مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الباحثة إيمان شمس الدين (2):

خاص بالمثقف: الحلقة الثانية مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

س2: أ. مراد غريبي: كيف تجدين صورة المثقف في مقايسات مفكري العالم العربي والإسلامي المعاصر؟

ج2: أ. إيمان شمس الدين: لست هنا في صدد الحديث عن غيري طبعاً، ولكن سأتحدّث من وجهة نظري القاصرة، حول رؤيتي النّقديّة للمثقّف في راهننا ووظيفته بشكل أعم وأغلب.

هناك ممارسات باتت ظاهرة للعيان تمارسها كثيراً من النّخب ومنها:

المثقف والإرهاب الفكري:

تمارس النخبة غالبا نفوذا، بفضل مواهبها الفعلية أو الخاصة المفترضة، ويفترض في هذه النخبة أن تتولى مسألة حماية الحريات والحقوق العامة والتصدي للفساد في الدولة ومؤسساتها، وتسعى دوما لتكون في مقدمة المطالبين والمنفذين لتطبيق القانون، ورفض كل أشكال التمييز المناقضة للعدالة، ورفض التعاطي بمعايير مزدوجة في القضايا الوطنية، وقضايا المجتمع المتعلقة بحقه كمصدر للسلطات أو حقوقه العامة، كما تدفع باتجاه ترسيخ ثقافة تأدية الواجب الوطني، وتواجه النخبة كل محاولات الإرهاب الفكري من أي جهة كانت.

ولكن واقع النخبة في أغلب الدول العربية، يعاني أولا من التباس هو كيفية تجسيد المصطلح، وفي حقيقة الممارسة وفق ما يجب أن تكون عليه النخبة. خاصة فيما يتعلق بمسألة الإرهاب الفكري، كونها المعنية كنخبة في إنتاج المعرفة والأفكار، وتسريتها لكافة أفراد المجتمع.

فهناك اصطفاف حقيقي للنخبة قائم على أساس مذهبي وقبلي وعنصري، تتعامل فيه هذه النخب وفق ازدواجية معايير فاضحة، بل تمارس بنفسها عملية الإرهاب الفكري من خلال قمع كل أشكال الاختلاف في الرأي، ومحاولة فرض وجهة نظر واحدة وموجهة وفق ما تقتضيه مصلحتها السياسية خاصة.

بل تعمد بعض النخب لتمييع الحقيقة، وخلط أوراقها بالزيف، فقط لتمارس إرهابا في بسط نفوذها العقلي وفق رؤيتها الخاصة ومبدؤها: من لم يكن معي فهو ضدي.

وغالبا ما تنتقض هذه النخب عملية ازدواجية المعايير التي تمارسها نخب من فئات أخرى، إلا أنها واقعا تلجأ هي لنفس الممارسة في ازدواجية المعايير، إما تحت ضغط إرهاب الجماهير أو ضغط إرهاب النخب، التي تدخل في خصومات سياسية تتطلب منها مواقف غير مبدئية، وإنما سياسية يدور قطب رحاها حول المصلحة لا المبدأ.

وبعض هذه النخب تصبح هي بذاتها أداة للإرهاب الفكري في يد الدولة أو الرموز، وبدل أن تكون النخبة أداة بناء ووعي واستقامة تقود الجماهير نحو التقدم، تتحول لمعول هدم وتجهيل وقمع فكري، تشرف بنفسها على رسم خارطة قناعات الجمهور بما يتناسب ومصلحتها، بل يصبح الجمهور هو من يفرض رؤيته عليها وتخضع هي لذلك.

وتتجلى ممارسات الإرهاب الفكري للنخبة، في رفض التعدديات الفكرية والعقدية، وفرض وجهة فكرية أحادية خاضعة لعوامل التغيرات السياسية، التي تنبني في تفاعلاتها مع الراهن على أساس مذهبي وقبلي، وليس على أساس مبدئي.

وبعد كل هذا الارهاب الفكري لكثير من النخب، هل يمكن أن نطلق على هؤلاء مصطلح " النخبة “؟ أم أنهم واقعا هم " نكبة " على عقل الأمة؟

الإرهاب الفكري والإرهاب بالفكر:

الفكر فعل يقوم به العقل والنفس وصورته الكلام، وما أكثر الدعوة الإلهية في القرآن إلى التفكر وإعمال العقل، لما للعقل من دور كبير في حركة الوعي الجوهرية، من داخل الذات إلى خارجها.

ويمثل الفكر ثقل وقوة تضاهي القوة العسكرية، كون منطقة اشتغالها الإنسان وخاصة عقله، فهي تُعنى بعملية الإدراك والوعي العقلي والنفسي، وتحاول عملية التفكير العقلي تجلية المفاهيم والحقائق، من خلال سلسلة عمليات استقرائية معرفية، والربط بينها والخروج بنتائج غالبا ما تكون شبه حتمية.

ولأهمية عملية التفكير والنظر، نجد هناك مراكز بحثية في أمريكا مثلا، هي عبارة عن مطابخ فكرية يشتغل في حقلها عدة مفكرين لا وظيفة لهم سوى التفكير والاستقراء والاستنتاج، ومن ثم رسم الاستراتيجيات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وتعتبر هذه المراكز البحثية، نواة محورية في مؤسسات الدولة، تتكئ عليها السياسات الداخلية والخارجية.

وكما يواجه الناس والدول والمجتمعات بالإرهاب العسكري، فأيضا هناك إرهاب يواجه به الفكر وله عدة أدوات، وتختلف مستويات الإرهاب الفكري باختلاف أيضا مستوياته، فهناك إرهاب دولة، وإرهاب مؤسسة، وإرهاب إعلام وإرهاب أسري، وإرهاب اجتماعي وإرهاب المؤسسات الدينية، وإرهاب نخبوي أو مثقفين، وإرهاب شعبوي.

وأخطر إرهاب من وجهة نظري، هو الإرهاب الديني المعنية به المؤسسات الدينية، ويستخدم به أداة جدا مهمة وحساسة وخطرة في ذات الوقت، وهي الفتوى، لما للفتوى من أثر كبير في تحريك الجماهير، وتحشيدها وضرب كل إنتاجات العقل وحرقها، وفي طول ذلك من الممكن أن تضرب مشاريع الإصلاح والتغيير والتجديد الحقيقية.

