مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الباحثة إيمان شمس الدين (1):

خاص بالمثقف: الحلقة الأولى من حوار خاص مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

ا. مراد غريبي: إيمان شمس الدين كاتبة وباحثة، طالما أثرت المكتبة ببحوثها القيمة وإصداراتها التي كرستها لتقديم رؤية فكرية وإسلامية معاصرة، فكانت وماتزال تكتب في قضايا، الفكر المعاصر، المرأة، التجديد، السياسة. وقد تميزت بحثوها بالموضوعية، وممارسة النقد البناء.  اتقدم بالشكر والامتنان للأستاذة ايمان شمس الدين، واتمنى عليها تقديم نفسها للقارئ الكريم:

إيمان شمس الدين

⁃ كاتبة وباحثة في مجالات الفكر

⁃ (الحقوقية، السياسية، الدينية)

⁃ عضوة في منظمة Front Line Defenders

⁃ بكالوريوس ميكروبيولوجي ومساند كيمياء حيوي

⁃ ماجستير علم اجتماع سياسي وعنوان البحث " المرأة والعمل السياسي في الحضارات والأديان - التكون والصيرورة."

⁃ مهتمة في المجال الحقوقي (الديني – السياسي)، من ناحية بحثية.

المؤلفات:

- في قضايا التجديد والمعاصرة (دار القارئ - مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة).٢٠١٩

- التغيير والاصلاح مطالعة في التأسيسات والمقومات والإشكاليات (دار الانتشار العربي) ٢٠١٩.

⁃ المثقف وجدلية القهر والاستبداد (دار الانتشار العربي)٢٠٢٠.

⁃ عقلنة الثورة وتأصيل النهضة: محاولة لقراءة الواقعة من زوايا مطلبية معاصرة (دار الانتشار العربي)٢٠٢١.

⁃ الهوية والاستلاب: اغتراب الإنسان المعاصر.. دار روافد للطباعة والنشر، بيروت ٢٠٢٢.

⁃ حوار حول الدين والإنسان قيد الطّباعة.

المشروع البحثي والاهتمام الرّاهن:

دراسات مقارنة في موضوع منطق الخبر (الشّهادة – Testimony) واللغة والدلالة، بين ما توصل إليه الغرب في آخر دراساته حول الموضوع، وما طرح في علم أصول الفقه وعلم الرجّال في المذاهب الإسلامية خاصّة الإماميّة الإثني عشريّة منها.4894 ايمان شمس الدين

المحور الأول: جدلية المثقف وفلسفة الإصلاح في الواقعين العربي والإسلامي

س1: أ. مراد غريبي: عندما نذكر المثقف تتعدد المقاربات وتتنوع القراءات بين الأكاديمي والأديب والمؤرخ والمنشغل بالفلسفة، أين يقع المثقف عربيا ضمن أسئلة الواقع حول الحرية والتسامح وآفاق المعرفة؟

ج1: أ. إيمان شمس الدين: بداية من ناحية منهجيّة، وحتى يتسنّى لنا تخصيص العام من خلال توضيح المفهوم وتعريفه ليسهل على القارئ الكريم فهم المجال الذي يحيط بالمفهوم وملابساته. فالمفهوم عادة له ولادة ونشأة وبيئة أدت إلى ظهوره وتطوّره وانتشاره وأحيانا تبدّل دلالاته، ومن هذه المفاهيم مفهوم المُثَقّف الذي يعتبر في راهننا مفهوما قَلِقاً وأحيانا إشكاليّاً خاصّة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أدّت إلى خلط المفاهيم أو تغيير دلالاتها، أو إفراغها من محتواها ومعناها ودلالاتها، بل ووظيفتها.

وتعتبر قضية المثقف من القضايا الهامة جدا ومن الموضوعات القلقة على المستوي المحلي والإقليمي في أغلب بلدان العالم، وتكمن أهميتها في الدور الذي يلعبه المثقف في التنمية الثقافية ورفع منسوب الوعي الفردي والاجتماعي، وبالتالي تأثيره على أنماط التفكير الإجتماعي ودوره البارز في إحداث تغييرات فيها، قادرة على كسر الأطر التي تم تنميط المجتمع والشعوب عليها، وفي ذات الوقت رافدا معرفيا وقيميا في مواجهة كل محاولات الاستلاب والاغتراب، هذا فضلا عن خطورة دوره فيما لو استغل ما يملكه من سلطة علم ومعرفة في تسخير وعي الناس لصالح السلطة أي كان شكلها، أو لتسخيرها في سبيل تحقيق مصالحه وإنجاز طموحاته تحت شعار الثقافة.

