مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (7)

خاص بالمثقف: الحلقة السابعة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (4)

س23- أ. مراد غريبي: عودة للمثقف عربياً، ماذا عن النقد الثقافي؟

ج23- د. سامي عبد العال: النقد الثقافي فرع معرفي يضع الثقافة بكل صورها موضّع التحليل والتساؤل والتعريّة. وليست المعرفة المقصودة معرفةً بمعناها العلمي ولا الأدبي ولا الفلسفي، لكنها معرفة فاحصةٌ بالمقام الأول، أي تستعمل كافة الأدوات والمناهج والمفاهيم التي تسهم في سبر أغوار ما هو ثقافي، سواء أكان ذلك ضمن ظواهر الثقافة كحقل عام يضم داخله أنشطة الحياة أم عبر نتاجات إنسانية أخرى (الآداب والفنون والأخلاقيات والممارسات السياسية والفكرية والفولكلور والعادات والتقاليد) .

وليس النقدُ الثقافي أحد فروع اللغة ولا الأدب على افتراض ربطه بنقد النصوص تحديداً، لأنَّ الأخير كان اهتمامه واضحاً باللغة في المقام الأول معتمداً على أشكال الخطابات والنصوص ذات الصلة. أمّا النقد الثقافي، فأوسع ممارسة من ذلك مستفيداً من علوم إنسانية ليست بالقليلة ومعطياً جلَّ الاهتمام للبعد المنهجي في الطرح والنقد بصرف النظر عن موضوعاته، كما أنه ينهل من الفلسفات الأكثر حداثة ومعاصرة والتي تزوده بجهاز فكري نافذ وواع إلى درجة بعيدة.

يعمل النقدُ الثقافي بشكلٍّ قوي إزاء الأنشطة والمعارف التي أُنجزت منقباً عما هو خاف فيها وليس واضحاً بما فيه الكفاية. لأنه كنقدٍ يضع نفسه على أعتاب تنوع الرؤية وتباين الأفكار وأدوات التحليل والتفسير. وهو يتسلّح بكل جديدٍ تنقيباً عن الأسس الثقافية التي تستبطن افرازات المجتمع وجوانب حياته المختلفة. وإذا كان قد بدأ ناهضاً من داخل الفلسفة والانثروبولوجيا والاجتماع، فقد إمتد إلى مساحات أخرى من المعارف والدراسات. وغدا عاصفاً ومهماً في نظريات الأدب تحديداً، حتى أن البعض أعلن عن (موت النقد الأدبي) لصالح النقد الثقافي. فالنقد الثقافي أكثر فاعلية وإفادة من كافة المجالات، كما أنَّ وجود الثقافة كمنطلق يعطي النقاد حرية الفهم وأبعاداً جديدة لم تعتمد على شكلانية النصوص أو بنيتها اللغوية الصغرى أو الانطباعات تجاهها أو طرح القراءات حولها.

وبالإمكان أنْ نرى مصطلح النقد الثقافي كلمتين (نقد – ثقافة): مرةً بشكل مفردٍ، إحداهما مختلفة عن الأخرى. ويمكن كذلك رؤيتهما معاً كمصطلحٍ قد تجاوز التخصص الدقيق، ليكون ذا نبرة نقدية في أكثر من تخصصٍ. وهو ما أعطاهما زخماً راهناً في ميادين نقد المعارف والآداب وتحليل الفنون والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية. إن أكثر المجالات النقدية خصوبة هي تلك الواقعة على الحدود المهملة بين معارف مختلفة، وهي مناطق عبور يمكن خلالها دمج مناهج عدة ويمكن الافادة من تخصصاتها البينية في الوقت نفسه.