وهناك أيضا إرهاب فكري بالفكر، حيث تلجأ اليوم بعض الدول العربية والإسلامية والخليجية خاصة، لتمويل مراكز فكرية، واجتذاب عقول فكرية ومثقفين مشهورة ومنتشرة جماهيريا ومؤثرة في صناعة وعيه لإدارة تلك المراكز الفكرية، إلا أن الواقع جعل هذه المؤسسات الفكرية المعنية بالمعرفة والوعي، منصات تجسسية يتم من خلالها التآمر على دول أخرى والتجسس عليها.

ليصبح الفكر أداة للإرهاب ووسيلة للتآمر، بسبب المنتسبين إليه، الذين تحالفوا مع هذه الدول، لامتلاكها المكنة المالية في تمويل مشاريعهم الفكرية والثقافية الخاصة، في تغليب فاضح وواضح لمصالحهم الذاتية بحجة أنها مشاريع فكرية وثقافية، على المصالح العامة للشعوب، معتقدين بذلك أنهم يستخدمون تلك السلطات لتحقيق حركة وعي جماهيري، وبالتالي إحداث عمليات تغيير على المدى البعيد، متجاهلين أن الغاية لا يمكنها أن تبرر الوسيلة، وأن أهداف النهضة والتغيير، لا يمكنها أن تتحقق بوسائل فاسدة وأموال مسروقة من الشعوب. أو هم مثقفي سلطة، يمتهنون مهنة الثقافة، ويستلمون في قبالها راتبا شهريا، ويبيعون المعرفة كسلعة استهلاكية، يملكون من خلالها سلطة ونفوذ ثقافي، يمكنهم من عقد مؤتمرات فكرية وثقافية بعناوين مهمة، تتصدرها قضايا الفكر السياسي والديني، ولا يكون نتاج هذه المؤتمرات والندوات سوى عملية تخدير بالكلام، وإظهار الدول الراعية كدول داعمة للثقافة والفكر، رغم حكم هذه الدول الاستبدادي، والبعيد عما يطرحه هؤلاء في مؤتمراتهم.

وهذه المراكز تصنع لهؤلاء سلطة ونفوذ تهيمن بها على الساحة الفكرية والثقافية، و ترهب بالفكر الأفكار المختلفة لمنهجها، أو ترهب بسلطتها وهيمنتها المؤسسات والشخصيات الفكرية والثقافية المقابلة لها في المنهج. هذا فضلا عن امتلاك بعض هذه الشخصيات الفكرية والمثقفة المميزة سلطة معرفية تستخدمها لترهب بها الأقل معرفة والمخالف معرفيا لها. والعلم ليس سلطة بل وسيلة نهوض ورحمة.

وإعمال العقل بالأفكار حق يملكه كل إنسان ،ولكنه لا يملك الحق في ترويج هذه الأفكار كمسلمات نهائية أولا، ولا إقحامها في مجالات خارجة عن مناطق اشتغالها وهي الفكر والعقل ثانيا، كمن يحول فكرته مثلا إلى فتوى وهو ليس بفقيه، ولا يملك أدوات ولا مقومات الفقاهة ، نعم يمكنه عرض مشروعه الفكري على الفقيه، إذا ما تعلق مشروعه بالمنظومة الفقهية كتوصيف وتقييم ، ويمكنه عرض مشاريعه الفكرية الخاصة مثلا بقراءة التاريخ أو قراءة المجتمعات أو غيره، على متخصصين في كل علم، كي يبحروا من عالم الفكرة إلى عالم التطبيق والتفصيل في المجمل.

إلا أنه للأسف ما يحصل من قبل المفكرين والمثقفين، إما طرح الأفكار كمسلمات، رغم معرفتهم بتراكم العقل المعرفي، أو إقحام أفكارهم من مستوى التوصيف والتفكير إلى تخصصات تفصيلية تطبيقية، لا يملكون أدواتها ولا التخصص بها.

وما يحدث بحق المفكرين والمثقفين وأفكارهم هو نوع من الإرهاب الفكري، إما من النخب الحزبيين الذين يعمدون إلى استخدام أدوات شخصانية، يسقطون فيها الشخص بتهم تمس سمعته أو تدينه أو نزاهته، وبالتالي يسقط مشروعه الفكري والثقافي، أو من خلال فتاوى تضرب بوجوده ككل.

وبدل مناقشة الفكرة بالحجة والفكرة وإثراء العقل، يكون الحل قتل الفكرة بقتل صاحبها اجتماعيا ودينيا، وهذا ما يمكن تسميته الكسل العلمي.

ما نحتاجه وخاصة طبقة المثقفين والمفكرين والعلماء (النخب)، هو ثقافة الخروج من الصناديق العقلية المغلقة، دون المس بالثوابت المطلقة الحقيقية، الخروج يوفر للعقل آفاق معرفية أكبر ويجعله منفتحا لمناقشة كل الأفكار، ليس كمسلمات وإنما أفكار تحرك العقل لتعيد النظر في الموروث والراهن، وتستطيع استشراف مستقبل أكثر إشراقا.

فلا يعنيني ثقافة " ما يريده الجمهور" لأنها ثقافة شعبوية توهن العقل، وتضيع الحقيقة وتدمر الحياة الإنسانية، وتعيق حركة التطور والتنمية في كافة مجالاتها.

كما لا يعنيني بحجة تشييد مركز دراسات فكرية، ثقافية، التعامل مع الشيطان، واستخدام وسائل فاسدة لتحقيق هذا الهدف.

كما أننا بحاجة ماسة للاستقلال الذاتي، بعيدا عن أموال السلطة، استقلالا يمكن المثقف والمفكر والمشتغل بالحقل المعرفي، أن يبني مشروعه المعرفي بعيدا عن الاستغلال السلطوي لأي جهة، وبعيدا عن تحويل المشروع لأداة للتخدير والتجهيل، وتحويل الفكر لوسيلة إرهاب بالفكر، تبهر الحواس بجمال وحسن الكلام، لكنها لا تحقق أي تغيير معرفي، ولا تحدث وعيا في عقول الناس يدفع باتجاه النهضة الشاملة.

ولتحقيق هذه الغاية وهي استقلال هذه المؤسسات الهامة، يتطلب منا إعادة بناء مفهوم العمل الخيري، الذي يرتكز في الذهنية العامة على بناء المساجد غالبا، رغم أن بناء الفكر وتوجيه العقل هو مقدمة لازمة حتى للصلاة التي يختص بها المسجد. وتجلية مصاديق العمل الخيري وربطها بمتطلبات الزمان والمكان، ومتطلبات الأمة من نواقص على مستوى الفهم والعقل والثقافة، وتغطية مكامن الخلل بما يعود بالخير والنفع على وعي الأمة وفهمها، لا فقط على جيوبها وطرق معيشتها، فالمعرفة بوابة ضرورية للعقل في فهم الله والكون والطبيعة، وهذا بذاته يحتاج بحث منفصل ليس مورده هنا.