وقد طرحت هذه القضية في العالم بعد نهاية العصور الوسطى، ومنذ القرن السابع عشر تشكلت في أوروبا طائفة تسمي شريحة المثقفين، وبعد القرن التاسع عشر أخذت الطائفة تشق طريقها إلى الدول غير الأوروبية من إفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية، وذلك باسمها وخصائصها وسماتها التي تشكلت بها في أوروبا (علي شويعتي، المثقف ومسؤوليته، ص5). وقد عرفت هذه الطبقة بطبقة المنشغلين بالفكر بالمعنى الأخص، لأن الانشغال بالفكر سمة ليست خاصة في ذلك القرن بطبقة المثقفين، بل كانت الكنيسة ورجالاتها لها انشغالات فكرية ودينية وروحية، بل الانشغالات الفكرية سمة كثير من الكتاب والمعلمين وغيرهم من الذين يزاولون أعمالا فكرية، لكن المعني الأخص هنا المقصود به، الطبقة الخاصة التي تسيطر على المجتمع البشري في العالم، وهي طبقة ظهرت في القرون الوسطى في مواجهة علماء الدين الذين كانوا يسيطرون على العلوم في التّعليم والتّعَلّم، ويعتبرون المرجعية العلمية الوحيدة التي تترشّح عنها العلوم والمعارف، إذ منعت الكنيسة غير منتسبيها في تدريس الإنجيل وقراءته وفي توجيه العلوم والمعارف، وقد درس أفراد هذه الطبقة العلوم الجديدة والفلسفة الجديدة بعيدا عن المدارس الدينية ومراكز العلوم القديمة، وقاموا بذلك بالرغم من علماء المذهب الكاثوليكي وإرادتهم في مدارس وجامعات غير دينية تعادي الكنيسة، ثم بدؤوا بالدعوة لفكر جديد، وجعلوا العلم في خدمة الحياة، ثم دخل هذا العلم ـ الذي يختلف عن العلوم التي روجت للدين ـ إلى المجتمع (المصدر نفسه، ص 10 و11).

تتشكل الطبقة في علم الاجتماع عندما تظهر مجموعة ما لا بأس في كمها، تشترك في الهموم والمهام، وفي الآفاق والأهداف، وتظهر في بنية المجتمع ككل، ثم تبدأ بالانتشار وإن تدريجيا، وتنشأ الطبقة كنوع من التفاعل مع الظروف المحيطة الواقعية، والحاجات الحقيقية التي نتجت من التفاعل مع الأحداث، والمحيط الاجتماعي وحينما تشترك مجموعة بنفس الهموم والتوجهات والاشتغالات المعرفية، لذلك طبقة المثقفين في أوروبا نشأت وفق ظروف تاريخية اجتماعية خاصة فيها، جاءت نتيجة تفاعلاتها مع المحيط وظروفه، وتميزت نتيجة هذا التفاعل بخصائص فكرية، وتجارب واقعية شكلت وجدانها، ومنظومتها الفكرية.

يشير جان بول سارتر (١٩٠٥ ـ ١٩٨٠) في مقدمة كتابه “المنبوذون في الأرض” إلى أسلوب صناعة المثقف الشرقي في الغرب ومجال استخدامه قائلا: كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن النرويج وبلجيكا وباريس، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الإجتماعية الجديدة ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو والاستقبال والاستدبار، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحيانا زيجة أوروبية، ثم نلقنهم أسلوب الحياة ضمن أثاث جديد، وطراز جديد من الزينة، واستهلاك أوروبي جديد وغذاء أوروبي، كنا نوحي ونلهم في أعماق قلوبهم الرغبة في تغريب بلادهم ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، لم نكن نجذ منفذا إليها، كنا بالنسبة لها رجسا ونجسا وجنا، كنا أعداء يخافون منا وكأنهم همج لم يعرفوا بشرا. لكننا بمحض أن أرسلنا المثقفين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كنا بمجرد أن نصيح من أمستردام أو برلين أو بلجيكا أو باريس، قائلين: الإخاء البشري، نرى أن رجع أصواتنا يرتد من آقاصي أفريقيا أو فج من الشرق الأوسط أو الأدنى أو الأقصى أو شمال أفريقيا، كنا نقول (الإخاء البشري) وكانت (... البشري) ترتد من الطرف الآخر، كنا نقول: (ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة) وكانوا يردوون (... المختلفة) تماما مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا من أفواههم، وحينما كنا نصمت، كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضا، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاسا صادقا وأمينا لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها، ثم أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المثقفين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها.” وهذه الإطلالة هي فقط للتمييز بين المثقف الأصيل والمثقف المُقَلِّد.

