حوارات عامة

حوار مع الباحث المغربي: د. صابر مولاي أحمد

1432 صابر مولاي احمد- النظرة التشييئية للإنسان لها أثرها البليغ على القيم والأخلاق-"

- آن الأوان لينظر الإنسان إلى ذاته في الوجود من زاوية بعده ألا متناهي المتجاوز لوجوده البيولوجي

- الثقافي ينمو ويتسع ويتنوع إلى جانب ما هو إلهي؛ ومع مرور الزمن تتشكل طبقات متعددة مما هو ثقافي في فهم ما هو إلهي


س. أورنيلا سكر: بداية الدكتور صابر مولاي أحمد نريد منك أن تقرب القارئ من سيرتك العلمية بشكل مختصر؟

ج. صابر مولاي أحمد: شكرا للسيدة أورنيلا سكر؛ على هذه المقابلة؛ معك صابر مولاي أحمد  كاتب وباحث مغربي حاصل على شهادة الدكتوراه؛ مختص في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية؛ صدر له عن دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع سنة 2017 كتاب: "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم: سورة البقرة نموذجا" وصدر له عن نفس الدار 2019 كتاب " الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية " وصدر له عن دار الزمن المغربية كتاب " التداول اللغوي للمفردة بين الشعر والقرآن"، وسيصدر له كتاب: "القرآن ومطلب القراءة الداخلية سورة التوبة نموذجا". شارك في العديد من الندوات المحلية والدولية التي تعنى بسؤال التجديد في الفكر الإسلامي، ونشرت له مجموعة من المقالات والدراسات التي تعنى بقضايا الفكر والمعرفة في مجلات ودوريات "محكمة"؛ اشتغل ولازال إطارا علميا في مؤسسات دولية ذات الشأن الثقافي والعلمي داخل المغرب وخارجه.

س. أورنيلا سكر: كيف يمكن الاستفادة من كتبك التي أشرت إليها من قبل في زمننا هذا القرن 21؟

ج. صابر مولاي أحمد: الكتب التي أصدرت في مجملها تنتمي إلى حقل الدراسات القرآنية المعاصرة، وهو حقل معرفي يشمل الكثير من الجوانب المعرفية، من أهمها؛ الجانب الذي يبحث في سؤال المنهج لفهم النص القرآني باعتماد آليات ومناهج المعرفة المعاصرة في علم اللغة والفلسفة ومختلف العلوم الإنسانية.. بدل الوقوف عند آليات وعلوم القرآن التي اعتمدها المتقدمون في فهمهم للقرآن الكريم؛ مثل اعتمادهم على آلية المحكم والمتشابه، أو الناسخ والمنسوخ، أو المكي والمدني، أو أسباب النزول.. وغيرها؛ فآليات علوم القرآن هذه التي قال بها المتقدمون، تم وضعها في استجابة لوضع ثقافي واجتماعي ومعرفي لم يعد له وجود في زمننا الراهن؛ فزمننا ليس هو زمن الشافعي (-204ه) وما تلاه، وليس هو زمن عبد القاهر الجرجاني (-471ه) وليس هو زمن الشاطبي (-790ه)؛ فمن الجهل والحمق والجنون إن انحصر منهجنا وآليات الفهم لدينا عند ما قال به الأقدمون، دون أن تكون لدينا القدرة على فهم مناهج وآليات المعرفة لديهم؛ وهذا لا يعني أننا نقول لا بالتخلي عن كل ما هو قديم وموروث؛ بل على العكس من ذلك؛ فالأمر دعوة إلى التعاطي مع مدونات التفسير وغيرها بنظرة نقدية وتحليلية تكشف عن انسجام تلك المدونات مع خصوصيات الزمن الذي ظهرت فيه؛ وفي الوقت ذاته الوقوف عند النقاط المضيئة في تلك المدونات، والتي تشكل قيمة حداثية في زمانها؛ فالمسألة هنا ليست مسألة تنقيص على الإطلاق، من قيمة تلك المدونات التفسيرية، ومن قيمة ومكانة أصحابها كما يظن البعض؛ فالمسألة مسألة علم ونظر وتحرير وتحرر وعقل وعقلانية؛ وهذه من القيم التي تشكل روح القرآن وجوهره قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)"(البقرة) صيغة "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" صيغة لا تنفك عن السنن الكامنة في الوجود الذي تتجدد قراءته واكتشافه تبعا لتجدد تجارب الإنسان عبر الزمن؛ فالقرآن دعوة إلى النظر العقلاني في الوجود، وروح هذه الدعوة تنبني على قاعدة التخلي عمّا هو لا عقلاني، سواء ارتبط بالحاضر أو ارتبط بالماضي وما كان عليه الآباء والأجداد. مع الأسف، الكثير من الناس اليوم وخاصة ممن يحسبون على المؤسسة الدينية وغيرهم ممن يحسبون على الإسلام السياسي، يقرؤون النص القرآني بمعزل عن قراءة الوجود؛ فكل النصوص الفلسفية والأدبية والدينية ينبغي قراءتها قراءة متجددة؛ وإلا ما الفائدة من إرث الإنسانية في مختلف الفنون والآداب... إن لم نقرأها قراءة تحليلية نقدية، تمكننا من الوقوف عند الدلالات والعبر التي تحيي في جميع الناس بأنهم يعودون إلى أصل واحد، وبأنهم في بيت واحد (الأرض) ففساد هذا البيت ودماره يعد كارثة على الجميع.

