملايين النسخ منه كل عام.

هدى فخر الدين: ما الموسيقى التي تستمع إليها؟

أدونيس: لطالما كنت مفتونا بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. لقد انجذبت إلى عالمها الواسع منذ سن مبكرة. الملحن الذي يتحدث إلى نفسي هو بيتهوفن، والمؤلفان اللذان يتحدثان بفرحتي وسعادتي هما موزارت وباخ. أتساءل عن هذا الاختراع الفريد الذي قدمته أوروبا للعالم بمفردها. يمكننا القول إن الثقافة الأوروبية هي في الغالب نتاج التفاعل مع الثقافات الأخرى والاستعارة منها، لكن الموسيقى الكلاسيكية نفسها هي نتاج محض لأوروبا واستمرت في الازدهار أولا وقبل كل شيء في أوروبا. لماذا؟ يقول البعض أن سبب ذلك له علاقة بدور الكنيسة. لا أعرف.

لم أكن دائما من عشاق الأغنية العربية. ذات مرة، عندما كنت أكتب في "لسان الحال"، كتبت مقطعا قصيرا ينتقد أم كلثوم. اكتشفت لاحقا أنها قرأته وقالت إنها تود مقابلتي. كان لدي صديق كان من أشد المعجبين بها وكان يصر على أن أستمع إلى عملها بعناية أكبر. كان يعتقد أنها كانت عبقرية. كان اسمه حنا دميان. أعاد تقديمها لي وأصبحت في النهاية من المعجبين بها. من بين الأصوات العربية، أم كلثوم وفيروز هي المفضلة لدي. أنا بالطبع على صلة وثيقة بعمل الأخوين رحباني كموسيقيين أيضا. هناك أصوات أخرى مدهشة تسحرني مثل وديع الصافي وأسمهان.

هدى فخر الدين: نعلم أنك لست من محبي أحمد شوقي؟ هل تحب سماع أم كلثوم وهي تغني قصائده؟

أدونيس: نعم، أفعل ذلك لأنها أعادت كتابتها بصوتها. ما يبقى هو الصوت وتنسى التكرار من الشعر الضعيف. يمكن لأم كلثوم أن تحول القبيح إلى شيء جميل. لقد تطورت بالتأكيد لأكون من محبيها.

هدى فخر الدين: أين تكتب؟ هل هناك مكان معين يأتيك فيه الشعر؟

أدونيس: أكتب في أي مقهى صغير في أي شارع صغير. يمكن أن يكون المقهى في باريس أو بيروت. لقد كتبت الكثير في مقهى هورس شو ومقهى الروضة في بيروت.

هدى فخر الدين: هل لديك طقوس الكتابة؟

أدونيس: لا. أنا ليس لدي. لا يمكنني أبدا كتابة قصيدة جالسة خلف مكتب. كتابة الشعر مثل الشعر، ليس له قواعد. كل شاعر له قواعده الخاصة. عندما تقرر كتابة قصيدة، فإنها لا تأتي أبدا.

هدى فخر الدين: صِف يوما في حياتك. ماذا يحدث عندما تستيقظ في الصباح؟

أدونيس: ما من يوم لي يشبه الآخر. ليس لدي جدول زمني أو روتين. أنا لا أستسلم لمفهوم الأيام بالمعنى السليم.

هدى فخر الدين: لا يوجد يوم مثل اليوم الآخر. كيف؟ ماذا ستفعل عندما تستيقظ غدا؟

أدونيس: لا أعرف. هذا هو سرّي. أنا لا أستسلم لفكرة الأيام التي يشترك فيها الآخرون. أنا دائما في حالة حركة. أنا لا أشترك في الوقت الرياضي. أنا أخلق وقتي الخاص. الوقت الرياضي للمشي والجري. إنه للجماعة والمجتمع. يتطلب الشعر وقته الخاص، ويخلق خارج الزمان. كل ما هو مشترك وعام بين الناس، أرفضه جذريا في الشعر.

هدى فخر الدين: إذا لم يكن هناك أوقات، فهل لديك أماكن تكتب فيها؟

أدونيس: الأماكن تتغير طوال الوقت. معظم الشعر وخاصة القصائد الطويلة التي كتبتها بالخارج في المقاهي وفي الشارع. نادرا ما أكتب في المنزل. على سبيل المثال، كتبت أجزاء من "مقبرة لنيويورك" بينما كنت أسير في شوارع بيروت ثم في نيويورك. تمت كتابة الأجزاء على الطائرة. كتبت النهاية في دير في بكفيا في جبال لبنان.

هدى فخر الدين: كم من الوقت تقضيه في المراجعات؟

أدونيس: الأشياء مكونة بالكامل تقريبا في ذهني. أنا لا أراجع كثيرا ولكني أقضي الوقت في ترتيب الأجزاء وتأنيقها. يستغرق هيكل القصيدة وقتا، وليس الأجزاء الفردية.

هدى فخر الدين: هل تستخدم الكمبيوتر في الكتابة؟

أدونيس: لا ولم أفعل ولن أفعل. لا أستطيع أن أملك أي شيء يفصل بين يدي والقلم والورق. لا أستطيع الكتابة على الشاشة.

هدى فخر الدين: هل هناك أوقات لا تستطيع فيها الكتابة؟ ماذا تفعل بعد ذلك؟

أدونيس: نعم، هناك أوقات لا أستطيع فيها ذلك. لقد اكتشفت مؤخرا الكلية. هي تبقي يدي مشغولة عندما يكون ذهني عالقا. عندما تنشغل الأصابع باللون والحبر والورق، يتم تشغيل الخيال.

هدى فخر الدين: هل تفكر في الموت؟

أدونيس: لا، أنا مشغول جدا. لا يزال لدي أشياء لأفعلها. أنا لا أخاف من الموت. أعلم أنه قادم ولكن ليس لدي وقت للتفكير في الأمر الآن.

هدى فخر الدين: توجيه شخصيتك يا مهيار، أسألك: من أنت؟

أدونيس: ما دمت على قيد الحياة، فإن الإجابة مستحيلة. حتى بعد الموت، ستبقى الإجابة مفتوحة للآخرين ليعرفوها.

هدى فخر الدين: هل تشعر وكأنك في المنفى؟

أدونيس: أنا منفي من الداخل، ومنفي من نفسي. كل فنان في منفى دائم. يجب أن تكون هناك مسافة بين الشاعر وبينها، وفي تلك المسافة أو الفضاء يحاول الشاعر سد تلك الفجوة أو تلك المسافة مع اللغة والخيال والعمل الفني. المنفى ينتهي بالموت. ننتقل عبر مراحل النفي من خلال الكتابة. الكتابة هي حياة أخرى ووجود آخر.

شكر خاص لروبين كريسويل على ملاحظاته وتعليقاته على هذه المحادثة في مراحلها المختلفة، ولرواد وهبي لمساعدته في ترجمة أجزاء من النص من اللغة العربية.

***

.......................

المصدر:

I Have Been Born Three Times: An Interview With Adonis, Part Two

By Huda Fakhreddine

https://sites.lsa.umich.edu/mqr/2022/06/i-have-been-born-three-times-an-interview-with-adonis/

حاورته: هدى فخر الدين

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

أدونيس هو الاسم المستعار الذي اعتمده علي أحمد سعيد إسبر. ولد علي عام 1930 في قرية قصابين السورية، وعرف علي البالغ من العمر 13 عاما أنه مقدر له أن يكون شاعرا. عندما سمع أن الرئيس شكري القوتلي كان قادما لزيارة الساحل، سافر سيرا على الأقدام إلى البلدة المجاورة لإلقاء قصيدة. وبأعجوبة، انتهى به الأمر بقراءة قصيدته للرئيس الذي وعده في المقابل بالتعليم. المستحيل دائما في متناول اليد في قصة حياة أدونيس.

انتقل إلى دمشق ثم إلى بيروت حيث أسس مجلة شعر، وهي منبر لبعض الأفكار والمواقف الأكثر راديكالية في مشروع الحداثة العربية في القرن العشرين. يقع أدونيس دائما في واجهة التقاليد القديمة والجديدة والطليعية، وعلى حدود التغيير والجدل. وهو مؤلف لقائمة طويلة من المجموعات الشعرية التي يغازل فيها الأشكال الأدبية العربية، ويقسمها لبناء قصيدة عربية دائمة التطور. بعض هذه العناوين هي "أغاني مهيار الدمشقي"، "وقت بين الرماد والورد"، "كونشيرتو القدس" وغيرها التي لم تترجم بعد مثل "مفرد بصيغة الجمع" و"الكتاب". مساهمته في النقد والنظرية الشعرية في اللغة العربية هي مساهمة شاعر يعيد تخيل تقليده باستمرار على أنه جديد. "ديوان الشعر العربي" (1964-1968) هو قانون شخصي يرتب فيه مختارات من الشعر العربي من عصور ما قبل الإسلام إلى بداية القرن العشرين. كتابه "الثابت والمتحول" (1974) هو رواية للتاريخ الأدبي والثقافي العربي من الداخل إلى الخارج. إنه يملأ القصة بأصوات مهمشة تاريخيا ومقموعة وصامتة، ويخلص إلى أن ما يدفع بالتقليد إلى الأمام ويبقيه على قيد الحياة هو الأصوات التخريبية التي تتحداها باستمرار وتهدد مؤسساتها.

في صيف عام 2019، سافرت إلى بيروت للقاء أدونيس. في كل عام، تستعد بيروت للصيف ببعض الأمل والكثير من الترقب. في عام 2019، كان الجو مليئا بالاحتمالات منها الحرب من أجل التغيير. نزل الشباب من مختلف أطياف وفصائل المجتمع اللبناني إلى الشوارع. ما كان غالبا وقودا للحرب الأهلية كان في تلك اللحظة خلاصا محتملا، تحقيق بلد يتخلص أخيرا من جلده القديم المتحلل.

مشهد لم نعتقد أنه ممكن أبدا أن يتشكل. لطالما وجد لبنان طريقة لمناورة التغيير دون تغيير حقيقي. لم يظن أحد أن ثورة ما يمكن أن تحدث في بيروت، في مدينة تفتخر بأنها ثورة على الدوام، لكونها ثورة على الدوام. إنها مدينة لم تأخذ حكامها على محمل الجد. كانت الغفلة والسخرية والاستثنائية المتخيلة طريقة اللبنانيين في المقاومة وليس العمل في الشوارع. كان كل ذلك على وشك التغيير في عام 2019. كان هناك ثورة حقيقية تستعد للخروج إلى الشوارع، وكنت هناك للقاء أدونيس، الثائر كما لقب نفسه والذي اتخذ بيروت نقطة انطلاقه، إنها ولادته الثانية.

منزل أدونيس في بيروت عبارة عن شقة على الجانب الآخر من الشارع من مبنى كلية العلوم الإنسانية التابع للجامعة اللبنانية، وهما مبنيان سكنيان يضمان قسم الأدب العربي منذ عام 1959. درس أدونيس في هذا القسم لمدة 14 عاما قبل إجباره على الخروج بسبب ما كان يُنظر إليه على أنه تأثيره التخريبي على الطلاب. عندما عبر الشارع عائدا إلى شقته للمرة الأخيرة، تبعه طلابه. استمروا في التجمع في غرفة معيشته وظلوا تلاميذه المخلصين. صعدت الدرج بقلق. كنت على دراية بشيء يختمر في قلب مدينة، على أعتاب بداية جديدة، نهاية جديدة. علمت أيضا أن الحديث مع أدونيس كان لا بد أن يكون حديثا على حافة اختراق أو صراع، على وشك حدوث الوحي أو خيبة الأمل.

قضينا حوالي ست ساعات على مدار يومين نتحدث. كان متفائلا وخائفا، حزينا ومصمما. كان سعيدا لأن بيروت كانت تتحرك لكنه قلق من أن قلبها قد ينكسر.

بيروت هي المكان الذي يتم فيه تخيل المشاريع وإطلاقها، حيث تمتلك الأحلام إمكانات، حتى لو لم تتحقق دائما، لتهديد الثابت والمؤسس في الحياة العربية، بزعزعته واستدعاء الجديد والديناميكي والإبداعي. كان من الممكن أن تكون بيروت هي الثورة التي أمضى أدونيس حياته في تخيلها والتنظير لها.

ومع ذلك، لم يكن بمقدوري ولا أدونيس تخيل ما سيحدث بعد ذلك: الانفجار الذي حدث في 4 أب 2020، وتحطيم قلب المدينة وقتل أحلامنا في بيروت وأنفسنا في ذلك البلد. بعد ذلك، ظل أدونيس متفائلا كما لو أنه رأى كل شيء من قبل. في كل مرة تحدثنا فيها، وبدا العالم وكأنه ينتهي، كان مشغولا، إما أن يتذكر نفسه أو يعيد تشكيل ذاته. كان يكتب مذكرات وسجلات عن حياته في النثر والشعر. لا يزال النثر جاريا، ونُشر شعره، أدونيادا، لأول مرة في ترجمة فرنسية في أذار 2021 وتبعه النص العربي في أذار 2022.

واصلنا حديثنا تقريبا بعد انتشار الوباء وتوقف العالم في عام 2020. من طفولته المثالية في ريف سوريا إلى الصدف المذهلة التي أطلقت رحلته الشعرية والفكرية، كانت حياة أدونيس عبارة عن سلسلة من المشاريع المفتوحة، عالم يبدأ ويبدأ من جديد.

لقد صاغ لغة داخل اللغة، وتخيل زمنا موازيا للزمن، واخترع أسطورة عن نفسه لا يزال ملتزما بتحقيقها. لا يزال الشاعر البالغ من العمر 93 عاما يبحث عن قصيدته ويستعد لبدء رحلته.

***

هدى فخر الدين: ها نحن في بيروت مدينة الولادة الثانية كما وصفتها. كيف أثر وجودك في بيروت على كتابتك؟

أدونيس: لقد قلت من قبل أنني ولدت ثلاث مرات. ولادتي الأولى كانت في القرية. كانت تلك هي الولادة الطبيعية التي لم يكن لدي خيار فيها. كانت الولادة الثانية في بيروت، مما سمح لي بالانتقال إلى مناخ حضري بكل صلاته وتوتراته. وبيروت ليست مدينة كاملة كما هي دمشق أو القاهرة، فهي تبدو وكأنها مشروع مفتوح، عمل مستمر. وآمل حقًا أن تظل كذلك، مشروعا مفتوحا لجميع العناصر والتيارات والاتجاهات. آمل أيضا أن يظل المزيج الثقافي الذي نتحدث عنه حاضرا ومتجذرا في بيروت. ولدت للمرة الثالثة في باريس. استقبلتني باريس وقابلتني بأذرع مفتوحة وسأظل ممتنا إلى الأبد على كرم ضيافتها.

هدى فخر الدين: ما هو شعورك بالعودة إلى بيروت؟

أدونيس: العودة إلى بيروت ليست ضرورية فحسب، بل مثرية أيضا، خاصة وأنني اعتدت على حياة أسهل. المجيء إلى هنا أمر مزعج وضروري. الحياة هنا صعبة وتزداد صعوبة بمرور الوقت. الحجاب كثير على الحجاب. العودة إلى بيروت مهمة لأنها تضعني في قلب المشاكل. والشاعر يجب أن يبقى على اتصال بقلب المشاكل. لأنه إذا كان الشعر شكلا من أشكال الوعي وشكلا من أشكال التعبير، فهو بالضرورة شكل من أشكال النشاط السياسي. هذا البعد السياسي للشعر في المجتمع يختلف اختلافا جوهريا عن حضوره الأيديولوجي. تقود الأيديولوجيا الشاعر إلى أفكار مسبقة وكل ما يتم تصوره مسبقا هو ضد الشعر. هذا هو السبب في أنني كنت دائما أعارض الالتزام السياسي الأيديولوجي. إنها ليست ضد الشعر فقط بل هي ضد الحياة نفسها. مثل هذا الالتزام يحول الشعر إلى حجاب عندما يكون الشعر هو الشكل الأكثر مباشرة وحرية للكشف والاكتشاف.

هدى فخر الدين: هل تنعكس علاقتك بالمدن في شكل القصيدة التي تكتبها؟

أدونيس: المدينة شكل يسهل الروابط، شكل متعدد يثري الرؤية. وبمجرد إثراء الرؤية وتحديها، يتم تعميق البصيرة أيضا. المدينة عبارة عن شبكة والقرية عش. المدينة عبارة عن سطح وعمق في نفس الوقت بينما القرية مجرد مستوى أفقي. إذا كان هناك عمق في القرية، فهو عمق فردي مرتبط بطفولة الفرد أو تاريخه الشخصي، وليس بعمق موضوعي. المدينة هي مشروع جماعي بينما يعمل كل فرد في القرية بمفرده، والتجارب المشتركة الوحيدة هي الولادة والموت والزواج والطقوس من حولهم. لا تقدم القرية أي شيء تتم مشاركته على المستوى الإبداعي. المدينة عميقة وامتداد في نفس الوقت. إنها أيضا أفق يتغير باستمرار. وبالتالي، تواجه المدن الحقيقية تحديا يوقظ الحاجة إلى المنافسة وإثبات الذات. المدينة بالنسبة لي هي استفزاز للمعرفة، لمطاردة أفق جديد للمعرفة. المدينة منفتحة على قراءات مختلفة ومتنوعة.

هدى فخر الدين: لكنك نشأت في قرية. أخبرنا عن طفولتك.

أدونيس: لقد نشأت في قرية قصابين، وهي بيئة خاصة جدا. لم تندرج ضمن النسيج الثقافي النظامي لسوريا أو الثقافة العربية في ذلك الوقت.

هدى فخر الدين: كيف ذلك؟

أدونيس: لقد ولدت في قرية فقيرة صغيرة ليس فيها مدرسة ولا كهرباء ولا سيارة واحدة. رأيت سيارة لأول مرة في حياتي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري.

كانت ثقافتنا، الثقافة العلوية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأرض - بالزراعة، والحياة الجبلية. وكان تاريخنا مليئا بالأهوال - كنا طائفة دينية متطرفة ضد الشيعة. غالبا ما ينتقد العلويون الشيعة، متهمين إياهم بالقوادة للسلطة، والخضوع للأنظمة الحاكمة التي رفضها العلويون تاريخيا. العلويون متمردون. في تاريخهم الطويل، تم طردهم واضطهادهم. حتى يومنا هذا، هم مزارعون حتى النخاع.

ما فعله البعثيون، الذين يسمون أنفسهم علمانيين، منذ وصولهم إلى السلطة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، هو تدمير علاقة العلويين بالأرض التي عاشوا عليها ولم يتم بناء أي شيء حضري أو مطور ليحل محله. لم يكن لديهم مدارس أو مستشفيات أو طرق. باختصار، تم تجريدهم من الحياة.

هدى فخر الدين: هل لديك أشقاء؟ هل ذهب أي منهم إلى المدرسة؟

أدونيس: لدي ثلاثة أشقاء وشقيقتان. توفيت أختي ليلى وأختي فاطمة رسامة لامعة ومشهورة. كلهم حصلوا على تعليم كان الأمر أسهل بالنسبة لهم لأنهم كانوا أصغر سنا وبحلول الوقت الذي ذهبوا فيه إلى المدرسة، كان هناك المزيد من المدارس وكانت الأمور أسهل مما كانت عليه في يومي.

هدى فخر الدين: ما هو الدور الذي لعبته والدتك في حياتك المبكرة؟

أدونيس: أمي لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة. كانت علاقتي معها بمثابة علاقة مع كائن عضوي - شجرة جميلة، نبع بعيد. في بعض الأحيان كانت تبدو وكأنها نجمة. كان لدينا اتصال طبيعي، وليس من خلال التعليم والثقافة. شعرت وكأنني امتداد لجسدها، لأحلامها، ويديها، وعقلها، ورأسها. كان والدي هو العكس - الفكر والتفكر والشعر واللغة.

علمني والدي قراءة الشعر العربي. كان يقول لي أن أقرأ المتنبي على سبيل المثال. وكان للمتنبي أعلى درجات التقديرعنه. لقد جعلني أتعلم كيف ألفظ النص، ووضع نهايات الحالة على كل كلمة. بحلول الوقت الذي بلغت فيه الثانية عشرة من عمري، لم تكن هناك كلمة واحدة باللغة العربية لم أكن أعرف كيف أعربها نحويا. كان القدماء مفتونون بالإيراد - قواعد اللغة العربية - وكنت كذلك عندما كنت طفلا في القرية. كنت معجزة في اللغة العربية.

هدى فخر الدين: ماذا فعل والدك لكسب لقمة العيش؟

أدونيس: والدي لم يعمل حقا. كان مزارعا، لكنه لم يقم بالعمل بنفسه. لقد استأجر الأرض التي ورثها، وكنا نعيش على هذا الدخل. لقد كان مخطئا ذاتيا. علم نفسه كل ما يعرفه وخاصة الشعر العربي.

هدى فخر الدين: من أين أتى حبه للشعر؟ هل كان اهتمامه باللغة والشعر أمر غير معتاد في سياقه؟

أدونيس: نعم، كان استثنائيا إلى حد ما في سياقه. كان جيله جيل خرج للتو من تحت الحكم العثماني و"مشروعه التتريكي". بالنسبة لهم، كانت علاقتهم بالقرآن والتراث الأدبي العربي وخاصة الشعر العربي وسيلة لتأكيد هويتهم ولهذا السبب كان لديه هذا التفاني الخاص للغة العربية والشعر العربي.

هدى فخر الدين: هل كان متدينا؟

أدونيس: كان متدينا، لكنه لم يتحدث معي أبدا عن الدين. لم يفرضه علي قط. كان له مكانة خاصة في مجتمعنا. وصفه الناس بالشيخ كدليل على الاحترام الاجتماعي وليس على المكانة الدينية.

هدى فخر الدين: ما هي أسباب علاقته الفريدة بالدين؟

أدونيس: لا أعرف. إنه لغز بالنسبة لي. لكن إذا كنت سأحاول التفسير الآن، أعتقد أن له علاقة بانتمائنا إلى أقلية في الإسلام. العلويون، الذين يبجلون الإمام علي، هم طائفة ثانوية ومتطرفة من الشيعة. تاريخيا، دفعوا ثمن ذلك، ورغم الاضطهاد حافظوا على هويتهم وعلاقتهم الخاصة بشخصية علي. كما أنهم معروفون باهتمامهم الكبير بالتعلم والتعليم. لقد عوضوا عن فقرهم واضطهادهم بتعليمهم واهتمامهم الخاص بالتعلم والشعر.

لم يفرض والدي إيمانه علي قط، لكنه أصر على أن أتقن اللغة العربية وأن أتعلم الشعر. لم يجبرني أبدا على فعل أي شيء وشجعني دائما على اتخاذ خياراتي الخاصة. أفكر ثم أتخذ قراراتي الخاصة.

هدى فخر الدين: ما هي الأصوات الأخرى التي دفعتك للكتابة؟

أدونيس: اكتشفت في وقت مبكر أن الشعراء كتبوا لأنهم تأثروا حقا بالكتابة، والذين استخدموا الشعر لأغراض خارجية: للتمجيد، والهجوم، والتأبين. انجذبت إلى أولئك الذين كتبوا الشعر لمصلحته، مثل أبو نواس وأبو تمام وأمرؤ القيس. حررني هذا من قبضة القبة الثقافية المشتركة التي وضع الإجماع تحتها ما أسماه بالتقاليد.

هدى فخر الدين: كيف يمكنك التمييز بينهما في مثل هذه السن المبكرة؟

أدونيس: انقسم الشعراء إلى مجموعات، وشعراء التسبيح والمديح، وشعراء الذم، وشعراء المرثاة، إلخ. وجدت نفسي في سن مبكرة أقاوم هذه الفئات وأبحث عن شعراء لم يقعوا فيها بشكل مباشر. كما أنني لم أرفض شعراء هذه الفئات تماما، لقد بحثت في أعمالهم عما لا يتناسب مع الانقسامات المفروضة تاريخيا. لقد استمتعت بالشعر الذي لم يكن مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هو بالأساس ظاهرة فنية أو جمالية، وهذا ينطبق على الشعر الحديث والمعاصر أيضا. شعراء المديح في العصر الحديث هم أولئك الذين يحتفلون بالإيديولوجيات والأفكار التي يؤمنون بها، وشعراء الذم هم الذين يهاجمون أفكار الآخرين وأيديولوجياتهم.

هدى فخر الدين: متى بدأت بقراءة الشعر المعاصر؟ من قرأت؟

أدونيس: في الجامعة. مررت بمرحلة التقليد. قلدت بعض كبار شعراء العصر، وخاصة اللبنانيين مثل سعيد عقل وبدوي الجبل كشاعر كلاسيكي. كان نزار قباني اسما كبيرا أيضا. لم يكن الشعر الحديث مؤثرا في تشكيلتي الثقافية كما كان للتقاليد العربية، لكنني كنت على دراية ببعض الأسماء الكبيرة.

هدى فخر الدين: هل سبق لك أن كتبت الشعر في خدمة الأيديولوجية عندما كنت عضوا في الحزب السوري القومي الاجتماعي ؟

أدونيس: كلا، ولهذا لم أبرز في الحفلة كشاعر. كنت دائما شاعرا فرديا يهتم بالقضايا الشخصية مثل الحب واليأس والطبيعة وما إلى ذلك.

انجذبت إلى الشعراء الذين تحدثوا عن أنفسهم. لا يوجد شخصان لهما نفس الأحلام. والشعر يأتي من اتجاه الحلم والجسد وليس من اتجاه الأفكار. لا يوجد شعر بدون أفكار، لكن هذه الأفكار تأتي عبر الجسد، الجسد الفردي المستقل عن الآخرين. يولد الشعر منفردا ثم يصبح نقطة تقاطع أو لقاء مع الآخرين.

هدى فخر الدين: لقد قلت هذا مرارا - الكتابة الحقيقية تنبع من الجسد.

أدونيس: نعم.

هدى فخر الدين: إذن لابد أن والدتك كان لها بعض التأثير على عملك.

أدونيس: كل شيء "خاص" يأتي من والدتي، وكل شيء "عالمي" يأتي من والدي. لقد جمعت بين الفكري والمنطقي من جانب والدي مع أشياء من الحياة، والجسد، والطبيعة، والأشياء، والعواطف، والمشاعر - هذه الأشياء تأتي من والدتي.

هدى فخر الدين: ما الذي تتذكره من الثقافة الرسمية والتعليم العام؟

أدونيس: قرابة عام 1943، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، نالت سوريا استقلالها وعينت أول رئيس لها، شكري القوتلي. كنت جالسا تحت شجرة - ربما كانت شجرة زيتون - عندما سمعت أن الرئيس قادم لزيارة منطقتنا. كنت على علم بعلاقة الحب القديمة بين الشعراء والخلفاء. أقسمت أن أؤلّف قصيدة للقوتلي وأقرأها عليه. كنت واثقا من أنه سيحب ذلك ويتيح لي فرصة الذهاب إلى المدرسة.

هدى فخر الدين: هل تتذكر بيتها الافتتاحي؟

أدونيس: للأسف، لا اتذكر. لقد نسيتها تماما! أتذكر أنني قرأتها القصيدة لوالدي أولا. حدق بي متفاجئا. سألته عن رأيه. قال، "انظر، لن أوقفك، لكن لا يمكنني حضور هذا الاحتفال الذي ينظمه المسؤول المحلي." كان والدي ضد هذا الرجل الذي قال إنه إقطاعي.

ارتديت القمباز، رداء الفلاحين التقليدي، وزوجا من الأحذية البالية. وبدأت حلتي في المطر الغزير. عندما حضرت إلى مكان حفل الاستقبال الرئاسي، اقترب مني الزعيم المحلي، الإقطاعي الذي لم يكن والدي مغرما به. سأل، "من هذا الطفل؟" أجاب الناس، "هذا ابن فلان." قال: أخرجوه من هنا! لا أريد رؤيته هنا ". وتم اقتيادي للخارج.

قررت أن أتوجه إلى المدينة التي لم تكن بعيدة، وألتقي بالرئيس هناك. لكن عندما وصلت، لم أكن متأكدا مع من أتحدث. رأيت لافتة كبيرة كتب عليها "عمدة جبلة يرحب بفخامة الرئيس"، فذهبت لرؤية رئيس البلدية. كنت غارقا تماما في الوحل. لن أنسى اسم رئيس البلدية ياسين علاء الدين. أحب الشعر، وخاصة الشعر العربي الكلاسيكي، وسمح لي بقراءة القصيدة. قال لي إن عليّ أن أقرأها على الرئيس.

أرسلني إلى قصر الحاكم، حيث اجتمع الحاكم ومسؤولون آخرون. طلبوا مني قراءة القصيدة، ففعلت. كانوا سعداء جدا. قالوا لي أن أنزل إلى الطابق السفلي وانتظر حتى ينادونني. عندما وصل الرئيس، حصل كل مسؤول على دوره في استقباله، ونسوا كل شيء عني. في اللحظة التي صعد فيها الرئيس إلى المنصة التي تطل على الساحة العامة لإلقاء خطابه، لاحظني أحد المسؤولين. سألني بجدية شديدة لماذا لم أقرأ القصيدة. قلت له إنني لا أعرف. ما زلت أتذكر وجهه، وهو غاضب وأحمر عندما بدأ يقسم: "هذا الكلب! هذا المحتال! هذا خطأ الحاكم ". أخذني من ذراعي، وصرخ بصوت عالٍ قدر استطاعته، "أيها السادة! أيها الناس! عفوكم!" صمت الجميع. "هذا الصبي الصغير الذي جاء من قرية في الجبال موجود هنا لتقديم التحيات نيابة عن سكان القرى الجبلية. من فضلكم اسمعوا ما سيقوله! " حملني الرجل ووضعني أمام المنصة المواجهة لحشد الناس في الساحة العامة. ألقيت القصيدة. أصبح الحشد جامحا. وماذا فعل الرئيس؟ وكرر بيت الشعر الأخير التي كان يقول: "أنت سيف ونحن غمده". ثم التفت إلى الحشد وقال، "تماما كما قال هذا الطفل، لا يمكنني فعل أي شيء بدونكم جميعا."

بعد أن انتهى الرئيس من الكلام، سألني بعد أن وضع يديه على كتفي وقال: "يا بني، كان ذلك رائعا. هل هناك أي شيء يمكننا القيام به من أجلك؟ " أخبرته أنني أريد الذهاب إلى المدرسة. قال: "لقد تم". "أنت ذاهب إلى المدرسة."

بعد حوالي أسبوع، جاء ضابطا شرطة إلى منزلي ليخبراني أن محافظ طرطوس لديه تعليمات لي بالبدء في المدرسة. قلت: وأين طرطوس؟ كانت طرطوس مدينة تبعد ساعة ونصف بالسيارة. كان لديها آخر مدرسة فرنسية في سوريا، لاسية الفرنسية، وكانت مكانا لنخبة البرجوازية. ركبت الحافلة لأول مرة في حياتي. اعتقدت أنني كنت متجها إلى الفضاء الخارجي. وصلت إلى هناك وأنا ما زلت أرتدي القمباز.

هدى فخر الدين: كانت هذه بداية تعليمك باللغة الفرنسية. وهل واصلت دراستك للشعر العربي؟

أدونيس: لم يكن هناك الكثير من الفرص في مدرسة اللاسيه لأن كل شيء قدم باللغة الفرنسية. كانوا أحيانا يعطون درسا باللغة العربية وقد تفوقت في ذلك. كنت أتجادل مع أساتذتي وأناقشهم حول مواضيع كنت على دراية بها. لقد احترموا المواقف التي أتخذها، وقمت بتطوير علاقات هادفة معهم جميعا. صقلت شخصيتي تماما.

لكن بعد عام، أغلقت الحكومة مدرستنا وفتحت مدارس متوسطة . لم أحصل على شهادتي بعد، لكنني أخبرت مدير المدرسة المتوسطة أنني أريد أن أقبل. قال، "هذه ثلاث سنوات من الدراسة وتريد تخطيها كلها؟" قلت له نعم. رفض. لذا، أخبرته أنه لن تكون هناك مدرسة إذا لم يُسمح لي بالتسجيل.

هدى فخر الدين: هل هددته؟

أدونيس: حشدت الطلاب وأغلقنا المدرسة. بعد أن رجع وسمح لي بتخطي السنوات الثلاث، عدنا جميعا إلى المدرسة. لقد كانت ملحمة.

في النهاية، تخرجت من المدرسة الإعدادية مع مرتبة الشرف. وفقًا لسياسة المدرسة، يحصل أي شخص يتخرج بمرتبة الشرف على منحة دراسية. لذلك، قلت لنفسي إنني سأذهب أشكر الرئيس لأنني كنت أعرف أن المبلغ الذي أنفقه على تعليمي كان يخرج من خزينة القصر. لماذا يتعين عليهم الدفع، طالما أتيحت لي الفرصة لمواصلة تعليمي رسميا على نفقة الدولة؟ كان حقي. لقد كتبت خطابا إلى الرئيس أشكره فيه وأرفض بأدب مساعدته منذ أن أصبحت تمول الآن من قبل الدولة. لقد كتب لي متمنيا لي الأفضل! لذلك، ذهبت إلى المدرسة الثانوية في اللاذقية ودرست للحصول على شهادتي.

هدى فخر الدين: أخبرني عن علاقتك بالحزب السوري القومي الاجتماعي.

أدونيس: بدأ كل شيء عندما كنت في مدرسة اللاسيه في طرطوس. كانت الحامية الفرنسية لا تزال متمركزة هناك. ذات يوم رأينا أن بعض الطلاب قد طُردوا. علمنا أن السبب هو أنهم أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي ونظموا احتجاجا ضد الجيش الفرنسي. لذا، ذهبت أنا وأربعة أو خمسة أصدقاء إلى الحفلة وسألناهم عما يتناقشون حوله. قالوا لنا إنهم علمانيون ضد الطائفية. لقد تأثرنا حقا. علاوة على ذلك، كانوا أناسا أخلاقيين وصادقين وصالحين. كانت علاقاتنا جيدة للغاية، وكنت مغرما بهم؛ كان هناك صداقة. بعد ذلك بقليل، بدأت في كتابة القصائد لاحتجاجاتهم وأصبحت زعيم الاحتجاج.

بدأ الناس في التعرف على اسمي - بعض الأطفال الذين يؤلفون بأسلوب تقليدي تقدمي أيضا. مكثت معهم حوالي ثلاث أو أربع سنوات. كتبت عن فلسطين. في الواقع، كانت أول قصيدة نشرتها عن فلسطين. كان هذا في عام 1948، وقت النكبة. كان يطلق عليها "المشردون".

هدى فخر الدين: أين تم نشرها؟

أدونيس: نُشر في جريدة أسبوعية تُدعى "الإرشاد" في اللاذقية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أستخدم فيها الاسم المستعار "أدونيس".

هدى فخر الدين: أخبرنا المزيد عن ذلك؟ من أين أتى اسم أدونيس وكيف اتخذت هذا القرار؟

أدونيس: عندما كنت في المدرسة الثانوية، كنت أكتب باسمي الحقيقي علي أحمد سعيد اسبر وأرسل إلى الصحف والمجلات في الغالب في لبنان مثل الصياد والأنوار وغيرها. لم يرد أحد ولم ينشر أحد قصائدي. ذات يوم، صادفت أسطورة أدونيس في مجلة في المدرسة. كان هذا هو المكان الذي عرفت فيه لأول مرة الإله أدونيس الذي وقعت عشتار في حبه، وعن قصة قتاله مع الخنزير البري الذي قتله وسفك دمه الذي يعود كل ربيع عندما تتفتح شقائق النعمان وعندما يتحول نهر العاصي في لبنان إلى اللون الأحمر. لقد كنت مفتونا بهذه القصة، وقلت، هذه المجلات التي لا تنشر أعمالي هي خنزير بري. إنهم يحاولون قتلي ولذا سأسمي نفسي أدونيس. كتبت قصيدة "المشردون" ووقعت عليها أدونيس. نشرت صحيفة "الإرشاد"، التي علمت لاحقا أنها كانت متعاطفة جدا مع الفلسطينيين، وكتبت في الصفحة الأولى ملاحظة تقول: "نطلب من السيد أدونيس زيارة مكتبنا في أمر مهم للغاية ".

هدى فخر الدين: لقد طلبوا منك الكشف عن نفسك.

أدونيس: نعم. كنت طالبا فقيرا ما زلت في المدرسة الثانوية. لم أترك انطباعا رائعا. ذهبت مباشرة إلى مكاتب الصحيفة. سألني الرجل في مكتب الاستقبال: من أنت وماذا تريد؟ عندما أخبرته أنني أدونيس، قام وقال: الآن أنت أدونيس! لقد وصلت إلى مكتب رئيس التحرير، وكانوا جميعا مندهشين جدا. أتذكر رئيس التحرير كان اسمه أديب عازار.

هدى فخر الدين: ما علاقتك باسم أدونيس بعد كل هذا الوقت؟

أدونيس: أحبه، خاصة وأن والدتي تخلت عن اسم علي وتبنته. كانت تناديني بأدونيس. كانت أميّة، لكن غريزيا تبنّت أدونيس كاسمي. إنه اسمي العالمي، وهو يتجاوز اللغات والثقافات والأديان. إنه ارتباط عضوي بالكون، وليس بشعب واحد أو بأرض واحدة أو بثقافة واحدة.

هدى فخر الدين: كتابك الأول، دليلة. ما الذي ألهمك إياه؟

أدونيس: قرأت "الكتاب المقدس" ووجدت قصة شمشون ودليلة. لقد تأثرت بشخصية المرأة القوية الماكرة. كتبت عنها قصيدة بطول كتاب. كانت بسيطة وطفولية. نُشر الكتاب في دمشق حوالي عام 1948. كتابي الثاني هو "قلعة الأرض"، ونُشر أيضا في دمشق حوالي عام 1950. وقد قمت لاحقا باختيار قصائد من هذين العملين وأدرجتهما قصائد " الله" (القصائد الأولى)، والتي نشرها يوسف الخال في بيروت عام 1957. وتضمنت القصائد الأولى أيضا "المنبوذ".

هدى فخر الدين: كان هذا في اللاذقية. ماذا كان المشهد الأدبي هناك؟

أدونيس: كانت اللاذقية مركزا أدبيا رئيسيا في ذلك الوقت. لديها أول مجلة شعرية في العالم العربي: "العود". نشرت فيما بعد عدة قصائد فيها. الناشرون الذين قدموا لي منصة وشجعوني على الكتابة، كانوا مجموعة من الشعراء والكتاب اللامعين: كمال فوزي الشرابي، وعبد العزيز عرنوت، وعيسى علامي. عندما التقيت بهم، علمت أنهم جميعا مرتبطون بالحزب السوري القومي الاجتماعي، مما شجعني على الانضمام إلى الحزب. لقد انجذبت إلى هذه المجموعة من المثقفين الذين كرسوا أنفسهم لبناء مجتمع علماني غير طائفي ومقاومة القوة الاستعمارية الفرنسية.

هدى فخر الدين: كيف كانت استجابة عائلتك لانضمامك إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي؟

أدونيس: كان رد فعل والدي رائعا. قال، "انظر هنا، يا بني. لن أجيب بنعم أو لا. ولكن قبل أن تتخذ قرارا، ادرس واسأل وجرب. خذ وقتك ثم قرر ". لم يقل لا فقط. بدلا من ذلك، شجعني. لسوء الحظ، توفي والدي بعد فترة قصيرة. لم أدرك إلا لاحقا أنه كان صديقا أكثر من كونه أبا.

هدى فخر الدين: متى قابلت أنطون سعادة؟

أدونيس: كانت المرة الأولى عندما كنت طالبا صغيرا في اللاذقية، لكن اسمي كان معروفا في ذلك الوقت. لا أعرف حتى إذا تحدثنا. استقبلته وجلست. كل ما أعرفه هو أنه يتمتع بشخصية جذابة.

المرة الثانية التي قابلته فيها كانت عندما دخلت مسابقة شعر نظمتها الجامعة الأمريكية في بيروت. أرادوا قصيدة في موضوع اليتم. وكان رئيس اللجنة في ذلك الوقت محمد يوسف نجم. كما كان هناك إحسان عباس من قسم اللغة العربية. عندما سمعت الإعلان، قمت بتأليف قصيدة بعنوان "اليتيم" وأرسلتها بالبريد إلى الجامعة الأمريكية. حصلت على الجائزة الأولى. لقد طلب مني الذهاب لرؤية زعيم الحزب. ذهبت إلى مكتب سعادة وقابلته هناك. مرة أخرى، شعرت بالذهول. لست متأكدا حتى من أنني تحدثت معه. لابد أنني كنت في الثامنة عشرة أو السابعة عشرة من عمري. لقد فتنت به. كانت صدمة خالصة. لقد كان اجتماعا وجيزا جدا دون التحدث معه أو إجراء محادثة. لا شيء.

بعد ذلك، بدأت في القراءة عن الحزب. ما زلت أؤمن بجوهر أيديولوجية أنطون سعادة: نحن مجتمع ينتمي إلى أرض تسمى سوريا. نحن لا ننتمي إلى طائفة أو عرق أو دين، إلخ. المسيحيون، المسلمون، الأكراد، كل سكان البلاد الذين يعيشون على الأرض ينتمون إلى بعضهم البعض. معا نحن كلنا سوريون. ولأن العرب كانوا الموجة الأخيرة التي هبطت على هذا البلد، فقد تم تعريبنا منذ ذلك الحين، ولذا فنحن عرب سوريون. اللغة العربية هي ثقافتنا. وهذا رقم واحد. ثانيا، نحن منفتحون على بقية العالم. حضارتنا هي حضارة الإغريق والرومان وخاصة السومريين والبابليين والفينيقيين الذين اخترعوا الأبجدية وأسسوا حضارة عظيمة. كان المبدأ الثالث هو ترجمة مفهوم "الشعب" من خلال فكرة تاريخ الأسرة الحاكمة. كل هذه المبادئ التي ذكرتها للتو تؤكد على "استمرارية تاريخية موحدة" ولهذا السبب لدينا تاريخ مشترك.

***

هاتف العتبي"

- متى نكون شعبا حي ونرفض التسلط؟

- تعلمت من امي الدللول والنعي

- هناك سيد وهناك مسيد وهناك ابن اسياد

- كيف أكون طرفا وانا الطبيب المعالج؟

- عشت الحب بكل ماتحمل هذه الكلمة من معاني

***

التقى اعرابيان في طريق فسال أحدهم الاخر..

- ما اسمك؟

- قال بحر

- اردف وماكنيتك؟

- قال: أبو الندى

فقال السائل: لا ينبغي لاحد مقابلتك الا في قارب!.

وهذه الحكاية تشبه حكايتي مع (هاتف العتبي) الذي هو شيخ بالوارثة لكنه يرفض الصفة كلاما ويمارسها فعلا إذ نادرا ما يخلو منه محضر عشائري (فصل او طلابه) محضر خير وابن اجاويد على طول ساحل دجله وابن (اجواد) على طول شاطيء الفرات وسيط موثوق ومتكلم لبق عارف بالسنائن العشائرية وعلاقات صداقة مع الشيوخ إضافة لكونه شاعر مطبوع تتناقل بعض ابياته في الدواوين وصحفي جريء واعلامي ناجح قدم برامج على أثير بعض الفضائيات وكاتب صدر له أكثر من مطبوع وعضو اتحاد ادباء العراق.. الا ينبغي لي الإحاطة وركوب فرقاطة وانا اروم مقابلته بدلا من قارب قادرة على اقلابه اقل عواصف هذا البحر المتلاطم بالمعرفة بدلا من قارب ذلك الأعرابي؟

نعم انه الشيخ هاتف بن الشيخ حميد الطيف العتبي..

س١: من هو هاتف العتبي؟

ج: هو ذلك الإنسان ابن القرية البسيط الذي تعلم في أكاديمية مضيف والدة الاهزوجة والابوذية والحكاية وفن الخطاب والحيهم النشامه

وتعلم من أمه الدللول والنعي

ما تنسمع رحاي بس ايدي ادير

تطحن بگايه الروح موش اطحن الشعير

هاتف العتبي الامي الذي يجيد القرأة والكتابة

شاعرا شعبيا وفصيحا وكاتبا وناقدا والإعلامي المولع بالكتب والمكتبات المهتم بالتراث والفلكور رائد المجالس الثقافية والمتابع بشغف لاخبار العالم سياسيا وثقافيا

هاتف العتبي

ابن الليالي العاصيات السود

لاريد الگماري ولهن يردني

س٢: لماذا ترفض مسمى (شيخ)؟

ج: كونها اسم مقزز لاقيمة لها تقال لكل من هب ودب ولاتكلف متشيخها شي (عقال ب٥٠٠٠ وعباية ب١٠٠٠٠ وصفحة على الفيس)

اكو سيد واكو مسيد واكو ابن أسياد

واكو شيخ واكو مشيخ واكو ابن جواد

اكو طيب واكو مشعشع واكو للغانمات استاد

الشيخ المامتشيخ مثل البيرق فوگ ايشان

س٣: تابعتك كثيرا فلم أجدك طرفا في(طلابة)؟

ج: كيف اكون طرفا بالطلايب وانا الطبيب المعالج للطلايب انا اترفع عن الطلابة بالتسامح والعفو ولابد أن أسقط حقي للاخرين حتى أتمكن من الحل وليكن لي تقدير

كفاني امرح ورع والتذ بحب الناس

وعملات الگبح مايوم خاوني

اضحك للبجه وحد شرهت المنگود

واسكت لو دثو من الناس لاسني

س٤: عتبة.. عتيبة.. عتاب هل يجمعهم جد واحد؟

ج: عتبه وعتاب نعم اخوه هم اولاد عتاب اخو عتبه وهم بطن من ربيعة. والجد هو عمرو ابن كلثوم صاحب المعلقة الشهيرة. أما عتيبة هذا محل تضارب لكن الثابت نحن إخوة فرقه من عتيبه وهم شيبان في السعودية والامارات. هذا ليس مهم والمهم (أكرمكم عند الله اتقاكم)

فرگتنه احنه المنازل واجمعتنه النيل. ولو صارت الكلفه الذيب يلفي الذيب

س٥: ماهو البخت في العرف وهل لازال المشايخ يعملون به؟

ج: البخت يتكون من مجموعة عوامل في مقدمتها الصدق والعفة وقول الحق وفعله على نفسك قبل غيرك والأمر بالمعروف والنهي المنكر عندما تجتمع تلك الصفات بالرجل يكون عنده البخت وهو الحضوة والمقبولية عند الآخرين وهذا كله لايتحقق الا بمخافة الله

س٦: هل شيوخ اليوم (تنبتية)؟

ج: قليل جدا التنبتية يعدون بعدد اصابع اليد ودعني اتحفظ في هذا الجانب لانه مؤلم ومؤسف

س٧: لمن تكتب شعرا؟

ج: اكتب للحزن والحنين إلى الماضي اكتب خوفا على مستقبل الاطفال اكتب لحدودي التي تقتطع اكتب لشعبي الذي يسرق نهارا جهارا اكتب لدجلة والفرات وعطش شواطيهما

اكتب لعقيدتي ونضالها وامست مهزومه

اكتب للحسين ومانفعل به كل يوم اكتب للوطن

انامن والقصيده تنام طول وياي

وادفه بحضنها وتدفه بحضاني

شاعر والشعر مهره وسرج خيال

ماواحد تعذر يوم للثاني

القصيدة الماتصير جناحي وكت الضيج

اطلجها وبعد ماتركب اللساني

س٨:هل عشت الحب؟

ج: نعم عشت الحب بكل ماتحمل هذه الكلمة من معاني انا أسطورة في الحب، واي حب ليس حب اليوم الفاشل الرخيص. انا عشت حب الريف الاصيل الصادق النبيل العفيف ذات الشوق واللوعة والعذرية والغرام

هل راى الحب سكارى مثلنا

نعم كتبت في الحب كثيرا وتغزلت كثيرا

(احترگنه بنار هجرانك وجنه

بسقر ونگول بالكوثر. وجنه

ثلاثه البل هوى همنه وجنه

جميل وقيس وأنه وهاي هيه)

س٩: من يثير اهتمامك من الشعراء؟

ج: عمرو بن كلثوم والمتنبي والجواهري في الشعر العربي

وفي الشعر الشعبي

عريان السيد خلف مدرستي

وعطاء السعيدي ونائل المظفر

س١٠: انت تدعي أن قبر المتنبي في العزيزية فما هو دليلك؟

ج: ليس ادعاء وانما حقيقة أصر عليها واقاتل دونها إن جميع المؤرخين والمحققين يتفقون أن المتنبي قتل قرب دير العاقول وانا اتفق معهم. فموضع الخلاف يكمن في اين يقع دير العاقول وانا اقول ان دير العاقول يقع قرب مدينة العزيزية أو على حافة شمالها ولاتزال اثار الدير شاخصة حتى ثبتت بسجلات الطابو العثماني بمقاطعة الدير. والدليل الراسخ عندي هو جاء بكتاب (الديارات للشابشتي)

إن دير العاقول يقع بين بغداد وواسط شمال مدينة (همانية) بسبعة فراسخ وهمانية تلال أثرية تقع جنوب مدينة العزيزية. يوكد مكانها ياقوت الحموي في معجم البلدان كذالك يؤكد وجودها البلاذري في الفتوح. وهنا تظهر مشكلة اخرى أن الدير يقع غرب نهر دجلة واليوم شرق النهر لقد حل لنا هذا الإشكال العلامة أحمد سوسة في كتابه ري سامراء حيث أن النهر تحول مجراه في تلك المنطقة

س١١: من أطلق اسم العزيزية على المدينة وكيف؟

ج: سميت العزيزية نسبة للوالي العثماني عبد العزيز باشا لان هو من بناها

س١٢: لماذا هجرت التلفزيون وتقديم البرامج؟

ج: لا توجد حرية للصحافة والإعلام ولاتوجد حرية للتعبير في العراق. والمؤسسة الاعلامية التي تعمل بها تريدك جندي مطيع لسياستها وهذا لا اتفق عليه وارفضه

س١٣: ماهي مواصفات المقدم الناجح؟

ج: يكمن نجاح المقدم بعدة أمور منها الثقافة والخبرة بالمهنية والشجاعة أمام الكاميرا وفصل الخطاب ورجاحة الإلقاء واتقان اللغة وسلامة مخارج الحروف والشياكة والهندام

س١٤: ماهو موقفك من بعض الشعائر الدخيلة على ثورة الحسين؟

ج: ارفضها رفضا قاطعا واحاربها بكل مااوتيت من قوة واعتبرها مدسوسة من الصهيونيه لان أعداء الحسين يريدون طمس الثورة. والحسين شمس لايحق لهؤلاء أن يلبدوها بغيوم مريضة

س١٥: هل مارست السياسة ومارأيك بها اليوم؟

ج: حاولت امارسها ثم اكتشفت انها لعبة قذرة يمارسها المتجرد من المبادئ والقيم والأخلاق

فهي مهنة المنافقين اليوم

س١٦: كيف تنظر للمرأة الشاعرة؟ وهل هناك شاعرات؟

ج: بالشكل العالم انظر للمرأة نضرة الاجلال والاحترام وتعتبر المرأة مثل الماء جعل كل شي منه حيا. فهي مصدر الحياة والسعادة فهي بثقافتي مقدسة وعندما تكون شاعرة مثل الخنساء ونازك ولميعة عمارة تكون نور على نور وتقدس عندي مرتين والمرأة عندما تكون شاعرة اتخذها قائدا، لكن لم ارى شاعرة اليوم

س١٧: هناك مفاهيم اريد توضيحها

آ. الستر...

اكذوبه نريد منها إسكات الحق

ب. طايحة حدر الفراش...

- سرقة في وضح النهار لكن بطريقة شيكاغوية

ج. عطوة بيضاء..

- يعني هناك شئ عكسها السوداء اكو (أن) بالسالفه

د. الفرشه..

- افلوس الاكل او جيب غداك معاك

هـ. الفريضة....

- هو استاذ لسوالف جدتي حطب جهنم

س١٨: موقف محرج في (فصل كبير)؟

ج: الفتاة ابنت ال١٨ ربيعا التي ادخلوها داري فجرا وعند الصباح تذبح بأمر من الأهل والعشيرة والشيخ لأنها جلبت لهم العار. ولكي أنقذها من الموت المحتوم عندما تعلقت بثيابي ودموعها حرقت صدري

فقررت اقبلها زوجة لأحد أولادي الا أنهم رفضوا وتركو الدار بل تركوني وحدي اقاوم عشيرة. فقررت اتزوجها انا وهي بعمر بنتي لاكون سببا لإنقاذها. وبفضل الله ولطفه قبل إشراقة الشمس عقدت لها على شاب متفهم وعند بدء الدوام تم العقد عند القاضي وفي الصباح زفت لعريسها قبل أن يعلم احد ولم يظهر شي من العار الجاهلي

س١٩: أمر انت تود ذكرة؟

ج: كثيرة هي الأمور التي في الفكر والمزدحمة في الصدر، لكن اقول: متى نكون شعبا حيا ونرفض التسلط ونطرد اللصوص ونعيش أحرارا مثل الشعوب. متى نرحل عن الغباء والنفاق. ثم تعالوا نرجع الى الله ونتقيه لان الدرب قصير والساعة آتية لا ريب فيها. في النهاية لايسعني الا شكر الشيخ هاتف العتبي على سعة صدره وصراحته والتعامل مع اسئلتي بروح ودية وتفهم كبير

***

حاوره: راضي المترفي

* أرى أن المُترَفَ والمرتاحَ لا ينتجُ إبداعاً مؤثّراً

* نظام طب الأسرة من الأنظمة الصحية الراقية والتي لا تنجح إلّا في المجتمعات الراقية، وليست العربية مع الأسف الشديد

* كنتُ أظنُّ أن النظْمَ في شِعر الطفل والطفولة من أيسرِ الأمور

* قوّة التأثير أجدها في الشِّعر أكثر ظهوراً من النثر

* المتعة التي ينشدها المؤلِّف تكمن في رؤيته لكتابه يوميا في مكتبته أو على رفوف المكتبات العامة

***

لو كان لسيرته الذاتية الثريّة وصفٌ من كلمتيْن، لَما كان سوى (شطّ العرب)؛ ملتقى نهرَي دجلة والفرات، ومصبّ النفط في الخليج، وواحة الخصب والنماء، واجتماع نخيل العالَم، ولم لا؟ وهو من النسل الطائيّ الطيّب الذي يعيدنا إلى مجد الشِّعر مع الطَّائيَّيْن الكبيريْن أبو تمام والبُحتري.

