حوارات عامة

حوار مع د. صالح الطائي عن مشروعه العراقي الجديد

دكتور صالح الطائي قامة عراقية وطنية، حارب من أجل وطنه بما تيسر له من السلاح، بالقلم والخطابة والموقف الصلب.. له أكثر من مشروع وطني، وألف العديد من الكتب، بلغت بحدود 78 كتابا، ويقف اليوم خلف مشروع وطني جديد آخر، يتمثل في حشد كل ما تيسر له من الشعر في ساتر الدفاع عن العراق من خلال ثقافة وإسهام الشعراء العراقيين والعرب، ولنا معه هذه الدردشة حول المشروع الأدبي الجديد..

- لماذا العراق؟

ج: العراق جرح نازف في ضمير كل عربي وكل إنساني شريف لأنه صاحب فضل كبير على الإنسانية جمعاء، ومن واجب الإنسانية أن ترد له جميله عليها. أليس هو الذي علمها الكتابة والحضارة والتمدن؟ أليس هو من صنع لها العجلة، وعلمها علم الفلك والحساب؟ أليس هو الذي شرع لها القوانين؟ فهل من المعقول والإنصاف ان تتنكر لكل هذا الجميل؟

العراقُ عريقٌ منذ أن خلق، وفجر الحضارة من أرجائه انـبثق، وأعظم عجائب العالم وجدت على أرضه، ومن سماء حضاراته القديمة والحديثة شعت الحضارة على الكون، فصار الإنسان إنسانا.

وحينما نراه اليوم يتألم، ينتقل الألم إلى قلوبنا فيوجعنا بعنف، ولأننا تعلمنا الكرامة منه فقد انتفضنا حينما تأوه لنعلن للعالم كله أنه (هذا العراق) الأب الذي عقه الجميع، والذي سننتصر له من خلال الشعر ليعود أبا للجميع، ولو كنا نملك غير الشعر لنصرناه به.

ولأني أعشق العراق إلى حد الوله، وأعلم أن هناك من يشاركني هذا العشق، لا بين العراقيين والعرب وحدهم وإنما في العالم كله، استنهضت همم الشعراء منهم ليكتبوا للعراق، وهو مشروعي الجديد.

- من هو العدو، وكيف يُوظَفُ الشعر؟

ج: سؤال بمفصلين مهمين، الأول عن العدو، والعدو مثلما هو معروف مصطلح نسبي، تنطبق عليه كل مواصفات النسبية، فمن هو عدو لي قد يكون صديقا لك، وهو يمثل في معناه حالة ما تشكل خطرا جسديا أو فكريا على الواحد فيكون عدوا شخصيا له، أو على المجموع فيكون عدوا للجميع، يسهم تعريفه اللغوي والاصطلاحي في تعريف الهوية الفردية والجمعية، فهو يسهم في بلورة الهويات، وهذا الإسهام يؤدي إلى الفصل بين (عدوي/ عدونا) و(صديقي/ صديقنا) ويحدد مواقفنا منهم، مثلما يوضح جوهر الصراع التاريخي بين الجماعات والأفراد، وسببه الاختلاف في الرؤى والعقائد وأشياء كثيرة أخرى، وتلعب السياسات دورا فاعلا في تأجيجه أو كبته تبعا لرغباتها ومصلحتها، مما يتسبب في تبدل الفهم الشامل لمعناه، إذ تلعب السياسة أحيانا أدوارا خبيثة تتسبب في تأجيج روح العداوة داخل المجموعة ذاتها والهوية المشتركة الواحدة، لذا تعتبر السياسة برأيي أحد أخطر دوافع انبثاق العداوات بين البشر.

أما المفصل الثاني من السؤال فهو عن توظيف الشعر، وأجد في ربط المفصلين داخل سؤال واحد التفاتة رائعة من السيد المُحاوِر، فالعداء يستوجب دائما أن تكون هناك مصدات له، تُوظَفُ لها كافة الإمكانيات المتوفرة لتمكينها من تحقيق النتائج، ولما كان الشعر أحد أهم أسلحة التصدي التاريخية، فإن توظيف الشعر في مجابهة العدو لا يقل أثرا عن توظيف جميع الأسلحة الأخرى. لكن كيف يوظف الشعر؟ هذا هو السؤال المهم، فقد عانينا من مغبة التوظيف السيء لمصادر الدعم ومنها الشعر عبر الأجيال، وأغلب هذا التوظيف كان عدوانيا يؤجج روح البغضاء بين الأفراد والجماعات، فيسلب الشعر نقاءه وبنائيته، ويحوله إلى أداة تخريب ممنهج.