الرؤية الأولى: سترى في النقد فعالية تتخذ من آليات التفكير النقدي ونظرياته المختلفة وسيلة لممارسته على مواد متاحة خلال جوانب المعرفة والفكر. وبالإمكان اعتبار النقد فعلاً من أفعال الحفر والتساؤل والتفكيك عمقاً داخل هذه الجوانب، وكشف نظامها، وكيف توجد وبأية معانٍ تتكون؟ بينما الثقافة بمفردها تعبرُ عن أنساق تشكل الكل الذي اكتسبه الإنسان في المجتمع من عاداتٍ وتقاليدٍ وقوانين ومعارفٍ وعلوم. وعندما يتم ممارسة النقد الثقافي بصدد قضايا وظواهر فكرية أو أدبية، فمعناه البحث عن الأنساق الثقافية واضعاً هذا النشاط أو ذاك محل نقد، سواء أكانت أنساقاً واضحة أم مضمورة أم رمزية أم افتراضية.

والثقافة في ذاتها نسق كلي جامع لكل فضاءات الحياة الإنسانية، وهو نسق يأتي لفهم كيف يحياً الإنسان وكيف يبحث عن المعنى طوال حياته. الإنسان من تلك الجهة كائن عائش في المعنى الواحد تلو الآخر. والثقافة عندئذ هي ما تُميز الإنسان على الأصالة، وهي التي تصنع عالمه الخاص ساريةً في أدق التفاصيل. والمفارقة: أنَّه بالرغم من كون الثقافة صنيعته الأثيرة، إلاَّ أنها تستدير للتحكم في أفعال الإنسان باحثةًّ عن موطئ قدمٍ في كل ما يمارس وينتج.

الرؤية الثانية: تتعامل مع النقد الثقافي كمصطلحٍ تدور معه مجموعة من المفاهيم. والرؤية على وجهين: إمّا النظر إلى تجليات الثقافة أولاً كنقطة محورية. وعليه ستكون بمثابة حقل العمل النقدي والممارسة التساؤلية بحسب القضايا والموضوعات في كافة المجالات، ولأنَّ الثقافة تأتي في البداية من تلك الناحية، فستكون بمثابة الإطار المرجعي لكل نشاطٍ آخر. كل الصيد في جوف الفرات .. كما يقول المثل العربي الفصيح، أي كل شيء في جوف الثقافة من قريب أو من بعيد. وهناك عملية ردٍ reduction لكل شيء إلى الثقافة، حيث تمثل الإله الخفي الذي يحرك الإنسان ويأتيه بالمعاني من كل حدبٍ وصوبٍ. حيث تعطيه صورة متماسكة عن حياته وعلاقاته وأفكاره تجاه الآخرين والأشياء المحيطة به.

وأمَّا الوجه الآخر، فهو نقد أي نشاط بناءً على أسس ثقافيةٍ، فهي تساءل وجودها وفقاً للمعايير التي تطرحها وتتحكم في آليات عملها. فلو كان الشعرُ هو مجال النقد، فالنقد الثقافي يقوم بمهمة كشف الانساق الثقافية التي تتحكم في رؤى الشعراء للعالم والحياة والإنسان والحب والموت والزمن محاولاً مُساءلة تجليات المعنى، لكي يمكن الإمساك بما هو خفي وغير واضح من أول وهلةٍ. دوماً هناك انساقٌ تحكم الإبداع والأعمال البادية بقوة في تماسكها ودلالتها، حتى ولو لم يتم الإعلانُ عنها مباشرةً. لأنها أنساق ترتبط بإفرازات اللاوعي الكامن في جوانب الحياة. وأن ما يظهر قد لا يعبر بالضرورة عما هو باطن وكامن تحت الأعماق أو وراء الكواليس.

ومن وجهة نظري، يستطيع النقد الثقافي أنْ ينهل من أحدث الأفكار والمناهج. ليس غريباً أن تكون أدوات هذا النقد مناسبة للثقافة العربية، ولاسيما أن الثقافة العربية مهيمنة على ذهنيات فاعليها طوال الوقت. وربما ليست هناك ثقافة بهذه الصورة مثلما تمارس ثقافتنا العربية العريقة والمتنوعة. وبطبيعة الحال، لا يعدُّ ذلك شيئاً سلبياً أم ايجابياً، لأنَّ الثقافات هكذا كما هي في التاريخ، وكما هي موجودة في المجتمعات، ويجب دراستها بكل موضوعيةٍ من ذلك الجانب. فالمهم هو فهم طبيعة الثقافة وآليات هيمنتها (اشتراكاً أو انفصالاً) مع غيرها من الثقافات. ولا يعد ذلك شطباً لوجود أية ثقافة وتأثيراتها، بل العكس هو الصحيح، لأنه محاولة لفهم طبائع الثقافة، وكيف تمارس دورها؟!

