مرايا فكرية

مراد غريبي يحاور الأستاذ د. صادق السامرائي في مرايا فكرية

2875 مراد وصادقخاص: المثقف: تستضيف الاستاذ الدكتور صادق السامرائي ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفكري والثقافي، فأهلا وسهلا بهما:


 مفتتح:

لا مناص أن أهم دور للثقافة والنقد ينعكس فيما يثيره من تفكير لدى الإنسان، وما يدفعه به لاكتشاف قدراته ومؤهلاته، ويمنحه الثقة بالذات، والطموح للإسهام والإنجاز والإبداع.

وحين نرى مثقفا يتجاوز همومه الذاتية، ويفكر في الشأن العام لوطنه وأمته والإنسانية، ويتصدى لقضايا المجتمع العربي، فإن ذلك ناتج عن مستوى راق بلغه من الوعي الثقافي والنباهة العلمية ميّزته عن غيره، ضيفنا في مرايا فكرية أنموذج مشرق لفئة من المثقفين والمفكرين المتميزين في مجتمعهم، هو استاذي العزيز المبجل وصديقي الفاضل الدكتور صادق السامرائي، فقد عرفته منذ إنطلاقة صحيفة المثقف، متابعا لكل كتاباته وقارئا مولعا بأفكاره الحية، يتوقد حماسًا وإخلاصًا لخدمة الإنسان والمجتمع العربيين، طاردا للأفكار الميتة والقاتلة والأوهام والأحلام العبثية التي جذبت معظم الكتاب التائهين عن تشخيص الداء ومنهج الدواء، متواضعا في كل تفاصيل حرفه وفكرته ونقده ومقارباته، علم من أعلام القلم التنويري في صحيفة المثقف يعكس روح المسؤولية وأفق الوعي والنشاط الثقافي،ينحت بإتقان لقارئه ماهية المعنى وخبرة التجديد وتجربة النقد في مسار العبور من النظر إلى المسؤوليات المهمة، والقيام بأدوار إنسان الحضارة.

اسأل الله أن ينفع حوارنا القادم مع سعادته، القراء الكرام، كما نفع بمقالاته وجهوده الثقافية، وأن يديمه ذخرا للأمة العربية والاسلامية وبخاصة الشباب منها ويوفقه للمزيد من الفكر المعتبر والرأي المستنير والنقد المختبرخدمة للإنسان والمجتمع في المجال العربي والإسلامي.

نص الحوار:

س1: ا. مراد غريبي: مَن يكون صادق السامرائي المفكر والناقد والأديب؟

ج1: د. صادق السامرائي: شكرا لدعوتكم للحوار ولصحيفة المثقف العزيزة، التي رافقتها منذ إنطلاقتها، وتحياتي للأخ الأستاذ ماجد الغرباوي الذي يبذل جهودا تنويرية متميزة، لتوعية أبناء الأمة وأخذهم إلى فضاءات العصر الرحيب.

صادق السامرائي طبيب مختص بالأمراض النفسية، حاصل على شهادتي البورد العراقي والبورد الأمريكي ، وأظنه الطبيب الوحيد الذي يحمل الشهادتين معا.

وقد كرمته الشبكة العربية للطب النفسي والعلوم النفسية سنة (2010)، التي تضم أطباء النفس العرب والتخصصات النفسية الأخرى، بلقب (الراسخون في العلم)، وهي شهادة تقديرية معنوية ذات قيمة، ونشرت له أكثر من عشرة كتب رقمية تتناول هموم الأمة .

س2: ا. مراد غريبي: من خلال الكتابات التي تنشرها، هناك نظرة مخصوصة للعلوم الإنسانية والإجتماعية ودورها في الإنطلاق الحضاري؟

ج2: د. صادق السامرائي: العلوم الإنسانية والإجتماعية ليست من إختصاصي، وما أكتبه يتناول ظواهر وملاحظات معوّقة لإرادة الأمة في التحقق والنماء، وعندما أسبر أغوارها، تتوارد الأسباب التي تشارك في مؤازرتها وترسيخها، ولهذا يكون الإقتراب من زوايا متنوعة، وفقا للمعارف المتواجدة في أرشيف ذاكرتي.

س3: ا. مراد غريبي: دراساتك تنطلق من المجتمع نحو الآفاق النفسية والسيسيولوجية والتأريخية؟

ج3: د. صادق السامرائي: المجتمع كينونة نفسية في وعاء بيئي فوق مواقد ذات ديناميكيات إجتماعية متوالدة، ومؤثرات تأريخية متوطنة فيه وفاعلة في برمجة العقل الجمعي، فلكي نكتب عنه، يتوجب الإحاطة بما يعتريه ويكون فيه من الآليات والتفاعلات السلوكية، وفقا لمعادلاتها وعناصرها الداخلة فيها.

س4: ا. مراد غريبي: ما علاقة علم النفس المعاصر بشتى أنساقه في شخصيتك كمفكر وأديب ومثقف حر؟

ج4: د. صادق السامرائي: أرجو أن تسمح بإغتنام الفرصة لتوضيح إشكالية شائعة تتلخص في الخلط بين الطب النفسي والعلوم النفسية، الطبيب النفسي يجب أن يكون طبيبا أولا وبعدها يتخصص بالأمراض النفسية، ومختص العلوم النفسية، يدرس علم النفس ونظرياته أكاديميا وتطبيقيا أحيانا للتعرف على السلوك والشخصية، وأقدِّر المختصين بالعلوم النفسية وأتمنى لهم المساهمة الأكبر في تنوير الأجيال.

ففريقي العلاجي – على سبيل المثال – يضم مختصا بالعلوم النفسية والإجتماعية والدوائية والعلاجية الأخرى .

وقد درستُ العلوم النفسية وتعرفتُ على نظرياتها البارزة والمؤثرة، كما قرأت في مرحلة الإعدادية وبإمعان ترجمات الأستاذ (جورج طرابيشي) الرائعة لكتابات فرويد، ولازلت أقرأ وبتواصل يومي مستجدات العلوم النفسية،  وربما يكون لها تأثير على رؤيتي وإقترابي من الظواهر التي أتناولها، لكني أفصل بين الإختصاص والكتابة، لأن نشاط الكتابة بدأ مبكرا ومارسته قبل الإختصاص بسنوات طويلة.