شاعرٌ مطبوع وكاتبٌ مستنير ومثقَّفٌ عضوي؛ وُلد عام 1967، ونشأ على شاطئ الفرات، قبل أن يتخرّج في كلية الطبّ بالجامعة المستنصرية بالكوفة عام 1992. كتب الشِّعر بالسليقة في سنّ مبكِّرة، وسهر على موهبته مدرّسوه في المرحلة المتوسطة، واستعان بمكتبة كبيرة كوّنها على مدار الأيام رغم شظف العيش وأجواءٍ سياسية ملتهبة عصفت بالعراق في التسعينات وما بعدها. له مؤلَّفات عدّة في الشّعر والطبّ والأدب، أحدثها موسوعة الأطباء الشعراء من جزأيْن. وكأديبٍ صاحب رسالة، ومثقَّفٍ صاحب مشروع؛ دشّن عام 2020 مجلسا ثقافيا يشعّ أدبًا ووعيًا مع إطلالة كلّ شهر، وأَلحق به مطبعةً تُعنى بطباعة الكتب والدواوين لزملائه الشعراء وأصدقائه الكُتّاب، كما أَسدى إلى القرّاء خدمة جليلة عبر التسجيل الصوتي لكُتبٍ قيّمة مُنتقاة، وما زال حبل عطائه على الجرّار، وعن هذا العطاء الوافر دار الحوار...

**

* علاقة الطبّ بالأدب؟ سؤال مكرَّر، ولا بأس من زيادة التكرار مرّة؟

- كلاهما يتّخذانِ الإنسانَ موضوعا، وأيّ موضوعٍ؟ هو أشرف الموجوداتِ على هذا الكوكب. وما دام هذا الكائنُ يأتلف فيه ركنانِ أساسيانِ: الجسدُ والروحُ، فقد اختصَّ الطبُّ بالأوّل، واختص الأدبُ بالثاني. وإنه لمن كمال النعمة أن يأتلف الطبُّ والأدبُ في شخص الطبيب الشاعرِ، لينتجا أعمالا إبداعيةً قلّ نظيرُها.

* لكل شيء حسناته وسيئاته، فماذا منهما فيما يُقام من صالونات أدبية و يُعقد من مجالس ثقافية؟

- الصالونات والمجالس الأدبية هي الرئة التي يتنفّس عن طريقها الأدباءُ والشُّعراء. تتلاقح الأفكار، وتتعارف الشخصياتُ، ويُطلَق العنانُ ليدِ النقد وملكة الذوقِ كي تقول كلمتها، فيقوِّمُ كلٌّ من الحاضرين هفواتِه، ويستفيد من تجارب الأدباء الآخرين. هذا كله بالطبع على فرض نقاء الأرواح وصفاء القلوب، والاستعداد لقبول الرأي الناقد، لا بقصد التقليل من الشأن. أنجبَت وقوّمَت المجالسُ الثقافية عددا كبيرا من الأدباء والشعراء والمفكّرين، والمثقَّفين بشكل عام، ليس في الساحة العربية فحسب، بل وعلى المستوى العالمي، ومن ثمرتها كانت الثورة الفرنسية التي قلبت كل الأنظمة السياسية والثقافية في حينها. والحديث ذو شجون في هذا الجانب.

* في أيّ طور يعيش العراق بعد المحنة المزلزِلة للغزو الأمريكي الغاشم، هل يتعافى أم ما زال يتألّم؟

- كل جرح لا بد أن يخلّف ألماً، والجرح أو الجروح التي حلّت على العراق في الخمسين سنة الأخيرة لعبت دورا سلبيا، وغيّرت من أوجه النشاط الثقافي بكل أشكاله. لكنني أرى أن المترَفَ والمرتاحَ لا ينتجُ إبداعاً مؤثّراً، لأن الذي يثير الشجون وينكأ الجروح، لا بد أن يترك أثراً قويا في نفس الأديب، ومن بعده في نفوس المتلقّين. وإذا علمنا أن مجتمعاتنا العربية تعيش ومنذ الأزل تحت تأثير المأساة الدائمة، فلن تهدأ ماكنةُ الإبداع. أما العراقُ فلا يمكن لأي أحد أن يغمط حقه في كونه مصدر الإشعاع الثقافي على وطننا العربي الكبير، ولن ينكر أحد أن آلاف المفكرين والعلماء، ومنهم الشعراء، توافدوا عليه وعاشوا وأنجبوا ورسّخوا جذورهم في أرضه، ولك أن تقلّب صفحات التاريخ، حتى تقف على حقيقة ما أقول. يبقى العراق ولاّدا للمبدعين، لكن حدِّثني في الذوق العام، وما حلَّ به، لأن المطرب دون جمهور، كناعٍ بين القبور!!

* ما أبرز العقبات التي واجهتكم في سبيل إنجاز موسوعة (أطباء شعراء)؟

- أكبر العقبات هي عدم الوصول إلى عدد كبير من الأطباء الشعراء، بسبب عدم معرفتي بهم شخصيا، أو عدم معرفتهم بوسائل التواصل الاجتماعي، وعدم الاستجابة للمشروع من قبل آخرين رغم التواصل معهم وكأنني أبغي منهم أموالا، والذي هو آخِر أمرٍ أفكّر فيه. والشيء الذي لا ينكره إلا جاحدٌ هو الفضل الكبير للشبكة العنكبوتية التي أمدتني بالمعلومات الضرورية من سِيَر وقصائد للمترجَم لهم في موسوعتي (أطباء شعراء) بجزئيها.

* هل من سمات عامة لشعر الأطباء بحيث يمكن تمييزه عن غيره؟

- شِعر الأطباءِ، امتزجت فيه عدة خبرات. الخبرةُ العملية من خلال التعامل مع المرضى وذويهم، أي مع المجتمع، وما أكسبه هذا التعامل من قدرة على فهم البشر عن كثب. الذكاء الذي يتميز به الطبيب عن الآخرين منحه القابلية على ابتكارِ الحلول الآنية للمشاهد الأدبية، والقدرة على رسم الصورة الشعرية استلهاماً من الواقع. الطبيب قادرٌ بذكائه على مزج الخبراتِ في بوتقةٍ ذهبية واحدة، تجتمع فيها عناصرُ الإبداعِ بكل صورها. الطبيبُ يشعرُ بآلامِ المرضى، وقد عركتهُ المواقف المحرجة حينما يُلقي خبراَ صادما على المريض أو ذويه، حينما يخبرهم بوجود مرض خبيث مثلاً، أو وفاة  في غرفة الإنعاش. ورغم كل هذا جاءَ شعرُ الأطباءِ كترنيمة جالينوس أو أبقراط، أو دعاءِ صوفيٍّ زاهدٍ، يأملُ منها شفاء الأدواءِ، كبلسمٍ اعتادَ على منحه لمرضى القلوب والأجساد. أبدع هؤلاء ومنهم الشاعر المصري المعروف (إبراهيم ناجي) وأحمد زكي أبو شادي، وعدد كبير ممن وثقتُ لهم في كتابي (أطباء شعراء)، الذين كنتُ أستمتع بحق بما نظموا.

* كيف وجدتم تجربة النظْم للطفل والتي قد يظنها البعض -خطأً- أهون من النظْم لغيرهم؟

- كنتُ أظنُّ أن النظمَ في شعر الطفل والطفولة من أيسرِ الأمور كما تفضلت، لكنني حينما ولجتُ إلى هذا المضمارِ، أدركتُ مقدارَ المعاناةِ، والصعوبة التي رافقت الكتابة للأطفال. وتكمن الصعوبة في محدودية القوافي وتكرارها، وتحديد النظم على بحورٍ معينة ومجزوآتها، كبحر الخبب، والوافر، والكامل، والرمل. يضاف إلى هذا صعوبة الهبوط بالأسلوب الشعري، والكتابي، كي يحاكي بساطة ومحدودية إدراكِ الطفل. لا أكتمكم خبراً أنني أحسستُ وكأنني لم أكتب شعراً قبل هذه اللحظة. وبالتالي فهي تجربةٌ فريدة لا بد لكل شاعرٍ، باعتباره يتعامل بالعاطفة ويعزف بكلماته على المشاعر، أن يهدي ثمرة القلوب شيئاً من عصارة جهده، وليترك حبيبته جانباً لبعض الوقت، ليكتبَ لزهرة الدنيا وزينتها. وقد كتبتُ أوّل مجموعة شعرية للأطفال بعنوان (أرضنا الزاهية) عام 2022م ونشرتها عام 2023م صادرة من مطبعة المجلس الثقافي في بابل. ولدي مجموعة أخرى لم تكتمل عسى أن ترى النور في العام المقبل 2024م.

* ما الذي تقوله وتعكسه كركوك بخليطها الفسيفسائي العجيب من السكّان العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والأرمن وغيرهم؟

- لا بد أن أشير إلى أنني وُلدتُ في هذه المحافظة وانتقلت مع عائلتي عام 1972م إلى محافظة بابل التاريخية المشهورة وترعرعت فيها وقضيتُ أغلب سنوات عمري في هذه المحافظة وفي بغداد والكوفة حيث كنت أدرس الطب. أما كركوك فقد قضيتُ فيها سنين الخدمة العسكرية الإلزامية عام 1996م. وكركوك كما تفضلتَ هي فسيفساءٌ يختلط فيها العربُ مع الكردِ والأرمن والآشوريين والتركمان، وهي بحق متحف لكل هذه الثقافات.

* في عصر التكنولوجيا الجامحة التي غيّرت وجه العالم، ماذا بقي للكلمة المكتوبة من دور للنهوض بالتغيير المنشود في عالمنا العربي المتردِّي؟

- كل  أبناء البشر الآن هم قابعون في هذا القفص التقني العجيب، الذي فَتح، رغم قيده، الأبوابَ أمامنا حتى نتعرّف على مثيلنا في الخلقة، في أصقاعِ الأرضِ المختلفة. اختلطت الثقافات، وانصهر بعضها في بعض، وبات من الواجب أن ننصهر نحن البشر، لأننا بشر، لا فرق بيننا إلّا بمحل السكن، وجودة الطبيعة، أما العقلُ فواحدٌ، والمشاعرُ واحدة، فلا يسوغ لنا أن نفترق في إبداعنا، لأنه ترجمانُ مشاعرنا، نحن الأدباء. أما الكلمةُ المكتوبة، فلها شقان في الجواب: الأوّل: الكلمة المكتوبة على الورق. وهذا النوع أجد أنه قد أصابه النكوص، والعزوف من أغلب القرّاء، سواء أكانوا في الوطن العربي أو في العالم. وفقد كثيرا من تأثيره، لكنه ما زال يناضل. ولا بأس بالتطوّر، لأننا مؤمنون بهذا، والعبرة في التأثير بالآخَرين من خلال هذه الكلمة المكتوبة. الثاني: الكلمة المكتوبة إلكترونياً. وهذه أجدها قد سمت في علياء الأدب وسماء الثقافة ولن يحدّها شيء. وكلاهما أجده مؤثراً في المجتمع الغربي أكثر من تأثيره في مجتمعاتنا العربية اللاهثة وراء فتات الطغاة.

* في ضوء ما تُزاوِج وتُراوح بين الصناعتين على قول أبي هلال العسكري، ما الفرق بين الناثر والشاعر من حيث الأدوات وقوّة التأثير؟

- إذا سلّمنا أن أذواق البشر ليست واحدة، والمستوى الفكري، والقدرة اللغوية والبلاغية، ليست واحدة عند كل البشر، لا بد أن نسلمَ بالحقيقة التي لا ثاني لها وهي: النثر والشعر نتاجان بشريّان، وكلاهما يمتدّان في عمق التاريخ العربي والعالمي، ولّدتهما الحاجة لإيصال الأفكارِ، وسياسة البشر وقيادة المجتمع، وتدبير الشؤون الحياتية المختلفة، واستنهاض الجماهير لأجل قضية مصيرية، فلا فضل لأحدهما على الآخر إنما لكل فئة من الناس منهلهم المناسب. منهم من يتأثر بما يُلقَى عليه من قصائد شعرية ومنهم من لا يستسيغُ هذا اللون، للقصور الذي ألمحْت إليه، فيجنح إلى النثر (وأقصد بهذا فنون النثر لا ما يُسمّى بالقصيدة النثرية وليست كذلك، من المقالة، والخطبة، والرسالة، واللقاء الصحفي، وغيرها). أما قوة التأثير فأجدها في الشِّعر أكثر ظهوراً، بالرغم من عزوف المجتمع عنه بسبب التدنِّي الثقافي، وخاصة في دولنا العربية.

* إزاء سياسة النشر المدفوع التي تتبنّاها أغلب دور النشر الآن، والكُتّاب يعانون من (الفلاكة) كما تعلمون، هل تحبّذ النشر الالكتروني الأيسر والأسرع والأقل كلفة؟

- عانيتُ كثيرا من هؤلاء، وأقصدُ دور النشر والمطابع، ووجدتهم في الغالب لا علاقة لهم بالأدب وهم لا يتعدون مهنة التجارة كحال المهن الأخرى، ويحاولون بشتى الطرق كسب المال ليس إلّا، وإذا ما علمنا أن قرّاء النسخ الورقية في تناقص مستمر، ضاق الأمر على الكاتب والأديب، وقلّ مشترو بضاعته. نعم أجد النشر الإلكتروني أقل كلفة أو بدون، وأكثر رواجاً لكن المتعة التي ينشدها المؤلف تكمن في رؤيته لكتابه يوميا في مكتبته أو على رفوف المكتبات العامة.

* هل يخطر ببالكم سؤال من نوع: متى يقرأ ويبحث ويبدع هؤلاء الأدباء الذين يتواجدون بكثافة على الشاشات وفي المنتديات وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي؟

- ربما أصوغُ السؤالَ بهذه الطريقة: كم من هؤلاء يستحق لقب الأديب؟ كل إنسانٍ يستطيعُ الكتابة أو جلّهم، وهل الكتابة تعني أنّ الكاتب هو كاتب بمعناه الاصطلاحي؟ لا أعدو الصوابَ حين أقولُ: إن الغالبية العظمى من هؤلاء ينطبق عليهم المثل العراقي المعروف (ليس كلّ من سخم وجهه هو حداد!). ابتُلينا بأمثال هؤلاء الذين لم يعترفوا بالرقيب الذاتي، أو الخارجي. ترتكبُ ذنباً كبيرا لا يُغتفرُ حينما تصحّح له بعض الأخطاء التي يرتكبها في كل منشورٍ يرميه على رؤوسنا. ومن صفات العرب أنهم يميلون إلى السهل مع عدم الكلفة، ولن يجدوا غير الكتابة، نثرا أو شعرا، دون كلفة. عُرف عن العرب أنهم كثيرو الكلام قليلو النفع، ونحن منهم مع الأسف. الكل يكتب، ويطرح به إلى سوق الأدب. أشبه ما يحدثُ في وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام بسوق الهرج والمرج!! تحدثت كثيرا مع شعراء نمطيين يكتبون القصيدة والقصيدة وكأنهم ينسخون القصيدة الأولى مع تغيير في بعض الألفاظ، ويلقيها وكأنه فاتح إفريقيا. قلت لهم : لماذا لا تقرؤون الكتب حتى تثقفوا قصائدكم!! يجيبون: لا وقت لدينا!! ولك أن تقدر مقدار الكارثة من أمثال هؤلاء.

* برأيكم، لماذا لا يتمتع تخصص طب الأسرة لدينا بالمكانة الرفيعة التي يلقاها في الغرب؟

- لأنّ النُّظم الصحية العاملة في أغلب دولنا العربية عقيمة، ولا تلبّي طموح أفراد المجتمع، لأسباب كثيرة، منها: عدم قدرة أغلب دولنا العربية على تغطية تكاليف الخدمة الصحية المقدَّمة للمواطن بسبب قلة الموارد المالية. والسبب الآخَر: ضعف الوعي الصحي والذي يرتبط ارتباطا وثيقاً بمُجمل الوعي الثقافي. وإذا علمْنا أن نسبة الأُمّية في مجتمع مثل العراق والتي كانت لا تتعدّى 4% في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين قد وصلت الآن إلى 18% ، هذه كارثة عظيمة. والأُمية الثقافية والمعرفية تلعب دورها السلبي في النسبة المتبقّية من أفراد المجتمع. نظام طب الأسرة من الأنظمة الصحية الراقية والتي لا تنجح إلّا في المجتمعات الراقية، وليست العربية مع الأسف الشديد. يُضاف إلى ذلك قلة عدد الأطباء المختصين في هذا الجانب في كل الدول العربية، رغم أنها لا تشكّل كبير عقبة لو نظرْنا إلى جانب التكامل العربي الغائب في عصرنا هذا.

***

د. منير لطفي

أجري الحوار في 4 يونيه 2023

حوار مع العالم اللغوي نعوم تشومسكي

أجرى الحوار: جيمس ماكجيلفراي

ترجم اللقاء: محمد عبد الكريم يوسف

***

جيمس ماكجيلفراي: لقد نسيت اسم الشخص الذي قام بعمل مثير للاهتمام على العين وجين PAX-6. من هو يا ترى؟

نعوم تشومسكي: والتر جيرينج.

جيمس ماكجيلفراي: جيرينج في سويسرا. قد يلقي هذا النوع من العمل نوعا مختلفا من الضوء على مسألة كيفية دمج نظام تم دمجه فيه..

نعوم تشومسكي: عمله ممتع للغاية. وبشكل أساسي، ما يعرضه - ليس لدي أي حكم خبير، ولكن يبدو أنه مقبول جيدًا - هو أن جميع الأنظمة المرئية (ربما حتى النباتات الضوئية) تبدو وكأنها تبدأ ببعض الأحداث العشوائية التي حصلت على فئة معينة من الجزيئات في خلية - جزيئات رودوبسين التي تصادف أن لها خاصية أنها تنقل الطاقة الضوئية في شكل طاقة كيميائية. لذلك لديك أساس للتفاعل مع الضوء. وبعد ذلك تأتي سلسلة من التطورات التي يبدو أنها مقيدة للغاية. هناك جين تنظيمي يبدو أنه يظهر في كل مكان، والتطورات الإضافية، وفقًا لروايته، مقيدة بشدة بإمكانيات إدخال الجينات في مجموعة من الجينات، والتي ربما يكون لها فقط إمكانيات فيزيائية معينة..

جيمس ماكجيلفراي: العامل الثالث..

نعوم تشومسكي: .. نعم العامل الثالث الذي يمنحك تنوع العيون. هذا موحٍ للغاية؛ إنه مختلف تماما عن الفكر التقليدي.

جيمس ماكجيلفراي: هل لها أي تأثير على اللغة؟

نعوم تشومسكي: فقط لأنها تشير إلى وجود نظام آخر يبدو أن له تأثيرات قوية للعامل الثالث.

جيمس ماكجيلفراي: لقد تساءلت أحيانا عن الموضوع - حسنا، خذ الأشخاص الذين يعملون على أطفال متلازمة ويليامز. أدمغتهم لها أشكال مختلفة - إنهم في الحقيقة مختلفون بشكل غير عادي. ومع ذلك لديهم هذه القدرة المذهلة على..

نعوم تشومسكي: حسنا، بعض اكتشافات إريك لينبيرج أكثر دراماتيكية، مثل العمل الذي قام به على أقزام رؤوسهم نانوية، وهو عمل درامي حقا. ليس لديهم قشرة دماغية على الإطلاق، لكن لديهم قدرة لغوية مثالية تقريبا.

جيمس ماكجيلفراي: حسنا، من المؤكد أنه يلقي بفكرة وجوب توطين اللغة القرود..

نعوم تشومسكي: وهذا يظهر مدى فظاظة فهمنا. لكن هذا ليس مفاجئا للغاية. اللغة هي آخر شيء يجب أن نتوقع فهمه، لأنه النظام الوحيد الذي - لأسباب أخلاقية - لا يمكنك التحقيق فيه بشكل مباشر. كل نظام آخر يمكنك فحصه في الحيوانات الأخرى. نظرا لعدم وجود هياكل متماثلة للغة، فلا يوجد عمل مقارن. العمل المقارن الوحيد هو على أسلافنا - مثل النظام الحسي الحركي.

وينطبق الشيء نفسه على الجانب المفاهيمي. أنا فقط لا أرى كيف يمكنك - مع فهمنا الحالي، على الأقل - أن تأمل في الحصول على أي فكرة ممكنة عن تطور المفاهيم الأولية بخصائصها الداخلية الغريبة. [مرة أخرى] إنها عالمية - إذا ذهبت إلى مواطن من غينيا الجديدة، فسيكون لديه نفس مفهوم "النهر" الذي لدينا. لكن ليس لدينا أي فكرة عن كيفية حدوث ذلك.

جيمس ماكجيلفراي: هناك الكثير من القصص التي تشير إلى أن لها علاقة بالتطور بمعنى أن الاختيار يعطي مزايا.

نعوم تشومسكي: ولكن ما هو المفيد في وجود مفهوم "النهر" الذي يحتوي على الميزات التي يبدو أننا حساسون لها والتي لا يمكن أن يكون لها تأثير واضح على البقاء أو الاختيار؟ يمكننا عمل تجارب فكرية حول مفهوم "النهر" لا يمكنك حتى تخيلها إذا كنت من مواطني غينيا الجديدة. تخيل تغيرا طفيفا في التطور يحول نهر تشارلز إلى مادة صلبة، وهو أمر ممكن على ما يبدو. ثم ترسم خطا عليها، وتبدأ في قيادة الشاحنات على جانبي الخط، فتصبح طريقا سريعا وليس نهرا. لا يمكنك شرح ذلك لمواطن من غينيا الجديدة ؛ لا توجد أي من المفاهيم الأخرى التي تحتاجها للترفيه عن فكرة "نهر" يمر بتغير تطوري ويصبح طريقا سريعا ؛ فكيف يمكن أن يلعب الاختيار دورا في قيادتنا لاكتساب الميزات التي يتمتع بها مفهوم "النهر" والتي تلعب دورا عندما ننخرط في تجارب فكرية مثل هذه، تلك التي تقودنا إلى إعلان أن النهر أصبح طريقا سريعا؟

في الواقع، المواطن لديه نفس المفهوم ؛ إذا نشأ هنا أو هناك، فسيكون لديه مفهوم "النهر". إذن هو أو هي حصل على المفهوم. لكن كيف يمكن اختيارها؟ ما هي الوظيفة التي تقوم بها في حياة الإنسان، في هذا الصدد؟ وبما أن هذا ينطبق على كل مفهوم أولي - خذ، على سبيل المثال، مثال بول بيتروسكي في ورقته البحثية الأخيرة حول كون فرنسا سداسية الشكل وجمهورية. لماذا يجب أن يكون لدينا مفهوم فرنسا هذا؟ لا يمكن أن يكون لها أي دور انتقائي..

جيمس ماكجيلفراي: يبدو هذا واضحا جدا بالنسبة لي. اسمحوا لي أن أعود إلى لورا بيتيتو  للحظة فقط وما كان عليها أن تقترحه حول الطريقة التي يبحث بها اللفيف الصدغي العلوي عن أنواع معينة من الأنماط. كانت فكرتها، على الأقل جزئيا، سبب كوننا ثنائيي النسق - يمكننا تطويره دون صعوبة بإحدى الطريقتين أو كليهما - هو أنك تستخدم نفس النظام في كلتا الحالتين.

نعوم تشومسكي: أظن أن هناك مجالات أخرى يمكن أن يحدث فيها. ربما يمكنك أن تفعل ذلك في الرقص. لا أعرف الحقيقة، لكني أفترض أن الأطفال سيكونون قادرين على إظهار لغتهم في حركات الرقص - بأرجلهم، دعنا نقول ذلك. أو ربما بأي من حركات الرأس، أو رمش العين.. في الواقع،ينطبق ذلك على الأشخاص المصابين بالشلل الشديد.

جيمس ماكجيلفراي: لكن إذا فعلوا ذلك بالرقص، على سبيل المثال، سيظلون بحاجة إلى النظام البصري وأنواع معينة من الأنماط..

نعوم تشومسكي: لا يمكننا فعل ذلك بالرائحة، لأننا لسنا متطورين بما فيه الكفاية. لا يمكننا استخدام الذوق، لأننا لا نمتلك النطاق الحسي - ربما تستطيع الكلاب ذلك، لكن لا يمكننا ذلك. لذا فأنت عالق بين الرؤية والسمع. هذه هي القدرات الحسية الكافية الوحيدة التي لدينا. لذلك كل شيء سوف يستخدم الرؤية والسمع، ونوع من العمل الذي يمكننا القيام به بأجسادنا. هذا فقط معروف. حسنا، هذا يترك بعض الاحتمالات. ولكن ربما تكون أي احتمالية تستفيد من هذه القدرات تعمل من أجل المخرجات. ويمكن أن تكون على حق. يجب أن يقع كل شيء في فئات فرعية معينة، لأن هذا هو كل ما يمكن لأدمغتنا معالجته. لذلك عندما تأتي المخرجات، كجانب من جوانب اللغة، سيتعين عليه الاستفادة من هذه الحقائق حول طبيعتنا. إذا خضعت الكلاب فجأة لطفرة حصلت فيها على الدمج، فربما تستخدم حاسة الشم.

جيمس ماكجيلفراي: جانب رائع آخر من عملها هو أنها تقترح أن الريسوس وقرود المكاك والعديد من الأنواع الأخرى لديها ما يبدو أنها أجزاء متجانسة تماما من الدماغ - اللفيف الصدغي العلوي - لكنها لا تملك هذه القدرة على تطوير حتى الأساسيات من الكلام أو التوقيع. هل هذا بسبب افتقارهم إلى هيئة تدريس لغة أيضًا؟ او لماذا؟ هل تنسبه إلى بعض السمات المحددة للفيف الصدغي العلوي البشري، أم..

نعوم تشومسكي: يمكنك اختلاق قصص مختلفة. يمكن أن يكون أسلافنا من البشر يفتقرون إلى هياكل الدماغ هذه، وقاموا بتطوير الدمج، ثم طوروا هياكل الدماغ. لكن ليس هناك ما يكفي من الوقت لذلك. يجب أن تكون هياكل الدماغ موجودة لفترة طويلة قبل حدوث أي شيء مثل هذا الانفجار. ونحن نعلم أنه لم يكن هناك أي شيء منذ ذلك الحين، بسبب الهوية الأساسية للناس في جميع أنحاء العالم. إذن لديك حد أعلى وحد أدنى، ويبدو أنهما قريبان للغاية. لذلك، ما لم يأتي شيء جديد تماما، فإن القصة الوحيدة المعقولة هي أن الجهاز كان في مكانه، لأي سبب من الأسباب. وربما تم استخدام تعديلات خاصة مثل هذه للهمهمات ؛ بعد كل شيء، يمكن أن يكون لديك عناصر معجمية متعددة المقاطع، وربما تم استخدام عناصر معجمية متعددة المقاطع، وربما مع الخصائص المعقدة للمفاهيم البشرية، لبعض الأسباب غير المبررة وغير المفهومة. لكنه لا يزال يتطلب القدرة على امتلاك قدرة إنتاجية لا نهائية، والتي تأتي على ما يبدو على شكل ومضة، مما يعطي كل شيء آخر.

جيمس ماكجيلفراي: إذا كان، أيًا كان، أيًا كان هذا الجين الذي قدم الدمج وحمله، إذا كان يتصرف مثل جين التحكم على طول خط Gehring PAX-6، فقد يكون كذلك..

نعوم تشومسكي: .. قد يؤثر على تطور أشياء أخرى. نحن لا نعرف ما يكفي عن علم الأعصاب لنقول ما يجري. لذلك ربما ظهرت بعض الجينات التنظيمية التي أعطت الدمج وسمحت للأنظمة العصبية بتجسيده.

جيمس ماكجيلفراي: هذه تخمينات رائعة..

نعوم تشومسكي: .. لا يُعرف سوى القليل عن تطور الدماغ بحيث لا يمكن لأحد أن يعرفه.

جيمس ماكجيلفراي: هل يفكر أي شخص في هذه الأنواع من الأشياء؟..

نعوم تشومسكي: لا أعتقد ذلك، لأن الافتراض السائد هو أن اللغة تطورت ببطء من خلال الانتقاء الطبيعي. ومع ذلك، لا يبدو ذلك متسقا على الإطلاق مع أكثر الحقائق الأساسية. إذا نظرت إلى الأدبيات المتعلقة بتطور اللغة، فستجد أن الأمر كله يتعلق بكيفية تطور اللغة من الإيماءات، أو من الرمي، أو شيء مثل المضغ، أو أي شيء آخر. لا شيء من أي شيء له أي معنى.

***

................

النص الأصلي:

Development, master/control genes, etc.

JAMES MCGILVRAY interviews Noam Chomsky

The Science of Language, Interviews with James McGilvray

Edited by Noam Chomsky and James Mcgilvray, © Noam Chomsky and James McGilvray2012, Cambridge University Press, UK.

حول المفاهيم الإنسانية  في اللغة

حوار مع العالم اللغوي  نعوم تشومسكي

أجرى الحوار: جيمس ماكجيلفراي

ترجم اللقاء: محمد عبد الكريم يوسف

 ***

جيمس ماكجيلفراي: لقد تحدثنا في وقت سابق عن تميز المفاهيم البشرية، وأود أن أوضح قليلا ما يعنيه ذلك. أعتبر أن الأمر يتعلق، جزئيا على الأقل، بحقيقة أن البشر، عندما يستخدمون مفاهيمهم - على عكس العديد من الحيوانات - لا يستخدمونها في الواقع في ظروف يوجد فيها نوع من التطبيق المباشر لمفهوم الظروف أو المواقف الفورية.

نعوم تشومسكي: حسنا، على حد علم أي شخص - ربما لا نعرف ما يكفي عن الحيوانات الأخرى - ما تم وصفه في أدبيات الحيوانات هو أن كل فعل (محليا، أو أيا كان) مرتبط بما يسميه ديكارت آلة تقود إلى حالة داخلية أو حدث خارجي يتسبب في حدوثها. يمكن أن يكون لديك حالة داخلية فقط - لذلك يصدر الحيوان صرخة معينة [أو أي شكل آخر من أشكال السلوك] "يقول" شيئا مثل "هذا أنا" أو "أنا هنا"، أو تهديد: شيء مثل "ابتعد عني، "أو ربما صرخة تزاوج. [تجد هذا] وصولا إلى الحشرات. وإلا هناك رد فعل لنوع من الأحداث الخارجية ؛ تحصل على دجاجة تنظر لأعلى وترى شيئا نفسره على أنه "هناك طائر جارح" - على الرغم من أن لا أحد يعرف ما يفعله الدجاج. يبدو أن كل شيء على هذا النحو، إلى الحد - كما ذكرنا سابقا - أن راندي جاليستل (1990) في مراجعته المقدمة لمجلد عن التواصل الحيواني يشير إلى أنه بالنسبة لكل حيوان وصولا إلى الحشرات، بغض النظر عن التمثيل الداخلي، فهو واحد - لشخص مرتبط بكائن - حدث خارجي أو حدث داخلي مستقل. من الواضح أن هذا ليس صحيحًا بالنسبة للغة البشرية. لذلك إذا كان [ما يدعي] قريبا من كونه صحيحا بالنسبة للحيوانات، فهناك انقسام حاد جدا هناك.

جيمس ماكجيلفراي: هذه فجوة حادة فيما يتعلق بما يمكن تسميته "استخدام" أو تطبيق أنواع المفاهيم ذات الصلة، لكنني أعتبر أنه يجب أن يكون أكثر من ذلك.

نعوم تشومسكي: حسنا، إنها طبيعتهم. مهما كانت طبيعة كلمة (منزل) HOUSE، أو (لندن) LONDON، أو (أرسطو)  ARISTOTLE ، أو(ماء)  WATER  مهما كان تمثيلها الداخلي - فهي ليست مرتبطة فقط بأحداث خارجية مستقلة عن العقل، أو بحالات داخلية. إنها في الأساس نسخة من نقطة ديكارت، والتي تبدو دقيقة بدرجة كافية.

جيمس ماكجيلفراي: حسنا، فهي غير مرتبطة باستخدام المفاهيم، كما أنها غير متصلة

نعوم تشومسكي: أم الفكر. هل هو شيء يتعلق بطبيعتهم، أو شيء يتعلق باستخدامهم؟ يعتمد استخدامها على طبيعتها. نحن نستخدم (منزل)   HOUSE بشكل مختلف عن كيفية استخدامنا  (منزل)  BOOK ؛ ذلك لأن هناك شيئا مختلفا عن HOUSE and  BOOK.  لذلك لا أرى كيف يمكن للمرء أن يميز بينها بشكل مفيد.

جيمس ماكجيلفراي: هناك عدم تطابق كبير، على أي حال، بين أي سمات تمتلكها المفاهيم البشرية وأي نوع من الأشياء والخصائص في العالم التي قد تكون أو لا تكون "موجودة" - على الرغم من أننا قد نستخدم بعض هذه المفاهيم من أجل تنطبق على تلك الأشياء.

نعوم تشومسكي: نعم، في الواقع يبدو لي أن العلاقة تشبه في بعض النواحي الجانب السليم للغة [، كما ذكرت سابقا]. هناك تمثيل داخلي للصوت æ، لكن لا يوجد حدث مادي مستقل عن الإنسان يرتبط به الصوت  æ. يمكن أن ينطق بكل أنواع الطرق.

جيمس ماكجيلفراي: بالنسبة للمفاهيم التي تتبعها، أعتبر أن المخلوق الذي لديه نفس النوع من العقل فقط يمكنه في الواقع فهم ما يقوله الإنسان عندما يقول شيئا ما ويعبر عن المفاهيم التي يمتلكها هذا الشخص. .

نعوم تشومسكي: إذن عندما تعلم كلبا أوامر، يكون رد فعله على شيء ما، لكن ليس مفاهيمك.

جيمس ماكجيلفراي: حسنا، جيد. أود أن أسألك بعد ذلك بمزيد من التفاصيل حول ما يمكن اعتباره أنواعا ذات صلة من النظريات التي قد يستكشفها المرء فيما يتعلق بالمفاهيم. هل يعقل أن نقول إن هناك أشياء مثل المفاهيم الذرية؟ أنا لا أقترح أنها يجب أن تكون ذرية بالطريقة التي يعتقد جيري فودور أنها يجب أن تكون - لأنه بالطبع بالنسبة له يتم تعريفها بشكل لغوي على فئة من الخصائص المتطابقة.

نعوم تشومسكي: الخارجية.....

جيمس ماكجيلفراي: الخصائص الخارجية، نعم.

نعوم تشومسكي: أنا فقط لا أرى كيف سيعمل ذلك، لأنني لا أرى أي طريقة لتفريقها بشكل مستقل عن العقل. لكني لا أرى أي بديل لافتراض وجود ذرية. إما أنها كلها ذرية، وفي هذه الحالة توجد ذرات، أو هناك طريقة ما للجمع بينها. ليس لدي أي فكرة حقا عن ماهية البديل. إذا كانت موجودة، فهناك الذرية. يبدو أنها نقطة منطقية.

جيمس ماكجيلفراي: أتساءل عما إذا كان الرأي القائل بوجوب وجود مفاهيم ذرية لا يتمتع بنفس المكانة التي يتمتع بها شيء مثل افتراض نيوتن بأنه يجب أن تكون هناك جسيمات لأن هذه هي الطريقة التي نفكر بها. .

نعوم تشومسكي: هذا صحيح. يجب أن يكون هناك جسيمات. كل ما في الأمر أن نيوتن كان لديه الأخطاء. يفترض كل شكل من أشكال الفيزياء أن هناك بعض الأشياء الأولية، حتى لو كانت خيوطا. الأشياء التي يتكون منها العالم، بما في ذلك طبيعتنا الداخلية، وعقولنا - إما أن هذه الأشياء مركبة، أو أنها ليست كذلك. إذا لم تكن مركبة، فهي ذرية. لذلك هناك جسيمات.

جيمس ماكجيلفراي: هل هناك عمل في علم اللغة يتم إجراؤه الآن على الأقل يقترب من أن يصبح أكثر وضوحا حول طبيعة تلك الكيانات الذرية؟

نعوم تشومسكي: نعم، لكن العمل الذي يتم إنجازه - وهو عمل مثير للاهتمام - يدور بالكامل تقريبا حول المفاهيم العلائقية. هناك مؤلفات ضخمة حول أفعال النهايات   atelic verbs، وما إلى ذلك - حول الأشياء المتعلقة بالصياغة. كيف تلعب الأحداث دورا، ماذا عن العناصر والحالات.؟ نوع أنصار ديفيدسون من الأشياء. ولكنها علائقية.

تكاد تكون اهتمامات الفلاسفة العاملين في فلسفة اللغة واللغويين العاملين في علم الدلالات مكملة لبعضها البعض. لا أحد في اللغويات يعمل على معنى الماء والشجرة والبيت وما إلى ذلك ؛ إنهم يعملون على أفعال مثل  LOAD وFILL وBEGIN – ومعظمها مفاهيم لفظية.

جيمس ماكجيلفراي: يمكن رؤية مساهمات بعض الفلاسفة العاملين في علم الدلالات الرسمي - كما أشرت في أماكن أخرى - كمساهمة في بناء الجملة.

نعوم تشومسكي: على سبيل المثال، عمل أنصار ديفيدسون.

جيمس ماكجيلفراي: بالضبط.

نعوم تشومسكي: أيا كان ما يفكر فيه المرء، فهو مساهمة في بناء جملة جانب المعنى للغة. لكن على عكس وجهة نظر بعض أنصار ديفيدسون وآخرين، فإن الأمر داخلي تماما، بقدر ما أستطيع أن أرى. يمكنك ربطها بشروط الحقيقة والواقعية، أو بالأحرى مؤشرات الحقيقة من نوع ما ؛ يدخل في تقرير ما إذا كانت العبارات صحيحة. لكن افعلوا كذلك ملايين الأشياء الأخرى.

***

.............................

النص الأصلي:

More on human concepts

JAMES MCGILVRAY interviews Noam Chomsky

The Science of Language, Interviews with James McGilvray

Edited by Noam Chomsky and James Mcgilvray, © Noam Chomsky and James McGilvray2012, Cambridge University Press, UK.

اللغة والوظيفة اللغوية والتواصل.. اللغة واستخداماتها

حوار مع العالم اللغوي نعوم تشومسكي

أجرى الحوار: جيمس ماكجيلفراي

ترجم اللقاء: محمد عبد الكريم يوسف

***

جيمس ماكجيلفراي: سأبدأ بسؤال يتعلق بطبيعة اللغة والوظائف التي تخدمها هذه اللغة. من الواضح أن اللغة مركزية في الطبيعة البشرية: ومن المحتمل أن تكون الشيء الوحيد الذي يجعلنا متميزين. أنت تفكر في اللغة على أنها قائمة على أساس بيولوجي، وبالتالي فطرية - مضمنة في جينوماتنا بطريقة تظهر تلقائيا أثناء نمو الطفل الطبيعي. وأنت تقر بأن اللغة أداة معرفية مفيدة للغاية يمكنها أن تؤدي العديد من الأدوار والتي منحت البشر مزايا معرفية غير عادية، مقارنة بالمخلوقات الأخرى. لكنك تقاوم فكرة أن اللغة تطورت لأنها حسنت قدرة الإنسان على التواصل. علاوة على ذلك، أنت ضد فكرة أن اللغة هي نوع من الاختراع الاجتماعي، مؤسسة أنشأناها معا لمساعدتنا في تلبية احتياجاتنا، ونقلها إلى الشباب من خلال نوع من التدريب أو التنشئة الاجتماعية. هل يمكن أن تشرح لماذا لديك هذه الآراء؟

نعوم تشومسكي: أولا، لنبدأ بمفهوم الوظيفة. هذه ليست فكرة بيولوجية واضحة أو فكرة نفسية. لذا، على سبيل المثال، إذا سألتك عن وظيفة الهيكل العظمي، وقلت: "الهيكل العظمي هو أن يبقيك مستقيما ويمنعك من السقوط على الأرض"، فهذا ليس خطأ. لكن هذا ينطبق أيضًا على وظيفتها لتخزين الكالسيوم أو إنتاج خلايا الدم، أو القيام بأي من الأشياء الأخرى التي تقوم بها. في الحقيقة، لماذا الهيكل العظمي؟ لماذا تختار حتى الهيكل العظمي؟ نحاول أن ننظر إلى الكائن الحي من وجهة نظر معينة من أجل بناء فهم كامل له من خلال فهم مكوناته. لكن هذه المكونات تفعل كل أنواع الأشياء ؛ وتعتمد وظيفتها على ما أنت مهتم به. النوع المعتاد من الطريقة المرتجلة التي يحدد بها الأشخاص الوظيفة المعينة لنظام ما هي الطريقة التي يتم استخدامها بها عادة، أو استخدامها "الأساسي"، لذلك بالنسبة لمثال الهيكل العظمي، بطريقة ما، يمكن لشيء آخر تخزين الكالسيوم، وسيظل الهيكل العظمي ضروريا للحفاظ على تماسك الجسم ؛ لذلك هذه هي وظيفتها.

الآن لنأخذ اللغة. ما هي خاصية استخدامها؟ حسنا، من المحتمل أن يكون 99.9 بالمائة من استخدامها يتم داخليا للعقل. لا يمكنك أن تمضي دقيقة واحدة دون التحدث إلى نفسك. يتطلب الأمر إرادة لا تصدق حتى لا تتحدث مع نفسك. لا نتحدث كثيرا مع أنفسنا في جمل. من الواضح أن هناك لغة تحدث في رؤوسنا، ولكن في أجزاء، بالتوازي، في أجزاء مجزأة، وما إلى ذلك. لذا، إذا نظرت إلى اللغة بالطريقة التي ينظر بها علماء الأحياء إلى أعضاء الجسم الأخرى وأنظمتهم الفرعية - لذا فأنت تأخذ في الاعتبار جميع وظائفها عند التحدث إلى نفسك - ما الذي تحصل عليه؟ ماذا تفعل عندما تتحدث مع نفسك؟ في معظم الأوقات تعذب نفسك [ضحك]. لذلك قد تعتقد أنك تعرضت للخداع، أو تسأل لماذا يعاملني هذا الشخص بهذه الطريقة؟ أو أيا كان. لذا يمكنك القول أن وظيفة اللغة هي تعذيب نفسك. الآن، من الواضح أن هذا ليس خطيرا.

صحيح تماما أن اللغة تستخدم للتواصل. لكن كل ما تفعله يُستخدم للتواصل - تسريحة شعرك، وسلوكياتك، ومشيك، وما إلى ذلك. بالتأكيد، تُستخدم اللغة أيضًا للتواصل.

في الواقع، جزء صغير جدا من اللغة يتم تخليصه - ما يخرج من فمك، أو من يديك إذا كنت تستخدم الإشارة. ولكن حتى هذا الجزء غالبًا لا يستخدم للتواصل بأي معنى ذي مغزى مستقل لمصطلح "اتصال". إذا كنت تعني بكلمة "اتصال" أي شكل من أشكال التفاعل، حسنا، يتم استخدامها للتواصل. ومع ذلك، إذا كنت تريد أن تعني فكرة الاتصال شيئا ما، دعنا نقول نقل معلومات أو شيء من هذا القبيل، فإن جزءا صغيرا جدا من الجوانب الخارجية للغة مخصص للتواصل. لذلك إذا كنت في حفلة، فهناك الكثير من الحديث يدور حولك. لكن حجم الاتصال الذي يحدث بشكل ضئيل ؛ يستمتع الأشخاص فقط، أو يتحدثون إلى أصدقائهم، أو أي شيء آخر. لذا فإن الغالبية العظمى من اللغة داخلية. ما هو خارجي هو جزء ضئيل من ذلك [وما يستخدم في الاتصال بمعنى جدي هو لا يزال جزء صغير]. نظرا لأن الوظائف عادة ما يتم تعريفها بشكل غير رسمي، فليس من المنطقي أن نقول إن وظيفة اللغة هي التواصل.

إن أحد الموضوعات المثيرة للاهتمام التي يجب معالجتها يوما ما هو أن حديثنا الداخلي هو على الأرجح أجزاء من خطاب خارجي أعيد استيعابها، ومن المحتمل جدا أن يتعذر الوصول إلى "الخطاب الداخلي" الحقيقي للتأمل. لكن هذه أسئلة تفتح أبوابا كثيرة، بالكاد تكون مواربة.

حسنا، دعنا نلقي نظرة على اللغة من وجهة نظر تطورية. توجد أنظمة اتصال مع الحيوانات. كل حيوان حتى النمل لديه نظام الاتصال، وهناك دراسات مقارنة مثيرة للاهتمام عنهم. خذ على سبيل المثال كتاب مارك هاوزر عن تطور الاتصال. لا يتعلق الأمر بالتطور كثيرا ؛ إنها دراسة مقارنة لأنواع مختلفة من أنظمة التفاعل بين الحيوانات. ويبدو أنها بالفعل أنظمة اتصال. كل حيوان لديه عدد قليل من الأنماط التي تشير إلى شيء ما للآخرين. نفسر بعضها على أنها تعني، "النسور قادمة؛ اهرب ! " إذا نظرت إليها، إنها مجرد: تلك الأوراق التي تومض، لذا يخرج بعض الضجيج من فم المخلوق. البعض منها تعريف ذاتي: "ها أنا ذا" ؛ والبعض منهم يقصد نداءات التزاوج. لكن ليس هناك الكثير.

هناك نوع من تصنيف صرخات الحيوانات، وأعتقد أن اللغة البشرية لا تتناسب مع التصنيف بأي شكل من أشكال الحواس. مهما كانت هذه الأشياء، يبدو أنها رمزية ؛ لا علاقة للغة البشر بها. هذا ليس مفاجئا: من الواضح أن أقرب أقربائنا على قيد الحياة ينفصلون عنا حوالي 10 ملايين سنة في زمن التطور. لذلك لا تتوقع أن تجد شيئا مثل لغة البشر. إذا لدى الحيوانات أنظمة اتصال، لكن لا يبدو أن لديها أي شيء يشبه اللغة. خذ لغة البشر. من أين تأتي يا ترى؟ حسنا، بقدر ما يمكننا أن نقول من السجل الأحفوري، فإن البشر ذوي الأجهزة الفسيولوجية العالية كانوا موجودين في جزء صغير من إفريقيا لمئات الآلاف من السنين. نحن نعلم الآن أن اللغة البشرية لا تتأخر عن التاريخ منذ حوالي ستين ألف عام. والطريقة التي تعرف بها ذلك هي عندما بدأت الرحلة من إفريقيا. يمكنك الآن تتبعها عن كثب عن طريق العلامات الجينية وما إلى ذلك ؛ هناك إجماع جيد على ذلك. بدأت الرحلة من إفريقيا في ذلك الوقت تقريبا وذهبت بسرعة كبيرة في زمن التطور. وإحدى الأماكن الأولى التي ذهبوا إليها هي المحيط الهادئ - الجزء الجنوبي من أوراسيا. و انتهى بهم المطاف في غينيا الجديدة، أستراليا، وما إلى ذلك، حيث يوجد [الآن] من نطلق عليهم "الأشخاص البدائيون" الذين يتطابقون معنا في جميع المقاصد والأغراض. لا يوجد فرق وراثي كبير من الناحية المعرفية يمكن لأي شخص أن يخبره. إذا تصادف وجودهم هنا، فسيصبحون جزءا منا، ويتحدثون الإنجليزية ؛ لو كنا هناك، لكنا نتحدث لغاتهم. حتى الآن كما يعلم أي شخص، لا يوجد فعليا أي اختلاف جيني يمكن اكتشافه عبر الأنواع المرتبطة باللغة - وفي الواقع، في معظم الخصائص الأخرى. الاختلافات الجينية بين البشر صغيرة للغاية، مقارنة بالأنواع الأخرى. نحن نوليهم الكثير من الاهتمام ؛ هذا ليس مفاجأة. لذا، منذ بعض الوقت، ربما قبل ستين ألف سنة، كانت اللغة موجودة، بشكلها الحديث، دون مزيد من التغييرات. حسنا، كم من الوقت قبل ذلك؟ منذ متى يا ترى؟ من هنا، يمكننا إلقاء نظرة على سجل الحفريات، ولا يوجد ما يشير حقا إلى وجودها هناك. في الواقع، إن آثار وجود نظام رمزي معقد بالكاد يكون موجودا قبل 60.000 - 100.000 سنة ماضية. لا يبدو أن شيئا قد تغير كثيرا منذ مئات الآلاف من السنين، ثم فجأة حدث انفجار هائل. منذ حوالي سبعين، وستين ألف سنة، ربما في وقت مبكر من مائة ألف عام، بدأنا في الحصول على الفن الرمزي، الرموز التي تعكس الأحداث الفلكية والأرصاد الجوية، والهياكل الاجتماعية المعقدة. . .، إنه مجرد انفجار للطاقة الإبداعية يحدث بطريقة ما في لحظة من الزمن التطوري - ربما منذ عشرة آلاف سنة أو نحو ذلك، وهذا لا شيء. لذلك لا يبدو أن هناك أي مؤشر على أنه كان موجودا من قبل، ويبدو أن كل شيء سيكون كما هو بعد ذلك. لذا يبدو أنه - بالنظر إلى الوقت المستغرق - كانت هناك "قفزة كبيرة إلى الأمام" مفاجئة. هناك بعض التعديلات الجينية الصغيرة بطريقة ما أعادت توصيل الدماغ قليلا. نحن نعرف القليل جدا عن علم الأعصاب. لكن لا أستطيع أن أتخيل كيف يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك. لذا أدى بعض التغيير الجيني الصغير إلى تجديد أسلاك الدماغ مما جعل هذه القدرة البشرية متاحة. ومعها جاءت المجموعة الكاملة من الخيارات الإبداعية المتاحة للبشر ضمن نظرية العقل - نظرية العقل من الدرجة الثانية، لذا فأنت تعلم أن شخصا ما يحاول أن يجعلك تفكر فيما يريدك شخص آخر أن تفكر فيه . من الصعب جدا تخيل كيف يمكن أن يستمر أي من هذا بدون لغة. على الأقل، لا يمكننا التفكير في أي طريقة للقيام بذلك بدون لغة. ومعظمها تفكير وتخطيط وتفسير وهكذا. إنه داخلي.

حسنا، تحدث الطفرات في شخص وليس في مجموعة. ونحن نعلم، بالمناسبة، أن هذه كانت مجموعة تكاثر صغيرة جدا - مجموعة صغيرة من البشر في ركن ما من أركان إفريقيا، على ما يبدو. في مكان ما في تلك المجموعة، حدثت بعض الطفرات الصغيرة، مما أدى إلى قفزة كبيرة إلى الأمام. كان يجب أن تحدث في شخص واحد. حدث شيء في شخص نقله ذلك الشخص إلى نسله. ويبدو أنه في وقت قصير جدا، سيطر [ذلك التعديل] على المجموعة ؛ لذلك لابد أن لديها بعض الميزات الاختيارية. ولكن كان من الممكن أن يكون وقتا قصيرا جدا في مجموعة [تربية] صغيرة. حسنا ماذا كان؟ أبسط افتراض - ليس لدينا سبب للشك في ذلك - هو أن ما حدث هو أننا حصلنا على دمج. لقد أجريت عملية تمكنك من أخذ أشياء عقلية [أو مفاهيم من نوع ما]، تم إنشاؤها بالفعل، وإخراج أشياء عقلية أكبر منها. هذا هو دمج. بمجرد حصولك على ذلك، لديك مجموعة لا حصر لها من التعبيرات [والأفكار] المهيكلة بالأسلوب المتاح لك.

