مرايا فكرية

مراد غريبي يحاور الباحث الفلسفي الأستاذ علي محمد اليوسف في مرايا فكرية (3)

2916 علي اليوسف ومراد غريبيخاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من مرايا فكرية مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول الراهن الفلسفي، فأهلا وسهلا بهما:


 المحور الثالث: الفلسفة، العقل واللغة والجدل

س43: أ. مراد غريبي: تذهب بعض التيارات الفلسفية المثالية نحو مقولة (مالا يدركه العقل غير موجود) ما تعليقكم على ذلك؟

ج43: أ. علي محمد اليوسف: طبعا العقل هو إدراك الوجود الانطولوجي خارجيا، وإدراك المواضيع الناتجة عن المخيلة الذاكراتية، اي بتوضيح أكثر فان العقل لا يدرك الاشياء المتعينة ماديا وحسب انما هو يدرك الموضوعات الفكرية المجردة ايضا. وكل إدراك عقلي هو تصور لغوي تجريدي للأشياء والموضوعات. العقل في ادراكاته يذهب نحو مدركاته بوعي قصدي، بمعنى العقل لا يدرك ما لا معنى ولا ضرورة له، الشيء الثاني ان العقل يدرك الاشياء لحاجة ادراكية تلازمه لا تتوقف عند مرحلة الادراك بل تتعداها الى مرحلة معرفة لماذا يدرك العقل الاشياء؟ وليس المهم معرفتنا كيف يدركها؟ أما حول مالا يدركه العقل غير موجود فهي مقولة ساذجة في نكرانها عدة امور هي ان الموجودات تكون مستقلة الوجود سواء أدركها عقل شخص او عدة اشخاص ام لم يدركوها، الشيء الثاني إدراك الشيء لا يعني معرفته، فالإدراك معرفة بدئية من مراحل المعرفة. فالوجود موجود فما لا تدركه انت يدركه غيرك.

س44: أ. مراد غريبي: هل برأيكم اضاف تجريد التفكيكية وتأويلية بول ريكور والبنيوية الى حد ما عجز عنه تجريد الفلسفة؟ وهل استطاعت فلسفة اللغة اضافة آفاق جديدة لمراجع تصحيح اخطاء اللغة في تاريخ الفلسفة؟

ج44: أ. علي محمد اليوسف: ربما اكون احادي النظرة في اعطاء تعقيب فلسفي لكني ارى في فلسفة اللغة التفكيكية تجريدا فارغ المحتوى ومبحث فلسفي خال من أية مسألة جديرة بالبحث، لأنها تقوم على تقويض النص والمعنى في عملية تشتيت ذهني وتفكيك نص وخطاب اللغة بلا جدوى وانه لا شيء خارج النص من حيث هو تفكيك تجريدي لغوي مقطوع الصلة نهائيا عن الانسان والحياة في حالة دائمية من الهدم والتقويض اللانهائي لخطاب اللغة.

كما أن الفلسفة البنيوية حسب جياني فاتيمو فيلسوف العدمية تضع في أسبقية اهتماماتها بنية اللغة (النص) فقط بما هو نص مكتوب مدوّن، ولا أهمية عندها للمتلقي ولا تعير اهتماما للمستقبل الانساني.

وأمام هذا الافلاس الفلسفي في التفكيكية وفي البنيوية الى حد ما يذهب جورج مور قائلا: (أن التحليل الفلسفي للغة ليس هدفا في ذاته، بقدر ما هو وسيلة لتوضيح افكارنا وتصوراتنا وقضايانا، والنظرية الفلسفية تقاس قيمتها بقدر اتساقها مع معتقدات الرجل العادي، فاذا جاءت النظرية متنافرة مع هذه المعتقدات حكمنا عليها بالإفلاس.) نقلا عن ابراهيم طلبة سلكها.

وفي نفس المنحى ذهب فنجشتين انه (يتوجب على الفلاسفة العودة الى اللغة العادية والاستخدام المألوف لها). بعيدا عن تفكيك نحوي وبلاغي في اللغة كمبحث لغوي نصّي تجريدي يخص قضايا الادب بما هو تجنيس ادبي وليس بماهو مبحث منتج في إثراء مباحث الفلسفة.

رغم الاهمية الفلسفية الكبيرة لآراء بول ريكور الا أن منهجه اللغوي في التأويلية (الهورمنوطيقا) رسخ قناعة خاطئة مفادها ان النسق النظامي الذي يحكم اللغة داخليا يتيح لنا اريحية القول ان لا علاقة تربط البنية النسقية للغة مع نظم الانساق التي تحكم الحياة خارج نسق منظومة اللغة الداخلية. وان اللغة لم تعد تتوقف الحاجة لها عند وسيلة التداول او التعبير عن الوجود في موجوداته وعلاقتها ببعضها. وان النسق اللغوي في نظام اللغة يوازي ولا يتقاطع مع الانساق التي تحكم الواقع والحياة وهذا برأيي تطرف في منحى فلسفة اللغة ليس في محله.

س45: أ. مراد غريبي: كيف تفسر لنا الادراك الزمكاني للوجود؟

ج45: أ. علي محمد اليوسف: ثبات الاشياء وموجودات الطبيعة نسبي مكانا وزمانا على الدوام وليس كما ذهب له كانط أن ثبات الأشياء هو السمة اليقينية المستمدة من ادراكنا لها بثبات كل من الزمان والمكان في اسبقيتهما على الوجود، وبخلاف كانط أن ثبات الزمان في أدراكه ثبات الاشياء في وجودها الظاهري الحسّي أنما هو أي الزمان يدخل في علاقة جدلية في تغييره الاشياء دون أن يتغير، كما أنه يساعد العقل على الادراك من دون أن يدرك الزمان بذاته، بل كل ما نعرفه عن الزمان انه حدس نتلمسه في ظواهر نتائجه في الاستدلال على وجود الاشياء بعد تخليق العقل لها وليس في اختراع وجودها.

ان إدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي مكانيا – زمانيا، أنما هو في حقيقته ادراك زماني واحد فقط، فلا يمكننا أدراك الشيء مكانا من غير زمن ولا نستطيع ادراك الاشياء زمانا من غير وجود مكاني متعيّن لها انطولوجيا، لكننا ندرك الاشياء زمنيا في تفكيرنا الخيالي الذهني لموضوعات تستحدثها الذاكرة مادة لتفكير العقل، وهي أي موضوعات الخيال ليست محددة وجودا مكانا في العالم الخارجي لكننا ندركها من خلال تناول التفكير بها زمانيا تجريدا بمعزل عن تحققها انطولوجيا بالواقع وهذا يسري على جميع الاجناس الادبية التي تجعل من المخيلة ذاكرة واقعية.

2938 علي محمد اليوسفس46: أ. مراد غريبي: هل الديالكتيك الماركسي كان افتعالا تبريريا في إرغام التاريخ على أن يسير وفق حتمية تطورية لا يحيد عنها؟

ج46: أ. علي محمد اليوسف: الديالكتيك في المادية التاريخية قانون يحكم المادة والتاريخ والطبيعة، لكنه ليس حتمية غائية في تحديد المراحل التاريخية التي يصلها ماركسيا بالضرورة. فالديالكتيك الذي يحكم المادة والوجود والتاريخ يشتغل على مسارات تحكم المادة وكل ظواهر الحياة بما لا حصر له،والتاريخ ومساره التطوري أحداها، فالديالكتيك قانون يعمل في الطبيعة مستقلا عن الانسان ورغائبه، وليس قانونا وضعيا من أجل الفلسفة او تفسير تطور التاريخ ماديا مراحليا كما ذهبت له الماركسية عندما اجرت التحقيب التاريخي من عصر المشاعية فعصر الصيد والالتقاط وعصر الزراعة وهكذا وصولا الى المرحلة الامبريالية التي هي قمة الراسمالية.، فقد يعمل الديالكتيك في بلورة معطيات جديدة في الوجود والحياة ليس التاريخ من ضمنها كمرتكز محوري كما تعدمه المادية التاريخية، وأخيرا الديالكتيك ليس قانونا وضعيا أوجده واخترعوه فلاسفة مثل هيجل وفيورباخ وماركس وانما هو قانون يعمل في مجال الطبيعة بمجملها قبل وبعد اكتشافه فلسفيا.