ومع بروز وسائل التواصل الاجتماعي برز لدينا مفهوم جديد من وجهة نظري هو مثقف ال social media إن صح التّعبير، أي مثقف وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا بذاته يحتاج دراسة مفصّلة، فليس كل مثقف تواجد في هذه الوسائل هو لا ينطبق عليه مفهوم ووظيفة المثقف إذ أنها من الوسائل المهمة اليوم في صناعة الوعي، شريطة أن يكون من يدير هذا الحساب هو مثقف حقيقي واقعي، وليس مجرد أداة أو وسيلة جديدة لتزييف الوعي، وصناعة الوهم باسم الثقافة، هذا إضافة إلى خطورة هذه الوسائل التي أحدثت خرق مهم في المعرفة وأدّت إلى انعدام السّياق. وهذا بحث جدير جدّا في أن يتم المباشرة به، لأنه بحث إشكالي يحتاج إلى تفنيد وتحليل لفهم ملابساته وإشكالياته وسلبياته وإيجابياته. وتكمن خطورة هذا النوع من الوسائل في المعرفة والثقافة ونشرها في نوعية هذه المعارف وقيمتها ومنطق خبرها ومنهجها، إذ أنها تُطْرَح من قبل شخصيات محجوبة غير مرئية، وهو ما يتطلب تحقق مضاعف من المضمون أي الخَبَر، ومن المُخبِر، وهو ما يمكن فهمه من خلال مراجعة كتاب مدخل إلى نقد المعرفة النقليّة لإكسل جلبرت ترجمة د.صلاح الفضلي، ومراجعة د. مرتضى فرج.4907 ايمان شمس الدين ومراد غريبي

س3: أ. مراد غريبي: الحديث عن المثقف هو من صميم إشكاليات الحرية والمقدس والوعي والتجديد والإصلاح، هل برأيكم لا يزال المثقف العربي الراهن بعيد عن حلحلة جدليات الواقع؟ ولماذا؟

ج3: أ. إيمان شمس الدين: حتى أجيب على سؤالكم الكريم لابد قبلا من الوقوف على هذه المصطلحات الإشكالية وتوضيح دلالاتها حتى يتسنّى للقارئ الكريم الانطلاق من منطلق منهجي يوضح له المسار.

كنت في الأجوبة السّابقة تعرّضت لمفهوم الحريّة وتعريفه، وسأتطرّق الآن لمفهوم المُقَدّس وعلاقته بالحريّة.

يعرف المقدس بأنه في مقابل الدنيوي ويعرف المقدس في أنه مقابل المدنس، ويعرف المقدس بانه كل شيء متعال، ويعرف المقدس بأنه ما يرتبط بالدين وتجلياته وتعبيراته.

والتعريفات للمقدس تعريفات كثيرة ومتنوعة في الواقع، لكنه يمكن أن نخلص من هذه التعريفات إلى أن المقدس هو مقابل المدنس، يعني الشيء المرتبط بما هو متعال، أساساً هل أن المقدس يساوي الديني أو لا يساوي الديني، بلا شك أن المقدس هو ديني، ولكن أحياناً للمقدس حقل خارج الدين بمفهومه المتداول والمتعارف، لأنه يرتبط أيضاً بطبيعة المجتمعات وحدود المقدس فيها، هذه المسألة يمكن أن نلاحظها في انثروبولوجيا الدين، ويمكن أيضاً ملاحظتها في سيسيولوجيا الدين خلال مقاربات انثروبولوجية (علم الإنسان) أو مقاربات سيسيولوجية (اجتماعية)، أو حتى مقاربات سيكولوجية (نفسية) في علم نفس الدين، نقدر أن نتعرف على تجليات المقدس وتعبيراته وطبقات المقدس ونفوذه وعوالمه ومجالاته، المقدس ظاهرة موجودة حيث وجدت الحياة البشرية، وواحد من البنى العميقة في الوعي واللاوعي البشري، حتى المجتمعات شديدة العلمنة - اذا صح التعبير - لا يمكن أن تغادر المقدس لأنه موجود في بنيتها العميقة، ونجد دائماً تعبيراته في حياتها(د. عبد الجبار الرفاعي، جريدة الصباح، 27/1/2010م).

الحرية والمقدس:

يطرح موضوع الاعتقاد في سياقه مفهوم المقدس، وعلاقة هذا المقدس بالحرية، وهي جدلية نعيشها في راهننا وتتجلى دوما في التعدي على المقدسات بحجة الحريات، وانقسام النخب إلى قسمين:

. قسم يعتبر ذلك حرية تعبير لكل فرد حق في ذلك؛

. قسم يعتبر هذا تعدّي على المقدّسات يجب منعه ومواجهته.

هذه الجدلية تعود إلى طبيعة العلاقة المتصورة بين المقدس والحرية، وانطلاقا من كل تصور ومنشأه الفلسفي والمعرفي، تختلف زوايا النظر، فحينما ننتمي إلى مدرسة معرفية ترى أن الحرية هي القيمة الكبرى والهدف والغاية، بالتالي يجب الدفاع عنها ورفض أي شكل من أشكال تقييدها، وأن العدالة عليها أن تكون هنا في خدمة هذه الغاية الكبرى، وهذا ما يتبناه الغرب بأغلب مدارسه الفكرية والفلسفية كما أسلفنا سابقا.

في المقابل توجد أطراف تعتبر الحرية قيمة أداتية، وقيمة من مجموعة قيم ومثل عليا، بالتالي عملانيا لا يمكن التعاطي مع قيمة الحرية بمعزل عن المنظومة القيمية الكاملة، وأن تكون الضابطة هي تحقيق هذه الحرية للعدالة والكرامة الإنسانية، هذه المنظومة القيمية الكاملة تحدد بعض الحدود والضوابط على مستوى الممارسة.

واختلاف المرجعيات المعرفية والمعيارية يؤدي إلى اختلاف النظر إلى مفهوم الحرية، خاصة عندما يكون هذا الاختلاف يدور بين جهة لا ترى النص الديني مصدرا معرفيا، ولا مرجعية معيارية ضابطة، وجهة أخرى تراه أحد أهم مصادر المعرفة، وأحد أهم المرجعيات المعيارية الضابطة في منظومتها الفلسفية والفكرية.