كان لدينا بالفعل أنظمة حركية حسية [عندما تم تقديم الدمج]، والتي ربما كانت تعمل بشكل هامشي. في الواقع، ربما جاءت فكرة إضفاء الطابع الخارجي عليها لاحقا. وقد فكرنا في أنظمة من نوع ما. ومع ذلك، فقد كانت بدائية - ربما تصورنا الأشياء بطريقة معينة، أو أيا كان. مهما كانت، فإنها لا تبدو وكأنها أنظمة حيوانية لأسباب نوقشت جيدا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لكن يبدو أنهم كانوا هناك. بمجرد أن يكون لديك أسلوب البناء هذا ومجموعة لا حصر لها من التعبيرات المهيكلة الهرمية للاستفادة من هذه الأشياء (أنظمة التفكير هذه أو [ما يسميه تشومسكي] "الأنظمة المفاهيمية المتعمدة")، عندها يمكنك فجأة التفكير والتخطيط والتفسير، في بطريقة لا يستطيع أي شخص آخر القيام بها. وإذا كان لدى ذريتك هذه القدرة أيضا، فسيكون لديهم ميزة انتقائية. وإذا ظهرت، في مكان ما على طول الخط، فكرة محاولة إضفاء الطابع الخارجي عليها [فكر] بطريقة ما، فإنها ستعطي مزايا إضافية. لذلك من الممكن تصور أن الأمر يتعلق بتطور اللغة. والسبب في استمرارنا في استخدام اللغة بشكل أساسي للتفكير [داخل] أنفسنا هو أن هذه هي الطريقة التي بدأت بها. ورغم كل شيء، فإن ستين أو سبعين ألف سنة [وربما ما يصل إلى مائة ألف] ليست بالكثير من الوقت من وجهة نظر تطورية ؛ إنها [تقريبا] لحظة. لذلك ما زلنا إلى حد كبير كما كنا في أفريقيا كلما حدث هذا التغيير المفاجئ . و هذا ما حدث، على حد علمنا.

الآن، هناك الكثير من النظريات الأكثر تعقيدا، لكن لا يوجد مبرر لأي منها. لذلك، على سبيل المثال، هناك نظرية شائعة مفادها أن بعض الطفرات بطريقة ما جعلت من الممكن بناء جمل من كلمتين ؛ وقد أعطى ذلك ميزة الذاكرة لأنه بعد ذلك يمكنك التخلص من هذا العدد الكبير من العناصر المعجمية من الذاكرة. لذلك كان لذلك مزايا انتقائية. ثم حدث شيء ما وأصبح لدينا جمل من ثلاث كلمات ثم أدت سلسلة من الطفرات إلى خمسة. . . ؛ أخيرا، تحصل على دمج، لأنه يذهب إلى ما لا نهاية [وهذا يعطي عقولنا طريقة لتجميع عدد محدود من العناصر المعجمية في مجموعة لا حصر لها من التوليفات]. حسنا، كان من الممكن أن تكون الدمج هي الخطوة الأولى، وربما لا علاقة لها بالتخارج ؛ في الواقع، من الصعب تخيل كيف يمكن أن يحدث، لأنه كان يجب أن يحدث في شخص، وليس في مجموعة أو قبيلة. لذلك يجب أن يكون هناك شيء يمنح هذا الشخص ميزة تؤدي إلى مزايا لنسله.

جيمس ماكجيلفراي: لقد فكروا في الأمر. في هذا السياق، كنت قد توقعت في بعض الأحيان، واقترحت و أنا لست متأكدا من الكلمة الصحيحة  التي تأتي مع الدمج مثل الأعداد الطبيعية، تأتي بعض الوظائف اللاحقة. قد يؤدي الدمج في حالة التحديد حيث تقوم ببساطة بضم عنصر واحد إلى نفسه إلى الوظيفة اللاحقة.

نعوم تشومسكي: هذه مشكلة قديمة. كان ألفريد راسل والاس قلقا حيال ذلك. لقد أدرك أن القدرات الرياضية لا يمكن أن تتطور عن طريق الانتقاء الطبيعي ؛ إنه أمر مستحيل، لأن الجميع حصلوا عليها، ولم يستخدمها أحد أبدا، باستثناء مجموعة صغيرة جدا من الأشخاص في الآونة الأخيرة. من الواضح أنهم طوروا شيئا بطريقة أخرى. حسنا، التوقع الطبيعي هو أنهم فرع من شيء ما. هم فرع مما نسميه : ربما مثل معظم ما يسمى "القدرة الفكرية البشرية" [أو السبب] - شيء مثل اللغة.

الآن، هناك طرق بسيطة للغاية للحصول على العمليات الحسابية من الدمج. خذ مفهوم الدمج، الذي يقول ببساطة، خذ شيئين، وابني شيئا يمثل مجموعة الأمرين ؛ هذا هو أبسط أشكالها. افترض أنك قيدته، وأخذت شيئا واحدا فقط، وسميته "صفر"، وقمت بدمجه ؛ تحصل على المجموعة التي تحتوي على صفر. يمكنك القيام بذلك مرة أخرى، وتحصل على المجموعة التي تحتوي على المجموعة التي تحتوي على صفر ؛ هذه هي الوظيفة اللاحقة. التفاصيل أكثر تعقيدا إلى حد ما، لكنها واضحة إلى حد ما. في الواقع، هناك طريقتان أخريان يمكنك الحصول عليهما ؛ لكنها مجرد تعقيد تافه للدمج، والذي يقيده ويقول، عندما تضع كل شيء بهذه الطريقة، فإنه يمنحك الحساب. عندما تحصل على الوظيفة اللاحقة، يأتي الباقي.

هناك حجج ضد ذلك. لدى بريان بتروورث كتاب (2000) حول هذا الموضوع قدم فيه العديد من الحجج ضد التفكير في ارتباط اللغة والقدرات الحسابية. ليس واضحا ما تعنيه الأدلة. الدليل، جزئيا، هو الانفصال. يمكن أن تصاب بالخلل العصبي الذي تفقد فيه إحدى القدرات وتحافظ على الأخرى. ومع ذلك، لن يخبرك هذا بأي شيء، لأنه لا يفرق بين الكفاءة والأداء. قد تكون هذه النواقص العصبية لها علاقة باستخدام القدرة. إذا لأخذ تشبيه، هناك فوارق في قراءة اللغة. لكن لا أحد يعتقد أن هناك جزءا خاصا للقراءة في الدماغ. إنه فقط أن هناك طريقة لاستخدام اللغة في القراءة، وبهذه الطريقة يمكن أن تتضرر ؛ لكن اللغة لا تزال موجودة. ويمكن أن يكون الشيء نفسه بالنسبة للحساب. وينطبق الشيء نفسه على الأنواع الأخرى من الانفصال التي تم الحديث عنها. قد يكون صحيحا أن هناك كل أنواع الطرق لشرحها. في واقع الأمر، يمكن أن يتضح أنه، مهما كانت اللغة، يتم توزيعها فقط في أجزاء مختلفة من الدماغ. لذا ربما يمكن نسخها، بحيث يمكنك نسخ جزء منها والاحتفاظ بها والتخلص من الباقي. هناك الكثير من الاحتمالات التي لا تظهر الأدلة كثيرا. إذن ما تبقى لنا هو التكهنات، ولكن عندما لا يكون لديك أدلة كافية، فإنك تختار أبسط تفسير. وأبسط تفسير يحدث ليتوافق مع جميع الأدلة التي لدينا هو أنه مجرد فرع من اللغة مشتق من خلال فرض قيود معينة على الدمج.

في الواقع، هناك قيود أخرى أكثر حداثة. لذلك خذ ما يسمى "اللغات الرسمية"، على سبيل المثال. . . الحسابية، أو أنظمة البرمجة، أو أيا كان. إنها تشبه اللغة الطبيعية نوعا ما، لكنها حديثة جدا وواعية تماما لدرجة أننا نعلم أنها لا تشبه إلى حد كبير الكائن البيولوجي، اللغة البشرية. لاحظ كيف أنها ليست كذلك. خذ على سبيل المثال دمج ]المبدأ الحسابي الأساسي لجميع اللغات الطبيعية]. كمسألة منطقية خالصة، إذا أخذت شيئين، سميتهما X و Y، وقمت بعمل مجموعة X و Y ({X, Y}) ، فهناك احتمالان. الأول هو أن X يختلف عن Y ؛ والآخر هو أنهما ليسا متميزين. إذا تم إنشاء كل شيء بواسطة الدمج، فإن الطريقة الوحيدة لعدم تمييز X عن Y هي أن يكون أحدهما داخل الآخر. لنفترض أن X داخل Y . حسنا، إذا كان X داخل Y وقمت بدمجه، فستحصل على المجموعة بحيث إذا كانت Y = [. . . X. . .] ثم {X,Y} . في الواقع، الدمج الداخلي (X,Y) = {X,Y} = {X, [. . . X . . .]} . هذا تحول. في الواقع، النوعان المحتملان من الدمج هما أخذ شيئين ووضعهما معا أو أخذ شيء واحد وأخذ جزء منه وإلصاقه على الحافة. هذه هي خاصية الإزاحة [أو الحركة] للغة الطبيعية، والتي توجد في كل مكان. لطالما اعتقدت [حتى وقت قريب] أن الإزاحة كانت نوعا من النقص الغريب في اللغة، مقارنة بالدمج أو التسلسل ؛ لكن هذا مجرد خطأ. كدمج داخلي، يأتي تلقائيا، ما لم تحظره.

لهذا السبب تستخدم اللغة هذا الجهاز لكل أنواع الأشياء. إنه يأتي "مجانيا". بافتراض ذلك، يمكنك طرح السؤال، "كيف يتم استخدام هذين النوعين من الدمج؟" وهنا تنظر إلى الواجهة الدلالية ؛ هذا هو الشيء الطبيعي. هناك اختلافات كبيرة. يتم استخدام الدمج الخارجي، بشكل أساسي، لمنحك الحجة. يتم استخدام الدمج الداخلي بشكل أساسي لتزويدك بالمعلومات المتعلقة بالخطاب، مثل التركيز والموضوع والمعلومات الجديدة وكل هذا النوع من الأشياء التي تتعلق بحالة الخطاب. حسنا، هذا ليس مثاليا، لكنه قريب بما يكفي بحيث حقيقي؛ وإذا تمكنا من اكتشافه أو فهمه جيدا بما يكفي، فسنجد أنه مثالي.

افترض [الآن] أنك تخترع لغة رسمية. ليس لها خصائص متعلقة بالخطاب. لذلك أنت فقط تستخدم الدمج الخارجي. أنت تضع قيدا على الأنظمة - في الواقع، لا تستخدم الدمج الداخلي. وبعد ذلك تحصل، بشكل فعال، على بنية الحجة فقط. الآن، من المثير للاهتمام أنه إذا أعطتنا هذه الأنظمة خصائص النطاق، فإنها تفعل ذلك بطرق معينة، والتي تصادف أنها تشبه اللغة الطبيعية إلى حد ما. لذلك إذا كنت تدرس، على سبيل المثال، المنطق الكمي للطلاب الجامعيين، فإن أسهل طريقة للقيام بذلك هي استخدام نظرية القياس الكمي القياسية - تضع المتغيرات في الخارج وتستخدم الأقواس، وهكذا دواليك. حسنا، نحن نعلم جيدا أن هناك طرقا أخرى للقيام بذلك - منطق بدون متغيرات، كما هو معروف منذ كاري (1930 ؛ كاري وفايس 1958).

ولها كل الخصائص الصحيحة. لكن من الصعب جدا تدريسها. يمكنك أن تتعلمها بعد أن تعلمتها بالترميز العادي. لا أعتقد أن أي شخص حاول - وأعتقد أنه سيكون من الصعب للغاية - القيام بذلك بالطريقة الأخرى، لتعليم نظام كاري ثم انتهى الأمر بإظهار أنه يمكنك أيضا القيام بذلك بهذه الطريقة الأخرى. لكن لماذا؟ إنهم متكافئون منطقيا، بعد كل شيء. أظن أن السبب هو أن الطريقة القياسية لها العديد من خصائص اللغة الطبيعية. في اللغة الطبيعية، أنت تستخدم خصائص الحافة للنطاق ؛ وتقوم بذلك من خلال الدمج الداخلي. لا تحتوي اللغات الرسمية على دمج داخلي ؛ لكن يجب أن يكون لديهم شيء سيتم تفسيره على أنه نطاق. لذا فأنت تستخدم نفس الجهاز الذي تستخدمه بلغة طبيعية: تضعه في الخارج مع المتغيرات المقيدة، وما إلى ذلك.

هذه هي الأشياء التي تتدفق فقط من وجود نظام به دمج بداخلك ؛ وربما ينطبق الأمر نفسه على الموسيقى والعديد من الأشياء الأخرى. لقد حصلنا على هذه القدرة التي أتت وتعطينا خيارات غير عادية للتخطيط والتفسير والتفكير وما إلى ذلك. ويبدأ في تغذية كل شيء آخر. لقد حصلت على هذه الثورة الثقافية الهائلة، والتي كانت مدهشة للغاية، ربما قبل حوالي ستين أو سبعين ألف سنة. في كل مكان يوجد فيه البشر، يحدث في الأساس نفس الشيء.

الآن، ربما في أستراليا ليس لديهم علم الحساب ؛فلغة ورلبيري، على سبيل المثال، لا تسلك نفس السلوك. لكن لديهم أنظمة قرابة معقدة، كما أشار كين هيل، لها الكثير من خصائص الأنظمة الرياضية. يبدو أن الدمج موجود في العقل، حيث يعمل على حل مشاكل رسمية مثيرة للاهتمام: ليس لديك علم الحساب، و لذلك لديك أنظمة قرابة معقدة.

جيمس ماكجيلفراي: يشير ذلك إلى إمكانية بناء علوم طبيعية على الأقل - وهذا ما جاء أيضا مع الدمج أيضا.

نعوم تشومسكي: لقد نجحت، لقد بدأت على الفور. في هذه الفترة تبدأ في العثور عليه - وهنا لدينا أدلة أحفورية وأدلة أثرية لتسجيل الأحداث الطبيعية، مثل دورات القمر، وأشياء من هذا القبيل. يبدأ الناس في ملاحظة ما يجري في العالم ومحاولة تفسير ما يجري. وبعد ذلك يدخلون في طقوس ونحوها. استمر العمل على هذا النحو لفترة طويلة.

إن ما نسميه العلم [أي العلوم الطبيعية ذات النظريات الرسمية الصريحة والافتراض بأن ما يصفونه يجب أن يؤخذ على محمل الجد، أو اعتباره "حقيقيا" هو حديث للغاية وضيق للغاية. قضى جاليليو وقتا طويلاً في محاولة إقناع مموليه - الأرستقراطيين - بأن هناك فائدة من دراسة شيء مثل كرة تتدحرج على مستوى مائل عديم الاحتكاك. "من يهتم بذلك؟ هناك كل أنواع الأشياء الممتعة التي تحدث في العالم. ماذا لديك لتقوله عن زراعة الزهور؟ التي من شأنها أن تكون مثيرة للاهتمام؛ أخبرني عن ذلك ". لم يكن لدى العالم غاليليو ما يقوله عن زراعة الأزهار. بدلا من ذلك، كان عليه أن يحاول إقناع مموليه بأن هناك نقطة ما على درجة من الأهمية في دراسة تجربة لم يستطع حتى إجراؤها - نصف التجارب التي وصفها غاليليو كانت تجارب فكرية، ووصفها كما لو كان قد نفذها، ولكن تبين لاحقا أنه لا يستطيع ذلك. . إن فكرة عدم النظر إلى العالم على أنه معقد للغاية، ومحاولة تضييقه إلى جزء مصطنع من العالم يمكنك في الواقع التحقيق فيه بعمق وربما حتى تعلم بعض المبادئ حوله التي من شأنها أن تساعدك على فهم أشياء أخرى [ما قد نفكر في العلم البحت، العلم الذي يهدف إلى الهياكل الأساسية، بغض النظر عن التطبيقات] - هذه خطوة كبيرة في العلوم، وفي الواقع، لم يتم اتخاذها إلا مؤخرا. أقنع جاليليو بعض الناس أن هناك هذه القوانين التي يجب عليك حفظها. لكن في عصره كانت لا تزال تستخدم كأجهزة حساب ؛ لقد قدموا طرقا لبناء الأشياء وما شابه. لم يتم الاعتراف بالفيزياء النظرية حتى القرن العشرين كمجال شرعي في حد ذاته. على سبيل المثال، حاول بولتزمان طوال حياته إقناع الناس بأخذ الذرات والجزيئات على محمل الجد، وليس مجرد التفكير فيها كأجهزة حساب ؛ ولم ينجح. حتى العلماء العظماء، على سبيل المثال، بوانكاريه - أحد أعظم علماء القرن العشرين - سخروا منه. [أولئك الذين ضحكوا] كانوا تحت تأثير ماشيان [إرنست ماخ]: إذا كنت لا تستطيع رؤيتها، فالمسها. . . [لا يمكنك أن تأخذ الأمر على محمل الجد] ؛ لذلك لديك طريقة للحساب. انتحر بولتزمان في الواقع - جزئيا، على ما يبدو، بسبب عدم قدرته على جعل أي شخص يأخذه على محمل الجد. وهذا شيء رهيب ومن المفارقات أنه فعل ذلك في عام 1905، وهو العام الذي صدرت فيه ورقة بحث آينشتاين البراونية، وبدأ الجميع يأخذها على محمل الجد. لتستمر الحكاية.

لقد كنتُ مهتما بتاريخ الكيمياء. في عشرينيات القرن الماضي، عندما ولدت - لذا لم يكن الأمر بعيدا جدا - كان العلماء البارزون قد سخروا من فكرة أخذ أي من هذا على محمل الجد، بما في ذلك الكيميائيين الحائزين على جائزة نوبل. لقد فكروا في [الذرات وغيرها من "الأجهزة"] على أنها طرق لحساب نتائج التجارب. لا يمكن أخذ الذرات على محمل الجد، لأن ليس لديهم تفسير مادي، وهو ما لم يفعلوه. حسنا، اتضح أن الفيزياء في ذلك الوقت كانت غير كافية على الإطلاق ؛ كان عليك مراجعة الفيزياء بشكل جذري لتوحيدها ودمجها مع كيمياء غير متغيرة.

ولكن حتى بعد ذلك بوقت طويل، حتى بعد بولينج، لا تزال الكيمياء بالنسبة للكثيرين مادة وصفية في الغالب. ألق نظرة على نص الدراسات العليا في الكيمياء النظرية. إنه لا يحاول حقا تقديمه كموضوع موحد. تحصل على أنواع نظرية مختلفة من النماذج لأنواع مختلفة من المواقف. إذا نظرت إلى المقالات في المجلات التقنية، مثل، على سبيل المثال، مجلة العلوم أو مجلة الطبيعة، فمعظمها وصفية للغاية ؛ يختارون حواف الموضوع، أو شيء من هذا القبيل ويتحدثون عنه. وإذا خرجت عن العلوم الطبيعية الصلبة، فإن فكرة أنه يجب عليك بالفعل إنشاء مواقف مصطنعة في محاولة لفهم العالم - حسنا، هذا يعتبر إما غريبا أو مجنونا. خذ اللغويات. إذا كنت ترغب في الحصول على منحة، فما تقوله هو "أريد أن أتخصص في اللسانيات البحتة " - اجمع كتلة ضخمة من البيانات وألقِ بها جهاز كمبيوتر، وربما سيحدث شيء ما. تم التخلي عن ذلك في العلوم الأساسية الصعبة منذ قرون. لم يكن لدى جاليليو شك في الحاجة إلى التركيز والمثالية عند بناء نظرية.

علاوة على ذلك، [في] الحديث عن القدرة على ممارسة العلوم [في صيغتنا التي تم ممارستها مؤخرا، عليك أن تضع في اعتبارك] أنها ليست حديثة جدا، إنها محدودة للغاية. على سبيل المثال، لا ينتحر الفيزيائيون بسبب حقيقة أنهم لا يستطيعون العثور على 90٪ مما يعتقدون أن الكون يتكون من [المادة المظلمة والطاقة المظلمة]. في . . . [إصدار حديث] من مجلة العلوم، أبلغوا عن فشل أكثر التقنيات تطورا حتى الآن، والتي كانوا يأملون أن تجد [بعض] الجسيمات التي يعتقدون أنها تشكل مادة مظلمة. هذا، لنقل، 90٪ من الكون الذي فشلوا في العثور عليه ؛ لذلك نحن ما زلنا في الظلام حول 90٪ من المادة في الكون. حسنا، تعتبر هذه مشكلة علمية في الفيزياء، وليست نهاية المجال. في اللغويات، إذا كنت تدرس لغة ورلبيري أو شيء من هذا القبيل،

ولا يمكنك فهم 50 بالمائة من البيانات، فهذا يعني أنك لا تعرف ما الذي تتحدث عنه.

كيف يمكنك فهم شيء معقد للغاية؟ إذا كنت تستطيع فهم جزء منه، فهذا مذهل. وهو نفس الشيء إلى حد كبير في جميع المجالات. إن نظام التواصل مع الحيوانات الذي يبدو أنه يحتوي على نوع من التعقيد أو التعقيد حيث قد تعتقد أنه يمكنك تعلم شيء عنه من [ما نعرفه عن] اللغات الطبيعية هو النحل. لديهم نظام اتصال معقد للغاية، وكما تعلمون بوضوح، لا توجد علاقة تطورية بالبشر. لكن من المثير للاهتمام أن ننظر إلى علامات النحل. إنه أمر محير للغاية. اتضح أن هناك المئات من أنواع النحل - نحل العسل، نحل لاذع، إلخ. إن أنظمة الاتصال مبعثرة بينهم - بعضهم لديه، والبعض الآخر ليس كذلك ؛ بعضهم له كميات مختلفة ؛ بعض استخدام الشاشات، والبعض الآخر يستخدم الخفقان. . . لكن يبدو أن جميع الأنواع تتفهم أيضًا. لذلك من الصعب نوعا ما معرفة الميزة الانتقائية [لنظام اتصالات النحل]. ولا يوجد شيء معروف تقريبًا عن طبيعته الأساسية. تطورها معقد. بالكاد تمت دراستها - هناك [فقط] أوراق قليلة. حتى الفيزيولوجيا العصبية الأساسية لذلك غامضة للغاية. كنت أقرأ بعض أحدث المراجعات حول علم النحل. هناك دراسات وصفية جيدة جدا - تم الإبلاغ عن جميع أنواع الأشياء المجنونة. لكن لا يمكنك حقا العمل على الفسيولوجيا العصبية الأساسية، والتطور يكاد يكون بعيدًا عن التحقيق، على الرغم من أنه موضوع مثالي - مئات الأنواع، فترة حمل قصيرة، يمكنك القيام بأي تجربة تريدها، وهكذا دواليك. من ناحية أخرى، إذا قارنت الأدبيات حول تطور تواصل النحل بالأدبيات مثل تطور اللغة البشرية، فهذا سخيف. هناك مكتبات حول تطور اللغة البشرية. بينما هناك عدد فليل من الكتب حول تطور اتصالات النحل، و هناك عدد قليل من الكتب المدرسية والأوراق التقنية المتناثرة. وهو موضوع أسهل بكثير. يجب أن يكون تطور اللغة البشرية من أصعب الموضوعات التي يجب دراستها. ومع ذلك، نشعر بطريقة ما أنه يتعين علينا فهمه، أو لا يمكننا المضي قدما. إنه نهج غير عقلاني للغاية للتحقيق.

***

....................

المصدر:

Language, function, communication: language and the use of language

JAMES MCGILVRAY interviews Noam Chomsky

The Science of Language, Interviews with James McGilvray

Edited by Noam Chomsky and James Mcgilvray, © Noam Chomsky and James McGilvray2012, Cambridge University Press, UK.

* الكلمة مسئولية، خاصة إذا كان هناك مَن يستمع لك وينصت

* هناك تقاعس واضح جدّاً من قِبل الصفّ الأوّل من الأطباء تجاه زملائهم ممّن يَبدؤون خطواتهم الأولى في حياتهم العملية

* المصوّر البارع: هو مَن يرى بإحساسه قبل أن يرى بعينه

* تعوّدت أن أصوّر بعدسة كاميرتي كل ما يخطف كلمة (الله) من الأفواه، ويرسم على الشفاه ابتسامة من القلب

* الشرّ في الإنسان ليس مطلقاً، بل هناك دائماً جانب من الخير

* لو تركْتُ لقلمي العنان لكتبْت أكثر من عشرين فائدة للسفر والترحال

***

الموهبة كنز ثمين؛ فبينما يعيش المرء عمرا واحدا، إذ بها تمنح صاحبها عمرا إضافيا ليعيش مرّتيْن، وصاحب الموهبتيْن يعيش ثلاثا، ويضاعف الله لمَن يشاء.. وصديقنا الجميل، طبيب نابغ، يحمل في جعبته سلّة مواهب، ذريّة بعضها من بعض؛ فبعدسة محترف يصوّر كل بديع تقع عينُه عليه، وبريشة فنان يرسم وجوه البشر مستنطِقًا ما فيها من أصالة وإنسانية، إضافة إلى حضور إعلامي بارز عبر وسائل التواصل يبثّه مادّة تثقيفية زاخرة بكلّ نافع ومفيد وسط ركامٍ من الغثّ بلغ الزُّبى في هذا الفضاء المُترامي! ومن خلال أسفار ٍجاب فيها الأقطار، وطِبٍّ سبر فيه الأغوار؛ تجمّعت لديه فيضا من القصص والحكايا نقلها بخفّة دم يُحسد عليها في كتاب ينبض بروح الفكاهة وإن زاحمت فيه العامية الفصحى على غير رغبة سيبويْه. وقد وُلد عام 1966، وتخرّج في كلية الطب بجامعة الاسكندرية العريقة، وتحصّل على درجة الماجستير ثمّ الزمالة البريطانية في تخصُّص الأشعة، ومنذ ربع قرن لبس جلباب الاغتراب الفضفاض ولا زال يعمل استشاريا بالمملكة العربية السعودية. وعبر صفحته العامرة بآلاف المتابعين والمعجَبين على الفيسبوك، كان التعارف والصداقة ومن ثمّ هذا الحوار العفوي الماتع..

1- أين ذهب القلم الذي سطّرتم به كتابكم الوحيد (حكاوي الطبيب) قبل ست سنوات؟

- القلم موجود، والشغف موجود، والأوراق موجودة، وفكرة ثلاثة كتب موجودة، وقصصها موجودة..لكن المشكلة تكمن في وجودي بالسعودية معظم أوقات السنة بحكم عملي، وهذا ما يجعلني بعيداً عن التواصل مع دور نشر مصرية، حيث إن معظم كتاباتي مزيج بين الفصحى والعامية المصرية التي يصعب معها عرض أعمالي على دور نشر سعودية .. لكن إن شاء الله في الأيام القليلة القادمة، سأفتح قنوات من التواصل مع أكثر من دار نشر مصرية عن طريق التواصل عبر الإنترنت .. فلم يبق لي خيار آخر غيره!

٢- ‏مليارات يحملون في أيديهم جوالات بكاميرات عالية التقنية، ويلتقطون آلاف الصور كل فيمتو ثانية، هل يعني هذا أنهم مصوّرون؟

- الجوّالات ذات الكاميرات العالية التقنية، أو حتى كاميرات التصوير الاحترافية ذات العدسات المتغيّرة، تأتي في مرحلة لاحقة في تحديد جودة الصورة بعد فكرة الصورة في المقام الأوّل، يليها الإلمام الكامل بأساسيات التصوير، ثم بعد ذلك تأتي جودة الكاميرات في تحديد جودة الصورة.. فليس كل من تملّك كاميرات عالية الدقة بالضرورة يكون قادراً على تصوير صورة ذات جودة عالية، تماماً مثل الذي يملك أغلى سيارة في العالم، لكنه لا يحسن القيادة! فالمصوّر البارع: هو مَن يرى بإحساسه قبل أن يرى بعينه، فيجعل من أشياء عادية وأقلّ من العادية أمام أعين الناس، شيئاً ذا قيمة عالية عندما يراها هو بعينه! والمصوّر يمكنه أن يرى بكل وضوح كل تفاصيل الصورة في خياله، قبل أن تترجمه كاميرته لصورة يراها الناس! ولعل أًدق وأصدق ما قيل في وصف المصوّر البارع وصفاته، هو ما سطّرته أنامل الكاتبة السورية غادة السمان عندما قالت: (المصوّر إنسان نادر، له أنامل نشّال، وعينا قطّ برّي، وذاكرة جاسوس، وطُموح مؤرّخ، ورؤيا شاعر، ومعدات فلكي، وصبر باحثٍ في مختبر، وجرأة فدائي!).

٣- في عالمنا النامي أو النايم الذي يعشّش فيه القبح، هل من جمالٍ تسلّط عليه عدستك وتعكس على مرآتك صورتَه؟

الباحث عن الجمال لا يجد إلّا جمالاً، والذي لا ترى عيناه سوى القبح لا يمكن أن يعكس شيئاً جميلا! هذا ديدني في الحياة، البحث عن كل ما يغذّي الروح من مواطن الجمال في كل شيء أقدّمه لمختلف المتابعين على اختلاف صورهم. لمتابِعي أعمالي الفوتوغرافية: تعوّدت أن أصوّر بعدسة كاميرتي كل ما يخطف كلمة (الله) من الأفواه، ويرسم على الشفاه ابتسامة من القلب! ولمتابعي كتاباتي: تعوّدت أن تصطبغ قصصي بنوع من الفكاهة حتى وإن كانت في بعض الأحيان فكاهة سوداء بلون ما نعيشه من مآسٍ في الحياة! ولمتابعي محاضراتي: تعوّدت أن تكون المادة العلمية التي أقدّمها، مختلِطة بمواقف مرحة، تثبّت المعلومة وتجعل من تَلقّي العلم شيئاً ممتعا! لا أنسى في أثناء مناقشة رسالتي للماجستير في كلية طب عين شمس، قوْل الطبيب المناقش عندما وجدني منذ بدء المناقشة والابتسامة لم تفارق شفتاي: إياك وأن تفقد ابتسامتك تلك فسوف تفتح لك الكثير من الأبواب المغلقة. ويكفي هنا قول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، في حديثه الشريف الذي أخرجه مسلم (إنّ الله جميل يحب الجمال).

٤- ‏ما الذي رصدتَه في وجوه البشر من سحر وجعلك تحصر ريشتَك في رسمها؟

- لا يوجد شخص سيّء بالفطرة ولا شرّير بالفطرة ولا أناني بالفطرة ولا ظالم بالفطرة ولا كاذب بالفطرة؛ فقد فُطر الإنسان على السلامة والاستقامة، لكنها الظروف التي تغيّر النفوس من الخير إلى الشرّ! والشرّ في الإنسان ليس مطلقاً، بل هناك دائماً جانب من الخير يقبع في جزء منه قد يكون خافياً عنه، وهذا ما أراهن عليه دوماً .. البحث عن هذا الجزء حتى أخرجه من مخدعه وحتى يكون هو المسيطِر بعد ذلك على تصرّفات المرء! هذا السؤال يمكنه أن يكون ملخصاً لـ (رسالتي) في الحياة: عمل الخير والدعوة إليه بلا كلل ولا ملل، سواءً في إبراز الجانب الإنساني في كلّ ما أقدمه من حلقات (قهوة الصباح) على قناتي على اليوتيوب! أو في محاضراتي التي جعلتها متاحة لكل من أراد أن يستعين بها دون حتى إذن منّي، فهي صدقة جارية أسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتي! أو في كتاباتي التي أتبنّى فيها دائماً الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وإلى التمسّك بديننا الذي هو عصمة أمرنا، وإلى إبراز الجوانب التي يطغى فيها دائماً الخير على الشرّ!

٥- ‏هل من علاقة ثنائية تبادلية بين التصوير والرسم من جهة، وتخصصك الطبي في الأشعة من جهة ثانية؟

- القاسم المشترَك بينهما هو القدرة على التخيّل؛ تخصّصي كطبيب أشعة، وربط المعطَيات في صورة الأشعة بالتشخيص الطبي السليم، يقارب إلى حدّ ما التصوير والرسم ومن قدرتك على جعل الخيال حقيقة دامغة تستطيع أن تراها بعينك بعد أن كانت حبيسة مخيّلتك!

٦- ‏ انطلاقا من مقولة الإمام الشافعي الشهيرة، ما الفوائد الخمس التي جنيتَها من وراء سفرٍ تعشقه وترحالٍ تهواه؟

- لو تركْت لقلمي العنان لكتبْت أكثر من عشرين فائدة للسفر والترحال، لكني سألتزم بخمس فوائد كما قال الإمام الشافعي؛ الفائدة الأولى: اكتساب المزيد من الثقافات: فقبل رحلتي لأي بلد، أقوم جيداً بقراءة تاريخها وجغرافيتها وعادات أهلها وأفضل الأماكن للزيارة، ورؤية أجمل ما فيها على الإنترنت قبل أن تطأها قدماي، حتى تتكون داخلي صورة كاملة وافية عن كل ما يمت لها بصلة قبل قدومي إليها، ولتكن رحلتي لها قد حقّقت الاستفادة القصوى منها. الفائدة الثانية: اكتشاف المجهول: مهما قرأت عن أي بلد قبل أن تزرها، حتماً ولا بد، سيفاجئك الكثير ممّا لم تعرفه عنها سابقاً بعد أن تصل إليها وتقضي عدة أيامٍ فيها.. اكتشاف المجهول متعة لا تعادلها متعة أخرى! الفائدة الثالثة: فهْم الآخَر: فائدة من أجمل فوائد السفر، هو تحاورك وتعرُّفك على (الآخر) من أبناء هذا البلد، ولعل أكبر مثال على هذا هو علاقتي بسائق روسي بسيط جداً، كان يصاحبني طيلة فترة وجودي في روسيا، لم يكن يتكلم سوى اللغة الروسية فقط! وأنا لا علم لي بأي حرف من حروف لغته! ومع ذلك نجحنا في إيجاد (لغة) مشتركة بيني وبينه طيلة أيام رحلتي وفي إقامة علاقة متفردة جميلة قدّمتها في حلقة كاملة على قناتي على اليوتيوب (كيف تكسب الآخر (فاليري)، وما زالت علاقتنا الطيبة الجميلة مستمرة حتى الآن بعد مضي ما يقارب أربع سنوات! الفائدة الرابعة: هي بالطبع فائدة خاصة بالتصوير، فقل السفر لأي بلدٍ من البلاد، أقوم برؤية كل ما تم تصويره عنها في مختلف مواقع التصوير، حتى أستطيع رسم فكرة كاملة عن الأماكن التي سوف أذهب إليها لتصويرها واختيار أفضل الأماكن لوضع الكاميرا وكذلك اختيار زاوية التصوير المناسبة، واختيار العدسة المناسبة لكل منظر يتم تصويره. الفائدة الخامسة: كسب هوايات جديدة؛ فالهوايات هي من تجمل الحياة، بعيداً عن العمل الاحترافي الذي لا بد منه ليعين الفرد على أعباء الحياة، والسفر إلى بلاد مختلفة يخلق هوايات جديدة ومختلفة، أستمدها من ثقافات تلك البلاد، مما يضيف للحياة نوعاً آخر من السعادة والمتعة.

٧- ‏عبر احتكاكك بأكثر من نظام صحي، ما ملامح النظام الصحي الأمثل الذي يُرضي طرفَي المعادلة: الطبيب والمريض؟

- النظام الصحي الأمثل لكلٍّ من الطبيب والمريض، هو النظام الذي يحفظ لهما كرامتهما بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. بالنسبة للطبيب: بمساعدته على أن يكون في أفضل حالٍ يمكّنه من خدمة المريض بصورة صحيحة، وهذا الحال يشمل راتبا محترما يكفيه ويغنيه عن العمل ساعات إضافية خارج المنظومة الحكومية، وتزويده على الدوام بكل الجديد في الطب من أجهزة تساعده على سرعة التشخيص وسرعة العلاج، وتدريبه بصورة مستمرة بطريقة عملية ونظرية من خلال إقامة مؤتمرات وورش عمل يمكنه فيها من التدرّب على كل جديد في تخصصه! وبالنسبة للمريض: بألا يشعر في يوم بأي قلق إذا ما اعتلت صحته عبر توفير منظومة تأمين صحي تشمل كل ما يتعرض له من أمراض، ابتداءً من تشخيصه وانتهاءً بعلاجه حتى لو تكلّف علاجه ملايين الجنيهات . لا يوجد في الدنيا شيء أغلى من صحة الإنسان، ولا يوجد للأسف الآن في مجتمعاتنا أقسى من خوف أحدهم أن يصيبه مرض لا يملك وقتها المال الكافي للتعافي والشفاء منه!

٨- ‏عن سلبيات الاغتراب يثرثر الغرباء كثيرا، ولكن ماذا عن الإيجابيات؟

- السلبية الوحيدة للاغتراب عن موطنك هي مفارقة أصدقائك وأحبابك وأهلك وأماكن نشأتك وذكرياتك في شوارعها وحواريها، لكن على الجانب الآخر، فالأرض كلها أرض الله، والرزق يكتبه الله لنا في أي مكانٍ من مشرق الأرض إلى مغربها، وما علينا إلا البحث عنها كما أمرنا الله سبحانه وتعالى. لذلك، مع الوقت، تدرك الكثير من الإيجابيات للاغتراب أهمها إصلاح حالك المادي والوظيفي والمعلوماتي والخبراتي والتعليمي، ويضاف عليها كل ما ذكرته سابقاً من فوائد السفر والترحال التي لا تحصى ولا تعد ..ويبقى الوطن في حقيبة يدك ممثَّلاً في (جواز السفر)، حيث يمكنك أن تزوره وتجتر ذكرياتك فيه مرة أخرى في أي وقت شئت، ووقتها ستشعر بجمالٍ من نوع آخر قد لا تستشعره إذا كُتب عليك عدم مفارقة الوطن، ألا وهو جمال الإحساس بالذكريات التي ابتعدت عنها، والتي لن تشعر بها بالطبع إذا لم تبرح أماكن الذكريات بالفعل!

٩- ‏ ما اليقظة التي تهدف إليها من وراء ارتشافك قهوة الصباح مع آلاف من متابعيك صباح كل جمعة؟

- قهوة الصباح التي أرتشفها مع أصدقائي على صفحتي في الفيس بوك، وعلى قناتي على اليوتيوب صباح كل جمعة، قد تكون هي المحطة الأهم التي أتوقف فيها أسبوعياً لأجتمع مع أرقى صحبة شرفت بالتعرف عليهم، حتى لو وصل عددهم لآلافٍ من الأصدقاء المحترمين الذين أحرص وبكل اهتمام على اختيار المواضيع التي تناسب أذواقهم المحترمة الراقية، من مواضيع تاريخية أو سياسية أو اجتماعية أو دينية أو ثقافية، أو للتشاور حول بعض المشكلات الحياتية، والتي أستمتع وأنا أقدّمها لهم بهذا الكم من التعليقات التي يضيف كل تعليق لي منها المزيد والمزيد من المعلومات المختلفة في شتى مناحي الحياة.

١٠- ‏كناشط إعلامي عبر وسائل التواصل، ما أبرز العلل التي يعجّ بها هذا القطاع البالغ التأثير في تشكيل الوعي؟

- للأسف، انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي في زمننا هذا بصورة أصبحت متاحة ومباحة ومستباحة من كل من يملك جوالا بحفنة جنيهات، وأصبح للأسف الشديد أيضاً معظم ما يُعرض الآن ويجذب الانتباه هو كلّ ما يلعب على وتر الإثارة بكافة أنواعها، وأصبح غول المكسب السريع من أي شيء - حتى ولو كان فاسدا ومفسدا للمجتمع- هو الهدف من كل صاحب محتوى هشّ مبتذَل رخيص لا يهمه في المقام الأوّل والأخير سوى جذب أكبر عدد من المتابعين بأي صورة حتى لو كانت كما نرى مدمّرة للأخلاق وبصورة تتعارض مع قيمنا ومثلنا العليا النبيلة. لذلك أصبح الوضع أكثر صعوبة على صاحب كل محتوى محترم يهمه نشر الوعي وتذكير الناس دوماً بمكارم الأخلاق، ولكن حتى لو خبا صوته بين إزعاج الأصوات الأخرى، لا يجب عليه الاستسلام أبداً، فالموضوع أصبح بمثابة أمانة، سوف يسأله الله عنها، إذا ما تقاعس عن نشرها.

١١- برأيكم، هل يؤدي الصفّ الأوّل من الأطباء واجبهم التعليمي تجاه زملائهم في أوّل درجات السلّم كما ينبغي؟

- للأسف الشديد، هناك تقاعس واضح جداً من قبل الصف الأوّل من الأطباء تجاه زملائهم ممن يبدؤون خطواتهم الأولى في حياتهم العملية، وفي أمس الحاجة لمن ينير لهم أول الطريق حتى لا تتشعب بهم الطرق ويصبح طريق عودتهم لجادة الصواب أمرا في غاية الصعوبة إذا ما تراكمت عليه الأيام . هؤلاء الأطباء المتقاعسون سواء بقصدٍ أو بدون قصد، في حاجة لتذكيرهم بأن تلك أمانة يجب عليهم أن ينقلوها لمن يأتي بعدهم، ويجب أن نذكّرهم بحديث رسولنا الكريم "خيركم من تعلّم العلم وعلمه". وبتحذيرهم من مغبّة كتم علمهم حتى لا ينطبق عليهم قول رسولنا الكريم «مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يوم القيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ». لذلك، وعلى المستوى الشخصي، فقد خصصت قائمة تشغيل على قناتي على اليوتيوب، لشباب أطباء الأشعة ممن هم في مقتبل حياتهم العملية، أقدم لهم محاضرات مختلفة في كافة فروع التشخيص بالأشعة، والحمد لله المشتركون عليها من أطباء الأشعة في كافة الوطن العربي قد تعدوا الآلاف.

١٢- ميدان الفن بمدلوله العام، واسع ومتشعّب وعميق الأثر، باعتقادكم، كيف يمكننا تسخيره لخدمة الحياة دون الوقوع في محاذير شرعية؟

- هذه نقطة في قمّة الأهمية وقمة المسئولية؛ فالكلمة مسئولية، خاصة إذا كان هناك من يستمع لك وينصت، فقد تصعد بك تلك الكلمة إلى أعلى الجنان، وقد تهبط بك إلى ما لا يتمناه المرء بالقطع. وكما أن هناك حسنات جارية تضاف إلى صحيفتك بعد موتك، فهناك أيضاً سيئات جارية قد تثقل كتابك يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، فتتفاجأ بذنوب لم تقترفها في حياتك، لكنها الكلمة غير المسئولة، والبدعة السيئة التي اتبعك فيها الكثيرون بعد موتك، فأثقلت كتابك حتى طغت ذنوبك فوق حسناتك والعياذ بالله!

والفن أكبر مثال لهذا، فمنه الحرام الذي نهانا عنه صراحة ديننا الحنيف، ومنه الذي يغذّي الروح دون الوقوع في محاذير الذنوب، نسأل الله جميعاً أن يلهمنا حسن اختيار الكلمة، وأن يجنّبنا الوقوع في الخطايا والذنوب ما ظهر منها وما بطن ... اللهم آمين

***

د. منير لطفي

أُجري الحوار في مايو 2023م

 

عن النظرية الرسمية للغة وتكييفها مع علم الأحياء؛ الطبيعة المميزة للمفاهيم البشرية

حوار مع العالم اللغوي نعوم تشومسكي

أجرى الحوار: جيمس ماكجيلفراي

ترجم اللقاء: محمد عبد الكريم يوسف

 ***

جيمس ماكجيلفراي: دعني أتابع بعض هذه النقاط التي طرحتها من خلال طرح سؤال مختلف عليك. لقد قمت، في عملك في الخمسينيات من القرن الماضي، بتحويل دراسة اللغة بشكل فعال إلى علم رياضي رسمي - ليس علما رياضيا، بالطبع، بالطريقة التي تكون بها أنظمة ماركوف رياضية، ولكن من الواضح أنها علم رسمي حقق تقدما كبيرا للغاية. كانت بعض علامات هذا التقدم - خلال السنوات القليلة الماضية، على سبيل المثال - الإزالة المتتالية لجميع أنواع المصنوعات اليدوية للنظريات السابقة، مثل البنية العميقة، والبنية السطحية، وما شابه ذلك. علاوة على ذلك، أظهرت النظريات الحديثة قدرة ملحوظة على حل المشكلات الوصفية والتفسيرية على حد سواء. هناك زيادة كبيرة في درجة التبسيط. ويبدو أيضًا أن هناك بعض التقدم نحو علم الأحياء - ليس بالضرورة علم الأحياء كما يفهم عادةً من قبل الفلاسفة والعديد من الآخرين، كقصة تطورية انتقائية حول الإدخال التدريجي لهيكل معقد، ولكن علم الأحياء كما يفهمه أشخاص مثل ستيوارت كوفمان (1993) ودارسي طومسون (1917/1942/1992). أتساءل عما إذا كنت ستعلق على مدى تقدم هذا النوع من النهج الرياضي.

نعوم تشومسكي: منذ أن بدأ هذا العمل في أوائل الخمسينيات - اثنان أو ثلاثة طلاب، إريك لينبيرج، أنا، موريس هال، على ما يبدو لا أحد آخر - كان الموضوع الذي كنا مهتمين به، كيف يمكنك استخدام هذا في علم الأحياء؟ كانت الفكرة غريبة للغاية، ولم يتحدث عنها أحد. جزء من السبب هو أن علم السلوك كان لطيفا. . .

جيمس ماكجيلفراي: معذرة. هل كان هذا العمل [وضع نظرية اللغة في علم الأحياء] دافعا منذ البداية؟

نعوم تشومسكي: بالتأكيد: بدأنا في قراءة علم الأخلاق، لورينز، تينبرغن، وعلم النفس المقارن ؛ أصبحت تلك الأشياء معروفة في الولايات المتحدة. كان التقليد الأمريكي سلوكا وصفيا صارما. أصبح علماء الحيوان المقارن الألمان والهولنديون متاحين للتو ؛ في الواقع، كان الكثير مما ندرسه باللغة الألمانية. كنا مهتمين، وبدا أن هذا هو المكان الذي يجب أن يتجه علم اللغة. كانت الفكرة غريبة جدا لدرجة أن لا أحد يتحدث عنها عمليا حول هذا الموضوع، باستثناء قلة منا. لكنها كانت بداية عمل إيريك لينبيرج. هذا هو المكان الذي بدأ فيه كل هذا حقا.

كانت المشكلة أنه بمجرد محاولتك النظر إلى اللغة بعناية، سترى أنه من الناحية العملية لم يكن هناك شيء معروف. عليك أن تتذكر أن معظم اللغويين افترضوا في ذلك الوقت أن كل شيء تقريبا في هذا المجال كان معروفا. كان الموضوع الشائع عندما تحدث طلاب الدراسات العليا في علم اللغة مع بعضهم البعض هو: ماذا سنفعل عندما يكون هناك تحليل صوتي لكل لغة؟ من الواضح أن هذه عملية إنهاء. ربما يمكنك إجراء تحليل صرفي، لكن هذا ينتهي أيضا. وكان من المفترض أيضا أن اللغات متنوعة جدا لدرجة أنك لن تجد أي شيء عام. في الواقع، تم العثور على أحد الانحرافات القليلة عن ذلك في السمات المميزة لأسلوب براغ: قد تكون السمات المميزة عالمية، لذلك ربما يكون أكثر من ذلك بكثير عالميا. إذا كانت اللغة قائمة على أساس بيولوجي، فيجب أن تكون كذلك. ولكن بمجرد أن بدأنا في محاولة صياغة القواعد العالمية التي افترضتها مثل هذه الرؤية، أصبح من الواضح على الفور أننا لا نعرف أي شيء. بمجرد أن حاولنا إعطاء التعريفات الأولى للكلمات - ماذا تعني الكلمة؟ إلخ - لم يستغرق الأمر منا أكثر من خمس دقائق من التأمل الذاتي لندرك أن قاموس أكسفورد الإنجليزي لم يخبرنا بأي شيء. لذلك أصبح من الواضح على الفور أننا بدأنا من الصفر. كان السؤال الكبير الأول هو العثور على شيء ما حول ما يجري. وهذا نوعاً ما يعيدها إلى الوراء من مسألة كيف سنجيب على الأسئلة البيولوجية.

الآن، السؤال البيولوجي الأساسي هو: ما هي خصائص نظام اللغة الخاص به هذا ؟ كيف يختلف عن المشي، على سبيل المثال - ما هي الخصائص المحددة التي تجعل من النظام نظاما لغويا؟ لكن لا يمكنك الإجابة على هذا السؤال حتى تعرف شيئا عن ماهية النظام. ثم - مع محاولات تحديد ماهية النظام - تأتي توترات الكفاية الوصفية والتفسيرية. الضغط الوصفي - محاولة تقديم وصف لجميع اللغات الطبيعية الممكنة - جعلها [النظام] يبدو معقدا ومتنوعا للغاية ؛ لكن الحقيقة الواضحة حول الاكتساب هي أنه يجب أن تكون جميعها متماثلة بشكل أساسي. لذلك وقعنا تحت هذا التوتر.

بدأت مؤخرا في قراءة سجلات بعض المؤتمرات في الستينيات والسبعينيات. كان المشاركون في الغالب من علماء الأحياء الشباب الناشئين، وعدد قليل من علماء الفسيولوجيا العصبية، وبعض اللغويين، وعدد قليل من الآخرين. واستمرت هذه الأنواع من الأسئلة في الظهور - قد يقول أحدهم، حسنا، ما هي الخصائص المحددة لهذا النظام التي تجعله مختلفا عن الأنظمة الأخرى؟ وكل ما كان بإمكاننا فعله هو وضع قائمة بمجموعة معقدة من المبادئ التي تختلف تماما [عن بعضها البعض] ومعقدة جدا بحيث لا توجد طريقة يمكن تصورها لتطورها: لقد كان الأمر غير وارد تماما.

علاوة على ذلك، و بعيدا عن السؤال المقارن، هناك سؤال آخر يتربص بنا، وهو على حافة الهاوية حاليا في علم الأحياء - إنه السؤال الذي يهتم به كوفمان. هذا السؤال هو، لماذا تمتلك الأنظمة البيولوجية هذه الخصائص - لماذا هذه الخصائص، و لا خصائص أخرى؟ تم التعرف على أنها مشكلة في زمن داروين. أدرك توماس هكسلي ذلك - أنه سيكون هناك الكثير من أنواع الحياة المختلفة، بما في ذلك الأشكال البشرية ؛ ربما تسمح الطبيعة بطريقة ما للأنواع البشرية وبعض الأنواع الأخرى - ربما تفرض الطبيعة قيودا على أشكال الحياة الممكنة. ظلت هذه مشكلة هامشية في علم الأحياء: يجب أن تكون صحيحة، لكن من الصعب دراستها. كرس [آلان] تورينج (1992)، على سبيل المثال، جزءا كبيرا من حياته لعمله على التشكل. إنه بعض الأعمال الرئيسية التي قام بها - ليس فقط ذلك المتعلق بطبيعة الحساب - وكان محاولة لإظهار أنه إذا تمكنت من فهم أي شيء مهم حقا في علم الأحياء، فأنت تنتمي إلى قسم الكيمياء أو الفيزياء. هناك بعض الغايات السائبة التي تصادف أن يمتلكها قسم التاريخ - أي وجهات النظر الانتقائية للتطور. حتى الانتقاء الطبيعي - إنه مفهوم جيدا، وواضح من منطقه - حتى الانتقاء الطبيعي وحده لا يستطيع فعل أي شيء ؛ يجب أن تعمل ضمن نوع من القنوات الموصوفة من الاحتمالات الفيزيائية والكيميائية، ويجب أن تكون قناة مقيدة. لا يمكنك تحقيق أي نجاح بيولوجي ما لم تحدث أنواع معينة فقط من الأشياء، وليس أشياء أخرى. حسنًا، الآن هذا نوع من المفهوم للأشياء البدائية. لا أحد يعتقد، على سبيل المثال، أن الانقسام الفتيلي [عملية تكرار الحمض النووي الخلوي، مما يؤدي إلى الانقسام] يتم تحديده عن طريق الانتقاء الطبيعي إلى كرات وليس مكعبات. هناك أسباب مادية لذلك. أو لنأخذ، على سبيل المثال، استخدام متعددات الوجوه كمواد بناء - سواء كانت قذائف من الفيروسات، أو أقراص عسل النحل. الأسباب المادية لذلك مفهومة، لذلك لا تحتاج إلى أسباب انتقائية. السؤال هو، إلى أي مدى تذهب؟

الأسئلة الأساسية حول ما هو خاص باللغة لها علاقة فعلاً بالقضايا التي تتجاوز تلك المتعلقة بالكفاية التفسيرية [أي، التعامل مع مشكلة أفلاطون، أو شرح فقر الحقائق المحفزة لاكتساب اللغة]. لذا، إذا تمكنت من تحقيق كفاية تفسيرية - إذا كان بإمكانك أن تقول، "ها هي القواعد العامة [Universal Grammar]، قم بتغذية الخبرة بها، وستحصل على لغة - فهذه بداية في بيولوجيا اللغة، لكنها مجرد بداية. ستكون الخطوة التالية، حسنا، لماذا تمتلك القواعد العامة امتداد الخصائص التي لديها؟ هذا هو السؤال الأساسي. حسنا، احتمال واحد هو شيء واحد يأتي تلو الآخر - مجموعة من الحوادث التاريخية، الكويكبات التي تضرب الأرض، أو أي شيء آخر. في هذه الحالة، هو في الأساس غير قابل للتفسير ؛ انها ليست متجذرة في الطبيعة، ولكن في الصدفة والتاريخ. لكن هناك احتمال آخر، وهو ليس غير معقول، بالنظر إلى ما نعرفه عن التطور البشري. يبدو أن نظام اللغة تطور فجأة. إذا كان الأمر كذلك، يتم استبعاد عملية طويلة من الصدفة التاريخية، ويمكننا البدء في البحث عن تفسير في مكان آخر - ربما، كما يعتقد تورينج، في الكيمياء أو الفيزياء.