بالحقيقة كان لدي وجهة نظر اشرت لها في احدى مقالاتي ان قانون وحدة وصراع الاضداد في الديالكتيك لا يتم خارج ما أطلقت عليه (المجانسة النوعية) بمعنى لكي يحصل الجدل الافتراضي بين قطبي تناقض لا يحكمه تضاد السلب مع الايجاب في انتاجية واستحداث الظاهرة الجديدة فقط، وانما يحكم قطبي التضاد المجانسة النوعية الواحدة، فمثلا نجد من المحال ان تفترض جدلا يقوم بين زيت وماء. والسبب هو عدم وجود المجانسة النوعية بينهما التي هي تشابه الجوهر والصفات بينهما، فالماء من حيث الماهية والصفات تختلف عن الصفات والماهية للزيت، لذا انعدام المجانسة النوعية ماهويا بينهما لا يمنحهما جدلا ديالكتيكيا ينتج عنه ظاهرة مستحدثة جديدة.

من جانب آخر طالما أن قوانين الجدل تقوم على تناقض لا يلازمه تجربة تطبيقية ملموسة فهو يبقى احتمال افتراضي من الجائز جدا عدم محكومية تطور المادة والتاريخ لتلك القوانين الافتراضية على صعيد الايديولوجيا السياسية والفلسفة معا. افتعال هيجل للجدل على مستوى الفكر كان خاطئا ليس بسبب انه لم يأخذ بالمنهج المادي بل لأنه اساس الخطأ الذي اورثه للماركسية في افتراض وهمي غير خاضع لتجربة التحقق من حصوله. بمعنى لم يكن هيجل يتصور أن ديالكتيك الفكر هو ناتج ديالكتيك حاصل في الواقع. وبرر ذلك قوله طبيعة العقل جدلية بمعنى لا يقاطع جدل الواقع في حال حصول تحققه.

س47: أ. مراد غريبي: كيف توضح آلية منظومة مدركات العقل للأشياء والعالم الخارجي؟

ج47: أ. علي محمد اليوسف: الحواس تدرك وجود الاشياء في العالم الخارجي صوريا بالفكر، وليس صوريا باللغة قبل الفكر، وإدراك الشيء بالفكر لا يشبه تعبير اللغة خارجيا عنه، واللغة في تعبيرها عن وجود الاشياء تكون أولويتها سابقة على الفكر، فإدراك الاشياء بالفكر ذهنيا هو أدراك صامت لغويا، والصمت لغة حوارية كامنة بالذهن غير مفصح عنها بالكلام او الكتابة، في حين يكون تعبير اللغة عن الاشياء في وجودها الخارجي (صاءتا) صوتيا سواء أكان ذلك كلاما شفاهيا او تعبيرا لغويا مكتوبا. انا هنا لا ارغب مجاوزة حقيقة علمية أن الفكر جوهره لغة. بمعنى الفكر في صمته هو تفكير لغوي صوري ايضا.

ويسبق الفكر الصامت في الذهن ادراكنا الاشياء والتعبير اللغوي عنها داخل العقل وليس خارج العقل، وأولوية التفكير العقلي في الذهن يسبق تعبير اللغة عن الموجودات خارجيا، على العكس من أن اللغة تسبق الفكر في التفكير خارج العقل فقط وليس داخله، اللغة تعبير والفكر محتوى وكلاهما متلازمان، وجود الاشياء في العالم الخارجي تكون فيه الاولوية للتعبير عنه باللغة التي تعبر عن الاشياء كناتج تخليق عقلي فكري لها.

صمت الفكر في ادراكه العقلي لوجود الاشياء وأن كان يلتقي مع صمت اللغة في حالتي الادراك العقلي ذهنيا، وفي التقائهما في الافصاح اللغوي – الفكري التعبيري عن وجود الاشياء، لكنما يبقى أدراك الفكر للشيء لا يطابق ولا يشابه تعبير اللغة عنه. وبذا لا يستطيع الفكر الذي هو نتاج عقلي كما هي اللغة أيضا، أن يتطابق مع اللغة في الافصاح عن المعنى، ويبقى الفكر متخلفا عن اللغة في عجزه أيجاد حقيقته الوجودية في منافسة اللغة له في التعبير عن الموجودات والاشياء. وتبقى عبقرية اللغة سابقة على تخليق الفكر العقلي في محاولته التعبير عن الوجود بملازمته اللغة او بمفارقته لها كما في حال انشغال الفكر في حدسه وتنظيمه إدراك ما تفرضه الذاكرة التخييلية من موضوعات مستمدة خياليا من الذاكرة ولا علاقة للحواس في أي دور بنقل مواضيع الخيال الى العقل، فالمدركات الحسّية وظيفتها هي فقط نقل معطيات وجود الاشياء في ظواهرها بالعالم الخارجي وليس مواضيع الخيال التي مصدرها العقلي الادراكي لها هو الذاكرة فقط.

وبهذه الحالة تتراجع اللغة المنطوقة او المكتوبة الى مراتب متأخرة امام فاعلية العقل والفكر معالجتهما مواضيع الخيال في الذاكرة والذهن. وتكتسب اللغة أهميتها المتمايزة عن الفكر في التعبير عن تخليق العقل لمواضيع الخيال أمّا في محتوى وشكل لغة ادبية او فنية او جمالية حال خروج اللغة عن وصاية العقل عليها داخل الذهن المفكّر، وتنتهي وصاية العقل على الفكر واللغة بعد تعبيرهما عن الاشياء في العالم الخارجي. لأن اللغة والفكر يصبحان جزءا متداخلا مع وجود الاشياء في التعبير عنها خارجيا، بعد ان كانا (الفكر واللغة) جزءا من التفكير داخل العقل. خلق عوالم ادبية أو فنية يتراجع فيها الادراك الشعوري على حساب تفعيل اللاشعور الخيالي.

س48: أ. مراد غريبي: هل انت مع كانط في نظريته الفلسفية على ان الانسان مزود بالفطرة بقالبي الزمان والمكان في تمكين العقل من الادراك؟

ج48: أ. علي محمد اليوسف: تضمن كتاب كانط (نقد العقل المحض) الزمان والمكان معطيان قبليان في العقل سابقان على وجود الاشياء وهما وسيلتا أدراك تلك الاشياء، ومن دون هذا الافتراض لا يمكن للعقل والذات أدراك الاشياء في وجودها الخارجي، وجواهر وظواهر الاشياء لا تدرك من غير ثباتها في تجانسها مع ثبات الزمان والمكان في الذهن، كما أن ثبات الاشياء يتناسب طرديا توافقيا ادراكيا مع الزمان في ثباته، وبهذا يكون كانط أعفى العقل من مهمة اثباته ماهيات وجواهر الاشياء في وجودها بذاتها أو حتى في ظاهرياتها المتغيرة كصفات على الدوام وباستمرار، واعطى الثبات المكاني والادراك الزماني المجانس لثبات الاشياء مكانيا اولوية على العقل. وفي هذا التناقض يصبح عدم اعتراف الفلسفات المثالية بالعقل والوجود خارج إدراك الفكر مقبولا دوغمائيا في المثالية، علما أن الفكر هو نتاج عقلي وليس نتاجا مكتسبا في أدراكه وتفسيره للأشياء وفي هذا مأزق الفلسفة المثالية انكارها وجود العقل في تأكيدها على اسبقية الفكر على المادة الذي هو نتاج لصيق بالعقل. ونجد من المهم التنبيه أن العقل لا يفرز الأفكار وظائفيا، لكنه هو منتج الافكار في عملية تخارج التفكير العقلي مع وجود الاشياء إدراكا معرفيا تخارجيا وليس هناك من فكر لا يسبقه وجود او موضوع.