فمن هنا تأتي أهمية مساهمتي المتواضعة في حقل الدراسات القرآنية؛ قصد تحرير فهم القرآن الكريم من التاريخ، وفي الوقت ذاته تحرير الكثير من الناس من الفهم المنقول بشكل حرفي لا يتوافق مع الزمن الحاضر. والحقيقة أن هناك قراءتين قد هيمنتا على فهم القرآن: القراءة الأولى، ربطت فهم القرآن بالرجوع إلى أقوال محمد ابن جرير الطبري(-310ه) ومن تلاه من المتقدمين، وقد حصرت نفسها في التاريخ ولا يمكنها أن تضيف أي شيء، وتتعدد هذه القراءة بتعدد الطوائف والمذاهب؛ فكل مذهب أو طائفة لها مرجعيات تاريخية في الفهم. والقراءة الثانية، ارتأت أن تجعل همّها في فهم القرآن الذي يدور في دائرة البحث عن تاريخه وتدوينه، والطموح في ترتيبه على حسب تواريخ نزوله، وتجميع ما جاء حوله في الثقافة الإسلامية... فالقراءة الأولى والثانية، بالرغم من اختلافهما من حيث المناهج المعتمدة والمقدمات التي تنطلق منها كل قراءة تؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي أن فهم القرآن لديهما مرتبط بما ورد في التاريخ. أما قراءته وفهمه ومحاورته تبعا لروح العصر باستثمار آليات المعرفة الحديثة، فأمر مغيب ومستبعد لدى الطرفين، باختصار كلا الطرفين يقرآن القرآن من خلال ما كتب حوله بدل قراءته بشكل مباشر.

اليوم نحن في حاجة إلى قراءة ثالثة، تستثمر ما عليه القراءة الأولى والقراءة الثانية، وتقرأ القرآن قراءة كلية معرفية، وتقترب أكثر من تصوراته وفلسفته للوجود والإنسان والكون. القرآن لا يمكن اختزاله في ما هو تشريعي كما فعل البعض، وهو ليس كتاب مواعظ وطقوس ليقرأ على قبور الأموات، وهو كتاب ليس ملكا لأحد دون آخر. إنه كتاب لكل الناس، ببساطة القرآن كتاب يتضمن فلسفة أخلاقية لعالم الطبيعة والإنسان والوجود بأكمله؛ فالنصوص التي كتب لها الخلود عبر الزمن، تأخذ مقدار وقيمة خلودها من هذه الزاوية؛ زاوية الأخلاق، إلا أن ورثة تلك النصوص يجعلونها في ملكهم دون غيرهم، ومع مرور الزمن يعرضون بقصد أو بدونه عن جانب القيم والأخلاق الذي جاءت من أجله، وتتحول معهم إلى نصوص بدون غاية ولا هدف، ومن بين المشاريع التي استحضرت البعد المعرفي في قراءة القرآن؛ نذكر مشروع الراحل المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد (-204ه)