الصورة القياسية في علم الأحياء التطوري - سبب اعتقاد علماء الأحياء أن العثور على شيء مثالي لا معنى له - هو أنك تنظر إلى الأشياء على مدى فترة طويلة من التاريخ التطوري. وهناك، بالطبع، الكثير من الأمثلة لما يسميه فرانسوا جاكوب "خلق سلسلة من الأشياء من المواد المتوفرة"، أو ما نسميه الترقيع. في أي نقطة معينة، تبذل الطبيعة قصارى جهدها بما هو في متناول اليد. تحصل على مسارات في التطور تتعثر هنا وتذهب من هناك ولا تبدأ من جديد وتذهب إلى مكان آخر. وهكذا ينتهي بك الأمر إلى ما يبدو وكأنه أشياء معقدة للغاية كان من الممكن أن تقوم بها بشكل أفضل إذا أتيحت لك الفرصة لتصميمها منذ البداية. قد يكون ذلك لأننا لا نفهمهم. ربما كان تورينج على حق. ربما يصبحون بهذه الطريقة لأنهم مضطرون إلى ذلك. لكن على الأقل يكون من المنطقي الحصول على تلك الصورة إذا كان لديك تطور تطوري طويل. من ناحية أخرى، إذا حدث شيء ما بسرعة كبيرة، فليس من المنطقي أن تأخذ هذه الصورة على محمل الجد.

لفترة من الوقت، لم يكن يبدو كما لو أن تطور اللغة يمكن أن يحدث بسرعة كبيرة. كان النهج الوحيد الذي بدا أنه يعطي أي معنى للغة هو أن القواعد العامة أو الهبة البيولوجية التي نمتلكها والتي تسمح لنا باكتساب لغة هي نظام معقد جدا بمبادئ محددة للغاية لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم. وهذا يؤدي إلى نهاية أي نقاش حول المشاكل المركزية لبيولوجيا اللغة -ما هو خاص بها، وكيف وصلت إلى هناك؟ والسبب في ذلك هو الارتباط بين النظرية - بين صيغة النظرية اللغوية - ومشكلة الاكتساب اللغوي. كانت صورة الجميع - وصوري أيضا - هي أن القواعد العامة تقدم شيئا مثل تنسيق القواعد النحوية المحتملة ونوعًا من الأساليب لاختيار الأفضل منها، مع توفير بعض البيانات. ولكن لكي ينجح ذلك، يجب أن يكون التنسيق شديد التقييد. لا يمكنك ترك الكثير من الخيارات مفتوحة، ولجعلها شديدة التقييد، يبدو أنها يجب أن تكون شديدة الوضوح ومعقدة للغاية. لذا فأنت عالق في نظرية القواعد العالمية شديدة الوضوح والمفصلة للغاية، وهي أساسا للاكتساب أسباب. حسنا، يأتي إلى جانب نهج المبادئ والمعايير ؛ لقد تشكلت في حوالي أوائل الثمانينيات. إنه لا يحل مشكلة [قول ما يميز اللغة وكيف وصلت إلى هناك]، لكنه يزيل الحاجز المفاهيمي الرئيسي لحلها. النقطة المهمة في نهج المبادئ والمعايير هي أنه يفصل تنسيق القواعد عن الاكتساب. الاكتساب وفقا لهذا النهج سيكون مجرد مسألة التقاط خصائص معجمية (على الأرجح)، ولا شك في أن الخصائص المعجمية يتم التقاطها من التجربة، لذلك كانت هنا طريقة أخرى يتم فيها فصل الاكتساب عن التنسيق.

حسنا، إذا تم فصل كل ذلك عن جزء المبادئ في القواعد العامة، فلن يكون هناك أي سبب مفاهيمي لضرورة أن تكون معقدة للغاية ومحددة. لذا يمكنك البدء في طرح السؤال، حسنا، هل كنا مخطئين بشأن تعقيدها ومستوى التعبير العالي؟ هل يمكننا أن نظهر أنها حقا بسيطة؟ من هنا يبدأ برنامج الحد الأدنى. يمكننا أن نطرح السؤال الذي كان يتربص دائمًا ولكننا لم نتمكن من التعامل معه، بسبب الحاجة إلى حل مشكلة الاستحواذ. مع فصل الاكتساب عن بنية اللغة - بشكل أساسي من خلال اختيار المعلمات - يمكننا على الأقل معالجة هذه الأسئلة. بعد أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت بقول كل فصل درسته تقريبا، "دعنا نرى ما إذا كانت اللغة مثالية." سنحاول معرفة ما إذا كانت مثالية، ولم تنجح ؛ سننتهي بنوع آخر من التعقيد. وفي الحقيقة، [متابعة هذه القضية] لم يقطع شوطا طويلا حتى أوائل التسعينيات، وبعد ذلك، في تلك المرحلة، بدأت الأمور تتجمع. بدأنا نرى كيف يمكنك الاستفادة من أحدث [الفهم النظري للتكنولوجيا] وتطوير تفسير أساسي لها، وما إلى ذلك. أحد الأشياء - الغريب - الذي كان آخر ما تمت ملاحظته حوالي عام 2000 هو أن الإزاحة [الحركة] ضرورية. بدا هذا وكأنه أكبر مشكلة - لماذا النزوح؟ الإجابة الصحيحة - أنها مجرد دمج داخلي - تصدمك في وجهك بمجرد النظر إليها بالطريقة الصحيحة.

جيمس ماكجيلفراي: ألم تكن القصة تدور حول أنها كانت موجودة لتلبية شروط الواجهة- القيود المفروضة على نظام اللغة الأساسي التي تفرضها الأنظمة التي يجب أن "تتواصل" اللغة بها؟ 

نعوم تشومسكي: حسنا، اتضح أنها تلبي شروط الواجهة. ولكن هذا على أي حال. يجب أن تكون هناك شروط للواجهة ؛ [السؤال الذي يمكننا الإجابة عليه الآن هو] أكبر مشكلة - لماذا نستخدم الإزاحة لمواجهتها؟ لماذا لا تستخدم المؤشرات، أو شيء من هذا القبيل؟ كل نظام [يجب] أن يفي بهذه الشروط، لكنه يفعل ذلك بتقنية مختلفة. حسنا الآن، أفكر في ذلك طوال الوقت، اتضح أن القواعد التحويلية هي الطريقة المثلى لتلبية تلك الشروط، لأنها متوفرة بشكل حر.

جيمس ماكجيلفراي:... عند التفكير في دمج داخلي وخارجي. . .

نعوم تشومسكي: نعم، هي حرة، ما لم تشترط عدم حدوث أي منهما.

جيمس ماكجيلفراي: حسنا، وهذا يساعد في فهم سبب إتاحة الدمج - وبالتالي التكرار بالشكل الذي نستخدمه في اللغة (وربما في الرياضيات) - للبشر وحدهم. هل هذا كل ما هو مطلوب لفهم ذلك ما الذي يميز لغة البشر إذن أننا دمجنا؟ أستطيع أن أفترض، على الأقل لبعض الأسس، أن الأنواع الأخرى لديها قدرات مفاهيمية. . .

نعوم تشومسكي: لكن انظر، هذا مشكوك فيه. من ناحية [واجهة] المحرك الحسي، ربما يكون هذا صحيحا. قد تكون هناك بعض التعديلات على اللغة، لكن ليس كثيرا. خذ، على سبيل المثال، عظام الأذن الوسطى. لقد تم تصميمها بشكل جميل لتفسير اللغة، ولكن من الواضح أنها وصلت إلى الأذن من فك الزواحف من خلال بعض العمليات الميكانيكية لتوسيع الجمجمة التي حدثت، على سبيل المثال، قبل 60 مليون سنة. لذلك هذا شيء حدث للتو. يختلف الجهاز الحركي المفصلي إلى حد ما عن الرئيسيات الأخرى، ولكن توجد معظم خصائص الجهاز المفصلي في مكان آخر، وإذا كان لدى القرود القدرة البشرية على اللغة، فقد يكونون قد استخدموا أيا من الأنظمة الحسية الحركية التي لديهم للتعبير عن الخارج.، تمامًا كما يفعل الموقعون البشريون الأصليون. علاوة على ذلك، يبدو أنه كان متاحا لأشباه البشر في خطنا لمئات الآلاف من السنين قبل استخدامه للغة. لذلك لا يبدو كما لو كان هناك أي ابتكارات معينة.

من الناحية المفاهيمية، الأمر مختلف تمامًا. ربما لا نعرف الأشياء الصحيحة، ولكن كل ما هو معروف عن الفكر الحيواني وعقول الحيوانات هو أن نظائرها - أو أيا كان ما ننسبه إليها - يحدث لها علاقة شبيهة بالإشارة إلى الأشياء. لذلك هناك شيء مثل علاقة كائن بالكلمة. ترتبط كل نداء قرد معين بحالة داخلية معينة، مثل "جائع" أو حالة خارجية معينة، مثل "هناك أوراق تتحرك هناك من فوق، لذا اهرب بعيدا".

جيمس ماكجيلفراي: كما اقترح ديكارت.

نعوم تشومسكي: نعم. يبدو هذا صحيحا بالنسبة للأنظمة الحيوانية، لدرجة أن مسح الاتصالات الحيوانية الذي أجراه راندي جاليستل (1990) يعطيها فقط كمبدأ. يعتمد الاتصال الحيواني على مبدأ أن الرموز الداخلية لها علاقة واحد لواحد ببعض الأحداث الخارجية أو الحالة الداخلية. لكن هذا خطأ ببساطة بالنسبة للغة البشرية - تماما. مفاهيمنا ليست كذلك. وقد لاحظ أرسطو ذلك. لكنها أصبحت في القرن السابع عشر مهنة. خذ، على سبيل المثال، الفصل 27 من مقال جون لوك فيما يتعلق بالفهم الإنساني والذي أضافه إلى مقال الأشخاص. إنه يدرك جيدا أن الشخص ليس شيئا. له علاقة بالاستمرارية النفسية. يدخل في تجارب فكرية: إذا كان لدى شخصين متطابقين نفس الأفكار، فهل هناك شخص واحد أم شخصان؟ وكل مفهوم تنظر إليه هو من هذا القبيل. لذا تبدو مختلفة تماما عن مفاهيم الحيوانات.

في الواقع، لدينا فقط فهم سطحي لما هم عليه. تم التحقيق في هذا الأمر بشكل رئيسي في القرن السابع عشر. أدرك ديفيد هيوم لاحقا أن هذه مجرد تركيبات عقلية أثارتها بطريقة ما خصائص خارجية. وبعد ذلك يتلاشى الموضوع ويحدث القليل جدًا. بحلول القرن التاسع عشر، تم استيعابها في نظريات النمط المرجعي الفريغاني، ثم إلى الفلسفة الحديثة للغة والعقل، والتي أعتقد أنها بعيدة كل البعد عن هذه المسألة.

. . . لكن بالرجوع إلى سؤالك، أعتقد أنك تواجه حقيقة أن النظام المفاهيمي البشري يبدو كما لو أنه ليس له مثيل في عالم الحيوان. السؤال الذي يطرح نفسه هو من أين جاءت مفاهيم الحيوانات، وهناك طرق لدراسة ذلك. لكن أصل الجهاز المفاهيمي البشري يبدو غامضا للغاية في الوقت الحالي.

جيمس ماكجيلفراي: ماذا عن فكرة أن القدرة على الانخراط في التفكير أي التفكير بعيدا عن الظروف التي قد تحفز الأفكار أو تحفزها - قد تكون قد نشأت نتيجة لإدخال نظام اللغة أيضا؟

نعوم تشومسكي: السبب الوحيد للشك في الأمر هو أنه يبدو متماثلا تقريبا بين المجموعات التي انفصلت قبل حوالي خمسين ألف عام. لذا ما لم يكن هناك بعض التطور الثقافي الموازي - وهو ما يمكن تخيله - يبدو كما لو كان موجودًا هناك بطريقة ما. لذلك إذا سألت مواطنا من غينيا الجديدة يخبرك ما هو الشخص، على سبيل المثال، أو النهر... [ستحصل على إجابة مثل تلك التي ستعطيها.] علاوة على ذلك، فإن الأطفال الرضع لديهم [فكر]. هذا هو الجانب الأكثر لفتًا للانتباه - أنهم لم يتعلموا ذلك [ومع ذلك فإن محتواها الداخلي غني ومعقد، وكما ذكرنا - بعيدًا عن متناول قاموس أكسفورد الإنجليزي].

خذ قصص الأطفال. أنها تستند إلى هذه المبادئ ذاتها. قرأت قصص أحفادي. إذا أحبوا قصة، فإنهم يريدون قراءتها عشرة آلاف مرة. إحدى القصص التي يحبونها تدور حول حمار حوله شخص ما إلى جانب صخرة. تدور بقية القصة حول الحمار الصغير الذي يحاول إخبار الآباء أنه حمار صغير، رغم أنه من الواضح أنه صخرة. يحدث شيء أو آخر في النهاية، وهو حمار صغير مرة أخرى. لكن كل طفل، بغض النظر عن صغر سنه، يعرف أن تلك الصخرة هي حمار، وأنها ليست صخرة. إنه حمار لأنه يتمتع باستمرارية نفسية، وما إلى ذلك. لا يمكن تطوير ذلك فقط من اللغة أو من التجربة.

جيمس ماكجيلفراي: حسنا، ماذا عن شيء مثل التشكل الموزع؟ قد يكون من المعقول أن بعض الهياكل المفاهيمية على الأقل - على سبيل المثال، الفرق بين الاسم والفعل - ترجع مباشرة إلى اللغة على هذا النحو. هل هذا معقول؟

نعوم تشومسكي: يعتمد على ما تعنيه به. خذ فكرة الحمار مرة أخرى. إنها فكرة لغوية. إنها فكرة تدخل في الفكر. إذن فهو عنصر معجمي وهو مفهوم. هل هم مختلفون؟ خذ، على سبيل المثال، فكرة جيري فودور عن لغة الفكر. ماذا نعرف عن لغة الفكر؟ كل ما نعرفه عنها هو أنها الإنجليزية. إذا كان هناك شخص ما في شرق إفريقيا لديه أفكار، فهو يتكلم السواحيلية. ليس لدينا فكرة مستقلة عن ماهيتها. في الواقع، ليس لدينا سبب للاعتقاد بوجود فرق بين العناصر المعجمية والمفاهيم. صحيح أن الثقافات الأخرى ستفكك الأشياء بشكل مختلف قليلا، لكن الاختلافات طفيفة جدا. الخصائص الأساسية متطابقة فقط. عندما أعطي أمثلة في الفصل الدراسي مثل جريان النهر وأجري هذه التجارب الفكرية الغريبة [المتعلقة بهويات الأنهار - ما يرغب الشخص في تسميته نهرا، أو نفس النهر الذي تجده في عملي]، لا يهم كثيرا أي الخلفية اللغوية التي يأتي منها أي شخص، يتعرفون عليها جميعا بنفس الطريقة في النواحي الأساسية. كل طفل يفعل. لذا، بطريقة ما، هذه الأشياء موجودة. يظهرون في اللغة ؛ سواء كانوا "هناك" بشكل مستقل عن اللغة، ليس لدينا طريقة للمعرفة. ليس لدينا أي طريقة لدراستها - أو طرق قليلة جدا، على الأقل.

يمكننا دراسة بعض الأشياء حول التطور المفاهيمي بصرف النظر عن اللغة، لكن يجب أن تفعل ذلك بأشياء أخرى، مثل إدراك الحركة، واستقرار الأشياء، وأشياء من هذا القبيل. إنه أمر مثير للاهتمام، ولكنه سطحي جدا مقارنة بأي من هذه المفاهيم. لذا فإن السؤال عما إذا كان قد جاء من اللغة يبدو خارجا عن قدراتنا الاستقصائية ؛ لا يمكننا أن نفهم فكر الرضيع أبعد من ذلك بكثير.

ولكن السؤال المطروح بعد ذلك هو، من أين أتت؟ يمكنك أن تتخيل كيف يمكن أن تكون الطفرة الجينية قد أعطت الدمج، ولكن كيف تعطي مفهومنا للهوية النفسية كخاصية تعريف الكيانات؟ أو العديد من هذه الخصائص بعيدة تمامًا عن التجربة. 

جيمس ماكجيلفراي: لقد تكهنت أحيانا حول ما إذا كانت المفاهيم المعجمية قد تكون بطريقة ما أو طريقة أخرى. يبدو معقولا في ظاهره - إنه يقدم بعض الطرق لفهمه.

نعوم تشومسكي: الأشخاص الذين تمت دراستهم بشكل أفضل ليسوا هم الذين تحدثنا عنهم - تلك التي [في بعض الأحيان] نستخدمها [من قبلنا] للإشارة إلى العالم، [مثل ماء و نهر] ولكن تلك العلاقات، مثل الأفعال الزمنية [العلائقية] - الأفعال الخادعة مقابل الأفعال النشطة [على سبيل المثال] - أو المفاهيم العلائقية، والمفاهيم التي تتضمن الحركة، والتشابهات بين المكان والزمان، وما إلى ذلك. هناك قدر لا بأس به من العمل الوصفي المثير للاهتمام [تم إجراؤه على هذه]. ولكن هذه هي أجزاء الجهاز الدلالي (علم الدلالة) التي ترتبط ارتباطًا وثيقا نسبيا، لذا [في دراستها] فأنت تدرس حقا نظاما علاقيا له طابع نحوي.

النقطة التي يصبح فيها الأمر مسدودًا هي عندما تسأل، كيف يتم استخدام أي من هذا للحديث عن العالم - السؤال التقليدي عن الدلالات. إن كل ما يتم فعله - دعنا نفترض كل شيء - في علم الدلالة الرسمي أو الدلالات اللغوية أو نظرية الجانب، وما إلى ذلك، هو تقريبا كل شيء داخلي [ونحوي بالمعنى الواسع]. ستعمل بنفس الطريقة إذا لم يكن هناك أي عالم. لذلك يمكنك أيضا وضع الدماغ في وعاء أو أي شيء آخر. ثم يأتي السؤال، حسنا، نستخدمها للتحدث عن العالم ؛ كيف لنا أن نفعل ذلك؟ هنا، أعتقد أن الفلاسفة واللغويين وغيرهم ممن هم في التقليد الفكري الحديث وقعوا في نوع من الفخ، أي الفخ الذي يفترض وجود علاقة مرجعية.

لقد وجدته مفيدا وحاولت إقناع الآخرين - ولكن دون جدوى - بالتفكير فيه على أساس التشابه مع علم الأصوات. يطرح نفس السؤال. كل عمل في علم الأصوات داخلي [للعقل / الدماغ]. أنت تفترض أن علم الصوتيات الضيق يعطي نوعا من التعليمات إلى الجهاز المفصلي والسمعي - أو أي نظام تستخدمه للخارج. لكن هذا خارج كلية اللغة. من الجنون أن لا أحد يقترح أن هناك علاقة بين الصوت والرمز. لا أحد يعتقد أن الرمز æ، دعنا نقول ("a" في القطat )، يختار كائنا خارجيا للعقل. يمكنك أن تلعب اللعبة التي يمارسها الفلاسفة ؛ يمكنك القول أن هناك بنية رباعية الأبعاد لحركات الجزيئات وهي القيمة الصوتية لـ æ. ثم تختار æ ذلك، وعندما أقول æ (أو ربما قطة) فإنك تفهمها لأنها تشير إلى نفس البنية رباعية الأبعاد. هذا جنون لدرجة أن لا أحد - حسنا، لا أحد تقريبا، كما تعلم - يفعل ذلك. ما يحدث في الواقع - وهذا مفهوم جيدا - هو أنك تعطي التعليمات إلى، على سبيل المثال، الجهاز المفصلي ويقومون بتحويله إلى حركات من الجزيئات بطرق مختلفة في ظروف مختلفة، واعتمادا على ما إذا كنت تعاني من التهاب في الحلق أم لا، أو ما إذا كنت تصرخ، أو أي شيء آخر. ويفسرها شخص آخر إذا كانوا قريبين منك بدرجة كافية بلغتهم الداخلية وتصورهم للعالم وفهمهم للظروف، وما إلى ذلك ؛ إلى هذا الحد، يمكنهم تفسير ما تقوله. إنها مسألة أكثر أو أقل. يفترض الجميع أن هذه هي الطريقة التي يعمل بها الجانب السليم للغة.

فلماذا لا يعمل جانب المعنى في اللغة على هذا النحو: لا توجد دلالات على الإطلاق - أي لا توجد علاقة مرجعية - مجرد تعليمات نحوية للجهاز المفاهيمي الذي يعمل بعد ذلك؟ الآن - بمجرد أن تصبح في الجهاز المفاهيمي والعمل - فأنت في مجال الفعل البشري. ومهما كانت تعقيدات الفعل البشري، فإن الجهاز - نوعًا ما - يفكر فيها بطريقة معينة. والأشخاص الآخرون الذين يشبهوننا إلى حد ما أو يفكرون في أنفسهم بنفس الطريقة، أو يضعون أنفسهم في مكاننا، يحصلون على فهم جيد مقبول لما نحاول قوله. لا يبدو أن هناك أكثر من ذلك. 

مواد تكميلية من مقابلة 20 كانون الثاني 2009 

جيمس ماكجيلفراي: سأتحول إلى ما أسميته "المعلومات الدلالية" في محاضرة في عام 2007 في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حول إتقان نظام اللغة وأماكن أخرى. لقد ذكرت أنه في الواجهة الدلالية لكلية اللغة، حصلت على نوعين من المعلومات الدلالية، أحداهما يتعلق ببنية الحجة التي افترضت أنها ناتجة عن دمج خارجي، ونوع آخر من المعلومات المتعلقة بالموضوع والنطاق والمعلومات الجديدة - مثل هذه الأمور - التي افترضت أنها ناجمة عن اندماج داخلي.

نعوم تشومسكي: حسنا، قريبا جدا. هناك حجج على عكس ذلك، مثل نظرية نوربرت هورنشتاين للسيطرة، والتي تقول إنك تقوم بأدوار ثيتا theta roles. لذلك لا أريد أن أقترح أن هذا السؤال سؤال مغلق بأي حال من الأحوال، ولكن إذا تبنيتَ وجهة نظر شبيهة بوجهة نظر الله، فإنك تتوقع نوعا ما أنه إذا كان لديك نوعان مختلفان من الدمج، فيجب القيام بأشياء مختلفة. ليس لدي دليل على ذلك. لكن يبدو أن البيانات تشير إلى أنها قريبة جدا من الحقيقة، وهي قريبة جدا من الحقيقة لدرجة أنها تبدو بمثابة حادث كبير. و الحالات القياسية لبنية النقاش هي للدمج الخارجي و الحالات القياسية لتوجيه الخطاب وأشياء من هذا القبيل هي من الدمج الداخلي.

جيمس ماكجيلفراي: إنها نوع مختلف تماما من المعلومات.

نعوم تشومسكي: الأمر مختلف تماما، وإذا عرفنا ما يكفي عن الفكر الحيواني، أعتقد أننا سنجد أن أجزاء الدمج الخارجي قد تكون مشتركة إلى حد ما بين النقاط الرئيسية. ربما يمكنك العثور على أشياء مثل مخطط عمل التمثيل مع القرود. لكنهم لا يستطيعون فعل الكثير معها ؛ إنها مثل نوع من انعكاس الأشياء التي يرونها. يمكنك رؤيته من حيث خصائص نمط كادورث Cudworth وخصائص مدرسة الجشتالت Gestalt والعلاقات السببية ؛ إنها طريقة للإدراك.

جيمس ماكجيلفراي: الأحداث التي لها خصائص n-adic - تأخذ أعدادا مختلفة من الوسائط، وما شابه.

نعوم تشومسكي: نعم، هذا النوع من الأشياء. وقد يكون هذا هو ما يمنحك إياه الدمج الخارجي. من ناحية أخرى، هناك نوع آخر من الدمج، وإذا تم استخدامه، فسيتم استخدامه لخصائص أخرى. من الناحية الوصفية، ينقسم بشكل وثيق إلى البنية الموضوعية الأساسية من ناحية، وتوجيه الخطاب اللغوي، وهيكل المعلومات، وخصائص النطاق، وما إلى ذلك، من ناحية أخرى.

جيمس ماكجيلفراي: يبدو أنها معلومات واقعية...

نعوم تشومسكي: بعد كل شيء، الواجهة دلالية - براغماتية.

هناك الكثير من النقاش هذه الأيام حول عمل دان إيفريت مع لغة برازيلية، البيراها - تم وصفها في صحيفة نيويوركر، من بين أماكن أخرى. ديفيد بيسيتسكي لديه ورقة بحثية طويلة حول هذا الموضوع مع اثنين من اللغويين الآخرين [(نيفينز، بيسيتسكي، رودريغيز 2007)]، ووفقا لهم، إنها تماما مثل اللغات الأخرى. لقد دخل في الأدب الفلسفي أيضا. كتب بعض الأذكياء - فيلسوف إنجليزي جيد جدا ورقة بحثية حول هذا الموضوع. إنه أمر سيء بشكل محرج. يجادل بأن هذا يدل على أنه يقوض القواعد العامة، لأنه يظهر أن اللغة لا تستند إلى العودية. حسنا، إذا كان دان إيفريت على حق، فسيظهر أن لغة البيراها لا تستخدم الموارد التي توفرها القواعد العامة Universal Grammar . لكن هذا الاكتشاف يعني و كأنك وجدت قبيلة من الناس في مكان ما يزحفون بدلا من المشي. يرون أشخاصا آخرين يزحفون، فيزحفون. لا يظهر أنه لا يمكنك المشي. لا يُظهر هذا أنك لست مبرمجا وراثيا للمشي [وأنت تمشي، إذا حصلت على النوع المناسب من المدخلات التي تؤدي إلى ذلك ولم يتم تعطيلك بطريقة أخرى]. ما يدعيه إيفريت ربما ليس صحيحا على أي حال، ولكن حتى لو كان كذلك، فهذا يعني فقط أن هذه اللغة لديها موارد معجمية محدودة ولا تستخدم الدمج الداخلي. حسنا، ربما لا: لا يستخدمه الصينيون لتشكيل الأسئلة. لا تستخدم اللغة الإنجليزية الكثير من الأشياء؛ لا يستخدم خيار بيكر متعدد التركيب. لا توجد لغة تستخدم جميع الخيارات المتاحة.

***

............................

النص الأصلي:

On a formal theory of language and its accommodation to biology; the distinctive nature of human concepts

JAMES MCGILVRAY interviews Noam Chomsky

The Science of Language, Interviews with James McGilvray

Edited by Noam Chomsky and James Mcgilvray, © Noam Chomsky and James McGilvray2012, Cambridge University Press, UK.

التغيير منفذ الذهن الى روح العصر

عدنان أبو أندلس، شاعر وناقد ولد في العام 1956 في إحدى بواد حافات ديالى، نشأ وترعرع في قرية «باجوان»، وأكمل مراحله الدراِسية الثلاث في مدينة كركوك، ثم نال شهادة «الدبلوم» من معهد الإدارة القانونية في كركوك ثم بكلوريوس صحافة واعلام في العام ٢٠١١، عمل في شركة نفط الشمال لحين إحالته على التقاعد.. يقول عن الساعات الأولى لإطلالته على الدنيا (كانت صرختي الأولى في زوايا ذلك الضباب والهُباب البعيد الذي يمخر وجه الأرض، لم أتذكر منها إلا عواصف الرمال وسديم الضباب).

بدأ ابو اندلس مشواره الابداعي شاعرا عبر مجموعته الموسومة (أحلام مؤجلة ٢٠٠٢) ثم توالت كتبه في الشعر والنقد ومنها (أحزان مُغلفة) و(مسارات كيرخو) و (سُحبٌ هُناك.. ساخنة) و(شهقات الحرير) و(معزوفة الدمشقي) و(ترنيمة الغائب)... وخلال هذه السنوات عمل في العديد من الصحف والمجلات والمؤسسات الصحفية المحلية، وكتب المئات من الدراسات النقدية، ولهُ العشرات من نصوص التقديم لأعمال الشعراء في العراق والوطن العربي وشعراء المنافي في الخارج في أكثر الأجناس الأدبية.

متابع دؤوب، له نهمٌ للقراءة، يقظ الفكر، عاشق للغة العربية، حريص على إنتقاء المفردة، يخوض في لب الحرف فيستخرج منه اجمل ما فيه، يحول النص الى حوار مع قارئه فيشده لما يطرحه شاء او أبى، تمتد اهتماماته الادبية الى اقاصي بعيدة ليعود منها بمقال عن احد رموزها الفذة.. لكن قبل كل هذا فهو شاعر قريب الى من في حوله برقة مشاعره ورهافة سلوكه التي اكتسبها من تحاربه الحياتية المرة. وفي خضم هذا السيل من التراكمات والرموز نبلور معا من خلال هذا الحوار نظرته الى البدايات ونتاجه الادبي وجماعة كركوك الادبية والتغيير الذي حول يراعه من الشعر الى النقد:

نقطة الشروع

س 1: ما الذي حدا بك للانغماس في عالم الادب ؟ كيف كانت البدايات واين؟

أبو أندلس: التحولات التي صاحبتني منذ الدراسة "الابتدائية" التي كنتُ اشم فيها ورق مجلة " العاملون في النفط "التي كانت تصدرها" شركة نفط العراق المحدودة " عندما كان والدي يجلبها لي بداية كل شهر لكونه أحد منتسبي الشركة، لذا كنتُ أخفيها بين كتبي لئلا تُلهيني عن الدراسة كما كان أهلي يظنون. وفي المتوسطة كانت " المكتبات " قريبة مني، ومنها بدأت أقرأ ما يتيسر لي من صحف ودوريات. كتب منتصف سبعينات القرن الفارط وما بعدهُ، كانت قراءاتي الأدبية بشغف منصبة على الروايات، فأول رواية قرأتها كانت " طبيب الشمال " للكاتب " والاس ك ريد " عام 1974، هي خميرة مكتبتي فيما بعد، وبدأتُ أقرأ لـ نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس بكثرة، وبعدها توالت قراءاتي لكتاب آخرين، ومنهم اجانب.

لماذا النقد الأدبي

س 2: بدأت بالشعر ولك مجاميع عديدة لكنك مؤخرا فضلت النقد عليه.. هل تعتقد أن هذا الخيار مرده إلى التحول من التجربة العاطفية الذاتية إلى التفاعل مع الفكر العقلاني والمنطقي.. كيف تفسر هذا التغيير؟

أبو أندلس: نعم بدأت بالتعاطي مع الشعر باكرا وخاصة "قصيدة النثر" في العام 1978، وقد كتبتُ قصيدة بعنوان "قطرات عذاب" في العام 1981 ونشرتها في جريدة الراصد التي كانت تصدر آنذاك. وكان بالنسبة لي فتحاً معرفياً أتفاخر به، ثم توالت منشوراتي في بعض الصحف المحلية والدوريات حتى الخليجية منها. لكني وجدت نفسي الآن أن قصائدي كانت غير ناضجة، فالشاعر كما يقال هو ناقد نصه، لهذا لم أكن راضياً فيما أكتب من الشعر كما ذكرت، لذا ابتعد تُ عنهُ منذ العام 2016.حيث بدأ هاجسي بالتحول من جنس لآخر وجدتُ فيه نفسي، ألا وهو " النقد " بتأويله وتحليله وتطبيقاتهِ ومناهجه. ذلك التحول الذي بدأ يسايرني منذ أواسط التسعينات لقد تخليت او ابتعدتُ عن الشعر رغم تأليفي لـثمان مجموعات شعرية، ذلك لأني وجدت النقد متنفساً يُعالج صراع هذه الحياة بفكر عقلاني ومنطقي كما ذكرتَ، ربما يدخل تطور العمر في جانب من هذا الاختيار.

الناقد والخزين المعرفي

س3: من خلال متابعة انتاجك النقدي أجد اهتمامك بالسبك اللغوي فضلا عن إثراء المضمون بأسماء كبيرة في ميدان الأدب والفكر العالمي على حساب الوضوح في طرح الفكرة احيانا. هل ان المسألة عفوية أم هي مسعى لتأكيد خزينك المعرفي وضرورته للناقد.؟

أبو أندلس: النسج اللغوي وسبكه مطلوب من خلال رؤى الكاتب ورصف مفرداتهِ بإتقان، لذا كنتُ أتحرى " المفردة " وأصقلها قبل توظيفها في أي كتابة أختارها من الشعر أو النقد.. أتوقع في الشعر تأتي عفوية دون القصدية المُبتغاة، لأن الشعر ايحائي ولا أحبذ تغيير ما بعد توظيفها لأنها تخلخل ما تبتغي منهُ، أما النقد فهو تطبيق دراسةٍ وبحث يلزمان الكاتب بالاختيار الأفضل، لذا كنت أتحرى المفردة وأغيرها حسب الجملة، حتى العتبة القرائية تمر بمراحل من التغيير. نعم تناولت نتاجات كبار أدباء العالم الغربي وخاصة شعراء " قصيدة النثر " من حيث مؤسسيها ومبتكريها ومتعاطيها كونها كونية من حيث التوظيف وتساير لهجة الشارع وهمومه.. وعليه لا ابداً لم أطمح بتوق البروز من وراء دراسة أو بحث يخص الأدب الغربي لأجل الشهرة مطلقاً.. لكن على الناقد أن يكون ملماً بكل جوانب ومناحي الحياة وأن يملأ خزينهُ المعرفي حالما تصدف متغيرات لم تكن في ذهنيته تلك.

النتاج العالمي أم النتاج المحلي؟

س4: المتابع لكتاباتك النقدية يلاحظ اهتمامك بأدب الخارج واضحا مقارنة بما تكتب عن آدبائنا. هل ترى أن المحلي لا يستفزك كثيرا على الكتابة عنه؟

أبو أندلس: نعم، أتلمس ذلك من خلال الردود التي تصلني من خلال اللقاءات الأدبية أو من مواقع التواصل الاجتماعي بأني أساير وأوظف الأدب الأجنبي وأفضلهُ على المحلي، أقول: لا أبداً فللبيئة المحلية مكانة خاصة أعتز بها لأنها مهبط حياتي ومهد صباي.. وحسب رأي " باشلار " في " جمالية المكان " بأن المكان الأليف الذي تعيشه له خصوصية نفسية باذخة في الاستذكار " لكني كتبت عن أدب الخارج لأنهُ يشدني بتحولات لابد منها، كما كتبتُ الكثير من أدب السير والموروث وحتى سيرة حياتي " زوايا الضباب " التي اخذت مني الكثير بأجزائها الثلاثة منذ ولادتي بصرختي الأولى في الضباب في 17-2-1956 وحتى أواخر شباط 2022. لكن ربما التحول جاء نتيجة الإشباع المحلي ولابد من حتمية التغيير.

جماعة جديدة

س5: ضمن المعطيات الراهنة في المشهد الثقافي الكركوكي. هل تتوقع إمكانية بروز تجربة مماثلة لجماعة كركوك الأدبية. ولماذا؟

أبو أندلس: سؤال وجيه جداً طالما نتحاور به في جلساتنا، أقول من غير المعقول أن نبقى نجتر أسماء الجماعة الأولى فقط رغم إبداعهم الذي ربما لن يتكرر وفق معطيات ذلك الزمان البهي، ودون تكرار الحالة بتسمية أخرى. لكن ظهرت بعدهم جماعة كركوك الثانية في منتصف السبعينات وتلاشت في نهايته والأسماء معروفة. نعم هناك مشروع كتابي عن جماعة كركوك الثالثة لكن كيف تقنع من ليس لهُ ضلع في بدايتها المقتصرة على لقاءٍ عابر في مقهى على ضفة " الخاصة " أو في غرفة " فندق الميلاد " كما لاحظت ذلك من خلال تبني الناقد المسرحي " محمد خضر " الموضوع، لكن مشاغله العديدة أبعدتهُ عن هذا المضمار. وهناك ثُلة أسميتهم جماعة كركوك " الرابعة " من الشباب الواعد بتركيبتهم الأثنية تشبه من حيث الرؤى الحديثة التي نقرأ لهم.

الابداع والزمن

س6: قال كازنتزاكي، وهو على فراش المرض قبل موته، انه يحتاج عشر سنوات على عمره ليوصل ما عنده..هذا الهاجس يتنامى مع الكاتب كلما تقدم بالعمر، أو طرح جديدا للقراء. هل ترى هذا الطرح معيار موضوعي للمبدعين؟..

أبو أندلس: طرح في غاية الدقة، الكاتب يشبه الفلاح الطموح الذي يزرع " فسيلة " من النخل ويجلس يُراقبها منتظراً المحصول وهو في منتصف العمر يأمل منها " الثمرة " ولو بعد حين، كذلك الكاتب يطمح ويطمع بزيادة انتاجه كي يستلذ به القراء، لكن ليس كل الأدباء هم وفق هذا السياق، ففيهم من صمت بعد منتصف العمر أو انشغل نفسياً بمصارع الحياة ومتطلباتها حتى ابتعد كلياً عن طموحه المعرفي. أما المعيار الذي تعنيه ربما تتدخل فيه الحالة النفسية أو القابلية الجسمية والفكرية معاً.

هكذا جرت محاورتي مع عدنان ابو اندلس ولاشك ان التغيير في الاسلوب والشكل واللغة فعل يتماهى مع المتغيرات من حولنا، إلا ان المحتوى المتفاعل مع هواجس وهموم وتطلعات الانسان يبقى هو المقصد والمرتجى.

***

حاوره: محمد حسين الداغستاني

- الفيسبوك مدرسة أهلية مجانية بلا مناهج تعليمية، مساؤه أكبر من فوائده

-أسوأ كلمة سمعتها في حياتي هي كلمة الشهرة

- أصل الكلمة كَرميان بتشديد الكاف تعني الدافيء باللغة الكردية

- خلقنا لنعيش حيتنا العبث والفوضى والمزاح وقليلٌ من الجد

- من غير سخرية تغدو الحكاية طعام بلا ملح أو توابل.

- لم أعمل بالسياسة، مسالم، طبيعة عملي حببني للجميع

عراقي عجزتُ عن قص أثره، وتحديد البداية، ففي جلولاء قد تكون هناك الولادة وبعض طفولة، وفي محافظة واسط ميعة الصبا وشغف القراءة، وفي خانقين هوس الأصول والجذور وعطل الحياة المدرسية في الحقول اليانعة، لكن من المؤكد أن في كركوك العمل والسكن الحالي بعد جولات مكوكية من تنقلات سكنية بلغت أكثر من 26 بيتاً وتواجد الأهل والعائلة، وفي بعقوبة العمل ولقاء الصحب في السراي القديم والبدء برحلة المتاعب الأدبية، وفي كفري جذور العائلة والهجرة القسرية وقرب موقع العمل الحالي، وبين أروقة الثقافة اسم ونتاج وروايات وقصص ولواذع فيسبوكية، ينقد نفسه قبل الآخرين، غايته التحفيز لا التقليل والتنقيص من الشأن، متهكم طريف وساخر ممزوج بالمرارة تارة وطوراً بالجمال، أنه القاص والروائي والمسرحي تحسين كرمياني، المنحدر من أرومة كردية، والمترعرع في أحضان اللغة العربية، لا أبالغ اذا أدعيت أنه مع الشاعر إبراهيم البهرزي يشكلان أبرز أديبان موسوعيان في محافظة ديالى، ورغم أني لم أعلمه بنيتي في محاورته، هل يرغب بذلك، أو لا، قررت طرح أسئلتي عليه، وتضييق مسألة الخيارات بين الرفض والقبول عليه. وكان القبول.

***

* هل أصبحت مشهورا؟ أم لازلت تسعى إلى الشهرة؟

ج: سأقول لك بكل صراحة، أسوأ كلمة سمعتها في حياتي هي كلمة الشهرة، أتمنى أن تزاح هذه الكلمة القبيحة من القواميس، لن أسعى لها أبداً ولن ألهث خلفها فهي عجوز شمطاء خرجت من خدمة الغزل، إنها متاهة، أكتب ما يريح مزاجي ويستهدف قلب الهدف الذي أريد، عجبني قولاً لا يحضرني قائله هذه اللحظة رغم أنه مدون ضمن دفاتري القديمة، يقول قائلها: ’’ما أغبانا ونحن نلهث خلف الشهرة، وحين نحصل على الشهرة نحاول أن نتوارى عن أعين الناس!‘‘

* ماذا يعني (كرمياني) لغة؟

ج: أصل الكلمة كَرميان بتشديد الكاف، لأن في اللغة الكرية الحركات حروف، وتعني الدافئ، والياء تلصق بالكلمة للصفة، وكَرميان هي الجزء الثالث من جغرافية الكورد، حسب التقطيعات السكانية، منطقة باهدينان؛ تشمل أكراد تركيا ودهوك وأربيل، ومنطقة سوران؛ تشمل السليمانية وكركوك، أما كَرميان؛ تشمل بقية الكورد من ديالى وحتى الجنوب، كونها منطقة دافئة خلاف المناطق الشمالية المعروفة بالبرودة، لذلك سميت كرميان، كلمة كَرم ـ بتشديد الكاف ـ الكردية، أي دافئ.

* هل تتشابك عندك المفردات عندما يتنوع جلساؤك؟

ج: لا بد من ذلك التشابك المتعمد الذي يمنح الجلسة سرورها، نحن كعراقيين خلقنا لنعيش حيتنا العبث والفوضى والمزاح وقليلٌ من الجد، القوانين لا تليق بنا رغم أنها عدالة العيش، أقولها صراحة، لا نحب القيود، هكذا أجبرتنا السياسة المتلونة، لكن يبقى مجتمعنا مجبول بالأخلاق الحميدة والتماسك العشائري والأصالة والغيرة المتفجرة، لكن الديموقراطية الغربية جاءت لتفكيك تراثنا، وتدمير حضارتنا، وإخراجنا من حيز الأخلاق الحميدة، ودعبلتنا في متاهات لا نهاية لها، بعض القيود تحجم مديات حريتنا، والمعدن العراقي مرن، زئبقي، يتكيف مع كل الظروف مهما كانت القساوة والظلم، لابد من تطعيم حواراتنا بما يشعرنا بالسرور. أوان الجلسات المتنوعة، أتكلم باللغة الرسمية، ودائماً أجد من يتكلم معي بلغة الأم بين الجمع، لكنني أجيبه بلغة الآخرين.

* كم يكفي الروائي من النتاج ليكون معروفا؟

ج: في حقل الآداب ليس للكم الحكم الفيصل، هناك من أشتهر بعمل واحد، ولدينا شعراء القصيدة الواحدة، ’’خوان رولفو‘‘ كتب أعظم رواية في تاريخ أمريكا اللاتيني، ’’بيدرو بارامو‘‘، وألبارو سيبيدا ساموديو كتب رواية ساحرة ’’ البيت الكبير‘‘ والتي كتب مقدمتها ماركيز، و’’ثربانتس‘‘ ما زال معلم السرد العالمي بروايته ’’ دون كيخوته‘‘، كل الروائيين العالميين اشتهروا بعمل واحد رغم ما أنتجوا من أعمال أخرى ذات أقيام أدبية مقبولة، ’’لوليتا‘‘ ’’نابكوف‘‘ ’’الدون الهادئ‘‘ ’’شولوخوف‘‘ ’’ الساعة الخامسة والعشرون‘‘ ’’ قسطنطين جورجيو‘‘ ’’ دكتور جيفاكو‘‘ ’’ باسترناك‘‘... وووو ألخ. أما الروائي العربي ما زال يسير في مسار خاطئ، لأنه ما زال يراهن ويقاتل من أجل الكم، دون أن يفكر بروايته الخالدة، أنه يشتت نفسه، ويبدد حكاياته في اتجاهات متفاوتة في نهجه السردي.

* ماهي علاقتك بالنقاد؟

ج: مسالم مع الجميع، يعرفونني ويقدرونني، لا يعنيني أن كتبوا عني أو لم يكتبوا، لا أفرق بينهم، الكل لدي سواء بسواء أحبة كرام أصحاب قلوب أدبية نابضة بروح الجمال.

* هل تؤمن بالاخوانيات في الأدب؟

ج: كلمة أخرى أضيفها إلى قاموس المحذوفات، عندما تنقص الروائي الثقافة الروائية، يضيق صدره، وينحسر فكره، يتقوقع حول نفسه، ولا يعجبه العجب، ويتخيل نفسه فوق الجميع، تنجرح مشاعره إذا مست كلمة من كلماته نسمة مضادة، وأظن هناك فئات تتعامل بهذه الإخوانيات وهم عرايا بإمكانك أن تشخصهم من بين الآخرين من دون اللجوء إلى دليل يشير ببوصلته إليهم..

* لماذا يصر بعض من يكتبون الرواية على استعارات اسماء روايات شهيرة؟

ج: هل تقصد عناوين روايات شهيرة؟ أم مقاربات لتلك العناوين؟ إذا كان السؤال يعني ذلك، فهم يبغون إلفات نظر القرّاء حول رواياتهم ليس إلاّ، باتت العناوين البراقة هي شراك صيد المغفلين في يومنا هذا.

* ماذا يعني لك الفيسبوك؟

ج: مدرسة أهلية مجانية بلا مناهج تعليمية، مساوئه أكبر من فوائده، لعدم وجود قوانين ضابطة تقيد وتفرز الغث عن السمين، أغلب الذين يكتبون على حيطانهم المشققة ليست من بنيات أفكارهم، بل تغريدة تولد عندهم تغريدة، يفسرون أو يشرحون ما يكتبه الآخرون، أغلبهم سرّاق أفكار، أو مطوري أفكار إن جاز التعبير.3342 حسين كرمياني

* من هو الروائي المجتهد ومن هو الروائي الكسول؟

ج: الروائي المجتهد من يتابع أخبار الرواية المحلية والعربية والعالمية، ويتابع المقالات الكثيرة، وهي متوفرة على شبكة الأنترنت، وفي مواقع مهمة رصينة، وهذا ما أعنيه بحملة الثقافة الروائية، أما من لا يملك الثقافة الروائية، فهو روائي كسول مهما كتب، همه أن يكتب فقط، ولا يعنيه من حرق روما؟ ولم حرقها؟ وماذا سيجني من وراء حرقها؟ ولصالح من حرقها؟ ومن دفعه لحرقها؟

* عندما يفتح أحدهم كوة في جدار منزله فإنه يبحث عن الارتزاق لكن عن ماذا يبحث الروائي عند فتح كوة في جدار روايته؟

ج: قبل أيام نشرت عن الموازنة والتشابه، أو تقارب الفكرة، ما بين من يشوه الزقاق وخريطة بيته بفتح دكان للارتزاق، طبعاً الرزق مطلوب في يومنا هذا، ولكن لا يجب أن يكون على حساب الذوق العام، وتدمير جمالية الأزقة والأمكنة والتي باتت تتحول يوماً أثر يوم إلى مناطق تجارية، وهذا يؤدي إلى هروب الناس، وتفكك المجتمعات القديمة المتماسكة، هرباً من الضجيج نحو الأطراف وتشكيل مجتمعات جديدة غير متوائمة وتكون بؤر لمشاكل اجتماعية كثيرة، عكس أيامنا السابقة والتي كانت الأزقة حرمات على الغريب والكل يدافع عنها. أما بخصوص الكوة في الرواية، كنت أقصد بها دس أو إقحام ما ليس للرواية من أجل غاية أو ظناً منه جمالية، طبعاً الرواية بناء فني، وإن تداخلت الأجناس الأدبية اليوم لتغدو سريالية البناء، لكن يبقى العمود الأساس للحكاية واضحة مهما تعرج خط سير السرد. وممكن ذلك إذا كان جانب تنويري يضيف للحكاية جوانب مضيئة خادمة.

* لماذا تشبه النتاج الأدبي بالمحاصيل الزراعية؟ .. هل لأنك فلاح؟ أو لسهولة الحصول عليها؟ أو أن هناك أمر آخر؟

ج: كل عمل إنتاجي لابد من أولويات، القراءة تقود للوعي وفتح الذهن وادامة كاميرات العقل للعمل والرصد ومن ثم تبدأ مرحلة التعبير عن الحياة السلبية دائماً، والإيجابية قليلاً، لأن المرء كائن مرهف غاضب فضولي، بسبب سلبيات الحياة من حوله يرغب أن يدلي بدلوه في أي بئر يراها مكاناً لتفريغ همومه، كذلك الفلاح، لابد أن يمتلك خبرات قبل أن يبدأ بالزراعة والسهر قبل أن يجني ثمار تعبه. الحياة مقاربات متوازنة ومتشابهة، لكن ضيق الفكر وأفق التفكير يحجب عن الأغلبية أن يروا الحياة ككفتي ميزان.

* تغيض من بسخريتك اللاذعة؟

ج: السخرية منبع الحكايات، من غير سخرية تغدو الحكاية طعام بلا ملح أو توابل.

’’دون كيخوته‘‘ كانت أعظم سخرية لاذعة مقنعة في تاريخ الأدب، لذلك خلدت، والمرء طبعه ميّال للمزاح، كونه دواء الروح من تفاهة الحياة ورتابتها، السخرية وقود دافعة لأرواحنا كي نبقى أحياء أصحاء.

* أين تجد نفسك مناطقياً وادبياً؟

ج: أي مكان أتواجد فيه حتى لو لدقائق هو منطقتي، لذلك يسموني أصدقائي ماجلان الأدب، مثلاً أكون في النهار في المتنبي مع أصدقائي، وعصراً نكون في خانقين، وحين يتصلوا بي ليلاً، أقول لهم حالياً أنا في كركوك. ويصيحوا بي: متكلي أنت شنو ماجلان؟

* لمن تغني وما هي اغنيتك المفضلة؟

ج: رغم مضي قطار العمر، واندثار فترة المراهقة، أيام كنت مغرماً بالعندليب الأسمر، وحالياً ما بين يوم ويوم هناك بعض الأغاني تمنح أوقاتي الفائضة سلوى من الرتابة، ’’ مخاصمني بقالو مدة لشادية‘‘ ’’ يا صبابين الشاي لطروب‘‘ ’’ مثل العود من يذبل بلاي وداع لصباح السهل ‘‘ ’’ جا وين أودي الحجي وأتعاتب ويامن لحسين نعمة‘‘ ’’ أيه العمل أنا حبيتو من غير أمل لراغب علامة‘‘ ’’ صوت السهارى لعوض الدوخي‘‘ ’’ وشويخ من أهل مكناس وسط الأسواق يغني رجاء محمد‘‘ ’’ عملوها حكاية.. قصة ورواية لشريفة فاضل‘‘ ’’ عيني سلملي على البنية لسعيد العجلاوي‘‘ ’’ لو بتدعن ما بينعدو.. الكانوا بدن ياني.. يا ما ترجوا يا ما ودو رسائل شعلاني لكاتيا حرب‘‘ ’’ عليك أسأل عليك أسأل.. من الرايح والجاي لفاضل عوّاد‘‘ ’’ كل ده كان ليه .. لما شفتو عينيه. لمحمد عبد الوهاب‘‘ وووو ألخ..

* هل تعرضت لمحاولة اغتيال؟ وهل يصنعون الرصاص بطريقة فنية؟

ج: كلا.. لم أعمل بالسياسة، مسالم، طبيعة عملي حببني للجميع، كنت أمر بمركبتي في شوارع ملغومة بحاملي الأسلحة القاتلة ولا أبالي ولا أحد يلتفت نحوي، ولم يعترضني أحد، أينما أتواجد الاحترام يحظر لي من قبل الجميع، أما بخصوص الشطر الثاني من السؤال غير مفهوم. هل من توضيح أكثر؟

* ما لفرق بين قاتل البشر وقاطف الورد؟

ج: هناك فرق كبير جداً، قاتل البشر هادم لروح الحياة، لأن البشر روح الوجود، بزواله يزول الوجود، وفي الحديث الصحيح (الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه) ويقول ماركس لا أحبه لكن لمقاربة الفكرة أعيد ما قال (الإنسان أكبر رأس مال)، أما قطف الورود فهو قتل لجمال الحياة وتجفيف لجواهر الطبيعة، لأن الورد يمنحنا نفحات من السعادة بجمال ألوانها وأريجها، قطفها إزاحة مساحات مجانية لعلاج النفس والعين من أيامنا.

* هل بالإمكان إعادة النظر ببناء الرواية ونحن لازلنا في المنتصف؟

ج: ممكن ذلك، إذا تعذر المواصلة، أو حدوث تغيرات في الأفكار وبروز معطيات جديدة تلح على الذاكرة تخالف ما بدأنا، والرواية غالباً ما تتعرض لتغيرات عند الرواة الأصلاء، شخصياً قمت بتهديم أبنية روائية مرات ومرات قبل أن يستقر المزاج على البناء الأخير.