رغم وجودية كيركارد التي اصبحت مادية لاحقا على أيدي هايدجر وسارتر، الا أنه يذهب نحو مثالية لا تختلف عن المثالية التي يذهب فلاسفتها جميعا أنه لا وجود للأشياء ولا العالم الخارجي الا في الوجود الصوري الادراكي لها في الفكر فقط لا غير، وأن النسق الفلسفي يحتوي ويقرر ماهيات الاشياء والوجود من خلال الفكر المنطقي المجرد المنعزل عن العالم المادي، وذهب كريكارد نحو وجود غير مادي وغير ميتافيزيقي أيضا بالتبشير بعالم الوجدانات والاخلاق والعواطف الايمانية، معتبرا أن الوجود الانساني تابعا للنسق الفلسفي لا خالقا لوجوده من خلاله. وفي هذا يخرج كريكارد عن وجوديته المادية واستبدالها بوجودية إيمانية دينية صوفية مثالية.

س49: أ. مراد غريبي: ما حقيقة التطاحن الفلسفي في الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية التي أدت بها نحو الانشقاقات واودت بها الى الانحلال والتفكك التام دونما تحقيقها لأهدافها المعلنة عنها؟

ج49: أ. علي محمد اليوسف: أعتقد السؤال يقصد حلقة اكسفورد الانجليزية. ذهب تطرف برتراند رسل ومعه جورج مور وايتهيد نوعا ما، فيما أطلقوا عليه الواقعية التحليلية المنطقية الجديدة الانجليزية حصرا، في إعلائهم من شأن معطيات ومدركات الحواس أهمية كبيرة وصلت براسل اعتباره تلك المعطيات الحسية هي العقل بمعناه التجريبي العلمي، وليس اللوغوس بمعناه الفلسفي الذي هو نتاج المعرفة بمختلف مباحثها وتنوعاتها. واعتبر راسل تكوين العقل العلمي يقوم على أولوية معطيات الحواس بخلاف أن المعرفة الفلسفية لا تنتج لنا سوى مناهج ونظريات في التفكير الذي لا يقود الوصول الى عقل تجريبي علمي. إنه من الواضح أن راسل اراد أن تكون الفلسفة علما تجريبيا يقودها العلم ولا تقوده هي. ومبحث فلسفة اللغة كان حاضرا في تيار الفلسفة التحليلية بشرط اعتمادها الرياضيات والمنطق تحديدا.

 راسل وايتهيد كلاهما عالمان رياضيان، وأرادا عمل توليفة فلسفية تحليلية منطقية قوامها الرياضيات والمنطق وتحليل معنى اللغة. ووصل الحد براسل أن اوصى فينجشتين في جعل رسالته التي أشرف عليها راسل تقوم على تأصيل المنحى اللغوي بمنطق الرياضيات كما سبق اوصى فريجة بذلك. وحين عجزت وصاية راسل تحقيق مبتغاها فما كان من اعضاء حلقة اكسفورد الا الانفضاض عن راسل وايتهيد اللذين بقيا متمسكين بأهمية جعل منطق اللغة يجاري منطق الرياضيات. فانشق جورج مور ومعه فينجشتين في تغليبهما منطق تحليل اللغة التجريبية يبتعد عن تعقيدات منطق الرياضيات وطالبا بالعودة الى ضرورة توظيف لغة الحياة اليومية التي تعيشها الناس أن تكون لغة فلسفة المستقبل وبخلافه تسير الفلسفة نحو حتفها.

س50: أ. مراد غريبي: ما حقيقة الخلاف بين ديفيد هيوم وراسل؟

ج50: أ. علي محمد اليوسف: ديفيد هيوم ذهب نحو علم النفس معتبرا أن ليس هناك معرفة مباشرة (للأنا)، بالمعنى الفلسفي الذي نفهمه أنه وعي الذات، وإنما الموجود هو النفس البشرية وليس الذات التي يشكك هيوم بوجودها، معتبرا النفس هي (حزمة من الافكار) المستمدة من معطيات الحواس، وقام بتطوير فكرته هذه في كتابه (تحليل العقل) الذي لم يكتف به نكرانه الذات الانسانية بل ذهب أبعد من ذلك قوله (لا يوجد شيء اسمه المادة كما ولا يوجد شيء اسمه العقل). وبتعبير فلسفي يعتبر هيوم (أن ما يمّيز ماهو نفسي هو ذاتيته، وهذه الذاتية تعني ماديا تجميع معطيات الحواس وتركزّها في مكان واحد هو الدماغ).

لكن من المهم أن راسل ينكر على هيوم (وجود نفسي على هيئة جوهر قائم بذاته) ومع ذلك فهو يقر لهيوم (ان الظواهر النفسية أكثر حقيقية من المادة لأننا لا نتوصل للمادة بادراك مباشر لها مطلقا). وانما على شكل انطباعات حسية وهو ما يدعو له هيوم. ولإجراء مقارنة توضيحية بين هيوم وراسل:

1- من وجهة نظر هيوم وراسل أنه لا يسبق الوجود الانساني ولا الوجود الطبيعي قاطبة الافكار المستمدة من معطيات الادراك الحسي للأشياء في وجودها المادي المستقل الذي ينكران ادراكنا له بغير احساسات الحواس فقط، كما لا يوجد هناك عقل مستقبل لمجموع معطيات الحواس بما أطلقا عليه حزمة الافكار وتنظيمها عقليا، وإنما الموجود هو حزمة الافكار ليست المستمدة عن وجود الاشياء السابق عليها في العالم الخارجي بل حزمة الافكار في الدماغ التي بضوئها نستدل على وجود الاشياء من عدمه. ضاربين عرض الحائط حقيقة أنه لا وجود لفكر لا يتقدم عليه ويسبقه وجود.

2- من وجهة أخرى نجد أن هيوم وراسل اللذين يدعوان اعتماد العقل الفلسفي تجريبيا كما في العلوم الطبيعية والرياضيات، يتوسلان اللوغوس فلسفيا في تدعيم دعوتهم الى جعله مبحثا عقليا تحليليا علميا خارج مختبرات العلوم، وليس العكس المطلوب في اعتماد معطيات العلوم الطبيعية في الوصول الى قناعات فلسفية تأخذ من العلم تجريبيته التحليلية بما ينتشل مباحث الفلسفة من الدوران في فلك معرفة الوجود بوسائل تجريدية تستبعد العلم التحليلي والتجريبي. باختصار العبارة الموجزة أن محاولة جعل مباحث الفلسفة (علما) لا يتم الا بمنطق العلم الذي لا يلغي قدرات العقل العلمي البرهنة عليه فلسفيا. أما محاولة ان تكون الفلسفة علما يقود غيره من العلوم الطبيعية فمسألة ليس سهلا تمريرها.

س51: أ. مراد غريبي: ماذا يعني لك الحلول الصوفي بالذات الالهية؟

ج51: أ. علي محمد اليوسف: الانسان كينونة وجودية تمتلك وجودها الظاهراتي والعقلي وماهيتها التي هي مجموع صفاتها وكيفياتها كإنسان، تجعل منه هوية جوهرية ماهوية مستقلة. وفي هذه الخاصية يتأكد استحالة الاتحاد غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته، والوجود من أجل ذاته، أي بين الخالق الالهي والمخلوق الانساني كما تدّعيه الصوفية في تغاير (كيفيتين) أحداهما روحانية لا يدركها الانسان هي الخالق، والاخرى مادية تتمايز ذاتيا مع غيرها بقوانين الطبيعة زمكانيا وهي الانسان، ولا تلتقي كيفية الانسان المادية الا مع كيفيات مادية تتجانس معها في كل او بعض الصفات والماهيات. أما الحلول الصوفي على مستوى من(النورانية) الالهية التي لا يستطيع العقل إدراكها فهي من المحالات في التحقق، إعدام الشعور في التجربة الصوفية لدى الانسان لا يمنحه انتقالة نورانية خارج واقعيته المادية. لا يجب تكافؤ محدودية عقل الانسان بلا نهائية الذات الالهية التي لا يمكن الالتقاء بها.