س. أورنيلا سكر: من أين يبدأ برأيك التجديد في الحضارة العربية-الإسلامية من الدين أم من الثقافة والتراث؟

ج. صابر مولاي أحمد: التجديد بالمعنى الذي يفيد التنوير وتجاوز القديم إلى ما هو جديد ومعاصر، ينبغي أن يبدأ من الدين والثقافة والتراث؛ فنحن هنا أمام مركب ثلاثي الأبعاد كل يؤثر في الآخر، فيصعب الحديث عن الدين –أي دين- بمعزل عن الثقافة والتراث؛ القرآن لم ينزل في فراغ فمن البديهي أنه نزل في فضاء الجزيرة العربية؛ أي الثقافة العربية؛ وهذا لا يعني أن القرآن ملتصق بشكل كامل بثقافة العرب في الجزيرة العربية؛ أي إنه نتاج تاريخي بشكل محض، بل على العكس من ذلك، فهو متصل ومنفصل في الوقت ذاته عن الثقافة التي نزل فيها؛ فالجانب المتصل منه بثقافة العرب، يعد جانبا تطبيقيا في القرن 7 الميلادي في جزيرة العرب للأخلاق التي يضمها القرآن. أما الجانب المنفصل والمتجاوز للثقافة العربية، فهو جانب القيم والأخلاق التي جاء القرآن من أجلها؛ ولمعرفة التطبيقات التاريخية في القرآن تبعا للمحيط التاريخي الذي نزل فيه القرآن ومعرفة الجانب القيم والأخلاق في القرآن تبعا لنظرته للكثير من المواضيع؛ فالأمر يقتضي استحضار علم الاجتماع الديني، وعلم الأنثروبولوجيا، وعلم الميثولوجيا، وعلم الآثار وعلم الأنثروبولوجيا اللغوية[1] وغيرها من العلوم الإنسانية، لفهم الكثير من المواضيع المعروفة في الثقافات والحضارات الأخرى قبل الإسلام؛ من قبيل موضوع الحج والصلاة والزكاة[2] والبيت والأضحية... فلا ينبغي الاكتفاء بما هو وارد في المدونة التفسيرية، وما قالت به كتب السير وغيرها، في فهمها لهذه المواضيع وغيرها، وفي تصورها العام عن المحيط الذي نزل فيه القرآن؛ فنحن اليوم في حاجة لنفهم علميا طبيعة تلك النقلة النوعية والدور الذي قام به القرآن المتمثل في إتمام مكارم الأخلاق؛ وذلك بالحط أو الرفع من شأن الكثير من أوجه الثقافة المحلية في جزيرة العرب حينها، أو ما يحيط بها من ثقافات أخرى. فالقرآن مثلا ينقل لنا بشكل عام بأن صلاة العرب عند البيت، كانت مكاء وتصدية؛ قال تعالى: "وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ...(35) "(الأنفال) فنحن اليوم في حاجة إلى فهم طبيعة الصلاة عند العرب التي وصفها القرآن بهذه الأوصاف، حتى يستبعد ذلك النموذج؛ وفي الوقت ذاته نفهم موضوع الصلاة كما تحدث عنه القرآن، وقد تركه يدور في مدار قيمة أخلاقية كبرى، وهي النهي عن الفحشاء والمنكر؛ فالجانب الذي يرتبط فيه بالشكل والطقوس لم يعطه القرآن أهمية أكثر قال تعالى: " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)"(العنكبوت)، وهذا يعني أن الصلاة كما يريدها القرآن؛ ترتبط بدرجة أولى بقيمة عملية تتجسد في الواقع المعيش.