ومازالت هذه الألفاظ تشغل المفكرين إلى يومنا هذا، وكانت أيضا للنخب في الوطن العربي والإسلامي انشغالات في هذا الصدد، لكن في العقود الأخيرة غلب عليها طابع الانشغال الاستنساخي، أكثر منه انشغالا إنتاجيا مستقلا. خاصة فيما يتعلق بمفاهيم غنية ومهمة كمفهومي الثقافة والمثقف، فحينما نستهلك مصطلحات وتعريفات الآخر دون أن ننظر للبناء الفكري والوعاء الزمكاني (الزمان والمكان) الذي انطلقت منه هذه المفاهيم، فإننا بذلك نستنسخ ما لدى الغربيين استنساخا تجريديا لهذه المفاهيم، ونزرعها كثمرة في داخل عمقنا المفاهيمي والثقافي، أي في تربة مختلفة بيئيا وتكوينيا عنها، دون أن نحلل ما فيها من ألغام مفاهيمية، أو دون أن نعيد صياغتها وفق هويتنا الخاصة مفاهيميا، لننتج إرثنا المفاهيمي الفكري المستقل والمتناسب مع راهننا وقاعدتنا المعرفية والفكرية، مما يؤدي إلى خلط مفاهيمي وفكري يؤثر على توجه الثقافة العامة لدى النخب والجماهير، وتؤثر على هوية ووظيفة المثقف، وتغير أهدافها بل أدواتها ومنهجها، وبالتالي نقع في مستنقعات فقدان الهوية والذات.

ولعل الثقافة والمثقف من المفاهيم المحورية في الحياة الإنسانية، والتي لها تأثير كبير ومؤثر في وعي الإنسان في كل مناحي الحياة . ولأهمية هذان المفهومان وخصوصيتهما المحورية في حياة الإنسان، فلابد من الاهتمام بهما خاصة في عصرنا هذا وهو عصر العولمة على كافة المستويات، ومنها العولمة الفكرية والمفاهيمية، رغم ما تعرضت له الثقافة الغربية من انهزامات وانتكاسات بين فينة وأخرى، وما تتعرض له اليوم أيضا من مراجعات نقدية، مع أننا لا يمكننا أن ننكر ما للغرب من أسبقية في كثير من المفاهيم الإيجابية التي تتناسب وبناءنا الفكري والإنساني من جهة، ومن جهة أخرى أرى أن السباق الغربي الفكري كان دافعا لكثير من مفكرينا الإسلاميين المعتدلين، ليواجهوا ويحاوروا ويسلطوا الضوء على الكثير من الأفكار الغربية، ويعيدوا بناءها من جديد على أسسنا الفكرية للمعرفة، مما أثرى السباق الفكري بينهما.

لذلك نحن لا نستطيع أن ننظر للفكر الغربي على أنه شر مطلق، ولا على أنه خير محض، بل علينا أن ننظر له بعين الناقد المتمكن الذي يقف على أرض فكرية غنية قادرة على التجريد، وإعادة الصياغة والبناء وفق أسس معرفية سليمة لا مادية محضة ولا معنوية محضة، بل تجمع بين البعدين المادي والمعنوي، فالتجربة البشرية غنية بالمعارف وهي أحد مصادرها . ومن هذا المنطلق سنكون معنيين بتسليط الضوء على مفهوم مهم في الحياة الإنسانية هما الثقافة والمثقف، لما لهما من الأثر الكبير في وعي المجتمع ورقيه وبناءه الفكري والثقافي، ونقله إلى حواضن الأجيال القادمة بصورة قادرة على حفظ الثابت الأصيل، وبناء المتغير على أسس تهتم بالوعاء الزمكاني لأي إرث ثقافي متوراث، فترسخ الثابت في أرض خصبة، وتبني المتغير على أسس عصرية متينة لتستمر مسيرة الإنسانية نحو التطور والتنمية على كافة المستويات.