وبالنسبة إلى الثقافة العربية فلا تقف عند هذا الحد، ولكنها تفهمنا طبيعة العلاقة الحياتية والفكرية بينها وبين كل انتاج نعتبره انتاجاً قابلاً للنقد. وهذا معناه أن الثقافة توفر من داخلها إمكانيات النقد، وبخاصة عندما تكون ذات طبيعة غالبة ومسيطرة إلى هذه الدرجة. والنقد يدرك تماماً - بحكم قدرته على النفاذ إلى جوهرها– كيف يشرح تلك الثقافة وطرائق حضورها والبدائل التي تطرحها. فكل ثقافة تضع بدائل ووسائط مختلفة للحضور والمتابعة من خلالها. حتى أنها لا تقبل بسهولة الغياب عن المشهد وأساليب العيش والتعبير ورؤى العالم.3745 سامي عبد العال ومراد غريبي

س24- أ. مراد غريبي: هل هناك مساحة مشتركة بين الثقافة والفلسفة في النظر إلى الإنسان والكون والحياة؟ وبما تعد الفلسفة الثقافة عربياً؟

ج24- د. سامي عبد العال: بين الثقافة والفلسفة يوجد (رابطٌ خفي) قد لا يظهر للعيان من أولِّ وهلةٍ، حيث تجريان في السياق ذاته وتتنازعان مساحة الفكر ورؤى الحياة وإدارة العقل. فالثقافة عملية تبدو متكاملة في إدارة العقول بحسب ما تريده المجتمعات. والفلسفة تقنية في إدارة العقول الإنسانية تبعاً لإرادتهم الحرة وما يليق بها بلا قيود وعسف. مع أنَّ الثقافة تمارس وجودها دون أنْ تستوقف أحداً، ومن غير أنْ تقول له: انتبه ها أنا ذا أعبر عن شيءٍ أو أمارس أدواراً. لأنَّ كل ثقافة تصل بأعمالها إلى درجة الفعل الصامت في كل كلام وخلال الممارسات التي ينتجها الإنسان.

سببُ الاشتراك بينهما: أنَّ ما تقوله الثقافة تلقائياً ستقوله الفلسفة بطريقةٍ واعيةٍ أخرى، وأنَّ ما ستطرحه الفلسفة هو نفسه ما تطرحه الثقافة بأساليبها وتمثلاتها الخاصة. هذا ما يجعل ثمة مساحة مشتركة، وهي ذاتها مساحة النزاع. وليس سهلاً فض الصراع، لأنه لا يظهر بسهولة، فهو يشكل عملية تاريخية طويلة الأمد. وهناك متغيرات كثيرة تدخل في دائرته، كما أنه، وبسبب كون الفلسفة لا تحمل سوى أفكارها الحرة ، وهي عادة أفكار عارية من أي غطاء آخر، فالثقافة تجيّش ما تراه ماضياً في مقارعة الفكر المختلف وملاحقته.

وطبقاً لهذه المساحة المشتركة، ستقول الثقافة: إنَّها نسق من الأفكار والقيم والعادات والتقاليد والمعارف والفنون والأخلاقيات التي تعطي الأفراد معنى الحياة وكيفية العيش. ولا تكتفي بذلك، لكنها تشترط أنْ يخرج وعي الأفراد مرتبطاً بالمحددات التاريخية التي تكرس وجودها، وكذلك تظل تمارس مراقبةً على الوعي، حتى يتم تعلقه بها طوال الوقت. وإذا حدثَ هناك تغيرٌ ما، فلابد أن يكون تغيُراً وفقاً لما تطرحه وتسمح به .. لا زيادة و لا نقصان. والثقافة تتابع هذا القياس بشكل مستمر وإلَّا لما رأت داعياً لوجودها ولأصبحت نسياً منسياً.