كما أنه يصعب الحديث عن الثقافة بمعزل عن الدين؛ كل الثقافات الكبرى تشكلت وتطورت إلى جانب نص ديني؛ فالثقافي ينمو ويتسع ويتنوع إلى جانب ما هو إلهي؛ ومع مرور الزمن تتشكل طبقات متعددة مما هو ثقافي في فهم ما هو إلهي. ويصعب كذلك الحديث عن التراث بمعزل عن الدين والثقافة؛ فالتراث الإنساني الكبير تشكل إلى جانب فهم معين للدين، ومن خلال سياقات ثقافية متعددة؛ فالجانب الديني يعكس البعد اللامتناهي في الإنسان. أما الجانب الثقافي، فيعكس لنا تجارب الإنسان المتعددة والمتنوعة في الوجود؛ وجانب التراث يعكس لنا شوق الإنسان وحنينه إلى الماضي؛ فالإنسان بشكل عام كائن ديني وثقافي وتراثي.

هذا الثلاثي المركب -الدين والثقافة والتراث- في حالة كانت أطرافه الثلاثة محكومة بقاعدة العلم والمعرفة والنظر... فتلك حالة من حالات التحرير والتحرر والخلق والإبداع الثقافي؛ فالدين في هذه الحالة يقوّي فينا بعدنا الروحي والأخلاقي. أما الثقافة والتراث، فقد نؤثر فيها بدل أن تؤثر فينا هي بدون وعي منا. أما إن كانت أطراف هذا الثلاثي محكومة بقاعدة التقليد والاتباع والجهل... فتلك حالة من الانحطاط الثقافي والتخلف الاجتماعي...وقد ينتج عن ذلك بين الحين والآخر، حالة من حالات التشدد والتطرف الديني وما شابه ذلك.

س. أورنيلا سكر: هل المعاصرة نقيضٌ لكلِّ ما هو موروث، أم على العكس من ذلك؟

صابر مولاي أحمد: على الإطلاق ليس كل ما هو معاصر نقيض لما هو تراثي، فهذه ثنائية مغلوطة. الإنسان هو من يضفي المعاني والتصورات على الأشياء والوقائع... المعاصرة والحداثة ليست شيئا مكتملا، فهي في حاجة إلى نقد وتقويم ومراجعة وترشيد؛ فالكل يعرف بأن المركزية الغربية تحمي الصهيونية العالمية التي سادت في أرض فلسطين فسادا وإلى غير ذلك من مشكلة التلوث البيئي ومشكلة أسلحة الدمار الشامل، ومشكلة التحيز في كل شيء للإنسان الغربي على حساب غيره من بني الإنسان؛ فمقولات حقوق الإنسان شعار يخدم مصالح الإنسان الغربي... فوباء مرض "كورونا" الذي غزا العالم؛ يكشف لنا حقيقة العالم في هذا الشأن كتب محمد العاني قوله: " [النظام العالمي] غير مؤهّل لمحاربة عدوٍّ يستهدف الإنسان؛ لأنه مصمم للدفاع عن الأشياء، حتى لو تمّ سحق الإنسان. لذلك، كانت الإجراءات، التي اتُّخِذت، تدور في فلك الدفاع عن الأشياء وليس الإنسان".[3] أما وضع الدول المحسوبة على العالم الإسلامي وغيرها، فهي تتطلع من بعيد ومن قريب وتنتظر من يصنع اللقاح، لتكون أول من يشتريه. فعموم المسلمين اليوم، لا يملكون علما ولا مختبرات بمقاس عالمي... لا شيء بين أيديهم إلا صيحات الأدعية والأذكار من أعلى شرفات المنازل في حالة الضعف هذه؛ وقد سبق للكاتب مصطفى محمود أن وصف هذه الحالة بقوله: "لو انتشر فيروس قاتل في العالم وأغلقت الدول حدودها، وانعزلت خوفا من الموت المتنقل ستنقسم الأمم في الغالب إلى فئتين فئة تمتلك أدوات المعرفة تعمل ليلا ونهارا، لاكتشاف العلاج، والفئة الأخرى تنتظر مصيرها المحتوم، وقتها ستفهم المجتمعات أن العلم ليس أداه للترفيه، بل وسيلة للنجاة".[4]