"إن هذه الضوابط والحدود ليست تقييدا لقيمة الحرية، وإنما في هذا الموضوع أو القضية الأولوية لقيمة أخري مختلفة عن قيمة الحرية..

فمن يمارس حريته هو من يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه.. فمن لا سلطة له لا حرية له، فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات، يتغير به المرء عما هو عليه، بالكد والجهد، أو المراس والخبرة، أو السبق والتجاوز، أو الصرف والتحول، مما يجعل إرادة الحرية مشروعا هو دوما قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء". (محمد محفوظ، ص 12 و13)

وتعتبر هذه المفاهيم كالحرية والمقدس والوعي ملفّات مفتوحة أمام عمليّات الإصلاح والتجديد عبر العصور المختلفة، كونها مفاهيم تطوريّة عبر الزمن، ومُتّصِلة بوعي الإنسان وإدراكه المتطوّر أيضا.

إن المنهج النهضوي الفكري في الإصلاح والتجديد يسير في خطين متوازيين:

الأول: البناء الداخلي، وسبر أغوار الإشكاليات التي أعاقت إبرازه كحضارة نهضوية مستديمة في سيرورتها التاريخية، واكتشاف أهم نقاط الضعف، ونقد الذات نقدا موضوعيا صريحا من موقع المتمكن، والمعتز بهويته الاسلامية، لا موقع التابع والمنهزم نفسيا، ومستفيدا من الحضارات الأخرى وتجاربها البشرية في موضوع النهضة والإحياء. ويتطلب ذلك تفكيك بنيوي داخل ديني ابستمولوجي (معرفي)، نشخص من خلاله أهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الاسلامية، بالاعتماد على قراءة تجارب مصلحين سابقين.

الثاني: البناء الخارجي، والمتعلق بالحضارة الغربية والعوامل الخارجية المؤثرة في عملية التغيير. والتجارب البشرية في هذا الصدد، والاطلاع على كل إسهاماتها وأفكارها وثمارها اطلاعا علميا لا تابعا، ناقدا لا مسلما، مستفيدا لا مستنكفا، مدركا الفروق الجوهرية ومكامن خلل الاسقاطات والمقايسات بينه وبين حضارات أخرى. وتوضيح إرهاصات كثير من الأفكار الغربية، التي أحدثت ضجيج في أوساط المثقفين والمفكرين، وبين البنى المعرفية والفلسفية التي تعتبر القاعدة التي تنطلق منها كل هذه الأفكار، محددا معالم المصطلحات وأوعيتها المعرفية التي انطلقت منها.

وللعقل دور جوهري في عملية الإصلاح والتجديد والنهضة، "فالعقل هو الوسيلة التي ينبغي أن يستثمرها الإنسان لتمييز ذلك، لأن بواسطته يستطيع تأمل تجاربه فيدرك بذلك انحرافه، وجذور تراجعه. ولقد يدلنا العقل بسهولة وبساطة ويسر، ويرشدنا إلى أن الإنسان استثمر على مدى الزمن قدراته وما أبدعه في سبيل خدمة أهداف تنافي طبيعته، وتتجاوز مقتضيات فطرته، ومن أجل غايات وهمية وآمال زائفة وطموحات متهورة، وإشباعا لغرائز متفلته ومندفعة وطاغية، لم تجد في طريق انطلاقها عائقا يحد منها، أو وازع يخفف من غلوائها، فكانت نتيجة لذلك الانهيار الشامل لتجارب والدمار الكلي لأمم، والفناء المحقق لشعوب، والقهر المقيت لمجتمعات. " (مطهري، الاسلام ومتطلبات العصر، ص ٣٥)

والمتتبع للدعوات الاصلاحية تاريخيا، ومدى تحقيق مطالبها على أرض الواقع، من خلال استقراء حال الأمة يمكنه تلمس مكامن الخلل والنكوص، والنجاح والانجاز وأسباب كل منهما. ولكن ماذا عن حقيقة دعوات الإصلاح والتجديد التي يتبنّاها كثير من النّخب والمثقّفين؟

الإصلاح وحقيقة الشعارات:

كثيرة هي الشعارات الاصلاحية التي رفعت في سبيل النهضة والتطوير، وعادة تكون الشعارات هي عناوين عامة، وخلاصات لمشاريع نهضوية، يراد لها أن تُفَعَّلْ على الواقع الخارجي.

لكن مع كثرة دعوات الاصلاح في العالم العربي والاسلامي، إلا أن واقع الحال لا يعكس هذا الكم من الدعوات والحراكات، والأسباب كثيرة لكن قد يكون أهمها هو:

* أن تكون مجرد شعارات لتحشيد كم عددي من الجمهور، مع عدم وجود رؤى واستراتيجيات حقيقية للمشروع الاصلاحي الذي رفع كشعار.

* وجود فارق وفجوة بين المُنَظّرين للعمل الإصلاحي والواقع، وعدم قراءة حيثيات ومعطيات الواقع، وما هي الاستراتيجية الموائمة لإصلاحه، سواء استراتيجيّات آنية أو على المدى البعيد، بالتالي تتحول عملية الاصلاح لمجرد نظريات غير قابلة للتطبيق، أو لا يسعى أصحابها للارتقاء بوعي وقابليات الناس، وتصويب الواقع ليصبح قابلا لتطبيق نظرياتهم.

* قد يطرح كثير من النخب والعلماء مشاريع إصلاحية فاعلة، وموائمة للواقع ومعطياته، ولكنهم لا يكملون فاعليتهم في مشاريعهم لأسباب عديدة أهمها:

١. رحيلهم عن الدنيا قبل إتمام رؤيتهم، وعدم وجود حَمَلَة أمناء يكملون مسيرتهم وتطويرها.

٢. وجود حَمَلَة لكنهم لم يدركوا أو يستوعبوا المشروع كما طرحه صاحبه، بالتالي يتم حرفه أو تفريغه من أهدافه الكبرى، لاختلاف الفهم والإدراك، بل لاختلاف العزائم والهمم.

٣ـ قد يدرك الحملة المشروع لكن تدخل أهواءهم ورغباتهم في تحصيلهم لموقع أو لمكانة ما، فيحتفظون بكثير من حقائق المشروع الإصلاحي، حتى ينسبوه لأنفسهم ويتسلقون به للوصول.