فشخصيتي كطبيب غيرها عندما أكتب، ومن الصعب الخلط بين الحالتين، الطب قد يرفد الكتابة بمعطيات إنسانية ويعمّق الوعي ودلالات الكلمة.

س5: ا. مراد غريبي:  هل ما نلاحظه في حضور العلوم الإنسانية والإجتماعية وفلسفة التأريخ والأدب والببلوغرافيا والفنون وتأريخ العلوم السياسية والقانون وسير العلماء والفلاسفة والأدباء هو صحيح أم يجب أن نعدله؟

ج5: د. صادق السامرائي: الحاضر يجب أن يكون فاعلا ومتفاعلا، فهل هي كذلك؟

هناك قاسم مشترك عجيب في ما ذكرته، خلاصته التخندق في "لماذا"، وقد كتبتُ عددا من المقالات بهذا الشأن، فالإنصفاد في "لماذا"، يمنح راحة البال والوهم بأنهم وضعوا الإصبع على الجرح، وكفى، فياليتهم يشخصون ولا يعالجون، لكنهم يزيدون الجرح نزيفا، وهذا حال الأمة منذ منتصف القرن التاسع عشر.

هل أوجدوا حلا لمشكلة واحدة، أم أنهم عضّلوا مشاكلها من أولها إلى آخرها؟!!

فعلى سبيل المثال – درست الفلسفة مبكرا وأتواصل بقراءاتي الفلسفية، ويدهشني كثرة الفلاسفة العرب وغياب القدرة على صناعة الرؤية الحضارية المعاصرة، وأكثرهم ينتهي إلى تعليل الأشياء بأسباب نفسية، ولهذا إقترحت قبل وباء كورونا عقد مؤتمر يضم الفلاسفة وأطباء النفس والمختصون بالعلوم النفسية، لمد الجسور الفكرية والتفاعلية اللازمة لبناء رؤية صالحة للحاضر والمستقبل.

والقاسم المشترك الآخر، هو العجز عن التفاعل مع الواقع بديناميكيات معاصرة، تساهم في إنبثاق الطاقات الكامنة، وتأهيلها لصياغة الصيرورات اللائقة بجوهر الأمة، ومخزونها الإبداعي الحضاري الإنساني.

أما التعديل المطلوب فهو أن نستوعب إرادة "كيف"، فسؤال "كيف نتقدم" لايزال غائبا، ويخشى منه الذين تفضلت بذكرهم، ويتلذذون بالإجابة على سؤال: "لماذا تأخرنا"، فهذا هو شغلهم الشاغل، والجواب ضمير مستتر تقديره ما يشاؤونه من الإستنتاجات العبثية الخالية من إرادة الحياة!!

س6: ا. مراد غريبي: هل أن المثقف الحر هو الذي يفرض نمط التفكير والنقد والمساءلة أم أن النفساني هو مّن يحاول إسقاط نظريات العلم المعاصرة على إخفاقات الواقع وإنتكاسات التأريخ وهواجس المستقبل؟

ج6: د. صادق السامرائي: لابد من توضيح المسميات، لأن الأمة تعيش في محنة المصطلحات التي تشوش وعيها، وتزعزع كيانها.

ما هو المثقف الحر: هو الغير مرتبط بأية جهة مهما كان نوعها، ورسالته الحقيقة ، ولا يخشى فيها لومة لائم، أي أن يكون جريئا في إعمال عقله.

نمط التفكير: قالب التفكير وشكله، والنمطية متوارثة وفاعلة بسلبية مروعة في مجتمعاتنا.

النقد: أن تقيّم الحالة بعيون المنهجية الموضوعية والصدق بعيدا عن المديح والمجاملات ؟

المساءلة: مفردة أقرب للقانون منها للفكر والأدب، والمعنى هنا التساؤل أو طرح الأسئلة.

النفساني: المهتم بالعلوم النفسية.

فالمثقف الحر يتناول الحالة ويشرحها بأدواته التي يجيد إستعمالها، ويخلص إلى نتائج وفقا لما لديه من معلومات ومهارات، وعلى العقول الأخرى أن تستخلص منها ما تراه مناسبا، أو غير ذلك.

وبخصوص النقد فأنه روح الإبداع لكنه غائب أو جامد، وخامد في طيات اللامبالاة.

أما الإسقاط فيشير إلى حالتين، الأولى كآلية دفاعية أولية بدائية ترفع رايات "هوَّ"، والثانية كسلوك مهيمن على المفكرين وخصوصا الذين درسوا في الجامعات الأجنبية، فيأتون بنظريات الآخرين ويطبقونها على مجتمعاتنا، بغض النظر عن منابعها وحيثياتها، ويحسبونها صحيحة، وبموجبها يتناولون حالات ما وجدت لأجلها.

والأمثلة عديدة كما في علم الإجتماع وغيره، فتراهم يبررون السلوكيات بنظريات أجنبية، وما إستطاعوا إبتكار نظرية ذات قيمة ودور في ترميم خرائب الحياة الإجتماعية العربية.

بل يميلون إلى التفسير، ويحسبون ما هو قائم تحصيل حاصل، وكفى الله المؤمنين شر القتال، ويؤكدون على أن هذا واجبهم وحسب.

أما النفساني فهو الذي عليه أن يجتهد للتعبير عن " إعرف نفسك"، والمختصون في العلوم النفسية يحاولون ذلك، لكنهم لم يتوصلوا إلى رؤية ذات قيمة إستنهاضية وتنويرية، تصنع تيارا حضاريا متوافقا مع جوهر الأمة، وأظنهم سيمسكون ببوصلة الإشراق المعرفي الإدراكي مستقبلا، وسيشحذون طاقات الأمة بالهمم الواثقة بذاتها وموضوعها، وسينشرون علم النفس الإيجابي، فالوعي النفسي ضرورة ديمقراطية معاصرة.2875 مراد وصادق

س7: ا. مراد غريبي: هل أن الأنثروبولوجيا الثقافية في خياراتكم كطبيب نفسي السبب لتخصيصكم عدد غير قليل من المقالات المتعلقة أساسا بالظاهرة السلوكية للمجتمعات العربية؟

ج7: د. صادق السامرائي: الأنثروبولوجي: علم الإنسان.