والمثقف كما يشرحها الدكتور شريعتي (المصدر نفسه، ص8)، هو الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة أفق ويميز عصره والأرض التي يقف عليها، وموقع البلد الذي ينتمي إليه والمشاكل التي تطرح في مجتمعه ويستطيع تحليلها وتقديم الأدلة لها وإفهامها للآخرين. فرسالة المثقف هي الأخذ بيد الناس والارتقاء بالمستوى الثقافي للمجتمع.

فللثقافة تعريفات كثيرة منها:

كما عرفها الأستاذ إبراهيم جواد (الثقافة)، تعريف تايلور، كوينسي رايت مالينوفسكي، غوستان فون غرونبوم (معن زيادة، تحديث اللفكر العربي، ص30). وهذه التعريفات كلها تبرز بشكل واضح أهمية العقيدة ودور الدين في صنع الثقافة وتوجيه سلوك الإنسان. هذه التعريفات عند المفكرين الغربيين و هناك تعريفات الثقافة عند العرب و المسلمين كتعريف الدكتور عبد الكريم عثمان ومالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة) الدكتور علي شريعتي. والتركيز على الأخير في موضوع المثقف يعود إلى سبب جوهري، وهو أن مصطلح المثقف من المصطلحات التي شاعت وراجت في عصر شريعتي وأولى لها اهتمامات كبيرة لتخصصه في علم الاجتماع واطلاعه في ذلك الوقت على الجدليات الغربية الشرقية في هذا الصدد.

وهناك الفيلسوف الأمريكي المعاصر، نعوم تشومسكي، المناهض لسياسة الإدارة الأمريكية الخارجية، يرى أن "المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة".

وبعد هذه الإطلالة السّريعة حول نشأة المفهوم وتعريفاته المتعدّدة بين الشرق والغرب، نجد أن المقدار المُتّفق عليه حول المثقّف أنّه المشغول بالهم الثقافي والفكري، والمهتم بقضايا وإشكاليّات محيطه الاجتماعي والأممي، في مجالات السياسة والدين والاقتصاد، والسّاعي عملانيّا إلي تغيير واقعه إلى واقع أفضل، لأنه مهموم بفهوم العدل والعدالة. بل هو كما أشار تشومسكي أنه يحمل هم الحقيقة في وجه القُوّة مهما كان مصداق هذه القوّة من سلطة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أسرية، ولكن كيف يحمل الحقيقة ومنهج وطريقة حملها في وجه القوّة هي التّكتيك الذي يجب على المثقّف المهموم بهم التغيير والوعي أم يُتقِنُه ويدرك متى وأين وكيف، حتى يستطيع أن يحقق هدفه في التغيير وصناعة وعي وازن.

وطالما تحدّثنا عن العدالة فلا بد أن نتحدّث قبلها ومن ناحية منهجيّة عن الحريّة التي اعتبرها قيمة أداتية وليست قيمة غائية، وعلاقة المثقف بها.

فالحرية هي الطريق الأداتي لتحقيق العدالة ومن ثم الكرامة، فهي قيمة أداتية طريقية لتحقيق قيمة أكبر غائية مقصدية، إلا أنها كمفهوم كلي يتفق عليه الجميع ويقر به كل بني النوع الإنساني ، فهو جزء من الوجدان الأخلاقي في الإنسان، بل حق بديهي قد تحجبه ظروف خارجية قهرية لكنه سرعان ما يكون في مقدمة القيم الدافعة لصاحبه للتحرر من تلك الظروف والقيود، والعودة مجددا لهذا الحق وممارسته بكل الوسائل ، لكن منطلقات هذا المفهوم الفلسفية تختلف من ثقافة إلى أخرى ، وتحديد مصاديقها الخارجية كذلك يعتمد على البناء الفلسفي والفكري للمفهوم، وبالتالي سلوك ممارسة هذا الحق وكيفية ممارسته وحدود هذه الحرية تختلف بناء على ذلك.