٤ـ قد يخشى بعض وارثوا المشروع على مكانتهم الاجتماعية والعلمية، ويخافون من ردود فعل العوام من الناس، أو أصحاب الرؤى الكلاسيكية والمُتَشَدّدة على ما يحمله المشروع، من قدرة لزعزعة العادات والتقاليد المخالفة للعقل والشرع، وتصويب كثير من المعتقدات المتوارثة عن الأجداد، لا وفق مبدأ الدليل والبرهان، بالتالي يخفون معالم المشروع.

٥ـ قد يتم قتل وتقويض المشروع في مهده، خوفا وادعاء لعدم قابلية الواقع الخارجي لهذا المشروع، بدل أن يشمروا عن سواعد هممهم وعزائمهم ويخوضوا معركة مع العقول والقلوب، لتهيئة الواقع والنهوض بالقابليات.

٦ـ وجود مشروع نهضوي موائم، ولكنه سابق للزمان والمكان، بالتالي مواجهته بالقتل الاجتماعي من خلال تسقيط شخصية حامله، أو محاصرة المشروع بالإرهاب الفكري والاجتماعي.

٧ـ استيعاب صاحب المشروع الإصلاحي لمشروعه نظريا، لكنه لم يدرس الآليات التطبيقية المناسبة للواقع الاجتماعي، وممارسة البعض منهم منهج الصدمة في طرح رؤاه الإصلاحية، والتي ووجهت كثير منها بردود فعل عنيفة، أفقدت ما هو حقيقة في هذه المشاريع قيمتها، وتمزقت كحقيقة بل سقطت في أذهان أغلب من سمع عنها أو أدركها، نتيجة منهج الصدمة وردود الفعل، مما يتطلب عقودا وأجيالا لإعادة إحيائها مجددا، وهو ما قد يعني تأخر في مسيرة التقدم والنهضة سنوات عديدة، فقط بسبب منهج خاطئ أو آليات تطبيقية غير مناسبة.

٨.دخول وسائل التواصل الاجتماعي في فضاء المعلومة ونقلها، وهو ما هدّد السيّاق، حتى قال أحد الفلاسفة بانهيار السّياق في هذه الوسائل، وانجذاب أغلب النّاس لهذه الوسيلة السريعة والسّهلة في تلقّي المعلومات، وهو ما هدّد منطق وأبستمولوجيا الخبر بالمعنى المنطقي، الذي يعني المركب التام الذي يصح أن نصفه بالصدق والكذب، وقوض فكرة أهمية منهج الدّليل للوصول إلى الدّليل في عالم المعرفة والفكر. فالمعارفُ المستقاة من الأخبارِ المنقولة، بالغةُ الخطورة، لأنَّ احتمالَ الاشتباه فيها مرتفع، فهي عُرْضة لتحريفٍ مقصودٍ أو غير مقصود، عند نقلِ الخبر أو تحليلِهِ.

لذا حذَّرَ القرآنُ من التَّساهُلِ في قبولِ الأخبار من مصادر غير موثوقة، فقالَ تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ". (الحجرات: 6)

س4: أ. مراد غريبي: ننتقل لبعد آخر يتعلق بعلاقة المثقف بالدين، كيف ينظر المثقف للدين وما مدى واقعية مسمى الفقيه المثقف أو العكس؟

ج4: أ. إيمان شمس الدين: تختلف البنية المعرفية للمثقف ما بعد العولمة، عن بنيته ما قبل العولمة، وهو ليس اختلافا في الجذور وإنما في التشكيلات المعرفية الفوقية، التي ضعضعت عند بعضهم الأصول بسبب الكشوفات المعرفية التي أماطت اللثام عن حقيقة التاريخ، ومدى وثاقة ما تم نقله إلينا من رواية تقص علينا أحداثه بما تحمله من موروث ديني من جهة، وما تحمله من دلالات ومحمولات معرفية من جهة أخرى.

وخاصة مع إماطة اللثام عن مناهج علمية رصينة في قراءة التاريخ، استطاعت رسم خارطة طريق أولية لأحداث التاريخ في الماضي، وكيف على ضوء هذه المناهج تهاوت كثير من المسلمات المعرفية، التي شُيِّدت عليها ووفقها كثير من الأفكار والمعتقدات والمسارات، وانهيارها بعد تطبيق المناهج الجديدة في قراءة التاريخ عليها، قوض أغلب تلك التركيبة الذهنية المعرفية المرتبطة بها. خاصة مع غياب الممارسة النقدية السليمة، والتسالم الاطمئناني في النقل بين الشخصيات العلمية الكبيرة، التي طغت علميتها وعظم إنجازاتها رغم بشريتها على الجو العلمي العام، وساهم ذلك في نشوء هيبة علمية في ذهنية اللاحقين، منعتهم عن النقد والتقييم والمراجعة لنتاجهم المعرفي ونقلهم التاريخي خاصة فيما يتعلق في النصوص الدينية، أو ما يتعلق بالأحداث التاريخية بشكل عام والمشهد الديني فيها بشكل خاص، مع اكتشاف مخطوطات جديدة وحفريات أماطت اللثام عن حقب تاريخية كشفت لنا مشهدا آخرا من التاريخ الموروث كتابة ونقلا.

طبعا نحن هنا لا نقيم المناهج القارئة للتاريخ، ولا ما توصلت له من نتائج، ولكننا نوصف مسارا معرفيا في شكل البنية المعرفية وكيفية تكوينها ومصادر هذه المعرفة التي شكلت معارف المثقف، والمؤثرات التي لعبت دورا في تغيير هذه البنية وتقويض بعض أسسها، أو تغيير بعض مساراتها ومسلماتها، بل وثوابتها.

ومع تطور الحركة العلمية ومناهجها في قراءة التاريخ، وما تحقق من انكشافات على يد كثير من روادها، وإعادة استثمار هذه المناهج من قبل المتخصصين في التاريخ الاسلامي، وكشف كم التزوير الذي تم في كتابة التاريخ من قبل المؤرخين أو ضياع أحداث تاريخية لأسباب أهمها:

١. قيام السلطة الحاكمة بالهيمنة على عملية كتابة التاريخ، من خلال شراء كثير من العلماء والمؤخرين بشكل مباشر أو غير مباشر، ودفعهم لكتابة تاريخ يتناسب ومرادهم وطموحات السلطة.

٢. ونتيجة هذا الدس من قبل السلطة تولد رد فعل معاكس من قبل تيار حاول كتابة التاريخ، لكنه فعل ذلك كرد فعل، وهو ما قد يخضعه لانفعالات ذاتية تجعله غير موضوعي في النقل، وغير منصف حتى مع السلطة التي لا يواليها، فينقل التاريخ من وجهة نظره هو.

