حوارات عامة

شمس الدين العوني يحاور الشاعرة والروائية فاتن الكشو

تجربتي وليدة علاقة خاصة ومتفردة بمحيط يزخر بكل ما هو ثقافي وتاريخي، إذ نشأت في مدينة رومانية التاريخ، حالمة، يتوسطها مسرح أثري شامخ يعاند زمن "تيسدروس"

الحوار

1. كيف تتحدث الشاعرة والكاتبة فاتن الكشو عن تعاطيها مع القصيدة.. مع الشعر والسرد.. ومع أرض البدايات.. الذات والمكان؟

-استحضار البدايات يبدو أمرا ملهما لأي كاتب أو شاعر أو مبدع، فالإرهاصات الأولى تضم دوما تباشير الروح البكر، التي تستفيق من غفوة الطفولة على أصوات الوجود الهامس أو الصاخب حولها. وفيما يخص تجربتي فهي وليدة علاقة خاصة ومتفردة بمحيط يزخر بكل ما هو ثقافي وتاريخي، إذ نشأت في مدينة رومانية التاريخ، حالمة، يتوسطها مسرح أثري شامخ يعاند زمن "تيسدروس"، ويلف هذه الآيات من الإبداع الحضاري حقول زيتون خضراء استمر أهل هذه المدينة في غراستها على مدى عهود طويلة كنت حيث ما وجهت وجهي تلقفتني أغاريد الطبيعة، وجذبتني قصص التاريخ المخفية في المعالم القديمة التي تسللت إليها في طفولتي البكر ونهلت من عبق مآثرها.. مما وطّأ السبيل لنشأة خيال مجنح، ناهيك أنني كنت مولعة بالإبحار في ثنايا الروايات التاريخية وسير الملوك والأباطرة حول كل الحضارات المتعاقبة على بلادنا وغيرها كذلك. وزاد شغفي بالمطالعة فقرأت الروايات العربية والغربية والعالمية وقرأت الشعر وكل ما يصل إلي من مصادر شتى خاصة من خالي المرحوم عبد العزيز بن حسن الذي درس الأدب العربي في جامعة السوربون الفرنسية وقد كان يهديني أغلب ما يتحصل عليه هو الآخر من روايات وقصص لأدباء تونسيين عرفهم كأصدقاء له. ولعله وجد في ذائقتي امتدادا لهوسه بالأدب والحضارة العربيين. انبريتُ أبوح لبياض دفاتري الغضة بما تشف عنه مخيلتي الناهلة من محكي الأساطير في مدينتي، مثل أسطورة المرأة العملاقة التي بنت المسرح الأثري، أو أسطورة الكلب الأسود الحارس لكنوز القصر والذي يظهر في ليالٍ معينة يكون فيها الظلام دامسا وقد كتب عنه الكثيرون. وأسطورة حجر المسرح السحري المبعد للأرواح الشريرة والمبارك إن ضمه جدار أحد المنازل) أسلمت خيالي لأحلام اليقظة أسير في ممرات "تيسدروس" الأثرية وأتخيل أميراتها يتنسمن الهواء في حدائق تلك المنازل الفخمة ذات الأرضيات المبلطة بأجمل اللوحات من الفسيفساء: لوحات الزهور والآلهة ومشاهد الصيد والسيدات الرومانيات بأزيائهن الجميلة. كنت أسير في الردهات لاهية فيها ومترنمة وحالمة. تأخذني الدهشة وتسكنني خيالات الماضين وأمسك بعض القطع الملقاة من فسيفساء وأطيل فيها التأمل. كنت أسائل الأطلال عن تاريخ لا يزال عبقه يزكم أنفي. فكتبت قصصا قصيرة وخواطر امتزج فيها الشعر بالنثر والتاريخ بالواقع. ثم عرفت الألم بفقدي المبكر لأمي، فنفثت أحزاني زخّات شعرية أتلوها لرفاق المراهقة المزهرة. وبعد فترة من أجيج الخواطر انسكبت مع عطر روحي على شفاه الورق الأبيض البكر، تدافعت روايات من فيض خيالي للولادة، وصدرت للقراء سابقة انفضاح شعري للملإ. ولم يكن ذلك في الحقيقة صدفة فقد اصطبغت تلك النصوص السردية بلون الشعر المخاتل وهو ما لاحظه الكثير من النقاد إثر تناولهم رواياتي بالنقد، بل أكثر من ذلك فقد تدفق الشعر على ألسنة شخصياتها ذارفا أشجانه ومعانيه الخصيبة، وهذا يؤكد أن بين رواياتي وقصائدي مؤتلف كثير يزيد عن المختلف، بينهما شعرية العبارة وإيقاع الصورة والمتخيل الذي يغازل الواقع ملتصقا به تارة ومتحررا منه طورا نحو أكوان عجيبة وخيالية وما ورائية ونحو أزمنة افتراضية.