من هنا جاءت محاولاتنا المتكررة لاستخدام الشعر سلاحا في البناء ولم الشمل من خلال المشروعين السابقين (قصيدة وطن رائية العرب) و(جرح وطن عينية الوجع العربي) اللذين اشترك ببناء قصيدتيهما نخبة من أفضل شعراء الوطن العربي من أكثر من سبع عشرة دولة عربية. ولأن العراق يمر اليوم بأزمة خانقة ويحتاج إلى النصرة أردت من مشروعي الثالث الذي أطلقت عليه اسم (هذا العراق) تذكير العرب والعالم بفضل العراق على الإنسانية، وهو فضل يعترف به الجميع ولا ينكره أحد، بدليل أن المشاركات الكثيرة التي وصتنا لم تقتصر على العراقيين وحدهم وإنما أشترك ببنائها شعراء من أغلب بلداننا العربية.

- هل يكتفي مشروعك بجمع أبيات الشعر في ديوان وينتهي الأمر؟ وهل في نيتك يطبع الديوان؟ وكيف سيتم توزيعه؟

ج: لا أبدا. فالتوقف في هذه المرحلة لا يخلف أي أثر نافع، ولا يخدم القضية، ولذا أخذنا على عاتقنا مهمة جمع المشاركات وطبعها بكتاب وتوزيعه على الوزارات والجامعات والمدارس والمؤسسات الثقافية والسياسية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني في الداخل والخارج، وسنعمل على الاتصال بالفنانين والتشكيليين لتوظيف العمل في مشاريعهم، حتى يصل صوت شعراء الأمة إلى مداه الأقصى. فضلا عن ذلك سوف نرسل نسخا من الكتاب لجميع الذين شاركوا بكتابة قصيدته ليروجوا له ولفكرته. ثم لا تنسى صديقي أن مجرد الحديث عن الموضوع بحد ذاته في وقت تسلطت فيه قوى الفرقة والجهالة على مجتمعنا مما زاد حياتنا قرفا، وزاد التناحر والتباغض بين بلداننا، وتفككت روابط الفة شعوبنا يعتبر انتصارا نحن بحاجة إليه، يعد بحد ذاته انتصارا رائعا.

- من هم الشعراء الذين وجهت لهم الدعوة؟

ج: مثل المشروعين السابقين، وضعت أنا أساس المشروع الجديد من خلال خمسة أبيات قلت فيها:

هذا العراق منيعٌ ليس يُقْتَحَمُ

له كما الريحُ في عليائها شممُ

*

ويستخفّ إذا ما الحتف صادفهُ

ويستزيرُ المنايا وهو يبتسمُ

*

في أرضه وسماه دائما القٌ

ومن ضياء علاه تُطردُ الظلمُ

*

هو العراق كبير في مواقفه

فأينما دار؛ دار العز والكرمُ

*

حياك يا موطنا رفت بوارقه

فليس يحدوه إلا السامق العلمُ

ثم كتبت إعلانا ونشرته على صفحتي في الفيسبوك؛ التي تضم عددا كبيرا من الشعراء وطلبت منهم المشاركة في المشروع، وحث أصدقائهم ليشاركوا معهم، ثم تبنت المشروع مواقع أدبية رصينة جدا منها منتدى هاملت للأدب العربي المعاصر، ومجموعة شعراء المتنبي، ومنتدى مملكة الحب، ونفائس واحة التصحيح والتجديد والابتكار، ورابطة الشعراء العرب، وبيت الشعراء العرب، والأدب العربي الرفيع وغيرها، فضلا عن تطوع شعراء كبار آخرين لدعم المشروع. كل هؤلاء، بعضهم وجهت له الدعوة مباشرة أو من خلال الإعلان، وبعضهم تطوع من تلقاء نفسه بسبب حبه للعراق وللأدب، وبدعم ومشاركة كل هؤلاء انتشر المشروع في الوطن العربي، ووجد صداه لديهم.

- هل تقف معك جهة سياسية أو دينية أو سلطوية، أو أفرادا معينين في مسعاك هذا؟

ج: أعتقد، بل أنا على ثقة بأنك تعرف موقفي من السلطة ورجالها، فأنا لا أثق بها ولا أثق بهم، ولا أعتقد أن فيهم من يمكن أن يُسهم بتذكير الناس بـ(هذا العراق)، ولاسيما وأن أغلبهم بكل توجهاتهم واعتقاداتهم ومناطقهم الجغرافية آذوا العراق بأساليب وطرق لا تحصى، وهم بذلك لا يمكن أن يكونوا صادقين في دعمهم لمثل هذه المشاريع، لأن مجرد دعمهم لها يكشف زيفهم ونفاقهم.