لكن المشكلة أن الثقافة تقع في عدة منزلقات خطيرة:

أولاً: أن الثقافة تمارسُ دورها كما هي، لا يعنيها أيَّ نسقٍ هذا الذي تُكرسه لأفراد المجتمع، المهم أنْ يؤدي وظيفةَ الضبط الاجتماعي والإمتلاء الفكري وأنْ يحشو اللاوعي بالمواد اللازمة لحركته متى احتاجه الإنسان. وهذا الفعل ليس جارياً عن قصد، بل أنه أمر مزدوج بالتبعية، فقد يكون نسق الثقافة نسقاً منفتحاً، ولكنه يحمل بكتيرياً التدهور والتراجع، وقد يكون الانفتاح نفسه فيروساً لمزيد من التفلت والفوضى، كل ذلك يتم وفقاً للصيغة التي يتعايش بها الناس مع الثقافة.

ثانياً: يسهُل أنْ يُوظّف نسق الثقافة بحسب القُوى الغالبة، أو أنها بالأحرى قُوى تجد موارد ثقافية لشرعنة وجودها، سواء أكانت قوى سياسية أم دينية أم اجتماعية .. أم أية قوى غير تلك القوى كلها. وهذا متوقف على القدرات المتاحة من رحم الثقافة وقد تكون قدرات معبرةً عن سلطة الثقافة وهيمنتها.

ثالثاً: تقع الثقافة فيما تُصاب به تاريخياً من ارتكاس الروح وانتكاس القيم وتجمد المعايير التي هي المسئولة (أي الثقافة) في المقام الأول عن ترسيخها واعتبارها سلماً للأهداف والغايات. لأنَّ لكل ثقافةٍ وظائف رمزية عابرة للعقول، وتستطيع أن تخترقها إلى مزيدٍ من التحقُق.

رابعاً: الثقافة مع مرور التاريخ قد تُصاب بالعمى رغم فائض الذكاء والمبررات التي تنطوي عليها. وقد تصبح لوناً من الحيّل التي يتوسل بها الناس لإنجاز أهدافهم ليس أكثر. والعمى الثقافي ليس مقصوداً به عدم الإبصار أو عدم الوعي، لكنه يشكل (استغراقاً) في الثقافة، حتى أنَّ إطلالة الوعي خارجها أمر غير محتمل وغير مسمُوح به. إن الثقافة في ذاتها حجاب قوي جداً، لدرجة أنه يرتق نفسه بنفسه إذا شعر بالخطر وعدم التماسك، وطوال الوقت لا يتوقف عن اصطناع البدائل الملتوية لوجوده مع تحولات الواقع، وليس هذا فقط، لكنه يتفلت من عمليات النقد قدر ما يستطيع.

نتيجةً لذلك تكوّر كلُّ ثقافة وتغلف عقول أصحابها، لدرجة أن الأديب الروسى العظيم أنطون تشيكوف قال" إنَّ الثقافة هي ما تبقى في العقل بعد أنْ يختفي ويُمحى كلُ شيءٍ آخر". فهي البصمة الوراثية التي تترك آثارها على العقل، تلك التي تأتي من وراء الأحداث والظواهر، إنها جينات رمزية باقية ومُلحة على الظهور من وقت لآخر.

لنتوقع أنَّ الفلسفة طالما أدركت المعالم والمنزلقات السابقة، فهي المُضاد الفكري لأية ثقافة من هذا القبيل، مع العلم أن الثقافة – أية ثقافة وبما هي حاملة لهذا الإسم- لابد واقعة فيها عاجلاً أم آجلاً. وهذا جزءٌ من تناهي الوجود البشري وانطوائه بصيغة الجمع على عوامل القصور والضعف. إن التناهي هو الأساس الذي ينتج عجزنا عن الاستمرارية وينتج أيضاً دافعنا للتطور في الوقت عينه. وهذه الثنائية السارية في صُلب الثقافة إجمالاً، شريطة أنْ تكون واعيةً بذاتها. ولكنها لن تعي بذاتها على نحوٍ تلقائي، لابد من فاعلية عقلية أخرى تخصّب تلك الممارسة.