٣. هناك من حركته العصبيات المذهبية والقبلية، وتحت شعار الدفاع عن الدين، أو الكذب بحجة الحفاظ على مدرسة هو ينتمي إليها، فقام بكتابة التاريخ ونقل الموروث منطلقا من هذه المنطلقات والتحيزات، التي عادة تبعد المؤرخ أو الراوي عن الموضوعية والإنصاف العلمي، بل تمنعه من التحيز للحقيقة، حتى لو خالفت مراده وأهدافه.

٤. هناك من كتب التاريخ ورواه ونقل الموروث بموضوعية وإنصاف، لكن هؤلاء قلة، وقد تصدى عبر التاريخ لهم إما السلطة الحاكمة، أو المخالفين لهم مما لا يريدون للتاريخ أن ينقل كما هو، فتمت إما ملاحقتهم، أو تم إخفاء كل منتجهم المعرفي وروايتهم التاريخية المنصفة، وقد كشفت بعض حملات التنقيب عن الأحافير والآثار، عن بعض المخطوطات المهمة في تلك الحقب الزمانية.

٥. الحروب وما خلفته من دمار طال المكتبات الإسلامية بما فيها من مخطوطات وموسوعات، كانت تضم كثير من أحداث التاريخ ونصوصه خاصة النص الديني، وحرق كثير من المكتبات الخاصة ببعض الشخصيات الدينية، لأسباب بعضها مذهبي وطائفي، وبعضها جاء نتيجة الحروب الداخلية أو الإغارات من قبل الأعداء الخارجيين.

إذا نحن أمام أزمة ثقة بالمنقول من الموروث، لا تدفعنا للرفض المطلق له، ولا التسليم الاطمئناني الساذج إليه، بل تدفعنا لفتح باب دراسة هذا التاريخ على مصراعيه للمتخصصين، واستخدام المناهج الحديثة في عمل حفر عميق في بنيته الداخلية والخارجية، وإعادة كتابته بعد تخليصه من التزييف الذي أحكم الخناق عليه، وأيضا يدفعنا إلى توثيق حاضرنا بطرق منهجية علمية تحفظ هذا الحاضر من أي محاولات تزوير للأجيال القادمة، لحل إشكالية وأزمة الثقة بالموروث التاريخي التي ظهرت كسمة في هذا العصر بعد العولمة.

والمثقف الناقد للاطمئنان التواضعي من قبل كثير من العلماء والنخب لما نقل من التاريخ، عليه أيضا أن لا يقوم بالرفض المطلق للموروث التاريخي بحجة فقدان الثقة ضمن تفكير عشوائي غير منظم، بل عليه أن يبدأ الحفر لمعرفة الموروث التاريخي الواقعي وأحداثه الصحيحة والاستفادة من سننه وتجربته البشرية في حاضره، وهو ما يتطلب منه تفكيرا منظما، يبني فيه رؤيته فكرة فكرة دون القفر من العام إلى الخاص أو بالعكس، ودون الاكتفاء بالنظرة السطحية للتاريخ، بل عليه الولوج إلى العمق والحفر في الداخل بتأني وصبر ليصل إلى نتيجة علمية رصينة غير متحيزة. " لأن عشوائية التفكير قد تفقد النقد قدرته على إصابة كبد الحقيقة، بل قد تقضي في بعض الأحيان إلى ضبابية الأفكار، والابتعاد عن جوهر الموضوع، وإرباك العمليات البحثية بتطويل المسافات عليها". (حب الله، التفكير النقدي)

إذا المثقف أمام مطلبين:

١.الأول: دراسة الموروث التاريخي دراسة منهجية معمقة غير عشوائية، وإعادة قراءته وفق مناهج علمية رصينة تكشف غثه من سمينه.

.٢ كتابة الحاضر وأحداثه ومجرياته بطريقة علمية منهجية، تحفظ هذا الحاضر من محاولات التزوير، حتى ينقل للأجيال اللاحقة كتاريخ دون أن يحمل عقدة الثقة والدس، التي عانى منها المثقف مع تاريخه قبل تمحيصه.

ويمكن لهتين الخطوتين أن تتما في موازاة بعضهما البعض.

ويمكنهما حل كثير من الأزمات والإشكاليات المعرفية الراهنة، التي ظهرت نتيجة التناقضات الكثيرة في الأفكار المعرفية، التي تعتبر العمدة الرئيسية في تشكيل بنية المعتقدات والثوابت المعرفية. بل إشكالية أزمة النظرية مع التطبيق في كثير من الموروثات التاريخية خاصة الدينية منها.

وأنا أميل هنا لمفهوم المثقف والنّظر الذي طرحه المفكر يحيى محمد، وهذا لا يعني تحديد القدرات والوظائف مطلقا، بل يعني أن مجمل التوصيف قائم علي مفهومين هو المثقف والفقيه، ولكل دوره ووظيفته، ولا يعني عدم تلاقي الأدوار واشتراكها في كثير من الأهداف، وأيضا لا يعني عدم وجود استثناء وهو أن يكون المثقف أيضا فقيها أو أن يكون الفقيه أيضا مثقفا، ولكن في الأوساط الدينية التخصصية خاصة في الحوزات العلمية، فإن إطلاق مثقف على طالب علم وصل لمرحلة الاجتهاد وتنوّعت معارفه بين العلوم الدينيّة والإنسانية، هو في عرفهم انتقاصا وليس كمالا مع الأسف الشّديد.

وهذا يحيلنا إلى علاقة المثقف بالفقيه كونه المتخصص بالمسألة الدينية في عصرنا وإن كان موضوع اقتصار فهم الدين على الفقيه فقط هو موضوع إشكالي جدلي، ولكن لنبني على ما هو موجود كيف هي علاقة المثقف بالفقيه؟

من الطبيعي أن يكون في أي كيان اجتماعي أدوار متنوعة، يقوم بها أفراد المجتمع تصب كلها في هدف رئيسي ألا وهو النهوض بوعي المجتمع وتقدمه، واستنطاق ابداعاته وتحقيق إنجازاته التي ترتقي بالوطن.

فكل طبقة لها تخصصها الذي يصب في الهدف الأم، إذ أن صريح القرآن يفيد أن الله رفع بعضنا فوق بعض ليتخذ بعضنا بعضا سخريا.