أما على مستوى الأفراد المستقلين المحبين للعراق فالدعم كان كبيرا، ففضلا عن الشعراء الكرام الذين اشتركوا في الكتابة، هناك أساتذة أجلاء أسهموا في تقديم الدعم اللوجستي منهم الدكتور علي الطائي والدكتور لؤي شرع الإسلام الإمارة والدكتور محمد تقي جون والدكتور رحيم الغرباوي، وجنودا مجهولين آخرين مثل الدكتورة ملاك السامرائي، والأستاذة فاتن الجبوري وآخرين. ومن خلالكم أتقدم بالشكر الجزيل لهم كلهم.

- من تتوقع أن يستجيب لدعوتك؟

ج: كل عمل مستقبلي قابل للتأويل واختلاف الرأي والرؤى، ينضوي عادة على مجازفة ومخاطرة، ونسب النجاح والفشل فيه تتساوى، بل ربما يتقدم الفشل وتقل نسبة النجاح حتى تكاد تتلاشى، لكن المراهنة على الطيبة المغروسة في نفوس البشر الأنقياء هي التي تحفز الإنسان ليكون جريئا ويخاطر وينفذ ويصر على النجاح. وهذا المشروع مثل المشاريع الأخرى، حينما طرحته توجست الخوف من عدم الاستجابة أو عدم التجاوب، بل كان لقلة عدد من استجاب في اليوم الأول دافعا لإثارة الرعب في نفسي، لكني تعودت المراهنة طوال عمري، وقد راهنت بعمري أكثر من مرة، والمدهش أني ربحت فيها كلها، وهذا كان حافزا لأراهن مرة أخرى.

جدير بالذكر أن عدد المشاركات التي وصلتنا لحد الآن زاد على المائة وخمسين مشاركة، واعتقد أن عدد المستجيبين يزداد يوميا، وقد تبلغ المشاركات عددا لا يستوعبها الكتاب.

ـ وهل ستراهن مرة أخرى؟

ج: تسألني: وهل سأراهن من جديد؟ أقول لك: نعم بكل تأكيد، فالرهان جزء من عقيدتي في الحياة، وهو الذي يصنع حياة أجمل ويرفع نسب الادرنالين عند الإنسان، فيسهم في تحريك سبات خلايا دماغه وينشطها، وأنا بعد السبعين أحتاج لمثل هذه المنشطات ولذا سأراهن وأراهن دونما انقطاع، ثم لا تنسى أني في هذا العمر لم يعد لدي ما أخاف أن أخسره.!

- يضع المؤلفون عادة أسماءهم على أغلفة كتبهم، فمن سيضع اسمه على غلاف هذا الكتاب؟

ج: ينماز هذا العمل بكونه من الأعمال المشتركة، ولذا لا يحق لأي شخص أن ينسبه لنفسه، بما فيهم أنا الذي وضع الفكرة وأنهك نفسه في جمع المشاركات من خلال مواقع التراسل الاجتماعي الخاصة ومواقع التواصل العامة والمواقع الأدبية العامة وغيرها، ومن ثم تنظيمها وتوحيدها وترتيبها في الكتاب وكتابة المقدمة له. لهذا السبب اتبعت أسلوبا خاصة لا يغمط حق أحد فيه، يتبين من خلاله جهد كل الذين اشتركوا بالعمل ابتداء من وضع الفكرة ولحين صدور الكتاب، وقد اتبعت هذا الأسلوب في الأعمال السابقة، إذ ذكرت تصدرت غلاف المشروع الأول المعلومات أدناه:

فكرة القصيدة ومطلعها والعمل على الكتاب: الدكتور صالح الطائي

تأليف ونظم: مجموعة من شعراء الأمة

إشراف وتدقيق وربط المشاركات: الشاعر المهندس ضياء تريكو صكر

وأرى ان المعلومات نفسها سوف تذكر على غلاف الكتاب الجديد ليأخذ كل ذي حق حقه، ويكون العمل مفخرة للجميع.

- هل تقبل أبيات الشعراء المخالفين لك بالرأي لكنهم يتفقون معك على حب العراق؟

ج: الهوية مفهوم يستخدم في علم النفس والعلوم الاجتماعية والسياسية والدينية والفلسفية، وتعرف الهوية بأنها مجموع السمات التي ينماز بها شخص ما أو شيئا ما أو مجموعة ما، أي هي مجموع الصفات والمقومات التي تجعل الشخص مطابقا لذاته ومتميزا عن الآخرين، وتجعل المجموعة صغيرة كانت أم كبيرة مطابقة لذاتها ومتميزة عن غيرها، وقد أسهب صموئيل هنتنغتن في كتابه "من نحن" في الحديث عن الهوية اتضح من خلاله أن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن لها أن تجمع شخصين أو مائتين أو مليونين داخل إطار هوية رغم اختلافهم الفكري والعقدي والديني، مثال ذلك هوية مشجعي فريق برشلونا أو هواة صيد السمك.