قراءاتي متواصلة ومتنوعة وسريعة ومكثفة، أقرأ في كافة الموضوعات، وأحاول أن أستخلص منها فكرة ومعنى، وكتابي المفضل هو الإنسان، فكل إنسان يبدو ككتاب علي أن أعرف أبجدياته، وأجيد قراءة ما مكتوب فيه!!

وهذه الفكرة راودتني منذ كنت طالبا في الكلية الطبية، وتعمقت وتطورت بعد أن تخصصت بالطب النفسي، فتجدني أتصفح الكتب البشرية وأتمتع بتأمل صفحاتها، والإنتهال من معينها الحيوي الفياض.

وهذه الرؤية إنتقلت إلى المجتمع، فأخذت أقرأه ككتاب متجدد الطبعات أحاول أن أفك رموز ما فيه.

س8: ا. مراد غريبي:  من خلال إثرائكم للحقل الثقافي عبر ملاحقة إرهاصات الواقع . لماذا برأيكم، السياسي هو من يوجه المشاغل العلمية ، وليس الإشتغال المعرفي على الواقع بحرية وتثوير علمي؟

ج8: د. صادق السامرائي:  دوما يطاردني سؤال: هل عندنا سياسة، وهل لدينا ساسة؟!!

ولا أدري لماذا يكون الجواب بالنفي، فيلغي الكتابة عمّا غير موجود!!

وإذا إفترضنا العكس، فالسياسي الجاهل يريد عقلا عاطلا، والسياسي العالم يريد عقلا فاعلا، والمثل في تأريخنا الخليفة المأمون، كان عالما فإزدهرت في عصره العلوم وتنوَّرت العقول وفعلت وتفاعلت.

في مجتمعاتنا المرهونة بالكرسي القابض على مصير المواطنين، النشاط يجب أن يخدمه، وإلا سيمحقه!!

وكل ذي عقل منكوب، والمحابي الخانع التابع مرغوب ومطلوب، والجهل وسيلة للإستمرار بالحكم، وتأمين السلطة وإستلاب حقوق الآخرين.

أما العلم فمن أخطر ما يواجه أي سلطان مهما كانت درجته، ولهذا تجد الأمية تتعزز وتتطور، ولا يريد أي مهيمن على عدد من الناس أن يعلمهم ولو مبادئ القراءة والكتابة، ولن تجد في مراكز العبادة بأنواعها نشاط علمي ثقافي ينوّر العقول، لأنه من البدع المحرمات والمآثم والموبقات!!

والحقيقة مجتمعاتنا ليست جاهلة وإنما ترزخ تحت سنابك التجهيل والإستلاب.

وإذا رأينا أن السياسي هو الذي يوجه النشاطات العلمية عندما تخدمه، فلأنه يريد التفاعل مع المجتمع، أما النخب المعرفية فتعيش في صوامع رؤاها وتصوراتها المنقطعة عن الواقع، وتجيد الرهبنة المعرفية، ولا تنقل العلم إلى عمل، ولهذا كلما إزداد عدد العلماء يترنح المجتمع في قيعان الوجيع، فطاقات الأمة العلمية هائلة، وتبحث عن منافذ تؤهلها للتعبير عن إرادتها، ولا تجد مَن يستثمرها في مشاريع نافعة.

س9: ا. مراد غريبي: هناك كلمات متداولة في كتاباتكم المتنوعة وهي ذات مفاهيم مفصلية ؟

ج9: د. صادق السامرائي: الكلمة ذات قيمة ودلالة ومعنى، وتأثير في العقل والنفس والروح، ومن غير المعقول أن تتناول موضوعا، ولا تكون دقيقا في مفرداته لتدل على جوهره وفحواه.

لكل موضوع معجميته، كما لكل قصيدة معجميتها الخاصة بها، والمتصلة بالمعنى والفكرة.

ولكل فكرة دوائر مفردات، وأفلاك عبارات، وما ينقصنا فقدان قدرات التعبير عن الفكرة بالكلمات، لخواء المعجمية الذاتية والجمعية.

فالكلمات التي أستعملها أختارها بدقة، وأحاول أن أجعلها قادرة على حمل المعنى المقصود، وليس من السهل أن تتمكن من هذه المهارة التعبيرية، ولازلتُ أكدح لبلوغها.

ولابد من الإشارة إلى أن محنة النظرية والتطبيق، سببها فقدان قدرات التعبير عن النظرية بكلمات وافية يستوعبها المواطن، ولهذا فشلت نظريات الأحزاب برمتها، فما أن يتكلم قادتها حتى تكتشف خواء مفرداتهم وضعف عباراتهم، على النقيض من قادة الأمة القدماء الذين كانوا يجيدون فنون اللغة والخطابة.

س10: ا. مراد غريبي: ماذا عن فلسفة النص لديكم، ولمن الكتابة، وأيهما اصعب الكتابة أو القراءة في هذا الزمن الإفتراضي؟

ج10: د. صادق السامرائي: هذه أسئلة في سؤال!!

النص يجب أن يلتزم بتقنيات الكتابة، ويكون سهلا واضحا وممتعا فكريا ونفسيا، وليتساءل كاتبه قبل أن يبدأ الكتابة، لماذا يكتب، ولمن يكتب، وهل يستحق ما يكتبه القراءة؟

فالكتابة الإبداعية خدّاعة توهم الكاتب بأنه قدّم أصيلا وفريدا، فتنفخه بمشاعر وأحاسيس كاذبة، فتراه ينطلق بنصه غافلا هفواته، وإن أشرتَ إلى خطل ما تثور ثائرته ويحسبكَ عدواً لدوداً.

بينما المطلوب من المبدع أن يكون ناقدا لنصه، ومحاولا التعلم منه ليتطور ويأتي بما هو أفضل.

والكتابة للقارئ، فإذا عجز الكاتب عن ذلك فمن الأفضل أن لا يكتب، فنسبة مما يُنشر يبدو وكأن الكاتب قد كتب لنفسه!!

القراءة أصعب من الكتابة، لأنها تتصل بعوامل متعددة ومُبرمجة للعقول وفقا لأجندات معينة، فبعض الكتابات المسوَّقة ذات غايات مؤسفة، تحاول تعزيز الركائز السلوكية اللازمة لتحقيق مآرب ما.