2. الشعر والنقد ماذا تقولين عن العلاقة بينهما؟

- يمكن مقاربة علاقة الشعر بالنقد من زوايا متعددة، فالشعر هو اللغة في مظهرها البكر منذ فجر الإنسانية، هو الرمز والاستعارة، هو الانزياح بالعبارة من حقولها الدلالية المألوفة، لخلق معان جديدة لها في سياق مختلف عن سياق الوصف ونقل الوقائع. والنقد هو تفكيك الانزياح بل إنه يصل إلى التأويل الذي يستدعي حضور ذات متلقية تملك أدوات تفكيك مركبة بين البنيوية والشكلانية والتداولية ونظرية التلقي، وهذه الذات المؤولة المفككة تسعى بعبارة بول ريكور إلى رأب الصدع بين المتلقي والنص وتؤوله من خلال وعيها الخاص به وهي نظرية الهرمينوطيقا (علم التأويل). ونستحضر هنا أسطورة هرمس الإغريقية الذي اختاره الإله ليؤول كلامه وهو بدوره إله له حذاء وقبعة مجنحان يستخدمها للقفز والتحليق والاتصال بالآلهة، وقد جعل الإغريق من أسطورة هرمس قاعدة إبستيمية للخروج من أطر النص المسيج وظهرت الهرمينوطيقا القديمة في مجال شرح النصوص الدينية والشعرية الكبرى التي جبلت بها الملاحم والتراجيديا اليونانية. وإذا ولجنا مجال التأويل- وهو أيضا فعل استعاري يُحدِث أثرا تخييليا- فسنلجأ إلى إيجاد معنى للإيحاءات المبثوثة في الكون الشعري والبحث عن المرجعية الرمزية التي اعتمدها الشاعر، والحفر في المحمولات الدلالية والفلسفية والثقافية لتلك الرموز. وهنا يلتقي النقد والشعر في نقطة واحدة هي الرؤيا الشعرية وذاتية الشاعر تقابلها ذاتية الناقد المتلقي.