س52: أ. مراد غريبي: هل تجد فضاءا مشتركا يجمع الفلسفة بالشعر وما علاقة الخيال بتعبير اللغة؟

ج52: أ. علي محمد اليوسف: لغة الخيال هي قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر، باختلاف ان لغة الفلسفة تخضع لسطوة العقل المنطقي في لجم الخيال ان يكون تهويميا، بينما الشعر يعيش ويخضع لمرجعية تنظيم اللغة وتنظيم خيال اللاشعور جماليا فنيا أيضا بعد برودة عاطفة الشعر وبرودة تهويم اللاشعور العقلي في تدوين النص مسموعا او مكتوبا او جماليا ممثلا في نص شعري او في لوحة فنية وفي جميع انواع التشكيل الفني التي تكون اللغة فيها في حالة كمون يستنطقها المتلقي المشاهد.

عبقرية اللغة في الشعر أو في الرسم سابقة على عبقرية الفكر الذي تعبّر عنه، رغم أن انتاجية العقل للفكر سابق على انتاجية الذات للغة، وكلاهما حوار غير معلن لشيء واحد، ويفترقان (اللغة والفكر) عن الخيال العقلي، والتمايز الدلالي بينها أيضا، متى ما اصبحت الفكرة واقعا ماديا معبرا عنه لغويا يدركه الاخرون في عالم الاشياء. الانسان ذات وموضوع يتبادلان الادراك بالتناوب. فالإنسان يدرك الموضوع في وعيه العقلي او الخيالي. والانسان يدرك ذاته بذاته عقليا ايضا. والموضوع لا يشترط ان يدرك ذاته الا بشرط علاقته بمن يدركه وهو الانسان، إذا كان وعي الذات ووعي الموضوع من نفس النوع. بمعنى أن يدرك الانسان ذات غيره من البشر لا ذات غيره من الكائنات في الطبيعة والعالم الخارجي. فهنا لا يكون الادراك بين الذات والموضوع متبادلا، بمعنى أن الانسان في هذه الحالة يدرك موضوعه، لكن موضوعه لا يدرك الانسان ولا وعيه به كموضوع. بمختصر العبارة ماهية أو جوهر الانسان موضوعا ذاتيا يدركه صاحبه فقط، ولا يدرك انسان ماهية او جوهر انسان آخر من نوعه.2939 علي محمد اليوسف

س53: أ. مراد غريبي: فلسفة العقل بدأها ديكارت إشكالية وتناولها كلا من فيلسوف العقل الأسكتلندي ديفيد هيوم لتستقر بين الامريكي ريتشارد رورتي وجلبرت رايل الانجليزي هل لك توضيح بعض جوانب هذه الاشكالية؟

ج53: أ. علي محمد اليوسف: أبدأ بعبارة غريبة متشددة كان بدأها ديفيد هيوم قوله لا وجود لشيء يدعى عقل، ليتلقفها بعده الفيلسوف جلبرت رايل في مقولته لا وجود لما يسمى عقلا ابدا. بحسب الفيلسوف الامريكي المعاصر ريتشارد رورتي 1931- 2007 يختلف ما هو عقلي عما هو فيزيائي، وهذا الاختلاف كان بدأه ديكارت في تقسيمه العقل نفسه الى فيزيائي مرة والى غير فيزيائي تارة أخرى، فالعقلي ويقصد به الانسان هو ما يعقل ذاته ويعقل موجودات العالم الخارجي، ولا يشترط أن يكون الفيزيائي (المادي) يمتلك هذه الصفة الاعجازية الادراكية التي يمتلكها العقل في ماهية انه جوهر مفكر فقط.. إذا جاز لنا التوضيح أكثر فالعقل بمعنى المخ مسؤول عن جسم الانسان، اما العقل غير العضوي بايولوجيا فهو تجريد لغوي ماهيته التفكير في ادراكه العالم الخارجي.

الطبيعة بكل موجوداتها وتكويناتها لا تمتلك ميزات العقل الانساني في وعيها لذاتها ولا وعيها بعض تكويناتها المتعايشة معها ولا وعيها بعض القوانين الفيزيائية التي تحكمها، فالطبيعة تدرك بموجوداتها عقليا بالإنسان كوعي والموجودات الاخرى من الكائنات التي تمتلك عقلا كالحيوانات التي يكون ادراكها الطبيعة محدودا جدا بالقياس لإدراك عقل الانسان الذكي في وعيه المستقبل.

وبعض كائنات الطبيعة كالحيوانات تمتلك عقلا لكنه يختلف عن عقل الانسان بصفات عديدة وهي تتجاوز ملكة العقل الانساني في وعي ذاته وموجودات الطبيعة من غير نوعه، وعقل الانسان عقل ذكي على مستوى إحساسه بالزمن، وكذلك عقل الانسان يمتلك ابتكارا واختراعا هو لغة تجمع النوع الواحد من جنسه. وجميع هذه الصفات وغيرها هي عقل الانسان في جوهره المادي. وليس في جوهره اللافيزيائي الذي حدده ديكارت العقل جوهر خالد بعد فناء الجسم ماهيته التفكير فقط في التعبير عن الوجود واكتساب المعرفة.

ولم يكن ديكارت يشغله أكثر من أن يكون العقل كتكوين فيزيائي بيولوجي أو غير فيزيائي لا بيولوجي منفصل عن الجسم، بحسب حاجته التعبير عما يحققه العقل من اهداف يضعها ديكارت قبل وجودها الواقعي ورغبة الادراك العقلي لها.

وبقدر اهتمامه الذي كان يحاول فيه التوفيق التلفيقي بين وظيفة العقل المنفصلة عن الجسم كجوهر ماهيته توليد الافكار لطرح وجهة نظره التي يقرن بها العقل مع النفس كجوهرين غير فيزيائيين خالدين في انعزالهما عن الجسم، وأراد ديكارت بذلك المراوغة في تحييد العقل عن التداخل المتقاطع مع لاهوت الدين بنفس أهميته ألا يتقاطع العقل كفلسفة مع العلم.

 لم يكن ديكارت الفيلسوف الوحيد الذي لا يميز بين العقل العضوي الفيزيائي الذي هو المخ بتكويناته، وبين العقل لوغوس ماهيته التفكير الذي اسماه غير فيزيائي لأنه لا يدرك بغير دلالة غيره من موضوعات، وهنا العقل المقصود غير الفيزيائي اللامادي هو نوس nose   تقتصر ماهيته على التفكير وتوليد الافكار المجردة التي لا وصاية للجسم عليها لكن وصاية العقل العضوي يبقى ساري المفعول عليها.. كون تجريد خلق الافكار الذهنية لا تأخذ مصداقية معناها من غير وصاية العقل العضوي عليها.

صحيح أن التفكير واللغة هما موضوعان تجريديان لكنهما عاجزان عن التفكير واختراع اللغة في التعبير عن الاشياء من دون وصاية دماغ الانسان العقلي عليهما. وبغير هذا الترابط لا يبقى هناك معنى لتفكير ولا يبقى هناك معنى للغة من دون وصاية العقل عليهما. فمصدر التفكير ليس اللغة وإنما هو العقل. فالتفكير توسيط بين العقل واللغة.

نفهم من التفريق الذي طرحه ريتشارد رورتي بين الفيزيائي والعقلي أنه أراد أسقاط هيمنة مبحث الابستمولوجيا المعرفة كأولوية اهتمام العقل بها باعتبارها الفلسفة الاولى التي اشغلت فلاسفة القرن السابع عشر معتبرين مهمة الفلسفة تفسير كيف يمكننا الحصول على المعرفة، وخلاف ديكارت ليس في عدم نكرانه وبإصرار عنيد ان مهمة العقل والفلسفة تزويدنا بالمعارف لكنه  أراد تحييد العقل من المساس بما يراه الدين صحيحا حتى لو عارضه العقل برؤاه... العقل في تمسكه بالأبستمولوجيا كهدف ومبحث فلسفي سابق على كل ما يشغل اهتمامات الفلاسفة في عصره وما قبله.