وبشيوع المفاهيم الغابرة المدمرة للواقع البشري، أصيبَت القراءة بفاجعة حضارية مروعة.

والكتابة ربما صارت بلا شأن، فالكل يكتب ويرى أنه كاتب، قبل أشهر إتصلت بي طالبة في الثانوية تثني على كتاباتي، وتقول بأنها تكتب فشجعتها وقلت لها عليكِ بالقراءة وممارسة الكتابة اليومية حتى يتمرن قلمكِ ويتطور أسلوبكِ، وإذا بها لا تستحسن نصيحيتي، فهي كاتبة، وربما صدَقتْ وكنتُ من الجاهلين!!

لأننا نعيش فترة إنتقالية ما بين أجيال القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، بين الورقي والرقمي، وفي عصر السرعة الذي يتطلب القراءة السريعة، وهنا يبرز التحدي الذي تغفله أجيال القرن الماضي، وهو كيف نكتب ما يُقرأ بسرعة؟!!

س11: ا. مراد غريبي:  أين القارئ في معادلة الكاتب والنص؟

ج11: د. صادق السامرائي: كقارئ أتصفح المواقع بين فترة وأخرى، لأقرأ مقالا أو نصا، وأجدني في محنة وحيرة، فلا أعثر إلا على نص واحد أو إثنين، تشدني للقراءة، فأكثرها تطردك من أول عبارة!!

وعندما أتساءل كيف بالقارئ الآخر الذي يريد أن يقرأ، ويحاول التمتع بالقراءة، أكتشف سبب العزوف عن القراءة، وفشل الأقلام في صناعة التيار الثقافي القادر على التغيير.

مَن ينشر قد لا يعنيه القارئ، بل أن النص الذي يكتبه ربما لا يدري ماذا وضع فيه، ما يعرفه أنه أطلق العنان لقلمه ليملأ السطور بالمنثور المهجور، ولأنه حشاها بالكلمات توهم بأنه كتب!!

وبهذه الأساليب يسعى مَن يكتب لإلغاء القارئ!!

س12: ا. مراد غريبي: على أي أسس تبلورت قصة الكتابة لديكم؟

ج12: د. صادق السامرائي:  لا تستغرب إذا قلت، أن الكتابة مَرض، أو سلوك إدماني، أحد الزملاء شكوتُ له هذا المرض فسماه "المرض النبيل"، فأسُسها مَرضية إدمانية بحتة!!

هذا المرض أصابني منذ كنت في الصف الرابع الإبتدائي، عندما طلب المعلم منا أن نكتب موضوعا إنشائيا في دفتر ذي عشرين ورقة، وجئت في درس الإنشاء وقد ملأتُ صفحات الدفتر بقصة طويلة، أي كتبت أربعين صفحة، قرأها، وأعطاني درجة كاملة وما علق بشيئ، إلا أنه أخذ يستدعيني أمام السبورة في حصة الإنشاء، ويطلب مني قراءة ما كتبت!!

وصرتُ أنشر في النشرات المدرسية ، ثم تطور النشاط في المرحلة المتوسطة والإعدادية، وأمضيت زمنا أكتب القصة القصيرة، وبعدها الرواية، ووجدتني مع الشعر الذي أتردد في نشره رغم دراستي المكثفة عنه، وقد أمضيت سنوات أكتبه ولا أنشره، أما الكتابة اليومية فأنها لازمتني منذ ذلك الوقت، ولعدم وجود التوجيه والرعاية، وهيمنة إرادة القهر والممنوع، أصابنا التيهان والضياع، وعندما أسأل نفسي لماذا لا أتوقف عن الكتابة، أتناول القلم وأكتب، كالمدمن على الخمر، وهو يردد وذات نفسه :  

 " دع عنك لومي فإن اللوم إغراء...وداوني بالتي كانت هي الداء"!!

فما أنشره يساوي نسبة ضئيلة مما أكتبه، وتعريفي للكتابة وضع الأفكار في أوعية الكلمات، ولكي تكتب يجب أن تقرأ، وقد نصحني أحد المثقفين الكبار المعروفين منذ البداية بقوله : " إقرأ ثم إقرأ ثم إقرأ ...حتى تمتلئ لكي تكتب"!!

س13: ا. مراد غريبي: هناك مصطلحات وعبارات أساسية ومركزية في مقالات الدكتور صادق السامرائي، أحيانا بإيحاء وأخرى بصراحة، أقصد مسائل "الأهواء المعقلنة"، "الأدمغة الملوثة والمدرعة والمبرمجة"، "العقل المقتول"، " الرؤوس المبرمجة" و"النخبة الرهينة والخيبة " وما هنالك من معجم مصطلحي خاص بالدكتور السامرائي، والذي يعكس قراءات وتحليلات عبر عدة مستويات أساسية ؛ هي العلمي والثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والديني/ الروحي.

ونحسبها مترابطة عندكم، هل من توضيح ما المقصود بأنماط التفكير التي فككتموها في عدة مقالات؟

ج13: د. صادق السامرائي: التصدي للظواهر بأنواعها، ينجم عنه إكتشاف الآليات الفاعلة فيها، ولكل ظاهرة ديناميكية تكوِّنها وتدِيمها وتعززها، والتصدي لها يستوجب الإحاطة بعناصرها المؤدية لترسيخها، والهدف من سبر أغوارها وتقليب صفحاتها، الوصول إلى جوهرها الذي يستدعي التفاعل العلاجي القويم.

فالإبحار في أعماق الظاهرة المساهمة في صناعة الواقع المُعاش، يوصلنا إلى جمع المشتركات في وعاء، يشير إلى أسباب العلة ومستلزمات إستئصالها، فتكون الصورة واضحة، والإقتراب منها أنفع وأكثر إنتاجية، لتحقيق إعادة تركيب مناهج تفكيرنا، وعصرنتها.

ولهذا يكون عنوان المقالة مصطلح توضحه في فقراتها، وتلقي الأضواء على معانيه ومضامينه، وما يشير إليه ويدعو لإتخاذه، وآليات الإقتراب منه.