3. كتبت القصيدة.. هل تشعرين أنك أضفت إليها؟

- أعتبر هذا السؤال من أهم الأسئلة التي وجهت إلي، إذ أنك تُلبسني عباءة الناقد لأمارس التأمل الانعكاسي على قصائدي وأحاول أن أبحث عن وجه الإضافة أو التجديد فيها. وفي الحقيقة ورغم أنني لم أنشر سوى مجموعتين شعريّتين فلي رؤيا خاصة في عالمي الشعري كذات متفاعلة مع الإرث الشعري العربي ومع راهن القصيدة العربي والعالمي. تلك القصيدة التي توغلت في مجال الإيديولوجي وقضايا الراهن السياسي والاجتماعي والتي تسعى لمواكبة الحداثة وإن يكن ذلك اتّباعا –إذا اعتبرنا الحداثة الشعرية ظاهرة انبعثت في الغرب الذي يشهد اغتراب الذات والمدنية الغاشمة والطاغية- من هذا المنطلق أجد أنني لا أختلف عن شعراء عصري في الرغبة في التجريب والأخذ بمظاهر التحديث الشعري مثل الابتعاد عن الاتجاه التعبيري القائم على التصريح بالمعنى والقطع مع المجاورة بين الصفة والموصوف والانتقال من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة، على أن ما يميزني أو ما أراه كذلك يتمثل في ثلاثة مظاهر أسلوبية وتتعلق أيضا بالمضمون. ويتمثل المظهر الأول في أنني أنطلق في قصيدتي من التعبير عن تجربتي الخاصة وعاطفتي وحالتي الوجدانية للخلوص إلى قضية إيديولوجية وسياسية، فأنطلق من ذاتي نحو ذاتي ثم نحو الراهن والكون والوجود. والمظهر الأسلوبي الثاني هو أنني أستخدم حقلا معجميا مستمدّاً من مبحث الأديان المقارنة وعلم الأساطير المقارن وهو اختصاصي البحثي والأكاديمي. وهذه الحقول المعجمية التي تمتح من الأسطوري والمقدس واللاهوتي تغذي قصائدي بمعان أنطولوجية وتسبغ عليها صفة ملحمية، فتحمل هذه النصوص رموزا وأمشاج أسطورية ثاوية في ثناياها مما يؤدي إلى تلوينات جديدة في لغتها الشعرية، فتُولد صور جديدة بإيقاع أشد وقعا وأعمق حفرا في الذات الإنسانية في ما يخص كينونتها التاريخية وتجذرها الإنساني. ويتواتر الإيقاع بين أزمنة واقعية وأخرى تاريخية أو غير محددة وبين أمكنة فعلية وأخرى متصورة أو من متخيل الأساطير فيولد فضاء القصيدة المتجذر وغير المقيد في الآن ذاته. والخاصية الأسلوبية الثالثة هي أنني أميل لاستخدام عدة قوافي في القصيدة الواحدة بشكل منتظم أحيانا تعاقبيا(ومثال ذلك قافية تغلب على الجزء الأول وقافية أخرى تغلب على الجزء الثاني وقافية ثالثة تغلب على الجزء الأخير)، وأحيانا بشكل متداخل فتتكرر قافيتان بشكل تبادلي.

3. ماذا عن أحوال القصيدة العربية وما هي القضايا الشعرية التي شغلتك مع جيلك؟

- شهد الشعر العربي منذ فترة محاولات عديدة لتأسيس حداثته، منذ أدونيس وأنسي الحاج ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب مرورا بتجارب عميقة خاضها شعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل. وتتراوح تجاربهم بين محاولة الاستغناء عن عمود الشعر (بنيته العمودية الكلاسيكية وشروطه الوزنية) وبين خوض تجربة الأسطر الشعرية، سواء كانت نثرية باعتماد التفعيلة أو باعتماد أسلوب التدوير كما يظهر ذلك لدى الشاعر اللبناني شوقي بزيع، وأيضا اعتماد الإيقاع البصري في شكل القصيدة من ذلك طول السطر وقصره وعلامات التنقيط والفراغات والبياض والإيقاع الصوتي المختلف عن نظيره في القصيدة العمودية الذي يعتمد على توازن التفعيلات والصدر والعجز والروي والتصريع. أما على مستوى المضمون فقد عمل رواد الشعر الحديث إلى تكثيف الترميز في قصائدهم وإلى اعتماد مرجعيات تراثية وأسطورية في أشعارهم فتتبدى الذات متقمصة لهُويّة عَلَم من الأعلام وتظهر للمتلقي بشكل مخاتل غامض، مما يقتضي من الناقد الحصيف أن يخوض في عمق الرؤيا الشعرية والوجودية للشاعر ليكتشف المرجعية التراثية التي يستعيرها هذا الأخير وقد ويتلبس بلبوس شخصية تراثية مقدسة أو لها وزنها الشعري والأدبي ليستعير منها صفة من الصفات وليقدم في الأخير ذاته المنبثقة عنها في خلق جديدٍ معلنا عن ميلاد ذاته المنشودة. وللوصول إلى عمق القصيدة الحديثة لا بد أن يمتلك الناقد مناهج أكثر اتساعا وأكثر انفتاحا على مجالات المعرفة الإنسانية للخوض في أعماق الرؤيا الوجودية للشاعر. وفي خصوص قصائدي فهي عموما لا تبتعد عن كل ما شرع فيه هؤلاء الرواد وما قدموه من رؤى حداثية للقصيد، فهي تقوم على التفاعل بين الواقع والراهن الاجتماعي والسياسي العربي ومحاولة إيجاد موقع لذاتي الشاعرة والساردة بين كل هذه السياقات المتغيرة معرفيا وسياسيا واجتماعيا. وكغيري من شعراء جيلي فقد سعيتُ أن أترجم هذه العلاقة الجدلية بين الذات الحائرة المغتربة في تأزمها المستمر وبحثها عن تأسيس هويتها المهددة بالآخر(الغرب وأطرافٌ أخرى) وبين الوجود بما يمثله من قضايا المصير والاستمرار والكينونة. فالقصيدة تنبت من قاع الذات في أخص خصوصيتها لتطفو على سطح الراهن الاجتماعي والسياسي المحلي والعالمي.