فالمبدأ القرآني في حديثه مع أهل الكتاب للاجتماع على كلمة سواء وهي عدم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا حيث قال تعالى "قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران: 64)

هو مبدأ تأسيسي لتحرير الإنسان من كل قيود خارج قيود الله، وفي رفع سقف الحريات البشرية وتحريرها من كل قيد مادي يحكم السيطرة على العقل والفكر، ومن ثم يعرقل مسيرة الإبداع والتطور، بما يعطي للإنسان الحق في رفض الاستبداد ورفع سقف حريته بما يتناسب وإنسانيته وكرامته وآدميته، وهو يمد جسور التعاون وجمع العقول على مبدأ تحريرها من الرضوخ والعبودية لغير إرادة الخالق التقنينية والتشريعية، وفق أسس منهجية يكتشفها العقل الإنساني من خلال النصوص التي وصلت إلينا.

فأنت حر حرية مسؤولة وفق أسس الشرع ومعايير العقلاء، إذا أنت إنسان تفكر وتبدع وتنهض بالأرض. لذلك تعتبر الثقافة من المعارف المهمة في تحديد معالم هويتنا والحفاظ عليها.

وحينما يؤمن المثقف بمبدأ الحرية كقيمة أداتية مفتاحية لتحقيق العدالة، فهو يؤمن بها كمبدأ ثابت وليس نسبي على مستوى النظرية، وحتى في كثير من الأحيان على مستوى الفعل. فالحرية الأداة المفتاحية التي يحتاجها الإنسان ليحقق فاعلية إرادته واختياره، فلو فقدت حرية الإنسان لن يكون بمقدوره أن يختار ما يريد، ولذلك كان من أهم القيم التي يجب أن يدافع عنها المثقف ويقاتل لأجلها هي الحرية.

إذ أن تحقيق العدالة بكافة مصاديقها تتطلب بداية إزالة كل ما تم تحميله من فهم لهذا المصطلح، فهو يشكل المدخل السليم والحقيقي للتّحرّر، وأهم ما تحققه العدالة هو رفع الحجب التي فرضتها المسلكيات البشرية نتيجة الفهم البشري المتراكم للنص الديني والحياة ومسارها المعرفي، والذي غالبا ما انحرف عن واقع الأمر، مما أدى إلى حجب الحقيقة وتشويه المفاهيم وتغييب منظومة القيم، مما انعكس بالتالي على السلوك فتشكلت منظومة مفاهيمية بعيدة عن الحقيقة، ورست على ضوئها منظومة سلوكية بعيدة عن الواقع، فحجبت الحقيقة وعلى ضوئها حجبت المعارف، وألبست العدالة لباس آخر تحكمه الأهواء والاستمزاجات الشخصية.

إن تحقيق العدالة وفق واقع الأمر يعني رفع كل تلك الحجب عن العقل البشري، واستجلاء المفاهيم وفق دلالاتها واستعمالاتها وبناءاتها الصحيحة، ليتجلى الأمر بحقيقته بعد ذلك في النفس، فترى الحقيقة وتستقيم الذات وفق أسس العدالة السليمة، وتنعكس عدالة الذات على تحقيق العدالة في الخارج فترتفع الحجب عن كثير من المعارف والعلوم، وتنتظم الحياة تحت عنوان القيم وجوهرها ألا وهي العدالة.

إن العدالة هي مطلب قيمي مهم في المجتمع، لأن مقصد تحقيق العدالة هو تحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق كرامة الإنسان مطلب لأداء وظيفته وفق الرؤية الإلهية ومصادر المعرفة في الأرض ليقيم المشروع الإلهي فيها.

فوفق مقولة العدالة تتحقق الحريات بما يحقق العدالة، وتكون المساواة وفق ما يحقق العدالة، وتنتظم لذلك مجموعة الحقوق والواجبات وفق مطلب تحقيق العدالة، وإذا تحققت هذه القيم في طول مطلب العدالة، تحققت بذلك كل مقومات الكرامة الإنسانية، وتأهلت النفس لأداء وظيفتها.

فكلما ازداد منسوب العدالة في النفس كلما ازداد في الخارج، كلما انتظمت القيم وبالتالي ارتقت كرامة الانسان، فالعلاقة بين العدالة والكرامة علاقة طردية.

فإذا قلنا نريد أن يرتفع سقف الحريات، تكون الحريات المطلوبة هي تلك التي تحقق العدالة، بحيث لا يمكن لهذه الحرية أن تحقق نقيض العدالة بالظلم أو سلب الاخرين لحقهم، فتكون الحرية المطلوبة حرية عادلة، وهكذا المساواة وموضوعة الحقوق.