الفلسفة هي وعي الثقافة بذاتها، أي حينما تكون الثقافة على درجة عالية من الوعي النقدي بمسيرتها التاريخية والحياتية، وحينما تتيح أقصى ألوان المرونة داخل بنيتها الخاصة، فهذا الوعي المُتاح هو أحد أشكال الفلسفة التي تنبت حرةً كنباتات برية لم يغرسها ولم يسهر عليها أحد. الفلسفة تظهر مع الثقافة هكذا في النسق ذاته الذي تعمل به، إنه نسق مشترك co-system بين الفكر والحياة، ويصعب غلقه طوال الوقت أمام التفكير الحر. وقد تكون مساحة الفلسفة واقعة تحت عناوين شتى مثل النقد أو النكات أو التحليل أو الابداع أو الأمثال العامة أو السرديات الغريبة أو الخطابات المختلفة. فهذه مجالات بها (فضاءٌ فكري حُر) إلى حدٍ ما، على الرغم من أنَّ الثقافة هي التي تفتح هذا الفضاء، لكي تتأقلم مع المعالم النوعية لها. بكلماتٍ أخرى، أن الثقافة تَشتق من (جسدها التاريخي) أساليب مرنة كنوعٍ من التنفيس عن مستويات الضبط العام والإحكام حول فاعليها.

تشتغل الفلسفة إذن على أرضية الثقافة التي تحذر من الفلسفة. إن الفلسفة ستجعل منها ورشةً بملء الكلمة كي تفتتح نشاطها العقلي، فكل فلسفة حقيقية هي وعي الثقافة بذاتها إتصالاً بالإنسانية ككل. إن الفلسفة تشتغل على فضاء الثقافة عكس ما تريده الثقافة بحثاً عن جوانب الأصالة، فالأخيرة تتمركز حول محدداتها النوعية داعيةً الأفراد إلى رؤية واقعهم وحيواتهم في ضوء هذا التمركز، بينما الفلسفة تحررها وتفكك التمركز تطلعاً إلى الإنسانية. أي رغم أنَّ نقطة البداية واحدة بين الفلسفة والثقافة، غير أنَّ نقطة النهاية وآليات العمل مختلفة تماماً.

تمثل الفلسفة وعياً منفتحاً لكل ثقافةٍ ترى في ذاتها عكسَ ذلك. ومن ثمَّ فإن الفلسفة تقدم وُعوداً كبرى داخل الثقافة العربية. شريطة أنْ يكون فاعلو الثقافة مهيئين لاستقبال الفلسفة بصدرٍ رحبِ وعقل مُنفتح، لا لشيء معين كما يُقال حول التفلسف تاريخياً من كونها كلمة مرادفة للزندقة، وأنَّ من تفلسف فقد خرج عن الملة، وأنَّ الفلسفة مقابلة للسفسطة واهدار الوقت. ولكن لأنَّ الفلسفة هي ما تليق بالعقول الإنسانية التي تريد بناء حضارتها إزاء العالم كله. وأنَّ الفلسفة آتيةٌ في هذا المسار لا محالة. ويبدو أن من يسمع كلاماً كهذا سيقول لن تكون الفلسفةُ في الموعد المنتظر وأنَّها قد تنكص على عقبيها!!

إنَّ الفلسفة آتية إلى عقولنا وثقافتنا دون ريب، بل كيف تأتي وهي موجودة تحت مسميات شتى؟ وذلك فيما أسميته ذات نصٍ: ماذا تفعل الثقافة في غياب الفلسفة؟ فالثقافات تتفلسف أيضاَ بصورة طريفةٍ ولطيفةٍ في الوقت نفسه، لكون الفلسفة لصيقةَ الحضور بالإنسانية، إنَّ الحق في التفلسف حقٌ طبيعي مشاع لكل البشرية. مثله مثل حق التمتع بالحياة والوجود طالما هناك عقل يعمل وفكر يستنير. فالصحة الفلسفة للعقل شرط الحضارة، ومنها ينبثق مسار الحيوات والتنوع الذي يثريها وصولاً إلى غايات قصوى.