5. ماذا عن لحظة الكتابة لديك وهل نال شعرك ما يستحقه نقديا؟

- من الأكيد أن لحظة الكتابة هي لحظة عسيرة. هي لحظة تأزم واختلاج فتبوح الذات بما عجزت عن احتمال صهده مخزنا. ويمكن القول أنها لحظة فيضان وخاصة في كتابة القصائد لأنني لا أكتب لملء البياض أو لأصدر أكثر عدد ممكن من المجاميع الشعرية، تفيض جوانب النفس بما تنوء بحمله وتكون القصيدة سيلا من التداعيات والاعترافات والملابسات، تكون قطعة من جمر الذات وقد ولدتها حارقة من تنور وعيها القلق و"لا وعيها" المندفع والمزدحم بالإحباط والصراع والنوازع، والمقفَل يروم انفتاحا وانفلاتا من قيد الأنا والأنا الجمعي. وفي ما يخص ما حظي به شعري من اهتمام فهو مقارنة بما كتب عن رواياتي وقصصي يُعد قليلا، على أن بعض النقاد قد أثنوا على الجانب الملحمي فيه وعلى قوة عبارته في رمزيتها الصارخة، وتأثيرها في مجابهة قضايا الذات المتشظّية وقضايا المجتمع فيما يمثله من دعائم للهوية الفردية ولاستمرارها وديمومتها.

6. بعض الشعراء مروا إلى الرواية وأبدعوا فيها. كيف ترين ذلك؟

- قام شعراء كثيرون بخوض تجربة السرد من خلال الرواية واستحسن النقاد ذلك فنيّا وخاصة من حيث جمالية النص، فنحن نعلم أن علاقة الشعر بالمسرح(نص حواري يتضمن السرد) كانت وطيدة خاصة الشعر الملحمي والنصوص الأسطورية والترانيم وأناشيد الجوقات، وقد ألف شعراء كبار مسرحيات عظيمة يقوم النص والحوار فيها على الشعر، فمثلا حين نقرأ أو نتابع مسرحية "روميو وجولييت"

(حوالي 1595م) لشاعر انجلترا وليام شكسبير وقد وظف فيها الخيال ومقاطع من شعر "السونيت" مثل قصيدة زفاف جولييت:

" هيا اركضي خيل الزمان ! وبالحوافر التي

كالنار

أسرعي لمنزل الشمس البعيد !إذ يلهب الظهور بالسياط سائق همام ".

في هذا المقطع يلتحم الشعر بالسرد أو العكس: أحداث سردية منها ركض الخيول للوصول للمنزل سريعا ومنها صور شعرية باذخة الخيال فالخيول هي خيول الزمان لاستحثاث الوقت على المضي وربما لخلق زمن افتراضي غير مقيد والمنزل كذلك هو منزل الشمس وقد يكون ذلك للتعبير عن السعادة القصوى ومعانقة الوجود وبلوغ الخلود من فرط السعادة.. أما مسرحية "يرما عرس الدم" للشاعر الاسباني العظيم فدريكو غوسيه لوركا نكتشف مبهورين أنه يتوسل بالشعر والأغاني لإقناع المتلقي، فتوحي القصيدة بمشاعر يفكر فيها البطل أو تعبر عن مواقف الشخصيات دون تصريح يفقد النص قوته الإيحائية ولكن تتسرب ضمنيا من خلال الصور الثاوية في القصيدة واللوحة والأغنية فتغني يرما مثلا لطفلها الذي لم يأت:

فلترقص الأغصان في ضوء الشموس

وعلى حفافيها تصاعيد العيون

هذا التوظيف المتقدم تاريخيا لفن الشعر في الملاحم والمسرحيات قد سوغ استعماله حديثا في فن الرواية، على أنَّ نثر العرب منذ القديم لم يبتعد كثيرا عن الشعر فالمقامات قد اعتمدت السجع كذلك كانت أول نصوص النثر التي قيلت في الجاهلية مسجوعة (خُطَب الحكيم قس بن ساعدة في العصر الجاهلي ). كل هذا يؤكد لنا تداخل الشعر والنثر في المدونة الأدبية العربية وحتى القرآن الكريم وهو وحي و نص ديني ذو بعد قداسي قد نزل في شكل نثر مسجوع شعري العبارة والجرس (الشعر الجاهلي والقرآن يمثلان مدونة العرب).

تعمقت التجربة الروائية العربية وانفتحت على عوالم السرد العالمية فانفسح المجال للشعراء العرب لكتابة الروايات بلغة شعرية مكثفة اقتداء بالأدب الغربي الملحمي وحتى بالرواسب الثقافية العربية المخلدة في ذهن الكتاب، ناهيك أن الإرهاصات الأولى للرواية العربية كانت في شكل مقامة (محمد المويلحي وروايته حديث عيسى بن هشام كتبها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ميلادي وسبقت رواية زينب التي تمثل أول رواية عربية وظهرت في مطلع القرن العشرين). ولا يفوتنا هنا أن نستحضر نوعا آخر من الروايات وهي الرواية الذهنية التي تتقاطع -وإن كان ذلك نسبيا – مع الروايات التي تكتب بأسلوب وبلغة شعريين. والتي تتضمن إيحاء مكثفا تبلغ فيه اللغة أوج نضجها الاستعاريّ والكنائيّ.

7. هل ترين للشعر من جدوى في الزمن الراهن؟

- هذا السؤال على غاية من الأهمية وينم عن رؤية واعية للواقع الثقافي وللفعل الأدبي والإبداعي، ويطرح عدة إشكاليات من قبيل هل نكتب الأدب والشعر لهدف اجتماعي وسياسي وحضاري؟ أم نكتبه لذواتنا. من وجهة نظري في كلتا الحالتين يكتسي الشعر بعدا عميقا وينهض بوظيفة محورية في حياة الفرد كما في حياة الناس والمجتمع، فهو وسيلة تعبير مثالية للتعبير عن الهم الذاتي والرغبة في إثبات الوجود ولنحت كيان الهوية الجماعية. فالشعر مدونة المجتمع ومرآته الحضارية رغم فرادته وصبغته الذاتية.

وحسب رأيي كذلك هو يتلاءم تماما مع مقتضيات العصر ونمطه السريع لأنه يتسم بالتكثيف والبلاغة، إذ يمكن بسطر شعري واحد أن نشحن همة شعب بأسره للنضال أو للثورة ضد مستعمر أو حاكم ظالم. لذلك ومن أجل كل تلك الأسباب يظل الشعر محتفظا بكل عنفوانه وسحره في عصرنا ولن يخفت وهيجه مستقبلا.