وهو ما يعكس أهمية كل طبقة وظيفية إن صح التعبير- في تركيبة المجتمع ككل، وعدم إنكار أي دور لأي طبقة من هذه الطبقات الوظيفية، التي يعتمد بعضها على بعض ويكمل بعضها البعض الآخر.

ولعل من أهم الوظائف الاجتماعية هي التربية والتعليم والتزكية، وهي وظيفة تتعلق بالبعد المعرفي للإنسان الذي ينعكس على سلوكه الفردي والاجتماعي، ويكون له الأثر الكبير إما في انضباطه أو تفلته.

ومن أهم الجهات التي تقوم بدور مهم كهذا هما العالم والمثقف، وعلاقة المثقف بالعالم علاقة تتعدد أدوارهما فيها، وتتوحد أهدافهما في حال كان هناك بناءا سليما لجسور التواصل، تعكس انسجاما في الأدوار والأفكار والاهداف.

فالمتعارف أن المثقف يشكل حلقة الوصل أو جسر التواصل بين العالم والناس، إذ يفترض أنه الأكثر تواجدا على أرض الواقع ، والأكثر احتكاكا بأهم إشكالياته، والأقرب لتشخيص المشكلات الاجتماعية التي يجب أن يعكسها للعالم، والذي بدوره يترجمها إلى واقع فقهي اجتماعي قانوني يفيد الناس ويرتقي بهم.

بل قد يتعدى دوره إلى إنتاج المعرفة على المستوى النظري، ومواكبتها ورفدها بالواقع الفقهي بالتعاون مع العلماء، للخلوص إلى نظريات إسلامية حضارية قادرة على محاكاة الواقع الاجتماعي وجعل الدين، دين حياة .

إلا أن واقع الحال يحاكي خلاف هذه الحقيقة غالبا، لأن العلاقة بين العالم والمثقف في راهننا هي علاقة جدلية بامتياز، يغلب عليها طابع الخلاف أكثر من غلبة طابع الاختلاف، وتمارس فيها عمليات متبادلة للقهر والاستبداد، وهو ما انعكس على جدلية الأدوار بينهما، وتحول الأدوار من أدوار تكاملية، إلى أدوار تقابلية يعترض أحدها الآخر، ويهمش أحدها الآخر ويبطل مفعوله التوعوي في ذهنية المجتمع، وهو ما يشكل خطورة كبيرة على توجيه الوعي وتشويهه.

ولنعترف أن العالم لا يمكنه أن يحيط بكل الأحداث والعلوم، فهو يحتاج إلى المتخصص المثقف أو الأكاديمي، وأن الأخيرين لا يمكن أن يتحركا في فضاءات الفكر والعلم، دون أن يتعرفا على حكم الله، وهو ما يدلل على أهمية وجود كل طرف للآخر.

ولكن لماذا هذه الجدليّة في العلاقة بين الطرفين التي انعكست بشكل غير مباشر على الدين؟

إن انعكاسات الثورة التنويرية على واقع الأمة العربية والإسلامية كان لها أبعادا إيجابية وأخرى سلبية، إلا أن رجحان كفة السلبيات على الإيجابيات يعود بعضه إلى سوء تلقي المثقف العربي والمسلم لرياح هذه الثورة، وبعضه يعود إلى ديموغاجية بعض العقليات العربية والإسلامية، وخاصة في المؤسسات الدينية، التي في الغالب تقدس التراث وترفض كل ما هو قادم من الخارج ظنا منها أنها تحافظ على الدين.

إلا أن أهم بعد إيجابي لهذه الثورة التي أفادت الغرب هي عودة عدد لا بأس به من المتنورين العرب والمسلمين ومن العلماء إلى الذات مرة أخرى، بمعنى أنها استثارت لديهم الكثير من التساؤلات الحقيقية التي أرجعتهم للغوص في بحر النصوص، واستخراج كنوزه وبناء نظريات حضارية كانت بمثابة الصفعة على وجه كثير من النظريات الغربية التي بان فسادها مع تقادم الأيام.

ومن أهم السلبيات التي انعكست على واقعنا، هي تسرب دلالات لفظ المثقف الغربية ودوره إلى عقلية المستنير في عالمنا، وانعكاس ذلك على حراكه الذي تطرف في كثير من الأحيان ضد الدين وعلماء الدين. فأصل اللفظ هو وليد سياق الأحداث التي وقعت بعد الثورة على الكنيسة، ولكن دلالاته ومعانيه والوظيفة التي يقوم بها، موجودة عبر التاريخ بمصاديق مختلفة، ولو استقرأنا التاريخ، لوجدنا ألفاظا مختلفة لكن مشتركة في الدلالة والمعنى مع لفظة المثقف. فلفظ “الملأ” ـ علي سبيل المثال ـ الذي ورد في القرآن الكريم في عدة موارد كان يطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين، لأن مادة “الملأ” أصلا من الملء. (شيرازي، مكارم، التفسير الامثل، ص607)

وللأسف رغم أن التاريخ يذكر لنا مواقف شبيهة في عصر الرسالة وكيفية تعامل النبي في التصدي لأي غزو ثقافي عقائدي، إذ اتسمت الطريقة بالاستيعاب والتسامح الأخلاقي على المستوى العملي والمحاججة بالدليل والبرهان على المستوى النظري، إلا أن كثيرا من علماء المسلمين خاصة في راهننا كانت ردة فعلهم انفعالية وصدامية بدل أن تكون فاعلة على أسس الدليل والبرهان ومستوعبة. وظهر إلى واقعنا أسلوب جديد في المواجهة الاجتماعية بين المؤسسة الدينية والآخرين من المجددين أو المتغربين أو المصلحين الحقيقيين، وهو أسلوب فتاوى التضليل والتكفير، أو ممارسة أنواع من الإرهاب غير المباشر، من خلال الإقصاء العلمي عن مراكز البحوث، أو منع الرواتب المالية عمن يتصل بهذه المؤسسات عمليا.

فوقع المثقف العربي المسلم في فخ الخلط بين الدين والممارسة، و بعضهم أسقط التجربة الغربية على الواقع الذي كان يعيشه دون حتى أن يميز بين حقيقة الاسلام ورجالاته الأوائل، وبين ممارسات البعض باسم الدين. بل البعض مارس عملية نقد الدين وهو لا يعرف حتى أبجدياته، وواجه هذه الانحرافات لا بالعودة للذات، وإعادة البناء الداخلي من جديد وفق أسس سليمة، كما فعل البعض منهم، ٤ق٦٦ولكن في مواجهة المؤسسة الدينية واسقاطها.