ولم يكن ديكارت يجرؤ البوح العلني أن وسيلة تحقيق وتحصيل المعرفة في عصره لا يكون بغير توسيط العقل ليس كتجريد لغوي غير فيزيائي وإنما كجوهر فيزيائي يتعالق بموجود تكوين بايولوجيا جسم الانسان بالحياة والفناء.

والسبب في الفرق بين ديكارت ورورتي هو المدة الزمنية التي تقارب ثلاثة قرون تفصل بينهما في اختلاف فلسفتيهما في مراكمة مفاهيم فلسفية جديدة.. في مقدمتها التحول اللغوي وفلسفة اللغة.

فديكارت الذي قال إن مهمة الفلسفة المركزية الاولى هي تحصيل المعرفة أبستمولوجيا، جاء رورتي معتبرا فلسفة العقل واللغة هي ما يتوجب العناية والاهتمام بهما في القرن العشرين والعقدين اللذين تلاه. ولم يبق تلك الاهمية لخدعة ديكارت حين أضل الفلسفة بمفهوم الابستمولوجيا الفلسفة الاولى منذ القرن السابع عشر بحسب إدانة فلاسفة اللغة لديكارت.

فكلاهما ديكارت ورورتي لا يختلفان بأن ماهو فيزيائي هو الذي تنطبق عليه قوانين الادراكات المادية، والعقلي هو الذي يدرك كل ماهو فيزيائي بالفكر المجرد الذي لا يسعى تحقيق وجوده الفيزيائي المادي على حساب التفريط بأهمية تحولات فلسفة العقل من فلسفة تعنى بمركزية تحصيل المعرفة، الى فلسفة عقلية تقوم على تفسير العالم بفلسفة اللغة وليس بقوانين تأتي من خارج نظامها اللغوي الخاص المستقل بها كبنية نسقية لا ترتبط بالعالم الخارجي.

ما فعله رورتي فلسفيا على مستوى كبير من الأهمية التي كانت آراؤه التأويلية نسخة كاربونية محسنة لما قام به بول ريكور والتي انا ادينها وهي:

1) إلغائه مركزية العقل كمصدر للمعرفة،

2) اعتباره نظام فلسفة اللغة هو نظام التوازي مع الواقع لا يقاطعه ولا يحاول التداخل التفسيري معه.

3) اللغة نظام لا تحكمه القوانين التي تحكم العالم الخارجي، فاللغة نظام مستقل داخل منظومة قواعده في النحو والاستعارة والمجاز وفائض المعنى في معرفته تفسير العالم بسلطة اللغة ذاتها وليس بسلطة قوانين الطبيعة الثابتة منها والوضعية ايضا التي اخترعها الانسان معرفيا علميا.. وبهذا غادرت اللغة خاصية التعبير التجريدي عن الاشياء الى خاصية امتلاكها نسقا بنيويا مستقلا بها وحدها.

في التحول اللغوي الذي أرسى فلاسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى مفاهيمه الفلسفية بالقرن العشرين لم تبق هناك حاجة بعد استنفاد العقل لمزاياه الموروثة التي أسقطتها عنه فلسفة ما بعد الحداثة بتنوعاتها الفلسفية بدءا من البنيوية والتفكيكية والتأويلية والعدمية والعبثية، الى وجوب الابتعاد عن قياس فاعلية العقل بعلاقته التواشجية الجدلية عبر القرون مع الواقع المادي... حينما كان الفرد هو مركز استقطاب دوران الفلسفة هو الانسان كذات وكينونة وماهية وصفات في العصور التي حكمت الفلسفة منذ ما قبل سقراط والى نهاية القرن السابع عشر عصر فلسفة ديكارت العلمية.. التي لم تفارق قدسية الذات الانسانية لكنها أي الديكارتية فتحت أبواب الفلسفة على العلم بتكامل مع فرانسيس بيكون.

س54: أ. مراد غريبي: يوجد عبارة تنسب لديكارت من فزعه الشديد من رجال الدين (يسلم من يعش بالظل) وهرب الى هولندا متخفيا حتى أواخر أيام حياته، ما حقيقة الموقف التلفيقي الذي ابتغاه ديكارت في محاولته زواج اللاهوت بالدين زواجا كاثوليكيا؟

ج54: أ. علي محمد اليوسف: في عصر ديكارت حاولت الفلسفة الاهتمام بالمعرفة (الابستمولوجيا) في تقريبها الشديد من دعم العلم وتحصيل المعرفة الإبستمولوجية باشتراط مهادنة رجال الدين وتحييد اللاهوت والكنيسة لأقصى درجات التحفظ من الاصطدام المباشر بهم.

أي أراد ديكارت تلفيق جمع متضادين هما العلم واللاهوت الكنسي اللذين لا تربطهما علاقة جدلية معرفية، ولا تربطهما علاقة عقلية سوسيولوجية هي بمصطلح اليوم (علمانية) تفصل شؤون الحياة ومنجزات العلم من سطوة رجال الدين الذين استفحل امرهم جدا في عصر ديكارت. ولم يجرؤ ديكارت التصريح بوجوب فصل شؤون الحياة وتجارب العلم عن وصاية رجال الدين واللاهوت ليس لأن مصطلح العلمانية لم يكن معروفا عصر ذاك وإنما من ثبات الاتهام بالزندقة والهرطقة وملاحقة ما يسمى لجان التفتيش سيئة الصيت التي تطال كل من يجرؤ التطاول على وصاية لاهوت الدين وما يقوله رجال الدين على تجاوز حرمة فصل العلم عن وصاية تعاليم رجال الكنيسة ولم يكن دقة المصطلح (العلمانية) واردا الذي كان تبلوره النهائي تم في عام 1905 في فرنسا كتشريع قانوني ملزم بعد رسوخ مفاهيم الثورة الفرنسية 1789...

هذا التضاد بين العلم والدين اراد ديكارت حسمه بالتلفيق والدوران حول المشكلة دونما المساس بتغيير أي شيء بين القطبين المتنافسين أكثر من انحيازه نحو العلم بمهادنة رجال اللاهوت الديني، وقلبت الكنيسة المعادلة في تغليب أهمية مركزية الدين كفلسفة اولى بدلا من العلم والمعرفة مبحث (الابستمولوجيا) الذي ساد الفلسفة طيلة مدة القرون الوسطي الاوربية، الى وقت مجيء عصر الانوار الذي سبقته النهضة والاصلاح الديني في وجوب إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر، بمعنى فصل الدين عن العلم وحياة الانسان وحريته الاعتقادية بما يجده ملائما له بحياته. وهكذا بقي المتضادان لا نقل متعايشان بل بقيا في استقلالية أحدهما بعيدا عن التدخل بشؤون الاخر واستقر هذا الاتفاق المعلن الى يومنا هذا بالتوافق بين الطرفين.. مع دخول عصر الحرية والمساواة والانتخابات وحقوق الانسان في مغادرة جحيم القرون الوسطى الاوربية وسلطة لجان التفتيش بوحشيتها المروّعة.

س55: أ. مراد غريبي: ماذا بقي من العقل الفلسفي اليوم بعد ثورة المعلوماتية التي تسيدها العلم التجريبي من جهة، وهيمنة فلسفة اللغة على مباحث الفلسفة جميعها بلا استثناء؟

ج55: أ. علي محمد اليوسف: أصبح العقل اليوم لا يستمد مقوماته المادية بمعيارية المقايسة التداخلية مع الواقع المادي ولا مع الانسان كعالم مستقل بذاته كهوية ماهوية كان قائما وأنهار كقيمة عليا بتقادم تراجع هيمنة المعرفة عن ملازمتها له، لذا أصبح في فلسفة العقل واللغة اليوم الانسان والابستمولوجيا والعقل من مخلفات الميتافيزيقا التي خرجت عليها فلسفة ما بعد الحداثة، أكثرها تطرفا فلسفة دريدا التفكيكية بضراوة شديدة غير معهودة سابقا على معاداة العقل والذات والابستمولوجيا ليس في سبق يحسب لها بل في موروث مقتبس افادت منه جاءت به فلسفة اللغة التي تبلورت بشكل تنظيري فلسفي على ايادي اقطاب البنيوية فريجة ودي سوسير و شتراوس ومن بعدهما حلقتي فيّنا واكسفورد في التحليلية والمنطقية الوضعية وصولا تشعبات فلسفة اللغة الى تيارات متنوعة لا يمكن حصر فلاسفتها ورؤاهم المستمدة جميعا من الفلسفة الأم الاولى فلسفة اللغة والمعنى التي هيمنت كفلسفة اولى بلا منازع منذ منتصف القرن العشرين.