* متى وكيف تكون للرواية أهمية؟

ج: عندما تكون الرواية تعالج مشكلات المجتمع المستعصية، وتكون شعبية بلغة ومنطق الجميع، خالية من النرجسية وغسيل الذات، أغنية نادية مصطفى (بلديات) غربلت العرب يومها، وكانت تصدح ليلا ونهاراً داخل المركبات، دفعت ملائيين المصريين أن يعودوا إلى بلدهم، لأنها أيقظت فيهم روح الوطنية التي غشاها المال. لابد للرواية أن تجد الحلول للمجتمع، لا تشريح وترويج الهزائم اليومية، روايتي’’ حكايتي مع رأس مقطوع‘‘ أنقذت شخص موجود حالياً في موقع المسؤولية في بلدتي، أنقذته من الموت الحتمي، أتصل بي وقت عند صلاة الفجر يشكرني، لأنه أتخذ قرار الانتحار في لحظة يأس، وكان المسدس مسحوب الطلقة قربه، أتصل بي فجراً قبل أن يميز الخيط الأبيض بداية النهار قال لي: ’’ قررت الانتحار كحل نهائي، وقبل أن ارفع المسدس، سقطت عيناي على روايتك ودفعني دافع مجهول أن أقرئها قبل أن أضع الطلقة في رأسي، وحين أنهيتها أحببت الحياة ولعنت الشيطان وها أنا ذا أتصل بك لأشكرك!‘‘.

* ماهي وظيفة الأديب؟ وهل تزاحم وظيفة السياسي؟ أو تكون مكملة لها؟

ج: لا أظن للأديب وظائف حقيقة في حياتنا السياسية، على الأديب أمّا أن يكون آلة أو بوق، أو ينزوي ليغرد بعيداً ولا أحد يسمع أنين جراحاته ليموت ويدفن بتأبين مخجل، الأدب في العالم الغربي وظيفة شخصية تجارية مربحة، الأديب يكتب ليعيش ويمنح الناس فرص الراحة النفسية والتثقيفية عبر قراءة ما يكتب، وهناك مؤسسات أخرى تعيش على ما يكتب أيضاً، مثلا تحويل الأعمال إلى دراما وأفلام من أجل كسب الأموال، الأدب في الخارج تجارة رابحة، وعندنا مهنة العاطلين وأصحاب القلوب الجريحة التي لا تجيد فن القتال سوى إشهار القلم وطرح الهموم، السياسي العربي يستند على أكتاف الأدباء من أجل تلميع شخصيته، وهناك أدباء يستندون على أكتاف السياسيين، أو الجلوس عند عتبة أبوابهم من أجل لقمة العيش والمناصب، فهي معادلة احتيالية، فالطرفان طفيليان.

* ماذا تعني لك الحياة؟

ج: مسرحية قدرية متشظية محكمة البناء والإخراج، نؤدي أدوارنا سلباً وإيجاباً ونخرج منها أموات ليناول بعدنا الأحياء مساوئنا ومحاسننا لحين من الدهر.

* يقال في الآخرة يتبادل الرجال والنساء الأدوار فهل تقبل ان تكون هناك زوجة لمن كانت لك زوجة؟

ج: يبدو أنك تتابع ما أكتب على خاصرتي الفيسبوكية، هذا ما كتبته للمزاح قبل أيام، الفيس بوك بالنسبة لي مسرح المسرات والتنفيس عن الهموم وترسبات الأحزان التي تراكمها الأيام وتقلبات حياتنا اللا مستقرة، هناك من يتخذ الفيس بوك الجدار الحر لطرح أفكاره، أو للترويج عن صوره وتنويعات حياته، من مسرات وأحزان، ولكل نوع أتباع يتفاعلون، لا يوجد نص يؤكد ما قلت، بل كانت ضربة جزاء حاسمة أردت بها تسجيل هدف في مرمى بعض الأصدقاء من باب المزاح طبعاً.

*عندما لا يملك الروائي المعلومات الكافية هل يجازف بكتابة رواية؟

ج: للأسف هذا ما يحصل، اللغة مشاعة والفضول سامق اليوم، لكن قلّة من يمتلك الحكاية، وقلّة من يستطيع أن يحكيها فنيّاً من تلك القلّة القليلة.

* هل تعشق الجمال أو تبحث عنه؟ ما موقفك من دروع الجص والشهادات الفخرية وهل فرحت يوما بأحدها؟

ج: الجمال أن نعيش بسلام، أن نعيش كما كنّا، أبحث عن الجمال في صحبة الأوفياء، الذين يقدرون ولا يستغلون وقتي الثمين، أما بخصوص الشهادات، سبق وأن أشرت أننا نعيش عصر التفاهة، وهذا العصر مخطط له بذكاء ومهيأ له اللوازم التي ستديمه وتمضي بالكائن البشري نحو حيونته الأولى، هناك لوبي يعمل على تقليل البشر على البسيطة من خلال الحروب وصناعة الأوبئة والأطعمة التي تحدد أو تقتل النسل، وتجحيش البقية الباقية التي يريدون بقاءه، وما يحصل هو الضحك على النفس، عبر التكريمات المخجلة لمنح الشهادات الوهمية من جهات مجهولة أو معلومة. لم أفرح يوماً ما، ولا أدري أين رميت بعض ما منحوني، أتدري أنني لا أملك سوى كتابين أو ثلاث كتب من 22 مؤلف لي روايات ومجاميع قصص ومسرحيات ومقالات في مكتبة بيتي، وهذه النسخ مهداة لصديق في الخارج انتهز فرصة لإرسالها إليه لأنظف مكتبتي من مؤلفاتي، أنا أؤمن بأن ما نكتبه يغدو ملك الآخرين، فلا داعي أن نحتفظ بما نكتب، من وجهة نظري، الاحتفاظ بها غالبا ما يكون للتباهي، وهذا يقلل فرص التجديد والمواصلة نحو الحلم الذي ننشده.

* هل فزت بإحدى الجوائز المرموقة؟

ج: جوائزي هي ثمرة ما كتبت، شهادات ماجستير ودكتوراه نالها طلبة وطالبات داخل العراق والوطن العربي وفي أوربا وأمريكا، الوظائف التي حصلوا عليها من خلال رواياتي وقصصي هي الجوائز التي سأفتخر بها، كتبي كانت طرق ممهدة لأكثر من 15 طالب وطالبة للوصول إلى وسيلة العيش. ربما كانت جائزة النور للقصة في السويد عن قصة’’ مزرعة الرؤوس‘‘ وجائزة الحوار الوطني للقصة في ديالى، عن قصتي’’ يوم اغتالوا الجسر‘‘ وجائزة اتحاد النساء للقصة، عن قصتي’’ وقت للرقص وتم تبديل العنوان من قبل اللجة’’ وجائزة الكلمة ـ مصر ـ للرواية، عن رواية’’ أولاد اليهودية‘‘ وجائزة ناجي نعمان للمجموعة القصصية، عن مجموعة’’ ثغرها على منديل‘‘ كانت ثمرات ذات مذاق شهي بالنسبة لي. لكن تبقى حسرة واحدة سترافقني، سرقة جائزة القصة في العراق يوم منحوني الأولى عن قصتي(صندوق الوجدان) وتم تبديل الأسماء الفائزة في القصة والشعر والنقد بناء لتوجيهات سياسية عندما خصصوا مبالغ كبيرة للفائزين وثار يومها جدلاً في الصحافة، ستبقى مدار غضب أبدي عندي. ولا أكتمك القول، كتبت ذلك: الجوائز جنائز للأديب العربي، كل اللذين فازوا بالجوائز عن أعمالهم تدحرجوا نحو الهاوية في أعمالهم اللاحقة، وهذا دليل على إن الروائي العربي لا يملك الثقافة الروائية، وسبق أن قلت أيضاً، في الرواية الفائزة يجلس في قمة النخلة ليلتقط التمرات ولكن في الرواية اللاحقة يحبو تحت النخلة ليلملم التمرات الساقطة.

* كيف توزع سخريتك بين لغتين تجيدهما؟

ج: السخريات ومضات تولدها كوميديا ما نعيش، أنها تسكننا ودائماً ترصد الأجواء وتنطلق بشكل عفوي، ما يحصل من خروقات في جميع مناحي الحياة، هي منابت للسخرية، وحياتنا بنيت على المزاح، أينما تجد مجلساً تجد هناك من يسخر ومن يضحك، تجد واحداً على الأقل من بين الجالسين نسميه (كمش) وما أكثرهم، هو محور الضحك، والضحك هو العقار الشافي لجراحاتنا اليومية.

* من هو امتدادك الأدبي من العائلة؟

ج: لم يكن في بيتنا المتنقل دائماً مكتبة، كنت أحب المطالعة، ولم أجد غير كتاب المطالعة المنهجية ورثاثة ما فيها، وسيلة أخرى لإشباع الرغبة والفضول الطفولي.

*هل الزواج جريمة أو توئم لها؟

ج: (شر لابد منه) كما قال سيدنا علي عليه السلام.

* متى يضعف الكاتب؟

ج: إذا ظلّ يكرر نفسه، عندما تقل القراءة ونوعية القراءة، ومتابعة ما ينشر ويطبع على الساحة المحلية والعربية والعالمية، ما لم يتفاعل مع الأيام والآخرين والقراءة الموسوعية، المسرح والشعر والقصة والرواية والنقد والسيّر والملفات التاريخية والسياسية، هذه التنويعات هي من تمنح القدرة الضاغطة للكتابة والتطور.

* متى تنظر إلى نتاج الكاتبة؟ ومتى تنظر إلى قوامها؟

ج: بعضهن يكتبن بطريقة ناجحة، وبعضهن مقلدات، لا يعنيني قوام المرأة، القوام طبيعة فسلجية، وربما بسبب التكاسل الحياتي، لأن الرشاقة بحاجة إلى مراقبة النفس عبر وسائل كثيرة، بعيداً عن الشراهة في تناول الطعام والمسمنات، فأنا محافظ جداً في هذا الجانب، قلب المرأة غايتي.

* هل أنت رومانسي وكيف؟

ج: البشر كائن رومانسي، لكن الظروف هي التي تتحكم بآلة رومانسيته، شرقنا محكوم بالعذاب، والعذاب قاتل حي للرومانسية البشرية. رومانسيتي لا تخرج من حدودي النفسي والمجتمعي ، استثناء الكتابة لأنها نزف هموم، وقول ما هو مقبول ومعقول أو مرفوض، ما أكتبه لا يمثل طبيعة حياتي، في الكتابة منفتح إلى أبعد حدود وفي الحياة محافظ إلى اقسى الحدود. ما زلت أوازن بين النقيضين، وتلك هي من شجاعة إرادتي.

* ماهي الصفة الأدبية التي تحب أن يشار لك بها؟

ج: بلا صفة. أجدها تقليل للشأن وإهانة لمركزية ما جبلنا وخلنا، إنسان يكفي، أنه أعظم كلمة، وأسمى، وأرقى من كل الصفات الأخرى لسائر المخلوقات، الصفة الأدبية إقلال لشأن المرء، تحجيمه، وتلبيسه ثوباً واحداً يرميه في خانة ضيقة داخل المجتمع.

* هل مارست الصحافة؟

ج: بصورة وقتية لم تتعد كتابين (امرأة الكاتب) و(السكن في البيت الأبيض) مقالات أدبية نشرت معظمها في جريدة الزمان والتآخي بشكل يومي بعد 2003 مباشرة. لكن ظروف عملي وانشغالي الأدبي ومتطلبات البيت وراء عدم مواصلة المشوار، وحسناً فعلت لأن الصحافة ماتت موتاً أبدياً بسبب انفجار المعلوماتية.

* هل تتذكر حبك الأول؟

ج: أتذكر جملة فتيات حبوني، وحاولن بما استطعن من أحابيل نسوية أن أحبهن، لكنني كنت متكابراً على الفتيات. وما زلت امتلك طبيعة تمردية نحو هذا الجانب، ولو عدت شاباً سأنتهج ذات النهج. سأجعلهن في حسراتهن واجمات، لا أعرف كنت دائماً أرتجف أمامهن، ويتعطل لساني عن الكلام، لذلك أنتقم في كتاباتي من خجلي كما في رواياتي ’’زقنموت‘‘ و’’ قفل قلبي‘‘ و’’ ليالي المنسية‘‘ و’’ الحزن الوسيم‘‘ وروايات قادمة قيد الكتابة.

*هناك الكثير من الأسئلة التي تنتظر دورها لكني سأؤجلها الى حوار قادم واذا كان لديك ما تضيفه في النهاية فعلى الرحب والسعة.

ج: ستجدني جالساً على مقعد الاعتراف متحرر الفكر واسع الصدر مفتوح القلب متهيئاً للإعدام أن تطلب الحوار. كنت ممتعاً معي بأسئلتك، ومحفزاً لي، كي أستنفر خلايا ذاكرتي النائمة لتنهي صومها، وتعلن هلال عيدها، لتبدأ بحصاد هواجسي التي أنضجتها محاورتك.

***

حاوره: راضي المترفي

- ثقافتنا في العلوم الإنسانية المرتبط بالأديان ثقافة بسيطة

* الدكتور خزعل الماجدي: أكاديمي وباحث عراقي؛ في علوم وتاريخ الأديان والحضارات والأساطير، كاتب مسرحي وشاعر. حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم صدر له مؤلفات عديدة، في حقل تاريخ الحضارات والأديان والميثولوجيا، منها: (علم الأديان، حضارات ما قبل التاريخ، الحضارة السومرية، الحضارة المصرية، الحضارة الهندية، متون سومر، المعتقدات الكنعانية، تأريخ القدس القديم، المعتقدات الآمورية، المعتقدات الآرامية، الدين المصري، آلهة شام، المندالا الميثولوجية، ميثولوجيا الخلود، بخور الآلهة، إنجيل سومر، الحضارة البابلية، الحضارة الآشورية ... وغيرها)

* صابر مولاي أحمد: الدكتور خزعل الماجدي المحترم؛ مرحبا بك وشكرا لك على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار معك؛ تبعا لمهمتك كمفكر وباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان؛ ما هي الآفاق العلمية والمعرفية التي بسطها ويبسطها هذا العلم في وجه الإنسانية؟ وهل هناك اهتمام حقيقي بهذا العلم في الوطن العربي؟

خزعل الماجدي: علم الأديان هو أحد العلوم الإنسانية، والذي نشأ في حدود منتصف القرن التاسع عشر على يد عالم اللغويات والأساطير الألماني (ماكس مولر)، واستمر هذا العلم بالتوسع في تخصصاته الدقيقة لأكثر من قرن ونصف القرن حتى يومنا هذا. وتأسست لهذا العلم كليات وأقسام أكاديمية في جامعة السوربون - قسم علم الأديان (1885). جامعة شيكاغو - قسم الأديان المقارنة (1893). جامعة مانشستر - قسم الأديان المقارنة (1904). جامعة توبنغن في ألمانيا - كرسي علم الأديان (1910). جامعة ميلانو - کرسي علم الأديان (1912). وازداد عددها في العالم المتحضر بعد بدايات التأسيس، وهناك، اليوم، المئات من المختصين في هذا العلم في العالم. أما في عالمنا العربي، للأسف، فيخلو من أقسام متخصصة ومن متخصصين بالمعنى العلمي العميق للتخصص. وواضح أنه علم غير مرحب به بسبب الخوف، غير المبرر، منه، وبسبب الوهم في أن هذا العلم سيشوّه الأديان أو إنه سيقود إلى الإلحاد، وأنا أرى عكس ذلك تماماً في كونه سيجعل الإيمان خالياً من الشوائب، وسيزيل التعصب، ويجعلنا نرى الأديان من منظور التسامح والحوار والتفاعل.

يتسع علم الأديان لما يقرب من خمسين علماً فرعيا ومنهج بحث علميّ في مكوناته، ولذلك فهو مشحون بالثراء المعرفي العميق والراسخ، فقد أثمرت جهود معلميه الكبار عن بيدر كبير من الكتب والبحوث والدراسات المعمّقة التي ننهل منها اليوم مادتنا في البحث والتعليم. وإذا كان هذا العلم، اليوم، مطروداً من جامعاتنا ومنابرنا الأكاديمية؛ فإنه، بلا شك، سيؤسس مكانته الكبيرة، ذات يوم، مع زيادة التنوير والتقدم في عالمنا العربي والإسلامي.

* صابر مولاي أحمد: هناك وعي لدى البعض من القدماء بأهمية معرفة فهم التنوع الذي تعرفه الأديان والطوائف الدينية... ونستحضر هنا على سبيل المثال، تجربة أبي الفتح الشهرستاني (-1153م) وكتابه الملل والنحل، بصفتك ناقدا ومحللا؛ كيف تقيّم جهود القدماء في هذا المجال؟

خزعل الماجدي: ربما كان المسلمون من أكثر الشعوب الوسيطة في اهتمامها بالأديان فيما عُرف بـ (الملل والنِحل)، لكنك عندما تدرس ما كتبوه في هذا المجال، ستجدُ أنه مكتوب لإعلاء شأن الإسلام من خلال عرض باقي الأديان والبحث في اضطرابها وأخطائها، من وجهة نظر المسلمين، وبذلك يكون هذا العلم الإسلامي الوسيط مؤدلجاً وعقائدياً، فيفقد صفة العلم الحقيقي. وقد شرحت بالتفصيل في كتابي (علم الأديان) هذا الأمر عبر نتاجات أغلب المفكرين الإسلاميين لحوالي ستة قرون متتالية. ولكي أكون دقيقاً، أقول إنه حتى حين يتم تناول شرح مذاهب وفرق الإسلام، فسنجد الانحياز المذهبي واضحاً في معالجة هذا الموضوع حسب معتقد ومذهب كاتبه، وهو ما يشير، أيضاً، الى عقائدية ودوغمائية هذا العلم الإسلامي الوسيط، وخروجه عن مسار العلم الحقيقي. وربما يكون البيروني هو الأفضل في هذا المجال بسبب نزعته الأنثروبولوجية في عموم كتبه، ولكن كتابته عن الأديان تبقى محدودة وغير منهجية بسبب طبيعة العلوم الإنسانية في العصر الوسيط.

* صابر مولاي أحمد: ما هي أوجه الفرق بين الأسطورة والوحي الذي تميّزت به الأديان الإبراهيمية؟ وهل هناك أوجه تشابه بين الأسطورة والوحي؟ نوجه لك هذا السؤال مع العلم بأن مفهوم "الأسطورة" في الثقافة الإسلامية اليوم يعرف نوعا من الالتباس وعدم الوضوح؛ فهناك، مثلا، من يجعله مرادفا للخرافة وما شابه ذلك.

خزعل الماجدي: الفرق واضح بين الوحي والأسطورة؛ فالوحي هو الوسيط بين الإله والنبي (ويسمى التابع، الرائيّ)، وهو الناقل من الإله إلى النبيّ. أما الأسطورة، فهي إرث متواتر لشعب من الشعوب ينقله الكهنة ورجال الدين للناس، وقد يكون أسلاف هؤلاء الكهنة من وضع هذه الأساطير وأحاطها بالقداسة. الوحي والأسطورة كلاهما مقدّس عند الشعوب، لكن قداسة الوحي تزداد في الأديان الوسيطة ومنها الإسلام.

الوحي، بشكل عام، هو كلام أو نصٌّ مقدّس لا يتضمن، بالضرورة، أسطورة أية قصة مقدسة، بينما الأسطورة هي حكاية مقدسة، أسماها المسلمون (أساطير الأولين)، وهي حكايات الأنبياء والأولياء والحوادث التي تنطوي على عظةٍ أو عبرةٍ ما.

مع العصر الوسيط، خلال انتشار الديانات الإبراهيمية، لم تعد الأساطير كما كانت في العصر القديم حكايات مقدسة عن الآلهة، بل أصبحت تأريخاً مقدساً وأشخاصاً وكائنات ذات طبيعة مقدسة، وهو تحوّل مهم جدّاً حصل بسبب وحدانية الله الذي لم تعد له أساطير وحكايات، فتسربت شحنة الأساطير إلى الحوادث والمعجزات والملائكة والأنبياء والأولياء.

في الحالين يكون نص الأسطورة ونص الوحي مقدّساً، عند الشعب الذي يؤمن بذلك الدين، رغم اختلاف مصدرهما، وهذا أحد جوانب تشابههما.

أما التباس مفهوم الأسطورة، في الثقافة الإسلامية اليوم، فهو إما ينمّ عن الجهل بها أو التعمد في إطلاق الخرافة عليها، كنوع من الشتيمة؛ لأنهم يدركون أنها لصيقة بالشعوب القديمة (متعددة الآلهة) التي سبقتهم. وكما قلت أن الأسطورة الوسيطة تغير مضمونها، ولم يعد يشمل الإله الواحد.

* صابر مولاي أحمد: في نظرك كيف تساعدنا الميثولوجيا وتاريخ الأديان في الحد من ظاهرة التطرف والتشدد وأعمال العنف التي تتبناها وتدعو إليها الأصولية الدينية باسم الإسلام؟

خزعل الماجدي: التبصّر العلمي، في كل مجال، يساعدنا على تجاوز محننا وظواهره المتطرفة. لكن ما يمنع ذلك هو الجهل والتشدّد والتمسك بالأصول. يمكن للميثولوجيا كعلم منهجيّ دقيق أن ترصد جذور أساطيرنا وعلاقتها بديانات أخرى، لتوضّح أن ما نتداوله هو متداول عند من سبقنا وعند غيرنا، بطريقة أو بأخرى. ويمكن لتأريخ الأديان أن يصلنا بأعمق محطات ظهور الأديان في عصور ما قبل التاريخ مروراً بكل أديان العالم، لنشعر فيما بعد بوحدة الأديان وتأثرها ببعضها فنقبل بفكرة حرية العبادة، ونتعلم أن لا نكره ونسيء لأديان غيرنا، حتى لو كانت منقرضة، وهو ما يجعلنا نحترم الإرث البشري وننظر إليه بعين أخرى لنتخلص من التعصّب.

* صابر مولاي أحمد: التعدد الذي تعرفه الإنسانية من حيث الأديان؛ هل هو نتيجة لفكرة وأصل واحد من حيث الجوهر تفرعت عنه كل الأديان؟ أم إن ذلك يعود إلى اختلاف في الأصل والجوهر؟

خزعل الماجدي: سيطر السحر بقوانينه النظرية والعملية على أغلب تاريخ الإنسان، وفي العصر الحجري الحديث (نيوليث) في حدود 8000 ق.م نشأ الدين من رحم السحر، واختلف عنه في كونه أدرك أن الآلهة هي التي تسيطر على الحياة والكون كلّه، وقد كانت طبيعته زراعية ماترياركية، ثم تحول إلى طبيعة باترياركية أخرى، ثم رافق حضارات وثقافات الشعوب، وكان التعدد سمته الرئيسة، وبسبب اختلاف بيئات وثقافات ولغات الشعوب نشأ التعدد في الآلهة والأديان، وحين جاء التاريخ الوسيط ظهرت دعوات لعبادة إله واحد كصدى لتكوّن أول إمبراطورية جمعت الشرق والغرب، وهي الإمبراطورية المقدونية، ورافقت طموحات عبادة الإله الواحد نزعات سياسية واجتماعية مختلفة، ومازال التوحيد إلى يومنا متعددا بطبيعته حسب الثقافات التي حملته. خذ مثلا: التوحيد اليهودي يختلف عن التوحيد المسيحي، وهذان يختلفان عن التوحيد الإسلامي، وكلّ هذه الأديان تختلف عن التوحيد الهندوسي والصيني وغيرهما. التعدد في الأديان أمر طبيعي بسبب التعدد في الثقافات. أما تعدد الآلهة، فكانت له ظروفه القديمة المعروفة التي هي نتاج الباترياركية ما قبل التاريخية.

* صابر مولاي أحمد: كما تعلم بأن القرآن يشترك مع العهد القديم والعهد الجديد في الكثير من المواضيع، كيف تقرأ هذا التشارك والتداخل بين هذه الكتب الثلاثة؟ وفي رأيك بما تتميز به بنية النص القرآني في نظرتها من حيث المضمون والمنهج لتلك المواضيع؟

خزعل الماجدي: التشابه جاء بسبب البيئة الثقافية الواحدة لهذه الأديان الثلاثة، وهي بيئة الشرق الأدنى القديم، وهي ذاتها بيئة الأديان المتعددة الكبرى، والتي تكمن في تربتها أديان الشرق الأدنى كالسومرية والمصرية والبابلية والكنعانية والآرامية والفارسية... إلخ. وربما سيكون السؤال الحاسم والأقوى هو لماذا تتشابه هذه الأديان الثلاثة مع تلك الأديان المتعددة التي سبقتها في المكان نفسه؟ وهو مجال بحث غزيرٍ ونوعي عند العلماء الآن!

لو أن كلّ دين، من هذه الأديان الثلاثة، نشأ في بيئة مختلفة (كالصين والهند وأمريكا القديمة) لما وجد تشابه بينها في موضوعاتها وفي أسلوبها وتفاصيل مكوناتها.

* صابر مولاي أحمد: تخبرنا العلوم الانسانية وعلم الأديان وتاريخها أن الثقافي يكون حاضراً في نشأة وتشكل مختلف الأديان؛ فتبعا لطبيعة التطور العلمي والتكنولوجي، الذي يعرفه العالم، هل هذا يعني ظهور أديان وتشكل معتقدات جديدة فيما هو قادم؟

خزعل الماجدي: نعم هذا مؤكد، بل إن مثل هذه الأديان ظهر بعد الإسلام مثل السيخية والقاديانية والبابية والبهائية والربوبية، والرائيلية وأديان الكائن الحي والسنتولوجي وغيرها من الأديان المعاصرة التي تتناسل في المجتمعات الغربية واليابان وكوريا والصين وغيرها. وسيحفل المستقبل بظهور أديان جديدة ونزعات روحية جديدة. وهذا يشير إلى العلاقة بين الثقافة والدين، حيث التلازم بينهما وشيج وقويّ.

المشكلة، عندنا، أننا نتصور نهاية واحدة، أيضاً، للأديان وهي انتصار دين واحد سيكون دين البشر كلّهم، متناسين أن هذا هو المستحيل بسبب تنوع الثقافات وتحولها الدائم، بل لابد أن أقول إن الأديان التي ستبقى في حاضنة الجهل والتعصب ستذبل وتتآكل وقد تموت، وربما يمكن القول إن الأديان التي في حاضنة حضارية ومتطورة ستحافظ على تماسكها بسبب مرونتها ومطواعيتها للتفاعل مع تطورات الزمن.

* صابر مولاي أحمد: هناك نوع من الالتباس في تعريف الأسطورة في الثقافة العربية والإسلامية بشكل عام بكونها تتعارض مع العقل أو قريبة من الخرافة ما هي الأسباب التي من وراء سوء الفهم هذا؟ وكيف بالإمكان رفعه؟

خزعل الماجدي: نوّهت سريعاً عن هذا الموضوع، وسأتفصّل فيه. ولابد من القول، أولاً، أن ثقافتنا في العلوم الإنسانية المرتبط بالأديان، سواء علم الأديان أو مقارنة الأديان أو تاريخ الأديان أو علم الاجتماع الديني وغيرها ثقافة بسيطة وغير معروفة إلاً عند المختصّين. أما الجماهير العريضة ورجال الدين، فلا علاقة لهم بها، وإذا تناولوها فإنهم سيوظفونها بطريقة أيديولوجية لصالح ما يعتقدونه، وهذا أمر مربكٌ. هذه علوم لابد من إبعادها عن النزعات الدوغمائية والعقائدية والدينية والقومية وغيرها. الناس لا يريدون فهم هذا؛ لأنهم تعلموا ذلك من داء العصر العربي الحالي الذي هو السياسة. ولذلك، تنأى حقيقة الأسطورة بعيداً وتلتبس وتخلط بالخرافة والحكاية والملحمة وغيرها.

الأسطورة لا تحمل الحقيقة ولا تريد أن تعبّر عنها، بل ما يهم في الأسطورة ليس صدق ربط السبب بالنتيجة، وليس ما فيها من أحكامٍ ومعتقدات، وليس صحة أو خطأ المعلومات التي تحملها. المهم هو ما ترويه وكيف ترويه، وما تشحنه في الحواس، قبل الدماغ ... وفي اللاعقلي قبل العقلي، من شحنات وبرقٍ يضيء، ولو لوهلةٍ !؛ ذلك العالم اللامتناهي في أعماقنا. المهم أن تكشف شيئاً سينغلق على نفسه بعد كشفه السريع هذا.

في الأسطورة، لا بد من المبالغة، ولا بد من اللاعقلانية لكي تكون الأسطورة على حقيقتها، وإلاّ ما جدواها إذا كانت بدون هذا، وهي، في هذا الحال أو ذاك، خطاب يخاطب الحواس قبل مخاطبته للعقل. والحواس بحكم طبيعتها الغريزية لا تحتمل العقلنة. إنها تريد أن توصل لنا رسالة وليس حقيقة راسخة، وهذه الرسالة تفيدنا في الإيمان والقلب، وليس في التاريخ والعقل؛ فالأسطورة، إذن، نصّ غريزة وحواس لا يمكن أن يرقى ليكون نصّاً عقلياً؛ لأنه سيتحول إلى فكر أو فلسفة، وهذا ما يؤيد نشوء الفلسفة في بواكيرها الأولى، من الأسطورة، وهي، بهذا التحديد، لا تعني أنها نتاج هابط القيمة، بل ربما هذا هو ما يرفعها إلى كونها نتاج الطراوة الجمالية والروحية، والذي يمنحها القدرة على البقاء والتنوّع.

تختلف الأسطورة عن الخرافة في أن بطل أو أبطال الأسطورة هم من الآلهة أو الكائنات الإلهية. أما أبطال الخرافة، فهم من الجنّ أو العفاريت أو الشياطين، والخرافة هي الشكل الشعبي للأسطورة حين تقل فيها القداسة، وتهبط القيمة المقدسة العليا لبعض الآلهة، فيتحولون إلى أشباه آلهةٍ ثم يتحولون إلى أنواع من الكائنات الغيبية القليلة أو المعدومة القداسة، وتكون الخرافة مثقلة بالخوارق والمبالغات والأحداث البهلوانية، في حين تعبِّر الأسطورة عن تناسق عميق ودفين وتتوازى أحداثها في إيقاع واضح وتأخذ خوارقها منطقاً معقولاً ومتوازناً. وتظهر الأسطورة كجزءٍ مقدس وعضويٍّ من الدين الذي تكون جزءاً منه، في حين لا تكون الخرافة جزءاً من الدين وليس لها أية علاقة عضوية به.

فرق الأسطورة عن الخرافة يكمن في أنها مقدّسة مهابة تتحدث بجلال عن إله ما، أما الخرافة فليست مقدسة وبطلها الجن والشياطين والغيلان والسعالي وغيرهم، وهي ليست جزءاً من الدين، بل هي جزء من الذاكرة الشعبية المثقلة بالخوارق.

* صابر مولاي أحمد: كلمة أخيرة

خزعل الماجدي: جميع الأديان محترمة، ويجب أن نضعها في زمنها ومكانها ومجتمعها وأن لا نعتدي عليها ولا نزدريها، ولكن من حقنا أن نناقشها ونحللها علمياً دون المساس المتعمّد بها.

كان البابليون يكتبون على معابدهم عبارة (لا تشتم إلها لا تعبدُه) وهذا، في رأيي، هو أرفع أنواع السلوك الديني على مرّ العصور، ويمكننا القول اليوم (لا تسئ لدينٍ لا تعتقد به)، لكي نعيش بسلام مع الجميع. وثق أن أعظم ما يمكن أن نعمل للدين، أيّ دين، هو النظر إليه علمياً، ونقل أهله من بيئة التخلف إلى بيئة التحضر لكي ننقذه من الضياع والموت، الجهل هو الذي يميت ويدثر الأديان وليس العلم والتحضّر.

***

حاوره: الدكتور صابر مولاي احمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

"الكناري لا يغرّد الا عندما يكون وحيدًا"

نافت حياته الادبية عن الخمسين عامًا، كما نافت حياته العملية في الصحافة عن الاربعين عامًا.. أما عدد مؤلفاته فقد تجاوز الستين. كتب القصة والرواية والمسرحية.. كما كتب الشعر والمقالة الادبية. تُرجم الوفير من كتاباته إلى العديد من اللغات. حصل على جائزة الابداع الادبية عام 2000، يقول إن حياته لا تعدو كونها قصة تمسك بيد أختها. له قصة طريفة مع البلبل الغريد يرويها في المقابلة التالية مع تيماء عمرو.. إنه الكاتب الاديب ناجي ظاهر ابن مدينة الناصرة الضاربة جذوره عميقًا في أرض قرية سيرين المُهجّرة.

- كم لك من الوقت تعمل بالصحافة؟

* قاربت هذه السنة الخامسة والاربعين عامًا من العمل في الصحافة. أعرف أن هذا رقم مخيف لطلاب في ميعة الصبا، إلا أن هذه هي الحقيقة وعلينا أن نتعامل معها عندما نكون في لحظة جدية مثل هذه. أتيت إلى الصحافة من باب الادب، لهذا عملت في الصحافة الادبية والاجتماعية. إنني اعتبر نفسي إنسانًا جديًا لهذا عملت منذ البداية وطوال الوقت على تنمية قدراتي في مجال الصحافة، فقرأت العديد العديد من الكتب التي تناولت موضوع الصحافة بالدراسة كما التحقت بالعديد من الدورات.. بعضها كان عاليًا. حقيقة أنا من المؤمنين بالموهبة إلا أنني مؤمن أيضًا بأن علينا أن نحقن الموهبة دائمًا بالمكتسب من المعرفة.. أنا طالب مجدّ في حقول المعرفة واؤمن تمام الايمان بأن الواحد منا نحن بني البشر يبدأ تعلّمه منذ اليوم الأول له في هذه الحياة.. ولا ينتهي بانتهائها.. نحن طلاب دائمون ومدرستنا هي الحياة والكتب كما قال الكاتب الروسي المبدع مكسيم جوركي في كتاب مذكراته.

- ما هي الصحف التي شاركت فيها؟

* عملت في العديد من الصحف.. أذكر بعضها على التتالي: مجلة المواكب التي كان يحررها ويرئس تحريرها صديقي الشاعر الاديب فوزي عبدالله رحمه الله، الراية، الميدان وقد أصدرتهما حركة أبناء البلد قبل العشرات من السنين. وعملت مدة سنة في صحيفة الاتحاد الحيفاوية، كما عملت إلى جانب صديقي ورفيقي الراحل مبكرًا الكاتب عفيف سالم في صحيفة الجماهير وبعدها في مجلة الآداب. بعد ذلك انتقلت للعمل في صحيفة الصنارة.. عملت فيها نحو العشرة اعوام. كما عملت مدة أربعة عشر عامًا مراسلًا ومديرًا لمكتب وكالة الانباء الفلسطينية الرسمية في مدينتي الحبيبة الناصرة. آخر صحيفة عملت فيها كانت حديث الناس التي تصدر في الناصرة وقد عملت فيها حوالي السبعة أعوام. كما عملت محررًا في موقع الكتروني. أما بالنسبة للكتابة والنشر فقد نشرت في معظم الصحف والمجلّات الصادرة في بلادنا خلال فترة كتابتي التي نافت عن الخمسين عامًا، ونشرت أيضًا في مجلات أدبية وصحف كانت تصدر في الضفة الغربية لعلّ أبرزها مجلة الفجر الادبي التي كان يحررها الكاتب الصديق الراحل علي الخليلي.

- هل كنت رئيس تحرير و ما هي المجلات التي عملت فيها؟

* نعم رئست تحرير مجلة الشرق التي كانت تصدر في مدينة شفاعمرو إلى ما قبل مدة عام. و رئست تحرير مجلة الشعاع التي ما زالت تصدر في يافة الناصرة بهمة صديقي الشاعر نقولا مسعد. كما رئست تحرير مجلة الفجر الجديد في عهدها الاول، وقد كنت عضو تحرير في العديد من المجلات أذكر منها: المواكب، الفجر- إلى جانب الكاتب المرحوم صليبا خميس وغيرها. وقبل هذا وكله مجلة الجديد الحيفاوية.

- هل شاركت في تعليم الطلاب ضمن ورشات لتعلم الكتابة الابداعية في مجال كتابة القصة القصيرة؟

* قبل حوالي الخمسة عشر عامًا اقترحني الصديق الراحل مدير دائرة الثقافة العربية الكاتب موفق خوري لأكون معلمًا في عدد من المدارس لموضوع الابداع، كان ذلك ضمن مشروع ميلاد قصة. وقد قمت بالفعل بتدريس الابداع في عدد من المدارس القائمة في بلدات مختلفة. وأصدرت عددًا من الكتب للطلاب المشاركين. بعد انتهاء هذا المشروع قلت لنفسي لماذا لا تبادر لمواصلة هذا المشروع وأنت واحد من عشّاق الابداع؟ وكان أن اقترحت على عدد من المدارس القيام بهذه المهمة المحبّبة فوافقت في معظمها. في هذه الدورات حاولت نقل ما تعلمته وجرّبته على جلدي إلى الطلاب المشاركين فيها.. وكنت طوال الوقت أفكر في عدم الانغلاق على الذات.. وأردت نقل التجربة على أمل أن يولد كتّاب ذوو معرفة في بلادي الحبيبة. التجربة كانت ناجحة.. وأنا متأكد من أنها ستترك أثرًا واضحًا في الفترة المقبلة. بالمناسبة عملت مدة اعوام معلمًا للكتابة الابداعية والدرامية منتدبًا من مشروع كاريف الرائع في المدارس العربية.

- حدثنا عن بداياتك في كتابة الأدب؟

* بداياتي الادبية تمّت وأنا على مقاعد الدراسة.. ابتدأتها في مجلّات للصغار مثل " اليوم لأولادنا" وزهرة الشباب"، وأذكر ان رئيس بلديتنا السابق رامز جرايسي كتب في هذه الاخيرة وجمعتني به مدرسة واحدة. كما كتبت ونشرت ضمن برنامج الادب الاذاعي إلى جانب محرره الكاتب الصديق عرفان أبو حمد طيب الله ترابه وذكراه. فترة التمرين تواصلت مدة ثلاث سنوات من 1965 حتى 68، في هذه السنة كتبت قصة عنوانها الكلمة الاخيرة تحدثت فيها عن مدينتي وحبيبتي وأمي، وأرسلتها إلى أهم مجلة أدبية كانت تصدر في تلك الفترة، هي مجلة الجديد الحيفاوية التي حررها في حينها الشاعر سميح القاسم رحمه الله. في العدد التالي فوجئت بالقصة تنشر فيه. فانتابتني مشاعر ما زالت تبعث الدفء في قلبي وروحي حتى هذه الايام. شعوري بأنني أصبحت كاتبًا دفعني إلى المزيد من قراءة الكتب.. وبإمكاني أن أقول إنني لم أنم منذ تلك القصة ونشرها كما ينام الناس.. ففي روحي مكتبة. ولعلّي أشير هنا إلى أنني أيام كنت طفلًا صغيرًا أتصوّر الجنة مكتبة. أنا اليوم مؤلف أكثر من ستين كتابًا توزّعت على القصة القصيرة والرواية وقد كتبت المسرحية ولي فيها إنتاج لا باس به للكبار والصغار كما كتبت الشعر وصدر لي فيه أربع مجموعات، إضافة إلى المقال الادبي الذي كتبته طوال أيام حياتي. كم أحن إلى ايام البدايات بكل ما فيها من قسوة وتحد.. وإثبات للوجود في عالم لا يخلو من شراسة.

- ما هي أكثر الكتب التي أحببتها عند كتاباتك؟

* لأعتبر هذا السؤال حول أهم الكتب التي قرأتها في حياتي.. لأقل لكم أولًا إنني أحببت قصص الف ليلة وليلة.. ومنذ قرأتها وأنا أبحث عن كتاب يضم قصصًا مثلها. كما قرأت كتابات للأديب العربي العريق أبو حيان التوحيدي لا سيما كتابه عن مثالب الوزيرين ولهذا الكتاب قصة تروى لقد عثرت عليه مجردًا من غلافه.. قرأت بعضًا مما ورد فيه فانبهرت.. أردت أن أعرف مَن هو مؤلفه فعرضته على معلمي المحبوب في المدرسة الاستاذ المرحوم الكاتب ابن عرابة البطوف محمود كناعنة، الذي أقام في مدينتي الناصرة وكتب عنها كتابًا جيدًا أعادت مطبعة الحكيم طباعته قبل سنوات وحمل عنوان تاريخ الناصرة، فما كان من الاستاذ محمود إلا أن أجابني قائلًا بعد تصفّحه له إنه كتاب مثالب الوزيرين للتوحيدي.. لقد قرأت طوال حياتي وما زلت وسوف أبقى.. وبإمكاني أن أقول إنني قرأت من آداب العالم المختلفة ويندر أن يكون هناك أدب معروف في العالم لم اقرأ منه الكثير ولم أطّلع عليه.. فانا قارئ نهم.. وفي الامس قلت لابنتي إنني أحببت الكتاب وسوف أحبه مشيرًا أن هذا الحب يزيد كل يوم سنة.. الكتاب باختصار صديقي وعالمي الجميل.

- ما هي أشهر الروايات التي كتبتها؟

* كتبت حتى الآن عددًا وفيرًا من القصص القصيرة، ونشرتها في العديد من المجموعات كانت أولاها اسفل الجبل وأعلاه وأخراها ظل على السطح، كما كتبت قصصًا للطلاب الفتيان. أما في مجال الرواية فقد صدرت لي حتى الآن ست روايات قصيرة.. كانت أولاها الشمس فوق المدينة الكبيرة وأخرها حارة البومة..

- هل كتبت قصة عن سيرتك الذاتية؟

* عندما توفى الله والدتي رحمها الله وطيب ثراها عام 2007 بعد وفاة أخي الاكبر جوهر وزوجة خالي خضرة فودي. تفجّرت مكامن الفراق في قلبي فشرعت في الكتابة عن هؤلاء لأرى نفسي وقد غرقت في بحر الغياب ولأنطلق بالتالي في الكتابة عمّن أحببت في هذه الحياة وكان نصيبه الغياب.. هكذا انفجرت في الكتابة عن أحباء غيبتهم أيدي الردى بينهم كتاب وشعراء وأناس عاديون.. بعد فترة من حُمّى الكتابة تراكمت لدي مجموعة من الكتابات أطلقت عليها عنوان حياض غثيم- سيرة ذاتية من خلال آخرين.. وكان أنني لاحظت أن مَن يقرأ هذا الكتاب يكتشف سري أكثر فجاء عنوانه على ما جاء عليه.. في هذا الكتاب يوجد الكثير عني وعمن أحببت.. وقد استمددت عنوانه من رسالة في العزاء لابي العلاء المعري ومعناه الموت.

- ما هي أهمية الكتابة بالنسبة إليك؟

* هي قدري وحياتي.. ذات يوم سألني صديق ثري: أما زلت تكتب؟ فنظرت إليه مستغربًا، فأردف قائلًا أقصد هل يوجد قرّاء؟ عندها فهمت ما رمى إليه من وراء سؤاله فبادرت إلى التساؤل: وهل ينتظر البلبل مَن يستمع إليه ليغرد.. ضحك ذلك الصديق ومضينا في طريقنا.. باختصار أقول لك إنني سأكتب حتى لو بقيت الرجل الاخير على أرض الكتابة.

- هل لديك موهبة غير الكتابة والصحافة؟

* سبق وقلت إنني كتبت للمسرح إضافة إلى ما ذكرته وأشرت إليه من كتابات نثرية.

- كلمة أخيرة.

* أتمنى لكم التوفيق.. لقد ذكرتموني بالبدايات الاولى لقصتي مع الكتابة.. كنت مثلكم.. بالضبط مثلكم.. أريد أن أكتب، أن أعبّر وأن أجد موطئ قدم على هذه الأرض.

* * *

مقابلة أجرتها الطالبة تيماء عمرو ضمن وظيفة مدرسية.

* المسؤول الصحي في بلادنا العربية لا يعتمد على الكفاءة العلمية والإدارية، بل على العلاقات والوساطات والمحسوبيات

* الطب النووي في غالبه تشخيصي بنسبة تقارب 75% أو يزيد، وعلاجي بنسبة 25% تقريبا أو يقل

* الكتابة في العلوم الشرعية أصعب من الكتابة العامة في الفكر والأدب والثقافة

* مطالَعة كتب الأدب ضرورة للعالِم والداعية وطالب العلم

* نحن في عصر تزداد فيه الحاجة إلى تواصل بين علماء الشريعة وعلماء الطب، لكثرة المستجدّات والنوازل فيما يتعلّق بالمجال الطبي

* دراسة العلوم الشرعية تَصلح بها الأرواح والأبدان، والطب تَصلح به الأبدان وهو المُعين على صلاح القلوب

* نحتاج لتحرير المصطلحات والألفاظ قبل نقدها أو وصفها أو الحكم عليها

***

رغم اغترابه لنحو عشرين عاما فيما تُسمَّى جنّة الله في الأرض (كندا)، ورغم الدعاوى الحثيثة للاندماج التام في مجتمع غربي يتوفّر على مقوّمات الحياة الحديثة الكريمة؛ إلّا أنه ظل مهمومًا بوطنه المريض ليبيا، ووفيًّا لقضايا أمّته العربية والإسلامية التي ليست أقلّ مرضا من أحفاد عمر المختار. وُلد في طرابلس بليبيا عام آخر انتصاراتنا القليلة (١٩٧٣)، وتعلّم في المدارس الدينية حتى المرحلة الإعدادية، ثم أكمل في التعليم العام حتى تخرّج عام ٢٠٠٠ في كلية الطب جامعة طرابلس. ومنذ عام ٢٠٠٥ وحتى اليوم يواصل مشواره الطبي بكندا متخصّصا في فرع دقيق وهو الطب النووي. وفي إطار الآية الكريمة: "ومَن أحسن قولًا ممّن دعا إلى اللهِ وعمِل صالحا وقال إنّني من المسلمين" يفضّل تعريف نفسه بطالب علم شرعي، وينفق الساعات الطوال في بلورة مشروع فكري دعوي، أسماه تصحيح المفاهيم، أعدّ له نفسَه منذ بواكيره، وشرع في نشره عبر صفحته الفيسبوكية وعبر مؤلَّفات عدّة طُبع منها كتاب (ثمرات السنين) قبل عامين، والبقية تأتي بحول الله، وحول هذا المشروع وغيره كان حوارنا المتشعِّب الأطراف..

1- برأيكم، ما التّبعات التي خلّفها قرار إلغاء التعليم الديني في ليبيا عام ١٩٨٦؟

- كان قرارًا خطيرًا وجائرًا، بُنِيَ عليه ما بعده من قحطٍ وجدبٍ وتصحُّرٍ في وجود طلاب العلوم الشرعية في ليبيا بعد هذا التاريخ، و توقفت عجلة الإنتاج العلمي الديني الرسمي لعقود ثلاث أو يزيد، إلَّا من قِلَّةٍ التزموا علماء ليبيا داخلها في ظروف صعبة ومراقبة شديدة من أمن النظام السابق، ومجالس خاصة لبعض الطلاب، مما ترتب عليه شُحًّا ظاهرا في الساحة من طلّاب العلوم الشرعية الجدد المؤهَّلين للترقِّي على سلّم التعليم الشرعي والوصول إلى درجات تؤهّلهم ليحلّوا محل العلماء الموجودين في تأدية حمل الرسالة وإرشاد العباد والدفاع عن الدين. مع ما رافق ذلك القرار الحائف القاهر، من سجْن وقتْل وملاحقات وتضييق على العلماء الموجودين، ولعل أخطر تلك التبعات أن التجأ كثير من الشباب اليافع ممّن يتعطّشون لتلقِّي علوم الشرع والدِّين إلى بعض الدول العربية التي ظنوا أنَّ فيها البديل عن غياب مراكز التعليم الديني في ليبيا، ورحلوا إلى بعض تلك البلاد والتحقوا ببعض الأماكن التي تُدَرَّسُ فيها بعض العلوم الشرعية، وللأسف كثير منها لم تكن على الطريق المعتدل العلمي الصحيح الذي سارت عليه الأمة لقرون طويلة، فتلقوا الغلو والانحراف في فهم الدِّين وفهم الكتاب والسنة، ورجعوا إلى ليبيا وأحدثوا فيها شرخًا لازال يتسع كل يوم بين أفراد المجتمع، وحاربوا علماء البلاد الراسخين في العلم وسفَّهُوا علمهم واجتهاداتهم، ونشروا الفتن بين المسلمين، وأرادوا فرض تلك الآراء والفهوم والاجتهادات التي جلبوها معهم، حتى وصل الحال ببعضهم إلى التبديع والتضليل والتكفير واستحلال الدماء لمن خالفهم. ومما زاد الطين بلة تضييق النظام السابق على العلماء الربانيبن الراسخين في العلم وكان منهم سيدي الوالد العلامة الفقيه القاضي الشيخ مصطفى التريكي رحمه الله وغيره، فتصدّر جهّال ذلك الجيل من الشباب ممّن جلبوا غرائب العلم إلى بلادنا، ودعَمهم النظام لفترة من الزمن؛ وأحدثوا ولازالوا فِتنًا في المجتمع تحتاج لزمن طويل لرأب صدعها ومحو أثرها.

2- بحكم اطّلاعكم عن قرب على واقع الممارسة الطبية في ألمانيا وكندا، ما الذي يميّزهم وينقصنا في هذا الميدان؟

- في كندا، يملكون نظاما أكاديميا وإكلينيكيا شاملا، وتعليميا منظَّما وصارما، وبمواصفات عالية متطوّرة تؤهل الطبيب المتدرّب في تخصصه ليصعد السلم العلمي تدريجيا بخطوات مؤسَّسة ومنظَّمة، ليتخرّج كاستشاري مؤهل أكاديميا وإكلينيكا لتعليم الطلاب في كليات الطب البشري، ولعلاج المرضى، والتطوّر مع الزمن لمواكبة التقدّم العلمي. وهو نظام صارم يُطبَّق في كل جامعات كندا الطبية بنفس الشروط والقوانين والمتطلَّبات وتحت مظلّة واحدة وهي مظلة الكلية الملكية للأطباء والجراحين في كندا، وهذا يجعل من التدريب موحَّدا ومنظما بكفاءة عالية، وينعكس إيجابيا على العمل في المستشفيات وعلاج المرضى والتطوّر الطبي، وهذا ما نفتقده في أغلب البلاد العربية بسبب عدم وجود نظام أكاديمي وإكلينيكي موحَّد وبكفاءة عالية وتحت مراقبة منظمات حكومية وأهلية متخصصة، لأنها لا تولي للتعليم ولا للصحة أهمية كبيرة، بل تعتمد على توفير بعض الخدمات الطبية بطريقة عشوائية وغالبا ما تفتقد حتى لأساسيات العمل الطبي. وكلك المشكلة عندنا في الدول العربية، أنَّ النُظم الصحية - إن وجدت- تعتمد على الأفراد ممّن يتولى المسؤولية، ولا يوجد نظام مؤسَّسي موحَّد وشامل يتطوَّر مع الزمن ولا يتوقّف على صلاحيات ورغبات مسؤولي الصحة، وكذلك وجود المسؤول الصحي في بلادنا العربية لا يعتمد على الكفاءة العلمية والإدارية، بل على العلاقات والوساطات والمحسوبيات، ولهذا من الصعب الثقة في تغييرٍ صحيح إلّا ما ندر.

3- ما الآفاق التي يجوبها الطبّ النّووي الذي تخصّصتم فيه؟

- الطب النووي ( Nuclear Medicine ) هو أحد تخصُّصيْن يقعان تحت مظلة تخصّص علمي طبي تشخيصي يُسمَّى (Diagnostic imaging) أو التصوير التشخيصي وهو يشمل أيضا تخصص "طب الأشعة" Radiology ، والفرق الرئيسي بين التخصصين" الطب النووي وطب الأشعة": أنَّ تخصص الطب النووي، هو تصوير وظيفي؛ أي لتشخيص الأمراض في طورها الوظيفي functional imaging، وهذا قد يكون فيه تشخيص لبعض الأمراض في مرحلة متقدّمة قبل وضوحها على التشخيص بالأشعة ، بينما طب الأشعة Radiology هو تصوير تشريحي Anatomical imaging. والطب النووي في غالبه تشخيصي بنسبة تقارب 75% أو يزيد، وعلاجي بنسبة 25% تقريبا أو يقل، ولكن الطب النووي في الغالب هو تخصص تشخيصي يعتمد على استخدام الأشعة النووية السِّلمية - غير الضارة في العموم- بنسبة ضئيلة جدا؛ وذلك بحقْنها في الجسم بعدة طرق، أو الشراب أحيانا لتصوير الأشعة المنبعثة منها في داخل الجسم وخاصة أشعة جاما بأجهزة متطورة خاصة، حسب نوع المادة النووية المحقونة، والعضو المُراد تصويره، والغرض الطبي من التصوير، وشروط تقنية وفنية أخرى..وتوجد فروقات أخرى دقيقة، فكثير من الأمراض يمكن تشخيصها عن طريق طب الأشعة، لكن تبقى أمراض ومراحل في تشخصيها تتطلب التشخيص بالطب النووي. ثم الطب النووي مع تطوره المستمر والتقنية العالية في تصوير الأمراض في مراحل مبكرة، بما يُسمّى بالتصوير الجزيئي Molecular Imaging، بدأ يدخل في أبحاث وتشخيص أمراض وراثية وجينية كثيرة.