وكل مُسمى يقود المقالة المكتوبة يشير إلى شكل من أشكال التفكير الفاعلة في مجتمعاتنا، فما يدور ليس نمطا دماغيا واحدا، وإنما عدة أدمغة بلمساتها المستقلة عن غيرها، فطرق التفكير السريعة قليلة، والواقع يزدحم بطرق التفكير الفرعية، وفي هذا يكمن مربط فرس وجودنا، الغير قادر للوصول إلى طرق الدنيا السريعة المتسارعة المتجددة التقنيات، وعلينا أن نوجه طاقاتنا العقلية نحوها.

طرق التفكير السريعة: آليات التفكير الجامعة الواسعة الإستيعاب والكوكبية النظر.

طرق التفكير الفرعية: العمه في الأنفاق المظلمة والزوايا الحادة الخانقة.

س 14: ا. مراد غريبي: ما المقصود بمسألة جدلية الوعي والقوة الحضارية؟

ج14: د. صادق السامرائي: هذا سؤال فلسفي بحت، فدعني أفكك معاني مفرداته.

 الجدل: طريقة في المناقشة والإستدلال، تبادل الحجج بين طرفين دفاعا عن وجهة نظر معينة، أو تبادل وجهات نظر حول قضيتين، ومنه الديالكتيك وما يتصل بهذه المفاهيم من رؤى ومنطلقات تعتمدها الفلسفة.

الوعي: الفهم وسلامة الإدراك، شعور الكائن الحي بما في نفسه وما يحيط به، ونفسيا للوعي مستويات معروفة.

القوة: ضد الضعف، وتعني القدرة، ولها تعريفات فيزيائية، وهي طبيعية وحيوية وعقلية، ومبعث النشاط والحركة.

الحضارة: "الكل المركب الذي يجمع بداخله جميع المعتقدات والقيم، والتقاليد والقوانين والمعلومات والفنون، وأي عادات أو سلوكيات أو إمكانات يمكن أن يحصل عليها فرد ما في مجتمع ما"، وبإختصار هي التمدن، عكس البداوة.

وعليه فالوعي درجات، وتفاعل درجاته المتباينة يساهم بولادة وعي جديد، يحقق تحولات متجددة في الواقع الذي يتأثر به.

ووفقا لذلك فأن الحوارات المتنوعة ضرورية، لتفعيل العقول وإعمالها، للإنتقال بآفاق الوعي الجماهيري إلى مستويات معاصرة ذات قيمة تواكبية أصيلة.

فالمجتمعات المتنافرة أضعف من المتحاورة، فالأخيرة تزداد قوة وإقتدارا، والأولى تتهاوى في معاقل الخسران والهوان.

س 15: ا. مراد غريبي: لديكم تجربة أدبية خاصة وفريدة، هل الشعر والنثر عندكم إبحار في متاهات المسرح الثقافي العربي؟؟

ج 15: د. صادق السامرائي: الكتابة بدأت نثرية وتبين أنها شعرية، فالمقالة قد تتحول إلى قصيدة والعكس صحيح، بل كنت أخلط بين المقالة والقصيدة، فكانت المقالات تمزج بين الشعر والنثر، وبعد أن حاولت المعالجة، وجدتني تحت تأثير هذا البحر أو ذاك دون غيره، وفي بعض النصوص تختلط البحور، وأحيانا أجدني أكتب على إيقاع لا وجود له في علم العروض.

لم أتعلم الشعر لأكتبه، بل إكتشفت صدفة أن ما أكتبه شعر!!

والفكرة هي التي تحدد طبيعة وأسلوب ومفردات المكتوب، فقد تبدو بمقال، قصة، رواية، حكاية، خاطرة، عبارة، أو بيت واحد أو أكثر.

يتملكني بين آونة وأخرى بحر من البحور، حتى أن كلامي مع الآخرين يأتي على أوزانه، بل وخطواتي ربما تتقيد بإيقاعاته، وإذا كتبت قلمي لا يتوقف فتتجاوز القصيدة المئة بيت، وتعلمت مع الزمن أن ألجم جماحه، وأوقفه عند حده، ولهذا معظم القصائد أحاول أن أمنعها من تجاوز الثلاثين بيتا.

أكتب يوميا، وأحيانا في كل يوم قصيدة، وعدد من المقالات، وما أنشره يساوي نسبة ضئيلة مما أكتبه، وهذا ما أعنيه بمرض الكتابة، ولدي أرشيف يزدحم باللامنشور.

والبلية الكبرى عندما تتحول الثقافة إلى عشق، ومتعة روحية وفكرية، ولذة عقلية ذات أحاسيس إشراقية، وإدراكات نورانية ساطعة خلابة في أروقة النفس، وفضاءات الأعماق العلوية.

وإذا سمحتَ لي أن أذكر شيئا عن الشعر، فما كل موزون بشعر، ولا كل منثور كشعر، النص يجب أن يكتسب مواصفات خاصة ترقى به إلى مقام الشعر، ولهذا فالنسبة العظمى مما في دواوين الشعراء، هو نظم، وقليلٌ فيه الشعر، فالنظم سهل، لكن الشعر صعب، ولهذا لا تجد رائعة شعرية ذات قيمة وأثر، إلا فيما ندر.

الشعر الحقيقي المنثور أصعب من الشعر العمودي، لأنه بحاجة لقدرة إدراكية موسوعية لشد أواصر الأفكارببعضها، ضمن إيقاع مؤثر في مشاعر وأحاسيس ومدارك القارئ.

ولكي تكتب شعرا حقيقيا يجب أن تتمكن من تذويب المشاعر والأفكار والمفردات في كيان متجانس بليغ.

س 16: ا. مراد غريبي: ناقشتم إشكالات ومشكلات وسلوكيات وتطلعات وإستشرافات عديدة تتعلق بالديمقراطية، كيف يقرأ الدكتور السامرائي مفهوم الديمقراطية في جل تمثلاته الإنشائية والتطبيقية والازماتية والسلوكية والأخلاقية: غربيا، عربيا - إسلاميا؟

ج 16: د. صادق السامرائي: نشرت على صفحات المثقف منذ بداية إنطلاقها، سلسلة حلقات عن الديمقراطية بعنوان "لسان الديمقراطية"، وعشرات المقالات التي تتناولها من كافة الزوايا، ولا زلت كلما برقت فكرة جديدة متصلة بها أكتبها.