8. كيف تقيّمين العلاقة بين القصيدة والأغنية التي تمر الآن بأزمة إبداع وطرب؟

- يبدو سؤالك حاويا للجواب من خلال إشارتك للأزمة الحاصلة بين القصيدة والأغنية وربما مرد ذلك أن الشعوب العربية انخرطت في موجة حداثة مستقدمة من الغرب وليست أصيلة مما سوغ لظهور أغاني "الرّاب"والأغاني ذات الإيقاع السريع بالآلات الإيقاعية وأدوات تحسين الصوت الألكترونية ووقع الابتعاد عن الآلات الموسيقية العربية مثل العود والربابة والدربكة والدف، اقتضت هذه الأغاني نصوصا ذات إيقاع مختلف وجمل قصيرة من ملفوظ الشارع القريب من واقع الشبان والشابات الذين ابتعدوا عن قصائد الفصحى بأنواعها الثلاثة (عمودية وشعر تفعيلة وشعر نثري) لأن ذائقتهم تغيرت نتيجة حركات اجتماعية وثقافية تنادي باعتبار اللهجة العامية لغة خاصة بعد دروس فاردينان دي سوسير (رائد اللسانيات الحديثة). وسعى فنانون وكتاب إلى اعتماد العامية في كل منتجهم الإبداعي: أغاني ومسرحيات وروايات، على أننا لا نتهم العامية بأنها مسؤولة عن رداءة الأغنية أو القطيعة الحاصلة بينها وبين القصيدة إذ لنا في مدونتنا العربية والتونسية قصائد عامية حسنة البنيان جذلانة بمعانيها العِذاب من ذلك مثلا أغاني الموسيقار الراحل الهادي الجويني وأغاني الراحلة نعمة والفنانة سلاف والفنان الراحل علي الرياحي. وأبسط مثال على ذلك نعرض مقطعا من أغنية للهادي الجويني:

حــــــــــبي يتبدل يتجــــــــــــــدد  ما يتــــــــعدش كيف يتعدد

فكري يخونك كيف ما خنتنــــــــــي لكن قلبي يحبــــــك أنت

ونلاحظ للأسف خطاب عنف طاغٍ أو تيّار ما يصطلح عليه الواقعية القذرة في الأغاني العامية الحديثة خاصة "الأغاني الشبابية ". وربما عبّر ذلك عن تمرد فئة مهمة من المجتمع مهمشة ولم تجد بعد طريقها في اتجاه تحقيق الآمال المنشودة.

9. هل يمكن أن نتحدث اليوم عن جماليات أخرى جديدة ومغايرة تحملها القصيدة العربية؟

- من بين الفنون التي يمكن إدخالها على القصيدة العربية هناك فن الهايكو الياباني الذي حاول الكثير من الشعراء تكريسه من خلال قصائد قصيرة جدا تتميز بأنها في شكل دفقة شعرية وتنتهي عادة بنهاية فيها انزياح قوي وتكون مكثفة جدا من حيث بلاغتها ورمزيتها وقوة محمولاتها الدلالية. ويذكرنا هذا النوع من القصائد بقصيدة الومضة التي تناسب الشعر النثري كثيرا لان المتلقي يلتقط الرسالة دون عناء ودون ملل فقصيدة النثر حين تكون طويلة تحتاج إلى شد المتلقي بمستوى عالٍ جدا من الإيقاع الصوتي (القافية، اللازمة الشعرية، الجناس، التقابل، المطابقة) وفي إيقاع الصور من خلال الانتقال السريع من زمن إلى آخر وتعديد الفضاء بأسلوب شديد التمكن للتحكم في الرمزية والتكثيف والجمالية. وهذا يبدو صعبا في ظل ما تتعرض له قصيدة النثر من تهميش نقدي في تونس خاصة، فتغدو القصيدة الومضة أو شعر الهايكو أو القصيدة الدفقة ملائمة لشد المتلقي على أن تتمتع بفنيّة عالية ولا تسقط في محاولة محاكاة شكلية وحسب.

كما يمكن أن نحاول الانفلات من قيد الشعر للشعر للعودة إلى استغلاله في كتابة المسرح مثل ما ذكرنا سابقا تجارب الشعراء الأوروبيين وقد خاض "الرّحابنة" في لبنان هذه التجربة ونجحت وذلك بتوظيف الشعر الغنائي في المسرحيات فتتحد كل الفنون لإنتاج لوحة شعرية غنائية حوارية. ويمكن كذلك كتابة القصائد السردية الملحمية مثل الملاحم الإغريقية الشهيرة (الإلياذة والأوديسة لهيوميروس) لتخليد أحداث مهمة للوطن أو المجتمع مثل الانتصارات والثورات.