ولكن هل العدالة المطلوبة هي كما يراها الإنسان وعقله؟

عقل الإنسان محدود، ولا يمكن للمحدود أن يحيط باللامحدود، قد يدرك هذا العقل حسن العدل وقبح الظلم، ويدرك أهمية العدالة في بناء الكرامة الإنسانية، ولكن ماهية العدالة وكيفها لا يمكن أن يدركه إلا بتعليم من الوحي أو من بذل الجهد في ولوج أبواب مصادر المعرفة الأخرى التي هي في طول الوحي كمصدر معرفي، وهو ما سيصل له العقل إذا أدرك العدالة وأهميتها.

إن السعي نحو الكمال الذي فطر عليه الإنسان هو الداعي العقلي الذي يدفعه دوما لإقامة العدل، والبحث عنه، ولكن تكمن المشكلة في فهم الكمال وآليات تحقيقه ومصاديقه، فكلما ابتعد الانسان عن السماء ـ إن صح التعبيرـ كلما ابتعد عن تحقيق العدالة المطلوبة وكلما أصبحت كرامته عرضة للانتهاك.

فرغم السعي التاريخي الحثيث للإنسان نحو تحقيق العدالة في الأرض، إلا أننا ما زلنا إلى الآن لم نقم جوهرة القيم) العدالة) ولم نحققها، ولعل أبرز الأسباب في هذا القصور هو الجدل الانساني الذي ينعكس في الواقع الخارجي إلى جدليات متشابكة الأهواء والمصالح ومتناقضة القيم والغايات، وهذا الجدل أدى إلى تشويه مفهوم الكمال بعد الانحراف عن المبدأ والغاية والهدف، وبالتالي انحراف آليات تحققه. لذلك كان التشديد على معرفة " من أين وفي أين وإلى أين"، وهي معرفة ترسم خارطة طريق كاملة للإنسان في هذه الدنيا ليحقق هدف الكمال وآليات الوصول اليه.

إن القيم غاية يتطلب تحقيقها وقيامها قيام جوهرها أي العدالة وهذه الجوهرة تتطلب أن تحقق في ذات الإنسان كي تصبح لها قيامة في الأرض" أقم العدل في نفسك يقوم العدل في أرضك"، فالله لا يغير ما في القوم إلا إذا تغير ما في أنفسهم.

فالعدالة هدف السماء لأهل الأرض، لأن بها تستقيم أمور الإنسان ويهتدي إلى الطريق الذي من خلاله تتحقق كرامته، لتقوم إنسانيته ويؤدي بها وظيفته. ولذلك كان من أهم ما يجب على المثقف تحقيقه أولا هو عدالته النفسية التي تخلق لديه حالة الإنصاف من النفس وللعدو أيضا، ومن ثم تجعل تحقق العدالة الخارجية بالنسبة له هدفا هاما، وأدوات تحقيقه يجب ألا تحيد أيضا عن العدل، فيصبح كل مشروعه بأهدافه وأدواته معروضا على قيمة العدل، كمرجعية معيارية له، وفي ذات الوقت يبذل كل جهده لتحقيق الحريات المنضبطة كونها بوابة أداتية للعدل، ولأنها بوابة فلا بد أن تكون تلك الحريات لا يتم تحقيقها بالظلم، ولا تمارس ظلما تحت شعار الحرية. ووضوح الصورة بهذه الطريقة في ذهنية المثقف، يملكه القدرة على تشخيص الحرية التي تحقق العدالة، من تلك التي تكرس الظلم. فالمثقف يرتكز في حراكه وفي جوهر هذا الحراك على الحرية والعدالة، اللتان تحققان كرامة الإنسان، وهي غاية وجوده.

وأين يقع المثقّف في راهننا العربي في قيم كالتسامح والحرية وآفاق المعرفة؟

* هو هذا الهم الذّي يُؤرّق كل مشتغل بحقل الثقافة والفكر، لأن هنا فرق بين ما هو ظاهر على السّاحة باسم المثقفين والنّخب، وبين ما هو واقعي وحقيقي لكن مخفي عن نظر عامّة النّاس، لأن طبيعة الناس تميل للحس وبالتالي لما يظهر لهذا الحس من صور خارجيّة يُخَيّل لعامة النّاس أنها ترسم لها واقع حقيقي يصنع وعيها.

***

حاورها: ا. مراد غريبي – صحيفة المثقف

1 – 3 – 2023م

في المثقف اليوم