التراث شيء غير مكتمل؛ فهو في حاجة إلى نقد وتقويم ومراجعة...تمكننا من تجاوزه إلى غيره، ومن هنا تأتي أهمية المشاريع الفكرية التي أشرنا إليها من قبل وغيرها. الإنسان باستطاعته تحويل ما هو معاصر إلى ثمرة خير يشترك فيها عموم الناس، وهذا أمر وارد ومتداول... والأمر نفسه في التعاطي مع التراث، إما أن نستثمره ونجعله سببا من أسباب النهوض، وإما عكس ذلك؛ الأمر يعود إلى الإنسان أولا وأخيرا.

س. أورنيلا سكر: كيف تفسِّرون الفصل المنهجي القائم بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية في مختلف الجامعات في الوطن العربي؟

صابر مولاي أحمد: هذه مسألة في غاية الأهمية؛ مع الأسف هذا الفصل منه ما يستمد وجوده من الثقافة المعاصرة التي فصلت بين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية والقانونية، وهذه مشكلة تتصل بسؤال تكامل العلوم، ومنه ما يستمد جذوره من ثقافتنا التي تخلّت لظروف سياسية وثقافية...عن علوم الفلسفة وعن علم الكلام، وفيما بعد عن العلوم التي تعنى بالطب وتعنى بدراسة المادة والكون... فالحضارة الإسلامية لها زاد ودور كبير جدا في مختلف العلوم؛ وتبعا لتلك الظروف السياسية والثقافية وغيرها؛ قسمت العلوم إلى علوم شرعية وعلوم عقلية؛ بنفس يفهم منه أن ما هو عقلي يتعارض مع ما هو شرعي، ومن يقرأ أمهات الكتب في الثقافة الإسلامية سيجد الكثير من الفقرات والأقوال... التي تتطرق لإشكالية العقل والنقل... إلى درجة أن فقه أمر الدين سار يدور في فلك ما هو شرعي فقط، واستدل البعض بالأثر الذي مفاده "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"[5] والغريب كيف لأمر الدين أن يستقيم دون الإحاطة بمختلف العلوم الأخرى!

بعد القرن الثامن الهجري، لم يتبقّ بشكل عام في العالم الإسلامي إلا صوت ما تمت تسميته بالعلوم الشرعية؛ وبالنظر إلى الواقع في الزمن الراهن، صار مفهوم العالم في أذهان عموم الناس المسلمين، مرتبطا بمن يحفظ متون ومدونات الفقه والحديث...حتى ولو كان ذلك بدون فهم. أما من هو متخصص في علوم الطب والجغرافيا والرياضيات والفلسفة... فهو في نظرهم ليس بعالم؛ وحقيقة الأمر أن العالم هو من يعلم تخصصا من التخصصات المتصلة بعلوم الكون والإنسان؛ فمدار مفردة "العلماء" في القرآن لا يتوقف عند أولئك الذين كرسوا كل وقتهم لحفظ متون وأقوال ثلة من السابقين الذين خلد التاريخ ذكرهم؛ بمعزل عن سياقاتها من حيث الزمان والمكان والثقافة؛ وبدون وعي ولا فهم ولا تحليل؛ ويرون في أنفسهم أنهم علماء، وهم بوعي أو بدونه، أوصياء على أمر الدين والناس والمجتمع؛ وحقيقة الأمر أن العلم في الدين وقضاياه؛ لا يتأتى بمعزل عن علوم المجتمع وعلوم الطبيعة؛ وفوق كل ذي علم عليم؛ والله هو السميع العليم. فقد وصف القرآن الكريم العلماء في مختلف العلوم التي تتصل بدراسة وفهم الطبيعة وقوانينها والمجتمع والإنسان (الكون) بكونهم يخشون الله قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾ (فاطر). فالعلماء هنا هم من اتصل علمهم بموضوع البحث في الماء والثمرات واختلاف الألوان والدواب والأنعام... وإلى غير ذلك من الأشياء والموجودات في الوجود والظواهر الكونية.