10. ماذا عن مغامرتك مع الرّواية؟

- أعتبر مغامرتي مع الرواية هي أغنى المغامرات الإبداعية التي خضتها لأن الرواية فن شامل كالمسرح، فكي تكون روائيا عليك أن تكون شاعرا وفنانا تشكيليا و"سيناريست" ومخرجا سينيمائيا ومؤرخا وحكّاءً وممثّلا بارعا.. كلُّ هذه الفنون تتآلف وتتعاضد لتكوّن الرواية بمعمارها المركب، وهي حديثة الظهور في العالم العربي (مرت مائة سنة ونيف عن ظهور أول رواية في العالم العربي وهي رواية زينب لمحمد حسين هيكل)، وهي لا تزال منفتحة على التجريب والبحث عن التشكل لأنها لحد الآن لم تأخذ بعد شكلا موحدا ومتفقا عليه في العالم العربي خاصة وحتى في العالم الغربي، إذ تطالعنا من حين لآخر روايات جديدة يظهر فيها بحث أصحابها عن التجديد والمغامرة السردية. إذ هناك من وظف الخرافة فظهرت الواقعية السحرية وهناك من وظف تداخل الأزمنة وقد كانت روايتي "زمن الكلام الأخير" معبرة عن هذا المنحى بامتياز إذ تتحدث عن زمن حاضر وزمن المستقبل مما جعلها تتراوح بين الرواية الواقعية المتعمقة في تصوير الواقع وبين الخيال العلمي (science fiction) إذ تصور الحياة في بعض المدن التونسية خاصة منها المهدية بعد مائة عام من زمن الرواية الأساسية فيها. وقد كتبت رواياتي باستخدام فن تعدد الأصوات (الرواية البوليفونية مصطلح مهاجر من مجال الموسيقى) في محاولة للابتعاد عن الراوي المطلق والسارد العارف لكل شيء (الراوي العليم). ورغم أن رواياتي هي في صميم الواقعية لكنني أعمد إلى إضافة بعض اللمسات مثل اعتماد مدخل الخيال العلمي أو توظيف الأساطير. وحسب مدارس النقد الأسطوري فإن كل إنتاج أدبي لا بد أن تحتوي على خلايا أو أمشاج أسطورية (بيار برينال:مبدأ المطاوعة وهو تضمن النص لإشارات أسطورية ضمنية ومبدأ التجلي ومبدأ الإشعاع ونورثروب فراي: كل نص أدبي يحتوي على وحدات سردية أسطورية وأمشاج أسطورية ). ومن ملامح تجربتي الروائية هو أنني أعدد وأنوع في أماكن وقوع الأحداث فتكون رواياتي عادة بين قطرين أو ثلاثة أو أكثر (رواية صوت الحب سارة: بين تونس وأمريكا وفرنسا ولبنان) وكما أنني أوظف خبراتي في مجالات العلوم الطبيعية والفن التشكيلي والموسيقى لتكون الرواية في شكل أصدق، فإن كان أعذب الشعر أكذبه فإن فن الرواية هو أن نكذب بصدق. فحين كتب مثلا محمود العراقي مذكراته حبيبتي والأغنيات الحزينة كان يتحدث عن بحثه في الكيمياء وانبريت أصف عمل الباحث المخبري واكتشافه حفازات تتمثل في ذرة حديد ترتبط بأربع ذرات نتروجين، وتوجد في حافتها حلقات كربونية يتصل بعضها ببعض مشكلا حلقة خارجية كبيرة: ماكراوية. ووظفت مسألة التدخل الطبي الرحيم للتحكم في مصائر الناس (الدكتور حافظ المقدم وتدخله التعسفي لتلقيح أمشاج امرأة بطريقة غير قانونية في رواية صوت الحب سارة). كما أنني أراوِح بين وصف العالم الخارجي للشخصية ووصف عوالمها الداخلية ورؤاها وفلسفتها في الحياة وتقلب مزاجها وتغير وجهة نظرها عند تسلسل السرد. وهناك مضامين أخرى أبثها في رواياتي تتعلق بشغفي بالأديان واللاهوت وهو اختصاصي البحثي الأكاديمي، من ذلك مثلا أنني وظفت نظرية تناسخ الأرواح في رواية " زمن الكلام الأخير ". أما القصص التي كتبتها فكانت ذات بعد إنساني شديد العمق وكان أغلبها يعالج قضايا اضطهاد المرأة والطفل والعمال وذلك في مجموعتي رفاق الشمس. وفي القصة الفرنسية Des mots تحدثت عن التعذيب في سجن الرومي التونسي الذي وقع إقفاله تحت تأثير ضغط المنظمات الإنسانية.