4- بناء على قول ابن الجوزي في صيد الخاطر: لكلّ عِلم بعِلم تعلُّق..ما أبرز القضايا الفقهية التي يجب أن يلمّ بها كل طبيب؟

- كأطباء مسلمين، نحتاج لمعرفة الأحكام والقواعد الفقهية المتعلقة بممارسة المهن الطبية بالعموم، وبالطب البشري بالخصوص؛ من حلال وحرام، وضوابط شرعية في التعامل مع المرضى وفي المستشفيات، وفيما يتناسب مع قضايا طبية حساسة؛ مثل كشف عورات المرضى، والموت السريري وغيرها. فهناك قضايا فقهية عامة يحتاج معرفتها كل طبيب مسلم يمارس المهنة، وهناك قضايا فقهية خاصة تتعلق بكل تخصص طبي على حدة، وهناك قضايا دقيقة خاصة تحتاج منا الرجوع إلى مجامع ففهية مرتبطة بلجان طبية ونقاشات وحوارات طويلة ومكثفة مستجدّة في الفقه الإسلامي" كعمليات الزراعة بأنواعها؛ كأطفال الأنابيب، وزراعة الأعضاء وغيرها. لأننا كمسلمين نخضع لعبادة الله وأوامره خالق الجسم البشري في إطار علمي منضبط.ونحن في عصر تزداد فيه الحاجة إلى ترابط وتواصل وتشاور بين علماء الشريعة وعلماء الطب، لكثرة المستجدات والنوازل فيما يتعلق بالمجال الطبي، وهذا يتطلب فقهاء مُلِمُّون بالواقع الطبي المتسارع بما يحتاجون معرفته في فهم الأحكام الشريعة وتأصيلها، وما أراه هنا: يتطلب التعاون مع مجمَّعات فقهية دولية ومحلية، أو تكون لها فروع عديدة يتم التنسيق بينها في اجتماعات روتينية، واجتماعات آنية كما حدث في زمن فيروس كورونا المستجَد.

5- ما مدى حاجة الداعية إلى مطالعة الأدب جنبا إلى جنب مع العلوم الشرعية؟

- مطالعة كتب الأدب ضرورة للعالم والداعية وطالب العلم لتحسين لغته وتطويرها وترشيدها وتقويمها، لتكون له أداة طيعة في فهم الكتاب والسنة وعلوم الشرع الحنيف؛ من فقه وتفسير وحديث وعقيدة، فاللغة العربية بها نزل القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبها كُتبت كل علوم الشرع ، فلا سبيل لصيانتها وتحسينها وتطويرها ووضعها في سياقها المراد، إلا بقراءة كتب الأدب ومعرفة دقيقة بأدواتها، وبلغة العرب ودلالات الألفاظ ومعانيها عند العرب الأقحاح ، وهذا يتطلب التنقيب والبحث والاطلاع على كتب الأدب واللغة بمختلف أنواعها ؛ من نحو وصرف وبلاغة وشعر ونثر وقصة وغيرها، ليستقيم الفهم والقراءة والكتابة عند العالم وطالب العلم والداعية، ولذلك مما تميز به الإمام الشافعي رحمه الله، أنه تعلم لغة فصحاء العرب من قبيلة هذيل وغيرها ومكث فيهم زمنا في مقتبل عمره ، حتى استقام لسانه وقلمه، مما سهل عليه طلب علوم الشرع والدين، بل أصبح حجة في اللغة وعبقريا في استنباط الأحكام وفقه الدين.

6- ما المهارات التي تراها لازمة لاجتراح فعل الكتابة بوجه عام، والكتابة الشرعية بوجه خاص؟

بالنسبة لمهارات الكتابة بصفة عامة تتطلب:

1. قراءة مكثفة ومنظمة ومؤسسة لزمن طويل، يمتد من زمن الطفولة أو مطلع الشباب، ولا تتوقف إلا يوم الرحيل من هذه الدنيا.

2. تنوع في القراءة الهادفة، واطلاع واسع على ما يحتاجه الكاتب من مبادئ وأساسيات في ثقافات وعلوم مختلفة؛ لأن الكاتب لابد أن يمتلك قدرا هائلا من المعلومات والمفردات والأفكار التي تسمح له بالتفكير والخيال وفهم الحياة والواقع ومكونات الفكر الإنساني وطرق عيشه وتفكيره وتواصله...، وأذكر في هذا الصدد كلاما بديعا سمعته من الأديب الموسوعي "عباس محمود العقاد" في حوار إذاعي مرئي، تحدث فيه عن أهمية القراءة الموسوعية للكاتب، وذكر أنه يملك أكثر من مائة كتاب في علم الحشرات يقرأ فيها، مع أنه لا يكتب عن الحشرات!

3. الحرص على الجلوس والحوار والنقاش والتواصل مع أهل العلم والثقافة والمعرفة؛ لأن هذا يشحذ همته وينظم تفكيره. ويُمكِّنَه من الاطلاع على مختلف الأفكار والعلوم والمعارف.

4. الممارسة المستمرة للكتابة، فيما يحبه ويجيده وفيما يجد نفسه وراحته فيه ونفع أمته، وهذا يطور من قلمه وفكره ويزيد من خبرته، ويفضل وخاصة في بداياته أن يختار مجموعة قليلة من أهل العلم والفكر والثقافة ممن يثق فيهم ويعرض عيلهم ما يكتب ويستمع لرود أفعالهم ونصائحهم ليستفيد منها.

5. أن يمارس الكتابة العامة، فيكتب للجمهور بقدر يضبط به وقته ونفسه، لأن الكتابة والنشر للجمهور هو أصعب من الكتابة والنشر في الكتب التي يقرؤها طبقة خاصة من المتعلمين والمثقفين بلغة علمية وأدبية واصطلاحية خاصة؛ ففي الكتابة للجمهور تحتاج لدِربة وخبرة عالية، وخاصة في انتقاء الأفكار والمواضيع والجمل والعبارات التي تناسب الجمهور بمختلف مستوياتهم التعليمية والفكرية، وهذا يعطي خبرة زائدة للكاتب وفهما أعمق لواقعه، ويزيد من قدرته على اختيار ما ينفع الناس ويصلحهم ويرفع من مستواهم الفكري والوعي والثقافي، وهذا لا يتأتى لمن يمارس الكتابة الخاصة وينشرها في الكتب والمجلات فقط. وهناك مهارات أخرى ولكن أكتفي بهذا.

وأما بالنسبة للمهارات التي يحتاجها الكاتب في العلوم الشرعية:

فهو لاشك يحتاج كل ما سبق ذكره من مهارات الكتابة العامة بالعموم، ولكنه يحتاج إلى مهارات إضافية خاصة بطالب العلم والكاتب في العلوم والتخصصات الشرعية:

1. تعليما مباشرا على علماء لفترة من الزمن، ولقراءة واطلاع واسع لمختلف العلوم الشرعية، وهذا يتطلب معرفة بعلوم الآلة؛ من نحو وصرف وبلاغة ولغة وأدب.. ومعرفة بعلوم الشرعية؛ من فقه وحديث وتفسير وأصول فقه وغيرها، ولهذا هناك شروط قد فصَّلتُها في أحد كتبي؛من تأسيس علمي رصين على يدي علماء متخصين في بداية الطلب، وقراءة واسعة مستمرة ومنظمة ومتطورة وواعية للكتب في مختلف علوم الشرع وعلوم الآلة.

2. تدريس ما يُتقنه من هذه العلوم للطلاب، لأن التدريس يُكسبه مَلَكَات ٍخاصة ودقيقة، ويُنظِّمُ فكره ويُطوَّره.

3. المُذاكرة والحوار مع العلماء وطلاب العلم والشخصيات المميزة في تخصصاتها الشرعية، وهذا يعطيه مَلَكَات زائدة ويُكسبه الانفتاح والتنوع الفكري والعلمي.

4. الكتابة في العلوم الشرعية أصعب من الكتابة العامة في الفكر والأدب والثقافة؛ لأنها تتطلب معلومات كثيرة متخصصة ودقيقة ومهارات عالية وقدرات زائدة، ومن سيقرأ لك هم علماء ومتخصصون يُدقَّقُون في كل كلمة وحرف تكتبه لأنك تحمل دِينا وتكتب عنه وفيه.

7- ما ملامح المشروع الذي تعمل عليه في الكتابة؟ وهل تراه يسير بالوتيرة المطلوبة؟

- بحكم دراستي الشرعية القديمة في مدرسة ومعهد ديني شرعي متخصص قبل إلغائه من قبل النظام السابق، وبحكم ملازمتي الطويلة لسيدي الوالد العلامة الفقيه والقاضي الشيخ مصطفى التريكي رحمه الله، وقراءاتي الشرعية المستمرة ولله الحمد، وبحكم دراستي في الطب وتخصصي فيه، وحياتي الطويلة في الغربة مع التواصل اليومي المستمر مع علماء ومثقفي بلادي ليبيا وغيرها من بلاد العالم؛ وجدت نفسي أكتب في مشروع متنوع ولكنه يحمل فكرة عامة، يحمل مشروعي فكرة عامة في الكتابة أسميته " تصحيح المفاهيم"؛ ولذلك كثير مما كتبته في العلوم الشرعية وخاصة في الفقه وأصوله، وفي طلب العلم وغيرها، ومنها كتابي المُعَدُّ للطباعة بإذن الله " شبهات حول المذهبية الفقهية والرد عليها" أو ما كتبته في سلسلتي التي أسميتها " ثمرات السنين" وطبع منها الجزء الأول ولله الحمد، وهي سلسلة علمية ووعظية وفكرية وتربوية وسلوكية وأدبية منتقاة بما يناسب مختلف الشرائح، وكتبات أخرى لم تطبع؛ فكرية وعلمية شرعية وسيرة ذاتية لسيدي الوالد، وأودبية، وقصصية وغيرها..، كلها أو غالبها تصب في غرض مشروعي الذي أسميته " تصحيح المفاهيم"؛ تصحيح مفاهيم علمية شرعية ودعوية وفكرية ووعظية وسلوكية وثقافية وأدبية وغيرها، بطريقة خاصة ومختلفة لايشعر فيها القارئ أن هناك من ينصحه أو يُلزمه بطريقة تقليدية معينة أن يفهم كذا أو يفعل كذا أو يقول كذا.. بل بطريقة الحوار والمحبة والعبرة والقصة والوعي والمعلومة، وهذا بسبب ما عايشته ورأيته من تغيير وتشويه كبير لمفاهيم وأفكار في مختلف مجالات العلم والفكر والمعرفة في مجتمعاتنا لأسباب كثيرة، ونسأل الله عز وجل الإخلاص والقبول والتوفيق. وتصحيح المفاهيم الذي أقصده، ليس هو بمعناه الضيق المحدود، بل بمعناه الواسع في نشر العلم والوعي بطريقة علمية توافق الأصول الصحيحة في كل مجالات العلم والمعرفة والفكر والتوجيه، بما يفتح الله سبحانه وتعالى وبتوفيقه وحده.

8- من واقع المسؤولية الوطنية، كيف تشخّص الداء وتصف العلاج لليبيا المريضة ككثير من دولنا العربية؟

- هناك أسباب عامة مشتركة لهذا الداء بين ليبيا ومختلف الدول العربية؛ ومن أهمها: الحكم الدكتاتوري الشمولي في ليبيا - الذي كان ولازالت امتداداته وآثاره موجودة- وفي كثير من الدول العربية؛ الذي عطل الحياة العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية لعقود طويلة، وحتي بعد تغيير بعض هذه الأنظمة لازلنا نعيش تربيتها وتبعاتها وتدميرها للتعليم والصحة، ومحاربتها للعلماء والعلم والثقافة والفكر، ونحصد اليوم نتائج زرعها. وهناك أسباب أخرى خاصة بليبيا جعلت الصراع يستمر، ووفرت للدول الأجنبية الغربية والعربية المناخ المناسب لتتحكم في مصير ليبيا ومن أهمها؛ وجود النفط والغاز، ومساحة ليبيا الكبيرة مع قلة عدد السكان، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب شمال أفريقيا، وهي بوابة مهمة إلى العمق الأفريقي، وتميزت بشاطئ طويل ورائع على البحر الأبيض المتوسط يصل إلى 1700 كم، مما زاد الأطماع فيها، ولأسباب سياسية أخرى مع ما حدث في بعض دول الجوار من انقلابات عسكرية وسياسية على ثورات الربيع العربي مما أثر سلبا على التغيير في ليبيا، وأسباب أخرى مبنية على الأطماع في ليبيا، وأيضا لافتقار التغيير في ليبيا إلى قيادات واعية وقوية وصادقة لقيادة مشهد التغيير مابعد سقوط رأس النظام السابق، واستمرار سيطرة وتغلغل رموز النظام السابق في كل الوزارات والمؤسسات العسكرية والمدنية واختراقهم لمعظم تشكيلات ثورة فبراير السياسية والعسكرية.

9- ما ردّكم على مَن يتّهمون الكُتّاب الإسلاميين بأنهم على طول الخطّ ناقدون ناقمون ساخطون يصدّرون التشاؤم ويبغّضون إلى الناس الحياة؟

- التعميم غالبا لايصف الواقع ولا يأت بحكم منصف ويكون فيه شطط وظلم. لكن الحقيقة أننا أحيانا نحتاج لتحرير المصطلحات والألفاظ قبل نقدها أو وصفها أو الحكم عليها.فما المقصود بالكتاب الإسلاميين؟! إن كان المقصود بهم من يكتب في العلوم الإسلامية والشوون الإسلامية، فهذا أمر آخر ويحتاج إلى حصر وتوصيف. وأما إن كان المقصود بهم من لهم خلفية إسلامية فكرية وأظن هذا هوالمقصود بالسؤال؛ سواء أكانت تلك الخلفية حزبية أو مؤسساتية أو انتماء لجماعات وتيارات تحمل شعارات إسلامية أو ما شابه ذلك،فالحقيقة والواقع يبين من وجهة نظري قلة وجود هؤلاء الكتاب المحترفين أصلا الذين يشحذون القلم والهمة لخدمة دينهم وقضيتهم في مختلف الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية وغيرها، ومن يكتب فيهم؛ قلة منهم من يكتبون بعلم وإنصاف وتوسط وشمولية وموضوعية وتحليل واطلاع واسع ومعرفة حقيقية بالواقع، وهؤلاء للأسف لا تُفتح لهم المنابر الإعلامية والعلمية إلا قليلا وهم موجودون ولله الحمد، لكن القضية تحتاج إلى الآلاف بل عشرات الآلاف من أمثال هؤلاء. ثم هناك فعلا مجموعة لابأس بها يكتبون وينتقدون لحب النقد وتأزيم الواقع وتضليل الناس وتخطئتهم بالجملة وزرع التشاؤم والشك وسوء الظن بالناس والمجتع، فيعمقون الخلاف ويزيدون المشاكل ويزرعون الأحقاد والصراعات، ولا شك أن أمثال هؤلاء تُفتح لهم القنوات وتيسر لهم منابر الإعلام لأنهم أفضل وسيلة لتشويه الإسلام والدين وإعطاء مبررات لأعداء الإسلام في حربهم الواسعة والجارفة لكل ما ينتمي للإسلام.ولاينتشر هؤلاء إلا بسبب تحييد العلماء والمفكرين والكتاب العقلاء المدركين للعلم وللواقع.

10- ما الذي أضافه إليك الطب ككاتب في العلوم الشرعية، لا سيما أنّ الإمام الغزالي وغيره من الفقهاء يرون دراسة الطب تقرّب صاحبها من الإيمان؟

- نعم، لا شك أن الطب هو أجل العلوم بعد العلوم الشرعية في تقريب الناس إلى رب الناس سبحانه وتعالى ولنفع الناس والتخفيف عنهم. فعلوم الشريعة وهي أشرف العلوم وبها يعبد الله عز وجل في الأرض على مراده وتقام أحكامه وشعائرة وتعمر الأرض كما أرادها له، وبها تحفظ الحقوق ويقام العدل ويتحقق نفع الناس. وتشترك دراسة الطب في كثير من تلك المقاصد؛ فدراسة الطب به يزيد اليقين بالخالق سبحانه وبديع صنعه وهو من أعظم ما يعين العبد على تحقيق العبودية، وبدراسة الطب يتحثث مقصد عظيم وهو نفع الناس والتخفيفي عنهم وصلاح أبدانهم المعينة على صلاح قلوبهم. فدراسة العلوم الشرعية تَصلح بها الأرواح والأبدان، والطب تَصلح به الأبدان وهو المعين على صلاح القلوب. وأذكر حكمة سمعتها من سيدي الوالد رحمه الله بعد نجاحي في الشهادة الثانوية العامة بامتياز ولله الحمد بعد إلغاء المعاهد الدينية التي كنت طالبا شغوفا بها، فقال لي رحمه الله: "كنت أعددتك منذ يومك الأول في الدراسة لتسلك مسالك العلم الشرعي لتنتسب إلى الأزهر الشريف وتنفع أمتك، ولكن بعد إلغائها، فلا أرى مجالا أنفع للناس والتخفيف عنهم كدراسة الطب"، فقد كان همه دائما نفع الناس.

11- في ظل المفاهيم المغلوطة عن الإسلام في الغرب، والدعم المحدود للمسلمين الجدد هناك، ألا ترى حاجة ماسّة إلى إسهام قلمكم الإنجليزي المكين في هذا الاتجاه؟

- الحقيقة هو كما تفضّلتم ووصفْتم، لكن كما تعلمون يصعب أن يشتّت الإنسان نفسه وجهده، وتبقى طاقة الفرد محدودة مهما تعدّدت ونمت، فقد أخذْت خطًّا معيَّنا في استخدام ما رزقني الله به من معلومات في علوم الشرع والتجارب والخبرات مع ما تعلّمته ومارسْته في الطب في تصحيح المفاهيم ونشر الوعي والمعرفة في مختلف المجالات العلمية الشرعية والفكرية والسلوكية والتربوية وغيرها بما يفتح الله وبما أجيده وأتقنه، وهذا يستلزم التركيز على اللغة العربية وفنونها، لأنها الأداة لنشر ما ذكرته، وكما تعلمون هذا لوحده يأخذ العمر كلّه ولا تَقضي منه حاجتك وما ينفع الناس. وأيضا مع إجادتي للغة الإنجليزية، لكن ما أعتقده وعايشته مع الدعاة في الغرب الناطقين بلغتهم الأم الإنجليزية، فأرى أن اللغة المستخدَمة في الدعوة كتابة ومشافهة هي لغة مختلفة وخاصة ومتخصصة، تحتاج لمهارات مختلفة وهذا يحتاج لوقت طويل وتفرُّغ، وهذا ما يصعب فعله مع اهتمامي بما ذكرته لكم آنفا مع ظروف الحياة والعمل. فلذلك فضّلت التركيز على ما أجيده وأتقنه ولمست نفعه بفضل من الله للناس، ومع ذلك أتابع وبكثرة ودقّة دروس ومحاضرات وحوارات الدعاة المتخصّصين في الغرب وأفهم بفضل من الله لغتهم المميزة، وهذا مما أحتاجه كطالب علم وككاتب وكطبيب.

***

د. منير لطفي

أُجري الحوار في 12 فبراير 2023م

د نجاح عرنجي:

- بعد الحرب وتفشي داعش وفرض قانون قيصر انهارت سوريا

- لم يبق في سوريا سوى الأرامل والأيتام وذوي الإعاقة النفسية

- منذ صغري وانا انتظر العطلة المدرسية لاذهب الى قريتي

- العراق بلد أحببته منذ نعومة اظفاري

سوريا مثل كل البلدان العربية التي هبت عليها زوابع وعواصف ما يسمى بالربيع العربي لكنه تحول في الشام الى زلزال عصف بالبلد فحوله الى اطلال ودفع بأهله الى الهجرة والتغرب الى كل منافي العالم بعد أن زحفت عليه فلول الإرهاب من كل جحور الظلام محملة بكل حقد وظلامية وبغض للجمال مدفوعة بالمال والسلاح العربي لا لشيء انما فقط لتخريب بلد جميل أمن تنفيذا لرغبة هذا الأمير أو ذاك الحاكم، ومن الذين عاشوا المعاناة وحملوا المأساة مضاعفة. الطبيبة الشاعرة نجاح حسين العرنجي التي تفرقت عائلتها بين المنافي حتى اتعبها البحث عنهم وهي تتنقل من بلد لآخر وهي اليوم في العراق علها تحضى بخبر مؤكد عن بلد هجرة ابنتها الأخير لتطمئن على وجودها ونجاح هي:

- نجاح حسين العرنجي خريجة أدب انكليزي

- دبلوم لغة إشارة وخبيرة لغة الاشارة في وزارة العدل

- دكتوراة بتأهيل النطق من جامعات السويد

- عضو الأكاديمية الطبية السورية

- أمين سر جمعية الموهبة والإبداع

- مدير عام مجلة البنفسج

- محاضرة بالمراكز الثقافية

- مدربة لمعلمات ومدربات حالات التوحد: الشلل الدماغي، المتخلفين عقليا، وتاهيل زاريع القوقعة

- معالجة ومدربة في العلاج الطبيعي الفيزيائي

وإضافة لحملها هذا المؤهل الإنساني فهي شاعرة تحاول إيصال معاناتها وماساة بلدها من خلال القوافي ولنا معها هذا الحوار اليوم:

* كيف كانت سورية قبل الحرب وكيف أصبحت بعده؟

- منذ بداية نشوء المدن السورية على ضفاف نهر بردى، والعاصي، والفرات، و الكبير الشمالي،وبقية الأنهار التي تنبع او تعبر الأراضي السورية وهي جنة الله على الأرض حيث الزراعة تغطي حاجة البلد ويتم التصدير الى باقي الدول والمدن الصناعية توفر الحاجات والأغذية والأدوية وكل متطلبات الحياة الرغيدة.. سوريتي قبل الحرب تنعم باقتصاد جيد وموفورة ميزانيتها التي تعتمد على السياحة الداخلية والخارجية.. اما بالنسبة للحركة العمرانية فهي مزدهرة والمسكن جميل وبناؤه على الطراز الحديث .. دخل الفرد يكفيه ويدخر من راتبه بسبب توفر الحاجات ورخص اسعارها.. ومن لا يملك وظيفة في الدولة هناك اعمال حرة.. وتجارة.. وزراعة مزدهرة.. سوريتي كانت من اجمل البلاد واهلها من اسعد البشر.لذلك نرى الزائر يستمتع كثيرا بزيارته ويتمنى ان يكون له مسكن دائم في سورية. اما بعد اندلاع الحرب وتفشي داعش بين المدن.. والقصف العشوائي والتدمير والخراب الذي لحق بالاراضي الزراعية وتدمير المدن وظهور تجار الحرب والفاسدين.. وكذلك الحصار الإقتصادي.. وقانون قيصر.. انهارت سورية وانهار الإقتصاد.. وساد الفقر والجوع والتشرد والهجرة. وفي بداية عام 2023 / 6/2 بدات الزلازل فانهارت معظم المدن الساحلية الجميلة المباني والحقول والحدائق الوارفة وتحولت سوريتي إلى بلد منكوب جراء الحرب والكوارث الطبيعية.. .ومن بقي من العوائل اصبح يعيش على المساعدات الخارجية. سوريتي دمرتها الحرب والزلازل. شبابها استشهدوا في الحرب. وبعضهم. هاجر. لم يبق في سوريتي سوى الارامل والايتام وذوي الإعاقات النفسية بسبب الحرب والفقر والجوع. والتشرد.

نسأل الله الفرج. وأن تهدأ ثورة الزلازل ويستقر الوضع لنعود إلى ديارنا التي كانت بالعز والخير والياسمين عامرة واليوم اصبحت قفارا.

* هل علمتك الحرب الترحال؟

- انا بطبعي احب تغيير الاماكن والتنزه وأعشق البحر والجبل.. اجالس الضفاف والشطآن.. واتحدث إلى العصافير والفراشات في حقول القمح وبساتين الرمان واللوز.. وقد نشأت في بيئة تحب السفر والترحال. كان والدي ووالدتي من هواة السفر القصير.. فمثلا هناك بعض الطقوس المتعارف عليها في سورية الا وهي ان جميع العوائل تخرج وتسافر يوم الجمعة وفي الاعياد إلى الجبل او البحر او على ضفاف الأنهار حيث الطبيعة الخلابة. وأماكن الإقامة المريحة والأجواء الجميلة.

فمنذ،صغري وانا انتظر العطلة المدرسية كي أذهب مع الأسرة إلى قريتي الجميلة (الكافات) او نسافر الى احدى المدن الساحلية

أما في فترة الحرب فكان الجميع يبحث عن الترحال إلى اي بلد لا يوجد في حرب ولا دمار ولا حصار.. وانا أنشد الهدوء والإطمئنان والسلام.. لذلك تراني اسافر كثيرا..

* ماهي قصة رحيل ابنتك؟

- ابنتي محامية شابة متخرجة من كلية الحقوق جامعة دمشق. في عام 2012 في اوج الأزمة والحرب.. وتعمل بالمحاماة وهي مجتهدة ولامعة منذ كانت تدرس القانون في جامعة دمشق. تزوجت من شاب برتبة ضابط وهو مسؤول مالي في جيش التحرير الفلسطيني، وبسبب رتبته العسكرية ومكانة ابنتي في القضاء فقد تعرضا للإغتيال أكثر من مرة. كما تم تفجير المكتب الذي يعمل به زوجها بعد ان تمت سرقة اموال ورواتب الجيش آنذاك. ففي لحظات الهلع والخوف والتفجير وتفخيخ سيارتها.. قررت ابنتي وزوجها الرحيل لينجوا بروحيهما وهكذا تمت إجراءات الإستقالة وأيقاف العمل والرحيل الى احدى الدول الأوروبية وقد انجبت بنتا جميلة تشبه الأميرات. وولدا محبوب المشاكسة والمشاغبة.. كل هذا حصل وأنا أقارع كؤوس الحزن والغياب على سفرها الذي تجاوز عامه الثامن.. وفي كل ليلة أمني النفس بلقياها واحتضان أطفالها.. هي ابنتي الوحيدة.. وفرحي البعيد.. الذي حرمته بسبب الحرب والإرهاب والقتل.. وكم اشكر مخترعي الموبايل ووسائل التواصل الصوتي والمرئي لانه يوفر لنا نصف المشاهدة وتشتفي الارواح بالصورة والصوت.. وقد اتفقنا مؤخرا ان نلتقي في العراق.. لان الدنمارك تمنع مواطنيها من زيارة سورية بسبب الكوارث الطبيعية..

* هل تنوين الإستقرار في العراق ولماذا؟

- العراق بلد احببته منذ نعومة أظفاري. احببته لان والدي رحمه الله كان يملك سيارة كبيرة وكان يعمل على هذة السيارة سائق سوري يسافر بها الى العراق يتاجر بحمولة زيت الزيتون في بغداد والبصرة والموصل ومختلف المدن العراقية ويعود بالسيارة وهي محملة بأنواع متعددة ولذيذة من التمور. وبما انوالدي رحمه الله كان يحب السفر فقد كان يرافق السائق او يسافر الى مطار بغداد للتنزه وانتقاء حمولة السيارة ومتابعة امور تجازة زيت الزيتون. وقد كان في كل مرة يسافر بها الى اي دولة ياخذنا في المرات القادمة بعد ان يكون قد استكشف البلد والأماكن ما عدا العراق. فقد رحل الى جوار ربه قبل ان نسافر الى العراق لذلك عندما اندلعت الحرب.. وقررنا انا وابنتي اللقاء اخترت العراق. وهي بلد لا تختلف كثيرا عن عادات وتقاليد سورية فنحن شعب واحد في بلدين. وتضاريسيا وجغرافيا متصلين فالقائم وحديث هي تتمة المدن السورية ويمكن التنقل بالسيارة وبساعتين تكون في الاراضي السورية.. كذلك الموصل قريبة جدا على مدينة حلب السورية الجميلة بلد الصناعات وطريق الحرير.. اما بالنسبة لبقائي واستقراري في العراق.. حاليا لا اود المغادرة لان وضع سوريتي لايشجع على العودة

* منذ متى تكتبين الشعر؟

- كان والدي كبير قومه بالرغم من انه كان في عمر الزهو والشباب كما انه كان ثريا. بسبب انتقاله من القرية الى العاصمة منذ الصغر وزواجه بسيدة هي سليلة الحسب والنسب والثراء.والدتي رحمها الله كانت من آل شقرة تدعى (آمنة شقرة) المنتشرة في لبنان وسورية وتركيا بسبب العمل في تجارة البولمانات والسيارات وتجارة العاج من دول افريقيا. حيث تعلمت مهنة الخياطة لسيدات الحي فكانت مشهورة في جميع احياء العاصمة لانها تخيط أثواب العرايس.. ومعلمات الكتاتيب والمدارس.. ومشهورة بفن الخياطة والتطريز وتملك ورشة تعليم هذه المنه مجانا.. وخاصة للبنات الفقيرات حيث تعطيهن ادوات الخياطة مجاننا مكافئة لهن في اتقان المهنة.. فقد كان يتردد على (المنزول) أو (المربع) وهذه اسماء لاماكن كانت تابعة للدار الكبيرة التي يملكها والدي في أحد أحياء مدينة دمشق العريقة واسم الحي (ركن الدين) وهو من أجمل الأحياء في مدينة دمشق خاصة وأن هذا الحي يقع على سفح الجبل الأشم جبل (قاسيون). فكان يتردد على هذا المكان مختلف صنوف الأشخاص من أدباء وشعراء.. فقراء وأثرياء. عازفوا الرباب ومن ينقرون على الطبل. وأصحاب الأصوات الجميلة حيث ينشدون الأناشيد الدينية وتصدح الأصوات بالغناء التراثي والشعبي.. ويرددون القدود الحلبية.. في ليالي الشتاء الطويلة وفي تلك الحقبة الزمنية كان والدي هو اول من يملك مايسمى ب(الرائي) أو (التلفاز) وهذا مايسر الزائر لبيتنا. حيث يتعرف على هذا الاختراع الحضاري الجديد.. . يترددون الى المنزول ويكونون في ضيافة والدي رحمه الله فترة وجودهم في العاصمة التي قصدوها بسبب البحث عن العمل.. او للاستطباب.. او التبضع.. أو للبحث عن العمل وسبل المعيشة.. ولأن والدي معروف بجوده وكرمه فكان القادمون من الأماكن البعيدة والسفر الطويل يقيمون عندنا ونحن شعب متحضر منذ فجر التاريج بالمناسبة انا من مدينة (السلمية) الملقبة بمدينة الفكر والثقافة.. والتي احتفلت منذ نهاية التسعينات باخر أمي في المنطقة. فالثقافة والفكر تولد مع أبناء(السلمية) بالفطرة. وبما ان الشعر ومايزال فاكهة سماوية.. تولد مع الشخص وتصقلها الثقافة والقراءات والبيئة والمواقف وفي بيتنا كان هذا المزيج من الثقافات والحضارات فكنت اتسلل من وقت لآخر الى (المنزول) وانصت الى القصائد النبطية.. والصوفية. والقدود الأندلسية واحفظها بسرعة عجيبة والقيها في اليوم التالي امام والدي وزائرات والدتي من اجل خياطة اثوابهن وانا في عمر 8 او 9سنوات وكنت الاقي الاستحسان والاحتضان والتصفيق من أسرتي والأقرباء ومعلمي مدرستي حيث كنت انشد اما م الطالبات واردد ما سمعته بالأمس في سهرة الأنس والمربع المكتظ بالمثقفين. وكنت عريفة لحفلات المدرسة حيث القي الكلمات والمواد الاحتفالية بصوت والقاء جميل وجهوري امام المفتشين الذين يترددون على المدرسة واول قصيدة نشرتها لي مجلة الحائط في مدرستي (العربي) كان عمري 10سنوات واتذكره تماما حيث يقول مطلعا:

ايها النهر لا تسر

وانتظرني لأتبعك

انا اخبرت والدي

بانني ذاهبة معك

وقد ذكرتني بها احدى مديرات المدرسة السيدة الفاضلة (الدكتورة فريدة وانلي)، حين التقينا في احدى الأمسيات الشعرية في للمركز الثقافي في مدينة دمشق بأن سجلات المدرسة تحتفظ بهذه الأوراق الصفراء وبأن القصيدة موجودة في السجلات المدرسية. وبعدها بدات بنشر القصائد والخواطر بالحرائد السورية اليومية المتداولة في ذالك الوقت ومازالت مثل جريدة (الثورة) وجريدة (تشرين) وما زلت انشر فيهما الى الان وبالمناسبة اذكر هنا بان اسم الشارع سمي بشارع (العرنجي) وهي كنية والدي واسم عائلتنا سمي باسمه تيمننا بما كان يقدمه من خدمات ومساعدات لاهالي المنطقة على مختلف أطيافهم وتوجهاتهم. وكذلك بسبب وجود مهنة الخياطة لدى والدتي رحمها الله فكان أهالي المنطقة يطلقون اسم الخياطة(العرنجي) على اسم عائلة والدي رحمه الله. وهكذا خلد التاريخ ذكرى والدي لقيامه بأعمال البر والخير والإحسان بين الناس رحمهما العلي القدير..

* انت تجمعين اختصاصين مختلفين. كيف توفقين بينهما؟

- سؤال وجيه دائما يوجه لي في اللقاءات التلفزيونية والمقابلات الصحفية وحتى في الجلسات الشعر ية والعادية.. إن اختصاصي العلاجي لمختلف حالات التوحد والإضطرابات النفسية.. وتأهيل النطق.. والعلاج الطبيعي يحتاج إلى ثقافات عالية.. وقراءات متعددة.. وصبر وقوة وعزيمة جبارة كي ينجح العلاج وهنا تبرز المواقف الحياتية اليومية على سجية تنقلني إلى عالم المريض الذي أُعالجه واتعرف على ذويه والإطار والبيئة المحيطة بالمريض هذه المعطيات تولد عندي فكرة تتمحور في اعماقي لتخرج بما يسمى بعلم الطاقة الإيجابية ولادة قصيدة. أو قصة قصيرة. او خاطرة.. ويكاد لا يمضي نهاري دون ولادة لفكرة قصيدة او قصة استقي بنودها من ملامح المريض او ذويه. وهكذا أجد نفسي اتماهى وانصهر في بوتقة عملي العلاجي ومواقف الاحساس الرهيف لدي لتعيد القصة القصيرة والخاطرة والومضة هيكلتي الإنسانية. شعرك كله لوعة، وفراق،والم،وغربة،.. ألم تمر بك مواسم فرح؟.. لقد توالت في أيام حياتي الفصول كلها.. ففي طفولتي المبكرة وحتي أيام الجامعة كنت الطفلة المدللة في أسرتي حيث أن والدي ينحدر من سلالة تقل بها ولادة الأنثى فجل أفراد العشيرة رجال.. لذلك تحظى البنات في أسرنا العرنجية بالدلال والرفاهية وتحصل على حقوقها الشرعية بالميراث واستفتاء قلبها بالخاطب الذي يتقدم لها. من هذة الأعراف والتقاليد الموروثة عن أجدادي لاهل المرحوم ابي فقد حظيت انا واخواتي الاثنتان وأخواتي الذكور السبعة بكل انواع الرفاهية والدلال والاكتفاء المادي والمعنوي وخلافا لباقي العوائل والعشائر التي تعامل الانثى معاملة لاتليق. لذلك مررت بطفولتي وايام صباي بمختلف الوان الفرح والسعادة والذي زاد من السعادة وضع والدي المادي الجيد في تلك الحقبة حيث نشتري مايحلو لنا.. ونسافر للاستجمام ونتعرف على الأماكن والمدن سواء داخل سورية او في البلدان المجاورة مثل الاردن ولبنان.. بقيّ الفرح ملازم لي كظلي الى فترة الجامعة.. في الجامعة وبالتحديد في السنة الثالثة تزوجت من شاب وسيم عن طريق ما يعرف (بزواج الاهل) وقد انجبت منه ولدان وبنت. وكنا في غاية السعادة والسرور والعيش الرغيد إلى ان أصيب في السنة الخامسة لزواجنا بمرض عضال. مرض حبيبي وزوجي وأبو أولادي جعل ستارة الأيام سوداء قاتمة في حياتي. على الرغم من معاملته الراقية،وتقبله للمرض، ورفضه القاطع للحزن واليأس .. فقد كان رحمه الله محب للحياة وللشعر والموسيقا.. وللجمال وللطبيعة. وللسفر والتمتع بكل ما هو جميل في هذه الحياة. اما انا فقد نال الحزن مني مبتغاه.. وكان شتاء مدامعي يحصل مبتغاه وغايته وهذا طبعا لا أظهره امام زوجي واولادي كي لا يقنط من رحمة الله وكي لا ازيد المه ووجعه. لكن نزف اليراع على سطور المذكرات والدفاتر تنال منوجعي ما تري.. بعد رحيل زوجي الى السماء في 2011 /3 /6.. اضافت الدنيا الى حزني على مرض شريك عمري وجعا وحزننا جيديد هو فقد الزوج ومسؤوليات الاولادالثلا ثة فكانت الفرح بعيد المسافات عني وعن كتاباتي. ومازاد حزني والمي ووجعي اندلاع الحرب بنفس العام الذي رحل به زوجي.. كما تم تدمير كل ممتلكاتي في دمشق ولم ينجو من هذه الحرب الطاحنه سوى انا والاولاد الثلاثه دون مأوى. دون معيل.سوى رحمة ربي ومنه المدد.. وللأسف هذا حال اهلي وجيراني وكل ابناء سوريتي.

قلي بربك أين تخيم مضارب الفرح//

وكيف للسعادة ان تزور الأحياء المدمرة

والوجوه الشاحبه

وجلسات الأرامل والأيتام فوق اطلال//

بالأمس كانت ديارا منارة بالياسمين وضحكات الاطفال وملاعب الصبا//

كيف السبيل إلى الفرح

دلني يا سائس الريح

هلا عبرت بقومي//

ا خبر عزيزا ان لي في العاديات مركب

وأهزوجة حداء

ونعش احمله

في نبضٍ

وارتعاش

* من غازلتي في شعرك غير دمشق؟

- انا عاشقة للجمال بمختلف ألوانه واشكاله..

ومغرمة بالطبيعة الخلابة

والشتاء الباكي

لي قصة وله مع المدن

والمطارات

ومحطات المسافرين

مع الليل وهو يتعسعس

مع الفجر يأترز الضوء ويتنفس

والقمر بدرا وبعد اكتماله اونس

لي وقفة مع الجبال الخضر ونسيمها يتهسهس

أُغازل بساتين العنب والتين

والبحر ومراكب محملة بالبخور والشوق والحنين

اغازل الاطفال وحقائبهم والدفاتر وأقلام التلوين

أغازل الأجداث وكيف توسدها من احببتهم مرغمين

أغازل الأكفان البيض.. ليزهر المدى دُفلى وياسمين

أغازل بيروت وعمان وجرش واربد

اغازل بغداد وبها القلب يستكين

أغاز بنيتي المهاجرة وهي في الوريد تقيم

أغازل أحفاد واولادي في الوتين

الغزل هنا في الاحداق يعزف النغمات للشرايين.

كان لي قصيدة مطولة غازلت فيها بغداد

وكذلك العيون العسلية

وسبتني عيون بلون القهوة العربية

وسافرت مع العيون البحرية

وكان لي قصيدة للعيون الخضر واللوزية

.. .

* كيف تستنطقين فاقد النطق؟

- بحسب صاحب المشكلة او المرض.. هنا اطفال يولدون فاقدي النطق.. وهناك اشخاص أصيبوا بارتفاع الحرارة وكان لديهم نطق وكلام ولغة ولكن بسبب ارتفاع الحرارة أصيب مركز النطق بالتعطل. هناك أشخاص أصيبوا بجلطة دماغية. او تعرضوا لحادث. سقوط.. أو حادث سيارة. او.. او.. اوو..

فالعلاج يكون بنظريات علمية اولا..

وبرامج اكاديمية ثانيا

وبالنظر الى المرض على انه ظاهرة جمالية متفرة خاصة تكسب صاحبها خصوصية التعامل في هذا الكون ثالثا

بالحب الذي بين البشر تبنى الأنفس وتحلو دُفلى الأيام رابعا

بالموسيقا تهدأ الأرواح وبها في عملي بعد الله استعين خامسا

بالإبتسامة ونظرات الثقة والتواصل الفعال يكون استنطاق البكم فعال سادسا

علينا أطباء ان يكون لدين العلم والثقافة والخبرة الكافية عن المرض والإحاطة به من كل جوانبه لنستطيع إعطاء العلاج المناسب لفاقد النطق.

ادربه بحسب قدراته وما لديه من مهارات.. فبعضهم ينطق باللغة المحكية،، وبعضهم يعبر بالرسم واللون،، وبعضهم يعبر بالعزف على آلة موسيقية،،

بعضهم يعبر بالإشارات اليدوية،،،

بعضهم يحتاج إلى ادوية وووو

وهكذا اتعامل مع كل حالة مرضية لوحدها وهكذا انجح بعملي كمدربة وخبيرة ومعالجة

* انت تمارسين كتابة القصة القصيرة والخاطرة والومضة لكن الملاحظ ان قصصك ترتبط بالواقع المرضي لمرضاك.. لماذا هذا الإختصار؟

- الكتابة حالة نفسية وشعورية مرتبطة بواقع ملموس او محسوس، لذلك استقي من عيادتي الاحداث التي اجعل منها بنود ارشاد وتوجيه لمجتمع قلت فيه ثقافة تعبر عن مشاكل الامراض التي اعالجها. في عصرنا الحالي وهو عصر التقدم والتكنولوجيا مازالت بعض الاسر تخفي مرض اولادهم. او تخجل نن ان تعرضهم على طبيب او اخصائي. أو تخاف ان يعلم الناس بان لديهن طفل معاق فيحجم الناس عن طلب يد بناتهم. او لا يوافقون على زواج ابنتهم من شاب يوجد في اسرته مريض. أو معاق. فتكون قصصي وكتاباتي توجيهية ارشادية بطريقة محببة ومتابعتها مشوقة.. وانا اكتب قصصا للاطفال.. وعن الحرب الطاحنة في العالم. وكذلك قصص الحب المغايرة للمألوف لدى بعض الشعوب. امثال (الرباعيات) وهي قصصا جميلة مختصرة رشيقة احبها القراء كثيرا

* لماذا غادرت ابنتك سوريا وهي محامية ناجحة؟

- ذكرت لك الاسباب في سياق الحديث. واكرر بان ابنتي وزوجها الفلسطيني الجنسية قد تعرضا للضغط، وتفجير مقر عمل زوجها اكثر من مرة،، كما تعرضت للاغتيال والقتل اكثر من مرة،، وستعود الى سوريا باذن الله بعد ان تهدأ الأوضاع.. وكلنا امال بالعودة إلى سورية الحب والجمال والياسمين.

* ماذا تعني لك عبارة وتمضي الايام؟

- تكاد لاتخلو مقابلة ولا لقاء او حديث عابر إلا وأُسأل عن ماذا تعني لك (وتمضي الايام)..

منذ الصغر كنت استمع الى قصصا كانت تحكي عن تاريخ اجدادي ايام الحروب،، والأجتياحات،،

والاحتلال العثماني،، والاحتلال الفرنسي وقصصا كثيرة تصف احوال الشعوب،، كذلك عندما كنت صغيرة اشترى لي والدي مذياع كهدية لي بمناسبة نجاحي وتفوقي في نهاية المرحلة الإبتدائية وكان عمري 14 وكنت قد المحت لوالدي بحبي وشغفي بسماع اخبار العالم خلال نقاشاتنا واحاديثنا العزيزة على قلبي.. واتذكرها الان تماما حيث كان يجلس والدي على كرسيه المخصص له بالصالة ينظر إلي بعينيه اللتين تشبهان اخضرار البوادي والسندس والإستبرق وابتسامته الوقورة تملأ ثغره الوردي ولؤلؤ اسنانه المبترد ودشداشته البيضاء التي تشبه بياض قلبه.. كان يضمني ويربت على كتفي ويقول ستكبرين وتتذكرين هذه الجلسات وتمضي بك الأيام إلى ايام مغايرة. وتمضي الأيام اعتبرها شعار في جدار الزمن المنطلق كالسهم.. إن احسنت الضغط على الزناد انطلقت بسرعة كبيرة فانتشر تاثيره على كل المجتمعات وإن أخطأت سيعود السهم إلى صدري ويقتلني

وتمضي الايام.. حكاية سأرويها فيما بعد.

* واخيرا ماذا لديك؟

- ارجو ان أكون قد قدمت للقارئ اشياء مفيدة ومميزة تبعث في النفس الحبور

دمتم بصحة وسعادة والياسمين عطور.

وتمضي الأيام

***

حوار / راضي المترفي

في 19 شباط الماضي أجرت مجلة كيليت Quillette الاسترالية مقابلة مع جون سيلر المؤلف واستاذ الفلسفة في جامعة لندن حول ارسطو والرواقيين. المحاور هو رايلي مور. بالنظر لأهمية المقابلة سنقوم بعرضها على جزئين، وهذا هو الثاني:

مور: اذاً، ارسطو يعتقد ان الانسان هو حيوان اجتماعي، لكن طاقتنا في التفكير هي التي تحدد حقا ماهية الانسان. ارسطو ايضا يكتب كثير عن "الروح". ماذا يعني بها؟

سيلر: إعتقد افلاطون ان الروح هي شيء متميز عن الجسم، أي تتجاوز موت الجسد ويمكن استنساخها. ما يُعتقد به الآن - كالفكرة المسيحية للروح – لم يكن قد تقرر بعد. ارسطو يرفض تلك الطريقة من التفكير حول الروح. بالنسبة له، الروح ببساطة هي سبب لشيء ما حي. لذا، انها ليست شيء فريد في الانسان. دعنا نفترض لديك انسان وجثة corpse . كأشياء مادية، هما متشابهان كثير ام قليل . لكن احدهما حصل على شيء لم يحصل عليه الآخر. تلك نقطة البدء. هو يتحدث عن خاصية او سمة لنوع معين من الشيء – شيء حي – بدلا من شيء منفصل عن الجسد ويستطيع العيش بشكل مستقل بالطريقة التي يفكر بها افلاطون.

ذلك يقودنا الى سؤال أوسع: ماذا يعني ان شيئا ما حي؟ بالتأكيد، الفرق بين الفرد الحي والجثة هو ان الفرد الحي يمكن ان يعمل اشياءً بينما الجثة لا تستطيع. هو يستطيع الحركة و التفكير والتناسل. وهكذا، هذا يقود ارسطو لتعريف الروح كسلسلة من القابليات، سلسلة من الأشياء يستطيع شيء ما القيام بها.

مور: مختلف مدارس الفلسفة استعملت كلمة "روح" بطريقة مشابهة جدا لارسطو – بدون أي دلالة دينية. انا أقصد الرواقية بالذات. انت تكتب في "دروس حول الرواقية" بان ابكتيوس وصف الفيلسوف كـ "طبيب". ماذا يعني هو بهذا؟

سيلر: ما في ذهنه وذهن الرواقية هو فكرة ان أرواحنا – يمكن ان تمرض او تتعكر بمختلف الطرق وقد تستفيد من العلاج بنفس الطريقة عندما تمرض أجسامنا فيزيقيا و تستفيد من العلاج. هذه الفكرة تعود لسقراط، وانها حقا فكرة الصحة العقلية. سقراط اشتهر بوصفه ما يقوم به كـ "علاج للروح". هو ينتقد معاصريه في اثينا ويقول، انظروا، انتم تنفقون مزيدا من الوقت في الاهتمام بأجسامكم وملكيتكم وسمعتكم، ولكن لا أحد منكم يهتم بروحه. الرواقيون أخذوا بهذه الفكرة. هم خصيصا اهتموا بالطريقة التي تُنتج بها العواطف من خلال عقائد يمكن ان يكون لها تأثير سلبي علينا.

مور: ماذا يعني ان تكون رواقيا؟ الاستعمال الحديث والشائع للكلمة عموما يشير لشخص هادئ او مقاوم لإظهارالعواطف. كيف يبيّن ذلك الارتباط بالرواقية؟

سيلر: فكرة ان الرواقي هو شخص ذو شفاه متيبسة او شخص يكبح او ينكر عواطفه تختلف كثيرا عن نظرة الرواقية القديمة. عادة، الناس يعتقدون ان الرواقية هي حول قمع وإنكار العواطف، ومن ثم هم يهاجمون الرواقية لأنهم يقولون ان ذلك لا يبدو شيئا صحيا للعمل. و بالطبع، الرواقيون لم يعتقدوا بعلاقة هذا الشيء الصحي ايضا. الرواقيون يقترحون ان نحاول النظر الى العالم بطريقة مختلفة ونصدر حكم قيمي مختلف حول الاشياء لكي لا نمارس تلك العواطف السلبية منذ البدء. وكما كتب ريتشارد سورابجي مرة في " العواطف وهدوء الذهن"، انها ليس حول صرير الأسنان، انها حول رؤية اشياء بطريقة مختلفة لكي لا يجب عليك ان تعض على سنك.

مور: الرواقية تدهشني كفلسفة عملية، شيء يمكن تنفيذه مباشرة في الحياة. انها لاتزعج بأسئلة مثل "هل الكرسي او الطاولة موجودان؟" انها تركز على الشخصية والصحة الذهنية. الرواقيون الرومان العظام الثلاثة سينيكا و وابكتيوس و ماركوس ارليوس قادوا راديكاليا حياة مختلفة. ابكتيوس كان عبدا، ماركوس ايرليوس كان امبراطور روما . هل هذا يشير الى ان الرواقية هي بالأصل ديمقراطية وعالمية؟ وانها قابلة للتطبيق على أي شخص؟

سيلر: انا أعتقد نعم. نحن نرى نطاقا واسعا من الناس انجذبوا الى افكار الرواقية اليوم. انت سوف ترى الناس في الجيش، في مهن الرعاية، في رياضة النخبة، في الناس المهتمين بالبيئة والاستدامة، في الناس من كل الأعمار والخلفيات الدينية. من غير الواضح ان هناك أي جماعة معينة تروق لها الرواقية اكثر من غيرها. الرواقية هي اولا حول الاهتمام بعقيدتك وأحكامك وتطوير سمات الشخصية التي تمكّنك من ان تعيش حياتك. واذا حصلت على ذلك في مكان ما عندئذ انت ستكون قادرا على التأقلم بفاعلية في أي بيئة. ذلك العمل الداخلي هو الشيء الأعظم أهمية. نحن جميعا مطّلعين على قصص مشاهير هوليود الذين اصبحوا أغنياءً جدا و ذوي شهرة، وأمام هذا، هم حصلوا على كل شيء ومع ذلك هم اصبحوا أسوأ حالا لأنهم لم يمتلكوا سمات الشخصية للانسجام مع كل ذلك. لا يهم البيئة الخارجية كم هي جيدة، انها ليست كافية لتمكّننا من عيش حياة جيدة. لكن سمات الشخصية الصحيحة ستمكننا من النجاة في أصعب المواقف والبيئات.

مور: هل يعتقد الرواقيون مثل ارسطو، ان الناس حيوانات اجتماعية؟

سيلر: نعم، بالضبط. هناك بعض الاختلافات الهامة بين النظام الأخلاقي لارسطو ونظام الرواقيين، لكن هذه المسألة بالتأكيد احدى المسائل التي يتفقان عليها بقوة.

مور: ارسطو يقول ان الخصائص المعرّفة للانسان هي قدرته على التفكير. انه يبدو افتراضا معقولا ، ومن ثم يكون الطريق الى السعادة مرتبط مباشرة بعيش حياة الذهن. الرواقيون يبدو يتفقون ان السعادة تأتي من الداخل. لكن كل من ارسطو والرواقيين يعتقدون ان الناس حيوانات اجتماعية. أليس حياة الذهن تستبعد كثيرا حياتنا كحيوانات اجتماعية؟

سيلر: بالنسبة لارسطو، انا اعتقد هناك شيء من التوتر. وصحيح في نهاية كتابه "اخلاق نيقوماخوس"، هو يحاول الاشتباك مع هذه الافكار المختلفة. في نمط التفكير اللاحق، هذا سُمي عيش حياة نشطة، كمضاد للحياة التأملية والتي ارسطو ذاته كما اظن انجذب اليها كثيرا. انت تصل لإحساس انه كان يحب كثيرا ان يعيش حياة الذهن وغير منهمك في المسؤوليات التي ربما لديه ككائن اجتماعي. لكني لا اظن ان الرواقيين يعتقدون اننا يجب علينا ان نعيش حياة الذهن بنفس الطريقة. الرواقيون اكثر نشاطا وانخراطا. عندما هم يشجعوننا للانتباه للشخصية، هم يقومون بذلك لكي نكون اكثر فاعلية في العالم. اذاً، انت ربما تأخذ بعض الوقت كراحة وتفكر وهكذا، لكن ذلك سيكون فقط لفترة قصيرة لأن الهدف هو ان تذهب نحو الخارج وتمارس دورك كمواطن ضمن جماعة واسعة. انا أظن، ان ارسطو سيكون سعيدا جدا للاختفاء في دير ليُترك وحيدا مع مساعيه الفكرية.