 وأصبح يراد المطلوب من فلسفة اللغة اليوم التحرر من تداخلها مع فلسفة العقل الخالصة في تمجيدها وتبنيها النزعة العلمية التي بدأها بيكون وديكارت في تكريسهما لها على وجوب أن تكون المعرفة هي جوهر تلاقي العقل مع العلم الطبيعي. وذهب ديكارت الى نوع من الموائمة التي تجعل العقل في تكامله المعرفي مع العلم والدين تلفيقية ساذجة. على العكس تماما مع ما حصل في فلسفة العقل واللغة اليوم في ابتعادها عن تعالقها مع العلم وكل من الابستمولوجيا والدين. واشتغلوا على فلسفة العقل التي لا توازي فقط المعرفة بل التقاطع معها كما في اقطاب فلاسفة التأويلية، في تحقيق مهادنة التوافق مع اللغة في تياراتها المتعددة التي يحتويها التحول اللغوي وفي نظرية فائض المعنى الذي تدخّره اللغة على الدوام في تعدد القراءات الجديدة وتأويل النص في البحث عما وراء الكلمات في غير المباح عنه. كما اعتمدها رولان بارت، فوكو، وسوسير في البنيوية وعمق هذا التوجه بعدهما بول ريكور في التأويلية (الهورمنطيقا)، لتجد فلسفة اللغة كبنية تجريدية لا علاقة لها بالعقل والانسان اوج الاهتمام بها في تفكيكية جاك دريدا.

العقل في فلسفة اللغة اليوم تراجع الى ضرورة الاكتفاء الذاتي القائم على ترابطه الفيزيائي بالجسم، ولم يعد تنطبق عليه مقولة ديكارت التي فقدت بريقها العقل جوهر لا فيزيائي ماهيته التفكير وحتميته الخلود في ملازمته خلود النفس. هذا التفريق الذي كان تطرق له ديكارت بتردد خجول بين أن يكون العقل لا فيزيائي أكثر منه فيزيائيا ما ترتب عليه انتشار مقولة ديكارت أن وسيلتنا الوحيدة في معرفة أنفسنا والعالم والطبيعة من حولنا هو العقل الذي لا يقاطع ولا يتداخل مع ما هو ديني. وكان الفارق الزمني بينه وبين التقائه بفلسفة فرانسيس بيكون لا يتجاوز بضعة عقود في توجههما تتويج العقل أثمن قيمة في معرفتنا العالم وتحقيق تقدمنا العلمي فيه. ودام هذا الاعتقاد الفلسفي راسخا قرونا طويلة الى أن كنسته تماما فلسفة العقل ونظرية التحول اللغوي وفائض المعنى في الفضاء الرحب الذي فتحته ما بعد الحداثة أن من حقك أن تقول كل شيء ولكن ليس من حقك مصادرة أي شيء لغيرك هو حر في امتلاكه أو الايمان به يخالفك الرأي فيه ...

هذه الارضية مهدت لريتشارد رورتي وعديدين من فلاسفة أمريكان مثل جومسكي، سيرل، كواين، وسيلارز، وسانتيانا وغيرهم من اقطاب فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي الى تنحيتهم العقل مصدرا للمعرفة، بدلا من المعرفة التائهة التي باتت تبحث عن وسيلة التعبير عن ذاتيتها في تغييب سندها الصلب العقل الذي أسقطته ما بعد الحداثة معتبرة إياه ميتافيزيقا تجاوزها الزمن من منزلة الاحتكام والمرجعية التي يقاس الصواب والحقيقي بمعيارها..

س56: أ. مراد غريبي: أين مكانة فلسفة اللغة من العقل؟

ج56: أ. علي محمد اليوسف: من المثير للاستغراب اننا إذا ما تماشينا مع نظرية إعدام العقل وسيلة معرفية يمكن الوثوق بها، فإننا بقصد نعيه ندركه أو بقصد لا نعيه ولا ندركه نضع (العلم) في قفص الاتهام بتهمة تضليله العقل، أو تضليل العقل للعلم لا فرق... وبهذا نجد أقصر السبل في مصادرة العقل واستهدافه في استبعاده وانفكاكه عن الابستمولوجيا التي أخلت موقعها كفلسفة أولى لازمت العقل قرونا طويلة، وكذلك استبعاد العقل عن تعالقه بكل ما هو واقعي في تعطيلهما معا وظيفة كل منهما الاخر.

لم تكن فلسفة العقل واللغة تقوم على مكنة وقدرة العقل فهم العالم الذي وصل قبل نهايته الى طريق مسدود في ما بعد الحداثة، لذا نجد فلسفة اللغة اعتمدت العقل بما لا يفقده آخر معاقله في التجريد في وقت لا يكون العقل ينتزع من اللغة طوباويتها التي تدور حول مركزية تأويل النص اللغوي في تعدد القراءات التي يتمحور دورانها حول خاصية اللغة في ملاحقة فائض المعنى الذي تدّخره اللغة بما هي لغة قبل انهمامها أن تكون اللغة وسيلة العقل في فهم العالم وتفسيره والتعبير عنه. وهذه الميزة اللغوية النظامية تفتقدها صرامة العقل الذي يرى الواقع بعيدا جدا عن اهتمامات الفلسفة اللغوية المعاصرة.. وبقي تجريد اللغة في فلسفة اللغة هو عملية التفكير اللاعقلي في تنحية واستبعاد الواقع عن تعبيرات اللغة عنه بما هو معرفة وليس بما هو وجود. بمعنى على خلاف أن تجريد اللغة هو تعبير العقل عن الواقع نجد فلسفة اللغة رأت في تجريد اللغة الاهتمام بنظام نسقي خاص بها بعيدا عن أي التزام آخر، ولو استطاعت فلسفة اللغة الغاء التوظيف التواصلي كخاصية سوسيولوجية لغوية لما قصّرت المطالبة به في القفز من فوقه في إعدامها تعالق اللغة بالواقع الاجتماعي على الخصوص. وعديد من فلاسفة اللغة ذهبوا بهذا المعنى في استهجانهم أن تكون اللغة توسيط فهم الواقع التواصلي والتداخل به. على حساب بحث اللغة تأسيس نظام لغوي خاص بها بعيدا عن الواقع الاجتماعي والطبيعي. ولعل بول ريكور وفلاسفة المنهج التأويلي بعده ومن عاصروه ذهبوا هذا المذهب المتطرف.

س57: أ. مراد غريبي: قرأت أنكم لا تؤمنون بوجود جدل تاريخي يحكم المادية التاريخية لا ماركسيا ولا هيجليا، كيف توضح لنا هذه الانتقالة الفكرية لديكم؟

ج57: أ. علي محمد اليوسف: نعم في الفترة الاخيرة كان لي رأيا مفاده كلا المنهجين الجدل المثالي والجدل الماركسي لا يمتلكان التحققات العلمية التجريبية الحادث حصولها على صعيدي المادة والتاريخ أو التحققات غير الفلسفية من عدم حدوثها. فالحتمية الضرورة هي تصورات نظرية فلسفية وأحكام تلزم التاريخ بها كقانون وهي ليست من حركة التاريخ بشيء. ليس مهما بنظري البحث عن هل التطور الذي يحكم الحياة البشرية موزّعة على تطور الظواهر المادية وتطور مسار التاريخ تتم في منهج مثالي إعتمده هيجل أو منهج مادي إعتمده ماركس بقدر أهمية الجواب على التساؤل: هل الجدل حقيقة قائمة تاريخيا حصلت وتحصل أم هي أوهام نظرية ابتدعتها ايديولوجيا اليسار والفلسفتين المثالية والمادية على السواء؟

من المسائل العديدة الواجب الوقوف عندها هي كيف نجزم حصول الجدل بقوانينه الديالكتيكية الثابتة التي قادت التطور التاريخي عبر العصور، خير مثال يعزز أن قوانين الجدل تبقى تقديرات نظرية تتطلب منهج التحقق الحصولي المادي لها هو أن الرأسمالية تطورت ووصلت مرحلة العولمة في نهاية التاريخ ولم تعتبر الجدل سوى منهج غير واقعي وهمي يهم المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي القديم.