ليس يتفلسف من هو ناقص إنسانياً وحضارياً... كيف لإنسان يقول: "أنا" ويكف عن التفلسف؟، وكيف لإنسان يقول: " نحن" ويكف عن التفلسف؟، وكيف لإنسان يقول: "هم" ويكف عن التفلسف؟، وكيف لإنسان يقول: "هؤلاء" ويكف عن التفلسف؟، كيف لإنسان يبحث عن: الآخر ويكف عن التفلسف؟ كيف لإنسان يعيش في ثقافة مليئة بالمفارقات ويكف عن التفلسف؟ كيف لإنسان يرى العالم من حوله ويكف عن التفلسف؟ كيف لإنسان حر مُحاط بالقيود ويكف عن التفلسف؟ أصحاب الحضارة يتفلسفون كما يتنفسون ضمن التفاصيل الدقيقة لحيواتهم وثقافتهم المختلفة. وكل ثقافة بها قدرات فلسفية غير محدودة، متى تمَّ الوعي بالآفاق الحرة للعقل، إنها منبع التفلسف على الأصالة.

1-  وعدٌ بالمستقبل: الفلسفة تعِدُ الثقافة العربية بالتهيؤ للمستقبل. وبخاصة أن كل تفلسف لا يخلو من رؤية استشرافية عميقة الجذور. وبخاصة أيضاً أننا نعرف أن ثقافتنا ذات طابع ماضوي، والفلسفة ترى في الماضي خيالاً آتياً مع الزمن القادم لا الفائت، فالقادم دائماً يستند إلى شيءٍ ما. كل قادم هو إحياء وانفتاح لا ينتهيان، وعلى الرغم من ذلك، فالماضي لم يُنجز بعد، فهو يأتي مع المستقبل المنتظر.

إن الفلسفة تدرب عقولنا على غدٍ أفضل دون كلل، والإنسان بخلاف سواه من الكائنات هو منْ يشعر بأهمية المستقبل. فالخراف لا تعرف ما معنى المستقبل، فهي تذبح باستمرار وتنخرط مع القطيع في كل حركاتها. ولو أدركت الخراف يوماً ما المستقبل، لما استطاع بنو آدم ذبحها من حين لآخر، ولكان لسان حال الخراف الرفض التام لهذه الفجيعة. هي كائنات بلا مستقبل على الأقل لم تطرح ولا تعرف ماذا سيحدث لها في الغد وإلّا لما سيقت إلى المذابح. الإنسان موجود حر وأصيل ليس من قبيل الخراف. ولكن مع استمرار غياب الوعي وحجب التفكير في حياته، لن يقل الكائن البشري عن كونه كائنا بلا معالم!!

2-  وعدٌ بالمصير: الفلسفة تتبصر بقوة الفكر العميق تجاه معنى المصير، ولعل الموضوع برمته خارج نطاق الفهم العادي لحركتنا اليومية. فالمصير رؤى ممكن أن تترقب الإيجابيات والسلبيات، والأهم أنها تتحسس ما الذي سيحدث فيما بعد. هذا السؤال الجوهري: ماذا سيكون مصير الأحداث والأفعال من حولنا؟ فلن تجد من يتساءل هذا السؤال البسيط الذي لا يذهب بعيدا بقدر ما يحاول أن يدرك المآل. مع أن ابن خلدون في ثقافتنا العربية كان أحد الذين حملوا مشاعل الفكر لاستكشاف المصير منذ فترة كبيرة.