وفق هذه الأطر أرى أن هناك هوية أسمها (حب العراق) تجمع بيني وبين من يتفق معي على حب العراق سواء كان متوافقا أو متخالفا مع رأيي ورؤاي الأخرى. بل إن هؤلاء أحب إليَّ من غيرهم، فغيرهم قد يجامل أو قد يشعر أن ذلك من سمات المشاركة التكوينية، أما هؤلاء فهم يقولون الحقيقة، وهم أصدق من غيرهم بالتأكيد.

- ماهي المدة المحددة للمشروع؟

ج: الشعر ليس مهنة لها قواعد يمكن للمرء فهمها ليمارسها يوميا مثل مهنة المهندس والطبيب والخلفة والسائق وغيرهم، فالشعر فضلا عن متطلباته المعروفة مثل الثقافة، الدراسة، التخصص، معرفة الأوزان والبحور، الملكة، الاستعداد، الخزين الفكري والغنى اللغوي، ولذا لا يمارس مهنيا وإنما ينتظر الشاعر الفرصة المناسبة ليقتنص الصورة ويرسمها بالكلمات، ومقولة "لم يأتيني شيطان الشعر لحد الآن" التي سمعتها من أكثر من شاعر ممن تأخر وصول مشاركاتهم، كانت دارجة منذ القدم حتى قيل إن لافظ بن لاحظ هو شيطان الشاعر امرؤ القيس الذي يُملي عليه الشعر، وأن امرؤ القيس ما كان يقول ذلك الشعر الرائع الخالد إلا بعد ان يلهمه له شيطانه.

يعني هذا أن العجلة في ختم الكتاب ستؤدي إلى فقدان مشاركات كبيرة وفي منتهى الروعة، لأن الشعر الذي توحيه شياطين الشعر هو الأجمل، ولذا سيبقى باب المشاركة مفتوحا لأكثر من شهر.

- هل تحب العراق فعلا، وهل أن حبك هذا هو الذي دفع لتطلق هذا المشروع، وقد لا يعتبر مشروعك دليل حب؟

ج: لا يوجد حب أصدق من أن يحن عليك شيء ما كل يوم أكثر من محنَّة وحب والديك، ولا يوجد كرم أكثر من كرم شيء يحتويك ويمدك بسبل الحياة منذ أولى لحظات ولادتك، ثم يحتويك بعد موتك، ولا يوجد شيء أعظم من شيء يجعلك تفخر على باقي الأشياء طوال عمرك مثل بلدك، والعراق؛ رغم الذي عانيته فيه، قدم لي كل هذا وأكثر، ولذا رفضت مفارقته وهجرانه رغم الفرص العديدة التي أتيحت لي، فانا سمكة تعيش في بحر حب العراق، متى خرجت منه اختنقت وماتت. ثق أنى لا أعرف السبيل إلى ترجمة حقيقة حبي للعراق وأهله كلهم، فذلك فوق طاقتي وتعجز عنه قدراتي، وعقيدتي أن الله والعراق هما المقدسان المطلقان في حياتي.

كما الحب شيء روحاني غير ملموس، هو علاقة بين الحبيبين لا يقدر عمقها إلا صاحبها، وبالتالي تخفى ملامحه عن الآخرين تماما مثل الصيام، فأنت قد تدعي بأنك صائم ولكن الله وحده يعرف حقيقتك، من هنا لا يهمني رأي الآخرين في حبي للعراق، يكفيني أنه يعرف مقدار حبي له.

أما المشروع فهو بكل تأكيد يأتي ليترجم حبي للعراق وليكون دليلا عليه، طالما أن غيري لم يتبرع بتقديم مشروع مثله يسبقه.

- ماذا تقول في النهاية؟

ج: أقول: إن الوجع الذي يشعر به العراق اليوم تسبب لي بحزن لا حدود له، وأني والله لو تمكنت من أن أحمل عنه حزنه حتى لو أدى بي إلى الفناء لحملته بكل فرح وسرور، وأنا لست وحدي، فهناك ملايين البشر يحبون العراق مثلي وهم على استعداد للتضحية من أجله، وما دام مثل هؤلاء موجودين فالعراق رغم ما يعانيه سوف يشفى من جراحه ويعود عراقا تتغنى به الإنسانية.

***

حاوره: راضي المترفي

 

 

في المثقف اليوم