س. أورنيلا سكر: ألا تعتقد أن مشكلة الفكر العربي تكمن في جزء منها في تأويل التراث، نريد منك أن تشرح لنا هذا الأمر؟

صابر مولاي أحمد: ظهرت في النصف الأخير من القرن العشرين مجموعة مشاريع فكرية، اعتنت بقراءة التراث الإسلامي العربي، متوسلة بمناهج وآليات وخلفيات معرفية متعددة، وليس بالضرورة أن نذكر أصحابها بالاسم، حتى لا نتحيز لبعض منهم على حساب الآخر، وهم جميعا بحق رجال فكر ومعرفة وتنوير؛ منهم من غادر الحياة، ومنهم من هو حي يرزق. الوجه الإيجابي لهذه المشاريع، يكمن في أنها خلقت حالة من النقاش الثقافي المثمر، وحالة من أهمية الوعي بالذات والوعي بالآخر، وحالة من أهمية الوعي بغربلة التراث وقراءته قراءة نقدية... والحقيقة أن الكثير من الشباب مدينون كثيرا لهذه المشاريع الفكرية التي ينبغي التعاطي معها بروح نقدية قصد تجاوزها إلى ما هو أفضل. أما الوجه السلبي لهذه المشاريع، فهو الفهم الانتقائي لقضايا التراث؛ فالبعض منهم توهموا أنهم يمتلكون حلولا نهائية لمشكلات الوطن العربي والإسلامي تبعا لانتماءاتهم الأيديولوجية، ما جعل بعضا منهم يغلق باب الحوار مع البعض الآخر، وفي الغالب تجد مصدر الاختلاف فيما بين بعضهم يعود إلى التراث، مثلا في الوقت الذي يتحيز بعضهم إلى ابن رشد تجد الآخر تحيز إلى الغزالي...المشكلة اليوم هي التعاطي مع هذه المشاريع الفكرية بنفس أيديولوجي باسم القومية أو التقدمية أو الإسلام السياسي. الفكر العربي الإسلامي اليوم، في حاجة ماسة أكثر لأن يعلي من قيمة القراءات العلمية الموضوعية للتراث وللواقع.

س. أورنيلا سكر: بصفتك أحد أبرز المشتغلين والمتخصصين في الفكر الإسلامي، ما هي متطلبات العالم الإسلامي ليكون في مستوى الزمن الحالي الذي تطبعه روح الفلسفة والعقل والعقلانية وكل ما له صلة بالحداثة؛ ألا يقتضي هذا بناء فكر ديني جديد ينسجم مع خصوصيات الزمن المعاصر يتجاوز التقسيمات الطائفية سنة وشيعة و.. ؟