وليس معنى هذا النفي الاختلافي المتضاد أن النظام الرأسمالي يمتلك نظرية منهجية للتاريخ قادت الى مراحل الديمقراطية الليبرالية وتحسين ظروف العمل حيث كانت تنبؤات هربرت ماركوزا وغيره من فلاسفة أنه لم يعد هناك تنازع مصالح طبقات بالنظم الرأسمالية تتصارع بين مصالح الطبقة العمالية وطبقة الرأسماليين بعد تحديد الاجور وساعات العمل وتامين الضمان الصحي والتقاعد للعمال والشغيلة وغيرها من مكاسب وامتيازات اذابت جبل الجليد الفاصل بين الطبقات الكادحة المحرومة من الحياة الكريمة والطبقات الرأسمالية التي تمتلك كل رفاهية الحياة وتوريثها لأبنائها من بعدها.

س58: أ. مراد غريبي: كيف ترى التطور التاريخي خارج مفهوم الجدل المثالي والجدل المادي؟ هل التناقض الجدلي وهم حقيقة فلسفية فقط كما عبرت عن ذلك؟

ج58: أ. علي محمد اليوسف: ما ارغب تأكيده هنا أن التاريخ مجموعة من المتلاحقات العشوائية القائمة على الفعل ورد الفعل وأن التاريخ لا يتقبل منهجا يستوعبه في توالي الصدف الطارئة غير المتوقعة التي تحرف مساره بما لا يستطيع المنهج إحتوائه ومعالجته. وقبل طرح تفاصيل وجهة نظري أن التاريخ غير غائي ولا يستوعبه منهج ولا تحكمه ضرورة نظرية أمهّد قليلا بالتالي بعد أسطر.

يرى هيجل أن الواقع في حقيقته الوجودية (جدليا) لأن العقل نفسه الذي يدركه ذو طبيعة جدلية – هنا يقصد هيجل بالعقل هو الفكر - بخلافه ارجع ماركس جدلية الفكر الى جدلية الواقع الذي نعيش فيه.. هذا الخطأ الذي وقع به هيجل إعتباره جدل الواقع قائم لأن العقل ذاته ذو طبيعة جدلية فهو أخذ بسببية هيوم على صعيد جدل الفكر في تجريديته غير الانفصالية عن جدل الواقع. الشيء الاكثر اهمية في خطأ هيجل أن جدل الواقع لا يداخل جدل الفكر. وهذا ما شكل ركيزة غاية بالأهمية إعتمدها ماركس إعتباره الجدل يتم بموضوعية واقعية مستقلة لا علاقة لها برغائب الانسان ولا قدرة لجدل الفكر تسيير جدل الواقع ولا جدل التاريخ.

بمعنى في حال تسليمنا أن الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن وعي الانسان به وعن إدراكه تطبيقيا وليس تنظيرا ايديولوجيا – فلسفيا.

لتوضيح هذا الاختلاف الذي تم وصفه بالاختلاف المنهجي المثالي بالضد من المنهج المادي حول الجدل أو الديالكتيك يرى هيجل فيه أن الوجود الواقعي – الاجتماعي إنما يستمد (وجوده) من الذات المدركة له الذات العارفة. هذا منتهى التطرف المثالي ليس في إنكاره الوجود خارج إدراك العقل وانما إنكاره لأي نوع من ديالكتيك جدلي يحصل خارج تفكير الانسان لا في المادة ولا في مسار التاريخ.

خطأ هيجل في هذا التعبير هو في خلطه بين إدراك الشيء في موجوديته الطبيعية المستقلة عن إدراك موجوديته الجدلية مع الذات التي تدركه وبغير ذلك أي بغير وجود الذات المدركة لا يكون هناك للأشياء وجودا مستقلا سواء أدركته الذات أم لم تدركه حسب مثالية هيجل ومن بعده. الوجود الشيئي بالواقع لا يحدده الادراك العقلي له.

الذات لا تدخل جدلا ديالكتيكيا مع الواقع بسبب انتفاء المجانسة النوعية بينهما، وحتى لو قلنا أن الفكر يدخل بجدل ديالكتيكي مع المادة فهذا لا يغّير من حقيقة الامر شيئا في إنعدام المجانسة النوعية مع المادة في وحدة الماهية والصفات بينهما. أي ماهية وصفات الفكر لا تلتقي في مجانسة نوعية ماهية وصفات المادة وهذا بحد ذاته سببا كافيا أن الفكر لا يدخل في جدل ديالكتيكي لينتج لنا ظاهرة مستحدثة جديدة تسمى المركب الثالث. الحقيقة أن علاقة الفكر بالمادة علاقة تكامل معرفي تخارجي يتوسطهما التأثير المتبادل بينهما. الفكر يؤثر بتطور المادة، والمادة تؤثر بتطور الفكر ايضا. وليس هناك علاقة جدلية تربطهما ببعض.

من هذا الخطأ الفلسفي الذي إعتبره ماركس مثاليا لا حقيقة له في الواقع الذي يراه ماركس وجودا موضوعيا مستقلا ولا يستمد موجوديته من ادراكية الذات له. وإذا ما ترجمت هذه المقولة اسقاطيا على حركة التطور التاريخي، نجد ماركس محقا قوله "وعي الانسان لا يخلق الواقع، بل الواقع يصنع الوعي".

ويعتبر بعض الفلاسفة والمفكرين ان مقولة ماركس تلك كانت ثورة لا تقل اهمية وتأثيرا عن ثورات كل من سقراط، بيكون، هيجل. ومن السخرية أن نجد المثاليين ينكرون هذه الحقيقة قولهم لا وجود مادي خارجي لا يدركه العقل. الملاحظة التي برأيي تم غفلها أن ماركس لم يقل وعي الانسان يخلق جدل الواقع. فالجدل في حال التحقق من حدوثه على صعيدي المادة والتاريخ فهو جدل وقانون طبيعي يعمل بمعزل عن وعي الانسان له وبمعزل عن تلبية رغائبه. كما أن عبارة هيجل الجدل الديالكتيكي حاصل لأن طبيعة العقل جدلية، فهي عبارة لا معنى لها أكبر من خطأ الفكر يصنع الواقع ويوجده.

س59: أ. مراد غريبي: في ختام هذا المحور، ماهو مجمل رأيكم فيما تطرقتم له بالإجابة عن الاسئلة السابقة حول مفهومكم ان الجدل ليس قانونا طبيعيا يحكم المادة والتاريخ ويعمل بمعزل عن ارادة الانسان كما تذهب له الماركسية؟

ج59: أ. علي محمد اليوسف: أجمل رأيي بالتالي:

أصبح اليوم مراجعة دراسة كيف تطور التاريخ ليس مهما، اسبقية المادة على الفكر أو بالعكس؟ بل الاهم مراجعتنا هل جدل المادية التاريخية هو التفسير العلمي الوحيد الذي نادت به الماركسية صحيحا؟ لا توجد براهين ثبوتية لا على صعيد المادة ولا على صعيد التطور التاريخي تثبت لنا أن قوانين المادية التاريخية الكلاسيكية الثلاث التي وضعها ماركس وانجلز (قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول الكم الى كيفيات، والثالث قانون نفي النفي) هي قوانين جدل اكتسب علميته بالتجربة الميدانية الحقيقية اجتماعيا تاريخيا وعلى ارض الواقع بالحياة التي نعيشها وعاشها آخرون من قبلنا على مر العصور. ربما تكون حقيقة تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي صحيحا لكنه لا يكون ولا يمتلك بمفرده إحداث جدل على مستوى التاريخ يمكن التحقق منه، انما تصح هذه التحولات من كمية الى كيفية أن تكون واحدة من قوانين الطبيعة التي يدركها الانسان بمفهوم السبب والنتيجة وحدوثها يحصل ليس في توليد جدلي بل في توليد (سببي).