مور: لكن ارسطو لم يعش حياة منعزلة في الماضي مساوية للدراسة او المكتب. انا لا أتصوره جاثيا على ركبتيه في بحيرة ماء يلاحق البعوض او يشرّح جراد البحر او الاخطبوط. لكن هذا بالضبط ما قام به. ألا يجب ان نجد طريقة للحديث عن ارسطو لا تختزله لمجرد شخصية أكاديمية؟

سيلر: نعم، بالضبط. انا أعني هو عالِم بحث خارج في الحقل، غير ملتصق في الدراسة. نحن فعلا نمتلك حكايات ونوادر تقترح انه كان شخصية مولعة بالكتب عندما كان شابا. والعديد من أعماله تبدأ بتاريخ الموضوع. اذاً، هو من الواضح يقوم بذلك النوع من البحث ايضا. لكن هدفه من الدراسة هو العالم من حوله، سواء كان دراسة النجوم او تشريح الحيوانات او النظر للجماعات السياسية او الذهاب الى المسرح ومحاولة فهم كيف تعمل المسرحيات . كل ذلك يستلزم فتح عينيه والنظر الى العالم. هو يريد معرفة ماذا اعتقد أي شخص آخر حول العالم، ومن هنا يأتي ولعه بقراءة الكتب. الكتب تساعده في فهم العالم الواقعي حوله.

مور: نعم أتفق معك. اذاً، ليس من الضروري ان تجذبه الكتب ذاتها وانما الحافز لفهم العالم. وطالما الكتب تساعده في فهم العالم، هو اصبح مولعا بها.

سيلر: بالضبط

مور: هل هو أجرى أي اكتشافات في البايولوجي أثبتت صحتها اليوم؟

سيلر: في كتبه البايولوجية، هو عمل الكثير من التصنيفات – تجميع مختلف الحيوانات الى مختلف الانواع. هذه هي الحشرات، الزواحف، اسماك. وهكذا بالارتكاز على مواصفات مشتركة. بعض هذه التصنيفات جرى استبدالها، لكنها حقا وضعت الاسس للطريقة التي يحاول بها الناس دراسة مختلف انواع الحيوانات. هو حقا اول شخص حاول القيام بذلك.

مور: انت لاحظت في كتابك ان 25% من جميع كتابات ارسطو اختصت بالحيوانات – يحقق فيها، يشرحها، يعمل ملاحظات ومشاهدات. انت تقول ان كتابات ارسطو حول السياسة، ودستوره للاثنيين، له سمة مشابهة لدراساته البايولوجية.

سيلر: في عالم السياسة، او العلوم الاجتماعية، اذا كنت تريد فهم ما هي الجماعة السياسية وكيف تعمل، عليك النظر في أمثلة. ارسطو اتخذ ما نعتقده الان مساعدي باحث، بينما هو وجّه العملية. نحن نفترض احدى الاشياء التي قاموا بها هي جمع نسخ من دساتير مكتوبة لعدة مدن حول المتوسط تمكنوا من وضع يدهم عليها. نحن قيل لنا ان المجموعة التي جمعوها كانت 150 دستورا. لذا، هناك قاعدة لدليلك، ومن ثم انت تبحث عن مواصفات مشتركة. انت ربما تريد تجميعها الى مختلف الانواع. هذه هي الملكيات، الاوليجارتيات، الديموقراطيات. انت ربما تقوم بذلك النوع من التصنيف بنفس الطريقة التي تقوم بها في الحيوانات. ومن ثم، بالارتكاز على معلومات تاريخية حول مختلف هذه المدن، انت ستمتلك احساسا أي منها ازدهر وأي منها لم يزدهر. وانت قد تريد طرح استنتاجات من ذلك. اذاً هو يجلب روح علمية جدا لدراسة السياسة. انها بداية العلوم الاجتماعية.

مور: انت ايضا تلاحظ في كتابك ان ارسطو اعتقد بانه عندما تصبح الدولة كبيرة جدا هناك خوف من ان يصبح المواطنون "مجرد افراد خاضعين لسيطرة حكومة بعيدة". واذا كانت الدولة صغيرة جدا، انت سوف لن تكون قادرا على العمل بشكل جماعي للحصول على سلع اكبر واكثر قيمة. هو فضّل الدولة او الجالية المتوسطة الحجم. هذا جزئيا بسبب اعتقاده ان الفن ازدهر في هكذا بيئة. لماذا اعتقد ارسطو ان الفن كان هاما ولماذا اعتقد انه ازدهر في دولة صغيرة الحجم؟

سيلر: الفعالية الثقافية هي عنوان واسع، تتضمن العلوم، الفلسفة، الفنون الجميلة والادب. ارسطو مقتنع ان هذا هو ما يميز حياة الانسان عن حياة الحيوان. وهكذا، حياة الانسان الغني يجب ان تتضمن تلك الانواع من الاشياء. الادب او الدراما يمكن ان يوحيا لنا بحقائق عن أنفسنا. هذه هي الطرق التي نتعلم بها دروسا هامة جدا حول انفسنا وحول سلوك الانسان وطبيعته بشكل عام. هو ليس ماديا اختزاليا في ذلك المعنى. نحن نتعلم عن علم نفس الانسان عبر دراسة المأساة اليونانية. نحن نرى الطريقة التي يمكن ان تصبح فيها مختلف السلوكيات مدمرة. لذا، هنا يصبح الفن هاما جدا له. لكن ليس أكثر او أقل اهمية من الفلسفة او العلوم.

ولماذا المدينة المتوسطة الحجم؟ حسنا، المدينة المتوسطة الحجم هي أصغر مدينة تكفي بحجمها في تهيئة الانتاج الثقافي. الآن، من الواضح ان الدولة الأكبر حجما مثل الولايات المتحدة يمكنها تهيئة انتاج ثقافي ايضا. لكنها كبيرة جدا لدرجة ان المواطن بالمتوسط لايستطيع الانخراط بفعالية اكبر في السياسة. لم يعد المواطن هو الحيوان الاجتماعي المنخرط بفعالية. انت تريد ان تُبقي الدولة بأصغر ما يمكن لكي يستطيع الناس لعب دور سياسي فعال وايضا كبير بما يكفي للانتاج الثقافي. تلك الطريقة المثالية تكون في مكان ما في الوسط.

مور: أحد الأسباب التي رآها ارسطو، في انتاج مسرحية ثمينة هو بسبب ان المشاهدين كانوا قادرين على التعبير عن عواطفهم في المسرحية بدون ان يتحتم عليهم المشاركة الحقيقية فيها. في هذه الطريقة يمكنك ان تمارس بأمان عواطف عنيفة. هل ترى ذلك صحيحا؟

سيلر: نعم، ارسطو يتحدث عن التنفيس، تحرير عاطفي يمكنك ممارسته عندما تشاهد بعض هذه المسرحيات. هناك احساس نحصل فيه على بعض الفوائد من ذلك. انها تشبه لو كنت تشاهد فيلم رعب في البيت. تتسارع دقات قلبك، تشعر بتوتر، لكنك ليس في أي خطر. لذا، انت تحصل على ذلك التشويق العاطفي ولكن بدون ان تكون تحت التهديد وانه يعطيك تنفيسا عاطفيا في النهاية . هذا يمكن ان يكون مفيدا نفسيا. هناك ايضا احساس انت تمارس فيه عواطف حادة بدون مواجهة تهديد حاد ويمكن ان تكون مفيدة. ومن المفيد ان تتعلم كيف تدير تلك العواطف في الحياة الواقعية عندما لم تكن في المسرح. اخيرا، انت تستطيع ان ترى نتائج اتخاذ الناس لقرارات سيئة وكيف ستصبح حياة الشخص وبسرعة اكثر سوءاً نتيجة لذلك. ذلك يمكن ان يكون انذارا لك بدون ان يتوجب عليك الاشتراك في العملية بنفسك. انت تستطيع ان ترى انك تحتاج ان تكون حذرا بشأن القرارات التي تتخذها لأنه احيانا قد يقود قرار واحد أحمق وبسرعة الى نتائج مدمرة. انه يمكن ان يقدم تحذيرات أخلاقية ثمينة.

مور: كتب ارسطو بان "الشعر أكثر فلسفية وخطورة من التاريخ". لماذا هو اعتقد بذلك؟

سيلر: انه ادّعاء مثير حقا، أليس كذلك؟ انا كنت مندهش به. انا توقعت من ارسطو العالِم والعالِم الاجتماعي ان يرى التاريخ مهم حقا، موضوع ثمين. ولكن في كتابه "فن الشعر" هو يقترح ان الشعر اكثر أهمية. ذلك ربما بسبب هو كان لديه تصوّر فقير للتاريخ. هو يعتقد ان التاريخ اساسا فقط حول تسجيل التواريخ. نحن الان نعتقد ان التاريخ حقل اكاديمي اكثر تعقيدا من ذلك. ولكن بالنسبة لارسطو، عملية جمع المعلومات عن ما حدث ليست ثمينة لأنها تخبرنا فقط عن حقائق معينة. وواحدة من الافكار المركزية في "ميتافيزيقاه" هي ان الحقائق الثمينة ليست حقائق محددة وانما حقائق عالمية. الشعر والدراما ، كما يرى، تعلّمنا حقائق عالمية حول طبيعة الانسان. لذا، انت تشاهد مسرحية حول اوديب او الملك أجاممنون، لكنها في الحقيقة ليست حولهم . انها حول ظروف الانسان. الحقائق العالمية التي تستنتجها من تلك القصص تجعلها ثمينة. انت تستطيع رسم مقارنة هنا مع العلوم ايضا. الملاحظة الفردية ليست بالذات ثمينة وانما القانون العلمي الذي هو عالمي، او على الأقل قابل للتطبيق الواسع، هو معرفة هامة.

مور: دعنا ننهي بعنوان فرعي في كتابك. طبقا لك، ارسطو أعظم فيلسوف عالمي. لكن انت ايضا تدّعي شيء اكبر في مقالة لك نُشرت قبل شهر من نشر كتابك. انت تدّعي ان ارسطو هو أعظم شخص في التاريخ. لماذا انت تعتقد بذلك؟

سيلر: العنوان الفرعي للكتاب "أعظم فيلسوف في العالم" ليس لي. ذلك كان فكرة الناشر. لكني سوف ادافع بسعادة عنها. بالنسبة لعمق افكاره واتساع ونطاق الموضوعات التي كنا نتحدث عنها، هو حقا الأعظم أهمية. انه حول تحقيق مفتوح. هو ليس دوغمائي. هو فقط يريد ان يحاول فهم العالم ونفسه ومكانه فيه. وفي مكان آخر، انا كتبت، ان ارسطو هو في الحقيقة ربما الشخص الوحيد الاكثر اهمية في اي وقت مضى بسبب حجم تأثيره على الثقافة . هو اخترع حقل البايولوجي ووضع اسس للعلوم الطبيعية. هو اخترع بفاعلية العلوم الاجتماعية، المنطق الصوري، النقد الادبي. انت لايمكنك ان تتصور الجامعة الحديثة بدون ارسطو. وعندما تبدأ التفكير في كل الاشياء التي جعلتها تلك الموضوعات ممكنة مثل تطوير لقاحات والحاسوب – والتي تعتمد على أنظمة منطقية صورية – فان امتداد تأثيره سيكون هائلا.

هناك فقط عدد محدود من الناس الذين اثّروا على حياة ملايين الناس عبر القرون ان لم يكن عبر آلاف السنين. انا لا استطيع تصوّر أي شخص ترك تأثيرا اكثر من ارسطو. ولكن أقول لأي شخص يعتقد ان هذا ادّعاء أحمق، انا أسأله: منْ هو مرشحك الأقوى؟

***

حاتم حميد محسن

في 19 شباط الماضي أجرت مجلة كيليت Quillette الاسترالية مقابلة مع جون سيلر المؤلف واستاذ الفلسفة في جامعة لندن حول ارسطو والرواقيين. المحاور هو رايلي مور . بالنظر لأهمية المقابلة سنقوم بعرضها على جزئين:

مور: من الصعب الحديث عن ارسطو بدون مناقشة كل شيء، لأن ارسطو كتب حول كل شيء – الاخلاق، المنطق، بايولوجي، السياسة، الادب، وكل ما قام بتحقيقه. انت ذهبت في هذا بالتفصيل في كتابك الجديد (ارسطو: فهم أعظم فيلسوف في العالم). دعني اتظاهر بأني لم أسمع بارسطو من قبل. منْ كان ارسطو؟ هل كان تلميذا لإفلاطون مثلما كان افلاطون تلميذا لسقراط؟ هل هناك علاقة نسب مباشرة؟

سيلر: نعم هناك. ارسطو في الأصل كان من شمال اليونان. ابوه كان طبيبا و مات عندما كان ارسطو بعمر 10 سنوات. تربّى ارسطو عند عمه الذي كان تلميذا في اكاديمية افلاطون قبل وقت مبكر. عندما بلغ ارسطو سن 17 او 18 ذهب الى أثينا للدراسة في أكاديمية افلاطون وبقي هناك لمدة 20 سنة. افلاطون بالتأكيد كان مرجعية رئيسية. سقراط وافلاطون وارسطو شكّلوا هذا الثلاثي من المفكرين اليونانيين العظام، وكانوا جميعهم منشغلين في أسلافهم. نحن نرى ارسطو يكافح تجاه افكار افلاطون وبالنهاية يحاول الخروج منها لكي يطور افكاره الخاصة. تلك كانت بداية عمل ارسطو المهني.

بعد ذلك، مات افلاطون وانتقلت ادارة الاكاديمية الى ابن اخ افلاطون. ارسطو ادرك ان هناك سببا جيدا للمغادرة. ربما لم تكن العلاقة جيدة بين ابن اخ افلاطون وارسطو، نحن لا نعرف، لكنه اتجه الى مينور الاسيوية وهي ما نسميه الآن تركيا مع عدد من الطلاب الآخرين من الاكاديمية الذين غادروا في نفس الوقت. بعد ذلك انتقل مسافة قصيرة الى ليسبوس التي هي أقرب جزيرة يونانية، وبدأ دراسة العالم الطبيعي. بالذات، هو درس علم الأحياء البحرية . قام بهذا لعدة سنوات ومن ثم دُعي للعودة شمالا لمدينته من قبل الملك فيليب من مقدونيا ليعلّم الابن الشاب فيليب الاسكندر الذي استمر ليصبح الاسكندر الاكبر. كان ابو ارسطو الطبيب فيزيائيا في مقدونيا. لذا، ربما كان هناك ارتباط عائلي.

ازداد الاسكندر نضجا بعد عدة سنوات من الدراسة مع ارسطو وبدأ مغامرته الكبرى في الشرق الاوسط والى الهند. فيليب مقدونيا قُتل في نفس الوقت، وارسطو كونه ضيف فيليب مقدونيا أدرك عدم وجود بيئة آمنة لذا هو عاد الى اثينا وبدأ مدرسته الخاصة (ليكيوم)، كبديل للاكاديمية. هو أمضى السنوات الاخيرة من حياته بشكل رئيسي في اثينا. لذا، هناك فترة مبكرة كبيرة في اثينا وفترة لاحقة فيها . هناك فاصل زمني قصير حينما كان يسافر الى ليسبوس ومقدونيا.

مور: يُعتقد ان موت افلاطون شجع ارسطو على مغادرة اثينا عندما لم يرث الاكاديمية. موت فيليب مقدونيا شجع ارسطو للعودة الى اثينا. هذان الحدثان للموت لهما تأثير قوي على حياته.

سيلر: نعم، ذلك صحيح. بالطبع، عندما يأتي ارسطو الى اثينا هو خارجي. هو ليس مواطن اثيني. هذا ربما لعب دورا في القصة. كونه غير اثني، هو لم يكن مؤهلا للملكية الخاصة. اذا كان خليفة الاكاديمية يستلزم نقل الملكية، ذلك يعني ان ارسطو لم يكن خليفة معقول لأنه لم يستطع امتلاك أي شيء. هو خارجي وذو اسلوب حياة عابر. ولكن في نفس الوقت، ربما كان ابوه في محكمة مقدونيا. من الواضح ارسطو حصل على دخل خاص كافي ليخصصه لمتابعة حياته الفكرية . هو كان يتحرك في حلقات راقية جدا. ولكن في نفس الوقت، هو ليس لديه الاستقرار الاجتماعي والأمان الذي يريده المرء.

مور: هل تستطيع رسم ارضية او خارطة بأعمال ارسطو؟

سيلر: انها تغطي تقريبا كل شيء. تغطي كل شيء نفكر به كفلسفة اليوم. الميتافيزيقا، ابستيمولوجي، الاخلاق، الجماليات، الفلسفة السياسية، المنطق. كل الاشياء التي نفكر بها كجزء من الفلسفة، هو فعل كل ذلك. لكنه ايضا منخرط في سلسلة من المساعي الفكرية الواسعة التي اصبحت الان حقول بذاتها. هناك احساس انه أسّس حقا حقل البايولوجي. لا احد قبله قام بذلك النوع من العمل بعناية وبقرب في دراسة انواع المخلوقات.

هو بدأ بالميتافيزيقا عندما كان في اكاديمية افلاطون – وهي المادة الأكثر تجريدا وتعقيدا. ومن ثم انتقل لدراسة الطبيعة. هناك منْ يرى ان وقته اللاحق مع فيليب مقدونيا والاسكندر شجعه ليصبح اكثر اهتماما بالأسئلة السياسية. هو أمضى وقته يدرس الادب، متأملا في تراجيديا اليونان، يفكر حول ما الذي يجعل الفن عملا جيدا . من جهة، نحن قد نعتقد ان ارسطو كعالم باحث لكن هذه الايام نحن لا نتصور ان عالِم البحث ايضا مهتم باسئلة النظرية الادبية. لكن ارسطو قام بكلاهما. في عالمنا اليوم المفرط في التخصص، ذلك نادرا ما يحدث.

مور: هل تستطيع تعريف "الميتافيزيقا" بشكل أوسع؟ ماذا تعني لارسطو؟

سيلر: "الميتافيزيقا" كلمة حديثة. هي ليست تلك التي عرفها ارسطو ذاته. طبقا لـ قصة معينة – والبعض قد يعارض القصة – ان ملاحظات محاضرات ارسطو قد ضاعت بعد وقت قصير من وفاته. احد تلامذته ورثها. لكن الملاحظات تم تجاهلها لقرن او قرنين ومن ثم اعيد اكتشافها وروجعت. سلسلة من الاعمال حول العالم الطبيعي جرى تجميعها الى بعضها واعطيت عنوان فيزياء. وسلسلة من اعمال اخرى جرى تجميعها وسميت ميتافيزيقا، وتعني "بعد الفيزياء". لذا، الكلمة لا تشير لشيء وراء العالم المادي او فوق الطبيعة او اي شيء من هذا القبيل. انها فقط العمل الذي يأتي بعد الفيزياء. ارسطو أطلق على محتوى تلك الاعمال اسم "الفلسفة الاولى" – الاسئلة الاساسية التي تتعامل مع الحقائق الاساسية حول طبيعة ما موجود. لذا، اذا كنا نسأل حول طبيعة الوجود، نحن نسأل السؤال الاكثر جوهرية لأنه ينطبق على كل شيء. بعد ذلك نحن نستطيع ان نسأل سؤالا مثل "ما هو الكائن الحي؟" لكن هذا سؤال ضيق لأنه لا ينطبق على كل شيء، هو فقط صنف فرعي.

مور: ارسطو غاص في العديد من المواضيع لدرجة اُعتبر في العصور الوسطى كـ "الفيلسوف". في الكوميديا الالهية، دانتي أطلق على ارسطو اسم "سيد العارفين" لكن انت تجادل ان هذا الاتجاه لارسطو هو ضد الارسطية. لماذا؟

سيلر: ارجع الى اعمال ارسطو وانظر في ما كان يعمل. حقا هو كان يحاول فهم العالم الذي حوله ويطرح بعض الاجوبة المعقولة لأسئلة. لكنه واضح جدا في اعماله المنهجية لدرجة ان الاجوبة التي كان يعطيها مؤقتة فقط، وان أحسن التوضيحات التي يستطيع تقديمها هي حول اساس الدليل الذي حصل عليه . في احدى اعماله البايولوجية، هو يقول هذا بصراحة – الدليل يجب دائما ان يتفوق. لذا، عندما يأتي دليل جديد للضوء، بالطبع، النظرية يجب تبنّيها. هو واضح جدا بان لا شيء من نظرياته يجب التعامل معها كحقائق دوغمائية. هو سيُصاب بالفزع لو وجد في الاجيال اللاحقة جرى التعامل مع نظرياته بتلك الطريقة بدلا من فرضية تناسب الدليل بشكل أفضل وانها مفتوحة دائما للمراجعة.

مور: هل عارض ارسطو من حيث المبدأ شخصية سلطوية في الفلسفة؟

نعم بالضبط. بالنسبة له، الشخصية السلطوية كانت معلمه، افلاطون. والكثير من فلسفته تحاول الهروب بعيدا عن فلسفة افلاطون ليطور جوابه الخاص به. هناك مقطع شهير جدا في احد كتبه يقول فيه نحن مدينون بالتزامنا لأصدقائنا، لكننا مدينون بالتزام اكثر للحقيقة. نحن يجب ان نتجنب أي سلطة تقف في طريق سعينا للحقيقة.

مور: ارسطو يرغب ان يتجه الناس نحوه مثلما اتجه هو نحو افلاطون.

سيلر: نعم. هذه أفضل طريقة للتفكير حوله.

مور: انت تدّعي في كتابك ان تأثير ارسطو كان سائدا في كل مكان لدرجة لايمكن تمييزه . كيف يمكن تصوّر الصورة الحقيقية لارسطو؟

سيلر: انا اعتقد يمكننا التمييز بين ارسطي دوغمائي ملتزم حرفيا بما يقوله ارسطو، ونوع مختلف من ارسطي ملتزم بروح ما يعمله ارسطو. انه قليل حول العقائد والكثير حول الطريقة. انا اعتقد نحن نستطيع ان نكون ارسطيين بذلك المعنى في كوننا ملتزمين بطريقته واتجاهه بدلا من استنتاجاته. معظم العلماء الحديثين هم ارسطيون بذلك المعنى لأنهم يتبعون فكره. نحن نعيش في عالم تكوّن بفعل افكار ارسطية، سواء أحببناه ام لا. الأسس التي خلقها في البايولوجي والمنطق والنقد الادبي وكل تلك الاشياء التي صاغت العالم الحديث بطرق لا نتوقعها. فمثلا، كتابه، (فن الشعر)، الذي يحلل فيه المأساة اليونانية يطرح سلسلة كاملة من القواعد التي تصنع قصة جيدة حقا و رواية جيدة . كتّاب هوليود لايزالون يدرسون هذا بإحكام لكي يكتبون افلاما.

مور: اذاً، عندما تتفق مع ارسطو، انت ارسطي. لكن عندما لا تتفق معه، انت لاتزال ارسطيا. انها تعتمد على اتجاهك في عدم الاتفاق معه. هل هذا صحيح؟

سيلر: اعتقد كذلك.

مور: هل هذا يشير، الى انه عبر جميع موضوعات ارسطو هناك فكرة او مبدأ اساسي؟ هل اتجاهه في البايولوجي مشابه لإتجاهه عندما يريد تعريف ما يميز الانسان؟

سيلر: هناك بعض الافكار المرشدة تربط كل ذلك مجتمعا، وهناك افكار صاغها اول مرة عندما كان يدرس البايولوجي والتي طبقها فيما بعد في مجالات اخرى. دعنا نتصور انك على الساحل مع ارسطو، وانك تشرّح سمكة وتحاول التفكير كيف تعمل السمكة وماذا تعمل مختلف الاعضاء فيها. هو سيقول لو انت تدرس الكائنات تلك، انت تستطيع النظر لكل الاجزاء المختلفة من مادة رخوة وتصفها لترى مما صُنعت وكم هو حجمها . لكنك سوف لن تفهم حقا ما يجري داخل هذا النوع ما لم تعرف الغاية من كل شيء. العين للرؤية، مثلا. كل الاجزاء الصغيرة المختلفة للنوع تخدم وظيفة. تلك الفكرة أعاد تطبيقها ارسطو في ميادين اخرى.

وهو يتأمل حول الكائن البشري، سيسأل: ما هو الهدف من الانسان؟ ما الغاية من الناس؟ هل ذلك السؤال له معنى عند التفكير حول الكائن البشري ككل، بالضد مما لو قلنا فقط عين او قلب او أي عنصر اخر؟ وكذلك الجماعات السياسية ومختلف طبقات الناس ضمنها ومختلف الوظائف التي يؤدونها لكي يجعلوا المجتمع يعمل – ما الغاية منها؟ ما هو دورها وما وظائفها. تلك الغائية هي الفكرة الجوهرية. في فن الشعر، هو يقول: تصوّر انك تشاهد لعبة او فيلم وتأتي شخصية الى القصة في نقطة معينة ومن ثم تختفي. الان، انت سوف تتوقع بان الشخصية تعود في نقطة ما في المستقبل وتخدم هدفا مفيدا، لأنه بدون ذلك، لماذا هي كانت هناك في البداية؟ لكن السؤال الذي سوف تطرحه انت هو: ما الغاية التي لأجلها؟ انها مثل بندقية شيكوف. اذا أدخلت البندقية في اللعبة، انت تتوقع ان تطلق النار في نقطة ما. والا، ماذا تعمل هناك؟

مور: سؤال ارسطو الاساسي هو: ما الذي يجعل الانسان انسانا؟ كيف سيجيب على هذا؟

سيلر: هو سوف يبحث عن مواصفات مميزة. ما الذي يفصل هذه الحيوانات عن الحيوانات الاخرى؟ الاول هو العقلانية. الناس هم ايضا حيوانات اجتماعية. هناك الكثير من الحيوانات الاجتماعية الاخرى بالطبع، لكن الانسان هو بالتاكيد واحد من الحيوانات الاجتماعية. اذا، نحن الحيوان الاجتماعي العقلاني.

مور: اذاً، ارسطو يعتقد ان الانسان هو حيوان اجتماعي، لكن طاقتنا للتفكير هي التي تحدد حقا ماهية الانسان. ارسطو ايضا يكتب كثير عن "الروح". ماذا يعني بها؟

***

يتبع: 

حميد حاتم محسن

- كلّ شِعر إنساني هو شعر إسلامي

- القرآن الكريم هو سجلّ الوجود وسبيل الخلود

- لا أرى أبدا توظيف ألفاظ الحبّ الإنساني في مناجاة الله تعالى

- دراسة الأدب العربي في الجامعة ليست شرطا لازما لكلّ أديب

- ثمّة فرق كبير بين الكتابة للأطفال والكتابة عن الأطفال

***

طبيب وشاعر إسلامي، جعل كتابَ الله قِبلته في الأدب فلُقّب بشاعر الإيمان. وُلد في مدينة حمص السورية عام 1961م، وتخرّج في كلية الطب جامعة دمشق عام 1985، ثم تخصص في المختبرات والتحاليل الطبية. ولشغفه بالأدب؛ التحق بجامعة حلب، ودرس الأدب العربي في سابقة قلّ أن يفعلها طبيب أديب. ومن بين ضروب الأدب المتشعّبة، وجد نفسَه في عروس البيان وكعبة اللغة، الشِّعر، فامتطى هدْأة الليل حين يصمت الكون ويصفو الذهن وينشط الخيال، مستحضرا صدق الإحساس وعمق الشعور، ومستعينا بثقافة اجتناها من سعة الاطلاع وبتجارب خاضها في دروب الحياة طولا وعرضا، وعلى أثر ذلك كلّه نظم من الدواوين الكثير، طائفا بالحبّ والجمال والمرأة والقيم الروحية والأخلاق الإسلامية. وبينما اتخذ من شاعر الرسول (حسان بن ثابت) مثله الأعلى في الشِّعر، فإن أديب العربية مصطفى صادق الرافعي هو المتربّع على عرش أستاذيّته في النثر الفنّي. وكما نظَم للكبار وأجاد، فقد نظم للأطفال والفتيان، بحسبانهم نصف الحاضر وكلّ المستقبل، وبوصفهم الحصان الرابح في حلبة أيّـة أمّـة تطمح لبناء حضاري. وبكل الودّ تلقّى أسئلة الحوار عن بُعد، وها هنا أجاب بكلمات قطّرها على أساليب الحكماء فجاءت موجَزة على طريقة: ما قلّ ودلّ..

= ما جوابكم على من يتّهم الشعراء الإسلاميين بقصر الباع في الإبداع، ويدلّل على ذلك بأنهم يقتصرون في شِعرهم على غرض واحد دون بقية أغراض الشِّعر المتشعّبة؟

- الأمداء فسيحة أمام الأقلام المؤمنة الجميلة، سواء في حقل الشعر أو النثر الفني، وكل شعر إنساني هو شعر إسلامي؛ فالشعر الإسلامي لا يقتصر على الوعظ، بل ثمة أغراض عديدة مثل :

- الحبّ في مناجاة الله تعالى، وفي البوح عن محبّة الرسول الخاتم صلّى الله عليه وسلم.

- وكذا الحب الإنساني النظيف، ومحبة الأبناء، ومحبة الوطن، وشِعر الأخوّة.

- وكذا الإبداع في الشعر التأمّلي الفلسفي، سواء في آفاق الكون أو في أعماق النفس.

- وكذا الإبداع في شعر الطفولة.

= إذا كانت ملَكة البيان ممّا يُعلَّم بقراءة القرآن والحديث وآداب العرب، فكيف يكتسب المرء قوّة التصوّر اللازمة للإبداع الأدبي؟

- مِن شروط الإبداع الشعري أن يمتلك الشاعر قوة التصوّر، وتأتي من التأمّل الواعي لآفاق الكون وأعماق النفس. ومِن قراءة التاريخ والحضارات الإنسانية، وقراءة أشعار وآداب المتميزين سواء من العرب أو من باقي الشعوب.

= وصفْتم "جمال القرآن" شعرا، فبم تصفونه نثرا؟

- القرآن الكريم هو سجلّ الوجود، وسبيل الخلود ..وهو رسالة الله الأخيرة إلى الإنسان الظامئ إلى الهداية والنور. اختار الله تعالى سيّدة اللغات لتكون آنية هذا الكتاب المبين، الذي أعجز بجلاله البلغاء، وأدهش بجماله الفصحاء .

= إذا قلنا: "إنّ لكلّ ذي قلم، أديبا شُغف به فكرا وتَعلّق به روحا حتى ملأ عليه أقطاره"، فمَن يكون أديبك وصاحب حظْوتك؟

- الأستاذ مصطفى صادق الرافعي؛ إمام الأدب، وحجّة العرب، وسيّد بلغاء العصر، ونديم الجمال، وساقي البيان، وفيلسوف الفكر والمعاني، رحمه الله تعالى، ورفع درجته في الفردوس الأعلى من الجنة. فالرافعي هو عندي القلم الإمام!

= ما الإضافة النوعية التي أضافتْها دراسةُ الأدب لكم، وهل ينبغي لكل أديب أن يحذو حذوك في الالتحاق بمعاهد الأدب وكلّياته؟

- أفدتُ من دراسة الأدب في سدّ الثغرات المعرفية والأدبية، وخاصة في علوم النحو واللغة. ودراسة الأدب العربي في الجامعة ليست شرطا لازما لكل أديب، فكثير من كبار الأدباء والشعراء لم يدرسوا الأدب في الجامعة.

= كيف ترى تحفُّظ البعض تجاه مناجاة الربّ سبحانه بأشعار فيها ألفاظ الحبّ والعشق ممّا يتداوله الناس فيما بينهم؟

- ثمّة ضوابط في مناجاة الله تعالى، وأهمها التأدب في الألفاظ. فلا يخاطَب الله جلّ وعزّ إلّا بما شرع، واللفظة المختارة للحب هي الحب: (يحبّهم ويحبّونه) . فلا أرى أبدا توظيف ألفاظ الحب الإنساني في مناجاة الله تعالى، من مثل لفظة "العشق" وأمثالها.

= في ضوء ما نظمتم للطفل من دواوين، كيف هي الصورة الشعرية الأقْرب لنفسه والأفْيد لصياغة وجدانه؟

- أدب الأطفال ليس أدبا سهلا، فثمّة فرق كبير بين الكتابة للأطفال والكتابة عن الأطفال. ولا بد من انتقاء المفردات المناسبة للطفل، وكذا الصور التي تنتمي إلى عالمه الملوَّن الصغير.

= أين نجد بذور وجذور هذا الفيض الروحي الذي يسطع في سماء قصيدكم؟

- أمضيت طفولتي في بادية العرب، قرب تدمر، حيث الصحراء آفاق وأمداء، وصفاء واتصال بالسماء. وقد انعكس تأمّل هذا الجمال المؤمن الأخّاذ على قلمي ونتاجي الأدبي. لكن الدور الأهم آت من التربية الإيمانية، والقدوة الوالدية، رحم الله آباءنا وأمّهاتنا أجمعين ..

= هل وراء اختياركم للتخصّص الطبي في التحاليل والمختبَرات مغزى من حيث إيجاد فرجة للأدب؟

- منحني تخصّصي في التحليل المخبري فرصة كبيرة لضبط الوقت وترتيبه؛ فهو من (الاختصاصات تحت السريرية) والاحتكاك بالمرضى يبقى في حدود قطف عيّنات الدم عند الصباح .

= من وحي ديوانكم (لكم يغنّي الربيع)، متى يغنّي الربيع لسوريا الكَسيفة؟

- سيعود بعون الله تعالى الأمان والسلام إلى بلدي الحبيبة سورية، وما ذلك على الله بعزيز.

الشام تدري لن يفرّج كربها   والله، إلّا الواحد القهّار

= ما الذي وددْتَ قوله بين سطور كتابك (ربحْت محمّدًا ولم أخسر المسيح)؟

- إن الإسلام هو دين الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام. وإن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، هو أولى الناس بالمسيح ابن مريم. وإن المسيحي الذي يدخل إلى عالم النبي، فيحبه ويؤمن برسالته، لن يخسر محبته للسيد المسيح، بل سيحبه أكثر..صلاة ربي وسلامه عليهما .

= إذا اتفقنا على أن اللغة وطن الأديب، والفصحى جواز سفره.. فكيف تنظر إلى ما يُسمّى بالشِّعر العامي؟

- الشّعر العامي سفر بغير زاد ولا راحلة إلى غير وطن، ولن يُكتب له الخلود.

***

د. منير لطفي

أُجري الحوار في 5 مارس 2023م

كركوك وجماعتها الادبية في قبان الزمن

الاديب فاروق مصطفى المولود في العام ١٩٤٦ نشأ وترعرع في (جرت ميدان) وهي احدى محلات كركوك الشعبية، ودرس في مدارسها، ثم نال البلكلوريوس من قسم اللغة العربية بكلية الاداب بجامعة بغداد، غني عن التعريف فهو من اعمدة كركوك الثقافية وله حضور مهم في الفعاليات الادبية سواء في بغداد اوالمحافظات، وتُدرج كتاباته عن مدينته التي عشقها ضمن اروع ما كتب في ادب المكان.

ولا يختلف إثنان على انه ليس هناك من له حق الكلام عن كركوك وجماعتها الأدبية من منظور ادبي وفكري اكثر من الاديب فاروق مصطفى.. لقد صادق اقطابها، وصاحبهم في بدايات ظهورهم، وعقد معهم صلات وشيجة، حضر اجتماعاتهم وجلساتهم، بل وتواصل معهم وتفاعل مع ابداعاتهم حتى وهم في الشتات والمهجر ايضا.

عن كركوك العريقة التي سحرته، وعن جماعتها الادبية التي اضاءت المشهد الثقافي العراقي ردحا طويلا من الزمن ولا تزال، أجريت هذا الحوار مع الاديب الكركوكي البارز فاروق مصطفي.3127 فاروق مصطفى

* حالما يرد اسمك تقفز الى الذهن صلتك الحميمة مع كركوك وجماعتها الادبية.. من هم.. وكيف نشا هذا الهوس.. ومتى بدأ.؟

** تعود معرفتي بالاصدقاء الذين عرفوا فيما بعد ب (جماعة كركوك) الى العام ١٩٦٤، واول شخص تعرفت عليه هو (جان دمو) وهوا الذي قادني الى جليل القيسي ويوسف الحيدري حيث تعرفت عليهما في مقهى النصر، ويُعرف اليوم ب (المدورة) ثم جاء مؤيد الراوي وسركون بولص وصلاح فائق. اما انور الغساني فكنت اعرفه من قبل لانه درسني مادة التربية الفنية في المتوسطة الشرقية. الاب يوسف سعيد كان قيما على رعوية كنيسة تشرف على ساحة العمال. قحطان الهرمزي كان مبعدا الى البصرة. فاضل العزاوي كان ببغداد يعمل في صحافتها ويكمل دراسته بعد ان اطلق سراحه من السجن، جالسته كثيرا في مقهى البرلمان ومقهى ابراهيم ببغداد. زهدي الداوودي لم اعرفه في هذه الفترة لقد كان موقوفا ثم غادر العراق بعد ان اطلق سراحه لكنني تعرفت عليه في جامعة الموصل عام ١٩٧٨. كل هؤلاء الاصدقاء كانوا رائعين وملتحمين بالثقافة العراقية والعربية والعالمية. فالتحمت بجلساتهم وقراءاتهم وجدالاتهم ومع معظمهم تمتنت صداقتي والصداقة هي العلامة المميزة التي وسمت هذه الجماعة واستمريت معهم بالرغم من تشتتهم في اصقاع المعمورة. وصداقتي مع صلاح فائق لا تزال متينة حتى اليوم.

* يتبوأ المكان جزءا مهما في النسيج القصصي والروائي وقد تحول الى عنصر جذب واستقطاب.. كركوك كمدينة حضارية سرمدية حولتها أنت في كتاباتك من مكان إلى معشوقة ! كيف اينع هذا البرعم بداخلك وصار شجرة حب وارفة؟

** عندما تفتح وعيي على المدينة وبدات أعي ما تحيطني كانت كركوك بمثابة حدائق وبساتين واشجار الكالبتوس تظلل العديد من شوارعها، والكهاريز المتدفقة تقطعها من الشمال الى الجنوب، ولا اخفيك عن صالات سينماتها الصيفية تلك النوافذ المضيئة في اسمار لياليها وومقاهيها هي الاخرى عامرة بجلاسها وسمارها وما زلت اذكر كيف كانت لدينا مكتبات تتعاطى بيع الصحف والمجلات الاجنبية. وكركوك مدينة من الشعر قلعتها ونهرها الاسطوري المتدفق شتاءً والمنزوي الى هدوئه صيفا، هذه المشاهد التي انتشيت بها في صباي وشبابي المبكر صرت في كهولتي افتقدها وافتقد هارمونيتها فغدوت اعيشها في كتاباتي واحاول ان أعيد إليها الازهرار بعد ان شاخت واهملت وانطفأت ودبّ الاهمال في شراينها فصرت اعيش كركوكي التي استوطنت ذاكرتي وإنقلبت الى بيوت من الاحلام.

* احد الروائيين العرب قال ان خصائص المكان في الابداع السردي العربي لا يزال غائبا عن الدراسات الادبية مقارنة بالكم الكبير منها في الأدب الأجنبي.. هل تقر هذا الطرح ، وبمعنى أخرهل تصدى النقاد للإنتاج الابداعي الذي وثق المدينة، لك أولمعاصريك من جماعة كركوك مثلا؟

** هناك مدن اقترنت باسماء الروائيين والقصاصين الذين وظفوها في منجزاتهم السردية فإسم نجيب محفوظ اقترن بالقاهرة، والاسكندرية بابراهيم عبدالمجيد والبصرة بمحمد خضير وطنجة بمحمد شكري. وأظن أن غواية الامكنة راجت كثيرا في السردية العربية والعديد من النقاد تصدوا لهذه الظاهرة ، وانا لا استطيع في هذه العجالة ان اؤشر اسماء النقاد الذين انبروا لهذا الموضوع ولكن انا من ناحيتي كثيرا ما درست وكتبت عن كركوك في قصص جليل القيسي وثمة كتاب للدكتور نوزاد احمد اسود يحمل عنوان (المدينة في قصص جليل القيسي) ، والكثير من الدراسات كتبت عن المكان في منجزي، اذكر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور يوخنه مرزا الخامس، الدكتور فاضل التميمي، الدكتورة سلوى النجار، الاديب نصرت مردان، الناقد عدنان ابو اندلس. وعشرات غيرها من الدراسات تصدت الى هذه الظاهرة ايضا.

* بالعودة الى جماعة كركوك الأدبية يرى البعض أن اقطابها وخلال وجودهم في كركوك وبغداد ستينيات القرن الماضي كانوا أكثرحضورا وتأثيرا على مسار الأدب العراقي الحديث مما اصبحوا عليه وهم في دول الشتات. اذا كان هذا الطرح صائبا فكيف تفسر موقفهم من مدينتهم بل وطنهم أيضا وهم في سعير الغربة؟

** علينا ألا ننسى بان الصحب في جماعة كركوك ابان الستينات كانوا في اول شبابهم ممتلئين حماسا وعنفوانا ووإقداما وجرأة في اقتحام سوح الادب فجربوا كتابة قصص مغايرة للمالوف وكتبوا قصائد جديدة بنكهة غير معروفة وتقانات مستحدثة لم يعهدها المشهد الثقافي، وكذلك ألا ننسى بان معظمهم كانوا يتقنون اللغة الانكليزية فقرؤا ادابها وتأثروا بها وترجموا منها، وباستثناء جليل القيسي الذي آثر البقاء في كركوك وقحطان الهرمزي الذي انفصل عن الجماعة في ذروة صراع اليسار واليمين في العراق. خرج الصحب الى ارجاء المعمورة وتشتتوا في بلاد الله البعيدة فتوالت كتبهم السردية والشعرية ولم يتوقفوا عن الكتابة والابداع في اجناسها المختلفة. والى اليوم فإن عطاء فاضل العزاوي مستمر من مستقره في برلين وصلاح فائق غزير الانتاج يتواصل كل يوم في نشر قصائده على صفحته الشخصية في العالم الافتراضي بخياله الجامح وذاكرته الممراعة. عندما غادر الصحب كركوك حملوها معهم وفهرسوها في دفاتر قلوبهم وبقيت تتمرأى في كتاباتهم بقلعتها ونهرها وجسورها وخاناتها وناسها الطيبين واظن العراق نفسه ظل شاخصا في ادبهم يتألمون للمحن التي يمر فيها ويسعدون اذا ما ذاق الراحة وانتشى بها وظلوا يحلمون به وبزيارته متى سنحت الفرصة لهم كما زار صلاح فائق كركوك في العام ٢٠٠٣.

* رغم ان تاريخ كركوك يعود الى اكثرمن سبعة الاف عام وشهدت عصورا من الحضارات الا انها لا تزال تفتقر الى اية مقومات ثقافية َ توفر بيئة َللابداع الفكري او الفني، ومع ذلك فهي مدينة ولودة رفدت المشهد الادبي والفني وكذلك الرياضي باسماء مميزة.. اليست هذه السمة تشكل مفارقة حقا.؟

** الانسان لا يعرف متى يجود الزمان باعطياته وربما كانت من باب الصدف الماتعة ان يجتمع اولئك الناشئة في اعدادية كركوك اواخر الخمسينات وبدواميها الصباحي والمسائي ويتعارفوا ويتبادلوا النشرات الجدارية، واعني فاضل العزاوي ويوسف الحيدري وقحطان الهرمزي ومؤيد الراوي، ومن هذه اللحمة انبجست تلك الصداقة الملتحمة بينهم واستمرت بالرغم من تشتتهم في ارجاء المعمورة فكان انور الغساني وسركون بولص يزوران مؤيد الراوي في برلين دائما، والاب يوسف سعيد استقر في السويد ولكن لقاءاته بصحبه القدامى لم تنقطع والذي خدم جماعة كركوك التطورات الادبية التي شهدها العقد الستيني وصعود التيارين اليساري والوجودي وكثرة الترجمات من الادب الروسي والفرنسي والانكليزي والامريكي ، واهم دالتين في حياة هذه المجموعة الصداقة المتينة التي ربطتهم وكذلك كانوا دائما يجدون الوقت للاصغاء الى كتابات بعضهم البعض، والاجمل تجمعاتنا الليلية في كركوك قبل التشتت والخروج منها والقراءات التي كانت تستمر الى ساعات متاخرة من الليل.

* اعمدة جماعة كركوك الادبية.. زهدي الداوودي رحل عن عالمنا في المانيا. فاضل العزاوي مقيم في المانيا أيضا صلاح فائق سعيد في الفلبين سركون بولص رحل وهو في امريكا جان دمو في استراليا وأنور الغساني في كوستاريكا.. في رأيك هل ادى هذا التشتت في اقطار المعمورة الى إنهاء ودور الجماعة في مسار الادب العراقي الحديث.؟

** بقي صلاح فائق في الفلبين عشرين عاما. في الوقت الحاضر يقيم في بريطانيا في بلدة تبعد عن لندن حوالي الساعة. سركون بولص توفي في برلين الا ان جثمانه دفن في سان فرانسيسكو وهكذا مع بقية الصحب، الاب يوسف سعيد توفي في السويد، وأنور الغساني في كوستاريكا ولم يبق من الجماعة الا اثنان، صلاح فائق وفاضل العزاوي - طول العمر لهما - وهذا الاخير ترجمت اعماله الى الانكليزية والالمانية وغيرها من اللغات الحية، وروايته (اخر الملائكة) ذاعت شهرتها حتى ان (كولن ولسن) كتب عنها. صلاح وفاضل مازالا متواصلين في عالم الكتابة والابداع. صلاح فائق غزير الانتاج، شعره يستقي موضوعاته من وقائعه اليومية المعاشة ترفدها ذاكرته الممراعة وخياله المخصاب. فاضل العزاوي جاب ميادين الابداع كلها من شعر وقص ورواية ونقد وترجمة وقد بزّ في جميعها وفي اخر المطاف المنجز الادبي للجماعة يشهد على توهجهم وتميزهم ومازالت الاطاريح الجامعية تكتب عنهم والنماذج التي تركوها في مضمار قصيدة النثر وفن القصة القصيرة وترجماتهم ما فتئت تاخذ باهتمام النقاد والدارسين وبعد ذلك الزمن هو الذي سيغربل كل شيء ولا يبقى الا الجميل الحسن البناء يقاوم معاول النسيان.

* هل تتوقع بأن البيئة الثقافية في كركوك الآن قادرة على انتاج جماعة فكرية او فنية جديدة تعزز التراث الحضاري للمدينة اسوة بجماعة كركوك الادبية.؟

** تحدث الاديب الراحل وحيد الدين بهاء الدين ان كركوك عرفت جماعات ادبية عدة، وأطلق الدكتور عبدالله ابراهيم على نفسه وأصدقائه من الادباء الذين برزوا بعد منتصف العقد السبعيني بانهم (جماعة كركوك الثانية) الا ان شهرتهم لم تبلغ شهرة الجماعة الاولى وهناك من تحدث عن جماعة كركوك الثالثة عرفتهم تسعينات القرن المرتحل وهكذا كما ترى كركوك مدينة ولادة لا تتعب من انجاب ابنائها المبدعين وحاليا في كركوك العديد من المنشئين والمنشئات يتعاطون ويتعاطين امور الكتابة اذا طوروا ادواتهم الفنية وصقلوها ربما تفوقوا وبلغوا القمة التي يطمحون الوصول إليها، ولا اظن في الوقت الحاضر البيئات صالحة لإنضاج الجماعات الادبية والفنية كما عرفتها العقود السابقة. تغير الزمن وتغيرت الظروف وظهرت معها سمات وعلامات غير التي كانت موجودة في السابق.

* اذا مُنحت فسحة حديث قصير نختم به هذا الحوار. فماذا تقول؟

** في البدء شكري الموصول لكم على هذه المحاورة والاسئلة الرصينة التي طرحت من قبلكم. اتمنى العناية بتراث جماعة كركوك وبالاخص انشاء قسم في المكتبة المركزية في كركوك يعنى بامور هذه الجماعة ويضم كتبهم ورسائلهم وصورهم ومصادر الدراسة عنهم وكل ما يتعلق بهم ، واذا استحال ذلك في المكتبة المركزية فلدينا جامعة كركوك وقسما اللغة العربية في كليتي التربية والآداب للعناية بتراث الجماعة ، هذا التراث الذي اوصل إسم كركوك الى أبعد اصقاع المعمورة.

***

حاوره: محمد حسين الداغستاني - كركوك 

 حب الوطن يقتل المرء 

مثلما يقتله السيف 

مثلما يقتله السرطان 

مثلما يقتله الكوليرا*

* * *  

الشاعر لطيف هلمت

طيف القلب النابض بين هموم الناس والمسارات السياسية 

* * * 

يعتبر الشاعر لطيف هلمت احد الشعراء الكورد المحدثين والأكثر غزارة وتنوعا واصالة في الإنتاج الادبي والإبداعي. الشاعر من مدينة كركوك والتي تعتبر عراقا مصغرا وتعددي الانتماءات والعقائد. قدمت المدينة كوكبة من الادباء اغنوا الادب العراقي والانساني بنصوص خالدة امثال: 

مؤيد الراوي، زهدي الداوودي، صلاح فائق، الاب يوسف سعيد محي الدين زنكنه، يوسف الحيدري، سركون بولص، جليل قيسي، قحطان الهرمزي، عبد اللطيف بندر اوغلو، فاضل العزاوي، جان دمو، انور الغساني، عبد الله ابراهيم، هشام قيسي، إسماعيل ابراهيم، عواد علي، حمزة حمامجي، خاجيك كرابيت آيدنجيان، نصرت مردان،.. .. .وعشرات الاخرون اعتذر منهم جميعا، لا مجال هنا لذكرهم جميعا. مما أضفى طعما خاصا على الإنتاج الإبداعي لأدبائها. 

ألتقي اليوم بقامة ادبية وعبر صفحات الشبكة العنكبوتية " الانترنت" وكنت قد كتبت له قبل سنوات عن رغبتي لاجراء حوار معه. اليوم مشكورا ارسل لي اجوبة تلك الاسئلة. لنتحاور حول هموم المبدعين والأدب بصورة عامة وبصورة خاصة هموم الاديب الكوردستاني. ومسار الادبي للشاعر والحياة الأدبية عامة. 

في هذا سفر يأخذنا أديبنا الجليل في رحلة عبر تاريخ الأدب لنكتشف من خلاله معاناة الكاتب المبدع ومخاض ولادة النص الإبداعي الإنساني.3117 لطيف هلمت* عملية الكتابة الإبداعية ذو مسار تاريخي معقد والمبدعين عانوا ما عانوه وفي غياب الحرية من السلطات الحاكمة في معظم أنظمة الحكم في العالم، كيف تقيمون هذا المسار التاريخي بصورة عامة وبصورة خاصة في العراق وفي إقليم كوردستان؟ 

- بصورة عامة لا يمكن ربط عملية الإبداع الأدبي بوجود الحرية وعدم وجودها. هناك مبدعون قدموا أعمالا أدبية رائعة في كلتا الحالتين. أمثال بوشكين ، ليرمنتوف ، غوركي ، غوغول ، تولستوی ، تورغنيف ، ديستویفسكي وعشرات آخرون من الكتاب والشعراء برزوا كمبدعين في العهود القيصرية التي سادت فيها قوانين العبودية والاضطهاد والاستبداد. 

لا تظن بان جميع عهود النظام الماركسي كانت حقولا وبساتین للحرية بل كان مقص الرقابة يقص أحيانا كلمات وكلمات وان تطلب الامر كان يقص الكلمات والألسن والرؤوس معا و يمحو المبدع من الوجود محوا والمثل علی ذلك اغتيال الشاعر المبدع (اوسیب مندلشتام) واخرون. 

ومنعت الشاعرة (آنا اخماتوفا) من نشر قصائدها لمدة طويلة وكتب باسترناك روايته الرائعة ــ دكتور زيفاغو ــ في زمن ستالين الاستبدادي وحین حصل علی جائزة نوبل منعه ستالين من استلام الجائزة واجبره علی ان يقول بانه لا يرغب في استلام الجائزة دون اية مضايقات او تهديدات سياسية. 

وكتب الشاعر الداغستاني رائعته الخالدة ــ داغستان بلدي ــ في العهد الماركسي ولا احد ينكر الرقابة الاستبدادية الشديدة علی الفنون والآداب في ذلك العهد. 

وفي فلسطين المحتلة كتب مجموعة من شعراء فلسطين اروع قصائد المقاومة ، قصائد اعترف بعض رموز الكيان الصهيوني المحتل بانها قصائد تخيفهم اكثر من الأسلحة الفتاكة وفاقت آنذاك شهرة أسماء شعراء وكتاب من أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران والشاعرة فدوی طوقان وغسان كنفاني شهرة أسماء جميع ملوك العرب ورؤسائهم وهم كانوا يكتبون في ظل الاحتلال الصهيوني 

وفي العراق كتب الشاعر العراقي الخالد بدر شاكر السياب مجموعته الشعرية الرائعة ــ أنشودة المطر ــ في العهد الملكي الذي كان الاستعمار البريطاني المستبد يحكم العراق. 

كما كتب الجواهري الخالد قصيدته الرائعة (اخي جعفر) وعشرات القصائد الاخری وكتب حسين مردان رائعته المسماة (قصائد عارية) وعوقب بسببها قانونيا في فترة الاحتلال البريطاني المستبد. 

كتب الشاعر الكردي الكبير عبدالله گۆران كثيرا من روائع قصائده في العهد المذكور واستوحی الهام احدی اروع قصائده الغزلية وهو مكبل بالأغلال تقوده الشرطة الملكية للسجن. 