الديمقراطية تتلخص بتوفير البيئة القادرة على إطلاق الطاقات الجماهيرية وإستثمارها لتأمين المصالح الوطنية، ومن ضروراتها الأساسية قوة القانون وهيبة الدستور، فإذا إنتفى الدستور الوطني الصالح للمجتمع، وغاب القانون فلا وجود لها.

وتعني إعلاء قيمة الإنسان وإحترام حقوقه، فعندما نعترف بوجود إنسان له حقوقه المصانة، يمكننا الكلام عن الديمقراطية.

البشرية لم تعرف التعبير العملي عن حكم الشعب إلا في التأريخ القريب، وحاولت أن ترتقي إلى جوهر الفكرة في القرن العشرين، فبذلت التضحيات الجسام، ولا تزال المسيرة الديمقراطية في الدنيا ليست على ما يرام.

وهي بحاجة إلى بنية تحتية، نفسية، سلوكية، فكرية، ثقافية، روحية، وطنية، زراعية، عمرانية، صناعية، صحية، وإبتكارية وغيرها، تؤهل المواطن للتعبير عن قدراته، وإحساسه بقيمته ودوره في بناء الحياة الحرة الكريمة.

س 17: ا. مراد غريبي: أكثر ظاهرة شدتني في تحليلكم لها كونها ترتبط بالإنسان والدين والثقافة والدولة والمقدس والمدنس، هي ظاهرة التطرف الإنساني والديني، كيف تتكون سكرة التطرف بنظركم؟

ج 17: الدكتور صادق السامرائي: التطرف سلوك مُصنّع في مختبرات البرمجة الدماغية، الهادفة لإتلاف الشعوب والمجتمعات وتفتيتها، فأي شخص يمكن تحويله إلى متطرف، بآليات بسيطة ومكررة ترسخ في دماغه ما يُراد له أن يؤديه، فتراه كالدمية المتحركة عن بعد أو قرب، يندفع نحو هدفه بطاقة إنفعالية متأججة، فد تقضي عليه وعلى مَن حوله، وهو في غفلة وسكرة إنفعالية هوجاء، لا تسمح لعقله باليقظة ولو للحظات.

والتطرف له علاقة بطبيعة الدماغ، هذا العضو الذي يمكن تصنيعه وبرمجته ليكون مستعبدا لصاحبه ومهيمنا على وجوده، ويأخذه إلى مبتغاه وهو مذعن خانع كالروبوت. ويمكن أن تستحدث فيه دوائر عُصيبية مترابطة ذات قدرات حركية فائقة، بإقران أي سلوك مرغوب بأجيج عاطفي مصطنع، وبتكراره تهيمن تلك الدائرة العُصيبة المُستحدثة، وتستحوذ على بقية أجزاء الدماغ وتسخره لمنطلقاتها، وما تمليه عليه.

وكل عقيدة أيا كان نوعها، لديها مهاراتها التطرفية، فأصحاب العقائد متطرفون بإنغلاقيتهم وتوهمهم بأنهم العارفون، والقابضون على الحقيقة المطلقة (التي لا يدرون ما هيتها لأنها تكون غيبية دوما)، وبتكاثر ما هو عقائدي يتنامى التطرف، خصوصا عندما يقرن بأحداث دامية وقاسية.

وتلعب الحركات المؤدينة دورها الفتاك في نشر التطرف والإستثمار فيه، لأنه أداتها الأقوى للتعبير عن مشاريع غنائمها، وتبرير ما تقوم به من آثام وخطايا، تحت خيمة المقهورية والمظلومية المسوّقة للنيل من جوهر الحياة.

وهذه الحركات تكون سهلة الإستخدام من قبل الطامعين بالبلدان والمجتمعات، ويمكن إيهامها بتعزيز إرادتها ومراميها.

ومن جانب آخر، فالتطرف ظاهرة قائمة في أي مكان وزمان، ووفقا لمنحنى الإنتشار الطبيعي، فإن نسبة (2.5%) من أي حالة تكون متطرفة بإتجاهين حميد وخبيث.

ولا يخلو مجتمع، حزب، مذهب، دين، أو ما شئت من الحالات البشرية من التطرف، وإذا أخذت (1000) شخص، ستجد (25) منهم متطرفا حميدا ( النوابغ من العقول المبدعة) ويتم ملاحقتهم لمحقهم في بعض المجتمعات المنكوبة، و(25) منهم متطرفا خبيثا (المجرمون وسفاكوا الدماء وأمثالهم)، يتحقق التركيز عليهم والإستثمار فيهم في تلك المجتمعات الخائبة، بتقويتهم وإمدادهم بالسلاح والعتاد، وتعزيز سيطرتهم على مقدرات الحياة.

الوجود في جوهره متطرف، والأرض كينونة متطرفة!!

المشكلة ليست في التطرف وإنما في الإستثمار فيه، فلكي تقضي على أي حالة عليك أن توظف عناصرها المتطرفة الخبيثة لتقوم بدورها الهدام فيها.

والمتطرفون دينيا يتناسب توظيفهم وإستثمارهم مع درجة حرمانهم، وعندما يتذوقون طعم الدنيا فأنهم سيتغيرون، ولا يخربونها للفوز بالآخرة، لأنهم سيكونون أشد حرصا على حياتهم!!

فأطعمهم عسل الدنيا وبعدها تكلم عن التطرف!!

س 18: ا. مراد غريبي: ماذا هناك بين سطوة التخلف والتيه الثقافي عند العرب والمسلمين في فهم الدين والحضارة ؟

ج 18: الدكتور صادق السامرائي: العرب متناحرون لا متخلفون، ويستنزفون طاقاتهم في نشاطات خسرانية وعبثية، ولا تستغرب إذا قلت لا يوجد فهم عربي واضح وجامع للدين، ولو كان الفهم موجودا، لما فعل المسلم العربي بالمسلم العربي ما فعل.

المفروض أن العرب أعرف المسلمين بالإسلام، لكن الواقع يشير إلى أنهم أجهل المسلمين بالإسلام!!

قد يبدو كلاما غريبا، لكن لو سألتَ أي عربي عن بعض معاني الكلمات في القرآن، لغضب وإتهمك بأنك تنتقص من شأنه، ولن يقر لك بعدم معرفته!!

ومصطلح (رجل الدين) لا وجود له في تأريخ الإسلام، إنه مسمى مصطنع لتضليل العامة بأن فلان يعرف بالدين.