الجدل المثالي او المادي على السواء الذي بحسب المنادين به والادعياء له والذي بضوئه نعرف تطورات المادة وتطورات التاريخ لا يقوم على اساس من تناقض نوعي تجانسي في الماهية والصفات يجمعهما داخل الظاهرة الواحدة. فانت لكي تجد جدلا ديالكتيكيا يجمع بين الفكر والمادة في تعالقهما التخارجي لا بد من اشتراكهما في مجانسة نوعية واحدة تشمل وحدة الماهية مع وحدة الصفات لكليهما في تعالق جدلي يجمع نقيضين متضادين ينتج عنهما استحداث الظاهرة الجديدة أو ما يسمى المركب الثالث.

فالواقع بكل موجوداته وتنوعاته الذي يشكل مصدرا للوعي يمتلك مجانسة نوعية في كل ظاهرة فيه تختلف عن غيرها بعيدا عن مدركات الفكر لهذا التناقض الداخلي في وحدة المجانسة النوعية. وهذه المجانسة النوعية المشتركة بين متضادين تجمعهما ظاهرة واحدة يصبح حصول جدل داخلي فيها مستقل عن وعي الانسان له وادراكه واردا حتى في حال عدم إدراك الحصول الميداني جدليا من قبل الانسان.

بمعنى كل ظاهرة لكي يحصل جدلا داخلها منفردة لوحدها لا بد أن تمتلك النقيضين المتضادين فيها مجانسة نوعية واحدة التي هي الماهية والصفات التي تجمعهما في وحدة كليّة، وعندما لا يمتلك الواقع بظواهره المجانسة النوعية في داخل ظواهره لا يحصل جدلا داخلها بمعزل عن الفكر أو بتداخل تخارجي للفكر معه.

الشيء الذي أراه مهما ألا نقع في خطأ إعتبار الجدل في المادة مرادفا لا فرق بينه وبين إعتبار علاقة الفكر بالمادة علاقة (معرفية) تكاملية وليست جدلا ديالكتيكيا يقود بالحتم استحداث ظاهرة جديدة أو مركب ثالث.

ليس مهما صحة أو عدم صحة مقولة هيجل أن الوجود ذاتي يستمد موجوديته من الذات المدركة أو العارفة. التي رغم وصمها بالمثالية الفكرية الا انها تشير الى منهج (مادي) في حقيقتها. وبغير هذه العلاقة التي اشار لها هيجل لا يبقى معنى للواقع أن يكون مؤثرا بالوعي، ولا معنى للوعي أن يكون نتاجا للواقع حسب ماركس. هنا نجد هيجل يؤكد على أن الوجود هو إدراك ذاتي لذات عارفة وهو منطق فلسفي سليم لا علاقة ترابطية له مع الجدل الواقعي الموضوعي الذي يجري كقانون طبيعي خارج إدراك الذات لحصوله.. علاقة الذات مع مدركاتها المادية علاقة تخارجية تكاملية معرفية بينهما وليست علاقة جدلية.

عندما يرى ماركس العكس من ذلك أن الوعي هو ناتج إدراك الواقع المادي الذي نعيشه في اسبقيته على تفكيرنا، فهذا ليس معناه ضرورة ربط المادة بالفكر على مستوى تناقض جدلي يجمعهما يقود لناتج حصول متغيرات جديدة وإنما هنا الاختلاف بين هيجل وماركس على مستوى (وعي) و(معرفي) للواقع وليس على مستوى الجدل بينهما.

الجدل المزعوم بين الواقع والفكر هو وهم غير قائم للأسباب الآتية:

الواقع والفكر ليسا قطبي تناقض تجمعهما مجانسة نوعية ماهوية واحدة تدخلهما في تناقض جدلي بمعزل عن ارادة الانسان. فالجدل في حال اثباته قانونا طبيعيا ثابتا كمثل قوانين الطبيعة الاخرى فهو يعمل باستقلالية تامة عن ارادة الانسان وإدراك الذات. وحضور العوامل الموضوعية كعامل مساعد في عملية جدل ديالكتيكي هي الاخرى تكون فاعليتها ليست مستمدة من رغبة انسانية سابقة عليها بل من حاجة جدلية تتطلبها.

قوانين الجدل في حال جرت البرهنة عليها على صعيدي المادة والتاريخ. عندها تصبح وقائعا يتم الجدل فيها خارج ارادة الانسان، ولا معنى لتخارج الوعي المعرفي مع الواقع في خلق الجدل. حينما يعبر هيجل " الجدل وعي ذاتي " فهو كان يرغب خلق جدل فكري غير متأكد من إمكانية حصوله ماديا أو تاريخيا. لتوضيح سبب رجحان مثالية تفكير هيجل أن الجدل يحصل بالفكر فهو ربما كان يدرك أو لا يدرك هيجل أن الفكر لا يجانس المادة بالماهية والصفات كي يرتبطان بعلاقة جدلية وليس بعلاقة تخارج تكاملية معرفية.

الجدل يتسم بحقيقتين اثنتين هما أنه يحصل خارج الادراك الذاتي له، وأنه لا يحتاج الذات الانسانية في استكماله عملية الجدل في داخله لإنتاج مركب ثالث أو ظاهرة جديدة.

لذا إدانة هيجل أن الفكر أو الوعي ليس بمقدوره تغيير الحقائق المادية على الارض هي في حقيقتها صحيحة تمثل قمة المادية وليس المثالية. وهي لا تعطي الجدل جواز مرور حينما لا تعتبره أي الجدل قائما حينما يكون هناك للذات إمكانية إدراك الاشياء والموجودات في العالم الخارجي.

لا يوجد مؤشر برهاني حقيقي تجريبي واقعي مدّعم برهانيا أن هناك جدلا يجري داخل ظواهر وقائع العالم الخارجي بغية وجوب تطورها، كما وليس هناك ما يدلل تجريبيا قاطعا، أن يكون هناك جدلا طبقيا يحكم التاريخ، وليس هناك علاقة جدلية تربط الفكر بالمادة أو بالتاريخ طالما الجدل قانونا طبيعيا موضوعيا يجري بمعزل عن الارادة الانسانية، وأن الجدل هو أحد القوانين العلمية والتاريخية المكتشفة بالطبيعة وليست المخترعة تنظيرا فلسفيا. والاهم انها لا يمكن إدراك حصولها فلم يعد كافيا القول ان تناقض مصالح طبقة العمال والشغيلة تدخل في صراع جدلي تناقضي مع طبقة المالكين الرأسماليين تنتج عنه ظاهرة ثالثة جديدة مستحدثة متطورة.

كما المحت سابقا مقولة هيجل التي مررنا عليها " الجدل وعي ذاتي" يمنحنا برهانا حقيقيا أن الجدل هو وهم افتراضي يحكمه التنظير الفلسفي، وهو ليس قانونا طبيعيا مثل بقية قوانين الطبيعة التي اكتشفها الانسان وبنى علها ثوابت علمية بعد تأكده من حصولها في الطبيعة وفي الكوني، وهذا مالا ينطبق على الجدل الذي بني عليه ماركس وانجلز تطورات التاريخ البشري بشكل إعتسافي لأنه كانت التنظيرات الفلسفية سابقة على قانون الجدل الموجود على صعيد الفكر فقط  كما قال هيجل وليس على صعيد تطور التاريخ الانثروبولوجي المادي كما اراد ماركس.

-يتبع-   

 

حاوره: ا. مراد غريبي

المثقف – مرايا فكرية

26 – 10 – 2021م

 

في المثقف اليوم