عنوان كتاب ابن خلدون عنوان كاشف لهذا المعنى:" كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". فالمبتدأ نحوياً وثقافياً هو حامل الخبر، وحامل الحدث، وبه تتم الجملةُ إخباراً عن مضمونها، إنه البداية التي تتصف بصفة معينةٍ في طريقها إلى التحقق، وهو الشيء كما يكون بما هو كذلك، بينما الخبر هو المحمول بلغة المنطق، إنه المُنبئ عن أحوال المبتدأ. ولئن كان المبتدأ حاملاً لهذا الخبر، فليكن المصير كذلك، وإن لم يكن، فالوعي بما سيحدث أمر مطلوب، أي أن الخبر هو مصير كل مبتدأ ومنهما سنستخلص العبر التاريخية. وعلاقة الفلسفة بالثقافة يُمكن لها أنْ تحلل المصير كاشفةً أبعاد كل المسائل الحضارية والاجتماعية، وإلى ما ستؤول الظواهر في المستقبل. الفلسفة هي فنون قول العبر (المآلات) التي لا نراها ولا نعرفها بحكم استغراقنا في الحياة الاعتيادية.

وحده تقريباً ابن خلدون من قصد بفلسفة التاريخ هذا التحليل البعدي posterior analysis للظواهر والأحداث. بحيث يرمى المصير من الخلف إلى الأمام آتياً بكل أخبار الماضي والمستقبل في الوقت نفسه. إنه تفلسف من نوع مختلف عما عهدناه في ثقافتنا العربية جملةً وتفصيلاً. ولم يكُّن ابن خلدون ليَقُل هذا الكلام من باب العواطف ولا من خلال الجوانب الذاتية كما يُشاع عنه، لكنه وضع المصير في سياق التاريخ كي يتحدث بلسان الظواهر ومآلاتها.

وابن خلدون طرحَ فكرةً في غاية الخطورة، أَلَا وهي أن الظواهر الثقافية ظواهر مادية بدرجة مساويةٍ لكونها ذات أبعاد رمزية. فلكي تتكون الظواهر لابد أن تستند إلى قانون عمراني مادي من جنس الحياة التي يحياها الناس في التاريخ، ولا تستحق أية ظاهرة بعدها الإيجابي إلاَّ إذا جسّدت هذا القانون. وفي المقابل وهو الأهم: أن تلك الظواهر الإنسانية تتحلل خلال التاريخ كي تُنبئ عن المصير وفقاً لقانون مادي بالمثل. فانحطاط الحضارة لابد أن يمر بمعالم التفسخ وانحراف القيم وشيوع التخلف والإنهيار وهي مظاهر ملموسة وقابلة للتحليل والملاحظة. وهذا مظهر يخضع لآليات من جنس التاريخ، حيث تفعل فعلها وراء الأشكال والرسوم. وكأنَّ ابن خلدون يقول: كما أنَّ العمران يحتاج قانوناً مادياً حتى ينهض بالمجتمعات، لابد أن يسير الانحطاط بطريقة مادية. وهذه الفكرة ضد التفسير اللاهوتي للمصير، فلا يمكن أن يكون المصير ميتافيزيقياً أو سحرياً، لكنه مصير يُفهم من واقع المجتمعات الإنسانية.

3- وعدٌ بالحرية: لا توجد فلسفةٌ مع القيود، حتى ولو كانت قيوداً ذهبية ناعمةً، القيود هي الخناق الأبدي الذي ما وجدت الفلسفات إلا لتمزيقه،إذ لا تتعايش الفلسفة مع القيود أيا كانت. وهناك تيمة سارية في الثقافة العربية تقول أننا لدينا فلسفتنا الخاصة بصرف النظر عن سياق الفلسفات العالمية. وهذا وهم فارغ، لأن الفلسفة تشرع الحرية أولاً وتتقدم بناء على هذا الشرط.

وما أدقها من كلمات تلك التي تقول: إن الحرية تشكل جوهر الإنسان، والحرية قدر لا نستطيع الإفلات منه. وأنَّ الفلسفة توفر للعيش في الحياة ما يليق بها طوال الوقت. صحيح تأخذ الفلسفة من وجودنا كلَّ عناية وإهتمام، غير أنها تعطينا معنى الحياة ومعنى التحرر الذاتي على مستوى الأفراد. أما على المستوى الجمعي، فالمسألة شائكة لا تحل المعضلة بسهولة دون تغيير.