ولا يوجد فرد عارف بالدين، لأنك لو دخلت مكتبة تراثية، لأصابك الذهول من كثرة الموسوعات والكتب التي تبحث في شؤون الدين، ولا يمكن لفرد مهما توهمنا أن يلم بمعرفة قليلة حقيقية عن الدين، ولهذا أكثرهم يميلون إلى القول الذي يتصورونه ويختلقونه، وبذلك يفترون على الدين، وبتكرار هذه السلوكيات يتغير معنى الدين.

وتجد يعض ذلك حتى في كتب التفاسير، فالدين صار بحاجة إلى جمهرة علماء تفاعل عقولها في أية مسألة لتستخرج أصوب ما يمكنها من الجواب عليها.

فلا يصح القول بالفرد العارف بالدين، فهذا الزمان قد إنتهى، ففي زمن الفيضان المعرفي والمعلوماتي، تصاغر دور الفرد العارف بكل شيئ، فالدماغ البشري لا يستوعب ذلك، فهو محدود القدرات، وكلما تقدمت المعارف تعددت التخصصات.

أما فيما يخص الحضارة العربية، فأن الشعور بالدونية والتبعية وفقدان القيمة والدور قد ترسخ في الوعي الجمعي، حتى صار العربي ضد ذاته وموضوعه، ومن ألد أعداء هويته.

وقد أسهمت النخب المعرفية في نشر المفردات السلبية والرؤى الإنهزامية، والتصورات الإنكسارية، والمناهج الإنتكاسية، التي أوهمت الأجيال بأنها عاجزة، وعليها أن تستلطف دور العالة على غيرها.

والتجهيل الحضاري يمضي بكثافة هجوميية غير مسبوقة، لإقتلاع جذور الأمة، وإطلاق أجيالها في متاهات اللاجدوى والإبهام.

فالمواطن في مجتمعاتنا لا يعرف مدينته ولا يدرك عمقها الإنساني، وفي أمية مروعة عن دور الأسلاف في وضع المنطلقات الحضارية للبشرية، ويعيش متوهما بأن الآخر هو الأقدر الذي لا يمكنه أن يكون مثله.

فنحن أجهل الأمم بتأريخنا الحقيقي، ويتملكنا التأريخ الوهمي الخيالي الذي لا يُعتبَر منه لأنه سراب رؤى!!

س 19: ا. مراد غريبي: للتاريخ مرويات تحتاج لمساءلة وتحرير من منطق الاستبداد والعاجية والطائفية، كيف يتحقق ذلك برأيكم؟

ج 19: الدكتور صادق السامرائي: فهم التأريخ يعتمد على كيف نقترب منه، بعلمية منهجية أم بحكمية مسبقة، وآراء راسخة تبحث عما يبررها، التأريخ حمّال أوجه، ومعظمه مكتوب في غير أوانه، ويمثل رؤى مَن دوّنه.

الكثير منه كان بضاعة يجني أصحابها منها مالا، بل يعتاشون عليها، فيكتبون بضاعة تُشترى، ولا يطرحون ما هو كاسد أو لا يُشترى.

فنسبة كبيرة من الذين كتبوا التأريخ، حشوه بالأكاذيب والتصورات الخالية من الأدلة، والأرصدة الواقعية، وتنافي الطبع البشري والقدرات الآدمية.

إنهم يخرجون الشخص المكتوب عنه من بشريته، ويرفعونه درجات فوق المخلوقات، ويوهمون الناس بأنه قريب من الإله أو سليله، مثلما فعل إنسان الحضارات القديمة، فلكي تفرض سلطتك على الآخرين لا بد أن تتميز عنهم بإنتسابك لما هو غيبي ومقدس!!

ولهذا فالحاجة ملحة إلى الجرأة في طرح الأسئلة وتقييم المدوَّن الوارد إلينا، وفقا للمنهج العلمي والتمحيص العقلي، فهناك قصص ومرويات لا يمكن قبولها عقليا، وأكثرها كالأساطير الخرافية، فتجدنا أمام شخص خائف مرعوب من المحيطين به، ومصيره مرهون بالآخرين، وقد قدموه على أنه صاحب القول الفصل في كل أمر، والملهم الذي تنحني له الرقاب، وما هو كذلك على الإطلاق، ومَن يطلع على ما وردنا في كتب التأريخ، يستغرب من قبول المنقول، وعدم تنقيته من الأضاليل والإفتراءات والتخيلات التجارية، شعرا ونثرا.

س 20: ا. مراد غريبي: قراءتكم لمفهوم الإسلام ذات عمق ابستيمي، بحيث لكم مقاربات من خلال ثنائيات مفاهيمية للإسلام، تعكس رؤية إنسانية مختلفة عن رؤى العديد من المفكرين، هل الإسلام رهينة فهم رجعي أو سطو فقهي أم مشكلة ثقافة؟؟؟

ج 20: الدكتور صادق السامرائي: ابستيمي: (المعرفة والعلم).

الإسلام دين ربما يكون مجهولا في بعض مجتمعاتنا، والسائد دين مصطنع ومستورد يُسمى جزافا إسلام!!

فما يشير إلى معنى الإسلام كسلوك أصبح نادرا؟!

لقد تم إختصار الدين بتأدية الفروض وحسب، أما الدين العمل والمعاملة، فأشبه بالخيال.

ولهذا تجد المسلم عدو المسلم في كثير من الأحيان، مما جعل الآخر يرى، لكي تقضي على المسلمين زوّدهم بالسلاح، فأنهم سيتنافسون على قتل بعضهم البعض!!

فالإسلام ما عاد دينا واحدا، بل أديانا متنافرة لها مسمياتها، وكل منها يدّعي أنه الإسلام الصحيح، وغيره زنديق وكافر وعدو الإسلام، وبقتله يتقرب القاتل إلى ربه ويدخل جنات نعيمه الغناء.

الدين بتفرعاته أضحى بضاعة تجارية لها تجارها ومسوقيها وأسواقها، ويزداد ترويج بضاعته بتنامي التجهيل، فتجار الدين يرون أنهم يعرفون، والذين حولهم من الجاهلين، فعليهم بالسمع والطاعة، وبهذا يصنعون مجتمعات التبعية والخنوع، ويصادرون العقل، ويمنعونه من العمل، فالسؤال حرام، والتفكير من الخطايا والآثام.