صابر مولاي أحمد: طبعا، الزمن الذي نحياه اليوم؛ زمن العلم والمعرفة والعقل والثورات التكنولوجيا... وقد دخل العالم زمن التقنية الذكية، إذ صارت المعدّات التقنية -الإنسان الآلي- تشارك الإنسان في صفة الذكاء؛ وهناك من يتحدث بأن التقنية ستتجاوز الإنسان، بالرغم من أنها تكون مبرمجة... أمام هذه التحولات العلمية، من البديهي أننا في حاجة إلى فكر ديني جديد، والحاجة هنا ليست حاجة المسلمين وحدهم، بقدر ما هي حاجة الإنسان. فالمسألة هنا ليست مسألة تخلٍّ وإعراض عن الغيب؛ بقدر ما هي ارتقاء وصعود نحوه من خلال حبال العلوم الحديثة؛ بعد تجربة قطع حبال التواصل معه بمنشار العلم؛ كما ادعى الفكر المادي مع ماركس وغيره؛ العلم اليوم يخبرنا بأن المادة غير مكتفية بذاتها؛ فهناك ما قبلها وما بعدها؛ قال تعالى: " يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)" (الأنعام / 95)؛ فموضوع الآية هنا ليس موضوع إعجاز علمي كما يقول البعض؛ فليس هناك إعجاز علمي في القرآن؛ فهو لم يأت ليعجز أحد، كما أنه ليس موضوع موعظة وخواطر...إنه موضوع سؤال المعرفة المتجاوزة لعالم المادة، وتبعا لهذا التطور، ستتجدد رؤية الإنسان للدين بشكل عام.

وستواجه الديانات الكبرى عبر العالم الكثير من الأسئلة، كما شاهدتها من قبل مع فكر الأنوار وما تلاه، والحقيقة أن تاريخ الديانات الكبرى تاريخ أسئلة وتحولات، القرآن دشن هذا الاتجاه؛ فقد ناقش الديانات والكتب الدينية التي سبقته، وربط أمر فهم الدين بفهم الإنسان للكون –الطبيعة- قال تعالى: " سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)"(فصلت) فالآيات نكشفها في الوجود.

نحن اليوم، في حاجة أكثر من أي وقت مضى، لنخرج من الضيق إلى المتسع؛ الإسلام بطابعة الكوني لا علاقة له بأدبيات الشيعة والسنة والمعتزلة... فهو أرحب وأوسع من هذه الانتماءات الضيقة؛ الشباب عليهم أن يعوا هذه القاعدة جيّدا، وعليهم أن يدركوا بأننا في حاجة إلى معرفية دينية معاصرة.

س. أورنيلا سكر: هل لا زال الدين يملك ما يقدمه للبشرية وللإنسانية؟

صابر مولاي أحمد: في جميع الأحوال، كما يقول فراس السواح: “ الإنسان كائن متدين”. وبالتالي، فموضوع الدين ملازم للإنسان، فروح الدين وجوهره -أخذا بمبدأ كل الأديان- دعوة إلى الفضيلة وإلى مكارم الأخلاق... بكونه يخاطب البعد الروحي في الإنسان. فجزء كبير من مشكلات الإنسان في الوجود، يعود إلى استسلام الإنسان أمام نزعاته الغريزية... واستسلامه أمام تضخم أنانيته ومصلحته الذاتية التي لا تراعي مصلحة الآخرين... تبعا لهذا الوضع الذي تهيمن فيه الغريزة والأنانية الزائدة، يظهر تجار الدين ليبرّروا كل شيء ويلبسونه ثوبا دينيا. وهذه مشكلة كل الديانات عبر التاريخ بشكل عام.

 

حاورته: أورنيلا سكر

صحافية لبنانية

...........................

[1] تطرقنا في كتابنا: الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية؛ منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2019م؛ موضوع اللغة في القرآن؛ الفصل الرابع من الكتاب.

[2] انظر على سبيل المثال؛ كتاب: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلاميّة: قراءة إناسيّة في نشأة الدولة الإسلاميّة الأولى؛ محمد الحاج سالم؛ دار المدار الإسلامي؛ 2014م.

[3] محمد العاني؛ كورونا وآلهة العصر؛ مقال؛ منشور بموقع مؤمنون بلا حدود؛ 20/3/2020   https://www.mominoun.com/

[4] موقع جريدة اليوم السابع / الإثنين، 16 مارس 2020 /  https://www.youm7.com/

[5] رواه البخاري ومسلم

 

 

في المثقف اليوم