ان الأرضية الحقيقية للإبداعات الشعرية بصورة خاصة والإبداعات الأدبية والفنية الكردية تٱسست ابان اتفاقية 11 / 3 / 1970 التي دامت اربعة سنوات. خلال تلك المدة برزت الی الوجود حركة جماعة روانگە ــ المرصد ــ الحداثوية في مدينة السليمانية عاصمة الثقافة الكردية الی الوجود. 

وكذلك ازدادت نشاطات جماعة قصبة كفري المسماة بـــ: جماعة كفري التي تشكلت سرا في اواخر ستينيات القرن المنصرم وكانت جماعة متطرفة متاثرة بالأفكار السريالية والدادائية تدعو في بداية تشكيلها الی نبذ كل قديم وتقديس كل ما يرتبط بالحداثة وكنت انا احد مؤسسي تلك الجماعة.. والی جانب هذين الجماعتين اجتاحت الساحة الشعرية والأدبية عشرات الأسماء البارزة وقدمت اعمالا شعرية وقصصية وفنية ابداعية لايمكن تجاهلها او نسيانها.. وبصورة عامة لا تخلوا اي مرحلة من مراحل الشعر الكوردي من الابداعات الشخصية فالشاعر الكردي احمدي خاني كان مبدعا كبيرا ورائعته الإبداعية ــ مم و زين ــ وعشرات من قصائده الخالدة تشهد علی ذلك. وكذلك ملا الجزيري ونالي وعبد الرحيم المولوي. يعتبر الشاعر الكوردي الكبير عبدالله كوران رائدا عظيما للحداثة الشعرية الكوردية في النصف الاول من القرن الماضي ولا يمكن تجاهل دور الشاعر نوري شيخ صالح صديق عبدالله گوران في تللك الفترة في الحداثة الشعرية الكردية. 

برٱيي ان حكومة إقليم كوردستان لم تهتم بالإعمال الأدبية والفنية بالشكل الذي تتطلبه المرحلة الراهنة. كافة الإبداعات هي إبداعات شخصية او إبداعات تقدمها جماعات مغرمة بالحداثة دون تقديم اية تسهيلات حكومیة للمبدعين. لا تغرانك الأمسيات والمهرجانات الأدبية والشعرية والثقافية وتوزيع الهدايا والشهادات التقديرية لهذا وذاك وتلك.فأكثرها احتفالات روتينية تقام سنويا او فصليا لأسباب شبه سياسية. 

مختصر الكلام ان الثقافة الكردية نالت نوعا من الغبن والإهمال في ظل حكومة كردستان ومؤسساتها الثقافية الحزبية ولكن المبدع الكردي كالسيل الجارف يقفز علی كل السدود والمتاريس و يخلق إبداعاته دوما.3115 لطيف هلمتالف تحية وتحية للمبدع الكوردي الذي ابدع ويبدع في اي مجال من المجالات الثقافية بجهوده الخاصة لا بمساندة اي مؤسسة ثقافية حكومية ــ حزبية. 

* اللغة مهمة في العملية الإبداعية وعدم وجود لغة موحدة للكورد حاجز في عملية التواصل كيف ترون مستقبل اللغة الموحدة؟ 

فلتسكت البنادق 

إن طفلا ينوي أن ينام 

ولتسكت الأباطرة والقياصرة 

إن شاعرا يود أن يتكلم. 

- الإبداع غير مرتبط بوجود لغة موحدة او عدم وجودها كتب دانتي رائعته الخالدة ــ الكوميديا الالهية ــ باحدی اللهجات الشعبية الايطالية. وكما قرأت في مصادر كثيرة ان اللغة التي كتب بها الشاعر الانجليزي الكبير شكسبير هي غیر اللغة التي كتب بها برناردشو مسرحیاته وكتب بها الشاعر الانجليزي المبدع ت. س. اليوت رائعته الشهیرة المسماة ــ الأرض اليباب ــ وهناك شعراء شعبيون كتبوا باللهجات الشعبية العربية وابدعو فيها اشهرهم الملا عبود الكرخي صاحب قصيدة (اين حقي) ومظفر النواب وغيرهم في العراق واحمد فؤاد النجم في مصر ووو الخ 

علی صعيد اللغة الكوردية كتب كثير من الشعراء البارزين من امثال عبد الرحيم المولوي و بيساراني وصيدي هورامي قصائدهم باللهجة الهورامية وأبدعوا قصائد خالدة يتباهی بها تاريخ الشعر الكوردي. 

الجدير بالذكر بدات علی صعيد الشعر العربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي محاولات جادة لكتابة القصائد السياسية وحتی الغزلية واصدار صحف ومجلات باللهجات الشعبية العربية وان لم تخنني الذاكرة قادت الاحزاب الشيوعية العربية تلك الحملات لتسهيل عملية توصيل الشعر والكتابة الی الجماهير الشعبية والطبقات البائسة. 

لا يخفی ان معظم الأغاني العربية من المحيط الی الخليج مكتوبة باللهجات الشعبية العربية وهي لهجات بعدد الدول والقبائل العربية وأفخاذها ولا تنسی بان اللهجة الموصلاوية تختلف عن اللهجة البغدادية.. والبغدادية تختلف عن البصراوية. 

ان اللغة الموحدة هي شبه أسطورة فبرٱيي لا يوجد شاعران او كاتبان يكتبان بلغة موحدة واحدة. 

* فهل لغة الروائي السوداني المبدع الطيب صالح هي ذات اللغة التي كتب بها الكاتب المبدع عبدالرحمن منيف او جبرا ابراهيم جبرا او الكاتب الجزائري مولودفرعون رواياتهم..؟ 

- اما علی صعيد اللغة الكردية. فقد كتب نالي ومحوي وسالم وعبدالله كوران واخرون باللهجة السورانية وأبدعوا ايما إبداع. كما كتب شعراء مبدعون اخرون قصائدهم باللهجة الكرمانجية وابدعوا الی درجة الاندهاش وفي مقدمتهم احمدي خاني وملاي جزيري وقدري جان وكامران بدرخان وجكرخوين وغيرهم. برأيي تكمن عملية الإبداع في شاعرية الشاعر ومساحة موهبتها الشعرية وثقافتها وليست له اية علاقة باللغة الموحدة او باللهجة التي يكتب بها قصائد. 

اكتب بأية بلهجة تريدها وحين تبدع في الكتابة تتهافت ملايين القراء علی كتاباتك لقراءتها. 

وأخيرا أقول في استطاعة اي شاعر موهوب الإبداع حتى بلهجة قريته التي يعيش فيها.. وكما يقول الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت: 

أنتظر آخي 

لدي عسل في وعائي 

ستأتي النحلة من بغداد 

* إشعارك وصلت للبسطاء ويتغنون بكلماتها بينما هناك شعراء يكتبون ويكتبون لكن الجمهور لا يستسيغ كتابتهم ولا يحفظون إشعارهم ما السر وراء ذلك؟ 

- انا منذ مجموعتي الشعرية الاولی المسماة بــ): الله ومدينتنا الصغيرة (شاعر تجریبي اجرب الكتابة مع جميع التيارات والمدارس الشعرية القديمة والحداثوية في آن واحد فمجموعتي الاولی المذكورة والمطبوعة في العام 1970 في مطبعة ــ الشمال ــ في كركوك الی جانب عشرات القصائد الحداثوية تضم عددا من القصائد المقفاة المكتوبة بالأسلوب السائد في الشعر الكوردي في تلك الفترة وبرٱي ان من لايجيد كتابة الشعر بشكله القديم ربما يستحيل عليه ان يكتب قصائد حداثوية مبدعة. لان الحداثة ليست نبذ كل قديم بل الحداثة هي استعمال كل الأدوات الشعرية القديمة بشكل حديث.. فالحديد الذي كان يحوله الحداد الی محاريث يدوية.. تقوم المصانع الحديثة الآن بتحوله الی محاريث تجرها العربات الضخمة بدل الثيران.. وتحوله ايضا الی طائرات مدنية وحربية وصواريخ عابرة القارات والخ وفي استطاعة الشاعر الحداثوي المبدع ان يكتب بنفس الكلمات التي كتب بها اي شاعر قديم قصائده ان يكتب قصائد حداثوية عابرة البلدان والقارات والقلوب والأذواق الشعرية. 

واحد أسباب شهرة قصائدي هي انني ولدت ونشٱت في أحضان عائلة دينية مثقفة حيث كان ابي الی جانب كونه شاعرا وشيخا من شیوخ الطريقة القادرية.. كان مثقفا يجيد الی جانب اللغة الكوردية اللغة الفارسية واللغة العربية وكانت مكتبته عامرة بدواوين حافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي وفريد الدين العطار وديوان خيام وكتب اخری كالف ليلة وليلة وبعض اعداد مجلة كلاويز الكردية.. وكان في ليال كثيرة يقرا لنا بعض نصوص كتابي بستان وكلستان الشاعر الفارسي الكبير سعدي الشيرازي وبعض قصائد حافظ الشيرازي او فريد الدين العطار او غيرهم من شعراء الفرس ك ــ بيدل ــ و ــ كليم ــ وغيرهم ثم يترجمها لنا الی اللغة الكردية وكنت استمع الی ترجماته لتلك القصائد باشتياق ولهفة ومن هنا عشقت الكلمة الجميلة وعشقت الشعر اي إنني أشبعت روحي بروائع هؤلاء الشعراء العظام ثم بدأت بكتابة الشعر. 

وورثت شفافية الكتابة من تلك المجالس المرصعة بدرر وجواهر حافظ وسعدي و فريددين العطار.. وبعد ذلك وقبل سن الرشد تطلعت علی قصائد كبار شعراء العالم والعرب وقرات دواوين او بعض قصائد رواد الحداثة الأوربية والعربية.. حيث قرات في سن مبكر قصيدة ـ الارض اليباب ـ الشهيرة للشاعر الامريكي / الانجليزي (ت. س. الیوت) في العدد 40 / 1968 / من مجلة ــ شعر ــ أللبناية ترجمة الدكتور لويس عوض.. ثم قرات دواوين رواد الحداثة العراقية والعربية دواوين بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وادونيس وشوقي ابي شقرا وانس الحاج ويوسف الخال ونزار قباني وجبران خليل جبران وغیرهم وكنت متلهفا في سنوات شبابي اي في اواسط وٱواخر ستینيات القرن الماضي بقراءة مجلة العاملون في النفط و مجلة الاداب ومجلة شعر اللبناني ومجلة الكلمة التي كان يشرف علی ادارتها حميد المطبعي.. والاعداد الاربعة الصادرة من مجلة :شعر 69 العراقية.. وفي تلك السنوات قرات بودلير وماياكوفسكي واراغون ولوركا وناظم حكمت ولامارتين والخ وحسب تعبير بول فالیري اذا كان الاسد يتكون من الخراف والغزلان و الثيران التي اصطادها فانا كشاعر اتكون من الكتب والمجلات والدواوين التي قراتها.

3116 لطيف هلمت

سبب اخر لشهرة قصائدي هي انني من رواد شعر المقاومة بعد انتكاسة ثورة ايلول حيث نشرت عشرات قصائد المقاومة والدواوين الشعرية في اواسط سبعينيات القرن المنصرم ولم يسبقني تاريخيا في تلك الفترة اي شاعر كوردي آخر في كتابة شعر المقاومة ونشره ولا زلت احتفظ بعشرات الرسائل التي وصلتني من الشعراء الكورد وقرائهم يكيلون المديح لروعة تلك القصائد وتاثيرها الايجابي في زرع روح المقاومة والصمود في قلوب الجماهير في تلك الفترة الرهيبة.. ويشجعونني علی كتابة المزيد من امثال تلك القصائد لابد ان اقول بان مسيرتي الشعرية المفعمة بالتمردات الجميلة والفوضی الرائع قربتني من الجماهير وخاصة بعد ان منعت من الاشتراك في الندوات التي اقامتها اتحاد الادباء الكورد في المؤتمر الثاني للاتحاد التي اقيم في اربيل في تموز 1971 واجبرت علی العودة الی كركوك بامر من شرطة اربيل آنذاك مع مجموعة من أصدقائي الفوضويين حسب اقوالهم. وفي المهرجان الشعري الذي اقيم في عام 1971 في كركوك طردت وألقت علي القبض شرطة امن كركوك وكان من الصعب إنقاذي من براثن شرطة كركوك آنذاك لولا تدخل رئیس اتحاد الأدباء الكورد الشهيد الخالد صالح اليوسفي رحمه الله. 

تقلبات جغرافية 

حفر صورة فتاة علی صخرة كبيرة 

وامطر في ثغرها دمعتين 

فعطست الصورة 

وبدٱت تتبادل الكلام مع الفنان 

تحت سقف المساء ناما معا 

وفي الصباح ولد من تلامسهما 

نهر عمق 

فصنع الفنان من أشجار الغابة سفينة 

وصعدا علی متنها معا 

فجرفهما النهر الی البعيد البعيد.. 

ربما ارادا ان يعثرا علی ارض جديدة 

لاحفادهما.. . 

وهناك الی جانب النواحي الإبداعية في شعري أسباب اخری جعل شعري محبوبا في قلوب الجماهير وهو لعدم انتمائي لاي حزب من الأحزاب في اية فترة من فترات عمري.. وشاركت في ثورة ايلول عام 1974 / 1975 دون ان اكون عضوا في الحزب الديمقراطي الكوردستاني.. ولان قصائدي مكتوبة بلغة سلسة شفافة ترجمت الكثير منها الی بعض اللغات الأوروبية والعربية والفارسية ولا زلت احتفظ باحدای رسائل الشاعر والناقد الإيراني الكبير سید علي الصالحي يشید بقصائدي ويصفها بقصائد عالمية.. وافتخر بان كثيرا من كبار النقاد والأدباء في العراق كتبوا دراسات هامة عن جماليات قصائدي و مستواها الإبداعي. 

هناك سبب آخر لإعجاب القراء بقصائدي وهو انني شاعر قومي ولكن شاعر أنساني وغیر عنصري وبعید بعد السماء والأرض عن الافكار الشوفينية فكما أحب الحرية لشعبي أحب الحرية للشعوب التي تعاني من ويل الاضطهاد وجبروت المحتلين. فنشأتي الخاصة في أحضان عائلة دينية بذرت في قلبي افكارا صوفية. 

اعتز بديني الإسلامي ومقدساته واحترم كافة الاديان والمذاهب والطوائف ومقدساتها. رغم عدم انتمائي طوال عمري لاي حزب شيوعي نلت وسام الدرع الذهبي للحزب الشيوعي الكوردستاني.ورغم عدم انتمائي للاتحاد الوطني الكوردستاني فزت بجائزة الشاعر والروائي والسياسي الكوردي الكبير ابراهيم احمد ــ بله ــ القیادي البارز او الأوحد في صفوف الاتحاد الوطني الكوردستاني.. ونلت جائزة بابا گوڕگوڕ الذهبية من قبل الاتحاد الوطني الكوردستاني في كركوك ولم اكن في اي يوم عضوا في صفوفه.. وربما احيانا رشقته بشواظ من نیران قصائدي ان تطلب الامر ذلك.. واخيرا انا صوفي والصوفية حركة تحررية نادت وتنادي بالحرية لجميع الاديان والامم والشعوب والمذاهب والطوائف وضحت من اجل نشر افكارها بصوفيين كبار كالحلاج والنسيمي والسهروردي.. .. وآخرين.. 

أتعجب من صمت معظم المثقفين في العراق والبلدان العربية ودول العالم تجاه ما تمارسها الدول العظمی وبعض الدول العربية من الانتهاكات التعسفية للحريات والتوجهات الشوفينية والمذهبية والدينية والطائفية والجغرافية ضد الآخرين. 

المجد كل المجد للشعر الذي لا يتجمد في دائرة السياسة وللمثقف الذي لا يستسلم لاية سلطة. 

* النقد الأدبي بصورة عامة ليس بالمستوى المطلوب وربما لقلة النقاد او لان آلنقد بصورة عامة غير مرغوب في المجتمعات الشرقية كيف تقيمون تجربتكم في النقد؟ 

- الناقد الجيد هو الناقد المزود بطاقة ثقافية واسعة وبدون تلك الثقافة الموسوعية يستحيل علی اي ناقد ان يكتشف جماليات اي نص شعري وأدبي او سلبياتهما.. ولكن من المؤسف جدا هناك من اصبحوا نقادا لا يقرؤون طوال حياتهم سوی النصوص التي ينتقدونها سلبا او إيجابا حسب أهوائهم الشخصية وذائقتهم الأدبية الخاصة وهي ذائقة واطئة في اكثر الاحيان. 

مع ذلك ثمة نقاد بارزون في العراق واقليم كوردستان في المستوی المطلوب ولا يقلون شٱنا عن النقاد العالميين.. وبمناسبة ذكر كلمة العالمية اقول ان العالمية لا تدل في اكثر الاحيان علی الجودة والتمايز والابداع. فهناك قصائد عالمية هي رديئة بكل معنی الرداءة ومع ذلك نالت جوائز عالمية. 

ربما هناك اسباب سياسية او عنصرية في نيلها تلك الجوائز فانا أتعجب كيف فازت الشاعرة الهولندية (شیمبوريسكا) بجائزة نوبل ولم اجد في اعمالها الشعرية المترجمة للعربية قصيدة في مستوی قصائد بدر شاكر السياب وادونيس ونزار قباني وغادة السمان وفدوی طوقان ويوسف الخال ونازك الملائكة وبلند الحيدري وانس الحاج وابو القاسم الشابي وخليل حاوي والشاعر الكوردي عبدالله گوران ومحمد ماغوط.. وعبدالوهاب البياتي والجواهري ومحمود درويش وسميح القاسم ومحمود البريكان ومظفر النواب وفاضل عزاوي وجان دمو وامل دنقل والشاعر التركماني عبداللطيف بندر اوغلو وووو..  

فباستطاعتي تعداد عشرات الشعراء المبدعين في العراق واقليم كوردستان مكانتهم الشعرية ارقی واعلی بعشرات المرات من مكانة (شيمبوريسكا) ولم ينالوا اية جوائز محلية او عالمية. 

ان مثل هذه الاختيارات لنيل الجوائز هي وليدة النقد السياسي او النقد العنصري او الديني.. ولندع شعراء العراق واقليم كوردستان جانبا ونتذكر الشاعرة الإيرانية الراحلة (فروغ فروخزاد) المتمردة المبدعة التي لا يمكن مقارنة قصائدها الراقية بقصائد شيمبوريسكا الاعتیادية.. ولم تنل اية جائزة عالمية رغم ابداعاتها.. ومثال آخر علی دور النقد السياسي او العنصري هو فوز رواية ــ الارض الطيبة ــ للروائية الامريكية / الصينية (بيرل باك) بجائزة نوبل وهي رواية اعتيادية في حين ان روايات الشهيد غسان الكنفاني وحنا مينا وعبدالرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا والطيب صالح والروائي التركي الكردي يشار كمال والروائي السوري الكوردي سليم بركات والروائي الايراني الراحل صادق هدايت كاتب رواية (البومة العمياء) الرائعة ورواية (موبي ديك) الرائعة جدا جدا للروائي هرمان ملفل اكثر عمقا وابداعا من رواية ــ بیرل باك المذكورة بمقياس تجاربي الخاصة لقراءة الروايات. وفي راي ان السبب الوحيد لمنح جائزة نوبل لرواية ــ دكتور زيفاغو ــ هو عداء كاتب الرواية الروسي ــ باسترناك ــ للنظام الشيوعي السائد آنذاك في روسيا السوفيتية. وفوز الشاعر الهندي طاغور بجائزة نوبل له أسباب سياسية ودينية ولا اود الدخول في التفاصيل.. وبروز الروائي سلمان رشدي من قبل الأوساط النقدية يرجع الی عداء سلمان رشدي المسلم للإسلام والتراث الإسلامي ومقدساته. وأتعجب كيف حصل الشاعر الايطالي (روفائیل البيرتي) علی جائزة نوبل فبمقارنته بالشاعر التركي الكبير ناظم حكمت ان روفائيل البيرتي يعتبرشاعرا اعتاديا فكيف فاز هو بالجائزة ولم يفز بها ناظم حكمت اذن تستطيع ان نقول ان النقد له دور رئيسي هام في ابراز بعض الاعمال الادبية وان لم تكن في المستوی الإبداعي المطلوب وذلك لأسباب سیاسية او ربما دينية او عنصرية او جغرافية او مذهبية. 

في استطاعة النقد أيضا ان يزيح عن الأنظار كثيرا من الإعمال الأدبية الإبداعية للأسباب المذكورة آنفا. 

فانا اعتبر نفسي قارئا جادا التهم الكتب التهاما منذ صباي كما يلتهم الجائع اقراص الخبز الحار ولا يعجبني كثير من الروايات والدواوين الشعرية والمجاميع القصصية التي يصفها بعض النقاد بالعالمية. 

تعجبني احيانا كثيرة اعمال شعرية وقصصية وروائية لم يصنفها النقد الادبي ضمن الاعمال الابداعية واكتشف فيها جوانب ابداعية تصلها للعالمية ومع ذلك لم يتطرق اليها النقد باية صورة من الصور. ولا بد ان اقول انني راض عن الكثير من الدراسات النقدیة التي ناولت اعمالي الشعرية من قبل نقاد وادباء كبار لهم مكانتهم البارزة في الادب العراقي والكوردي والفارسي.. ونالت دواويني الشعرية وقصائدي واعمالي الشعرية والقصصية المكتوبة للأطفال كثيرا من الشهادات التقديرية.. والجوائز المحلية.. وكثيرا من شهادات الدكتوراه والماجستير في جامعات إقليم كردستان وبغداد وتبريز وسنندج في الجمهورية الاسلامية الايرانية.. وفزت بجائزة ــ آبيك ــ الادبية الكردية السويدية.. عن اعمالي القصصية الشعرية المكتوبة خصيصا للأطفال لمختلف الأعمار. 

ان النقد البناء ساهم كثيرا لترجمة عدد غير قليل من مجاميعي الشعرية وقصائدي المكتوبة للكبار وقصصي المكتوبة للأطفال الی اللغة الفارسية وغيرها من اللغات وترجمت روايتي الوحيدة المسماة ــ زوجات شيخ محمود الجنيات ــ الی الفارسية مرتين الاولی من قبل الشاعرة الكوردية الايرانية سارا قوبادی والمرة الثانية من قبل الشاعر الكوردي الايراني المعروف فرياد شیري وهي رواية غرائبية كتب عنها عدد من نقاد الكورد في اقليم كوردستان و ايران وصنفوها في قائمة الروايات الحداثوية ووصفها الناقد الكوردي الايراني ـــ محمد بوور ـــ قائلا رغم بعض آرائي الخاصة حول محتوی الرواية اقول بانها رواية تمتاز باسلوب تجريبي رائع نادر ولا نظير لاسلوبها في عالم الرواية الكوردية حتی الآن. 

كلمتي الأخيرة حول النقد ودوره الايجابي والسلبي أقول ان كثيرا من الشعراء والروائيين وكتاب القصة القصيرة الأوربيين ليسوا كبارا بالحجم الذي قدمهم ويقدمهم الناقد الغربي للقارئ الشرقي.. كنت في صباي و طوال سنوات شبابي اؤمن بما يقوله نقاد الغرب حول شعرائهم وكتابهم وإبداعاتهم ولكني الآن لي مقاييسي الجمالية الخاصة للتحكيم بمستوی اي نص أدبي اقرٱه ومن المحال تصديقهم كسنوات صباي وشبابي.3117 لطيف هلمت * الإنتاج الأدبي يسير بصورة متوازية مع الحريات وخاصة الحرية السياسية لانها تعكس الواقع اَي ان غياب الحريات الأساسية في المجتمع يؤدي الى انحسار وهزالة الإنتاج الأدبي ما رائيكم بهذه المقولة وهل يمكن مقارنة الإنتاج الأدبي إبان الحقبة البعثية و ما انتج بعد ٢٠٠٣ ؟ 

- فكما تنمو كثيرا من الورود والأعشاب والأزهار الزاهية في ثنايا الصخور وعلی المنحدرات الجبلية الصلدة وحتی احيانا في ثقوب بعض الاقفال المزنجرة (الصدئة)هكذا تولد الإبداعات الأدبية والفنية في أحلك وأصعب الظروف وتحت الرقابات الشديدة التي تفرضها الأنظمة الدكتاتورية وكذلك في العهود المفعمة بالحرية المطلقة ايضا.. وكمثال علی ذلك كتابات الروائي دستويفسكي وروايته الشهيرة ــ ذكريات من بيوت الموتی ــ التي كتبها في اظلم العهود وأقساها وهو يعاني آلام سجون سيبريا القاسية. 

كما كتب الشاعر الكوردي الكبير عبدالله گوران اجمل قصائده المدججة بالابداع في العهد الملكي الذي كان الاستعمار البريطاني يسود البلاد ويحكمها بالحديد والنار وكتب الشاعر الكردي الكبير المبدع الملا خضر الملقب بــ : ـــ نالي ـــ بعض قصائده الشهيرة في أحلك الظروف التي كانت تعيشها كوردستان في ظلال الامبراطورية العثمانية. 

وكتب الشاعر بوشكين واوسيب مندلشتام وتولستوي وغوغول وبونين روائعهم الشعرية والقصصية والروائية رغم الرقابة المشددة في العهود التي عاصروها. 

وفي فلسطين المحتلة والمحاطة بالاستبداد الصهيوني ولد شعر المقاومة وكان شعر المقاومة العربية كقصائد فدوی طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وعزالدين المناصرة وغيرهم من الشعراء في فلسطين المحتلة اشد فتكا بالكيان الصهيوني من ازير البنادق ونيران المدافع وخطابات ملوك ورؤساء العرب آنذاك كما اعترف في حينه احد قادة الصهاينة 

وهناك اعمال ابداعية يستحيل تعدادها ولدت في ظروف سادت فيها حريات مطلقة.. وبالنسبة للادب الكوردي في حقبة العهد المباد وفي فترة يمكن حصرها بكل دقة في: (1970 والی 1990) شهد الأدب الكوردي بصورة عامة والشعر الكوردي بصورة خاصة تطورا ابداعيا كبيرا ربما لامثيل له في تٱريخ الادب الكوردي.. فازداد قراء الكتب الكوردية وكان الاكراد الساكنين في بغداد والمثقفین الكورد المنفيين في بغداد وجنوب العراق وطلاب الكورد الدارسين في جامعات ومعاهد بغداد وجنوب العراق من هواة قراءة الكتب الكوردية يزورون القسم الكوردي من المجمع العلمي العراقي ودار الثقافة الكوردية ببغداد وجمعية الثقافة الكوردية في بغداد للحصول علی الكتب والمجلات الكوردية التي كانت تطبعها تلك المؤسسات الثقافية الكوردية باعداد وافرة.. كنت آنذاك أطبع حوالي الفين او ثلاثة آلاف او اربعة آلاف او سبعة آلاف من دواويني الشعرية وتنفذ اعدادها المطبوعة في مدة شهر او شهرين او ربما اقل. 

كان هناك مكتبات كمكتبة مكنزي في شارع الرشيد ببغداد مخصصة لبيع الكتب الكوردية وكان المثقفون الكورد يقتنون تلك الكتب مهما كانت أثمانها ناهضة.. وكانت كل المكتبات البغدادية تفتح صدورها وترحب باستلام الكتب الكوردية وبيعها.. وفي كركوك وسليمانية واربيل ودهوك كان القاريء الكوردي يرتاد كل المكتبات ليقتني كل الكتب الصادرة آنذاك ويقراها بلهفة واشتياق.. . واتذكر ان لهفة القاريء الكوردي للقراءة بلغت الی درجة تهشمت الزجاجات الأمامية لاحدی المكتبات وذلك لشدة ازدحام هواة المطالعة امامها للحصول علی احدی الصحف الكوردية التي انا قلت فيها ان حركة جماعة روانكه بيضة فاسدة لم تفقس اي شيء وكانت حركة روانكة حركة ادبية تدعو للحداثوية.. فكلما ازداد النظام الدكتاتوري بطشا كلما ازداد المثقف الكوردي حبا للكتاب والمتابعات الثقافية. وكان للشعراء الكورد صداقات ثقافية واخوية متينة مع عدد غيرقليل من الشعراء والأدباء العراقيين العرب والتركمان والمسيحيين. 

من دواعي فخري ان الدكتور حاتم الصكر كتب عدة دراسات هامة عن قصائدي ومستواها الابداعي آنذاك وكتب في ذلك العهد اقلام اخری عراقية عربية مبدعة وبارزة دراسات عميقة عن قصائدي بصورة خاصة وعن الادب الكوردي وادباء وشعراء آخرون بصورة عامة لامجال هنا لذكر اسمائهم ولكني اقدم لهم شدات ورود اعتزازي وافتخاري بكتاباتهم تلك في تلك الظروف السوداء والاخص لاخي الكاتب والمترجم المسيحي بنيامين يوخنا دانيال الذي قام بترجمة مجموعة من قصائدي الی اللغة العربية في تلك الحقبة السوداء.. ولا زال مستمرا في ترجمة قصائدي ونشرها في مختلف الصحف العربية وفي فيس بوكه الخاص. 

ان العقدين الذين ذكرتهما كانا عقدين مفعمين بالابداع وحب الادب والهيام بالكتب الكوردية واقامة الندوات والمهرجانات الثقافية رغم الارهاب السائد فيهما وخاصة بعد فشل المفاوضات بين النظام العراقي وقيادة الثورة الكوردية.. ورغم اشتداد الإرهاب اكثر فاكثر بعد اخماد نار الثورة بعد المعاهدة العراقية الايرانية التي عقدت في الجزائر في عهد الرئیس الجزائري بومدين العام 1975 قدم الشعر الكوردي نماذجا رائعة مدججة بالخصائص الإبداعية من القصائد والدواوين المكتوبة باللغة الكوردية.. ولا زالت العملية الإبداعية مستمرة في الشعر والرواية والقصة والفنون التشكيلية الكوردية واني متفائل تجاه الحركة الابداعية رغم قلة او ندرة او عدم اهتمام المؤسسات الثقافية الحكومية والرسمية بالمبدعين والاعمال الابداعية في اقليم كوردستان.. وذلك لان الابداع عمل فردي ولا علاقة له بالمساندات الحكومية والحزبية فكل الحكومات والدكتاتوريات والأنظمة العادلة والفاسدة لاتستطيع ابدا خنق اي مبدع حقيقي.. .. او خلق اي مبدع من لاشيء. 

* اللغة الأدبية يتعدى الضوابط القواعدية الى لغة الشاعر المفهوم من لدن الجميع. الكتابة الأدبية السردية السلسة تصل للمتلقي بصورة اسرع والنصوص الجأفة تحتاج في احيانا الى مفسرين وحتى علماء وخبراء في اللغة. كيف ترى عملية إيصال النص للعامة؟ 

- باعتقادي ان اللغة الموحدة او اللغة العليا المسماة بلغة (الستاندارد) ليست لغة جاهزة بل هي لغة خاصة يخلقها الشاعر او الكاتب المبدع داخل اللغة التي يكتب بها.. فلكل شعب لغة وكل لغة تتكون من الكلمات ولكل كلمة معناها الخاص ودلالاتها الخاصة.. فكلمة المنجل في جميع لغات العالم تدل علی آلة للحصاد.. وكلمة قلم تدل علی آلة للكتابة وكلمة البندقية تدل علی آلة للقتل والحرب.. فالشاعر او القاص او الروائي المبدع هو الذي يخلق اللغة الموحدة او اللغة العليا من ادوات اللغة التي يكتب بها عبر نصه الابداعي المتميز. 

كل يوم يصطاد حلما 

وكل يوم يدفن جثة دمعة في مقابر الضباب: 

قلبي 

كتب دانتي الكوميديا الالهية بلغة محلية دارجة باسلوب مميز فحول اللغة الدارجة الی لغة موحدة في انحاء ايطاليا.. وروايات الروائي الطيب صالح مليء باللغة السودانية الدارجة ولكن الطيب صالح استطاع باسلوبه الابداعي المتميز ان ان يخلق لغته الكتابية العليا رغم تعامله مع الكثير من مفردات اللغة الشعبية السودانية.. وكتب الشاعر الكوردي الكبير احمدي خاني رائعته المسماة : بــ ــ مم و زين ــ بلغة مدينته باسلوب مبدع فحول لغة مدينته الی لغة موحدة يكتب بها جميع الكورد في كوردستان توركيا وبعض مناطق كوردستان العراق وايران..  

براي لكل كاتب وشاعر مبدع لغة خاصة به و داخل كل لغة قومية لاي امة توجد لغات بعدد كتابها وشعرائها المبدعين.. فبالنسبة للشعر الكوردي المكتوب باللغة الصورانية ان لغة الشاعر القومي الكبير حاجي قادري كویی لها مميزات لاتتشابه مع لغة الشاعر الغنائي الكبير طاهر بيك الجاف ولغة الشاعر الكورد اثیري لها مميزات تميزها عن لغة الشاعر الكوردي الشيخ رضا الطالباني..  

وفي الشعر الكوردي المكتوب باللغة البهدينانية لكل شاعر اسلوبه الخاص وبتمايز اسلوبه الإبداعي يخلق اللغة الموحدة داخل لغتها القومية.. وهكذا ان لغة المتنبي ليست لغة ابي نواس بكل حذافيرها فلكل منهما اسلوبهما الخاص لخلق اللغة العليا داخل اللغة التي يوظف كلماتها للكتابة.. .. ولغة ادونيس تختلف عن لغة بدر شاكر السياب نوعا ما. 

ولغة محمود البريكان هي غير لغة محمد الماغوط ولغة احمد عبد المعطي الحجازي تختلف عن لغة عبدالوهاب البياتي و لغة محمد مفتاح الفيتوري تختلف عن لغة امل دنقل ولغة محمد شكري ليست بلغة محمد زفزاف طبق الاصل والخ.. فاللغة العليا ليست لغة جاهزة بل هي لغة يخلقها المبدع باساليبه الابداعية المتميزة. واستطاع الشعراء الكورد الناطقين باللهجة الهورامية وفي مقدمتهم الشاعر الكوردي عبدالرحيم المولوي وبيساراني وصيدي الهورامي وخاناي قوبادي استطاعوا ان يجعلوا من تلك اللهجة لغة ادبية دامت الكتابة بها منذ اكثر من قرن وحتی الآن وهي لهجة كوردية تتكلم بها مناطق واسعة وشاسعة من كوردستان العراق وكوردستان ايران. 

القارئ الذكي بفطرته ينحاز الی قراءة الأعمال الإبداعية وهي مكتوبة بأسلوب السهل الممتنع الذي يعجز عن كتابتها الآخرون الهائمون بالكتابات العكرة المعقدة المكتظة بالشفرات والألغاز اللغوية والدلالات الغامضة التي تحتاج الی تفاسير وتوضيحات كثيرة.. وذلك لانهم عاجزون عن خلق لغة موحدة لكتاباتهم داخل اللغة التي يكتبون بها واقول مرة اخری ان اللغة الموحدة ليست بلغة جاهزة وليس بمقدور كل شاعر واديب الكتابة بها بل اللغة الموحدة هي لغة يخلقها المبدع من أدوات لغته التي يتكلم بها و هناك لغات موحدة لكل قومية بعدد شعرائها وكتابها المبدعين.. والاهم لدي هو الإبداع وليست اللغة او اللهجة التي نكتب بها. 

* إقليم كوردستان يعيش حركة أدبية وتنشر الكتب وتقام المهرجانات الثقافية ومعارض الكتب لكن الشباب لا يزالون ملتفون حول اجهزة الكومپيوتر والتلفون الخلوي يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي مبتعدين عن الكتاب. كيف ترون مستقبل الكتاب في عالم الكومبيوتر والمعلوماتية؟ وماذا ننتظر في المستقبل من انتاج لشاعرنا لطيف هلمت؟ 

- لقلة هواة المطالعة والمتابعات الثقافية هناک ا سباب سياسية واسباب مادية واسباب لايمكن تسميتها مثل هجرة عشرات الالوف من الشباب او اكثر الی خارج اقليم كوردستان للبحث عن لقمة العيش او الهروب منك بطش دول الجوار او استنكارا للفساد الاداري والاقتصادي والسياسي السائد في اقليم كوردستان بصورة خاصة وعموم المنطقة بصورة عامة. 

فهناك بطالة ولاتوجد اعمال مهنية او وظيفية رسمية وغير رسمية تضمن حياة سعيدة للكل وهناك نعرات حزبية وقبلية وطائفية ونزاعات داخلية وهذه الأسباب لاتدع مجالا كافيا لهواة الكتب للمطالعة والمتابعات الثقافية.. وخلق اجواء ملائمة للتبادل الثقافي بين مكونات مجتمعاتنا وهذه المعوقات لا تشجع دور النشر ان تنشر مجموعات كبيرة من الكتب باعداد كثيرة.. فالوضع الاقتصادي المتدني بصورة عامة هو السبب الرئيسي لنفور هواة الكتب من المتابعات الثقافية والفنية وشراء الكتب.. . 

اتذكر اني كنت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كنت اطبع من كل كتاب الفين او ثلاثة آلاف او اربعة آلاف نسخة او سبعة آلاف نسخة وتنفذ جميع الاعداد في غضون شهر او ثلاثة اشهر وكان هواة الكتب يسجلون اسمائهم مسبقا لدی احدی المكتبات ويستلمون وصلا من المكتبة كضمان للحصول علی الكتاب ويدفعون ثمنه مسبقا وكان اصحاب بعض المكتبات يدفعون قبل طبع الكتاب مسبقا نصف ثمن الاعداد التي يريدونها من اي كتاب.. اتذكر كان صاحب مكتبة السليمانية في مدينة السليمانية وصاحب مكتبة ــ آسو ــ كاك جبار آسو في كركوك وبعض اصحاب مكتبات هولير كانوا يدفعون مقدما اثمان الاعداد التي يطلبونها من كتبي قبل صدورها من المطبعة. 

الآن رغم كل المعوقات انا متفائل تجاه الكتاب الكوردي والثقافة الكوردية والقاريء الكوردي فرغم قلة هواة المطالعة وعشاق الكتب بالنسبة للماضي لا زالت توجد مجموعات غير قليلة من القراء وهواة الكتب والمطالعة نفتخر بهم ويفتخرون بكتاباتنا وهناك جسور تواصل ثقافية وادبية بينهم وبيننا.. وهناك قراء مبدعون لهم ذائقة ادبية وثقافية عالية وراقية يميزون بفطرتهم القرائية بين الذهب والنحاس بطرفة عين.. وربما هذه النكسة الثقافية الصعبة واتصورها نكسة وقتية شائعة في بلدان اخری ايضا ولكن بنسب متفاوتة ربما للاقليم فيها حصة الاسد. 

في ختام لقائنا هذا نتمنى لشاعرنا دوام الصحة والعافية والإنتاج الوفير والى لقاءات اخرى في المستقبل باذن الله. 

*** 

أجرى الحوار: د. توفيق رفيق التونجي 

................. 

* الترجمة للعربية لأبيات الشعر من الكوردية: الاستاذ المرحوم سعدي المالح (1951- 2001 

* بقية الأشعار من ترجمة الشاعر.

 

 

هل هي جريمة

أن ارقص

أن اكتب

أن اغني

أن ارغب

أن أحب

هل جريمة أن أولد

في بلد يشنق عنق الحرية؟

البعد الاجتماعي في أشعار الشاعرة مرام المصري

تكاد ان تكون التجربة الشخصية للإنسان مرآة تعكس روحه ووجدانه. التعبير شعرا عن ماسي البشرية وما يجول في الفكر والسلوك الإنساني من خوف يتمثل في استخدام العنف والشدة في التعامل مع الأقربين من أبناء العائلة. هذا السلوك الإنساني السلبي يكاد ان ينحصر عند الذكور وللقاعدة استثناء. استخدام مصطلح "العنف الأسري" للدلالة على ما يجري داخل جدران البيوت من استخدام الشدة والعنف في معاملة "الذكر" في الغالب، ورب الأسرة مع أبناء عائلته، مصطلح حديث التداول رغم كونه سلوكا إنسانيا متأصلا. الأعراف الشرقية تستخدم كلمة "الستر" لتفادي الحديث والبوح بإسرار العائلة وقلما نجد شكاوى في سجلات الشرطة.

هناك العديد من العوائل المهاجرة في المجتمعات الغربية، قد فقدت حق حضانة أطفالهم او ابعدوا الأطفال من عوائلهم جراء المعاملة السيئة لهم من قبل الوالدين من ضربهم وتعنيفهم وكذلك إهمال تربيتهم وامور أخرى كتعاطي الوالدين للكحول والمخدرات والبيئة الغير الصحية. القانون الدولي يحمي الطفل ويعتبر مراعاة مبدأ اختيار" القرار الأفضل بالنسبة للأطفال " أولا، أساسا في اتخاذ جميع القرارات. القانون في معظم دول العالم لا يعطي الحق للرجل استخدام العنف الأسري كأسلوب لتعامل مع إفراد داخل العائلة.

في حواري اليوم مع الشاعرة مرام المصري سأحاول ان أقدم لكم، قارئي الكريم أجوبة الشاعرة حول السؤال حول:

كيف يتم توظف الشعر في هذا الموضوع الشائك؟. وكيف يمكن التقاط تلك اللحظات في العجز في السلوك البشري السلبي؟ وتقديمها للقاري عن طرق الشعر وخاصة ترجمة عواطف الضحية شعريا، سألتها.3084 مرام المصري

* الشعر كنص أدبي سهل الوصول الي القاري او المستمع. لكن كيف تعاملتم مع النص الشعري كرسالة تربوية أخلاقية واجتماعية؟

- لأنني اعتقد ان للشعر دورا كبيرا بصياغة أرواحنا. ولأنني أومن بقوة الكلمة بأهميتها في تأسيس الإنسان والمجتمع. كم حرب بدأت بكلمة. بكل بساطة حاولت ان اعمل منظر ا بانوراميا للعنف اعتمدت على فبركة بطاقات هوية التي هي عنوان القصيدة او باب للدخول اليها. وكشهرزاد قصصت حكايا النساء من كل المستويات والأعمار ومن كل البيئات. بدون محاكمة بدون إعطاء دروس. فقط عرض الحالة. الشعر والأدب والفنون والفلسفات في بحث دائم لإعطاء معنى للحياة ولمحاولة سبر غموضها. معرفة الاخر تسهل معرفة الذات فالإنسان يحتاج دائما ان يقارن نفسه ان يحدد موقعه وعلاقاته بكل ما حوله.

لماذا لا تذهبين إلى الطبيب

ليعيد لك ابتسامتك

ابتسامتك العذبة

يا أمي.

عندما كنت صغيرة أتذكر ان أمي قد روت لي قصة وحش عملاق يسود على الأرض استبدادا وفجرا يحطم كل شي إثناء ركضه بلا هوادة كان هو محكوما بشره فلا يستطيع التخلص منه لأنه إذا عمل خطوة للوراء يموت وان استدار يموت أثناء ركضه تخرج ام من منزلها ترجوه ان لا يهدمه وان لا يقتل أطفالها. غنت له كلاما عذبا القت عليه شعرا فرق قلبه فاستدار. ربما هذه الحكاية ما جعلتني اكتب شعرًا ليتغير العالم القاسي ويصبح رؤوما لكي أساهم بجعله أكثر إنسانية.

* في ثقافة "ألانا" في المجتمعات الغربية يتحول الفرد مجموعة متكاملة " أناني" في تصرفاته. يتحمل بنفسه فقط تبعات أعماله. أما الشرقي فينتمي الى ثقافة "نَحن" وبذلك يحاول دوما اعتبار فعل الآخرين جزء من شخصيته وطبعا يؤدي هذا بالنتيجة الى اعتبار الآخرين وخاصة الأقربون ملكا خاصا به وأفعالهم، جزء من فعله هو. أي خطا يرتكبه أحد أفراد "العشيرة" مثلا "عاراً "على الجميع.

كيف تمكنتِ من عكس هذه الإشكالية في أشعارك؟

- لا ادري فيما إذا كنت حقا قد استطعت ان اقلب المعادلة؟

بالنسبة لي الثقافة الفردية ليست هي هدف هدفي وليس هدف شعري ما أهدف إليه هو جعل الأخر يفهم بانه جزء من المجتمع. أفعاله توثر على الأخر. لأننا في النهاية جميعنا نعيش على هذه البسيطة. ناكل من ثمارها ونشرب من مائها نشن حروبا نبني حوائط نحتمي من الاخر نسن أنظمة. هل راقبت الناس في المترو وهم يصعدون السلالم وهم يمشون في الممرات.هل راقبت السيارات عند ساعة الحشد. لا تستطيع تخطي الأخر من يسوق بطيئا يعرقل السير يصبح الجميع خاضعين لنفس السرعة أظن إننا مسئولون عن الآخرين بشكل ما.

حاولت استدراج ذاكرتها

في آخر مرة رأت فيها وجهها الحقيقي

لا تتذكر؟

إنها واثقة كل الثقة من كونها هي، هي لعلها ماتت

لعل جسدها أثر تلك الصفعة - هجرها

وفضل أن تقطن روحها

في جسد آخر

المجتمع سجادة محاكة بتلك العلاقات التي تربطنا ببعضنا مرئية وغير مرئية هذا ما يجعل منا مجتمعا انسانيا بالوقت نفسه انا معك بانه ليس من الطبيعي ان نتحمل أخطاء الآخرين ولكن على الرغم من كل شي لكوننا مرتبطين عاطفيا بالآخرين يجعل من الامر صعبا ان نشعر بعدم الإحساس بالمسؤولية. حتى بوجود قوانين لا تعاقب الجماعة لحسن الحظ الا ان هناك الجانب العاطفي الذي يحملنا هم الاخر ويجعلنا مرتبطين بمصائرهم. اشعر بمسؤولية عندما ارى احدا ما ينام في الشارع صحيح لست مسئولة عنه قانونيا الا ان شعوري الإنساني يحملني همه.3082 مرام المصري

* معالجة الظواهر الاجتماعية في الشعر العربي يعتبر تجديدا وقد حاول الشعراء العراقيين أمثال الزهاوي والرصافي وصولا الى الشاعر مظفر النواب، حاولوا نقد الموروث الثقافي والأعراف. كدعوتهم لسفور النساء وصولا الى نقد الحكومات وسياستها وحتى الحكام. كيف تم التعامل مع أشعارك التي اتخذت من نقد المجتمع وتحريرها من الإرث البالي والقديم؟

- المجتمع او المجتمعات هي بشر يعيشون بالقرب من بعضهم يتشاركون المكان الماء وثروات الأرض يتحابون وأيضا يتقاتلون. الأديان والفلسفات وكل مظاهر التعبير هي أنتاج أنساني مثله مثل القمح والزيتون والقطن للتبادل وللتعارف وللعيش بسلام ومع هذا لا تزال الحروب تشتعل هنا وهناك بفضل او بسبب الانترنت المجتمعات أصبحت مكشوفة إلا من قبل طبعا المناطق النائية الذي من الممكن ان لا احد يعرف ما يحدث هنا وهناك.

الحجاب

تمرين..

غراب أسود

يلبسك

يضمك بجناحيه

غطاء يلف جسدك

جسد الشهوة

جسد الخطيئة

بيت الشيطان

فصدقت

تعودين لبطن العدم

راضية أن تُمحي

حجاب

عباءة

تشادور

غطاء

قبر

كنت يوما في مطار الدنمارك مرت بالقرب من عائلة عربية او بالأحرى مسلمة. الأب يمشي في المقدمة والباقي من افراد العائلة تلحق به في عباءات سوداء ونقاب وفتاة في العاشرة او التاسعة تقفز لاعبة لاهية على رأسها ايضا حجابا. كان المنظر محزنا ومؤلما كان بودي ان اقول للفتاة اخلعي حجابك لا تطيعي أباك كان بودي ان اقول للام اخلعي هذا السواد كان بودي ان اقول للأب بانك ظالم وجاهل. تسالت حقا الى اي مدى نستطيع ان ننقذ من لا يريد ان ينقذ لربما كنت انا بالنسبة لهم المنظر المؤلم لخروجي عن مفهومهم و عن معتقداتهم. وهل لي ان أحرض فتاة على الخروج من طمأنينتها؟ يقال ما نجهله لا نحتاجه؟ لماذا اخلق لها حاجة. بالوقت نفسه هل هي حياة تلك التي تعاش بجهل دون اختيار دون معرفة؟3083 مرام المصري

* التحرر من قيود المجتمع ليس بالأمر الهين للمرأة في المجتمعات الشرقية. كيف عالجتم تحرر المرأة شعريا؟

- كما عالجته من قبلي الكاتبات والكتاب الذين اهتموا بوضع المرأة وساهموا بتوعيتها وتفتيح ذكاءها.وهناك الكثير الا انه كما تعلم المعرفة ليست بمتناول الجميع. هناك من يسبح في جهله

وهو سعيد.

كنت أرى أبي

شادا شعر أمي

جارا إياها الى

الحمام

فاختبئ في الخزانة

حتى ينتهي العراك

في وسط الصالون

صورة تمساح

سميناه وأخوتي

بابا

التحرر ليس امرا هينا وبالخص في المجتمعات الشرقية. حيث القيود اكثر إحكاما حيث القيود تاخذ صبغة دينية اي مقدسة وكل ما يلمس المقدس لانه راسخ ومهيمن من الصعب جدا ان لم يكن هناك احتكاك مباشر. يبدو ان غسل الدماغ لا يحصل الا لتحويل الناس للأسوأ؟

اكتب بدون محاكمات وبدون تنظير وبدون استعلاء. اعرض أنواع العنف من خلال قصائد كالحكايات واترك للمتلقي ان يفهم وان يقرر.

* العنف الأسري ينعكس على روح الأطفال وهم الشهود والضحية على ما يجري خلف الجدران. لديك محاولات في هذا المسعى. كيف تلقى المجتمع الشرقي تلك النصوص الشعرية؟

- لسوء حظي هذا الديوان وبقية دواويني لم يحظوا بالنشر في البلاد العربية بينما كتبي مترجمة ل تسعة عشرة لغة ! رفضت وزارة الثقافة السورية طبع كل كتبي بعد "أنذرتك بحمامة بيضاء " لأسباب ما لا يقال. وعندما قدمت "أرواح حافية" لظني انه عمل اجتماعي رفض أيضا او بالأحرى قبل بشرط حذف قصيدتين فلم اقبل بالعنف الأسري والاجتماعي في مجتمعاتنا هو امر شائع لغياب دولة الحقوق ولتأصل فكرة بان الأبناء ملكية أهلهم يفعلون بهم ما يشاءون. لهذا لا يزال هناك جرائم الشرف وما يسمى بالتقويم في الدين كالرجم الذي يصل الى درجة القتل وما اليه للأسف.

أم في عطالة

ممنوع

أن أمارس أمومتي

أن أحضر لأطفالي الطعام

أن أسمع تنفسهم

وضجيجهم

صبرت حتى

وجدت نفسي نصف ميتة

أبحث عن وجوه أطفالي

وأحاول إعادة

حبي لي

مصرة ان أصبح أمهم

التعليم والتثقيف كما القوانين الحازمة التي تحمي الطفولة هما واذهب بأبعد من هذا ان يكون هناك فحص نفسي برنامج تعليمي للآباء لكي تستحق الأبوة والأمومة لطالما تركنا التربية للفطرة أظن ان المجتمعات تغيرت ولم تعد الأبوة والأمومة مجرد فطرة.

* في ختام حوارنا هذا أقدم شكري الجزيل للشاعرة الدائمة البسمة مرام المصري متمنيا ان تصل دوما الى مرامها.

أنا، التي تشكرك لاهتمامك بشعري ولاهتمامك بالقضية النسوية وبالأطفال.-

* * * *

حاورها: د. توفيق رفيق التونجي

................

الشاعرة مرام المصري:

شاعرة سورية ولدت في مدينة اللاذقية العام 1962.

درست الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق؛ شاركت كل من شقيقها الشاعر منذر المصري والشاعر محمد سيدة في إصدار ديوانهم الأول «أنذرتك بحمامة بيضاء»، عام 1984.

استقرت في فرنسا منذ العام 1982.

صدر ديوانها الشعري الثاني «كرزة حمراء على بلاط أبيض» في تونس من دار نشر «تبر الزمان»، والذي نالت عليه جائزة أدونيس للإبداع الفكري في العام 1997 في باريس. ترجم أشعارها إلى عدة لغات: الفرنسية، الألمانية، الإنكليزية، الإيطالية، الإسبانية، الصربية والتركية.

المؤلفات:

- أنذرتك بحمامة بيضاء 1984 بالاشتراك مع الشاعرين منذر المصري ومحمد سيدة عن وزارة التربية والتعليم السورية.

- كرزة حمراء على بلاط أبيض 1997 دار تبر الزمان للطباعة والنشر في تونس.

- أنظر إليك 2000 عن الشركة اللبنانية للطباعة والنشر في بيروت.

- العودة، عنوان مجموعتها الرابعة الذي صدر باللغتين العربية والإسبانية عن دار إسكريتو الإسبانية.

- من نبع فمي عن دار برونو دوسية.

- أرواح حافية الأقدام عن دار تامب دو سيريز Le Temps des cerises , 2009، الذي نالت علية جائزتين في 2011 و2012.

- اقلب الصفحة لجان كلود مارتان (مترجم) - دار التكوين 2011.

- يلزم كل شيء لصنع العالم وأكثر (ترجمة) - دار الفراشة 2014.

 

الصفحة 1 من 4

في المثقف اليوم