س21: ا. مراد غريبي: هناك البراغماتية والأخلاق، كانط يطرح فهم مثالي للأخلاق بعيدا عن المنفعة، هذا عند فيلسوف الأخلاق، ماذا عن نظرة الأديان حول الأخلاق وتحديدا الأخلاق بين الإسلام والمسلمين؟؟

ج21: الدكتور صادق السامرائي:

البراغماتية: (النفعية، المصلحية \ أو معيار الأفكار الناجحة بقيمة نتائجها العملية)

طرحتُ عدة مفاهيم بهذا الخصوص في مقالات منشورة ومنها الدين المصلحة، فالتأريخ يحدثنا عن المعنى الحقيقي للدين، الذي يترجمه سلوك البشر عبر الأجيال المتعاقبة.

والإرتقاء إلى مرتبة القيم والخلاق والوعي الروحي والفكري والإنساني، يحتاج إلى كدح ومكابدة على عدة مستويات، لا يتمكن منها إلا القليل من الناس، ويأتي في مقدمتهم الأنبياء والأولياء والصالحون، الذين يبرهنون بسلوكهم المتواصل عن جوهرهم المتحرر من جذب التراب، وإنتصارهم على أمّارة السوء التي فيهم.

ما يدور في واقعنا، أن الدين تحول إلى مطية لتأمين مصالح فردية وجماعية وفئوية وطائفية، فالسلوك لا يعبّر عن الدين، وإنما عن الغايات والمرامي المبرقعة بدين.

فأين الدين فيما يجري في بعض المجتمعات التي جثمت على صدرها أحزاب الدين؟

الدين إرادة نابعة من الذات الفردية، فالذي لا توجد عنده تلك الطاقة اللازمة للتفاعل الأكمل مع الدين، لن تقدر ان تفرض عليه الدين، ومن هنا جاءت " لا إكراه في الدين".

أما عندما تكون بوصلة المصلحة هي الفاعلة، فلا تتحدث عن الدين، بل عن فقه الجماعة المتمترسة في خنادق رؤاها وتصوراتها القاضية بإستعبادها للآخرين.

الأمة لا يمكنها أن تلتقي بجوهرها الحضاري، إذا بقيت مرهونة بالدين كمطية لتأمين مصالح الكراسي وفقهائها المضللين.

س22: ا. مراد غريبي: في سياق هذا الواقع العربي المهترئ، حيث تبدّلت المفاهيم والقيم، نختم بالتساؤل التالي: كيف نستعيد حيويتنا من جديد، أستاذي وصديقي المفكر د. صادق السامرائي ؟

ج 22: د. صادق السامرائي: الواقع العربي ليس مهترئا (باليا)، فهذه توصيفات سلبية يُراد لها أن تنتشر وتترسخ في الأذهان، وتتسيد على الوعي الجمعي.

الواقع العربي يمر بمرحلة وضعته عاريا أمام نفسه، وفيه أجيال وافدة صاعدة ذات مستويات معرفية وإدراكية معاصرة، أخذت تشق دروبها وتبني أسس إنطلاقها نحو غدٍ يليق بها.

ما يحصل في واقع الأمة، حصل في مجتمعات الدنيا قبلها، وأقرب مثل، دول أوربا، التي خاضت إنهيارات شاملة على جميع المستويات، وإنبثقت أقوى وأقدر.

وكذلك الأمة ستكون أقوى وذات إرادة حضارية معاصرة تدعو للإفتخار، وإن ذلك لقريب ولا يكلفها إلا جيلين أو أكثر.

فالأمة أكثر تقدما مما كانت عليه فبل بضعة عقود، وهذه العواصف ستزول بعد أن تلد الطاقات الكفيلة بصناعة إرادتها المعبرة عنها، فعلينا أن نتحرر من المفاهيم السلبية ونتمسك بالإيجابية.

فهل يجوز وصف دول أوربا - في النصف الأول من القرن العشرين - بالمهترئة؟!!

وعن إستعادة الأمة لحيويتها، فهي حية ونشطة، وأبناؤها في غير مواطنهم يشاركون الدنيا بمسيرتها الإبداعية على كافة الأصعدة.

والتحدي الأكبر أن الأمة تتحسس من العلم وتنكره، والعديد من القابضين على مصيرها بإسم الدين، يعتبرون العلم بدعة سيئة، لأنه يزعزع مكانتهم ويحرمهم من غنائمهم.

فيحسبون البشر أرقاما، وهم الأصفياء الصالحون الأنقياء المدّعون بدين.

والعجيب كلما زاد عددهم في المجتمع، تنامى الفساد وإنحطت القيم والأخلاق، ويبدو أن ذلك من مشاريعهم التي تريدها نوازعهم المطمورة الفاعلة في دنياهم الخفية.

وإلا كيف تفسر بزيادة أدعياء الدين يتنامى الفساد والخراب والدمار والأمية؟!

المنهج العلمي ما ينقصنا وغيابه يدمرنا.

الدول العربية تصرف نسبة كبيرة من عائدات النفط على السلاح والحركات التي ترفع رايات الدين وفقا لرؤاها، وتتردد في الإنفاق على البحث العلمي، وميزانياتها هي الأقل بين دول العالم، فماذا نتوقعها أن تجني من هذا السلوك الخائب المرير!!

ومعظم المفكرين العرب لا يركزون على البحث العلمي ومناهج العلم، ويمعنون بنبش الغابرات وتعليل الآتيات بالماضيات، ويتحركون في دائرة مفرغة لا منافذ فيها، ولا مخارج لحياة وأمل بمستقبل مجيد.

وختاما شكرا على هذا التفاعل المعرفي الجريئ المقدام، الذي علينا أن نكرره لنزعزع أركان الركود والجمود والخمول، القابض على أنفاس أمة ذات قدرات فياضة بالأصيل المعاصر الفريد.

فأمتنا حية، ومنها علينا أن نستمد إرادة الحياة، وطاقات الصيرورة والتكوّن الخلاّق، وستعيد ترتيب آليات وجودها، وستنتصر على أزماتها، وستخرح منها بعافية وصحة جيدة.

تحية لكم ولصحيفة المثقف التنويرية الغراء.

د-صادق السامرائي

إنتهى

 

 

 

في المثقف اليوم