وهنا تواصل الفلسفة بث الوعي الجمعي المنفتح في تفاصيل الثقافة، إن كل من تحدث فلسفياً على نحو حقيقي في تراثنا العربي إنما كان يطرُق أبواب الوعي، ولا يسمح له بغلقها مهما تكن الأسباب. وهذا الأمر كبّد فلاسفة العرب خسائر شديدة الوطأة سواء على مستوى الشعوب أم النخب. هؤلاء وأولئك قد اعتبروا الفلاسفة مجرد مشاغبين خارج حدود الثقافة ولا يحملون مواقف أصيلة، وقد تحينوا الفرصة لترويضهم و كذلك سارت الجماهير في طريق ملاحقة أفكار الفلاسفة، ومنهم من انتهى بحرق كتبه ومنهم من أُلقي بين جدران العزلة ومنهم من صلب كالذبيح على أعواد السلطة.

4- وعدٌ بالتطور: الفلسفة وعد مفتوح بالتطور، لكونها تشحذ عقولنا وتقوي طاقتنا على احتمال على التغيير. ولنلاحظ أن التطور يحتاج عقلاً يقظاً وفكراً مرناً وتدرباً على احتمال المستحيل. وأقول المستحيل، لكون الإنسان يميل إلى الردع والإرتباط بالعادات والتقاليد ولذلك كانت الفلسفة تاريخياً حارسة لقيم التقدم والتفكير الحر. أدق ما في الفلسفة الحقة هو كونها تجعل العقل محركاً رئيساً في مسيرة الإنسان، وبخاصة أنَّ العقل قد يرسم بين التقدم والانهيار خطوطاً من الفهم والنقد والتحليل. فلا فلسفة دون تدعيم التفكير المتطور والواعي بكل مشكلات الحضارة والحياة.

5-  وعدٌ بما يليق بالإنسان: الفلسفة هي مجموع الأفكار التي تليق بالإنسان الحر، وعندما تكون الفلسفة نوعاً من صداقة الحكمة على نحو كوني، فلكونها لائقة بنا ككائنات عاقلة حرة. ولذلك فإن ما ستحتاجه ثقافتنا العربية لون من الحكمة الذي ينشر الرشد والعقلانية وقدرتنا على التعايش. وما لم تكن هناك فلسفة لن يدرك الإنسان أولوياته ومسارات الفكر، سيكون مأخُوذاً بغرائزه المباشرة، وسيصبح لقمةً سائغةً لنزعات التوحُش والبدائية المسلّحة بكافة أدوات الحضارة و التكنولوجيا.

إن الإنسان العربي نتيجة الظروف السياسية والفكرية التي يحياها لم يعد قادراً على التمييز، إنه يحتاج باستمرار إلى آفاقٍ واسعةٍ، لابد أن يصقل قدراته بالأفكار والمناهج الجديدة. والفلسفة هي من ستدخل عقولنا العربية إلى ورش إصلاح الفكر سواء بالأنشطة الفكرية أم بالممارسات الثقافية. فهي من أقرب الطرق قائمة على ذلك، وليس يعييها ما يعييها قدر ما تكون مهمشة وتجبر على المكوث تحت التوقيف باسم الدين أو السياسة أو المجتمع. وفي كل الأحوال – مع هذا التوقيف المتعمد- ستضطر المجتمعات العربية فكرياً لإيجاد بدائل لملأ الفراغ الفلسفي.

لعلَّ ما يجهله فاعلُّو الثقافة أنه يستحيل استبعاد الفلسفة من مجالات الحياة، لكونها مرتبطةً بقدرتنا على التفكير إجمالاً، وأنها ستطل برأسها من وقت لآخر إذا شعرت بالخطر من تلك الناحية. لأن قدرات العقل المختلفة تتداخل بحكم أن الفلسفة تقع في مساحات التأسيس لما نمارس. والمدهش أن الثقافة العربية بقدر ما تُقصي الفلسفة عن مجالات التأثير بقدر ما تستحضُر الفلسفة، حتى ولو في أشكال أخرى من الابداع، في فضاءات الشعر والنقد والحياة المختلفة.

***

حاوره: ا. مراد غريبي - المثقف

في المثقف اليوم