ووقع بعض رجال المؤسسة الدينية فريسة الانفعال في مواجهة هؤلاء، بل بالغ البعض في المواجهة وتحولت من مواجهة أفكار ورؤى ومحاججتها إلى مواجهة أشخاص لتتحول العلاقة من علاقة تلاقح إلى علاقة تناطح، واهتزت جسور الثقة خوفا من كلا الطرفين على سلطة كل منهما الاجتماعية. كانت الضحية الحقيقية في هذا الصراع الحقيقة من جهة، ووعي الناس من جهة أخرى، إذ أن هذه الجدلية أدت إلى عدة أمور أهمها:

١. انقسام الناس بين مؤيدين للمؤسسة الدينية أو المثقفين أو معارضين لكليهما، واستخدمت في هذه المعارضة غالبا أسلحة خطيرة على المجتمع وعلى العقل، هي ليست أسلحة علمية يتم فيها بناء المحاججات بناء عقليا بالدليل والبرهان، بل هي أسلحة تسقيط اجتماعي، وتشهير، وضرب من جهة للدين من قبل كثير من المثقفين، وضرب للثقافة ودورها وللمثقف ودوره من قبل كثير من علماء الدين.

٢. استهداف الدين باسم الثقافة من قبل كثير من المثقفين، والخلط المتعمد في أذهان الناس بين الدين والممارسة، أدى مع التقادم لنفور كثير من المجتمعات والأفراد من الدين.

٣. استهداف كثير من علماء الدين للمثقفين وخاصة أولئك الذين يطرحون نقدا منهجيا علميا بناءا لهدف النهضة والتطوير، واستخدام أسلحة فتاكة اجتماعيا ضدهم منها أسلحة فتاوى التضليل، أو التشهير والتسقيط الاجتماعي، أدى إلى بروز ظاهرة التشدد، والتفرد بالرأي ورفض التعدد في الآراء على أساس الدليل، بمعنى أنه طالما أن القطع حجة، فإن المثقف الذي يستنفذ وسعه وطاقته في مسألة، ويستحضر عليها الدليل والبرهان ويقطع بحجيتها، فإنها وإن خالفت ما يراه عالم الدين، فالأصل هو محاججته بالدليل، فإن قطع بحجية ما عنده، بالتالي ليس على العالم كموقف علمي وعملي أن يوافقه طالما لديه الدليل بخلاف قطعه، ولكن أن يعذره على ما بناه من رأي وفق دليله، وجل ما يمكن للعالم فعله هو محاججته بالدليل والبرهان وتوضيح مخالفته لرأيه وفق ذلك أمام الناس، وليترك للناس الحكم، بمعنى على الناس إدراك أين الحقيقة، من خلال المحاججة المبنية على الأدلة. لا أن يلجأ لأسلوب التوهين والتسقيط والتضليل، وكذلك المثقف عليه أن يحاجج وفق نفس المبدأ، لا أن يفرض رأيه ويلجأ لتوهين رأي العالم، أو الاستهزاء به.

٤.هذه الجدلية التي قامت على التوهين بين الأطراف، انعكست جدلية بين الناس على الله، وبدل البحث عن الله والتعرف عليه، بات إنكار وجوده سمة العصر، رغم أن المطلوب من المثقف والعالم أن يوصلا الناس إلى الله، لا أن يخرجوهم من حواضن الله ورحمته. بل تكرست منهجية العنف، وبدأت تظهر في الممارسات الاجتماعية، والنقاشات الفردية والجماعية، في مختلف الفئات، تتمثل المنهجية في إقصاء الرأي المخالف ورفضه، بدل الحوار على أساس “وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين” سبأ / ٢٤ وهي دفع باتجاه التفكير والتمحيص لكلا الفريقين، من خلال الدعوة إلى النظر في علامات وخصائص الحقيقة ومدى تطابقهما مع أدلة كل جهة، وهي كما جاء في تفسير الأمثل: هي أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث، بأن يضع الطرف الآخر في حالة التفكر والتفاعل.  مع العلم أن الخطاب هنا موجه للمشركين، فإن الأولى بالاحتواء والتفاهم كل من هم دونهم.

وقد خلف هذا المنهج خسارات معرفية كبيرة، وأدى لاستنزاف طاقة المجتمعات والأفراد في ما لا يعتبر من أولويات النهضة والحضارة، بل كانت معول هدم في القيم الإنسانية والحضارية، بل وهدم للدين، وبدل أن يكون المثقف والعالم جسور الوصول إلى الله بالدليل والبرهان، بات أغلبهم حوائط صد عن الله.

س5- أ. مراد غريبي: هل استطاع الفقيه المثقف أن يجيب على تساؤلات المثقف اللاديني؟

ج5- أ. إيمان شمس الدين: وفق التّجربة الميدانيّة مع عدة علماء لهم جامعيّة بين العلوم الدينية والأكاديمية خاصة في مجالات العلوم الإنسانية التي تفتقر لها المؤسسات الدينية بشكل عام، ومواكبين لإشكاليّات العصر، نعم هناك من استطاع تقديم إجابات علمية أكاديميّة معتبرة ومنطقيّة، خاصة أن منهم من يستخدم أدوات استقرائية في التحليل المنطقي للإشكاليّات، وليس فقط النص الديني في الاستدلال، والاستقراء وسيلة منطقيّة للإجابة على الإشكاليّات المطروحة من قبل اللادينيين، فهو يعتمد على الاستقراء المنطقي في منهجه، وهو المنهج الذي أسس له الشهيد السيد محمد باقر الصّدر في حوزة النّجف، هذا المنهج من أهم المناهج العلمية اليوم في الاستدلال، ويحتاج مُكنة وممارسة، بل على حد علمي أن بعض المراجع الدينية تستفيد منه في الفقه والعقائد، وإن بشكل غير مباشر. ولكن مازالت لدينا إشكاليّة حقيقية تواجه النهضويين من الفقهاء وعلماء الدين والمثقفين الدينيين، وهي إشكالية الدّعم المالي من جهة، وإشكاليّة الإعلام والانتشار من جهة أخرى، وبعضهم يعاني من إشكاليّة الخطاب، وأغلبهم يعانون من إشكاليّات التّوهين في أوساط الحوزة الدينية أو في المجتمعات المحيطة بهم. ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي يمكن التّخفيف من إشكاليّة وتحدّي الانتشار، ولكن تبقى لهذه الوسائل سلبيّاتها التي قد تهدد المشروع برُمّته.

***

حاورها: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

1 – 3 – 2023م

في المثقف اليوم