11. ماذا عن مشاركاتك الشعرية لحد الآن؟

- كانت مشاركاتي الشعرية متنوعة داخل الوطن وخارجه إلا أنني انسحبتُ من المشهد في سنوات كورونا ثم انشغلت بالدراسة والبحث الأكاديمي. لكن ذلك لم يبعدني عن الشعر قولا وكتابة وقراءة ودراسة، وظللت أكتب الشعر وجهزت مجموعتي الشعرية الثانية " لمْ تُحْرقْ محَاصِيلُ الرُّوح " وشاركت في لقاءات محلية.

12. وأنت في أوج هذه المسيرة الشعرية والسردية.. ماذا تقول الأديبة والباحثة فاتن كشو؟

- لا زلت مبحرة في بحر الشعر وأمواج السرد تتقاذفني لأنسج من فيض الإحساس والمعاني أكسية من كلام. وأقول متوجهة بخطابي لجيل الشباب من الكتّاب خاصة: " اقرأ كثيرا قبل أن تكتب فالقراءة هي الوجه الأول والقاعدة التي ترتكز عليها الكتابة لأنها تمنحك رؤية ورؤيا عميقتين لمتصورك الإبداعي ومن خلال القراءة تتشكل لغتك وتتهذب. يقول الروائي الكولومبي الشهير غابريال غارسيا ماركيز: » هناك عشرة آلاف سنة من الأدب خلف كل قصة نكتبها « وهذا ما يجعل الاطلاع ومراكمة القراءات مفيدا جدا للكاتب ليتمكن من خلق منجزه الأدبي. "

13. بماذا تحلمين ككاتبة تكمن فيها الشاعرة.. والإنسان؟

- أحلم بشعر متوسطي تتجاوب فيه لغات البحر الأبيض المتوسط التي لها علاقة باللغة العربية وكانت دائما محتكة بها وفي المقام الأول اللغة الاسبانية لأنها تاريخيا تعايشت مع العربية في فترة ازدهار الأدب والفكر الأندلسيين وكما تطور الأدب الاسباني وتأثر بالعربية من خلال ازدهار حركة الترجمة من العربية للاسبانية منذ قرون وذلك حين تأسست مدرسة طليطلة للمترجمين التي خرجت من بين جدرانها كبرى الترجمات في العصور الوسطى والتي لها الفضل الكبير في تأسيس مهاد الحضارة الأوروبية فترجمت مؤلفات ابن رشد وابن حزم والقرآن والتلمود إلى الاسبانية وقد حاول الكثير من الأدباء الاسبان والكهان محاكاة كتاب ابن حزم طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف مثل الكاهن هيتا خوان رويث الذي تأثر بالحب العذري في كتاب طوق الحمامة فألف كتابه "الحب المحمود " Libro de buen amor استخدم الزجل مع القافية الداخلية باللغة الاسبانية وقد خلط بين الشعر والنثر. وتواصل الاهتمام بالفكر العربي لدى الإسبان وتحولت الدراسات العربية في اسبانيا إلى مهمة أكاديمية في القرن 19. هذا التلاقح بين العربية والاسبانية يستغله الإسبان لاثراء مدونتهم ونحن نغفل عنه فلا نهتم كثيرا بأدب الموريسكيين ولا بالأدب الأندلسي ولا بالأدب والشعر الإسبانيين اللذان متحا من تراثنا العربي. لذلك في اعتقادي لا بد من البحث معمقا في هذا التلاقح القديم الجديد ولا بد من ظهور الشعر المتوسطي (الاهتمام بدراسة الشعر البرتغالي والإيطالي والفرنسي أيضا) كمشروع ثقافي كبير يوسع دائرة اهتماماتنا الشعرية ودائرة التلقي لشعرنا وليكون كونيا وننجح في تجديد الشعر وفي مغامرة الكتابة عوض أن نقع في فخ المحاكاة والتكرار السلبي الخاوي.

/ انتهى

***

حاورها / شمس الدين العوني

في المثقف اليوم